العــــُـــصبة الياطــــرية
يعرف الانسان العصبة الشخصية ، والعصبة لأبويه وأسرته ، والعصبة لعائلته وعشيرته ،
لكن أرفعها وأحبها الي : العصبة لقريتي وبلدي ومنشئي ومدرجي ،
أحب ياطر بكلها ، بتلاوينها ، بكل عوائلها ، بكل روابيها واوديتها ،
بأزقتها وساحاتها ، بشيبها وشبابها ، برجالها ونسائها ،
بلهجتها العاملية الأصيلة ، وصباحها المتنفس بعطر الحياة ، ومسائها الهادي بسكون الإيمان .
تقول لي : العصبة والتعصب مذموم ، فأقول : كلا ،
نعم بعض العصبة كفر ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله :
" من تعصب او تُعصِب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه .
لكن بعضها إيمان وهدى : فقد قال الإمام زين العابدين عليه السلام :
" العصبية التي يأثم عليها صاحبها ان يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار غيرهم ،
وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن يعينهم على الظلم " .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : " حب الوطن من الايمان " .
فإن كنت متعصباً لشيئ مما يحيط بك ، فتعصب لبلدك ومنبتك ومدرجك ،
ومسكنك ومأواك ، وممرك ومقرك ،
لبلدة تفتَّح فيها وجودك ، وتنفست رئتاك أول ما تنفست هواءها العذب العليل .
1. أتعصب لقريتي :
يعني أعتز بالإنتماء اليها ، فهو قدري الذي اختاره لي رب العالمين ، وما اختاره لي بعلمه وحكمته ورحمته هو الأفضل لي . فلو خيروني قبل خلقي وسألوني: في أي مكان تريد أن تُخلق ، وابن من تحب أن تكون ؟ لأجبتهم أريد أن أخلق في ياطر نفسها ، وابن أبي وأمي نفسيهما .
والسبب في ذلك: أني أقف أما كمٍّ هائل من الخيارات والإحتمالات ، لا أعرف الصالح منها لوجودي ومساري ومستقبلي ، فأوكل الأمر الى من يعرف ذلك ليختار لي بمعرفته وحكمته ، وقد فعل سبحانه ، فأشكره من كل قلبي .
وهذا معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام : لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه !
فالأقدار التي يصنعها لي ربي هي الأفضل والأحسن والأجمل ، وتبقى عليَّ الأقدار التي أصنعها أنا .
2. وأتعصب لقريتي:
وأشعر بأنها شخصية لها كيانها وتاريخها ومستقبلها .
فبعض القرى لا شخصية لها ، ولا غيرة لأبنائها عليها . تراها مهانة ، يدوسها القريب والغريب ، كأنما هي أرض سائبة ، أو بيت بلا أبواب ، أو كرم بلا حيطان . يتصرف فيها الأولاد والرقعاء ، ويذلونها فلا يدفع أحد عنها !
وبعض القرى دار عز وكرامة ، أعزها أهلها ولم يرخصوها..
ومَهْدُ أبرارٍ ، عرف أبناؤها قدر ترابها والحصى ..
وبَلَدُ أشاوس ، منعوا عرينها أن يهان ، ودفعوا عنها الطامع والعابث ، وحموا شرفها أن يبتذل .
تشعر بأنها وجود حي وكيان ، فهي ترضى وتغضب ، يناسبها أمر أو لايناسبها ، وعلى أبنائها أن يتصرفوا بأدب معها ، ويحفظوا فيها الجغرافية والتاريخ والقيم ، ليُرضوا أرضها وسماءها ، وأرواح والآباء والأمهات التي حلت بفنائها .
بلدٌ لا تنسى شخصياتها وأمجادها ، فهي من قديم تتمسك بقيم ، يحترم أهلها الغريب ويُكْرمونه ، ويحتفون بالعالم ويصغون اليه ، ويلتفون حول الزعيم ويهتفون له .
ويتكافلون بينهم فيتحابون ويتزاورون ويسمرون ، ويتقاسمون مال الجيب ولقمة العيش .
وإذا سمعوا أن ابن ياطر في مشكلة ، هبوا لغوثه ونجدته ومواساته .
أما إذا اعتدى عليه أحد ، فالكل يستنفرون لنصرته ومنع الظلم عنه .
3. وأتعصب لقريتي:
لأن التعصب لها تعصب لذاتي ، وحب الذات أقوى الغرائز ، وذاتي تتسع لأسرتي وأرحامي وعشيرتي ثم تتسع فتشمل كل عوائل بلدي وأفرادها ، وشؤونها . وبقدر ماتتسع دائرة المحبة تأخذ الذات قداستها ، وقد جعل الله لذاتي قداسة ، وجعل لذاتي الأوسع قداسة أكبر وأعمق .
لهذا أتعصب لنفسي في حدود ، وأدفع عنها الأذى وأخدمها ، لكن أتعصب لمصلحة بلدي أكثر لأنها مصلحة ذاتي الأكبر .
فكن يا ابن بلدي ما شئت ، وتعصب لما شئت ، فذلك شأنك وخيارك ، لكن إحفظ معي العصبة الأقوى والأعلى ، وتعصب لمصلحة بلدنا ، فهي ذاتي وذاتك الأكبر .
سلام عليك يا ياطر فقد أثبت أبناؤك أنك بلدهم الغالي وأمهم الحنون ، وقد رأيناهم تعصبوا لزعمائهم وأحزابهم ، وتناقشوا واختلفوا وتنافروا ، لكن لما جاءت مصلحة ياطر ، برزت فيهم العصبة المقدسة لها ، فقدموا مصلحتها على مصالحهم ، والعصبة لها على العصبة لزعاماتهم .
وهكذا فلتكن الأخوة ، والإنتماء للقرية ، والمواطنة .