مشكلة تعويم الإجتهاد في الفقه والعقائد
بســم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
طرأ في عصرنا على الإجتهاد في فقه الإسلام وعقائده أمران ، شمل أولهما جميع المذاهب ، وهو إنهاء نفوذ الأزهر وفتح باب الإجتهاد عند إخواننا السنة . واختص ثانيهما بمذهبنا الشيعي ، حيث انتقل التشيع بعد ثورة إيران الإسلامية من مذهب خارج أضواء السياسة إلى مذهب تحت أضوائها .
وفيما يلي نستعرض هذين الحدثين من زاوية تأثيرهما على الإجتهاد في مسائل الشريعة والعقيدة الإسلامية ..
1 ـ المرجعيات البديلة عن الأزهر
كان الإجتهاد في الأزهر محصوراً في أئمة المذاهب الأربعة ، وإذا فتح بابه فإنما يفتح لكبير علماء الأزهر ، ويتقيد الشعب المصري ومن ورائه أكثر العالم السني برأيه ..
أما بعد القضاء على مكانة الأزهر ، فقد انتقل مركز الإجتهاد والفتوى إلى كل من يريد البحث في الدين من متعلمي الأمة بل من عوامها ، وكل من يرغب أن يكون له فتاوى وأتباع في فهمه للشريعة ، بل في فهمه للعقيدة أيضاً !
لقد كان هدف السلطات المصرية ومن وراءها من الغربيين ، أن تستبدل مركزية الأزهر الدينية الخطيرة برمز ديني تعينه السلطة .. ولكنهم لم يحسبوا أن معنى ذلك بمنطق التاريخ ومنطق المخزون الديني في الأمة ، أن جذور الأزهر ستبقى في نفوس المسلمين وستنبت في كل محافظة من مصر أزهر جديداً ومفتين ومقلدين جدداً ! وأن ضرب مركز الفتوى الطبيعي ، سيزرع بذور عشرات المراكز بل مئاتها .. وأن ضرب قيادة العلماء الطبيعية للمسلمين ، سوف ينبت عشرات القيادات بل مئاتها ..
وليس ذلك في مصر فحسب ، بل في كل العالم الإسلامي تقريباً .. فالذين يظنون أن مصر فقدت تأثيرها على العالم الإسلامي يقعون في خطأ كبير ، فالحقيقة أن كل المؤثرين في الساحة الفكرية والسياسية الإسلامية في العالم الإسلامي السني هم تلاميذ لعلماء من مصر ، أو متأثرون بتيارات فكرية جاءت من مصر .. سواء ذلك في الفقه والفكر ، أو في طرق العمل للإسلام !
ولكن تأثير ضرب الأزهر لم يقتصر على تجزئة مركز الفتوى، بل وصل إلى مضمون الفتوى وشروط الإجتهاد!
2 ـ تعويم الإجتهاد عند السنة
بنى المثقفون والعلماء من أوائل هذا القرن آمالاً كبيرة على دعوتهم إلى فتح باب الإجتهاد.. خاصة أنها جاءت في عصر العلم والمناهج الآكاديمية في البحث ..
لكن الذي حدث أن باب الإجتهاد انفتح عندهم على مصاريعه لكل الناس ، وفي كل أمور الدين ، في عقائده وشريعته وطريقة فهمه وممارسته ! فدخلت مصر بذلك في مرحلة تعويم الإجتهاد والفتوى لكل من يرغب أن يكتب فتاواه في أي مسألة من مسائل الإسلام ، حتى لو كان عامياً خالياً من رائحة العلم ..! فكان معنى ذلك ببساطة :
لا قواعد ثابتة في الفهم الديني .
لا ضوابط للإجتهاد في الدين .
لا تخصص في البحث الديني .
لا شروط في القيادة الدينية .
وإذا كانت النقطة الأولى تعجب دعاة التحرر الغربي ، فإن النقاط التي بعدها تكمن فيها الكارثة على الجميع ! فحرية البحث العلمي في أمور الدين حق طبيعي وأمر حيوي يجب أن نحرص عليه .. ولكنها بشكلها الذي حدث ليست إلا تعويماً فوضوياً تغرق فيه كل الموازين والقيم ، بما في ذلك حرية البحث العلمي نفسها !
إن الذي تشهده ساحة الفكر الديني في مصر من مطلع هذا القرن إلى يومنا ، ما هو إلا مجسمة هندسية لحالة العالم الإسلامي السني في العقود الماضية والعقود المقبلة ، حيث ستزداد الإجتهادات ويظهر عشرات المجتهدين بل ومئاتهم ، وكل بضاعة الواحد منهم ظنونه واستحساناته ، وقدرته على إقناع شريحة من الناس بأن يقلدوه ويتعبدوا لله تعالى بفتاواه ، وربما بأوامره العسكرية !
3 ـ تأثر الشيعة بموجة تعويم الإجتهاد
كنا نتصور أننا في لبنان والعراق وايران والهند وبلاد الخليج وغيرها من بلاد الشيعة في حصانة من المؤثرات المصرية علينا ، لأن تركيبتنا المذهبية المختلفة تمنع التفاعل والتأثير ، ولأن مرجعيتنا الدينية التي استطاعت أن تصمد في وجه الأخطار التي أطاحت بمرجعية الأزهر ، تشكل مانعاً من التأثر بالأفكار الناتجة عن انهيار مرجعية الأزهر . وقبل هذا وذاك لأن باب الإجتهاد عندنا مفتوح لم يغلق ، حتى يؤثر فتحه على فكرنا وفقهنا ..
ولكن الحقيقة كانت غير ذلك .. فقد سرى فينا مرض تعويم الإجتهاد المصري ، ولم نكتشفه إلا بعد أن استفحلت ظواهره .. فقد نشأت فينا حركات فكرية وسياسية ، ونشأت ناشئة من متعلمينا وأشباه متعلمينا ومن طلبة علوم الدين أيضاً ، يكتبون عن عقائد الإسلام وشريعته ومفاهيمه وقضاياه، ويفتون في مسائله الخطيرة كما يفتي كبار الفقهاء المتخصصين .. بل ويزيدون عليهم أنهم يحللون أهداف الله تعالى من خلقه ودينه ، وأهداف النبي صلى الله عليه وآله من أحاديثه وسيرته ، حتى كأن أحدهم كان مستشاراً لله تعالى عندما خلق السماوات والأرض ، أو مديراً لمكتب رسول الله صلى الله عليه وآله من يوم أوحى الله إليه في جبل حراء ، الى أن توفاه الله واختاره الى جواره ..!!
أذكر أنني قرأت يوماً الرواية التالية في علل الشرائع ، للصدوق رحمه الله ج 1 ص 241 :
( حدثنا محمد بن ابراهيم بن اسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه مع جماعة فيهم على بن عيسى القصري فقام إليه رجل فقال له : أريد أسألك عن شيء ، فقال له: سل عما بدا لك ، فقال الرجل : أخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام أهو ولي الله ؟ قال : نعم ، قال أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو الله ؟ قال : نعم . قال الرجل : فهل يجوز أن يسلط الله عدوه على وليه؟! فقال له أبو القاسم قدس الله روحه : إفهم عني ما أقول لك ، إعلم أن الله تعالى لا يخاطب الناس بشهادة العيان ولا يشافههم بالكلام ، ولكنه عزوجل بعث اليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم ، فلو بعث اليهم رسلاً من غير صنفهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم ، فلما جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم أنتم مثلنا فلا نقبل منكم حتى تأتونا بشيء نعجز أن نأتي بمثله فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه ، فجعل الله تعالى لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها .. فمنهم من جاء بالطوفان بعد الإنذار والإعذار فغرق جميع من طغى وتمرد ، ومنهم من ألقي في النار فكانت عليه برداً وسلاماً ، ومنهم من أخرج له من الحجر الصلد ناقة وأجرى في ضرعها لبنا ، ومنهم من فلق له البحر وفجر له من الحجر العيون وجعل له العصا اليابسة ثعباناً فتلقف ما يأفكون ، ومنهم من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله تعالى ، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، ومنهم من انشق له القمر وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك ، فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق من أممهم عن أن يأتوا بمثله ، كان من تقدير الله تعالى ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حال غالبين ، وفي أخرى مغلوبين ، وفي حال قاهرين ، وفي حال مقهورين ، ولو جعلهم عزوجل في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم ، لاتخذهم الناس آلهة من دون الله تعالى ، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والإختبار ، ولكنه عزوجل جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين ، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين ، وليعلم العباد أن لهم عليهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله ، وتكون حجة الله تعالى ثابتة على من تجاوز الحد فيهم ، وادعى لهم الربوبية أو عاند وخالف وعصى وجحـد بما أتت بـه الأنبياء والرسل ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة .
قال محمد بن ابراهيم بن اسحاق رضي الله عنه : فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه من الغد وأنا أقول في نفسي : أتراه ذكر ماذكر لنا يوم أمس من عند نفسه ؟ فابتدأني فقال لي : يامحمد بن ابراهيم لأن (يلقى بي من شاهق أو ) أَخِرَّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بى الريح في مكان سحيق ، أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله تعالى ذكره برأيي ومن عند نفسي ، بل ذلك عن الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه ) انتهى .
قرأت هذه الرواية وتأملت فيها طويلاً .. لأنها تعني أن حضراتنا نحن الكتاب الإسلاميين عندما نحلل تاريخ الأديان والإسلام وعقائده وأحكامه ، ونصدر فيها أحكامنا ، نفعل بأنفسنا أكثر من إلقائها من شاهق ! وتعني أن حضراتنا نحن القياديين الإسلاميين نغصب موقعاً قيادياً ليس لنا ..؟!
الرواية عندي نورها عليها .. ومنطقها قوي .. وإن كان وقعها علينا نحن الكتاب الاسلاميين أثقل من الجبال! لأنا تعودنا أن نكتب في مسائل الدين بآرائنا .. ولأنا أبناء عصر الثقافة الغربية وعصر الإنسان الغربي الذي أعطى لنفسه حق الإله في تحليل الدين ، بل في اختراع دين ودعوة الناس إليه !
لا أريد أن ألغي دور العقل في فهم الدين وتحليله ، ولا أن أتغاضى عن آيات القرآن التي تؤكد على دور العقل وتدعو الى التفكير والبحث .. الخ .
ولكني أريد ( عقلنة ) دور العقل ، والوقوف به عند المدركات العقلية القطعية أو التي عليها حجة شرعية .. فقد خلط الكتاب الإسلاميون المعاصرون بين النتائج العقلية المعتبرة وبين الظنون والاحتمالات ، فحملوا الإسلام ورسول الإسلام ورب الإسلام ظنونهم واحتمالاتهم ! وصار دور ( العقل ) دور الاندفاع مع العاطفة وتحميل الإسلام أثقالاً من ظنون العباد وتصوراتهم !
هل رأيتم صاحب مبدأ أرضي أعطى لكل أحد الحق في فهم مبدئه وتقديمه الى الناس باسمه ؟!
هل رأيتم مشرعاً أرضياً أو دولة ، أعطت لكل الناس الحق في فهم قوانينها وتطبيقها حسب فهمهم ؟!
وإذا كان تفسير المبادئ والقوانين الأرضية مسألة حساسة خاضعة لقوانين وشروط في التفسير والمفسر . فكيف يكون تفسير الإسلام مشاعاً لكل أحد ؟ وفوضى بلا ضوابط ؟!
أيها الأخوة المتدينون الذين تحبون الله ورسوله ، وتحبون أن تقدموا الإسلام الى الناس وتدعوهم اليه وتدفعوا عنه التصورات الخاطئة والشبهات المغرضة .. شكراً لكم على هذا الإهتمام والإخلاص .. لكن هل أنتم أهل اختصاص ، وهل عندكم من مقومات البحث والاجتهاد ما يجوز لكم تفسير الدين وتقديمه الى الناس ؟! وهل يكفي أحدنا يوم القيامة أن يقول لربه تعالى :
كانت الحملة الغربية على الإسلام واسعة وشرسة ، وكان العلماء المختصون قليلين فتصدينا للقيام بهذا الواجب ؟!
ما أدري .. فقد يقبل الله تعالى هذا الجواب ، خاصة من أصحاب النوايا الطيبة وهم كثيرون في الكتاب غير المجتهدين ، والحمد لله . ولكن أليس هذا كجواب المعلم أو البقال الذي ترك دكانه وعمل طبيباً يعالج الناس طوال عمره ، وأعد لآخرته جواباً أن يقول : يا رب ، كثر المرضى في بلدي وقل الأطباء ، فعملت طبيباً للناس مع قلة علمي !
مهما يكن من أمر ، فإذا جاز في ظروف معينة أن يكتب في الإسلام كتاب لا يملكون اجتهاداً وتخصصاً ، فهل يصح أن يصير ذلك قاعدة دائمة ؟! وهل يغيب عنا ونحن في عصر التخصص أنه لا يجوز أن يعمل في الطب أو يكتب فيه إلا المتخصص ، ولا في الفيزياء إلا المتخصص ؟! فهل أن التخصص في الإسلام أهون من التخصص في الطب والفيزياء والرياضيات ؟! وهل يجب أن يكون ما حدث ويحدث في مصر قاعدة تتبع ..؟!
كلا .. بل لا بد من ضوابط تحدد مواصفات الكتاب والباحثين والمجتهدين والقادة في الإسلام .. ولا بد للعلماء أن يبينوها ويوضحوها .. ولا بد للكاتب الإسلامي الذي ليس عنده اجتهاد في مجال كتابته عندما يمسك القلم ، أن يفكر ملياً : هل يجري القلم له أو عليه !
4 ـ تعويم الإجتهاد في جزيرة الوهابيين
من المعروف أن مصر كانت أول من تصدى للحركة الوهابية منذ نشأتها .. فقد كتب علماء الأزهر وكتاب مصر مقالات كثيرة وألفوا كتباً عديدة في رد فكر الوهابية وفقهها ، ثم تصدت مصر سياسياً حتى أنها قامت بالحملات العسكرية المصرية المعروفة على الحجاز .. وقد تواصل ذلك الصراع السياسي حتى عهد عبدالناصر ، وكانت نتيجته قبل عبد الناصر عودة الروح مراراً إلى الحركة الوهابية حتى تمت لها السيطرة على الحجاز .. وكانت نتيجته بعد عبد الناصر أن توجت المملكة العربية السعودية ملكة على العرب والمسلمين .
هذا ولكن نتيجة الصراع الفكري كانت بالعكس ، فقد أثرت مصر على الوهابية تأثيراً كبيراً ، ولم تتأثر بها إلا ضئيلاً !
لقد انحصر تأثير الوهابية على مصر رغم جهودها الضخمة بأن الوهابية ملكت في مصر شبكة مؤسسات للنشر والدعاية ، وشريحة صغيرة متأثرة بأفكارها أو مرتزقة من أفكارها .. وكلها مرشحة لأن تنتهي في أي وقت توقف مددها !
لكن لو لم يكن لمصر تأثير على الوهابية إلا تبني الوهابية لنظرية التعويم المصري للاجتهاد لكفى !
فمن المفارقات أن علماء المذهب الوهابي مقلدون في العقائد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومقلدون في الفقه للشيخ ابن تيمية وتلامذته ، تقليداً حنبلياً ، ومع ذلك فهم يحاولون أن يظهروا بمظهر المجتهدين المتحررين من التقليد لمذهب معين ، سواء المذاهب الأربعة أو غيرها ، ولذا تراهم يرددون مقولة أن يرجع المسلم إلى مصادر الشريعة ويأخذ بما يغلب على ظنه ويجتهد ويفتي .. فمن أين جاءهم فتح باب الإجتهاد هذا ، إلا من مصر ..؟!
بل نلاحظ أن فتاواهم أكثر ميلاً إلى العصرنة ، وأكثر إفراطاً في تسهيل أمرالاجتهاد من المصريين !
قد تجد في مصر معلمة تقرأ شيئاً عن الدين وتفتي لتلميذاتها .. ولكن لم نسمع أن شيخ الأزهر أعطاها ( شهادة مجتهدة ) يحق لها بموجبها أن تفتي .. بينما أعطت هيئة علماء الوهابيين الشهادة التالية لهذه المعلمة كما جاء في كتاب : فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء في المملكة العربية السعودية مجلد 5 صفحة 48 ـ 49
- السؤال الأول من الفتوى ، رقم 4798
س : أنا مدرسة دين متخرجة من الكلية المتوسطة قسم دراسات إسلامية وقد اطلعت على مجموعة من الكتب الفقهية ، فما هو الحكم حين أسأل من قبل الطالبات فأجاوبهن على حسب معرفتي أي عن طريق القياس والإجتهاد دون التدخل في أحكام الحرام والحلال ؟
ج : الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ، وبعد : عليك مراجعة الكتب والاجتهاد ثم الإجابة بما غلب على ظنك أنه الصواب ولا حرج عليك في ذلك ، أما إذا شككت في الجواب ولم يتبين لك الصواب فقولي لا أدري وعديهن بالبحث ثم أجيبيهن بعد المراجعة ، أو سؤال أهل العلم للاهتداء إلى الصواب حسب الأدلة الشرعية . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء عضو : عبدالله بن قعود عضو : عبدالله بن غديان
نائب الرئيس : عبدالرزاق عفيفى الرئيس : عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم 4400
س : هل أن من لم يحفظ ستة آلاف حديث فلا يحل له أن يقول لأحد هذا حلال وهذا حرام، فليتوضأ وليصل صلاته فقط .
ج : الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ، وبعد: كل من تعلم مسألة من مسائل الشريعة الإسلامية بدليلها ووثق من نفسه فيها فعليه إبلاغها وبيانها عند الحاجة ولو لم يكن حافظا للعدد المذكور في السؤال ... اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء ( نفس التواقيع )
هل يعرف هؤلاء السادة العلماء أن معنى فتواهم : أنه يجوز لأغلب الذين يقرؤون ويكتبون أن يفتوا ويقولوا : هذا دين الله تعالى ، وهذا حلال وهذا حرام . وتكون فتوى أحدهم صحيحة مبرئة لذمته وذمة من يعمل بها ؟!
وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا يحمل هؤلاء الفقهاء خشبة الخلاف مع المسلمين ويكفرون باجتهاداتهم..؟ مع أن أصل الفكر الوهابي ليس أكثر من اجتهاد شخص في فهم أصول الدين ، هو محمد بن عبد الوهاب ، واجتهاد عدة أشخاص في فهم فروع الدين ، هم ابن تيمية وتلاميذه ؟!
لكن يظهر أنهم يقولون : إن الإجتهاد حلال لاتباع المذهب الوهابي دون غيرهم من المسلمين !
5 ـ أصل مصيبة التعويم من العمل بالظن
يقوم منهج الاستنباط في مذهب أهل البيت عليهم السلام على ضرورة تحصيل العلم بالحكم الشرعي .. فإن لم يحصل للمجتهد العلم بالحكم من الكتاب والسنة ، فلا يجوز له الاعتماد على ظنه مهما كانت درجته عالية ، إلا إذا ثبت اعتبارهذا الظن من الشريعة بدليل قطعي يصلح أن يكون حجة للمجتهد أو حجة للمكلف .
فالاجتهاد الفقهي عندنا يتجه دائماً إلى تحصيل (الحجة القطعية) من الكتاب أو السنة أو العقل ، إماعلى الحكم الشرعى مباشرة ، أوعلى مايجب عمله عند الشك في حكم الله تعالى .. فهو في كلا المرحلتين يبحث عن العلم أو الحجة ، ما شئت فعبر .
بينما يقوم منهج الإستنباط في الفقه السني على طلب العلم بالحكم أولاً ، فإن لم يحصل للمجتهد علم بالحكم من الكتاب أوالسنة ، انتقل فوراً الى اجتهاد الرأي ، الذي يعني اتباع الظن الحاصل للمجتهد مهما كانت درجته نازلة ، بل يعني الاكتفاء بما هو أقل من الظن كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ، التي لا تفيد غالباً أكثر من مجرد الاحتمال !
وبسبب هذا الفرق في منهج الاستنباط تفاوت معنى الحكم الشرعى فصار معناه عندنا ( ماعلم أنه حكم الله تعالى بالعنوان الأولي ، أو ما علم أنه حكمه تعالى لحالة الشك في الحكم ) بينما صار عند إخواننا السنة ( ماعلمه المجتهد أو ظنه أو احتمله أنه حكم الله تعالى ) !
وبسبب هذا الفرق أيضاً كان معنى دليل العقل في استنباط الاحكام عندنا: حجية مدركاته القطعية فقط ، لأنها وحدها تنهض بتنجيز التكليف على المكلف وتعذير المكلف بين يدي الله تعالى .. دون المدركات الظنية والاحتمالية . بينما معناه عند إخواننا السنة : حجية مايدركه العقل إدراكاً قطعياً أو غير قطعي .
وبسببه كان معنى التقليد عند الشيعة : الالتزام بالتعبد بما وصل إليه المجتهد من علم بالحكم الشرعى ، أو علم بما يجب عمله عند الشك في الحكم الشرعى .. بينما معنى التقليد عند إخواننا السنة : الالتزام بالتعبد بما وصل إليه إمام المذهب أو فلان المجتهد من اختيار للحكم الشرعى عن علم أو ظن أواحتمال !
وإذا عرفنا أن نسبة الاحكام التي يعتمد فيها أصحاب هذا المنهج على ظنهم واحتمالهم قد تبلغ ثلث فروع الفقه مثلاً ، فذلك يعني أن ثلث ما يأخذه العوام على أنه أحكام الله تعالى ماهو إلا ظنون واحتمالات .. لا أكثر! والأمر ليس أفضل من ذلك في تفاصيل العقائد !!
وفي اعتقادي أن ( بازار ) الظنون والاحتمالات سيبقى قائماً في مجتمعات إخواننا السنة حتى ينهض فقهاؤهم ويضعوا ضوابط علمية لهؤلاء المزدحمين في سوق الإجتهاد ، وأولئك المتجهين للدخول من أبوابه الواسعة !!
6 ـ مشكلة تعويم القيادة ليست أقل خطراً
من الذي له حق أن يقود المسلمين ويأمر وينهى ؟
من الذي له حق الحكم على أعلى مستوى .. وعلى مستويات أقل ؟
أما في زمن النبي صلى الله عليه وآله فالمسلمون متفقون على أن النبي وحده صاحب هذا الحق .
وأما في عصرنا فالمذهب الغربي أن حق الحكم لمن غلب ، مهما كانت وسائله في الغلبة ! والظاهر أن مذاهب إخواننا السنة تميل الى هذا الرأي لأنها تعتبر أن من غلب وتسلط فقد صار حاكماً شرعياً واجب الإطاعة ، ولا تسأل عن سلوكه ووسائله في الوصول الى الحكم !
وإذا تبنى المسلمون تعويم حق القيادة والحكم في أعلى مستوى في الجميع ، يكون ثبوته في المستويات الأقل بطريق الأولى .
ومعنى ذلك أن لكل إنسان الحق في أن يتصدى للوجاهة والأمر والنهي والقيادة ، على مستوى قريته أو محلته أو محيط عمله .. فإن ( توفق ) وأطاعه آخرون فهو ( أمير ) شرعي عليهم !
ومعنى ذلك أنه لا فرق بين نظرية القيادة والإمرة في الإسلام وفي الثقافة الغربية أبداً ، فهي قانوب المغالبة والغلبة الحاكم في الجاهلية الأولى والثانية ، الذي أقره الاسلام !!
ومعنى ذلك أن مجتمعاتنا سوف لا تعرف الهدوء ، لأن باب الفتوى والقيادة مفتوحان على مصراعيهما ، ورغبة الفتوى والقيادة ضاربة جذورها في شخصية الإنسان ، وبما أن المجتمع لا يتحمل تحقيق مجموع هذه الرغبات، فلا نتيجة إلا الصراع وامتلاء المجتمع بغابة الاتجاهات والقيادات !
7 ـ مذهب التشيع تحت الأضواء
فاجأ الامام الخمينى العالم بأنه استعمل في ثورته طاقة جديدة هي طاقة التشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ..
وذهل الغرب واتجهت أنظاره وبحوثه لمعرفة نوع هذه الطاقة وكمية مخزونها .. وسلط أضواءه على التشيع وقدرته السياسية .
وبهرت الشعوب الإسلامية السنية بهذا الحدث المفرح الذي هز العالم ، واتجهت أنظارها لمعرفة التشيع من ناحية عقائدية وفقهية وروحية .
وبذلك صار مطلوب الجميع: معلومات، أفكار ، تحليلات ، مقالات ، كتب ، فتاوى.. عن الشيعة والتشيع . وبذلك انفتح السوق العالمي أمام الفكر الشيعي وإن كانت كتبه ممنوعة .. فأول الذين يقرؤونها هم الذين يمنعونها!
وكثرت الكتابات والخطابات عن عقائد الشيعة وفقههم وتاريخهم وآرائهم وشخصياتهم ، من علماء وكتاب وخطباء شيعة وغير شيعة .. كتابات من كل نوع ، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بالتعبير المعاصر ، وكثر العرض بسبب زيادة الطلب ، حتى اختلط الحابل بالنابل وضاعت في كثير من الأحيان قدرة القارئ على تمييز ما هو أصيل من مذهب التشيع أو غريب عنه ملصق به .
ودخلت على الخط تأثيرات التعويم المصري للاجتهاد ، فبرز المتأثرون بها من الشيعة وغيرهم يفتون بظنونهم وينسبونها إلى التشيع !
بل وصل الأمر إلى أنهم نسبوا اليه مدرسة العمل بالظن في أمور الدين التي أسسها الخليفة عمر بن الخطاب وقاومها الائمة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، مقاومة شديدة !!
ولم يقتصر الأمر على الفتاوى ، بل تعداه الى عقائد الشيعة ، فرأينا فيها كتابات وفتاوى متنوعة ، وأحياناً متضادة خاصة في التفاصيل الأولى والثانية ، وبالأخص في فهم شخصيات الأئمة عليهم السلام ، وفهم عقيدة الإمامة وأهداف الله تعالى ورسوله من اعتماد نظام إمامة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله في الأمة .
وقد أوجبت هذه الحالة المعاصرة على مراجع المذهب أن يراقبوا الساحة العقائدية مراقبة أكبر ، وأن يوجهوا جهودهم الى توضيح عقيدة التشيع وتعميم تفهيمها للناس !
8 ـ رأي علماء الشيعة في الثابت والمتغير
واجه فقهاؤنا عبر العصور التعارض بين مسألتين : مسألة مراعاة الظروف المتجددة المتطورة ، ومسألة الحفاظ على عقائد الإسلام وأحكامه .. وقبل العلماء واجه الائمة من أهل البيت عليهم السلام هاتين المسألتين فكانوا أعظم قدوة فيما يجب الحفاظ عليه والثبات مهما كانت التكاليف ، وفيما هو مفتوح لتغير الزمان وتطور الحياة ..
والمتتبع لسيرة علماء الشيعة وفقههم يلاحظ أنهم اهتدوا بهدى أئمتهم عليهم السلام فمثلوا الثبات على الأصالة والنقاء حيث يجب ، والإنفتاح على الأوضاع الجديدة حيث يجوز .. وبذلك تَكَوَّنَ في فقههم خط عام سلكه الفقهاء المتأخرون واحترموه وحرصوا عليه ، لأنه يمثل حصيلة فهم الفقهاء والنوابغ عبر العصور حتى يصل إلى مصدر الفقه والفهم ، الأئمة الطاهرين عليهم السلام ..
ولا يعني ذلك إغلاق باب الإجتهاد في المذهب الشيعي ، بل يعني أن للاجتهاد فيه شروطاً وضعها النبي والأئمة من آله صلى الله عليه وآله وأخذت شكلهاعلى أيدي تلاميذهم فقهاء المذهب رضوان الله عليهم ، فصارت مما يؤمن به مراجع التقليد وطلبة العلوم الدينية ، ويشعر بها المتفقهون من جمهور الشيعة أينما وجدوا.. وأن الإجتهاد إن كان ضمن هذه الشروط تقبله فقهاء المذهب وجمهوره سواء وصفت نتائجه بأنها تميل إلى المحافظة أو تميل إلى التجدد .. أما إذا تخطى شروطه فإن حساسيتهم تعمل، وينهضون لمعالجة الحالة لأنها نشاز جاء من خلل في الفهم العلمي، أو من سبب آخر !
على هذا سار التاريخ الفقهي والعقائدي للشيعة .. وكانت تحدث نشازات في هذا القرن أو ذاك ، وفي هذه المسألة أو تلك ، ولكنها كانت تنتهي دائماً لمصلحة الفقه والعقائد المؤصلة عند فقهاء المذهب وجمهوره.. ويذهب النشاز بعيداً ليكون شيئاً منفصلاً عن المذهب !
وتشمل شروط الإجتهاد في مذهبنا : المجتهد والمنهج والمجال .. فهذه الشروط الثلاثة بمثابة شروط الفارس والفرس والميدان في السباق .. فكما أنه إذا اختل شرط منها فلا ميدان ولا سباق .. كذلك إذا اختل شرط في الإجتهاد فلا اجتهاد ولا فتوى ..
وفي تقديري أن ضغط طلب المعرفة الغربي ، وتأثير تعويم الإجتهاد المصري سيبقى إلى مدة من الزمن يلقي بآثاره على الكتابات عن التشيع وعلى ( فتاوى ) بعض المتصدين للفتوى من مدعي الخبرة بالتشيع ومدعي تمثيل الشيعة . وأن هذه المسألة ستفرض على مراجع الدين الأجلاء التصدي الى ظواهر النشاز الفقهية والعقائدية وتحذير الناس منها ، مضافاً الى جهودهم في توضيح معالم المذهب الفقهية والعقائدية