آيات الغدير ( ط2-1422 ه)
--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
آيات الغدير
بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير
قام بإعداده
مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
برعاية المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني مد ظله
--------------------------- 1 ---------------------------
آيات الغدير
بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير
قام بإعداده
مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
برعاية المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني مد ظله
الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة
--------------------------- 2 ---------------------------
شابك ( ردمك ) 6 - 151 - 319 - 964
ISBN 964 - 319 - 151 - 6
الكتاب : آيات الغدير
المؤلف : مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الناشر : مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
العدد : 4000 نسخة
الطبعة : الثانية ذو الحجة 1422 ه
المطبعة : ستاره - قم
السعر : 8000 ريال
--------------------------- 3 ---------------------------
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام
على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
هذا الكتاب يشتمل على بحث آيات الغدير وخطب النبي الست في حجة الوداع . . ونقصد بآيات الغدير ثلاث آيات ، هي قوله تعالى :
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . . ) . وقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم . . ) . وقوله تعالى : ( سأل سائل بعذاب واقع . . ) . .
وهذه الآيات الثلاث جزء من مجموع الآيات التي نزلت في علي وأهل البيت عليهم السلام ، وقد ألف قدماء المفسرين والمحدثين حتى السنيون منهم ، كتباً خاصة في الآيات التي أنزلها الله تعالى في أهل بيت نبيه ، والأحاديث التي قالها فيهم النبي صلى الله عليه وآله ، الذي لا ينطق عن الهوى . نذكر منها : كتاب الحافظ أبي نعيم الأصفهاني باسم ( ما نزل في علي من القرآن ) . وكتاب النسائي صاحب الصحيح باسم ( خصائص أمير المؤمنين علي ) . وهما كتابان معروفان مطبوعان . .
وكتاب ( الولاية ) للمؤرخ الطبري ، في جزءين ، غير مطبوع .
- *
--------------------------- 4 ---------------------------
وأثناء بحثنا في آيات الغدير الثلاث ، وجدناها مرتبطة بخطب النبي الست في حجة الوداع ارتباطاً وثيقاً . . فكان لا بد أن نبحث هذه الخطب وما فيها من أوامر النبي المؤكدة لأمته باتباع الثقلين من بعده : القرآن والعترة . .
وخاصةً بشارته صلى الله عليه وآله في خطبة عرفات بأن الله تعالى حل مشكلة الحكم في هذه الأمة ، واختار لها من بعده اثني عشر إماماً ربانياً ، عليهم السلام . . وقد أوجب ذلك علينا أن نبحث العلاقة التي كانت قائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وزعماء قريش في صراع نبي الاسلام معهم ، وقضية حكم أهل بيته من بعده صلى الله عليه وآله .
ومع أن الكتاب لم يقتصر على تفسير آيات الغدير بالمعنى الاصطلاحي ، فقد أبقينا اسمه ( آيات الغدير ) لأن خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع . . آيات نبوية أيضاً لغدير علي عليه السلام . .
والحمد لله أن الكتاب لقي استقبالاً حسناً من العلماء والعموم ، ونفدت طبعته في وقت قياسي . . فتوفقنا لإعادة النظر فيه ، وتنقيحه وتبويبه من جديد لتكون فصوله وفقراته أدق وأحسن تسلسلاً .
نرجو أن تكون بحوثاً مفيدة ، وأن ينفعنا الله تعالى بها في آخرتنا ، ويشملنا بشفاعة النبي وآله الطاهرين صلى الله عليه وآله .
مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
علي الكوراني العاملي
في العشرين من ربيع الثاني 1422 - *
--------------------------- 5 ---------------------------
تمهيد
ثلاث مسائل في عمل الأنبياء عليهم السلام
توجد ثلاث مسائل في عمل الأنبياء والرسل عليهم السلام لم يعطها الباحثون حقها في تدوين سيرتهم ، ودراسة أعمالهم :
المسألة الأولى : أن أصل مهمتهم عليهم السلام هو تبليغ الناس رسالة ربهم فقط . . فالمحور الذي يدور عليه عمل النبي والرسول هو التبليغ والأداء ، من أجل إقامة الحجة لربه عز وجل على عباده . .
فالرسول مبلغُ رسالةٍ ومؤديها . . وهو يتقي ربه سبحانه ويخاف من غضبه وعذابه إن قصر في الأداء ، أو خالف حرفاً مما كلف بأن يؤديه ! ولذا تراه يشهد الناس على أنه أدى إليهم ، ليشهدوا له عند ربه .
والرسول مبلغٌ ، وليس له إجبار الناس على قبول الهدى ، ولا على الالتزام به . . ولا يمكنه ذلك من تلقاء نفسه .
فالقاعدة الثابتة التي استوعبها الرسول أنه لا إجبار ولا إكراه في الدين الإلهي . . وحرية الناس يجب أن تبقى محفوظة ، ليؤمنوا إن شاؤوا أو يكفروا . . ويلتزموا بالدين أو ينحرفوا عنه . . لأن ذلك معنى فتح مدرسة الحياة في هذه
--------------------------- 6 ---------------------------
الدار ، وامتحان الناس فيها بالهدى والضلال ، وإعطائهم القدرة على فعل الخير أو الشر . . ثم محاسبتهم في مرحلةٍ لاحقةٍ . . في دارٍ أخرى .
فالإجبار على الدين إذن . . يتنافى مع أصول الامتحان ، وحرية الاختيار .
- *
والمسألة الثانية : أن هدف الأنبياء والرسل عليهم السلام يتركز على القضايا ( الكبرى ) في حياة الناس ومسار المجتمعات . . فالرسول عليه السلام مهندس رباني ، ولكنه مهندس مدن ومجتمع ، ومسيرة تاريخ .
وأعماله يجب أن ينظر إليها بهذا المنظار وأن تقاس بهذا المقياس ، وأن يسأل الباحث نفسه : ماذا كان سيحدث في ثقافة الناس ومسار التاريخ ، لو لم يبعث هذا الرسول ، وماذا حدث بسبب بعثته وأدائه لرسالته ؟
أو يسأل : كيف كانت حالة العالم الوثنية اليوم ، لو لم يبعث إبراهيم عليه السلام ويرسي أسس التوحيد ويزرع أصوله في مسيرة المجتمع الإنساني ؟ !
أو كيف كانت حالة البلاد العربية ، والعالم في عصرنا ، لو لم يبعث نبينا صلى الله عليه وآله ، ولم يُحِدثْ هذا المد الأخير من التوحيد والحضارة ؟ !
لقد كان عمله صلى الله عليه وآله ( تكوين أمة ) ودفعها لتأخذ موقعها في مصاف أمم العالم ، بل في ريادتها . . وتزويدها بأحسن ما يمكن من مقومات الأمة ، مضموناً وشكلاً . .
كان عمله إنشاء سفينة ، وإطلاقها في بحر شعوب العالم ومجرى التاريخ . . وكان حريصاً أن يكون ربانها بعده أهل بيته ، الذين اصطفاهم الله وطهرهم ، وأورثهم الكتاب . . ولكن إن لم تقبل الأمة بقيادتهم ، فليكن الربان من يكون حتى يبلغ الله أمره في هذه الأمة ، ثم يبعث فيها المهدي الموعود عليه السلام .
--------------------------- 7 ---------------------------
والمسألة الثالثة : أن الجانب الذاتي في الرسول عليه السلام موجود ومؤثر دون شك ، فهو مفكر ، نابغ ، مخطط ، فاعل مختار . . ولكن الذاتية في عمله ضئيلة جداً ! وما يقابل الذاتية هنا ليس الآلية ، بل طلب التوجيه من ربه دائماً عن قناعة ، وإيمان ، وتعبد .
الرسول يجتهد في أمور ، شخصية أو عامة . . ولكن مساحة الأمور التي يسمح لنفسه أن يجتهد فيها ويعمل فيها برأيه ، لا تشكل إلا جزءً قليلاً من مساحة عمله الواسع الكبير !
فمثله كمثل مهندس أرسله رئيسه لتنفيذ مشروع كبير ، وهو مقتنع أن عليه أن يتصل دائماً برئيسه ، ليأخذ منه التعليمات الحكيمة الصحيحة ، حتى لا يقع في أخطاء ضارة . . فهو يعمل ويفكر وينفذ ، ولكنه على اتصال دائم بمركزه ، يأخذ منه مراحل الخارطة ، ويستشيره في رفع إشكالات التنفيذ !
وهذا المثل ، مصغر آلاف المرات عن مهمة الرسول عليه السلام . أما مركز توجيهه وتسديده ، فإنه لا يقاس بالله سبحانه أحد ، ولا بفعله فعل أحد . - *
وعلى هذا ، يجب علينا في دراسة سيرة نبينا صلى الله عليه وآله أن ندخل في حسابنا هذه الأمور الثلاثة : - أنه مبلغ ما أمر به .
- وأن عمله إنشاء أمة وإطلاقها في مسيرة التاريخ .
- وأن عمله دائماً بتوجيه ربه وليس من عند نفسه . .
--------------------------- 8 ---------------------------
والمتأمل في سيرته صلى الله عليه وآله يلمس هذه الحقيقة لمساً ، وأن الله تعالى كان يدير أمره من أول يوم إلى آخر يوم ، وكان الرسول يطيع وينفذ . . مسلماً أمره إلى ربه ، واثقاً به ، متوكلاً عليه ، راضياً بقضائه وقدره . .
ولذا جاءت نتائج عمله فوق ما يتصور العقل البشري ، وفوق ما يمكن لكل مهندسي المجتمعات ، ومنشئي الأمم ، ومؤسسي الحضارات . .
لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وآله أن يحدث مداً عقائدياً حضارياً عالمياً في أقل مدة ، وأقل كلفة من الخسائر البشرية والمادية . .
فرغم شراسة الأعداء والحروب لم تبلغ قتلى الطرفين ألف قتيل ! ! وما ذلك إلا بسبب أن إدارة الرسول صلى الله عليه وآله كانت من ربه عز وجل . .
كان القرآن يتنزل عليه باستمرار من أول بعثته إلى قرب وفاته ، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيه دائماً ، بآيات قرآنٍ ، أو وحي غير القرآن ، وأوامر وتوجيهات ، وأجوبة . . . إلخ .
وما أكثر الأمثلة في سيرته صلى الله عليه وآله على ذلك ، فهي مليئة بالتدخل الإلهي والرعاية في كبير أموره وصغيرها . . وهي تدل على أنه صلى الله عليه وآله ما كان يتصرف من عند نفسه إلا في تطبيق الخطوط العامة التي أوحيت إليه أو تنفيذ الأوامر التفصيلية التي بلغه إياها جبرئيل عليه السلام . . وكثيراً ما كان يتوقف عن العمل ، ينتظر الوحي !
وقد ورد أنه صلى الله عليه وآله قال : أوتيت الكتاب ومثله معه ، أي ما كان جبريل يأتيه به من السنن ( الإيضاح / 215 ) ، وأن جبريل كان ينزل عليه بالسنة كما ينزل بالقرآن ( الدارمي : 1 / 145 ) .
--------------------------- 9 ---------------------------
وهذه التوجيهات شملت حله وترحاله ، ورضاه وغضبه صلى الله عليه وآله بل شملت حتى أموره الشخصية ، من زواجه وطلاقه ، ولباسه وطعامه ، ونومه ويقظته ، ووضوئه وسواكه ، فضلاً عن عطائه ومنعه ، وحبه وبغضه . .
روى في الكافي : 4 / 39 ، عن الإمام الصادق عليه السلام قصة شخص كافر جاء يحاج النبي صلى الله عليه وآله ويكذبه ويؤذيه ويتهدده ، قال : فغضب النبي صلى الله عليه وآله حتى التوى عرق الغضب بين عينيه ، وتَرَبَّد وجهه وأطرق إلى الأرض ، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال : ربك يقرؤك السلام ويقول لك : هذا رجل سخي يطعم الطعام . فسكن عن النبي صلى الله عليه وآله الغضب ورفع رأسه ، وقال له :
لولا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك سخي تطعم الطعام ، لشردت بك ، وجعلتك حديثاً لمن خلفك !
فقال له الرجل : وإن ربك ليحب السخاء ؟
فقال : نعم .
فقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا رددت من مالي أحداً . انتهى .
وروى في الكافي : 1 / 289 : أن شخصاً سأل الإمام الباقر عليه السلام فقال حدثني عن ولاية علي ، أمن الله أو من رسوله ؟ فغضب ، ثم قال : ويحك ! كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخوف لله من أن يقول ما لم يأمره به الله ! بل افترضها الله ، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج . انتهى .
ولا نطيل الكلام بأمثلة ذلك ، فهي موضوع مهم لرسالة دكتوراه ، بل لعدة رسائل .
--------------------------- 10 ---------------------------
خلافة النبي . . موضوع بسيط
والخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله موضوع بسيط وليس معقداً . . فقد قال أهل البيت وشيعتهم إن النبي صلى الله عليه وآله نصب علياً عليه السلام ولياً للمسلمين من بعده ، وأن ذلك كان بأمر ربه عز وجل ، فلا مجال فيه لاختيار قريش أو غير قريش .
وقالت قريش إنه لم ينصب أحداً ، ولم يوص إلى أحد ، وأن ( سلطانه ) ترثه كل قبائل قريش الثلاث وعشرين ، لأن محمداً ابن قريش .
لذلك اختارت قريش بعده شخصاً قرشياً من قبيلة تيم بن مرة ، هو أبو بكر ، ثم اختار أبو بكر قرشياً من قبيلة عدي هو عمر ، ثم اختار عمر بواسطة الشورى قرشياً ثالثاً من بني أمية بن عبد شمس ، هو عثمان . .
ولم يختاروا خليفة من الأنصار ، لأنهم ليسوا قرشيين لاحقَّ لهم في سلطان محمد بن قريش ، ولم يختاروا من بني هاشم ، لأن حقهم في سلطانه ليس أكثر من غيرهم من قبائل قريش ، وقد استكثرت عليهم قريش أن يجمعوا بين النبوة والإمامة !
إنه موضوع بسيط ، يدور حول وجود النص وعدم وجوده . . ولكنه موضوع شائك لا تحب قبائل قريش واتباعها فتحه ، لأنه يضع علامة استفهام كبيرة على نظام خلافتها . .
ولذا تراهم يحذرونك من البحث فيه ، بل حتى من التفكير فيه . . ! ويقولون لك : إنه موضوع صعبٌ معقد ، والكلام فيه حرام !
--------------------------- 11 ---------------------------
خلافة النبي . . كانت مطروحة في حياته
مضافاً إلى منطق الأمور ، توجد أدلة ملموسة على أن الخلافة وولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت مطروحة من أول بعثته وإلى آخر حياته الشريفة ، وأن الكلام كان يجري في من يخلفه بشكل طبيعي . . لا كما تقول مصادر السنيين من أن النبي صلى الله عليه وآله لم يوص إلى أحد ، وأن المسلمين لم يطرحوا هذا الموضوع معه أبداً ، ولا سألوه عنه حتى مجرد سؤال ! !
وهذه الأدلة غير ما ثبت من نصوص النبي صلى الله عليه وآله على إمامة العترة من بعده عليهم السلام .
الدليل الأول
ما ورد في سيرة النبي صلى الله عليه وآله من أنه كان يعرض نفسه على القبائل في أول بعثته ، ويطلب منها أن تحميه لكي يبلغ رسالة ربه . . وأن بعض القبائل قبلت عرضه بشرط أن يكون لها الأمر من بعده ، فأجابها النبي صلى الله عليه وآله بأنه مجرد رسول والأمر ليس له ، بل هو لله تعالى يجعله لمن يريد !
وأبرز ما وجدناه من ذلك : حديث بني عامر بن صعصعة ، وحديث كندة ، وكلاهما في أول البعثة ، وحديث عامر بن الطفيل ، وهو في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله !
حديث بني عامر بن صعصعة
في سيرة ابن هشام : 2 / 289 : ( أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت
--------------------------- 12 ---------------------------
إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله ، يضعه حيث يشاء .
قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك ! فأبوا عليه .
فلما صدر الناس ، رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم ، قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب ، يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا .
قال : فوضع الشيخ يديه على رأسه ، ثم قال : يا بني عامر هل لها من تلاف ؟ ! هل لذناباها من مُطَّلب ؟ ! والذي نفس فلانٍ بيده ما تقوَّلها إسماعيليٌّ قط ، وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم ! ) . انتهى .
ورواه الطبري في تاريخه : 2 / 84 . وابن كثير في سيرته : 2 / 158 ، وحكاه في الغدير : 7 / 134 عن سيرة ابن هشام 2 / 32 ، والروض الأنف : 1 / 264 ، وبهجة المحافل لعماد الدين العامري : 1 / 128 ، والسيرة الحلبية : 2 / 3 ، وسيرة زيني دحلان : 1 / 302 ، بهامش الحلبية ، وحياة محمد لهيكل / 152 .
حديث قبيلة كندة
رواه ابن كثير في سيرته : 2 / 159 ، قال : ( قال عبد الله بن الأجلح : حدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له : إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الملك لله يجعله حيث يشاء ، فقالوا لا حاجة لنا فيما جئتنا به ) ! انتهى .
--------------------------- 13 ---------------------------
حديث عامر بن الطفيل
وهو شيخ مشايخ قبائل غطفان ، روى قصته ابن كثير أيضاً في سيرته : 4 / 114 ، قال : ( عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وعامر بن الطفيل بن مالك ، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتهيا إليه وهو جالس ، فجلسا بين يديه .
فقال عامر بن الطفيل : يا محمد ، ما تجعل لي إن أسلمت ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم .
قال عامر : أتجعل لي الأمر إن أسلمت ، من بعدك ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس ذلك لك ، ولا لقومك ، ولكن لك أعنة الخيل .
قال : أنا الآن في أعنة خيل نجد ! اجعل لي الوَبَر ، ولك المدَر .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا .
فلما قفل من عنده قال عامر : أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يمنعك الله .
وفي ص 112 ، قال : ( وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : أخيرك بين ثلاث خصال : يكون لك أهل السهل ويكون لي أهل الوبر ، وأكون خليفتك من بعدك ، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء !
قال فطعن ( أصيب بالطاعون ) في بيت امرأة ، فقال : أغدة كغدة البعير ، وموت في بيت امرأة من بني فلان ! - وفي رواية في بيت سلولية - ائتوني بفرسي ، فركب ، فمات على ظهر فرسه ! ) . انتهى .
--------------------------- 14 ---------------------------
الدليل الثاني
أن بيعة النبي صلى الله عليه وآله للأنصار تضمنت من أولها في مكة ثلاثة شروط :
الأول : أن يحموا النبي صلى الله عليه وآله مما يحمون منه أنفسهم .
الثاني : أن يحموا أهل بيته وذريته مما يحمون منه أولادهم وذراريهم .
الثالث : أن لا ينازعوا الأمر أهله ! !
وهذا الشرط الأخير دليلٌ واضحٌ على أن مبدأ الاختيار الإلهي للأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله كان مفروغاً عنه من أول الرسالة ، وأن لهذا الأمر أهلاً بعد النبي ، على الأمة أن تطيعهم ! وليس لها أن تختار هي ، ولا أن تنازع أهل الأمر أو أولي الأمر الذين يختارهم الله تعالى لقيادتها بعد نبيه !
وقد وفَى الأنصار بالشرط الأول خير وفاء ، ولكن أكثرهم حنث بالشرطين الأخيرين حنثاً سيئاً مع الأسف !
وقد روت الصحاح هذه الشروط النبوية الثلاثة : ففي صحيح البخاري : 8 / 122 : ( عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم ) . ورواه مسلم : 6 / 16 ، والنسائي : 7 / 137 ، بعدة روايات ، وعقد باباً بعنوان ( باب البيعة على أن لا ننازع الأمر أهله ) . ورواه ابن ماجة : 2 / 957 . وأحمد 5 / 316 ، وفي ص 415 وقال : ( قال سفيان : زاد بعض الناس : ما لم تروا كفرا بواحاً ) . ورواه البيهقي في سننه 8 / 145 .
--------------------------- 15 ---------------------------
وفي مجمع الزوائد : 6 / 49 : عن عبادة بن الصامت أن أسعد بن زرارة قال : يا أيها الناس ، هل تدرون على ما تبايعون محمداً صلى الله عليه وسلم ؟ إنكم تبايعونه أن تحاربوا العرب والعجم ، والجن والأنس ! فقالوا : نحن حرب لمن حارب ، وسلم لمن سالم .
قالوا : يا رسول الله اشترط . قال : تبايعوني على أن : تشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، وأن لا تنازعوا الأمر أهله ، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم .
وعن حسين بن علي قال : جاءت الأنصار تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة فقال : يا علي قم فبايعهم ، فقال علي : ما أبايعهم يا رسول الله ؟
قال : على أن يطاع الله ولا يعصى ، وعلى أن تمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وذريته ، مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم . انتهى .
ومن الملفت أن مصادرهم روت أن النبي صلى الله عليه وآله ضمَّنَ شروط بيعة الشجرة التاريخية في صلح الحديبية مع المهاجرين والأنصار ، نفس هذا الشرط الذي اشترطه على الأنصار قبل الهجرة ! أن يحموه وأهل بيته وذريته مما يحمون منه أنفسهم وأن لا ينازعوا الأمر أهله !
قال النووي في شرح مسلم : 13 / 2 : قوله : في رواية جابر ورواية معقل بن يسار ( بايعناه يوم الحديبية على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت ) وفي رواية سلمة أنهم بايعوه يومئذ على الموت ، وهو معنى رواية عبد الله بن زيد بن عاصم . وفى رواية مجاشع بن مسعود البيعة على الهجرة والبيعة على الاسلام والجهاد .
--------------------------- 16 ---------------------------
وفي حديث ابن عمر وعبادة : بايعنا على السمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله . . وفى رواية عن ابن عمر في غير صحيح مسلم البيعة على الصبر .
قال العلماء : هذه الرواية تجمع المعاني كلها ، وتبين مقصود كل الروايات .
ومن الواضح لمن له أدنى خبرة أن الزيادة التي قال عنها أحمد بن حنبل ( قال سفيان : زاد بعض الناس : ما لم تروا كفراً بواحاً ) . . من إضافات أتباع السلطة على الحديث بعد معارضة بني هاشم والأنصار لخلافة أبي بكر وعمر !
وكذلك كل ما في معناها ، كالذي رواه البخاري : 8 / 88 ( إلا أن تروا كفراً بواحاً ، عندكم من الله فيه برهان ) والبيهقي في سننه : 8 / 145 .
لأن بيعة الأنصار كانت قبل الهجرة ، ولم يكن فيها استثناء من الطاعة ، ولم تكن مسألة إثرة القرشيين على الأنصار مطروحة أبداً إلا بعد بيعة أبي بكر والمعارضة الشديدة لرئيس الأنصار صاحب السقيفة سعد بن عبادة !
ويلاحظ أن الصحاح القرشية أكثرت من رواية شرط النبي صلى الله عليه وآله على الأنصار أن لا ينازعوا الأمر أهله ، لأجل أن تحتج عليهم بأنهم لا سهم لهم في الخلافة القرشية . . ولكنها لم تروِ شرط النبي صلى الله عليه وآله على الأنصار أن يمنعوا أهل بيته وذريته مما يمنعون منه أهليهم ، لأن ذلك في غير مصلحة الخلافة القرشية ، التي هاجمت بيت فاطمة وعلي عليهما السلام ، وأشعلت فيه النار لتحرقه بمن فيه ، إن لم يخرجوا ويبايعوا !
ولا روت شرط النبي عليهم أن لا ينازعوا الأمر أهله إلا ما فلت من سذاجة راويه أو صدقه كما رأيت في حديث عبد الله بن عمر ! لأنه شرط في غير مصلحة الذين اغتنموا انشغال بني هاشم بجنازة النبي وسرقوا الأمر من أهله !
--------------------------- 17 ---------------------------
وبهذا تعرف الهدف من الروايات المدبجة التي حرفت الحديث من كونه شرطاً نبوياً على المسلمين وحولته إلى أمر نبوي للمسلمين بطاعة كل حاكم ! كالتي رواها أحمد في مسنده 5 / 321 : ( عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله : عليك السمع والطاعة ، في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك ، وأثرة عليك ، ولا تنازع الأمر أهله وإن رأيت أنه لك ) . انتهى .
ولا يتسع المجال هنا للحديث في هذا الشرط النبوي البليغ ، الذي بدأ به النبي مبكراً فاشترطه بأمر ربه على الأنصار ، ثم اشترطه على المهاجرين . . ودلالاته على الخطة الإلهية لمستقبل الاسلام ، وترتيب الإمامة بعد النبوة .
الدليل الثالث : حديث الدار . . وأندر عشيرتك الأقربين
حديث الدار معروف ، فهو مرتبط في مصادر التفسير والسيرة بتفسير قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . حيث دل نص الآية على أن الله تعالى أمر رسوله في المرحلة الأولى أن يدعو بني هاشم فقط !
فماذا فعل النبي صلى الله عليه وآله في هذه المرحلة ؟ وهل استمرت مدتها شهوراً ، أو سنين ، حتى نزل الأمر بتوسيع نطاق الدعوة لعموم الناس ؟
وما معنى الأمر الإلهي : أن تكون نبوة الرسول صلى الله عليه وآله أولاً لبني هاشم خاصة ، وبعدها لقريش والعرب والناس عامة ؟
وما معنى أن قريشاً اتخذت قراراً بمحاصرة بني هاشم ، فالتفوا جميعاً حول النبي صلى الله عليه وآله ، مؤمنهم وكافرهم ، وتحملوا الحصار الشامل الذي استمر من السنة السادسة أو السابعة ، إلى السنة الحادية عشرة للبعثة . . ولم يقل أحد منهم آخ ! وما معنى أنه عندما كانت الشدائد تقع على المسلمين ، لم ينهض بحملها إلا بنو هاشم ؟
--------------------------- 18 ---------------------------
فقد انهزم المسلمون جميعاً في أحد ، ولم يثبت غير بني هاشم !
ثم تحداهم جميعاً فارس الأحزاب يوم الخندق ، فلم يجرؤ أحد على مبارزته غير بني هاشم !
ثم انهزموا في حنين وهم عشرة آلاف . . فلم يثبت غير بني هاشم ! !
إنها حقائق وظواهر تفسر الحديث الذي روته مصادرنا قال فيه النبي صلى الله عليه وآله : ( بعثت إلى أهل بيتي خاصة ، وإلى الناس عامة ) .
كما تدل آية ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) وما ورد في تفسيرها ، على أن إنذار بني هاشم كان مبرمجاً من الله تعالى . . وأن تعيين وصي النبي صلى الله عليه وآله وخليفته من بينهم ، كان ضمن ذلك البرنامج . .
فقد قال السيوطي في الدر المنثور : 5 / 97 :
( وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي في الدلائل ، من طرقٍ ، عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنذر عشيرتك الأقربين ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً ، وعرفت أني مهما أبادؤهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمتُّ عليها حتى جاء جبريل فقال : يا محمد إنك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك ، فاصنع لي صاعاً من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واجعل لنا عساً من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب ، حتى أكلمهم وأبلغ ما أمرت به .
ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلما اجتمعوا
--------------------------- 19 ---------------------------
إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول النبي صلى الله عليه وسلم بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ، ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : كلوا بسم الله ، فأكل القوم حتى نهلوا عنه ، ما ترى إلا آثار أصابعهم !
والله إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم .
ثم قال : إسق القوم يا علي ، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً ! وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله ! فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام ، فقال : لقد سحركم صاحبكم ! فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم .
فلما كان الغد قال : يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ، ثم اجمعهم لي ، ففعلت ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا ، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على أمري هذا ؟
فقلت وأنا أحدثهم سناًّ : إنه أنا ، فقام القوم يضحكون ) . انتهى .
ثم رواها السيوطي بسند آخر عن ابن مردويه عن البراء بن عازب ، قال : ( لما نزلت هذه الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب ، وهم يومئذ أربعون رجلاً . . . ) إلخ . .
ولكن السيوطي بتر الحديث هنا ، ولم يذكر بقية كلام النبي صلى الله عليه وآله . . وهو أسلوب دأب رواة خلافة قريش على ارتكابه في حديث الدار ،
--------------------------- 20 ---------------------------
لأن بقية الحديث تقول إن الله أمر رسوله من ذلك اليوم أن يختار وزيره وخليفته من عشيرته الأقربين !
قال الأميني في الغدير : 1 / 207 :
( وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي . قال في تاريخه : 2 / 217 من الطبعة الأولى : ( إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟
قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه .
فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا . قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ) .
وقال الأميني : 2 / 279 : وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي ، المتوفى 240 ، في كتابه نقض العثمانية ، وقال : إنه روي في الخبر الصحيح .
ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء 46 - 48 . وابن الأثير في الكامل : 2 / 24 . وأبو الفداء عماد الدين الدمشقي في تاريخه : 1 / 116 . وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض : 3 / 37 ( وبتر آخره ) وقال : ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح . والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره - 390 . والحافظ السيوطي في جمع الجوامع ، كما في
--------------------------- 21 ---------------------------
ترتيبه : 6 / 392 . وفي / 397 ، عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي . وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : 3 / 254 ) . انتهى كلام صاحب الغدير .
ثم شكا رحمه الله من الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش ، ومنهم الطبري الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه ، ولكنه أبهم كلام النبي صلى الله عليه وآله في حق علي عليه السلام فقال : ثم قال : إن هذا أخي ، وكذا وكذا ! ! وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية 3 / 40 وفي تفسيره 3 / 351 !
وقال في هامش بحار الأنوار : 32 / 272 :
( وناهيك من ذلك مؤاخاته مع رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر من الله عز وجل في بدء الإسلام حين نزل قوله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين .
راجع : تاريخ الطبري : 2 / 321 ، كامل ابن الأثير : 2 / 24 ، تاريخ أبي الفداء : 1 / 11 ، والنهج الحديدي : 3 / 254 ، ومسند الإمام ابن حنبل : 1 / 159 ، وجمع الجوامع ترتيبه : 6 / 408 ، وكنز العمال : 6 / 401 .
وهذه المؤاخاة مع أنها كانت بأمر الله عز وجل ، إنما تحققت بصورة البيعة والمعاهدة ( الحلف ) ولم يكن للنبي صلى الله عليه وآله أن يأخذ أخاً ووزيراً وصاحباً وخليفة غيره ، ولا لعلي أن يقصر في مؤازرته ونصرته والنصح له ولدينه ، كمؤازرة هارون لموسى على ما حكاه الله عز وجل في القرآن الكريم .
ولذلك ترى رسول الله صلى الله عليه وآله حين يؤاخي بعد ذلك المجلس بين المهاجرين بمكة ، فيؤاخي بين كل رجل وشقيقه وشكله : يؤاخي بين عمر وأبي بكر ، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وبين الزبير وعبد الله
--------------------------- 22 ---------------------------
بن مسعود ، وبين عبيدة بن الحارث وبلال ، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ، وبين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة الكلبي . راجع : ( سيرة ابن هشام : 1 / 504 . المحبر : 71 / 70 . البلاذري : 1 / 270 ) ، يقول لعلي عليه السلام : والذي بعثني بالحق نبياً ما أخرتك إلا لنفسي ، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وأنت أخي ووارثي ، وأنت معي في قصري في الجنة .
ثم قال له : وإذا ذاكرك أحد فقل : أنا عبد الله وأخو رسوله ، ولا يدعيها بعدي إلا كاذب مفتر . ( الرياض النضرة : 2 / 168 . منتخب كنز العمال : 5 / 45 و 46 ) .
ولذلك نفسه تراه صلى الله عليه وآله حينما عرض نفسه على القبائل فلم يرفعوا إليه رؤوسهم ، ثم عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة قال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس بن عبد الله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال لرسول الله : أرأيت إن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
قال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء . قال : فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ، لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه ، ( راجع : سيرة ابن هشام : 1 / 424 ، الروض الأنف : 1 / 264 ، بهجة المحافل : 1 / 128 ، سيرة زيني دحلان : 1 / 302 ، السيرة الحلبية : 2 / 3 ) .
فلولا أنه صلى الله عليه وآله كان تعاهد مع علي عليه السلام بالخلافة والوصاية بأمر من الله عز وجل قبل ذلك ، لما ردهم بهذا الكلام المؤيس ، وهو بحاجة ماسة إلى نصرة أمثالهم ) . انتهى .
--------------------------- 23 ---------------------------
وفي دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي : 1 / 15 :
( وروينا أيضاً عن علي بن أبي طالب صلى الله عليه أنه قال : لما أنزل الله عز وجل : وأنذر عشيرتك الأقربين ، جمع رسول الله صلى الله عليه وآله بني عبد المطلب على فخذ شاة وقدح من لبن ، وإن فيهم يومئذ عشرة ليس منهم رجل إلا أن يأكل الجذعة ويشرب الفرق ، وهم بضع وأربعون رجلاً ، فأكلوا حتى صدروا وشربوا حتى ارتووا ، وفيهم يومئذ أبو لهب ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله : يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها ، إن الله لم يبعث نبياً إلا جعل له وصياً ووزيراً ووارثاً وأخاً وولياً ، فأيكم يكون وصيي ووارثي ووليي وأخي ووزيري ؟
فسكتوا ، فجعل يعرض ذلك عليهم رجلاً رجلاً ، ليس منهم أحد يقبله ، حتى لم يبق منهم أحد غيري ، وأنا يومئذ من أحدثهم سناً ، فعرض علي فقلت : أنا يا رسول الله . فقال : نعم ، أنت يا علي .
فلما انصرفوا قال لهم أبو لهب : لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم إلا بما رأيتم ، أتاكم بفخذ شاة وقدح من لبن فشبعتم ورويتم ! وجعلوا يهزؤون ويقولون لأبي طالب : قد قدم ابنك اليوم عليك ) . انتهى .
ولا بد أن تكون حادثة دعوة النبي صلى الله عليه وآله لبني هاشم قد شاعت في قريش ، ثم في العرب ، فقالوا إن النبي الجديد جمع عشيرته بأمر ربه كما يزعم ، ودعاهم إلى دينه ، وطلب منهم شخصاً يكون وزيره وخليفته من بعده ، فأجابه ابن عمه الشاب الغلام علي . . فاتخذه وزيراً وخليفة !
--------------------------- 24 ---------------------------
وهنا ينبغي أن ننبه هنا على أمرٍ مهم . . هو أن مدوني السيرة النبوية الشريفة طمسوا مرحلة دعوة بني هاشم وحذفوها من السيرة ، وكأنه لا يوجد في القرآن آية : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) !
واخترعوا بدلها مرحلة بيت الأرقم ، وما قبل بيت الأرقم . . وما بعد بيت الأرقم . . ! وأكثروا فيه من الروايات غير المعقولة !
- *
فهذه الأدلة الثلاث التي روت نصوصها المصادر الصحيحة ، لا تدع مجالاً للشك في أن ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت مطروحةً ومنظورةً للناس ، من أول بعثته إلى آخر حياته صلى الله عليه وآله . وأن جميع الناس كانوا يعرفون أن مشروع النبوة ودعوة الناس إليها ، هو مشروع تكوين دولة يرأسها النبي صلى الله عليه وآله ، وتحتاج إلى خليفة له بعده .
ولذلك كانت القبائل ترى في نبوته بحسابها المادي ، مشروعاً مغرياً ، وتحاول أن تأخذ منه وعداً بأن يكون لها الأمر من بعده ، ومنها قبائل يمانية وعدنانية ، وزعيم قبائل نجد المتنقلة .
بل يمكننا بملاحظة هذا الواقع أن نفترض أن يكون في المسلمين الأوائل منافقون جذبهم هذا المشروع المغري وهذه الحركة النبوية التي يؤمل لها النجاح وأن يكون الواحد منهم طمع أن يجد له موقعاً فيها ينقله من ذل الهامش القبلي إلى مركز قيادي مع هذا التنبئ من بني هاشم .
وبهذا فقط نستطيع أن نفسر ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، في الآية 31 من سورة المدثر ، التي نزلت في مكة ! !
--------------------------- 25 ---------------------------
أمام هذه الحقائق الصارخة . . كيف يصدق عاقل دعوى حكومات زعماء قريش ، من أنهم لم يطرحوا مسألة الخلافة مع النبي صلى الله عليه وآله أبداً أبداً ! حتى بصيغة سؤال عن الحكم الشرعي وواجب المسلمين من بعده ! !
فهل يقبل عاقل أن المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وآله عن مستقبل الأمة ، ورووا عنه الأحاديث في كل ما يكون بعده ، إلا في أمر الخلافة ، وإلا في تعيين الإمام الشرعي من بعده ؟ ! ! - *
--------------------------- 26 ---------------------------
.
--------------------------- 27 ---------------------------
الفصل الأول : ماذا في خطب النبي ( ص ) في حجة الوداع
--------------------------- 28 ---------------------------
.
--------------------------- 29 ---------------------------
نماذج من نصوص خطب الوداع
ماذا قال صلى الله عليه وآله في خطب الوداع الست ؟ في مكة يوم التروية ، وفي خطبة عرفات ، وفي خطبة منى يوم العيد ، وفي خطبة اليوم الثاني ، وفي خطبة مسجد الخيف يوم النفر . . وفي خطبة غدير خم ؟
مع أن المصادر نقلت القليل من الخطب النبوية الخمس في مكة وعرفات ومنى ، وخلطت بين مضامينها . . لكنا نجد في رواياتها المتعددة أنه صلى الله عليه وآله طرح كل الأمور المهمة التي تحتاج إليها الأمة من بعده . . وهذه أولاً نماذج من الخطب الشريفة من مصادر الفريقين :
قال ابن شعبة الحراني المتوفى حدود سنة 350 ، في تحف العقول ص 30 : خطبته صلى الله عليه وآله في حجة الوداع :
( الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
--------------------------- 30 ---------------------------
أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثكم على العمل بطاعته ، وأستفتح الله بالذي هو خير .
أما بعد : أيها الناس ! إسمعوا مني ما أبين لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا .
أيها الناس : إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها .
وإن ربا الجاهلية موضوع ، وإن أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب .
وإن دماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب .
وإن مآثر الجاهلية موضوعة ، غير السدانة والسقاية .
والعمد قَوَدٌ ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ، وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية .
أيها الناس : إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضي بأن يطاع فيما سوى ذلك ، فيما تحتقرون من أعمالكم .
أيها الناس : إنما النسئ زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ، ليواطؤوا عدة ما حرم الله . وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ، منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ، وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بين جمادى وشعبان . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
--------------------------- 31 ---------------------------
أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقاً ، ولكم عليهن حقاً ، حقكم عليهن أن لا يوطئن أحداً فرشكم ، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم ، إلا بإذنكم ، وألا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف . أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكتاب الله ، فاتقوا الله في النساء ، واستوصوا بهن خيراً .
أيها الناس : إنما المؤمنون إخوة ، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد . فلا ترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
أيها الناس : إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى .
ألا هل بلغت ؟
قالوا : نعم .
قال : فليبلغ الشاهد الغائب .
أيها الناس : إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث ، والولد للفراش وللعاهر الحجر .
من ادعى إلى غير أبيه ، ومن تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ، والسلام عليكم ورحمة الله ) .
--------------------------- 32 ---------------------------
وفي الكافي : 1 / 403 :
( عن الحكم بن مسكين ، عن رجل من قريش من أهل مكة قال : قال سفيان الثوري : إذهب بنا إلى جعفر بن محمد ، قال فذهبت معه إليه ، فوجدناه قد ركب دابته ، فقال له سفيان : يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف .
قال : دعني حتى أذهب في حاجتي فإني قد ركبت ، فإذا جئت حدثتك .
فقال : أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله لما حدثتني .
قال : فنزل ، فقال له سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته ، فدعا به ثم قال : أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف :
نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه .
يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .
ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم .
المؤمنون إخوةٌ تتكافى دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم .
فكتبه سفيان ثم عرضه عليه ، وركب أبو عبد الله عليه السلام وجئت أنا وسفيان ، فلما كنا في بعض الطريق قال لي : كما أنت ، حتى أنظر في هذا الحديث . قلت له : قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك
--------------------------- 33 ---------------------------
أبداً ! فقال : وأي شيء ذلك ؟ فقلت له : ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، قد عرفناه . والنصيحة لأئمة المسلمين ، من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان ، ويزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وكل من لا تجوز الصلاة خلفهم ؟ وقوله : واللزوم لجماعتهم ، فأي الجماعة ؟ مرجيء يقول : من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل ؟ ! أو قدري يقول : لا يكون ما شاء الله عز وجل ، ويكون ما شاء إبليس ؟ ! أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب ، ويشهد عليه بالكفر ؟ ! أو جهمي يقول : إنما هي معرفة الله وحده ، ليس الإيمان شيء غيرها ؟ !
قال : ويحك ، وأي شيء يقولون ؟ !
فقلت : يقولون : إن علي بن أبي طالب والله ، الإمام الذي وجب علينا نصيحته . ولزوم جماعتهم : أهل بيته .
قال : فأخذ الكتاب فخرقه ، ثم قال : لا تخبر بها أحداً ! ) . انتهى .
وفي تفسير علي بن إبراهيم : 1 / 171 :
( وحج رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة ، فكان من قوله بمنى أن حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
أيها الناس : إسمعوا قولي واعقلوه عني ، فإني لا أدري لا ألقاكم بعد عامي هذا . ثم قال : هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة ؟
قال الناس : هذا اليوم .
قال : فأي شهر ؟
--------------------------- 34 ---------------------------
قال الناس : هذا .
قال : وأي بلد أعظم حرمة ؟
قالوا : بلدنا هذا .
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، إلى يوم تلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم . ألا هل بلغت أيها الناس ؟ قالوا : نعم .
قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية ، أو دم أو مال ، فهو تحت قدمي هاتين ، ليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى .
ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم .
قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وكل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبد المطلب . ألا وكل دم كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوع دم ربيعة .
ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم .
قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد !
ألا أيها الناس : إن المسلم أخو المسلم حقاً ، لا يحل لا مرىء مسلم دم امرئ مسلم وماله إلا ما أعطاه بطيبة نفس منه . وإني أمرت أن أقاتل الناس
--------------------------- 35 ---------------------------
حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها ، وحسابهم على الله .
ألا هل بلغت أيها الناس ؟ قالوا : نعم .
قال : اللهم اشهد .
ثم قال : أيها الناس : إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدي ، وافهموه تنعشوا . ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن فعلتم ذلك - ولتفعلن - لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف ثم التفت عن يمينه فسكت ساعة ، ثم قال : إن شاء الله ، أو علي بن أبي طالب .
ثم قال : ألا وإني قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض . ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا ، ومن خالفهما فقد هلك .
ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم .
قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وإنه سيرد علي الحوض منكم رجال فيدفعون عني ، فأقول : رب أصحابي ؟ فيقول : يا محمد إنهم أحدثوا بعدك وغيروا سنتك ، أقول : سحقاً سحقاً .
فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله : إذا جاء نصر الله والفتح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : نعيت إلى نفسي ، ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخيف ، فاجتمع الناس فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال :
--------------------------- 36 ---------------------------
نضر الله امرء سمع مقالتي فوعاها ، وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .
ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، ولزم جماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم . المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم .
أيها الناس : إني تارك فيكم الثقلين . قالوا : يا رسول الله وما الثقلان ؟
قال : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، كإصبعي هاتين - وجمع بين سبابتيه - ولا أقول كهاتين وجمع سبابته والوسطى ، فتفضل هذه على هذه .
فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته ، فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة ، وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً : إن مات محمد أو قتل أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً ! فأنزل الله على نبيه في ذلك : أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون . أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ، بلى ورسلنا لديهم يكتبون . . . انتهى .
وفي صحيح البخاري : 5 / 126 :
عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .
أي شهر هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم .
--------------------------- 37 ---------------------------
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس ذا الحجة ؟
قلنا : بلى .
قال : فأي بلد هذا ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس البلدة ؟ قلنا : بلى .
قال : فأي يوم هذا ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى .
قال : فإن دماءكم وأموالكم - قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم .
ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض .
ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه . انتهى .
ويلاحظ أن في هذا النص كلمة ( ضلالاً ) بدل ( كفاراً ) في غيره .
وفي صحيح البخاري : 1 / 24 :
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه ، ثم قال : أي يوم هذا ؟
فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه . قال : أليس يوم النحر ؟
قلنا : بلى .
--------------------------- 38 ---------------------------
قال : فأي شهر هذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه .
فقال : أليس بذي الحجة ؟ قلنا : بلى .
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا . ليبلغ الشاهد الغائب ، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه .
وفي صحيح مسلم : 4 / 41 :
فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس ، أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ، وقال :
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا . ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل . وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله .
فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله .
وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟
قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت .
--------------------------- 39 ---------------------------
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، ثلاث مرات .
ورواه ابن ماجة : 2 / 1024 ، وفيه :
ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً . ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف . .
وفي مستدرك الحاكم : 1 / 77 :
وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا أيها الناس إني فرط لكم على الحوض ، وإن سعته ما بين الكوفة إلى الحجر الأسود ، وآنيته كعدد النجوم ، وإني رأيت أناساً من أمتي لما دنوا مني ، خرج عليهم رجل فمال بهم عني ، ثم أقبلت زمرة أخرى ففعل بهم كذلك ، فلم يفلت إلا كمثل همل النعم ! فقال أبو بكر : لعلي منهم يا نبي الله ؟ ! قال : لا ، ولكنهم قوم يخرجون بعدكم ويمشون القهقري ! هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وقد حدث به الحجاج بن محمد أيضاً عن الليث ولم يخرجاه . انتهى .
ويلاحظ أن الحديث يريد أن ينفي التهمة عن أبي بكر أنه من المعنيين بكلام النبي عن منافقي أصحابه المطرودين عن الحوض ! ! فمن الذي اتهمه يومذاك ؟ ! !
وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1016 :
حدثنا إسماعيل بن توبة ، ثنا زافر بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته المخضرمة بعرفات ، فقال :
أتدرون أي يوم هذا ، وأي شهر هذا ، وأي بلد هذا ؟
--------------------------- 40 ---------------------------
قالوا : هذا بلد حرام وشهر حرم ويوم حرام .
قال : ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام ، كحرمة شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، في يومكم هذا .
ألا وإني فرطكم على الحوض ، وأكاثر بكم الأمم ، فلا تسودوا وجهي .
ألا وإني مستنقذ أناساً ، ومستنقذ مني أناس ، فأقول : يا رب أصيحابي ؟ فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ! في الزوائد : إسناده صحيح .
وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1300 :
باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض : عن جرير بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع استنصت الناس فقال : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ويحكم أو ويلكم ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .
عن الصنابح الأحمسي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إني فرطكم على الحوض ، وإني مكاثر بكم الأمم ، فلا تقتتلن بعدي ! في الزوائد إسناده صحيح ، ورجاله ثقات .
وفي سنن الترمذي : 2 / 62 :
سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال : اتقوا الله ربكم ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم . قال : قلت لأبي أمامة : منذ كم سمعت هذا الحديث ؟ قال : سمعت وأنا ابن ثلاثين سنة . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
--------------------------- 41 ---------------------------
وفي مسند أحمد : 5 / 412 :
عن مرة قال : حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة ، فقال : أتدرون أي يومكم هذا ؟ قال : قلنا : يوم النحر .
قال : صدقتم يوم الحج الأكبر .
أتدرون أي شهركم هذا ؟ قلنا : ذو الحجة .
قال : صدقتم شهر الله الأصم .
أتدرون أي بلد بلدكم هذا ؟ قال : قلنا : المشعر الحرام .
فقال : صدقتم ، قال فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، أو قال كحرمة يومكم هذا وشهركم هذا وبلدكم هذا ، ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم ، فلا تسودوا وجهي ! ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني وستسألون عني ، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار . ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً ، ومستنقذٌ مني آخرون ، فأقول : يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ! !
وفي مجمع الزوائد : 3 / 265 :
باب : الخطب في الحج : عن أبي حرة الرقاشي عن عمه قال : كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق أذود عنه الناس ، فقال : يا أيها الناس هل تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم ؟
--------------------------- 42 ---------------------------
قالوا : في يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام .
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، إلى يوم تلقونه .
ثم قال : إسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه .
ألا وإن كل دم وماء ومال كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة ، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل .
ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع ، وإن الله عز وجل قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب . لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون . ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، ثم قرأ : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ، منها أربعة حرم ذلك الدين القيم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم . ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض .
ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ، ولكنه في التحريش بينكم .
واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإن لهن عليكم حقاً ، ولكم عليهن حقاً أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم ، ولا يأذنن في بيوتكم لأحد تكرهونه ، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح - قال حميد قلت للحسن : ما المبرح ؟ قال : المؤثر - ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإنما أخذتموهن بأمانة بالله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله عز وجل .
--------------------------- 43 ---------------------------
ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها .
وبسط يده ، وقال : ألا هل بلغت ، ألا هل بلغت ؟
ثم قال ليبلغ الشاهد الغائب ، فإنه رب مبلغ أسعد من سامع .
قال حميد قال الحسن حين بلغ هذه الكلمة : قد والله بلغوا أقواماً كانوا أسعد به . قلت : روى أبو داود منه ضرب النساء فقط . رواه أحمد وأبو حرة الرقاشي ووثقه أبو داود وضعفه ابن معين . وفيه علي بن زيد وفيه كلام .
وعن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال : يا أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ، ولا أسود على أحمر ولا أحمر على أسود ، إلا بالتقوى .
أبلغت ؟ قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام .
ثم قال : أي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام .
قال : فإن الله عز وجل قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم - قال : ولا أدري قال : وأعراضكم ، أم لا - كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا .
أبلغت ؟ قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ليبلغ الشاهد الغائب .
رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ( أحمد : 5 / 72 ) .
وعن ابن عمر قال : نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى في أوسط أيام التشريق فعرف أنه الموت ، فأمر براحلته ا
--------------------------- 44 ---------------------------
لقصواء فرحلت له فركب فوقف للناس بالعقبة ، واجتمع له ما شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال :
أما بعد أيها الناس ، فإن كل دم كان في الجاهلية فهو هدر ، وإن أول دمائكم أهدر دم ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل . وكل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وإن أول رباكم أضع ربا العباس بن عبد المطلب .
أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ، ليواطئوا عدة ما حرم الله . كانوا يحلون صفر عاماً ويحرمون المحرم عاماً فذلك النسيء .
يا أيها الناس : من كانت عنده وديعة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها .
أيها الناس : إن الشيطان أيس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان ، وقد رضي منكم بمحقرات الأعمال ، فاحذروا على دينكم محقرات الأعمال .
أيها الناس : إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، لكم عليهن حق ولهن عليكم حق ، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ، ولا يعصينكم في معروف ، فإن فعلن ذلك فليس لكم عليهن سبيل ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، فإن ضربتم فاضربوا ضرباً غير مبرح .
--------------------------- 45 ---------------------------
لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه .
أيها الناس : إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله فاعملوا به . أيها الناس : أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام .
قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام .
قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام .
قال : فإن الله تبارك وتعالى حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة هذا اليوم وهذا الشهر وهذا البلد . ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم ، لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم . ثم رفع يديه فقال : اللهم اشهد . قلت : في الصحيح وغيره طرف منه ، رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف .
وفي مجمع الزوائد : 3 / 272 :
وعن فهد بن البحيري بن شعيب بن عمرو بن الأزرق ، قال : خرجت إلى مكة فلما صرت بالصحرية ، قال لي بعض إخواني : هل لك في رجل له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : نعم ، قال صاحب القبة المضروبة في موضع كذا وكذا ، فقلت لأصحابي : قوموا بنا إليه ، فقمنا فانتهينا إلى صاحب القبة ، فسلمنا فرد السلام .
فقال : مَنِ القوم ؟ قلنا : قوم من أهل البصرة بلغنا أن لك صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : نعم ، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدت تحت منبره يوم حجة الوداع ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال :
--------------------------- 46 ---------------------------
إن الله يقول : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، فليس لعربي على عجمي فضل ، ولا لعجمي على عربي فضل ، ولا لأسود على أحمر فضل ، ولا لأحمر على أسود فضل ، إلا بالتقوى .
يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجيء الناس بالآخرة ، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً .
قلنا : ما اسمك ؟ قال : أنا العداء بن خالد بن عمرو بن عامر ، فارس الضحياء في الجاهلية . رواه الطبراني في الكبير بأسانيد . هذا ضعيف ، وتقدم له إسناد صحيح في الخطبة يوم عرفة .
وعن أبي قبيلة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس في حجة الوداع فقال : لا نبي بعدي ، ولا أمة بعدكم ، فاعبدوا ربكم ، وأقيموا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ولاة أمركم ، ثم ادخلوا جنة ربكم .
رواه الطبراني في الكبير ، وفيه بقية وهو ثقة ولكنه مدلس ، وبقية رجاله ثقات .
وفي سنن الدارمي : 2 / 47 :
فلما كان يوم التروية وجه إلى منى فأهللنا بالحج ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ، ثم مكث قليلاً حتى إذا طلعت الشمس ، أمر بقبة من الشعر تضرب له بنمرة ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار ، لا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية في المزدلفة ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزلها ،
--------------------------- 47 ---------------------------
حتى إذا زاغت يعني الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ، وقال :
إن دماء كم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وأول دم أضع دماؤنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله . فاتقوا الله في النساء ، فإنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يؤطين فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وأنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون ؟
قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت .
فقال بإصبعه السبابة فرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد .
ثم أذن بلال بنداء واحد وإقامة فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، لم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب حتى وقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخيرات . . .
وفي سنن الدارمي : 2 / 67 :
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : لما كان ذلك اليوم قعد النبي صلى الله عليه وسلم على بعير ، لا أدري جمل أو ناقة ، وأخذ إنسان بخطامه ، أو قال بزمامه .
--------------------------- 48 ---------------------------
فقال : أي يوم هذا ؟ قال فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه .
فقال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى .
قال فأي شهر هذا . . . إلخ .
الأسس الإسلامية في خطب الوداع الخمس
تضمنت الخطب الوداعية درراً نبوية تنتظم في الأسس الخمس التالية :
1 - أساس المساواة الإنسانية .
- مبدأ الوحدة الإنسانية بين البشر ، وإلغاء التمايز القومي .
- مبدأ حسن معاملة النساء ، وعدم ظلمهن .
2 - أساس وحدة الأمة الإسلامية . - مبدأ إلغاء آثار الجاهلية ومآثرها وتشريعاتها المخالفة للإسلام .
- مبدأ الأخوة والتكافؤ بين المسلمين .
- مبدأ احترام الملكية الشخصية ، وتحريم أموال المسلمين على بعضهم .
- مبدأ احترام حياة المسلم ، وتحريم دماء المسلمين على بعضهم .
- مبدأ احترام عرض المسلم وكرامته ، وتحريم أعراضهم على بعضهم .
- مبدأ من قال لا إله إلا الله ، فقد عصم ماله ودمه .
- مبدأ ختام النبوة به صلى الله عليه وآله ، وختام الأمم بأمته .
- مبدأ شهادة النبي على الأمة في الآخرة ، وموافاتها له على الحوض .
- مبدأ ضرورة الدقة والحذر من محقرات الأعمال التي تجر إلى الانحراف .
- مبدأ التحذير من الكذب على النبي صلى الله عليه وآله ، ووجوب التحقق فيما ينقل عنه .
--------------------------- 49 ---------------------------
3 - أساس وحدة الشريعة ووحدة ثقافة المسلمين . - مبدأ أداء الأمانة .
- قوانين الإرث .
- قوانين الديات والقصاص .
- تشريعات مناسك الحج ( خذوا عني مناسككم ) .
4 - مبادئ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي صلى الله عليه وآله . - مبدأ البشارة بالأئمة الاثني عشر من عترته .
- مبدأ التأكيد على الثقلين القرآن والعترة .
- مبدأ إعلان أن علياً ولي الأمة بعده والإمام الأول من الاثني عشر .
- مبدأ أداء الفرائض ، وإطاعة ولاة الأمر .
- مبدأ تخليد تعاهد قريش وكنانة على حصار بني هاشم .
- مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه وآله .
- مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد بعده والصراع على السلطة .
5 - أساس عقوبة المخالفين للخط النبوي . - مبدأ لعن من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه . . .
ولا يتسع المجال لبحث هذه الأسس والمبادئ الإلهية بالتفصيل ، لذا نكتفي بذكر نماذج من الخطب الشريفة أولاً ، ثم نذكر فقرات تتعلق بالمبادئ المذكورة ، مع التوضيحات الضرورية .
ولا يخفى عليك أن للنبي صلى الله عليه وآله في كل واحدة من هذه المبادئ بياناتٍ متعددةً في غير حجة الوداع ، وأنها تشكل مع ما في خطب الوداع
--------------------------- 50 ---------------------------
الستة كلاماً موحداً ، لا يمكن فصل بعضه عن بعض . . فكلامه صلى الله عليه وآله إن هو إلا وحي يوحى يكمل بعضه بعضاً ، ويفسر بعضه بعضاً ، ويشكل في كل موضوع وحدة عقيدية وتشريعية متكاملة البناء ، في صرح الإسلام الرباني الشامل .
الأساس الأول : المساواة الإنسانية
وقد تضمن المبدأين التاليين :
- مبدأ الوحدة الإنسانية بين البشر ، وإلغاء التمايز القومي .
- مبدأ حسن معاملة النساء ، وعدم ظلمهن .
الأساس الثاني : وحدة الأمة الإسلامية
وقد تضمن المبادئ التالية :
1 - مبدأ إلغاء آثار الجاهلية ومآثرها وتشريعاتها المخالفة للإسلام .
2 - مبدأ الأخوة والتكافؤ بين المسلمين .
3 - مبدأ احترام الملكية الشخصية ، وتحريم أموال المسلمين على بعضهم .
4 - مبدأ احترام حياة المسلم ، وتحريم دماء المسلمين على بعضهم .
5 - مبدأ احترام عرض المسلم وكرامته ، وتحريم أعراضهم على بعضهم .
6 - مبدأ من قال لا إله إلا الله ، فقد عصم ماله ودمه .
7 - مبدأ ختام النبوة به صلى الله عليه وآله ، وختام الأمم بأمته .
8 - مبدأ شهادة النبي على الأمة في الآخرة ، وموافاتها له على الحوض .
9 - مبدأ ضرورة الدقة والحذر من محقرات الأعمال التي تجر إلى الانحراف .
--------------------------- 51 ---------------------------
10 - مبدأ التحذير من الكذب على النبي صلى الله عليه وآله ، والتحقق فيما ينقل عنه .
وقد روى المسلمون فقرات الخطب التي تتعلق بالمبادئ الخمس الأولى من هذا الأساس بكثرة ، وحفظوها وكرروها ، حتى ليتصور الإنسان لأول وهلة أنها الموضوع الوحيد في خطب حجة الوداع !
والسبب في ذلك : أن المجتمع العالمي كان في عصره صلى الله عليه وآله مجتمع تمييزٍ حادٍ على أساس قومي وقبلي وطبقي . . وكان يحكمه ( قانون الغلبة والقوة ) فالغالب على حق دائماً ، سواء كان حاكماً ، أو قبيلة ، أو فارساً ، أو صعلوكاً ! ! فما دام استطاع أن يقهر الآخرين ، أو يغزوهم ويقتلهم ويسرق أموالهم ، أو يغصبها منهم عنوة ، أو يحتال عليهم بحيلة . . فهو على حق !
فجاءت تشريعات الإسلام لتلغي ذلك كله ، وتعلن تساوي الناس أمام الشرع ، وتحرم كل أنواع الاعتداء على الحقوق الشخصية ، وتركز احترام الإنسان وملكيته وكرامته .
فالأمر الذي جعلهم يحفظون هذه المبادئ من خطب النبي صلى الله عليه وآله أكثر من غيرها ، هو إعجاب المسلمين المؤمنين بها ، وكونها تمثل حلاً لمشكلة الغزو والقتل التي كانوا يعانون منها .
وقد كان لهذه التوجيهات بصيغها الإلهية والنبوية البليغة ، تأثير كبير على مجرى احترام الإنسان وماله وعرضه ورأيه في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعد وفاته ، إذ لولاها لساء وضع مجتمع المسلمين أضعاف ما وصل إليه من سوء ! ولعادت النظرة إلى الإنسان والتصرف معه إلى الحالة الجاهلية مئة بالمئة !
--------------------------- 52 ---------------------------
ولا يحتاج المرء إلى جهد ليلاحظ هبوط هذه القيم والقوانين هبوطاً حاداً بعد النبي صلى الله عليه وآله . . وأن أكثر الناس احتراماً للإنسان وحرياته المشروعة ، هم عترة النبي وأهل بيته الطاهرون ، ثم الأقرب منهم فالأقرب ! فعلي عليه السلام هو الحاكم الوحيد بعد النبي صلى الله عليه وآله الذي لم يجبر أحداً على بيعته ، ولم يستعمل قانون الطوارئ أو الأحكام العرفية ، ولا أي قانون استثنائي ، حتى مع خصومه والممتنعين عن بيعته ، بل حتى في حروبه . . مع أنه ابتلي بثلاثة حروب استوعبت مدة خلافته كلها !
بينما استعمل أبو بكر وعمر قانون الجاهلية في القوة والقهر في السقيفة ضد الأنصار ، وهموا بقتل سعد بن عبادة ! ثم هاجموا الممتنعين عن بيعتهم وهم مجتمعون في بيت علي وفاطمة عليهما السلام ، مع أنهم في عزاء بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وجنازته كانت مسجاة لم تدفن بعد ! وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا ! ولما تأخروا عن الخروج أشعلوا النار في الحطب ، وأحرقوا الباب . . . الخ ! !
- *
وأما المبدأ السادس من هذا الأساس :
( من قال : لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه ) ، فقد جاء في رواية تفسير علي بن إبراهيم القمي بصيغة ( وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) . وهو مبدأ له ثلاثة أبعاد :
الأول : أن من أعلن الشهادتين من أي دين أو قبيلة كان فهو مسلم ، يحرم ماله ودمه وعرضه ، إلا إذا انطبقت عليه مواد الفئة الباغية ، أو المفسد في الأرض ، أو قتل أحداً عمداً ، أو ارتد عن الإسلام ، أو زنى وهو محصن . . .
--------------------------- 53 ---------------------------
الثاني : أن أهل الكتاب مستثنوْن من هذه القاعدة ، والموقف منهم في الحرب والسلم نصت عليه أحكام التعايش الشرعية الخاصة بهم .
الثالث : أن النبي صلى الله عليه وآله أشهد أمته أنه تقيد في الجهاد بأمر ربه عز وجل ، ولم يتعده . . فمهمته في الجهاد إنما كانت على تنزيل القرآن ، وتحقيق إعلان الشهادتين فقط ، أي لتكوين الشكل الكلي للأمة ، ولم يؤمر بقتال المنحرفين ، أو الذين يريدون أن ينحرفوا من المسلمين ، لأن ذلك قتال على التأويل ، يكون من بعده ، لا في عهده . - *
وأما المبدأ السابع ( ختم النبوة به صلى الله عليه وآله وختم الأمم بأمته ) .
فقد ورد في رواية مجمع الزوائد المتقدمة وغيرها : ( فقال : لا نبي بعدي ، ولا أمة بعدكم ، فاعبدوا ربكم ، وأقيموا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ولاة أمركم ، ثم ادخلوا جنة ربكم ) .
وهو مبدأ هيمنة شريعته صلى الله عليه وآله على شرائع الأنبياء السابقين عليهم السلام . . وردُّ مدعي النبوة الكذابين ، الذين ظهر بعضهم في زمنه صلى الله عليه وآله ، وظهر عددٌ منهم بعد وفاته .
كما أنه يعطي الأمة الإسلامية شرف ختام أمم الأنبياء عليهم السلام ، ويلقي عليها مسؤولية هذه الخاتمية في هداية الأمم الأخرى .
وقد حدد النبي صلى الله عليه وآله لهم الخطوط العامة بعبادة الله تعالى والصلاة والصوم وإطاعة ولي الأمر . . ولكن لا يبعد أن الراوي نقل ما حفظه من كلامه صلى الله عليه وآله ونسي بعضه كالزكاة والحج .
--------------------------- 54 ---------------------------
ومن الملاحظ في هذه المبدأ وجود فريضة إطاعة ولي الأمر على لسان النبي صلى الله عليه وآله ! وإذا أوجب الله تعالى إطاعة أحد بدون شروط ، فمعناه أنه معصومٌ لا يظلم ولا يأمر ولا ينهى إلا بالحق . . وبما أن النص النبوي لم يذكر شروطاً لإطاعة أولي الأمر ، فيكون مقصوده الاثني عشر إماماً المعينين من الله تعالى ، الذين بشر الأمة بهم . - *
وأما المبدأ الثامن ( شهادة النبي صلى الله عليه وآله على الأمة في الآخرة ، وموافاتها له على الحوض ) . فقد ورد في مصادر متعددة كما مر ، وفي بعضها ( ألا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم ، فلا تسودوا وجهي ) ، وفي بعضها ( وإني مكاثر بكم الأمم ، فلا تقتتلن بعدي ) .
وهو أسلوب نبوي فريد في التأكيد على الأمة في وداعها ، بأنها ستوافي نبيها بين يدي ربها ، ويكون كل فردٍ منها بحاجة ماسةٍ إلى أن يسقى من حوض الكوثر ، شربةً لا يظمأ الإنسان بعدها أبداً ، ويصلح بها بدنه لدخول الجنة . وهذا التوجيه منه صلى الله عليه وآله يشبه قول أب لأولاده :
اعملوا بوصيتي فإني مسافر عنكم ، وسوف تأتون إلي ، وتكونون في حالة فقر شديدة ، وعندي أموالٌ كثيرة ، وسأعرف من عمل بوصيتي منكم ، ومن خالفني ! - *
وأما المبدأ التاسع ( التحذير من محقرات الأعمال التي توجب الانحراف ) ، ففيه إلفات إلى قاعدة مهمة في السلوك الفردي والاجتماعي ، وهي أن الانحراف يبدأ بأمر صغير ، أو أمور تبدو بسيطة ، يحتقرها الإنسان ولا يراها
--------------------------- 55 ---------------------------
مهمة في ميزان التقوى . . وإذا بها تستتبع أموراً أخرى ، وتجره إلى هاوية الهلاك الأخروي ، أو الدنيوي ! وهو أمر مشاهد سواء في حالات الهلاك الفردي أو الاجتماعي . . فقد يتسامح المسلم في النظر إلى امرأة أجنبية تعجبه ، ويتسامح في الحديث معها ، ثم في التصرف . . حتى ينجر أمره إلى الفاحشة !
وقد يتسامح في اتخاذ صديق سوء ، ولا ينصت إلى صوت ضميره الديني ، ولا يسمع نصح ناصحيه . . حتى يغرق معه في بحر ظلمه للناس ، أو بحر انحرافه ورذيلته !
وقد تتسامح الأمة في اعتداء الأجانب عليها ، أو في نفوذهم السياسي ، أو الاقتصادي أو الثقافي في بلادها . . فينجر الأمر إلى تسلطهم على مقدراتها ، وسيطرتهم عليها . .
أو يتسامح المجتمع في مظهر من مظاهر الفساد والمنكر أول ما يحدث في محلة أو منطقة منه ، أو في فئة من فئاته . .
أو يتسامح المجتمع في شروط حاكمه ، ووزرائه وقضاته ، أو في ظلمهم وسوء سيرتهم . . فينجر ذلك إلى شمول الفساد في المجتمع ، وتسارع هلاكه !
فالمحقرات من الذنوب هي المواقف أو التصرفات الصغيرة ، التي تكون في منطق الأحداث والتاريخ بذوراً غير منظورة ، لشجرة شر كبيرة ، على المستوى الفردي أو الاجتماعي ! ! وبهذا ورد تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وآله في مصادر الطرفين . . ففي الكافي 2 / 288 :
( عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : إئتوا بحطبٍ ، فقالوا : يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب ! قال : فليأت كل إنسان بما قدر عليه ،
--------------------------- 56 ---------------------------
فجاؤوا به حتى رموا بين يديه ، بعضه على بعض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : هكذا تجتمع الذنوب ، ثم قال : إياكم والمحقرات من الذنوب ، فإن لكل شيء طالباً ، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم ، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) . انتهى .
وفي سنن البيهقي : 10 / 188 :
( عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم ومحقرات الأعمال ، إنهن ليجمعن على الرجل حتى يهلكنه ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً ، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل يجيء بالعويد ، والرجل يجيء بالعويد ، حتى جمعوا من ذلك سواداً ، ثم أججوا ناراً ، فأنضجت ما قذف فيها ) . انتهى .
وهذان الحديثان الشريفان ناظران إلى التراكم الكمي للذنوب والأخطاء المحقرة ، وكيف تتحول إلى خطر نوعي في حياة الفرد والمجتمع .
وقد يكون الحديثان التاليان ناظرين إلى التراكم الكيفي في نفس الإنسان والمجتمع ، وشخصيتهما . . ففي الكافي : 2 / 287 :
( عن الإمام الصادق عليه السلام قال : اتقوا المحقرات من الذنوب ، فإنها لا تغفر ! قلت : وما المحقرات ؟ : قال : الرجل يذنب الذنب ، فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك ! ) .
وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1417 :
( عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال ، فإن لها من الله طالباً ) . في الزوائد : إسناده صحيح ، رجاله ثقات . انتهى . ورواه الدارمي : 2 / 303 ، وأحمد : 6 / 70 و 151 .
--------------------------- 57 ---------------------------
ومن القواعد الهامة التي نفهمها من هذا التوجيه النبوي : أن الشيطان عندما ييأس من السيطرة على أمة في قضاياها الكبيرة ، يتجه إلى التخريب والإضلال عن طريق المحقرات ! ( ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً ، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم ، فيرضى بها ) . سنن ابن ماجة : 2 / 1015
فقد كان الإسلام الذي أنزله الله تعالى ، وبناه رسوله صلى الله عليه وآله صرحاً كبيراً وقلعةً محكمة ، يئس الشيطان من قدرته على هدمها ، فعمد إلى إقناع شخص من أهله بسحب حجر واحدٍ صغير من ركن الجدار ، ثم حجر آخر . . وآخر . . حتى يفرغ تحت الأساس فينهار الصرح على من فيه !
شبيهاً بالجرذ الذي سحب الحجر الأول من جدار سد مارب !
ومن الأمور الملفتة التي وردت في التوجيه النبوي في رواية علي بن إبراهيم أن إطاعة الشيطان في محقرات الذنوب عبادة له ، فالذين يبدؤون بالانحراف في مجتمع ، إنما يعبدون الشيطان ولا يعبدون الله تعالى ، وهم بدعوتهم إلى انحرافهم يدعون الأمة العابدة لله تعالى إلى عبادة الشيطان . . ( ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد ! ) .
كما أن شهادة النبي صلى الله عليه وآله بأن الشيطان راض بما تحتقرون من أعمالكم ، شهادةٌ خطيرة يخبر بها عن ارتياح الشيطان من نجاحه في مشروعه في إضلال الأمة ، وهدم صرحها عن طريق المحقرات . . وهو ينفع في تفسير قوله تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ) . سبأ - 20 .
أما أهل البيت عليهم السلام فقد اعتبروا أن طمع الأمة بالسلطة بعد النبي صلى الله عليه وآله وصراعها عليها ، كان أعظم المحقرات التي ارتكبتها بعد
--------------------------- 58 ---------------------------
نبيها . . ففي بحار الأنوار : 28 / 217 : عن الإمام الباقر عليه السلام قال في تفسير قوله تعالى : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) قال : ذلك والله يوم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ! ) . انتهى . - *
وأما المبدأ العاشر ( تحذير النبي صلى الله عليه وآله من الكذب عليه ) ، فقد ورد في روايتي أحمد المتقدمتين وغيرهما ، ووردت فيه أحاديث كثيرة مشددة في مصادر الشيعة والسنة ، تدل على أن هذه المشكلة كانت موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وآله ، وأنه أخبر بأنها ستزداد من بعده ، ويكثر الكذابون عليه !
والمتأمل في هذه المشكلة يشمئز من أولئك الكذابين ، لأن عملهم عمل شيطاني من شأنه أن يشوه الإسلام ويزوره ، ويمنع وصوله إلى الأجيال . . خاصة أن النبي صلى الله عليه وآله لم يؤمر بمعاقبتهم على كذبهم الماضي أو الآتي ! ! فهل يكفي في معالجة المشكلة تحذير الكذابين ، وتحذير الأمة منهم ؟ !
من الواضح أن ذلك علاج لا ينفع إلا في تقليل حجم المشكلة الكمي ، وإن تصريح النبي صلى الله عليه وآله بوجودها ، وإخباره باستمرارها وتفاقمها بعده ، دليلٌ على أنه وضع لها بأمر ربه الحكيم ، علاجاً كافياً . . والعلاج ليس إلا بوجود من يميز أحاديثه الصحيحة عن غيرها . . وهم عترته الذين جعلهم عدل الكتاب وأوصى بهم الأمة من بعده ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ) . . فكل حديث خالف كتاب الله تعالى فهو زخرف باطل يستحيل أن يكون صادراً من النبي صلى الله عليه وآله ، لأنه لا يقول ما يخالف القرآن ! وكل حديث يخالف عترته الطاهرين ورثة القرآن ، فهو باطل أيضاً !
--------------------------- 59 ---------------------------
الأساس الثالث : وحدة شريعة المسلمين وثقافتهم
وقد تضمن المبادئ التالية :
1 - مبدأ أداء الأمانة .
2 - قوانين الإرث .
3 - قوانين الديات والقصاص .
4 - تشريعات مناسك الحج ( خذوا عني مناسككم ) .
وقد وردت مبادئ هذا الأساس في فقرات متعددة من خطب حجة الوداع ذكرنا منها أداء الأمانة وتشريعات الإرث والديات والحج . . ويوجد في الخطب الشريفة تشريعات أخرى أيضاً لم نذكرها .
ومن الواضح أن العامل الأساسي في وحدة ثقافة الأمة الإسلامية على اختلاف بلادها وقومياتها ، هو وحدة عقيدتها وشريعتها . .
وأن كل الدول والحضارات السابقة على الاسلام واللاحقة ، لم تستطع أن تحقق بين الشعوب التي شملتها ما حققه الإسلام من وحدة في التصور والسلوك وهي وحدة ما زالت قائمة إلى اليوم بين شعوبه ، رغم العوامل المضادة !
- *
--------------------------- 60 ---------------------------
الأساس الرابع : مبادئ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي ( ص )
وقد تضمن هذا الأساس المبادئ التالية :
1 - مبدأ البشارة بالأئمة الاثني عشر من عترته .
2 - مبدأ التأكيد على الثقلين القرآن والعترة .
3 - مبدأ إعلان أن علياً ولي الأمة بعده والإمام الأول من الاثني عشر .
4 - مبدأ أداء الفرائض ، وإطاعة ولاة الأمر .
5 - مبدأ تخليد تعاهد قريش وكنانة على حصار بني هاشم .
6 - مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه وآله .
7 - مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد بعده والصراع على السلطة .
8 - مبدأ البشارة بالأئمة الاثني عشر من عترته .
9 - مبدأ التأكيد على الثقلين : القرآن والعترة .
10 - مبدأ إعلان علي ولياً للأمة من بعده ، الإمام الأول من الاثني عشر .
11 - مبدأ أداء الفرائض ، وإطاعة ولاة الأمر .
12 - مبدأ تخليد تعاهد قريش على حصار بني هاشم .
13 - مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه وآله .
14 - مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة .
وسوف يأتي إن شاء الله بحث أحاديث الأئمة الاثني عشر ، الذي شهدت رواياته بأنه صدر في خطب حجة الوداع . . والعاقل لا يمكنه أن يقبل أن النبي صلى الله عليه وآله قد أخفى هوية هؤلاء الأئمة الاثني عشر المعينين من الله
--------------------------- 61 ---------------------------
تعالى وضيعهم في ثلاث وعشرين قبيلة من قريش . . أو أنه طرح موضوعهم وهو يودع الأمة نظرياً لمجرد إخبارها بوجودهم ، كما تدعي قريش ورواتها !
وأما المبدأ الثاني من هذا الأساس : ( التأكيد على الثقلين : القرآن والعترة ) فقد روته مصادرنا في خطبة الغدير ، وفي خطبة مسجد الخيف أيضاً ، وربما في غيرها من خطب حجة الوداع ، كما تقدم في رواية تفسير علي بن إبراهيم .
أما مصادر السنيين فقد روت بشكل واسع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله على الثقلين القرآن والعترة في خطبة غدير خم فقط ، وصححوا روايتها ، وقد تقدم أن الطبري المعروف ألف كتاباً من مجلدين جمع فيه طرق أحاديث الغدير وأسانيدها .
أما في بقية خطب حجة الوداع : فقد رواها من صحاحهم المعروفة الترمذي في سننه : 5 / 328 ، قال :
( عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول : يا أيها الناس ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . وفي الباب عن أبي ذر ، وأبي سعيد ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن أسيد . هذا حديث غريب حسن ، من هذا الوجه . وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان ، وغير واحد من أهل العلم ) . انتهى .
ومن الملاحظ أن عدداً من المصادر السنية روت وصية النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع بالكتاب وحده ، بدون العترة ! ففي صحيح مسلم : 4 / 41 : ( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله ) .
ومثله في أبي داود : 1 / 427 ، وسنن البيهقي : 5 / 8 ، ونحوه في ابن ماجة : 2 / 1025 ، وفي مجمع الزوائد : 3 / 265 : بصيغة ( أيها الناس إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله فاعملوا به ) .
--------------------------- 62 ---------------------------
والمتتبع لأحاديث الباب يطمئن بأن الذي حصل هو إسقاط العترة من روايتهم ، بسبب رقابة قريش على أحاديث نبيها صلى الله عليه وآله ! والدليل على ذلك : أن نفس المصادر التي روت هذا الحديث ناقصاً في حجة الوداع ، روته تاماً في غيرها ، فيحمل الناقص على التام ! فقد روى مسلم والبيهقي وابن ماجة والهيثمي بروايات متعددة ، وصية النبي صلى الله عليه وآله بالقرآن والعترة معاً ، وتأكيداته المتكررة على ذلك . .
ففي صحيح مسلم : 7 / 122 : ( عن زيد بن أرقم : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي . فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ، أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . قال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم ) . انتهى . ورواه البيهقي في سننه 7 / 30 و 10 / 114 .
وفي مجمع الزوائد : 1 / 170 : ( عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني تركت فيكم خليفتين : كتاب الله ، وأهل بيتي ، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض . رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات ) .
ورواه بنحوه : 9 / 162 وقال : رواه أحمد وإسناده جيد .
--------------------------- 63 ---------------------------
وأما أبو داود فلم يرو حديثاً صريحاً في الثقلين ، ولكنه عقد في سننه : 2 / 309 كتاباً باسم ( كتاب المهدي ) ، روى فيه حديث الأئمة الاثني عشر وبشارة النبي صلى الله عليه وآله بالإمام المهدي وأنه من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام ، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله قوله :
( لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً ) . انتهى .
- *
والذي يؤكد ما ذهبنا اليه من أن الوصية بالعترة حذفت من خطب حجة الوداع : أن الكلام النبوي الذي هو جوامع الكلم ، له خصائص عديدة يتفرد بها . . ومن خصائصه أنه يستعمل تراكيب معينة لمعان معينة ، لا يستعملها لغيرها ، فهو بذلك يشبه القرآن . وتركيب ( ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ) خاص لوصيته للأمة بالقرآن والعترة ، لم يستعمله صلى الله عليه وآله في غيرهما أبداً . . كما أن تعبير ( إني تارك فيكم الثقلين ) . . لم يستعمله في غيرهما أبداً . ولذلك عندما قال لهم في مرض وفاته : إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً . . فهمت قريش أنه يريد أن يلزم المسلمين بإطاعة الأئمة من عترته بشكل مكتوب ، فرفضت ذلك بصراحة ووقاحة ! وقد روى البخاري هذه الحادثة في ستة أماكن من صحيحه ! ! وروت مصادرهم أن عمر افتخر في خلافته ، بأنه بمساعدة قريش حال دون كتابة ذلك الكتاب ! !
وعليه فإن ورود هذا التركيب في أكثر رواياتهم لخطب حجة الوداع للقرآن وحده دون العترة ، يخالف الأسلوب النبوي ، وتعبيره المبتكر في الوصية بهما معاً . . خاصة وأن الترمذي وغيره رووهما معاً !
--------------------------- 64 ---------------------------
والنتيجة : أن بشارة النبي صلى الله عليه وآله لأمته في حجة الوداع بالأئمة الاثني عشر ، ووصيته بالثقلين ، وجعله عترته الطاهرين علياً وفاطمة والحسن والحسين عدلاً للقرآن في وجوب الأتباع ، أمرٌ ثابتٌ في مصادر جميع المسلمين . . لا ينكره إلا من يريد أن يتعصب لقبيلة قريش ، في مقابل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله . - *
وأما المبدأ الثالث من هذا الأساس ( إعلان علي ولياً للأمة من بعده ) ، فهو صريح خطبة الغدير ، وقد اقتصرنا منها على نزول الآيات الثلاث فيها ، ولا يتسع موضوعنا لبحث أسانيد الخطبة ونصوصها ، ودلالتها . . وقد تكفلت بذلك المصادر الحديثية والكلامية ، ومن أقدمها كتاب ( الولاية ) للطبري السني ، ومن أواخرها كتاب ( الغدير ) للعلامة الأميني رحمه الله .
وأما المبدأ الرابع من هذا الأساس ( تأكيده صلى الله عليه وآله على أداء الفرائض وإطاعة ولاة الأمر ) ، فقد تقدم ذكره في فقرات الأساس الثاني ، وقد اعترف الفخر الرازي وغيره في تفسير قوله تعالى ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) بأن غير المعصوم لا يمكن أن يأمرنا الله تعالى بطاعته بدون
شرط ، لأنه يكون بذلك أمر بالمعصية ! فلا بد أن يكون أولو الأمر في الآية معصومين . . وكذلك الأمر في الحديث النبوي الشريف في حجة الوداع ، وغيرها . - *
وأما المبدأ الخامس من هذا الأساس ( تخليده صلى الله عليه وآله مكان تعاهد قريش على حصار بني هاشم ) فقد رواه البخاري في صحيحه : 5 / 92 ، قال : ( عن
--------------------------- 65 ---------------------------
أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله ، الخيف ، حيث تقاسموا على الكفر ) . انتهى .
ورواه في : 4 / 246 و 8 / 194 ورواه في : 2 / 158 ، بنص أوضح ، فقال : ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى : نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر . يعني بذلك المحصب ، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب ، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ! ! ) . انتهى .
ورواه مسلم : 4 / 86 ، وأحمد : 2 / 322 و 237 و 263 و 353 و 540 . ورواه البيهقي في سننه : 5 / 160 ، بتفاوت ، وقال ( أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث الأوزاعي ) .
وقد رواه مسلم عن الأوزاعي ، ولكن البخاري لم يروه عنه ، بل عن أبي هريرة ، ولم نجد في طريقه إلى الأوزاعي ، فهو اشتباه من البيهقي ، ويحتمل أنه سقط من نسخة البخاري التي بأيدينا .
وفي رواية البيهقي عن الأوزاعي زيادة ( أن لا يناكحوهم ، ولا يكون بينهم شيء ، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
كما أن في رواياتهم تفاوتاً في وقت إعلان النبي صلى الله عليه وآله للمسلمين عن مكان نزوله في منى ، فرواية البخاري تذكر أنه أعلن ذلك في منى بعد عرفات ، بينما تذكر رواية الطبراني أنه أعلن ذلك في مكة قبل توجهه إلى الحج . . وهذا أقرب إلى اهتمامه صلى الله عليه وآله بالموضوع ، وحرصه على تركيزه في أذهان المسلمين ، خاصة أنه نزل في هذا المنزل ، وبات فيه ليلة عرفات ، وهو في طريقه إليها كما تقدم في رواية الدارمي ، ثم نزل في ذلك المكان بعد عرفات طيلة أيام التشريق ! قال في مجمع الزوائد : 3 / 250 : ( عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل يوم التروية بيوم :
--------------------------- 66 ---------------------------
منزلنا غداً إن شاء الله بالخيف الأيمن ، حيث استقسم المشركون . رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، ورجاله ثقات ) . انتهى .
والمسألة المهمة هنا أن هدف النبي أن يذكر قريشاً والمسلمين بحادثةٍ عظيمة وقعت في هذا المكان ، قبل نحو أربع عشرة سنة من ذلك اليوم فقط ! وهي حادثة تريد قريش أن تدفنها وأن ينساها الناس ، ويريد الله ورسوله أن تخلد في ذاكرة المسلمين والتاريخ . . وكلها عارٌ على قريش ، وفخرٌ للنبي صلى الله عليه وآله وبني هاشم . . وصورةٌ عن جهود فراعنة قريش ، حيث استطاعوا أن يحققوا إجماع قبائلهم ، ويقنعوا قبائل كنانة القريبة من الحرم بالتحالف معهم وتنفيذ المقاطعة التامة لبني هاشم ! !
وقد نفذوها لسنين طويلة وضيقوا عليهم اقتصادياً واجتماعياً تضييقاً تاماً ، حتى يتراجع محمد عن نبوته ، أو يسلمه بنو هاشم إلى قريش ليقتلوه ! ! وقد اعتبر الفراعنة يومذاك أنهم نجحوا نجاحاً كبيراً وحققوا إجماع قريش وكنانة على هذا الهدف الشيطاني ، وكان مؤتمرهم ذلك في المحصب في خيف بني كنانة حيث تقاسموا باللات والعزى على هدفهم ، وكتبوا الصحيفة وختمها ثمانون رئيساً وشخصية منهم بخواتيمهم ، وبدؤوا من اليوم الثاني بتنفيذها ، واستمر حصارهم ومقاطعتهم نحو أربع سنوات وربما أكثر ، إلى قبيل هجرته صلى الله عليه وآله من مكة ! !
وقد تضامن بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وآله ، وقبلوا أن يحاصروا في شعب أبي طالب ، مسلمهم وكافرهم ما عدا أبي لهب ، وتحملوا سنوات الحصار والفقر والأذى والإهانة ، ولم يشاركهم في ذلك أحد من المسلمين ! حتى فرج الله عنهم بمعجزة !
--------------------------- 67 ---------------------------
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يوعي المسلمين الجدد على تاريخ الإسلام ، وتكاليف الوحي ، ليعرفوا قيمته . . ويعرفهم أين يقع معدن الإسلام وأين يقع معدن الكفر !
كما أراد أن يبعث بذلك رسالة إلى بقية الفراعنة من زعماء قريش ، من أعضاء مؤتر المقاطعة ، الذين ما زالوا أحياء ، بأنهم قد تحملوا وزر هذا الكفر والعار ، ثم ارتكبوا بعده ما هو أعظم منه ، ولم يتراجعوا إلا عندما جمعهم النبي في فتح مكة تحت سيوف بني هاشم والأنصار ، فأعلنوا إسلامهم خوفاً من القتل . . وهاهم اليوم يخططون لوراثة دولة الإسلام التي بناها الله تعالى ورسوله ، وهم كارهون ! !
لقد أهلك الله تعالى عدداً قليلاً من أبطال ذلك الحلف الشيطاني ، من سادة مؤتمر المحصب ، بالموت ، وبسيف علي بن أبي طالب . . ولكن العديد مثل سهيل بن عمرو ، وأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبا الأعور السلمي ، وغيرهم من زعماء قريش وكنانة . . ما زالوا أحياءً ينظرون ، وكانوا حاضرين مع النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع يسمعون كلامه ويذكرون ماضيهم بالأمس القريب جيداً ، ويتعجبون من عفوه عنهم واكتفائه بإقامة الحجة الدامغة عليهم ! وكانت تصرفاتهم الظاهرة والخفية ، ومنطق الأمور ، وشهادة أهل البيت ، ومجرى التاريخ . . تدل على فرحهم بأن النبي صلى الله عليه وآله يعلن قرب موته ورحيله عنهم ، وأنهم يعدون العدة لما بعده لحصار جديد لبني هاشم باسم الاسلام ! !
--------------------------- 68 ---------------------------
فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يذكرهم بخطتهم في حصارهم القديم ، كيف أحبطها الله تعالى ! وأنه سيحبط حصارهم الجديد أيضاً ولو بعد حين ! !
وأما المبدأ السابع من هذا الأساس ( تحذيره قريشاً أن تطغى من بعده ) ، فقد ذكرته أحاديث مصادرنا ، وذكرته رواية الهيثمي المتقدمة في مجمع الزوائد عن فهد بن البحيري ، الذي استمع على ما يبدو إلى خطبة يوم عرفة ونقل عن النبي صلى الله عليه وآله قوله :
( يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجيء الناس بالأخرة ، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ) . انتهى .
ونشكر الله تعالى أن فهداً البحيري هذا كان بدوياً ، ولم يكن قرشياً ولا كنانياً ، وإلا لجعل هذه الرواية سيفاً مسلطاً على رقبة بني هاشم ، وأبعدها عن قريش ، كما فعل الرواة القرشيون ! فجعلونا نقرأ في مصادر السنيين عشرات الأحاديث ( الصحيحة ) في تحذير النبي صلى الله عليه وآله بني هاشم وبني عبد المطلب وذمهم ، ومنها هذا الحديث بهذه الصيغة ولكنه بزعمهم موجه لبني عبد المطلب . . وليس لقريش ! !
وجعلونا نقرأ عشرات الأحاديث في مدح قريش ووجوب أن تكون القيادة فيهم ! ولا تكاد تجد فيها حديثاً في ذم قريش إلا وقد حرفوه إلى ذم بني هاشم ! أو أحبطوا معناه بحديث آخر ! أو حولوه إلى مدح لقريش ! !
وحديث ابن البحيري هذا في حجة الوداع تحذيرٌ نبويٌّ صريح لقريش ، وهو في محله ووقته تماماً . . لأن قريشاً ذات موقع مميز في العرب . . وهي المتصدية لقيادة عرب الجزيرة في حياة النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده . . فالخطر على أهل بيته إنما هو من قريش وحدها . . والتحريف الذي يخشى
--------------------------- 69 ---------------------------
على الإسلام . . والظلم الذي يخشى على المسلمين إنما هو من قريش وحدها . . وبقية القبائل تبع لها !
والنبي صلى الله عليه وآله إنما هو مبلغ عن ربه ، ومتمم لحجة ربه ، وعليه أن يحذر وينذر . . ليحيى من حي عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة . - *
وأما المبدأ الثامن من هذا الأساس ( تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة ) ، فقد روته مصادر الجميع بصيغتين : مباشرة ، وغير مباشرة . .
أما غير المباشرة فهي قوله صلى الله عليه وآله : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . وقد تقدم في نصوص الخطب أن ابن ماجة عقد باباً في سننه : 2 / 1300 ، تحت هذا العنوان وقال فيه إن النبي صلى الله عليه وآله : ( استنصت الناس فقال . . . ويحكم أو ويلكم ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . . فلا تقتتلن بعدي ) . وهذا يعني أن ذلك سوف يقع منهم ، وقد أخبرهم أنهم سيفعلون ، ولكنه صلى الله عليه وآله استعمل كل بلاغته وكل عاطفته وكل موجبات الخوف والحذر ليقيم الحجة عليهم لربه عز وجل حتى إذا وافوه يوم القيامة لا يقولوا : لماذا لم تحذرنا ؟ !
والذين يحذرهم من الاقتتال ليسوا إلا الصحابة لا غير . . لا غير . . لا اليهود ولا القبائل العربية ، ولا حتى زعماء قريش بدون شركائهم من الصحابة . . فالدولة الإسلامية كانت قائمة ، وقد حققت مركزيتها على كل الجزيرة ، والخوف من الاقتتال بعد النبي صلى الله عليه وآله ليس من القبائل التي خضعت للإسلام طوعاً أو كرهاً ، مهما كانت كبيرة وموحدة مثل هوازن وغطفان . . فهي لا تستطيع أن تطمح إلى قيادة هذه الدولة ، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح ، إلا بواسطة الصحابة . .
--------------------------- 70 ---------------------------
واليهود قد انكسروا وأجلى النبي صلى الله عليه وآله قسماً منهم من الجزيرة ، ولم تبق لهم قوة عسكرية تذكر . . ومكائدهم وخططهم مهما كانت قوية وخبيثة ، فلا حظَّ لها في النجاح إلا . . بواسطة الصحابة . .
وزعماء قريش ، مع أنهم يملكون جمهور قبائل قريش ، ومعهم ألفا مقاتل ، فهم لا يستطيعون أن يدعوا حقاً في قيادة الدولة بعد النبي صلى الله عليه وآله لأنهم كلهم أعداؤه وطلقاؤه ، يعني كان للنبي صلى الله عليه وآله الحق في أن يقتلهم ، أو يتخذهم عبيداً ، فاتخذهم عبيداً وأطلقهم . . فلا طريق لهم للقيادة إلا بواسطة العدد الضئيل من الصحابة ، من القرشيين المهاجرين . .
وبذلك يتضح أن تحذيره صلى الله عليه وآله من الصراع بعده على السلطة ، ينحصر بالصحابة المهاجرين ، ثم بالأنصار فقط . . وفقط ! !
وهنا يأتي دور التحذير المباشر ، الذي لا ينقصه إلا الأسماء الصريحة . . وقد جاء هذا الإعلان النبوي على شكل لوحة من الغيب ، عن المصير الذي يمشي إليها هؤلاء الصحابة المنحرفون المحرفون ! لوحةٌ أخبره بها جبرئيل عليه السلام عن الله تعالى ، يوم يجعل الله محمداً صلى الله عليه وآله رئيس المحشر ، ويعطيه جبرئيل لواء الحمد ، فيدفعه النبي إلى علي بن أبي طالب ، فهو حامل لوائه في الدنيا والآخرة ، ويكون جميع أهل المحشر تحت قيادة محمد صلى الله عليه وآله ويفتخر به آدم عليه السلام ، حتى يدعى أبا محمد . . صلى الله عليه وآله .
ويعطي الله تعالى رسوله الشفاعة وحوض الكوثر ، فيفد عليه الوافدون من الأمم فيشفع لهم ويعطيهم بطاقة للشرب من حوض الكوثر ، ليتغير بتلك الشربة تركيبهم الفيزيائي وتصلح أجسادهم لدخول الجنة والخلود في نعيمها .
--------------------------- 71 ---------------------------
وعندما يفد عليه أصحابه تحدث المفاجأة :
يأتي النداء الإلهي بمنع النبي صلى الله عليه وآله من الشفاعة لهم ، ومنعهم من ورود الحوض ، ويؤمر ملائكة العذاب بأخذهم إلى جهنم ! !
هذا هو مستقبل هؤلاء الصحابة على لسان أصدق الخلق ! !
إنها صورة رهيبة ، جاء بها جبرئيل الأمين ، لكي يبلغها النبي صلى الله عليه وآله إلى الأمة في حجة الوداع ! !
وإنها أعظم كارثة على صحابة أعظم رسول صلى الله عليه وآله . . ولا بد أن سببها أنهم سوف يوقعون في أمته من بعده . . أعظم كارثة ! ! ولا ينجو من هؤلاء الصحابة إلا مثل ( همل النعم ) كما في روايات محبيهم الصحيحة بأشد شروط الصحة كالبخاري . . وهو تعبير نبوي عجيب ، لأن همل النعم هي الغنم أو الإبل الفالتة من القطيع ، الخارجة على راعيه !
وهو يدل على أن قطيع الصحابة في النار ، وهملهم الذي يفلت منهم ، يفلت من النار إلى الجنة ! بل ذكر النبي صلى الله عليه وآله أن الصحابة الجهنميين زمرتان ، مما يدل على أنهم خطان من صحابته لا خط واحد ، وتقدم قول الحاكم عن حديثه : صحيح على شرط الشيخين ، وفيه ( ثم أقبلت زمرة أخرى ، ففعل بهم كذلك ، فلم يفلت إلا كمثل النعم ! ! ) .
إنها مسألةٌ مذهلةٌ . . صعبة التصور والتصديق ، خاصة على المسلم الذي تربي على حب كل الصحابة ، وخير القرون ، والجيل الفريد ، وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . . وعلى الصور واللوحات الرائعة للصحابة ، التي كبر السني المسكين معها وكبرت معه . . فإذا به يفاجأ بهذه الصورة الشيطانية المخيفة عنهم ! !
--------------------------- 72 ---------------------------
لو كان المتكلم عن الصحابة غير الرسول صلى الله عليه وآله لقالوا عنه إنه عدو للإسلام ولرسوله يريد أن يكيد للإسلام عن طريق الطعن في صحابة الرسول . . صلى الله عليه وآله !
ولكن المتكلم هو . . الرسول صلى الله عليه وآله . . بعينه . . بنفسه . . وكلامه ليس اجتهاداً منه ولا رأياً رآه ، حتى تقول قريش إنه يتكلم في الرضا والغضب ، وكلامه في الغضب ليس حجة . .
بل هو ، يا عبّاد الصحابة المساكين ، وحي نزل عليه من رب العالمين ! !
إنها حقيقةٌ مرةٌ . . ولكن هل يجب أن تكون الحقيقة دائماً حلوة كما نشتهي . . وأن يكون الحق دائماً مفصلاً على مزاجنا ، مطابقاً لموروثاتنا ؟ !
وماذا نصنع إذا كانت أحاديث الصحابة المطرودين ، المرفوضين ، الممنوعين من ورود الحوض مستفيضة في الصحاح ، وهي في غير الصحاح أكثر . . وهي تصرح بأنه لا ينجو منهم إلا مثل الهمل ! !
قال الجوهري في الصحاح : 5 / 1854 : والهمل بالتحريك : الإبل التي ترعى بلا راع ، مثل النفش ، إلا أن النفش لا يكون إلا ليلاً ، والهمل يكون ليلاً ونهاراً . يقال : إبلٌ هملٌ وهاملة وهمال وهوامل . وتركتها هملاً : أي سدى ، إذا أرسلتها ترعى ليلاً ونهاراً بلا راع . وفي المثل : اختلط المرعى بالهمل . والمرعى الذي له راع . انتهى .
ولكن السؤال هو : لماذا طرح الرسول صلى الله عليه وآله موضوعهم في حجة الوداع ؟ !
--------------------------- 73 ---------------------------
الجواب : لأن الله تعالى أمره بذلك ، فهو لا ينطق عن الهوى ، ولا علم له من نفسه بما سيفعله أصحابه من بعده ، ولا بما سيجري له معهم يوم القيامة ! !
وسؤال آخر : وماذا فعل الصحابة بعد الرسول ؟ هل كفروا وارتدوا كما يقول الحديث ؟ هل حرفوا الدين ؟
هل اقتتلوا على السلطة والحكم ؟ !
والجواب : إقبل ما يقوله لك نبيك صلى الله عليه وآله ، واسكت ، ولا تصر رافضياً !
وسؤال آخر : لماذا اختار الله تعالى هذا الأسلوب في التحذير ، ولم يهلك هؤلاء الصحابة ، الذين سينحرفون ، أو يأمر رسوله بقتلهم ، أو يكشفهم للمسلمين ليحذروهم !
والجواب : هذه سياسته سبحانه وتعالى في إقامة الحجة كاملة على العباد ، وترك الحرية لهم . . ليحيى من حي عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة . . ولا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون . .
فهو سبحانه مالكهم له حق سؤالهم ، وهو لا يفعل الخطأ حتى يحاسب عليه . وهو سبحانه أعلم ، وغير الأعلم لا يمكنه أن يحاسب الأعلم ويسأله !
وسؤال آخر : ماذا كان وقع ذلك على الصحابة والمسلمين ؟ !
ألم يهرعوا إلى الرسول صلى الله عليه وآله ليحدد لهم الطريق أكثر ، ويعين لهم من يتبعونه بعده ، حتى لا يضلهم هؤلاء الصحابة الخطرون ؟ !
والجواب : لقد عين لهم الثقلين من بعده : كتاب الله وعترته ، وبشرهم باثني عشر إماماً ربانياً يكونون منهم بعده . . وقبل حجة الوداع وبعدها ،
--------------------------- 74 ---------------------------
طالما حدد النبي صلى الله عليه وآله لهم عترته وأهل بيته بأسمائهم : علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، حتى أن أحاديث الصحاح تقول إنه حددهم حسياً فأدار عليهم كساء يمانياً ، وقال للمسلمين :
هؤلاء عترتي أهل بيتي ! !
ولم يكتف بذلك حتى أوقف المسلمين في رمضاء الجحفة بغدير خم ، وأخذ بيد علي عليه السلام وبلغ الأمة إمامته من بعده ، ونصب له خيمة ، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ويباركوا له ولايته عليهم التي أمر بها الله تعالى . فهنؤوه جميعاً وباركوا له ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله نساءه وكنَّ معه في حجة الوداع ، أن يهنئن علياً فجئن إلى باب خيمته وهنأنه وباركن له . . معلناتٍ رضاهن بولايته على الأمة .
ثم أراد صلى الله عليه وآله في مرض وفاته أن يؤكد الحجة على الأمة بوثيقة مكتوبة ، فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً . . ولكنهم رفضوا ذلك بشدة ! وقالوا له : شكراً أيها الرسول ، لقد قررنا أن نضل ، عالمين عامدين مختارين ! ! ولا نريد أن تكتب لنا أطيعوا بعدي عترتي علياً ، ثم حسناً ، ثم حسيناً ، ثم تسعة من ذرية الحسين ! وقالوا : لا تقربوا له دواة ولا قرطاساً ! !
فهل تريد من نبيك صلى الله عليه وآله أن يقيم الحجة أكثر من هذا ؟ ! - *
--------------------------- 75 ---------------------------
الأساس الخامس : عقوبة المخالفين للوصية النبوية
بأهل بيته عليهم السلام
وقد تضمن مبدأ لعن من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه . . .
ولا نطيل في هذا الأساس لوضوحه ، وقد تقدمت عدة فقرات تتعلق به في نماذج النصوص من خطبه صلى الله عليه وآله .
وهي عقوبة أخروية ، تتناسب مع مسؤولية النبي صلى الله عليه وآله في التبليغ ، والشهادة على الأمة . . وقد جاءت شديدةً قاطعة ، بصيغة قرار من الله تعالى بلعن المخالفين لرسوله صلى الله عليه وآله في أهل بيته ، وطردهم من الرحمة الإلهية ، وحكماً بعدم قبول توبتهم نهائياً واستحقاقهم العذاب في النار .
وربما يزيد من شدتها ، أنها كانت آخر فقرة من خطبته صلى الله عليه وآله ! !
وقد تقدم نص هذه اللعنة النبوية في رواية تحف العقول من مصادرنا ، وقد نصت مصادر السنيين على أنها صدرت من النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع . ففي سنن ابن ماجة : 2 / 905 :
عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم وهو على راحلته ، وإن راحلته لتقصع بجرتها ، وإن لغامها ليسيل بين كتفي ، قال : . . . ومن ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ . أو قال : عدلٌ ولا صرفٌ .
وفي سنن الترمذي : 3 / 293 :
عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع : . . . ومن ادعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة .
--------------------------- 76 ---------------------------
وفي مسند أحمد : 4 / 239 :
عن عمرو بن خارجة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى على راحلته ، وإني لتحت جران ناقته ، وهي تقصع بجرتها ، ولعابها يسيل بين كتفي ، فقال : ألا ومن ادعى إلى غير مواليه رغبة عنهم ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
ورواه أحمد : 4 / 187 بلفظ : ( ألا ومن ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً أو عدلاً ولا صرفاً ) . انتهى . ورواه بعدة روايات في نفس الصفحة والتي قبلها ، وفي ص 238 و 186 . ورواه الدارمي في سننه : 2 / 244 و 344 ومجمع الزوائد : 5 / 14 ، عن أبي مسعود ، ورواه البخاري في صحيحه : 2 / 221 ، و 4 / 67 .
ولعلك تسأل : ما علاقة هذه اللعنة المشددة المذكورة في خطب حجة الوداع وغيرها بوصية النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته ؟ ! فهذه تنصب على الذي ينكر نسبه من أبيه وينسب نفسه إلى شخص آخر ، وعلى العبد الذي ينكر مالكه ويدعي أنه عبد لشخص آخر ، أو ينكر ولاءه وسيده الذي أعتقه ، ويدعي أن ولاءه لشخص آخر ! فهذا هو المعنى المعروف ( من ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه ) !
والجواب : أن مقصود النبي صلى الله عليه وآله بالأبوة في هذه الأحاديث الشريفة : أبوته هو المعنوية للأمة ، وبالولاء : ولايته وولاية أهل بيته عليها ، وليس مراده الأبوة النسبية ولا ولاء المالك لعبده !
والدليل على ذلك : لو أن ولداً هرب من أبيه ، وسجل نفسه باسم والد آخر ، ثم تاب من فعلته وصحح هويته ، واستغفر الله تعالى . . فإن الفقهاء جميعاً يفتون بأن توبته تقبل ! ولو أن عبداً مملوكاً هرب من سيده ولجأ إلى
--------------------------- 77 ---------------------------
شخص ، وادعى أنه سيده ، وبعد مدة رجع إلى سيده واستغفر الله تعالى . . فإن الفقهاء يفتون بأن توبته تقبل .
بينما الشخص الملعون في كلام النبي صلى الله عليه وآله مصبوب عليه الغضب الإلهي إلى الأبد ! ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) . والصرف هو التوبة ، والعدل الفدية ، وقد فسرتهما الأحاديث الشريفة بذلك . فهي عقوبة إلهية لا تصلح إلا لحالات الخيانة العظمى ، مثل الإرتداد وشبهه ، ولا يعقل أن يكون الاسلام شرعها لولدٍ جاهل يدعو نفسه لغير أبيه ، أو لعبد مملوك أو مظلوم يدعو نفسه لغير سيده ! ويؤيد ذلك أن بعض رواياتها صرحت بكفر من يفعل ذلك ، وخروجه من الإسلام ! كما في سنن البيهقي : 8 / 26 ، ومجمع الزوائد : 1 / 9 ، وكنز العمال : 5 / 872 . وفي كنز العمال : 10 / 324 : ( من تولى غير مواليه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه . أحمد عن جابر ) . وفي / 326 : ( من تولى غير مواليه فليتبوأ بيتا في النار . ابن جرير عن عائشة ) . وفي / 327 : ( من تولى غير مواليه فقد كفر . ابن جرير عن أنس ) . وفي : 16 / 255 : ( ومن تولى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على رسوله . ش ) .
ولا نحتاج إلى تتبع هذه الأحاديث في مصادرها وأسانيدها ، لأنها مؤيدات لحكم العقل القطعي بأن مقصوده صلى الله عليه وآله يستحيل أن يكون الأب النسبي ، ومالك العبد .
ويؤيد ذلك أيضاً : أن بعض رواياته كالتي مرت آنفاً وغيرها من روايات أحمد ، ليس فيها ذكر للولد والوالد ، بل اقتصرت على ذكر العبد الذي هو أقل جرماً من الولد ومع ذلك زادت العقوبة واللعنة عليه ، ولم تخففها !
--------------------------- 78 ---------------------------
ويؤيد ذلك أيضاً : أن هذه اللعنة وردت في بعض روايات الخطب الشريفة بعد ذكر ما ميز به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام من مالية خاصة هي الخمس ، وحرم عليهم الصدقات والزكوات ! ففي مسند أحمد : 4 / 186 : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرة من كاهل ناقته ، فقال : ولا ما يساوي هذه ، أو ما يزن هذه . لعن الله من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه . انتهى . ورواه في كنز العمال : 5 / 293 وفي كنز العمال : 10 / 235 : ( ومن تولى غير مواليه ، فليتبوأ بيتا في النار . ابن عساكر عن عائشة ) . انتهى .
أما في مصادر أهل البيت عليهم السلام فالحديث ثابتٌ عنه صلى الله عليه وآله في خطب حجة الوداع في المناسك . . وهو أيضاً جزء من حديث الغدير . . ففي بحار الأنوار : 37 / 123 : عن أمالي المفيد ، عن علي بن أحمد القلانسي ، عن عبد الله بن محمد ، عن عبد الرحمان بن صالح ، عن موسى بن عمران ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن زيد بن أرقم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم يقول : إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، لعن الله من ادعى إلى غير أبيه ، لعن من تولى إلى غير مواليه ، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر ، وليس لوارث وصية .
ألا وقد سمعتم مني ، ورأيتموني . . ألا من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار .
ألا وإني فرطكم على الحوض ومكاثر بكم الأمم يوم القيامة ، فلا تسودوا وجهي .
--------------------------- 79 ---------------------------
ألا لأستنقذن رجالاً من النار ، وليستنقذن من يدي أقوامٌ .
إن الله مولاي ، وأنا مولى كل مؤمن ومؤمنة . ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه . انتهى . وروى نحوه في / 186 ، عن بشارة الإسلام . وقال ابن البطريق الشيعي في كتابه العمدة / 344 :
وأما الأخبار التي تكررت من الصحاح من قول النبي صلى الله عليه وآله : لعن الله من انتمى إلى غير أبيه ، أو توالى غير مواليه ، فهي أدل على الحث على اتباع أمير المؤمنين عليه السلام بعده ، بدليل ما تقدم من الصحاح من غير طريق ، في فصل مفرد مستوفي ، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، ثم قال مؤكداً لذلك : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله .
فمن كان النبي صلى الله عليه وآله مولاه فعلي مولاه ، ومن كان مؤمناً فعلي مولاه أيضاً ، بدليل ما تقدم من قول عمر بن الخطاب لعلي لما قال له النبي صلى الله عليه وآله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال له عمر : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة . وفي رواية : مولاي ومولى كل مؤمنة ومؤمن .
وهذه منزلة لم تكن إلا لله سبحانه وتعالى ، ثم جعلها الله لرسوله صلى الله عليه وآله ولعلي عليه السلام بدليل قوله تعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . . .
وقوله صلى الله عليه وآله : من انتمى إلى غير أبيه ، فالمراد به : من انتمى إلى غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الولاء ، مأخوذ من
--------------------------- 80 ---------------------------
قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام : أنا وأنت أبوا هذه الأمة ، فعلى عاق والديه لعنة الله . انتهى .
كما ورد في مصادر الفريقين أن هذا الحديث جزء مما كان مكتوباً في صحيفة صغيرة معلقة في ذؤابة سيف النبي صلى الله عليه وآله الذي ورثه لعلي عليه السلام . . فقد رواه : البخاري في صحيحه : 4 / 67 ، ومسلم : 4 / 115 ، و 216 ، بعدة روايات ، والترمذي : 3 / 297 . . ورواه غيرهم أيضاً ، وقد أكثروا من رواية هذا الحديث لأن الراوي زعم فيه على لسان علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله لم يورث أهل بيته شيئاً من العلم ، إلا القرآن وتلك الصحيفة المعلقة في ذؤابة السيف ! ورووا فيها لعن من تولى غير مواليه ! !
وقد وجدنا في مصادرنا مناسبة رابعة لإطلاق النبي صلى الله عليه وآله هذه اللعنة ، وذلك عندما كثر طلقاء قريش في المدينة ، وتصاعد عملهم مع المنافقين ضد أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وقالوا : ( إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا : أي مزبلة ) فبلغ ذلك النبي فغضب ، وأمر عليا أن يصعد المنبر ويجيبهم ! ! فقد روي في بحار الأنوار : 38 / 204 :
عن أمالي المفيد ، عن محمد بن عمر الجعابي ، عن ابن عقدة ، عن موسى بن يوسف القطان ، عن محمد بن سليمان المقري ، عن عبد الصمد بن علي النوفلي ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الأصبغ بن نباتة قال :
لما ضرب ابن ملجم لعنه الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، غدونا نفر من أصحابنا أنا والحارث وسويد بن غفلة ، وجماعة معنا ، فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء فبكينا ، فخرج إلينا الحسن بن علي فقال : يقول لكم أمير المؤمنين : انصرفوا إلى منازلكم ، فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء
--------------------------- 81 ---------------------------
من منزله فبكيت ، وخرج الحسن وقال : ألم أقل لكم : انصرفوا ؟ فقلت : لا والله يا ابن رسول الله لا تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين عليه السلام .
قال : فبكيت ، ودخل فلم يلبث أن خرج ، فقال لي : أدخل ، فدخلت على أمير المؤمنين عليه السلام فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء ، قد نزف واصفر وجهه ، ما أدري وجهه أصفر أو العمامة ؟ فأكببت عليه فقبلته وبكيت . فقال لي : لا تبك يا أصبغ ، فإنها والله الجنة .
فقلت له : جعلت فداك إني أعلم والله أنك تصير إلى الجنة ، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين . جعلت فداك حدثني بحديث سمعته من رسول الله ، فإني أراك لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً . قال : نعم يا أصبغ : دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله يوماً ، فقال لي : يا علي انطلق حتى تأتي مسجدي ، ثم تصعد منبري ، ثم تدعو الناس إليك ، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي علي صلاة كثيرة ، ثم تقول :
أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، وهو يقول لكم : إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره .
فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصليت على رسول الله صلى الله عليه وآله صلاة كثيرة ، ثم قلت : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي ، على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره .
--------------------------- 82 ---------------------------
قال : فلم يتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب ، فإنه قال : قد أبلغت يا أبا الحسن ، ولكنك جئت بكلام غير مفسر ، فقلت : أُبْلِغُ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله .
فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته الخبر ، فقال : إرجع إلى مسجدي حتى تصعد منبري ، فأحمد الله وأثن عليه وصل علي ، ثم قل : أيها الناس ، ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره ، ألا وإنس أنا أبوكم ألا وإني أنا مولاكم ، ألا وإني أنا أجيركم . انتهى .
وقد وجدنا لهذا الحديث مناسبة خامسة أيضاً . فقد روى فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره / 392 ، قال : حدثنا عبد السلام بن مالك قال : حدثنا محمد بن موسى بن أحمد قال : حدثنا محمد بن الحارث الهاشمي قال : حدثنا الحكم بن سنان الباهلي ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح قال : قلت لفاطمة بنت الحسين : أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث ، واحتج به على الناس .
قالت : نعم ، أخبرني أبي أن النبي صلى الله عليه وآله كان نازلاً بالمدينة ، وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله صلى الله عليه وآله فريضة يستعين بها على من أتاه ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وقالوا : قد رأينا ما ينوبك من النوائب ، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك . قال : فأطرق النبي صلى الله عليه وآله طويلاً ثم رفع رأسه فقال : إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئاً ، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشيء ، وإن أمرت به أعلمتكم .
قال : فنزل جبرئيل عليه السلام فقال : يا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك ، وقد أنزل الله عليهم فريضة : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى .
--------------------------- 83 ---------------------------
قال فخرجوا وهم يقولون : ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء ، وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبد المطلب .
قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار ، ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ، ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار ! قال : فقام رجل وقال : يا أبا الحسن ما لهن من تأويل ؟ فقال : الله ورسوله أعلم .
فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره ، فقال رسول الله : ويل لقريش من تأويلهن ، ثلاث مرات ! ثم قال :
يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء ، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين ، وأنا وأنت أبوا المؤمنين . انتهى .
- *
--------------------------- 84 ---------------------------
.
--------------------------- 85 ---------------------------
الفصل الثاني : أعظم ما في خطب الوداع
--------------------------- 86 ---------------------------
.
--------------------------- 87 ---------------------------
بشارة النبي صلى الله عليه وآله بالأئمة الاثني عشر بعده
في اعتقادنا أن ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت أمراً مفروغاً عنه عند الرسول صلى الله عليه وآله ، وأن الله تعالى أمره أن يبلغ الأمة ولاية عترته من بعده ، كما هي سنته تعالى في أنبيائه السابقين الذين ورث عترتهم الكتاب والحكم والنبوة ، وجعلهم ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم . .
ونبينا صلى الله عليه وآله أفضلهم ، ولا نبوة بعده ، بل إمامة ووراثة الكتاب . . وعترته وذريته صلى الله عليه وآله أفضل من ذريات جميع الأنبياء عليهم السلام ، وقد طهرهم الله تعالى بنص كتابه ، واصطفاهم وأورثهم الحكم والكتاب بنص كتابه ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا . . ) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله كان طوال نبوته يبلّغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج ، والتلويح والتصريح ، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم ، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده . . بل قد لمس صلى الله عليه وآله مرات عديدة عنف قريش ضدهم ، فأجابهم بغضب نبوي !
وكانت حجة الوداع فرصةً مناسبةً للنبي صلى الله عليه وآله لكي يبلغ الأمة ولاية الأمر لعترته رسمياً على أوسع نطاق ، حيث لم يبق بعد تبليغ
--------------------------- 88 ---------------------------
الفرائض والأحكام ، واتساع الدولة الإسلامية ، والمخاطر المحيطة بها ، وإعلان النبي صلى الله عليه وآله قرب رحيله إلى ربه . . إلا أن يرتب أمر الحكم من بعده .
بل تدل النصوص ومنطق الأمور ، على أن ذلك كان الهم الأكبر للنبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع ، وأن قريشاً كانت تعرف جيداً ماذا يريد صلى الله عليه وآله ، وتعمل لمنعه من إعلان ذلك ! وأنها زادت من فعاليتها في حجة الوداع لمنع تكريس ولاية علي والعترة عليهم السلام .
ولا يتسع هذا البحث للاستدلال على المفردات التي ذكرناها . . وكل مفردة منها عليها عدة أدلة . . فنكتفي هنا باستطلاع خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع . . حيث ذكرت المصادر أنه صلى الله عليه وآله خطب خمس خطب غير خطبة الغدير ، وكان من حق هذه الخطب النبوية أن تنقلها المصادر كاملة غير منقوصة ، لأن المستمعين كانوا عشرات الألوف . . ولكنك تراها مجزأة مقتضبة ، خاصة في الصحاح المعتمدة رسمياً عند الخلافة القرشية . قال في السيرة الحلبية : 3 / 333 :
( خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة ، والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر بمنى ، والرابعة يوم القر بمنى ، والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً ) . انتهى .
وقد راجعنا نصوص هذه الخطب من أكثر من مائة مصدر ، فوجدنا فيها الغرائب والعجائب ، من التعارض والتضارب ، والمؤشرات والأدلة على تدخلات قريش ورواتها في نصوصها ! ! وكل ذنب هذه الخطب أن النبي صلى الله عليه وآله أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده ، وحذرهم من
--------------------------- 89 ---------------------------
الاختلاف بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ، وأقام عليهم الحجة . . كاملةً غير منقوصة !
لكن رغم التعتيم القرشي ، ما زال منها في المصادر القرشية نفسها ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه ، وتأكيده على الالتزام بقيادة عترته الطاهرين من بعده . . صلى الله عليه وعليهم .
الأحاديث النبوية في الأئمة الاثني عشر
نذكر فيما يلي نصوص أحاديث الأئمة الاثني عشر ، حيث اتفق الجميع على أن النبي صلى الله عليه وآله طرح قضيتهم في خطبه في حجة الوداع !
ثم نستعرض باختصار أهم ما تضمنته الخطب الشريفة من محاور تتعلق بها ، ومنها حديث الثقلين الكتاب والعترة . . وحديث : حوض النبي صلى الله عليه وآله ، والصحابة الذين يمنعون من الورود عليه ، ويؤمر بهم إلى النار !
روى البخاري في صحيحه : 8 / 127 :
( جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش ) !
وفي صحيح مسلم : 6 / 3 :
( جابر بن سمرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : كلهم من قريش ) !
ثم روى مسلم رواية ثانية نحوها ، قال فيها ( ثم تكلم بشيء لم أفهمه ) .
--------------------------- 90 ---------------------------
ثم روى ثالثة ، جاء فيها : ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة ، فقال كلمة صَمَّنِيَها الناس ! فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) . انتهى .
ولم يصرح البخاري ولم يشر إلى أن هذا الحديث جزء من خطبة حجة الوداع في عرفات ! وقلدته أكثر المصادر في ذلك ! لكن عدداً منها ( اشتبه ) ونص عليه ، ففي مسند أحمد : 5 / 93 و 96 و 99 : ( عن جابر بن سمرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات ، فقال . . . ) وفي ص 87 :
( يقول في حجة الوداع . . . ) . وفي ص 99 منه : ( وقال المقدمي في حديثه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب بمنى ) . انتهى .
وستعرف أنه صلى الله عليه وآله كرر هذا الموضوع المهم في عرفات ، وفي منى عند الجمرة يوم العيد ، وفي اليوم الثاني . . ثم في اليوم الثالث في مسجد الخيف . ثم أعلنه صريحاً قاطعاً إلزامياً . . في غدير خم !
- *
فما هي قصة الأئمة الاثني عشر ؟ ولماذا طرحها النبي صلى الله عليه وآله على أكبر تجمع للمسلمين ، وهو يودع أمته ؟ !
يجيبك البخاري : إن الأئمة بعد النبي أبو بكر وعمر ، وهؤلاء ليسوا أئمة تجب طاعتهم دون سواهم ، بل هم أمراء صالحون سوف يكونون في أمته في زمن ما ، وقد أخبر صلى الله عليه وآله أمته بما أخبره الله تعالى من أمرهم ، وأنهم جميعاً من قريش ، لا من بني هاشم وحدهم ، بل من البضع وعشرين قبيلة التي تتكون منها قريش ، وليس فيهم من الأنصار ، ولا من قبائل العرب الأخرى ، ولا من غير العرب . . وهذا كل ما في الأمر .
--------------------------- 91 ---------------------------
وتسأل البخاري : لماذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله أمته في حجة الوداع في عرفات بهؤلاء الاثني عشر ؟ وما هو الأمر العملي الذي يترتب على ذلك ؟ !
يجيبك البخاري : بأن الموضوع مجرد خبر فقط ، فقد أحب النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر أمته بذلك ، لكي تأنس به ! فكأن الموضوع مجرد خبر صحفي ليس فيه أي عنصر عملي ! !
والنتيجة : أن البخاري لم يروِ في صحيحه في الأئمة الاثني عشر إلا هذه الرواية اليتيمة المجملة المبهمة ، التي لا يمكنك أن تفهمها أنت ولا قومك !
بينما روى عن حيض أم المؤمنين عائشة في حجة الوداع روايات عديدة ، واضحة مفهومة ، تبين كيف احترمها النبي صلى الله عليه وآله ، وأرسل معها من يساعدها على إحرامها وعمرتها . . إلخ . - *
أما مسلم فكان أكرم من البخاري قليلاً ، لأنه اختار رواية يفهم منها أن هؤلاء الاثني عشر هم خلفاء ، يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله !
ويفرح المسلم بحديث مسلم هذا ، لأنه يعني أن الله تعالى قد حل مشكلة الحكم في الأمة بعد نبيه صلى الله عليه وآله ، فهؤلاء أئمة معينون من الله تعالى على لسان نبيه ، ويستمدون شرعيتهم من هذا التعيين ، ولا يحتاج الأمر إلى سقيفة واختلافات ثم إلى صراع دموي على الحكم من صدر الإسلام إلى يومنا هذا . . وملايين الضحايا على مذبح الخلافة . . وانقساماتٍ في الأمة أدت إلى تراكم ضعفها . . حتى انهارت خلافتها وكيانها على يد العثمانيين !
ولكن رواية مسلم تقول : كلا لم تحل المشكلة ، لأن النبي أخبر عنهم إخباراً مجملاً ! ولم يخبر المسلمين عن هويتهم وأسمائهم ؟ ولم يسأله أحد من عشرات الألوف الذين أخبرهم بهذا الموضوع الخطير : من هم يا رسول الله ؟ !
--------------------------- 92 ---------------------------
ولو أن أحداً سأله عنهم فسماهم أو سمى الأول منهم ، لرضيت بذلك كل قبائل قريش وسلمت إليهم الأمر ولم تنازعهم ، لأنها قبائل مؤمنة مخلصة ، مترفعة عن حطام الدنيا ، مطيعة لله تعالى ولرسوله ! !
وكأن مسلماً يقول : مع أن روايتي فيها إضافة على ما رواه البخاري فأنا لا أزيد على ما قال : كلا ، كلا . . إن هؤلاء الأئمة هم أناس ربانيون فقط ، يعز الله بهم الإسلام . . وهم من قريش . . من قريش . . هذا كل ما في الأمر ! !
وهكذا لا يمكنك أن تصل من البخاري ومسلم إلى نتيجة مقنعة في أمر هؤلاء الأئمة الاثني عشر . . فقد أقفل الشيخان عليك الأبواب ، وقالا لك مقولة قريش : إن نبيك تحدث في حجة الوداع عن رائحة الأئمة الاثني عشر فقط . . فَشُمَّهَا واسكت !
ولكنك لا تعدم الكشف عن عناصر مفيدة من مصادر قرشية أخرى ، أقل مراعاة من البخاري ومسلم للسياسة وأهلها ، أو أن ظروف أصحابها أحسن من ظروفهما ! فقد رووا كلمة ( بعدي ) بصيغ أكثر دلالة على أنهم يكونون مباشرة بعد النبي صلى الله عليه وآله .
فقد روى أحمد في مسنده : 5 / 92 : عن نفس الراوي جابر السوائي قال : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون ( بعدي ) . . وروى في نفس الصفحة عن نفس الراوي جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش . قال ثم رجع إلى منزله فأتته قريش فقالوا : ثم يكون ماذا ؟ قال ثم يكون الهرج . انتهى . ففي الروايتين كلمة ( بعدي ) التي يفهم منها أنهم يكونون بعده مباشرة . والرواية
--------------------------- 93 ---------------------------
الثانية تكشف عن اهتمام قريش بالموضوع ، وسؤالهم عن هؤلاء الأئمة الربانيين ، وأن القصة في المدينة ، لا في حجة الوداع ، فاحفظ ذلك لما يأتي !
وقد وردت كلمة بعدي ، ومن بعدي ، في عدد من روايات الحديث .
منها ما رواه أحمد أيضاً في : 5 / 94 : عن نفس الرواي ( يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك ، فسألت القوم . . ) . وفي : 5 / 99 و 108 : عن السوائي أيضاً ( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، فتكلم فخفي علي ، فسألت الذي يليني أو إلى جنبي ، فقال : كلهم من قريش ) .
وفي سنن الترمذي : 3 / 340 :
( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، قال : ثم تكلم بشيء لم أفهمه ، فسألت الذي يليني ، فقال قال : كلهم من قريش ) .
وفي تاريخ البخاري : 1 / 446 رقم 1426 :
عن جابر بن سمرة أيضاً أنه سمع النبي قال : يكون بعدي اثنا عشر خليفة .
وفي الصواعق المحرقة لابن حجر / 20 :
قال : خرج أبو القاسم البغوي بسند حسن ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون خلفي اثنا عشر خليفة . انتهى . - *
إذن ، فقد طرح النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع أمر الحكم
من بعده ، وأخبر عن ربه عز وجل بأن حكم الأمة الشرعي يكون لاثني عشر ! ولكن ذلك لا يحل مشكلة الباحث ، بل يفتح باب الأسئلة على قريش ورواتها :
--------------------------- 94 ---------------------------
السؤال الأول : لماذا نرى أن روايات هذه القضية الضخمة تكاد تكون محصورة عندهم براوٍ واحد ، هو جابر السوائي ، الذي كان صغيراً في حجة الوداع ، ولعله كان صبياً ابن عشر سنوات ! ألم يسمعها غيره ؟
ألم يروها غيره من كل الصحابة الذين كانوا حاضرين ؟ !
أم أن غيره رواها . . ولكن رواية جابر فازت بالجائزة لأنها أحسن رواية ملائمة للخلافة القرشية ، فاعتمدتها وسمحت بتدوينها !
السؤال الثاني : كان المسلمون يسألون النبي صلى الله عليه وآله عن صغير الأمور وكبيرها ، حتى في أثناء خطبه ، وهذه الروايات تقول إنه أخبرهم بأمر كبير خطير ، عقائدي ، عملي ، مصيري ، مستقبلي . . وتدعي أنه أجمله إجمالاً ، وأبهمه إبهاماً . . ثم لا تذكر أن أحداً من المسلمين سأله عن هؤلاء الأئمة الربانيين ، وما هو واجب الأمة تجاههم ؟ !
وإذا كانت ( قريش ) قد ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وآله في بيته في المدينة ، كما يقول نفس الراوي ، وطرقت عليه بابه لتسأله عما يكون بعد مضي هؤلاء الاثني عشر وانتهاء عهودهم . . فهل يعقل أنها لم تسأله عنهم ، وعما يكون في زمانهم ؟ ( وقريش في المدينة تعني عند الرواة عمر وأبا بكر فقط ؟ ! ) إذن . . قريش سألته عنهم في المدينة . . فأين جوابه ؟ !
وهل يعقل أن أحداً من المسلمين في حجة الوداع من قريش وغير قريش ، لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله عنهم ، ولا عما يكون قبلهم ، وبعدهم ، وعن واجب الأمة تجاههم . . فأين جواب النبي صلى الله عليه وآله ؟ ! !
السؤال الثالث : لماذا خفيت على الراوي الكلمة الحساسة ، التي تحدد هوية الأئمة الاثني عشر ، حتى سأل عنها الراوي القريبين منه ؟ !
--------------------------- 95 ---------------------------
ثم رووها عن النبي صلى الله عليه وآله في المدينة أيضاً ، فخفيت نفس الكلمة ! يا سبحان الله ! !
ثم . . لماذا تؤكد مصادر الخلافة القرشية على نقل الكلمة المفقودة عن سمرة وأبيه وعمر بن الخطاب فقط ؟ ! . . .
إلى آخر الأسئلة التي تزدحم على نص هذا الحديث ، وتلح على الباحث أن يبحث عنها في أسواق الحديث والتاريخ ؟ !
سنحاول في الملاحظات والمسائل التالية ، أن نسلط الضوء على كلمة السر المفقودة ! !
المسألة الأولى : أن أصل : كلهم من قريش . . كلهم من أهل بيتي
ما هو السبب في غياب الكلمة على الراوي ؟
ومن الذي سأله عنها فشهد له بها ؟ جاء في مسند أحمد : 5 / 100 و 107 :
أن الراوي نفسه لم يفهم الكلمة ، وخفيت عليه ، قال ( ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي : ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش ) .
وفي مستدرك الحاكم : 3 / 617 :
( وقال كلمة خفيت علي ، وكان أبي أدنى إليه مجلساً مني فقلت :
ما قال ؟ فقال كلهم من قريش ) .
وفي مسند أحمد : 5 / 90 و 98 :
( أن النبي صلى الله عليه وآله نفسه أخفاها وخفض بها صوته ، وهمس بها همساً ! ( قال كلمة خفية لم أفهمها ، قال : قلت لأبي ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش ) .
--------------------------- 96 ---------------------------
وفي مستدرك الحاكم : 3 / 618 :
( ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال : قال يا بني : كلهم من قريش ) .
وفي معجم الطبراني الكبير : 2 / 213 و 214 ح 1794 :
( عن جابر بن سمرة عن النبي قال : يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً ، لا يضرهم من خذلهم ، ثم همس رسول الله صلى الله عليه وآله بكلمة لم أسمعها ، فقلت لأبي ما الكلمة التي همس بها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبي : كلهم من قريش ) .
بينما تقول روايات أخرى إن الذي ضيع الكلمة هم الناس ! وليس الراوي أو النبي . . فالناس - المحرمون لربهم في عرفات ، المودعون لنبيهم صلى الله عليه وآله ، المنتظرون لكل كلمة تصدر منه - صاروا كأنهم في سوق حراج ، وصار فيهم مشاغبون يلغطون عند الكلمة الحساسة ليضيعوها على المؤمنين ، فيضجون ، ويكبرون ، ويتكلمون ، ويلغطون ، ويقومون ، ويقعدون ! !
ففي سنن أبي داود : 2 / 309 :
( قال : فكبر الناس ، وضجوا ، ثم قال كلمة خفية ، قلت لأبي : يا أبة ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) . ومثله في مسند أحمد : 5 / 98 .
وفي مسند أحمد : 5 / 98 :
( ثم قال كلمة أصمنيها الناس ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) . وفي رواية مسلم المتقدمة ( صمنيها الناس ) .
وفي ص 93 :
( وضج الناس . . ثم لغط القوم وتكلموا ، فلم أفهم قوله بعد كلهم ) .
--------------------------- 97 ---------------------------
وفي نفس الصفحة : ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ، ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر خليفة . قال فجعل الناس يقومون ويقعدون . . . ) !
هذا عن سبب ضياع الكلمة ! فهل فهمت ؟ ! !
أما الذين سألهم جابر بن سمرة عن الكلمة ، فتقول أكثر الروايات إنه سأل أباه سمرة ، فتكون الشهادة بتوسيع دائرة الأئمة من هاشم إلى قريش ، متوقفة على وثاقة سمرة الذي لم يثبت أنه دخل في الإسلام ! كما رأيت في روايتي البخاري ومسلم ، وغيرهما . ولكن في رواية أحمد : 5 / 92 :
( فسألت القوم كلهم فقالوا : قال كلهم من قريش ) .
ونحوه في ص 90 ، وفي ص 108 :
( فسألت بعض القوم ، أو الذي يلي : ما قال ؟ قال كلهم من قريش ) .
وفي : 5 / 99 : ( فخفي علي فسألت الذي يليني ) ، ونحوه في : 5 / 108 .
وفي معجم الطبراني الكبير : 2 / 249 ح 2044 :
أن ابن سمرة قال : إن القوم زعموا زعماً أن النبي صلى الله عليه وآله قال إنهم من قريش ! قال : ثم تكلم بشيء لم أسمعه ، فزعم القوم أنه قال : كلهم من قريش ) ! !
فهل يمكن للإنسان أن يقبل خفاء أهم كلمة عن الأئمة الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله ، وفي مثل ذلك الجو الهادئ المنصت في عرفات ! وأن أحداً من الئة وعشرين ألف مسلم الذين كانوا يستمعون إلى نبيهم وهو يودعهم . . لم يسأل النبي عن الكلمة الخفية التي هي لب الموضوع ؟ !
--------------------------- 98 ---------------------------
ومما يكشف لك الحقيقة أن جابر بن سمرة نفسه روى أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب وهو راكبٌ على ناقته ، وهذا يعني أنه كان حريصاً على أن يوصل صوته إلى الجميع ! ففي مسند أحمد : 5 / 87 :
( ثم خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وكان أبي أقرب إلى راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ! انتهى . !
بل رووا أنه النبي صلى الله عليه وآله أمر شخصاً جَهْوَرِيّ الصوت فكان يلقي خطبته جملة جملةً ، وكان يأمره أن ( يصرخ ) بها ليسمعها الناس !
ففي مجمع الزوائد : 3 / 270 :
عن عبد الله بن الزبير قال : كان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو الذي كان يصرخ يوم عرفة تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصرخ - وكان صيِّتاً - أيها الناس أتدرون أي شهر هذا ؟ فصرخ ، فقالوا : نعم ، الشهر الحرام . قال فإن الله عز وجل قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا . ثم قال : أصرخ : هل تدرون أي بلد هذا . . . إلخ .
وعن ابن عباس . . . فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت ثدي ناقته ، وكان رجلاً صيتاً ، فقال : أصرخ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا . . . إلخ . رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات . انتهى .
- *
والذي يزيد في ترجيح أن النبي قال ( من عترتي ) أو ( من أهل بيتي ) ، ولم يقل ( من قريش ) أنهم رووا الحديث عن نفس هذا الراوي بعدة صيغ مختلفة ، ولكن الكلمة المفقودة في الجميع تبقى واحدة لا تتغير . .
--------------------------- 99 ---------------------------
بل رووا عن نفس الراوي أن الحديث صدر من النبي صلى الله عليه وآله في المدينة ، وليس في حجة الوداع في عرفات . . ولكن الكلمة المفقودة تبقى نفسها ، وهي هوية الأئمة الاثني عشر ! ! ففي مسند أحمد : 5 / 97 و 107 :
عن جابر بن سمرة قال : جئت أنا وأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش . انتهى .
ثم رووه عن جابر هذا ، وأن النبي صلى الله عليه وآله بشر بهؤلاء الأئمة الربانيين وهو يخطب في مسجده بالمدينة ، وهو مسجد صغير محدود ، ولكن الكلمة نفسها بقيت خفية على جابر بن سمرة . . حتى سأل عنها الخليفة القرشي عمر بن الخطاب . . فأخبره بها !
ففي معجم الطبراني الكبير : 2 / 256 ح 2073 :
عن جابر بن سمرة : ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يخطب على المنبر ويقول : اثنا عشر قيماً من قريش ، لا يضرهم عداوة من عاداهم ، قال : فالتفت خلفي ، فإذا أنا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي في ناس ، فأثبتوا لي الحديث كما سمعت ) . انتهى .
وقال عنه في مجمع الزوائد : 5 / 191 : رواه البزار عن جابر بن سمرة وحده ، وزاد فيه : ثم رجع ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى بيته ، فأتيته فقلت : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج . ورجاله ثقات . انتهى .
وعلى هذا صار الحديث : اثني عشر قيماً والناس يعادونهم ! ! وصار الذي أثبت له هوية هؤلاء القيمين على الأمة جماعة فيهم عمر وأبوه !
--------------------------- 100 ---------------------------
فقد تغيرت صيغة الحديث ، وصفات الأئمة فيه ، ومكانه ، والشخص الذي سأله عن الكلمة المفقودة ، لكنها ما زالت . . نفسها نفسها ! !
والأعجب من الجميع أنهم رووا الحديث عن راوٍ آخر ، هو أبو جحيفة ، فخفيت عليه نفس الكلمة أيضاً ! ! ولكنه سأل عنها عمه ، وليس أباه !
ففي مستدرك الحاكم : 3 / 618 :
عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : كنت مع عمي عند النبي صلى الله عليه وآله فقال : لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة ، ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال : قال يا بني : كلهم من قريش . انتهى .
وقال عنه في مجمع الزوائد : 5 / 190 : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، والبزار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح . انتهى .
نجد أنفسنا هنا أمام ظاهرة لا مثيل لها في جميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله ! ! وهي تدل بشكل قاطع على أن أمر هذا الحديث مهم جداً جداً ، وأن في الأمر سراً يكمن في كلمة : كلهم من قريش ! !
ويتبادر إلى الذهن هنا افتراض أن يكون الراوي الأصلي للحديث هو عمر وهو الذي صححه لهذا الصبي جابر بن سمرة وأثبته له وأمره أن يرويه هكذا !
فقد روى الخزاز القمي الرازي في كتابه كفاية الأثر / 90 عن عمر وحده ، بدون ابن سمرة وأبيه ، وبدون أبي جحيفة وعمه ، قال الخزاز :
حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله قال : حدثنا الحسن بن علي زكريا العدوي ، عن شيث بن غرقدة العدوي قال : حدثنا أبو بكر محمد بن العلا قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري ، عن شريك بن عبد الله ، عن
--------------------------- 101 ---------------------------
المفضل بن حصين ، عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، ثم أخفى صوته فسمعته يقول : كلهم من قريش .
قال أبو المفضل : هذا غريب لا أعرفه إلا عن الحسن بن علي بن زكريا البصري بهذا الإسناد ، وكتبت عنه ببخارا يوم الأربعاء ، وكان يوم العاشور ، وكان من أصحاب الحديث إلا أنه كان ثقة في الحديث . انتهى .
وبناءاً على هذه الرواية المرجحة عندنا فإن توسيع هوية هؤلاء الأئمة الاثني عشر إلى جميع قريش ، بدل عترة النبي فقط ، أصله رواية عمر !
وهو منسجم مع ما كان يقوله لبني هاشم في حياة النبي وعند وفاته : إن قريشاً تأبى أن تجمع لكم ، يا بني هاشم ، بين النبوة والخلافة ! !
المسألة الثانية : لا يصح الوعد الإلهي بقيادة مجهولة !
إن الوعد النبوي بالاثني عشر إماماً من بعده . . وعدٌ إلهيٌّ من لدن حكيم خبير . . وهو وعد منه سبحانه بأئمة بعد رسوله ، كما هي سنته تعالى في الأمم السابقة ، ورحمةٌ منه لهذه الأمة بحل أصعب مشكلة تواجهها الأمم بعد أنبيائها على الإطلاق !
فهل تقبل عقولنا أن الله تعالى قد أمر رسوله صلى الله عليه وآله بأن يدل أمته على قادة مجهولين ؟ !
نحن نرى أن الله تعالى وعد الأمم السابقة على لسان عيسى عليه السلام برسول يأتي من بعده بخمس مئة سنة ، ومع ذلك سماه باسمه فقال : ( ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . ) سورة الصف - 6 ، صلى الله عليه وآله .
--------------------------- 102 ---------------------------
فكيف يعقل أنه تعالى وعد الأمة الخاتمة على لسان نبيها بقادتها الربانيين ( القيمين على الأمة ) بعد نبيها ثم لا يسمي أولهم على الأقل ، ولا يسمي أسرتهم ، بل يكتفي بالقول إنهم من بضع وعشرين قبيلة تنتمي إلى قريش ! ! إن التصديق بذلك يعني نسبة عدم الحكمة إلى الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وآله ! لأن من شأنه أن يشعل الصراع بين هذه القبائل التي تتنازع على الأمور الصغيرة ، الأقل من السلطة ورئاسة الدولة بآلاف المرات كسرقة جمل في مكة ؟ !
فهل يجرؤ عاقل يعرف صفات ربه ، على نسبة ذلك إلى الله تعالى !
نعم قد يكون من المصلحة في بعض الإخبارات النبوية أن يبدأ النبي صلى الله عليه وآله بإلقائها عامة تثير السؤال ، حتى إذا سأله الناس عنها بينها لهم ، ليكون بيانها بعد سؤالهم أوقع لثبوتها في نفوسهم . . لكن أين أسئلة المسلمين عن هؤلاء الأئمة ، وأجوبة نبيهم صلى الله عليه وآله ؟
إنك لا تجدها إلا في مصادر أحاديث الشيعة فقط !
المسألة الثالثة : من قريش ، لكن من عترة النبي صلى الله عليه وآله
لو غضضنا النظر عن كل الإشكالات على الحديث ، وقبلنا أنه صدر عن النبي صلى الله عليه وآله بصيغته التي صححوها في مصادرهم . . فهو إذن يقول : إن قادة الأمة الخاتمة اثنا عشر ربانياً قيماً على الأمة ، وإنهم من قريش .
ويأتي هنا السؤال : من أي قريش اختارهم الله تعالى ؟
إن بطون قريش أو قبائلها أكثر من عشرين قبيلة . . وقد ثبت في صحاحهم أن الله تعالى اختار قريشاً من العرب ، واختار هاشماً من قريش . . فهل يعقل
--------------------------- 103 ---------------------------
من الحكيم الذي اختار الله تعالى معدن هاشم على غيره ، أن يختار الأئمة الاثني عشر الوارثين لنبيه صلى الله عليه وآله . . من غير بني هاشم ؟ ! !
ففي صحيح مسلم : 7 / 58 :
عن واثلة بن الأسقع : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم . انتهى .
ورواه الترمذي : 5 / 245 ، وقال ( هذا حديث حسن صحيح غريب ) . وقال عنه في ص 243 : ( هذا حديث حسن صحيح ) . ثم روى عدة أحاديث بمضمونه ، منها : عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم ، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض . ( والكبوة المزبلة ! ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ، وخير الفريقين ، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة ، ثم خير البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً ، وخيرهم بيتاً . هذا حديث حسن . وروى نحوه بعده بسند آخر ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب . انتهى .
وفي صحيح البخاري : 4 / 138 :
باب قول الله تعالى : وإذ كر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً . وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة . إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، إلى قوله يرزق من يشاء بغير حساب . قال ابن عباس : وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم ، وآل عمران وآل ياسين ، وآل محمد ، صلى الله عليه وسلم . انتهى .
--------------------------- 104 ---------------------------
ويطول الكلام لو أردنا أن نستعرض ما ورد من القرآن والسنة في اختيار الله تعالى لبني هاشم ، واصطفائهم ، وتفضيلهم ، وحقهم على الأمة .
وليس ذلك إلا بسبب أن النبي صلى الله عليه وآله وعترته منهم ، فهم جوهرة معدن هاشم ، بل هم جوهرة كل بني آدم .
ويمكن للباحث هنا أن يصل بمعادلة بسيطة ، بشهادة البخاري ، إلى أن هؤلاء الأئمة الاثني عشر هم آل محمد صلى الله عليه وآله . . فالأئمة بنص الحديث اثنا عشر اختارهم الله من قريش ، وآل محمد بنص هذا الحديث اصطفاهم الله تعالى كآل إبراهيم . فالأئمة المبشر بهم إذن . . هم آل محمد المصطفون ، المطهرون .
ويؤيد ذلك ما رواه البخاري من أن علياً أول شاكٍ من هذه الأمة يوم القيامة ! فهذا يعني أنه صاحب قضية هامة أعطاها الله الأولوية في محكمته الكبرى على كل قضايا الأمة ، بل على قضايا الأمم قاتبة . . لأنها أعظم ظلامة في تاريخ النبوات والأمم على الاطلاق ! !
قال البخاري في صحيحه : 5 / 6 : ( عن قيس بن عبادة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة ) ! ! انتهى .
وبهذا يمكننا أن نفهم قول علي عليه السلام في نهج البلاغة : 1 / 82 :
والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيزنا ، فكانوا كما قال الأول :
أدمت لعمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلك بالزُّبد المقشرة البُجْرَا
ونحن هبناك لعلاء ولم تكن علياً * وحُطْنَا حولك الجُرد والسمرا
--------------------------- 105 ---------------------------
المسألة الرابعة : أحاديث النبي صلى الله عليه وآله
تفسر الاثني عشر
من المتفق عليه بين المسلمين أن كلامه صلى الله عليه وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً . وذلك أصل عقلائي عند كل الأمم في تفسير نصوص أنبيائها ، فإن أي أمة تجد نصاً عن نبيها بالبشارة باثني عشر إماماً من بعده ، ولا تعرفهم من هم . . تنظر في نصوصه وأقواله وأفعاله الأخرى ، لتعرف منها مقصوده بهؤلاء القادة المبشر بهم على لسانه !
وإذا نظرنا إلى ما صدر عن نبينا الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله في حق عترته : علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم عليهم السلام ، مما اتفق عليه المسلمون ، وحكموا بصحته . . لا يبقى عندنا شك في أنه يقصد هؤلاء الذين مدحهم في مناسبات عديدة ، وبيّن للأمة أن الله تعالى مدحهم في آياته ، وطهرهم من الرجس تطهيراً ، وأوجب على المسلمين مودتهم ، وأوجب عليهم أن يصلوا عليهم معه في صلواتهم ، وحرم عليهم الصدقة ، وجعل لهم الخمس في ميزانية الدولة ، وجعلهم وصيته وأمانته في أمته ، وجعلهم عدلاً لكتاب الله تعالى وسماهم معه ( الثقلين ) .
ولا يتسع المقام لبسط الكلام فيما صدر في حقهم من النبي صلى الله عليه وآله من المديح والتعظيم ، والتحذير من مخالفتهم وظلمهم . . فهذه الأحاديث عبرةٌ لمن كان له قلب ، وكفايةٌ لمن ألقى السمع ، وشهادةٌ لمن أراد الحجة .
- *
--------------------------- 106 ---------------------------
المسألة الخامسة : اثنا عشر إماماً واثنا عشر شهراً
ذكرت روايات الخطب الشريفة في حجة الوداع ، أن النبي صلى الله عليه وآله ذكر الأئمة الاثني عشر ، وذكر استدارة الزمن كأول ما خلق الله الأرض وقرأ الآية : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً .
ففي صحيح البخاري : 5 / 126 :
عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب . انتهى . ورواه أيضاً في 5 / 204 ، و 6 / 235 . وأبو داود في : 1 / 435 . وأحمد في : 5 / 37 .
ورواه في مجمع الزوائد : 3 / 265 : بصيغة أقرب إلى أسلوب النبي صلى الله عليه وآله من رواية البخاري ، جاء فيها : ( ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، ثم قرأ : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم . ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . . ) . انتهى .
وقد ذكر المفسرون والشراح السنيون أن المعنى إلغاء النسيء الذي ابتدعته العرب للأشهر الحرم ، وبذلك يرجع تأخير الزمن والتوقيت إلى هيئته الأولى فلا نسيء بعد اليوم .
ولكنه تفسير غير مقنع ، فإن نسيء العرب لم يكن مؤثراً في الزمن والفلك ، حتى يرجع الزمن إلى حالته الأولى بإلغاء النسيء !
--------------------------- 107 ---------------------------
كما أنه لا دليل على ارتباط استدارة الزمان بالنسيء في كلامه صلى الله عليه وآله ، فهو موضوع مستقل عن النسيء وإن اشتبه الشراح في ربطه به !
وبما أن النبي صلى الله عليه وآله في مقام توديع أمته ، وبيان مرحلة ما بعده من الهدى والضلال ، والعقائد والأحكام ، وطريق الجنة والنار . . فقد يقصد بإخباره باستدارة الزمن : أن مرحلة جديدة بدأت من ذلك اليوم فما بعده ، من قوانين الهداية والإضلال الإلهي . وأن حركة الزمن المادي قوامها الأشهر الإثنا عشر ، وحركة الزمن بقانون الهداية والضلال معالمها الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام ، الذين ينسجم وجودهم التكويني والمادي مع نظام الاثني عشر شهراً في تكوين السماوات والأرض .
ويؤيد ذلك : قداسة عدد الاثني عشر في القرآن ، ونظام الاثني عشر نقيباً الذي شرعه الله في بني إسرائيل ، والإثني عشر حوارياً لعيسى ، وأن النبي صلى الله عليه وآله طلب من الأنصار في أول بيعتهم له أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً . . ثم بشر الأمة بالأئمة الاثني عشر من بعده . .
بل تدل الأحاديث الشريفة على أن معالم الضلال في الأمة بعد النبي تتمثل في اثني عشر ( إماماً ) مضلاً من أصحابه ، وقد شدد النبي صلى الله عليه وآله على التحذير منهم ! فمقابل كل إمام هدى إمام ضلال ، كما أن مقابل كل نبي عدو من المجرمين ، يعمل لإضلال الناس !
قال الله تعالى : ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً . يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً . لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، وكان الشيطان للإنسان خذولاً . وقال الرسول يا رب إن قومي
--------------------------- 108 ---------------------------
اتخذوا هذا القرآن مهجوراً . وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً . سورة الفرقان : 27 - 31 .
وفي صحيح مسلم : 8 / 122 - 123 :
قال النبي صلى الله عليه وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن في أمتي - قال شعبة : وأحسبه قال : حدثني حذيفة ، وقال غندر : أراه قال : في أمتي - اثنا عشر منافقاً ، لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة ، سراج من النار يظهر في أكتافهم ، حتى ينجم من صدورهم .
حدثنا أبو الطفيل قال : كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟ !
قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك .
قال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . انتهى . ورواه أحمد في : 4 / 320 ، وغيرها ، ورواه كثيرون .
والنتيجة : أنه لا يبعد أن يكون قصد النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر المسلمين بأن الله تعالى أقام الحياة البشرية من يوم خلق السماوات والأرض ، وخلق الجنس البشري ، على قانون الهداية والضلال بإتمام الحجة ، وإمهال الناس ليعملوا بالهدى أو بالضلال . . فكان لا بد من وجود عنصري الهدى وعناصر الضلال معاً ، كعنصري السلب والإيجاب في الطاقة ، فألهم النفس
--------------------------- 109 ---------------------------
البشرية فجورها وتقواها ، وأنزل آدم إلى الأرض ومعه إبليس ، وبعث الأنبياء عليهم السلام ومع كل نبي عدو مضل أو أكثر ، وجعل بعدهم أئمة ربانيين يهدون ، وأئمة ضلال منافقين يضلون . . وعدد كل منهم في هذه الأمة اثنا عشر . . وأنه قد بدأت بهم دورة جديدة من الهدى والضلال ، كما بدأت بآدم وإبليس . . ولذلك استدار الزمن كهيئته في أوله بانتهاء الفترة ، ووضوح الحجة . ويؤيد هذا الدليل العقلي صريح ما ورد من طريق أهل البيت عليهم السلام في تفسير آية ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ) .
المسألة السادسة : راوي الحديث جابر السوائي
روت مصادر السنيين حديث الأئمة الاثني عشر عن عدة رواة . وهم : عبد الله بن مسعود . وأبو جحيفة . وجابر بن سمرة السوائي ، وهذا الأخير أهمهم ، لأن الصحاح اعتمدت روايته كما تقدم . وهو جابر بن سمرة بن جنادة . وقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب : 2 / 35 في نسبه ( يُقاليْن ) :
فقال : يقال ( ابن عمرو بن جندب بن حجير ابن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة السوائي . ويقال : من قبيلة عامر بن صعصعة .
ويؤيد هذا الشك أن الذهبي قال في ترجمته : 3 / 187 : ( وهو وأبوه من حلفاء زهرة ) انتهى . فولو كان من بني عامر بن صعصعة ، لم يحتج أن يكون حليفاً لأنهم قرشيون على السواء مع بني زهرة !
وسمرة هذا ، من الطلقاء . فقد قال في تهذيب التهذيب : 4 / 206 : ( وقرأت بخط الذهبي إنما مات في ولاية عبد الملك ابنه جابر ، وأما سمرة فقديم . وذكر ابن سعد أنه أسلم عند الفتح ، ولم أقف على من أرخ وفاته غير من تقدم ) .
--------------------------- 110 ---------------------------
انتهى . ويفهم منه أن الذهبي يشك في أن سمرة قد أسلم ، ولذا قال أن ابن سعد ذكر ذلك . ولكن البخاري قال في التاريخ الكبير : 4 / 177 : ( إن لسمرة هذا صحبة ) . انتهى .
أما جابر ابنه فهو فرخُ طليق ، فقد كان صغيراً عند فتح مكة ، لأنه توفي سنة 76 ، ولأنه يروي أن النبي صلى الله عليه وآله مسح على خد الصبيان المصلين في المدينة بعد الفتح وكان منهم . ( سير أعلام النبلاء : 3 / 187 ) .
ولعل جابر بن سمرة عاش في كنف خاله سعد بن أبي وقاص في المدينة ، وقد روي أنه اشترك في فتح المدائن ، ثم سكن الكوفة وابتنى بها داراً . ( أسد الغابة : 1 / 254 ) . وعلى هذا يكون جابر في حجة الوداع صبياً صغيراً أو مراهقاً ، ويكون الراوي الوحيد المعتمد في الصحاح لحديث أئمة هذه الأمة بعد نبيها . . هذا الصبي الطليق من حلفاء قريش !
فاعجب ما شئت لشيوخ قريش ، وكبار الصحابة ، حيث لم يكن عندهم ذكاء هذا الصبي الطليق ، واهتمامه بمستقبل الأمة ، وأئمتها الربانيين !
أو فاعجب للخلافة القرشية كيف سيطرت على مصادر الحديث النبوي عند السنيين ، فلم تسمح بتدوين حديث في الأئمة الاثني عشر ، الذين بشر بهم رسول رب العالمين صلى الله عليه وآله . . إلا حديث هذا الصبي ! !
المسألة السابعة : درجات الصحة التي منحوها للأحاديث الثلاثة
في مصادر السنيين ثلاث صيغ لحديث الأئمة الاثني عشر ، وثلاثة رواة :
وقد اتفقوا على تصحيح حديث جابر بن سمرة ، وعلى تحسين حديث أبي جحيفة المشابه له ، وبعضهم صححه . واختلفوا في تصحيح حديث ابن
--------------------------- 111 ---------------------------
مسعود الذي يختلف عنهما ، بحجة أن في سنده مجالد بن سعيد ، الذي لم يوثقه إلا النسائي وبعض علماء الجرح والتعديل ، وضعفه آخرون .
ولا بد أن نضيف إلى رواة الحديث راويين آخرين هما : سمرة السوائي والد جابر وعمر بن الخطاب ، لأن الروايات تقول إنه سألهما عن الكلمة الخفية فأخبراه بها . بل يجب أن نعد عمر بن الخطاب راوياً مستقلاً ، كما تقدم في رواية كفاية الأثر . . وإليك جانباً من كلماتهم في حديث ابن مسعود :
قال في مجمع الزوائد : 5 / 190 :
باب الخلفاء الاثني عشر : عن مسروق قال : كنا جلوساً عند عبد الله وهو يقرؤنا القرآن فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟
فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد مذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل . رواه أحمد وأبو يعلى والبزار ، وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه الجمهور ، وبقية رجاله ثقات . انتهى .
وقال الحاكم : 4 / 501 : بعد رواية هذا الحديث : لا يسعني التسامح في هذا الكتاب عن الرواية عن مجالد وأقرانه ، رحمهم الله . انتهى .
ولكن ابن حجر حسنه فقال في الصواعق المحرقة / 20 : فقال : ( وعن ابن مسعود بسند حسن ) .
وكذا السيوطي في تاريخ الخلفاء / 10 ، حيث قال : ( وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود ) .
--------------------------- 112 ---------------------------
وكذا البوصيري حيث نقل عنه في كنز العمال : 6 / 89 : ( رواه مسدد وابن راهويه وابن أبي شيبة وأبو يعلى وأحمد بسند حسن ) .
وقد روت مصادرهم حديث ابن مسعود مثل : أحمد : 1 / 398 و 406 . وكنز العمال 6 / 89 ، عن طبقات ابن سعد وابن عساكر ، وفي 12 / 32 ، عن أحمد . والطبراني ، وابن حماد . . وغيرهم .
وإذا كانت علة رواية ابن مسعود عندهم وجود مجالد ، فقد روته مصادرنا بسند ليس فيه مجالد ، كما في كتاب الإختصاص للصدوق / 233 ، وكفاية الأثر للخزاز / 73 ، والغيبة للنعماني / 106 ، وسيأتي بعض ذلك .
ولكن ذلك لا يشفع للحديث عند إخواننا السنيين ولا يجعله يستحق أكثر من لقب ( حسن ) ! بل يبدو أن هذه الدرجة من الصحة ثقيلة عليهم ، لأن مشكلته الأصلية عندهم أنه لم يذكر عبارة ( كلهم من قريش ) وأنه يفهم منه أن هؤلاء الأئمة الربانيين يجب أن يكونوا حكام الأمة بعد نبيها . فهو يضع علامة استفهام كبيرة على ما تم في السقيفة في غياب بني هاشم ، وانشغالهم بجنازة النبي صلى الله عليه وآله ! !
المسألة الثامنة : تضارب متون الأحاديث الثلاثة
روت مصادر السنيين حديث الأئمة الاثني عشر عن جابر بن سمرة بصيغتين ، وجاء حديث أبي جحيفة بإحداهما ، وانفرد حديث ابن مسعود بصيغته . . فتكون الصيغ ثلاثاً :
الأولى : مفادها أن هؤلاء الموعودين يكونون بعد النبي صلى الله عليه وآله وأنهم من قريش . وهذا مضمون أكثر روايات ابن سمرة . وقد عرفت أن أنهم صححوا هذه الصيغة ، ومنهم الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1075 .
--------------------------- 113 ---------------------------
الثانية : أن هؤلاء الأئمة الاثني عشر يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله وأنهم من قريش ، وأن الإسلام لا يزال عزيزاً مدة حكمهم ، ثم يضعف ويذل أو ينهار . وهي صيغة عدد من روايات جابر بن سمرة ، وصيغة كل روايات أبي جحيفة أيضاً . وقد صححها كثير من علمائهم ، ومنهم الألباني في سلسلته أيضاً برقم 376 ، قال : عن ابن سمرة ، وحسن رواية أبي جحيفة ، وجعل رواية ابن مسعود شاهداً على صحتهما ، ورد زيادة أبي داود وغيره التي تصف هؤلاء الأئمة بأن الأمة تجتمع عليهم ، ووصف هذه الزيادة بأنها منكرة .
الثالثة : أنهم يكونون بعد النبي صلى الله عليه وآله كأوصياء موسى وعيسى عليهم السلام بدون ذكر قريش . وهي صيغة أكثر روايات حديث ابن مسعود .
- *
وأهم ملاحظة على هذه الأحاديث وصيغها ، تفاوتها واضطرابها ، وهو أمر غير مقبول في حديث من هذا النوع . . وتعارض لا يقبل الحل ، لأنه موجود حتى في الصيغ والألفاظ المنقولة عن الراوي الواحد !
فلو وجدنا نصاً متضارباً شبيهاً لأحديث الأئمة الاثني عشر عن شيخ قبيلة صغيرة ، قاله لقبيلته وهو يودعها قبل موته ، وأخبرها بفراسته عن شيوخها الذين سيحكمونها من بعده . . لقلنا بوقوع تحريف في كلامه !
فكيف نقبل بذلك لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسيد البلغاء ، وهو يودع خاتمة الأمم ، ويخبرها عن ربه بأئمتها من بعده ، وعلى أوسع ملأ من جماهيرها ! !
--------------------------- 114 ---------------------------
التهمة بالدرجة الأولى هي احتمال تحريف هوية هؤلاء الأئمة . . والمتهم هو المستفيد من ذلك ، وهو السلطة التي حكمت بعد النبي صلى الله عليه وآله وهي التي أبعدت أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله عن الحكم ، بل بادرت إلى بيعة السقيفة بدون أن تخبرهم ، مغتنمةً انشغالهم بجنازة النبي صلى الله عليه وآله ! !
وتتأكد التهمة لرواة الحديث عند الباحث المحايد عندما يجد أن التفاوت والتعارض ، قد تركز على صفة هؤلاء الأئمة الموعودين ومقامهم الإلهي ، وهويتهم ، ونسبهم ، ووقتهم ، ومدتهم !
وهو أمر يضعف الثقة بصيغ الحديث في مصادر السنة ، ويقوي الثقة بصيغة المتوافقة المجمع على مضمونها الواردة في مصادرنا ، والتي تقول إنه صلى الله عليه وآله قال لهم إنهم من عترته غرسوا في هذا الحي من بني هاشم ، وإنهم علي والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين عليهم السلام .
ولهذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يجاهر بهذه الحقيقة ، ويصدع بها على منبر الخلافة فيقول ( نهج البلاغة : 2 / 27 ) :
( أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم . بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى . إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم . لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ) ! !
--------------------------- 115 ---------------------------
المسألة التاسعة : الأئمة الإثنا عشر لا يحتاجون
إلى اختيار ولا بيعة
وهذا واضح من الحديث . . فما دام الله تعالى قد اختارهم ، فواجب الأمة أن تطيعهم ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ) فهم يستمدون شرعيتهم من رب الأمة ، ورب الناس ومالكهم ، وهو الحكيم الخبير بما يصلح عباده . . واختياره للناس أفضل من اختيارهم لأنفسهم ، وألزم .
فالأئمة الإثنا عشر من هذه الناحية مفروضو الطاعة من الله تعالى شبيهاً بالأنبياء عليهم السلام ، والنبي لا يكون بالانتخاب ، ولا يحتاج إلى أن يبايعه الناس . . بل لو لم يبايعه أحد من الناس ، وآذوه وقتلوه . . فإن ذلك لا ينقص من وجوب طاعته شيئاً ! ولو بايعه كل الناس لكان معناه اعترافهم بحق الطاعة الذي جعله الله له ، وإعلان التزامهم به ، لا أكثر .
فبيعة الناس للأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام إنما هي بيعة اعتراف والتزام بحقهم في الإطاعة ، وهي تؤكد هذا الحق ، ولا تنشؤه .
وهذا هو السبب في أن النبي صلى الله عليه وآله كان يأخذ البيعة على المسلمين في المنعطفات الهامة في حياة الأمة ، ليؤكد بذلك عليهم الالتزام بإطاعته في السراء والضراء ، والحرب والسلم ، وفيما أحبوا أو كرهوا !
وهذا هو السبب نفسه في أن النبي صلى الله عليه وآله بعد أن بلغ الأمة ولاية علي عليه السلام في غدير خم ، أمر بأن تنصب له خيمة وأن يهنئه المسلمون بولايته التي أمر الله تعالى بها . . أن يهنئوه تهنئة ، ثم يبايعوه . .
--------------------------- 116 ---------------------------
فالإختيار الإلهي قد تم ، وهو يحتاج إلى قبول وتهنئة ، ولا يحتاج إلى مشورتهم ولا إلى بيعتهم . . لكن لو طلبها النبي صلى الله عليه وآله منهم وجبت عليهم . . ولو طلبها علي منهم ، وجبت عليهم أيضاً .
ولهذا لا تنفع مناقشة المناقشين بأن ما طلبه النبي صلى الله عليه وآله من المسلمين في الغدير كان مجرد التهنئة لعلي عليه السلام بالولاية ، ولم يكن البيعة . . لأن صدور الأمر الإلهي بولاية أحد يفرغ البيعة البشرية من القوة الإنشائية ، ويحصر قيمتها في الاعتراف والالتزام بالأمر الإلهي ، عندما يطلبها منهم النبي صلى الله عليه وآله أو الولي عليه السلام .
والقاعدة الكلية في هذا الموضوع : أن الأمة إنما تملك الولاية على نفسها واختيار حكامها - في حدود ما ثبت في الشريعة المقدسة - في حالة عدم اختيار الله تعالى لأحد . . أما إذا اختار عز وجل إماماً فقد قضي الأمر ، ولم يبق معنىً لاختيار الأمة لحاكم آخر ، إلا أنها تتفلسف في مقابل ربها عز وجل وتخالف اختيار مالكها الحكيم سبحانه !
المسألة العاشرة : قرشية الحديث ألقاها عمر في البحر
من المفارقات في منطق عمر بن الخطاب مؤسس نظام الخلافة القرشية ، أنه هو الذي رفع راية ( أن الخليفة من قريش والخلافة لا تكون إلا في قريش ) ، فقد احتج على الأنصار في السقيفة بأن قريشاً قبيلة النبي صلى الله عليه وآله فهم أحق بسلطانه . . فمن ذا ينازعنا سلطان محمد ونحن قومه وعشيرته ؟ !
وكان هدفه من ذلك تسكيت الأنصار ، الذين يعيش القرشيون في بلدهم وضيافتهم ، حتى لا يقولوا نحن نصرناه ونحن أولى بخلافته ! ! وقد نجح عمر بهذا
--------------------------- 117 ---------------------------
المنطق القبلي في السقيفة ، بسبب تفرق كلمة الأنصار ، رغم مخالفة رئيسهم سعد بن عبادة مخالفة عنيفة .
ولكن عمر نفسه عند وفاته تخلى عن مبدأ قرشية الخليفة ، وألقى به في البحر ، وأكد أنه لو كان سالم الفارسي مولى أبي حذيفة الأموي حياًّ ، لعهد إليه بالخلافة ! ! ففي تاريخ المدينة : 3 / 140 :
( عن عبد الله بن بريدة : لما طعن عمر رضي الله عنه قيل له : لو استخلفت ؟ قال : لو شهدني أحد رجلين استخلفته أني قد اجتهدت ولم آثم أو وضعتها موضعها : أبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة ! ! ) .
وفي مجمع الزوائد : 4 / 220 :
( عن أبي رافع أن عمر بن الخطاب كان مستنداً إلى ابن عباس وعنده ابن عمر وسعيد بن زيد فقال : إعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئاً ، ولم أستخلف من بعدي أحداً ، وأنه من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حر من مال الله عز وجل .
فقال سعيد بن زيد : أما إنك لو أشرت برجل من المسلمين لائتمنك الناس ، وقد فعل ذلك أبو بكر ، وائتمنه الناس .
فقال عمر : قد رأيت من أصحابي حرصاً سيئاً ، وإني جاعل هذا الأمر إلى هؤلاء النفر الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض .
ثم قال : لو أدركني أحد رجلين ، ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت : سالم مولى أبي حذيفة ، وأبو عبيدة بن الجراح ) . انتهى .
وبذلك فتح عمر الباب لأبي حنيفة وغيره ، ليلغوا هذا الشرط من الخلافة الإسلامية ، وقد استفاد من فتواه السلاجقة والمماليك ، ثم تبنى العثمانيون
--------------------------- 118 ---------------------------
مذهب أبي حنيفة ، ونشروا فقهه بسبب فتواه في الخلافة ، وتسموا بخلفاء النبي صلى الله عليه وآله .
موقف الوهابيين من شرط القرشية في الحاكم
نشترط نحن الشيعة الإمامية في الأئمة أن يكونوا من قريش من عترة النبي صلى الله عليه وآله بسبب ثبوت النص عليهم بأسمائهم وعددهم عليهم السلام فالإمامة عندنا لا تثبت إلا بالنص فقط ، والنص إنما هو على هؤلاء الاثني عشر عليهم السلام .
وبما أن خاتمهم الإمام المهدي عليه السلام غائب ، فالحكم في الأمة في عصرنا يكون بالوكالة عنه ، والوكيل لا بد أن تتوفر فيه شروط الفقاهة والعدالة وغيرها ، ولا نشترط فيه أن يكون قرشياً . . وبذلك نلتقي عملياً لا نظرياً مع الذين يسقطون شرط القرشية في الحاكم العادل .
أما إخواننا الشيعة الزيديون ، فالإمامة عندهم غير محصورة بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام . بل مفتوحة لكل عالم من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام ، فهم يشترطون في الإمام الشرعي أن يكون قرشياً علوياً .
وأما المسلمون السنيون ، فمنهم من يوافقنا على إسقاط شرط القرشية في عصرنا ، عملاً بقول الخليفة عمر ، وفتوى أبي حنيفة ، وهم قلة . . ويوجد فقهاء غير عرب من السنيين ولكنهم متعصبون لقريش أكثر من عمر ، وملكيون أكثر من الملك . . ومن هؤلاء أئمة الوهابية ، مثل الألباني ، حيث صحح حديث اشتراط القرشية في الإمام في سلسلة أحاديثه الصحيحة برقم 1552 ، وقال في آخره 4 / 70 : ( ولذلك فعلى المسلمين إذا كانوا صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية ، أن يتوبوا إلى ربهم ويرجعوا إلى دينهم ،
--------------------------- 119 ---------------------------
ويتبعوا أحكام شريعتهم ، ومن ذلك أن الخلافة في قريش ، بالشروط المعروفة في كتب الحديث والفقه ) .
أما في المجلد : 3 / 7 ، فقد صحح حديث الخلافة في قريش برقم 1006 ، وقال في آخره : ( قلت : وفي هذه الأحاديث الصحيحة رد صريح على بعض الفرق الضالة قديماً ، وبعض المؤلفين والأحزاب الإسلامية حديثاً ، الذين لا يشترطون في الخليفة أن يكون عربياً قرشياً . وأعجب من ذلك أن يؤلف أحد المشايخ المدعين للسلفية رسالة في ( الدولة الإسلامية ) ذكر في أولها الشروط التي يجب أن تتوفر في الخليفة ، إلا هذا الشرط ، متجاهلاً كل هذه الأحاديث وغيرها مما في معناها ، ولما ذكرته بذلك تبسم صارفاً النظر عن البحث في الموضوع . ولا أدري أكان ذلك لأنه لا يرى هذا الشرط كالذين أشرنا إليهم آنفاً ، أم أنه كان غير مستعد للبحث من الناحية العلمية .
وسواء كان هذا أو ذاك ، فالواجب على كل مؤلف أن يتجرد للحق في كل ما يكتب ، وأن لا يتأثر فيه باتجاه حزبي أو تيار سياسي ، ولا يلتزم في ذلك موافقة الجمهور أو مخالفتهم ) . انتهى كلام الألباني ، والطريف أنه صحح حديثاً آخر برقم 1851 يقول : ( الخلافة في قريش والحكم في الأنصار والدعوة في الحبشة ) . وعلى فتواه يجب أن يكون الحاكم في عصرنا من قريش من أي قبائلها كان ، وأن يكون الوزراء من الأنصار . . وأن يكون وزير الإرشاد والأوقاف والمفتي وكل من عمله الإعلام والدعوة من الأفارقة ، والأحوط أن يكون من أثيوبيا ! !
ذلك أن الوجوب الذي استفاده من الحديث وأفتى به بوجوب القرشية في الحاكم ، تتساوى فيه الخلافة ، والوزارة ، والدعوة ! !
--------------------------- 120 ---------------------------
لقد فات هذا الشيخ أن فقه الحديث أهم من سنده لأنه متقدمٌ عليه رتبةً ، وأن مثل هذا الحديث بعيدٌ عن منطق النبي صلى الله عليه وآله . . ولو صح فهو يحكي عن ظرف معين ، وليس تشريعاً إلى يوم القيامة !
- *
الحادية عشرة : تخبط الشراح السنيين
في تفسير الأئمة الاثني عشر
إذا أردنا أن نكون أمناء مع النص النبوي ، يلزم أن نقول :
إن كلمة ( من بعدي ) في الحديث الشريف تدل على أن إمامة هؤلاء الاثني عشر تبدأ بعد وفاته صلى الله عليه وآله مباشرة ، ولا تدل على أنهم سيحكمون من بعده ، لأنها إخبار عن وجودهم فقط ، سواء كانوا حكاماً أو محكومين .
بل تدل صيغ الحديث المتقدمة عن ابن سمرة وابن مسعود ، على أن الأمة تخذل هؤلاء الأئمة الاثني عشر وتعاديهم ، وذلك يشمل إبعادهم عن الحكم ، ولكن ذلك لا يضرهم شيئاً .
وقد تقدم في تفسير الطبري ( يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً ، لا يضرهم من خذلهم ، إثنا عشر قيما من قريش لا يضرهم عداوة من عاداهم ) !
وبذلك لا تجد مانعاً من انطباق الحديث على الأئمة الاثني عشر من عترة النبي صلى الله عليه وآله حتى لو لم يحكموا ، أو لم يحكم منهم إلا علي والحسن عليهما السلام ، وسيحكم منهم المهدي الموعود على لسان جده الرسول صلى الله عليه وآله .
--------------------------- 121 ---------------------------
كما أن الأحاديث التي ذكرت ما يكون بعدهم تدل على أن مدتهم طويلة فبعضها ذكر أنه يكون بعدهم الهرج والفوضى والنفاق فأشار إلى انهيار الأمة . وبعضها ذكر أن زمنهم يمتد ما دامت الأرض ، وأن مدتهم إذا تمت ساخت الأرض بأهلها . . وهذا يؤيد نظرية امتداد عصر هؤلاء الأئمة عليهم السلام إلى آخر الدنيا ، كما نصت عليه أحاديثنا .
قال أبو الصلاح الحلبي المتوفى سنة 437 في كتابه تقريب المعارف / 173 :
ورووا عن عبد الله بن أبي أمية مولى مجاشع ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لا يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش ، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها . انتهى . ونحوه في إعلام الورى / 364 ، وهو موافق لما في مصادرنا عن أهمية وجود الحجة لله تعالى في أرضه في كل عصر . .
ففي الكافي : 1 / 179 و 534 :
عن أبي حمزة قال : ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أتبقى الأرض بغير إمام ؟ قال : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ) ! انتهى .
- *
وعلى هذا التفسير لنص الحديث ، يكون هدف النبي صلى الله عليه وآله من طرح الأئمة الاثني عشر في أهم تجمع للمسلمين في حجة الوداع ، هو : توجيه الأمة إليهم . . لو أنها أخذت بحظها وأطاعته فيهم ! بل يمكن القول : إنه يتعين تفسير الحديث بالأئمة الاثني عشر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، لأن كل تفسير له بغيرهم لا يصح بسبب كثرة الإشكالات التي ترد عليه . قال الكنجي الشافعي في ينابيع المودة / 446 :
--------------------------- 122 ---------------------------
( قال بعض المحققين : إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة . . . فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان ، علم أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله من حديثه هذا الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته ، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر ، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر ، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز ، ولكونهم من غير بني هاشم ، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال : كلهم من بني هاشم في رواية عبد الملك ، عن جابر ، وإخفاء صوته صلى الله عليه وآله في هذا القول يرجح هذه الرواية ، لأنهم لا يحسنون خلافة بني هاشم .
ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسية ، لزيادتهم على العدد المذكور ، ولقلة رعايتهم الآية : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ، وحديث الكساء . فلا بد من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه وآله ، لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم ، وأعلاهم نسباً ، وأفضلهم حسباً ، وأكرمهم عند الله . . .
ويؤيد هذا المعنى ، أي أن مراد النبي صلى الله عليه وآله الأئمة الاثني عشر من أهل بيته ، ويشهد له ويرجحه : حديث الثقلين ، والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب ، وغيرها . . .
وفي نهج البلاغة من خطبة علي كرم الله وجهه : أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم . . بنا يستعطى الهدى ، وبنا يستجلى العمى .
--------------------------- 123 ---------------------------
وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وآله ، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه ، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر .
واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه ، فالتمسوا ذلك من عند أهله ، فإنهم عيش العلم وموت الجهل ، هم الذين يخبركم حكمهم عن عملهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ، ولا يختلفون فيه ، وهو بينهم شاهد صادق ، وصامت ناطق ) . انتهى . - *
ولكن عامة الشراح السنيين لا يقبلون هذا التفسير ، ويحذرون أتباعهم من أن يقنعهم الشيعة بأن النبي صلى الله عليه وآله قد نص على الأئمة الاثني عشر من عترته ! ! ويقولون لأتباعهم : إن حديث الأئمة الاثني عشر صحيح مئة بالمئة ، لكن لا تقبلوا تفسير الشيعة ، ونحن إن شاء الله نفسره لكم تفسيراً صحيحاً . . ولكنهم إلى يومنا هذا لم يستطيعوا أن يقدموا لهم تفسيراً مقنعاً للحديث ، ولن يستطيعوا . . لأنهم يريدون تطبيق هؤلاء الاثني عشر على الخلفاء الذين حكموا بعد النبي صلى الله عليه وآله من الخلفاء الأربعة ، وعبد الله بن الزبير ، وسلسلة خلفاء بني سفيان وبني مروان ، ثم بني العباس . . وربما غيرهم من أموي الأندلس ، والسلاجقة ، والمماليك ، والأتراك ! !
--------------------------- 124 ---------------------------
وعندما يجدونهم أضعاف العدد المطلوب ، يلجؤون إلى الفرضيات ، فيختارون أحسن الخلفاء الأمويين والعباسيين ، ويخلعون عليهم صفة الأئمة الربانيين ، فيثبتون هذا ويحذفون ذاك !
اختياراً وحذفاً ( كيفياً ) لمجرد تكميل العدد ! وبعضهم لا يكمل معه العدد ممن اختارهم فيقول : إن الباقين سوف يأتون !
ومن الواضح أنها تطبيقات لا تقف عند حد ، ولا تستند إلى أساس ، وأن الذي يسلكها يكلف نفسه شططاً ، كمن يكلف نفسه بأن يختار اثني عشر شخصاً من رؤساء المسلمين وملوكهم المعاصرين ، ويقول عنهم إنهم قادة ربانيون اختارهم الله تعالى ، ووعد الأمة بهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله ! ولو أن العلماء السنيين فكروا أكثر ، لما جشموا أنفسهم هذه العقبة الكؤود ، وتخلصوا من إشكالات لا فكاك لهم منها :
أولاً : لأن هؤلاء الأئمة الربانيين الموعودين مختارون من الله تعالى ، فلا بد أن يكونوا متفقين ، لأنهم جميعاً على خط واحد وهدى من ربهم ونبيهم . . بينما خلفاء السنيين وأئمتهم مختلفون متقاتلون . . فهل سمعتم بالحرب والقتال بين الأنبياء عليهم السلام حتى تقنعونا بإمكانها بين الأئمة الربانيين عليهم السلام . . وأن بعضهم كان يكيد للآخر ويفسقه ويكفره ، ويذبحه ذبح الخروف ، أو يسمل عينيه ويقطع لسانه ويديه ورجليه ! !
إقرؤوا إن شئتم تاريخ الصراع على الحكم بين الخلفاء الأمويين أنفسهم ، والعباسيين أنفسهم !
وثانياً : لأنهم بإعطاء صفة الإمام من الله تعالى للخليفة الذي يحبونه ، ابتداءً من الخليفة عمر بن الخطاب . . إلى السلطان سليم العثماني ، يصيرون ملكيين
--------------------------- 125 ---------------------------
أكثر من الملك ، وخليفيين أكثر من الخليفة ، ويثبتون لهم ما لم يدعه أحد منهم لنفسه !
فلو كان أحدهم إماماً ربانياً مختاراً من الله تعالى مبشراً به من رسوله . . لعرف نفسه وادعى هو ذلك ! حيث لا يمكن أن يكون شخص إماماً وحجة لله على عباده وحاكماً باسمه . . ثم لا يعرف هو مقامه الإلهي العظيم ! !
ولا نجد أحداً من هؤلاء الخلفاء ادعى أنه إمام من الله تعالى غير الأئمة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله .
وثالثاً : ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وآله قال : إنهم يكونون من بعده . ولم يقل إنهم يحكمون . . فلماذا يلزمون أنفسهم بالعثور على الأئمة الاثني عشر الموعودين في الحكام فقط ؟ ! وإذا ألزم الباحث نفسه في مسألة بما لا يلزم فيها ، فقد تورط فيها وأقام في ورطته !
ورابعاً : إن الذين يعدونهم أئمة ربانيين ، مبشراً بهم من رب العالمين ، قد ثبت أن أكثرهم قد لعنهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وآله ! ! فهل رأيتم أمة يحكمها بأمر الله تعالى الملعونون على لسان نبيها ؟ ! !
وكيف يلعن الله تعالى أشخاصاً ويحكم عليهم بالطرد من رحمته لخبثهم ، ثم يختارهم أو يختار من أولادهم أئمةً ربانيين ، هداةً لعباده ، وحكاماً لبلاده ! !
فقد ثبت في مصادر السنيين أن النبي صلى الله عليه وآله قد لعن الحكم وابنه مروان ، ونفاهما من المدينة حتى أعادهما عثمان ، وأنه رأى أبا سفيان راكباً على جمل يجره معاوية ويقوده ولده الآخر ، فلعن الراكب والقائد والسائق ( راجع مجمع الزوائد : 1 / 113 ) إلى آخر هذا البحث الذي لا يتسع له موضوعنا ، ولا تتسع له صدور أتباع الأمويين !
--------------------------- 126 ---------------------------
ولهذه الأسباب كثرت أقوالهم واحتمالاتهم في تفسير الأئمة المبشر بهم ، ولعلها زادت عن الثلاثين قولاً ! وكلها معلولة ينقضها الحديث الشريف ، وينقض بعضها بعضاً . . ولعل أقدمها قول ابن حبان الذي نقله عنه في عون المعبود في شرح سنن أبي داود : 11 / 361 : قال :
( وأما : الخلفاء اثنا عشر ، فقد قال جماعة منهم أبو حاتم بن حبان وغيره : إن آخرهم عمر بن عبد العزيز ، فذكروا الخلفاء الأربعة ، ثم معاوية ، ثم يزيد ابنه ، ثم معاوية بن يزيد ، ثم مروان بن الحكم ، ثم عبد الملك ابنه ، ثم الوليد بن عبد الملك ، ثم سليمان بن عبد الملك ، ثم عمر بن العزيز . وكانت وفاته على رأس المائة ) . انتهى .
ولكن هذا التفسير الأموي لابن حبان وجماعته ، قد نسخه العلماء الذين جاؤوا من بعدهم وأحبوا العباسيين ، فأدخلوا بعضهم في بشارة النبي صلى الله عليه وآله ، وحذفوا بني أمية ، كلاً أو بعضاً !
ويلاحظ أن هذا التفسير حذف اسم الإمام المهدي عليه السلام مع أنه مبشر به بأحاديث صحيحة عندهم ، ويشمله قول جده صلى الله عليه وآله
( من بعدي اثنا عشر إماماً ) . كما حذفوا اسم الإمام الحسن عليه السلام مع أنه بايعه المسلمون ما عدا أهل الشام وحكم ستة أشهر ، وقد أثبته السنييون المتأخرون عنهم .
بل كان يجب أن يثبتوا اسمه واسم أخيه الحسين عليهما السلام لأن النبي صلى الله عليه وآله شهد بأنهما إمامان قاما أم قعدا ، وشهد بأنهما سيدا شباب أهل الجنة .
--------------------------- 127 ---------------------------
بينما أثبت هذا التفسير الحباني اسم يزيد بن معاوية ، وجعله من الأئمة الربانيين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله ! وهي درجةٌ لا يطمع فيها يزيد ولا محبوه العقلاء ، لأنهم إلى اليوم يكافحون لإثبات إسلام يزيد ، وعدم ارتداده بسبب تصريحاته ، وعدم فسقه بسبب جرائمه التي ارتكبها في كربلاء وفي استباحة المدينة ، وهدم الكعبة !
كما عدُّوا منهم على هذا التفسير معاوية بن يزيد ( معاوية الثاني ) الذي ولوه الخلافة بعد أبيه يزيد ، فخطب خطبته الأولى والأخيرة ، وتبرأ فيها من ظلم أبيه يزيد وجده معاوية ! وشهد بأن الخلافة حق شرعي لعلي عليه السلام ، وأن معاوية ظلمه وغصبها منه ، ثم عزل نفسه عنها ، فقتله بنو أمية !
فلو كان هذا الشخص من الأئمة الاثني عشر الربانيين لعرف هو ذلك ، وما خلع نفسه وعرضها لغضب أسرته الحاكمة الباطشة !
كما أن هذا التفسير تجاهل حديث ( سفينة ) الثابت عندهم القائل : إن الخلافة ثلاثون سنة ، وبعدها الملك العضوض ، وقد صححه المحدثون ، وأخذ به المفسرون الآخرون . . إلى آخر الإشكالات عليه ! - *
ويطول الكلام لو أردنا أن نستقصي محاولات كبار علمائهم تفسير الحديث الشريف . ولكن الذي يسهل الأمر أن كلامهم في ذلك متشابه ، وأنه ما زال إلى اليوم يدور في محور التفسير الأموي ! وفيما يلي نماذج من تفاسيرهم وما يرد عليها :
--------------------------- 128 ---------------------------
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء / 10 :
( قال القاضي عياض : لعل المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة ، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة ، زمن الوليد بن يزيد ، فاتصلت بينهم ، إلى أن قامت الدولة العباسية ، فاستأصلوا أمرهم .
قال شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري : كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه ، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة : كلهم يجتمع عليه الناس .
قلت : وعلى هذا فقد وجد من الإثنا عشر خليفة : الخلفاء الأربعة ، والحسن ، ومعاوية ، وابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، هؤلاء ثمانية .
ويحتمل أن يضم إليهم المهتدي من العباسيين ، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، وكذلك الظاهر ، لما أوتيه من العدل ، وبقي الاثنان المنتظران : أحدهم المهدي ، لأنه من آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم ) . انتهى .
ولكن السيوطي وابن حجر أخذا بزيادة ( وكلهم تجتمع عليهم الأمة ) التي تقدم أنها لم تثبت . والألباني الوهابي وغيره قالوا : إنها منكرة .
كما أنهما تجاوزا حديث سفينة الذي صح عندهم ، والذي يحدد المدة الزمنية للخلافة الراشدة بثلاثين سنة ! وبذلك يصير المطلوب لهم أحد عشر حاكماً في ثلاثين سنة ، ويبطل انتقاء أحد من الحكام الأمويين والعباسيين !
--------------------------- 129 ---------------------------
مضافاً إلى أن نقل السيوطي لكلام عياض وابن حجر لم يكن دقيقاً مع الأسف ! فقد تجاهل أن ابن حجر عدهم إلى الثاني عشر من بني أمية ، فقال ( والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ) بينما أوصلهم السيوطي في بني أمية إلى ثمانية ، ووضع فيهم اثنين من خلفاء بني العباس ! !
وإليك فقرات من كلام ابن حجر في فتح الباري لتعرف الخلل في نقل السيوطي عنه ! قال : ( قال ابن بطال عن المهلب : لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث ، يعني بشئ معين ! فقوم قالوا : يكونون بتوالي إمارتهم .
وقوم قالوا : يكونون في زمن واحد كلهم يدعي الإمارة !
قال : والذي يغلب على الظن أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن ، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميراً !
قال : ولو أراد غير هذا لقال : يكون اثنا عشر أميراً يفعلون كذا ، فلما أعراهم من الخبر ، عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد . انتهى .
( أي كلام ابن بطال ) .
ثم قال واصل ابن حجر كلامه قائلاً : وهو كلام من لم يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة ، وقد عرفت من الروايات التي ذكرتها من عند مسلم وغيره أنه ذكر الصفة التي تختص بولايتهم ، وهو كون الإسلام عزيزاً منيعاً .
وفي الرواية الأخرى صفة أخرى وهو : أن كلهم يجتمع عليه الناس ، كما وقع عند أبي داود ، فإنه أخرج هذا الحديث من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبيه ، عن جابر بن سمرة بلفظ : لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم
--------------------------- 130 ---------------------------
اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة . وأخرجه الطبراني من وجه آخر ، عن الأسود بن سعيد ، عن جابر بن سمرة بلفظ : لا تضرهم عداوة من عاداهم . وقد لخص القاضي عياض ذلك فقال : توجه على هذا العدد سؤالان : أحدهما : أنه يعارضه ظاهر قوله في حديث سفينة ، يعني الذي أخرجه أصحاب السنن وصححه بن حبان وغيره : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً . الثلاثون سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن بن علي . والثاني : أنه ولي الخلافة أكثر من هذا العدد .
قال : والجواب عن الأول : أنه أراد في حديث سفينة : خلافة النبوة ، ولم يقيده في حديث جابر بن سمرة بذلك .
وعن الثاني : أنه لم يقل : لا يلي إلا اثنا عشر ، وإنما قال : يكون اثنا عشر ، وقد ولي هذا العدد ، ولا يمنع ذلك الزيادة عليهم .
قال : وهذا إن جعل اللفظ واقعاً على كل من ولي ، وإلا فيحتمل أن يكون المراد من يستحق الخلافة من أئمة العدل ، وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة ، ولا بد من تمام العدة قبل قيام الساعة .
وقد قيل : إنهم يكونون في زمن واحد يفترق الناس عليهم ، وقد وقع في المائة الخامسة في الأندلس وحدها ستة أنفس كلهم يتسمى بالخلافة ، ومعهم صاحب مصر ، والعباسية ببغداد ، إلى من كان يدعي الخلافة في أقطار الأرض من العلوية والخوارج .
قال : ويعضد هذا التأويل قوله في حديث آخر في مسلم : ستكون خلفاء فيكثرون .
--------------------------- 131 ---------------------------
قال : ويحتمل أن يكون المراد أن يكون الإثنا عشر في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة ، ويؤيده قوله في بعض الطرق : كلهم تجتمع عليه الأمة .
وهذا قد وجد فيما اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد ، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم . وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر .
قال : وقد يحتمل وجوهاً أخر . . والله أعلم بمراد نبيه . انتهى . ( أي كلام عياض ) .
ثم واصل ابن حجر قائلاً : والاحتمال الذي قبل هذا ، وهو اجتماع اثني عشر في عصر واحد كلهم يطلب الخلافة ، هو الذي اختاره المهلب كما تقدم . وقد ذكرت وجه الرد عليه ، ولو لم يرد إلا قوله كلهم يجتمع عليه الناس ، فإن في وجودهم في عصر واحد يوجد عين الافتراق ، فلا يصح أن يكون المراد . ويؤيد ما وقع عند أبي داود : ما أخرجه أحمد والبزار من حديث بن مسعود بسند حسن : أنه سئل : كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال : سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل .
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل : قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث ، وتطلبت مظانه ، وسألت عنه فلم أقع على المقصود به ، لأن ألفاظه مختلفة ، ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة ، ثم وقع لي فيه شيء وجدت الخطابي بعد ذلك قد أشار إليه ، ثم وجدت كلاماً لأبي الحسين بن المنادي وكلاماً لغيره .
--------------------------- 132 ---------------------------
فأما الوجه الأول : فإنه أشار إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه ، وأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه ، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم ، فكأنه أشار بذلك إلى عدد الخلفاء من بني أمية ، وكأن قوله : لا يزال الدين : أي الولاية ، إلى أن يلي اثنا عشر خليفة . ثم ينتقل إلى صفة أخرى أشد من الأولى . وأول بني أمية يزيد بن معاوية ، وآخرهم مروان الحمار ، وعدتهم ثلاثة عشر ، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير ، لكونهم صحابة ! فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته ، أو لأنه كان متغلباً بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير ، صحت العدة . وعند خروج الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة ، حتى استقرت دولة بني العباس ، فتغيرت الأحوال عما كانت عليه تغيراً بيناً .
قال : ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود من حديث بن مسعود ، رفعه : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين ، فإن هلكوا فسبيل من هلك ، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً . ( قال المؤلف : لا أعرف من صحح هذا الحديث غير الألباني ) .
ثم قال ابن حجر : قلت : لكن يعكر عليه أنّ مِن استقرار الملك لبني أمية عند اجتماع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين ، إلى أن زالت دولة بني أمية فقتل مروان بن محمد في أوائل سنة : اثنتين وثلاثين ومائة ، أزيد من تسعين سنة . . .
قال ( أي ابن الجوزي ) : وأما الوجه الثاني : فقال أبو الحسين بن المنادي في الجزء الذي جمعه في المهدي : يحتمل في معنى حديث : يكون اثنا عشر خليفة ، أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان ، فقد وجدت
--------------------------- 133 ---------------------------
في كتاب دانيال : إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر ، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر ، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر ، ثم يملك بعده ولده ، فيتم بذلك اثنا عشر ملكاً ، كل واحد منهم إمام مهدي .
قال ابن المنادي : وفي رواية أبي صالح عن بن عباس : المهدي اسمه محمد بن عبد الله ، وهو رجل ربعة مشرب بحمرة ، يفرج الله به عن هذه الأمة كل كرب ويصرف بعدله كل جور ، ثم يلي الأمر بعده اثنا عشر رجلاً ، ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين ، وآخر من غيرهم ، ثم يموت فيفسد الزمان . وعن كعب الأحبار : يكون اثنا عشر مهدياً ، ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال .
قال : والوجه الثالث : أن المراد : وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة ، يعملون بالحق وإن لم تتوال أيامهم .
ويؤيده ما أخرجه مسدد في مسنده الكبير ، من طريق أبي بحر أن أبا الجلد ، حدثه أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت محمد ، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة . وعلى هذا فالمراد بقوله : ثم يكون الهرج ، أي الفتن المؤذنة بقيام الساعة ، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج إلى أن تنقضي الدنيا . انتهى كلام بن الجوزي ملخصاً بزيادات يسيرة .
وتابع ابن حجر قائلاً : والوجهان الأول والآخر قد اشتمل عليهما كلام القاضي عياض ، فكأنه ما وقف عليه ، بدليل أن في كلامه زيادة لم يشتمل
--------------------------- 134 ---------------------------
عليها كلامه . وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه ، أرجحها الثالث من أوجه القاضي لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة : كلهم يجتمع عليه الناس .
وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته . والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين فسمي معاوية يومئذ بالخلافة ، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن ، ثم اجتمعوا على ولده يزيد ، ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك ، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف ، إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل بن الزبير ، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة : الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام ، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين . والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، واجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين ، ثم قاموا عليه فقتلوه ، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك ، لأن يزيد بن الوليد الذي قام على ابن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته ، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان ، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان ، ثم ثار على مروان بنو العباس ، إلى أن قتل .
ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح ، ولم تطل مدته ، مع كثرة من ثار عليه ، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته ، لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس ، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها إلى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك ، وانفرط الأمر في جميع أقطار
--------------------------- 135 ---------------------------
الأرض ، إلى أن لم يبق من الخلافة إلا الاسم في بعض البلاد ، بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً مما غلب عليه المسلمون ، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة . ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك . فعلى هذا يكون المراد بقوله : ثم يكون الهرج ، يعني القتل الناشئ عن الفتن وقوعاً فاشياً يفشو ويستمر ويزداد على مدى الأيام ، وكذا كان . والله المستعان .
والوجه الذي ذكره بن المنادي ليس بواضح ، ويعكر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي ، عن أبيه ، عن جده رفعه : سيكون من بعدي خلفاء ثم من بعد الخلفاء أمراء ، ومن بعد الأمراء ملوك ، ومن بعد الملوك جبابرة ، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، ثم يؤمر القحطاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه . فهذا يرد على ما نقله بن المنادي من كتاب دانيال .
وأما ما ذكره عن أبي صالح فواهٍ جداً ، وكذا عن كعب . . . فالأولى أن يحمل قوله : يكون بعدي اثنا عشر خليفة ، على حقيقة البعدية ، فإن جميع من ولي الخلافة من الصديق إلى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفساً ، منهم اثنان لم تصح ولايتهما ، ولم تطل مدتهما ، وهما معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم ، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء ، كما أخبر صلى الله عليه وسلم ، وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة ، وتغيرت الأحوال بعده ، وانقضى القرن الأول الذي هو خير القرون .
--------------------------- 136 ---------------------------
ولا يقدح في ذلك قوله : يجتمع عليهم الناس ، لأنه يحمل على الأكثر الأغلب ، لأن هذه الصفة لم تفقد منهم إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ، مع صحة ولايتهما ، والحكم بأن من خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن ، وبعد قتل بن الزبير . والله أعلم .
وكانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الاثني عشر منتظمة ، وإن وجد في بعض مدتهم خلاف ذلك ، فهو بالنسبة إلى الإستقامة نادر . والله أعلم .
وقد تكلم ابن حبان على معنى حديث : تدور رحى الإسلام ، فقال : المراد بقوله : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين : انتقال أمر الخلافة إلى بني أمية ، وذلك أن قيام معاوية عن علي بصفين حتى وقع التحكيم ، هو مبدأ مشاركة بني أمية ثم استمر الأمر في بني أمية من يومئذ سبعين سنة ، فكان أول ما ظهرت دعاة بني العباس بخراسان سنة ست ومائة ، وساق ذلك بعبارة طويلة ، عليه فيها مؤاخذات كثيرة ، أولها دعواه أن قصة الحكمين كانت في أواخر سنة ست وثلاثين ، وهو خلاف ما اتفق عليه أصحاب الأخبار ، فإنها كانت بعد وقعة صفين بعدة أشهر ، وكانت سنة سبع وثلاثين . والذي قدمته أولى بأن يحمل الحديث عليه . والله أعلم ) . انتهى كلام ابن حجر . - *
وقد رأيت أن ما اختاره ابن حجر غير ما نسبه إليه السيوطي ، فلا بد من القول أن السيوطي لم يقرأ كل كلام ابن حجر كاملاً ، أو أن نتهم السيوطي بالتدليس .
--------------------------- 137 ---------------------------
لكن المهم أنك رأيت تحيرهم جميعاً وكثرة احتمالاتهم ، وتضاربها ! وأن أكثرهم أخذوا بزيادة ( تجتمع عليه الأمة ) محوراً لتفسيره ، مع أنها لم تثبت عندهم ، بل استنكرها عدد منهم !
ورأيت أن القاضي عياض لم يجزم بشيء ، بل ذكر وجوهاً عديدة بكلمة قيل ويحتمل . . وأن ابن حجر رجح الاحتمال الثالث منها ، فقال ( وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه أرجحها الثالث من أوجه القاضي ) .
والنتيجة التي يخرج منها القارئ لتفاسيرهم : أنهم يضيعون عليه معنى الحديث الذي أرادوا أن يفسروه ، وهو حديث صحيح عندهم ، صريح بالبشارة النبوية باثني عشر إماماً ربانيين ، هداة مهديين ، قيمين على الأمة .
فتراهم يصرون على تلبيس الحديث لحكام بني أمية ، وعلى خلطه بزيادة لم تثبت وبأحاديث ضعيفة ، لا يستقيم لها معنى ، ولا أثر عليها للبلاغة النبوية ! ! - *
وإذا أردت مزيداً من الأمثلة على ضياعهم ، فاقرأ عون المعبود 11 / 362 - 364 ، قال :
( قال بعض المحققين : قد مضى منهم الخلفاء الأربعة ، ولا بد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة . وقيل : إنهم يكونون في زمان واحد يفترق الناس عليهم .
وقال التوربشتي : السبيل في هذا الحديث وما يعتقبه في هذا المعنى ، أن يحمل على المقسطين منهم ، فإنهم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة ، ولا يلزم أن يكونوا على الولاء . وإن قدر أنهم على الولاء ، فإن المراد منه المسمون على المجاز ! كذا في المرقاة .
--------------------------- 138 ---------------------------
وقال الشيخ الأجل ولي الله المحدث في قرة العينين في تفضيل الشيخين : وقد استشكل في حديث : لا يزال هذا الدين ظاهراً إلى أن يبعث الله اثني عشر خليفة كلهم من قريش ، ووجه الإستشكال : أن هذا الحديث ناظر إلى مذهب الاثني عشرية الذين أثبتوا اثني عشر إماماً .
والأصل أن كلامه صلى الله عليه وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد ثبت من حديث عبد الله بن مسعود : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة ، أو ست وثلاثين سنة ، أو سبع وثلاثين سنة ، فإن يهلكوا فسبيل من قد هلك ، وإن يقم لهم دينهم ، يقيم سبعين سنة مما مضى .
وقد وقعت أغلاط كثيرة في بيان معنى هذا الحديث ، ونحن نقول ما فهمناه على وجه التحقيق :
إن ابتداء هذه المدة من ابتداء الجهاد في السنة الثانية من الهجرة . . . ! !
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم : ففي سنة خمس وثلاثين من ابتداء الجهاد وقعت حادثة قتل ذي النورين وتفرق المسلمين ولكن الله تعالى بعد ذلك جعل أمر الخلافة منتظماً ، وأمضى الجهاد إلى ظهور بني العباس وتلاشي دولة بني أمية . . . فتارة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خلافة النبوة ، وخصصه بثلاثين سنة ، والتي بعدهم عبرها بملك عضوض ، وتارة عن خلافة النبوة ، والتي تتصل بها كليهما معاً ، وعبرها باثني عشر خليفة . . .
فالتحقيق في هذه المسألة : أن يعتبروا بمعاوية وعبد الملك وبنيه الأربع
( كذا ) وعمر بن عبد العزيز ، ووليد بن يزيد بن عبد الملك ، بعد الخلفاء الأربعة الراشدين .
--------------------------- 139 ---------------------------
وقد نقل عن الإمام مالك أن عبد الله بن الزبير أحق بالخلافة من مخالفيه ، ولنا فيه نظر ، فإن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما قد ذكرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن تسلط ابن الزبير واستحلال الحرم به مصيبة من مصائب الأمة ، أخرج حديثهما أحمد عن قيس بن أبي حازم قال : جاء ابن الزبير إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في الغزو ، فقال عمر : أجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فرد ذلك عليه ، فقال له عمر : في الثالثة أو التي تليها : أقعد في بيتك ، والله إني لأجد بطرف المدينة منك وأصحابك أن تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرجه الحاكم .
فمن لفظه : بطرف المدينة ، يفهم أن واقعة الجمل غير مراد ها هنا ، بل المراد خروجه للخلافة ، وإلى هذا المعنى قد أشار علي رضي الله عنه في قصة جواب الحسن رضي الله عنه ، ولم ينتظم أمر الخلافة عليه .
ويزيد بن معاوية ساقط من هذا البين ، لعدم استقراره مدة يعتد بها ، وسوء سيرته . والله أعلم ) . انتهى كلام عون المعبود .
وأنت ترى أن صاحب قرة العينين اعترف بأن ملك بني أمية ملك عضوض وأن خلافتهم ليست خلافة نبوة . . ومع ذلك فسر بهم الحديث ، وطبق عليهم البشارة النبوية بالأئمة الاثني عشر ، الربانيين ، القيمين بأمر الله تعالى على أمة نبيه صلى الله عليه وآله !
كما ترى أنه حذف منهم الإمام الحسن والإمام المهدي عليهما السلام ، وحذف ابن الزبير الذي أثبته الإمام مالك وآخرون . . . إلخ !
--------------------------- 140 ---------------------------
وهو مع ذلك ينتقد الذين غلطوا في تفسيره فيقول ( وقد وقعت أغلاطٌ كثيرةٌ في بيان معنى هذا الحديث ) ووعد الناس بأن يرفع المعضلة فزادها إعضالاً ، وأن يحل المشكلة فزادها إشكالاً ! ! - *
ثم اقرأ ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 248 :
ذكر الأخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش . وليسوا بالاثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة ، فإن هؤلاء الذين يزعمون ، لم يلِ أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن ، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر بسرداب سامرا ، وليس له وجود ولا عين ولا أثر .
بل هؤلاء الأئمة الإثنا عشر المخبر عنهم في الحديث : الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وعمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الاثني عشر . انتهى .
ولعله يقصد بالقولين : القول بتتابعهم زمنياً ، وعدمه ، ولكنهما وجهان في كل واحد منهما عددٌ من الأقوال . . وقد ذكر هو جملةً منها !
ثم أشار ابن كثير إلى الاحتمالات وركز منها على مناقشة البيهقي فقال :
فهذا الذي سلكه البيهقي وقد وافقه عليه جماعة من أن المراد بالخلفاء الاثني عشر المذكورين في هذا الحديث ، هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق ، الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد ، فإنه مسلك فيه نظر ، وبيان ذلك : أن الخلفاء إلى زمن الوليد بن يزيد هذا أكثر من اثني عشر على كل تقدير ، وبرهانه أن الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة : الخلافة بعدي ثلاثون سنة . ثم بعدهم
--------------------------- 141 ---------------------------
الحسن بن علي كما وقع ، لأن علياً أوصى إليه وبايعه أهل العراق ، وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام ، حتى اصطلح هو ومعاوية كما دل عليه حديث أبي بكرة ، في صحيح البخاري . ثم معاوية ، ثم ابنه يزيد بن معاوية ، ثم ابنه معاوية بن يزيد ، ثم مروان بن الحكم ، ثم ابنه عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد بن عبد الملك ، فهؤلاء خمسة عشر ، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك .
فإن اعتبرنا ولاية الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر ، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز ، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الاثني عشر يزيد بن معاوية ، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز ، الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه ، وعدُّوه من الخلفاء الراشدين ، وأجمع الناس قاطبة على عدله وأن أيامه كانت من أعدل الأيام ، حتى الرافضة يعترفون بذلك .
فإن قال : أنا لا أعتبر إلا من اجتمعت الأمة عليه ، لزمه على هذا القول أن لا يعدّ علي بن أبي طالب ولا ابنه ، لأن الناس لم يجتمعوا عليهما ، وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما ، وعدّ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد ، ولم يقيد بأيام مروان ولا ابن الزبير ، فإن الأمة لم تجتمع على واحد منهما .
فعلى هذا نقول في مسلكه هذا عاداًّ للخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم عبد الملك ثم الوليد بن سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام ، فهؤلاء عشرة ، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق ، ولكن هذا لا يمكن أن يسلك ، لأنه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر ، وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة ، بل
--------------------------- 142 ---------------------------
والشيعة ، ثم هو خلاف ما دل عليه نصا حديث سفينة عن رسول الله أنه قال : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً .
وقد ذكر ( سفينة ) تفصيل هذه الثلاثين سنة فجمعها من خلافة الأربعة ، وقد بيناّ دخول خلافة الحسن ، وكانت نحواً من ستة أشهر فيها أيضاً ، ثم صار الملك إلى معاوية لما سلم الأمر إليه الحسن بن علي .
وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة ، وبيان أن الخلافة قط انقطعت بعد الثلاثين سنة لا مطلقاً ، بل انقطع تتابعها ، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك ، كما دل عليه حديث جابر بن سمرة .
وقال نعيم بن حماد : حدثنا راشد بن سعد ، عن ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حذيفة بن اليمان قال : يكون بعد عثمان اثنا عشر ملكا من بني أمية ، قيل له : خلفاء ؟ قال : لا ، بل ملوك .
وقد روى البيهقي من حديث حاتم بن صفرة ، عن أبي بحر قال : كان أبو الجلد جاراً لي ، فسمعته يقول يحلف عليه : إن هذه الأمة لن تهلك حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل البيت ، أحدهما يعيش أربعين سنة ، والآخر ثلاثين سنة . ثم شرع البيهقي في رد ما قاله أبو الجلد بما لا يحصل به الرد ، وهذا عجيب منه !
وقد وافق أبا الجلد طائفة من العلماء ، ولعل قوله أرجح لما ذكرنا . وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة ، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه : إن الله تعالى بشر إبراهيم بإسماعيل ، وأنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً . انتهى كلام ابن كثير .
--------------------------- 143 ---------------------------
وهو يقصد ما هو موجود في التوراة الفعلية - العهد القديم والجديد 1 / 25 - طبعة مجمع الكنائس الشرقية في سفر التكوين ، الإصحاح السابع عشر ، قال :
18 - وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك .
19 - فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحق ، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً ، لنسله من بعده .
20 - وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيراً جداً . اثني عشر رئيساً يلد ، وأجعله أمة كبيرة .
21 - ولكن عهدي أقيمه مع إسحق ، الذي تلده لك سارة في هذا الوقت ، في السنة الآتية . انتهى .
وقد وردت ترجمها كعب الأحبار ( قيماً ) وترجمها بعضهم ( إماماً ) . .
فالنص موجود في التوراة ، وفي مصادر السنة ، والشيعة ، وهو مؤيد لبشارة نبينا صلى الله عليه وآله ، ولكنه يؤيد تفسير شيعة أهل البيت عليهم السلام ، ولا يحل مشكلة المفسرين السنيين ، بل يزيدها ! - *
ومن أعقل هؤلاء الشراح وأكثرهم إنصافاً في هذا الموضوع : ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 ، فقد اعترف في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي بأن تطبيق الحديث على هؤلاء يصل إلى طريق مسدود ، ورجح أن يكون الحديث ناقصاً ، لأن الموجود منه لا يفهم له معنى . . قال :
روى أبو عيسى ، عن جابر بن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلهم من قريش . صحيح .
--------------------------- 144 ---------------------------
فعددنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر أميراً فوجدنا : أبا بكر ، عمر ، عثمان ، علي ، الحسن ، معاوية ، يزيد ، معاوية بن يزيد ، مروان ، عبد الملك ، مروان بن محمد بن مروان ، السفاح ، المنصور ، المهدي ، الهادي ، الرشيد ، الأمين ، المأمون ، المعتصم ، الواثق ، المتوكل ، المنتصر ، المستعين ، المعتز ، المهتدي ، المعتضد ، المكتفي ، المقتدر ، القاهر ، الراضي ، المتقي ، المستكفي ، المطيع ، الطائع ، القادر ، القائم ، المقتدي ، أدركته سنة أربع وثمانين وأربعمائة وعهد إلى المستظهر أحمد ابنه ، وتوفي في المحرم سنة ست وثمانين ، ثم بايع المستظهر لابنه أبي منصور الفضل ، وخرجت عنهم سنة خمس وتسعين .
وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة إلى سليمان بن عبد الملك .
وإذا عددناهم بالمعنى ، كان معنا منهم خمسة : الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز ! ! ولم أعلم للحديث معنى ، ولعله بعض حديث ! ! انتهى . - *
فاتضح لك أن المفسرين السنيين بذلوا كل جهدهم لتفسير هؤلاء الأئمة الاثني عشر الموعودين في التوراة على لسان إبراهيم ، ثم على لسان نبينا صلى الله عليه وآله ، على ملوك بني أمية ، ولكنهم واجهوا ثلاثة مشاكل أساسية لا حل لها :
الأولى : زيادة عدد هؤلاء ( الخلفاء ) الذين يعترفون بأنهم ليسوا خلفاء النبي صلى الله عليه وآله بل خلفاء الهواء ! على الاثني عشر ، الأمر الذي يدخلهم في بوابة الحذف والإثبات التي لا ضابط لها ، ولا آخر !
--------------------------- 145 ---------------------------
والثانية : أنهم يشعرون أن هذا الثوب الإلهي لا يمكن إلباسه لجماعتهم . . وأنهم مهما دافعوا عن سيرة هؤلاء ( الخلفاء غير الخلفاء ) وتستروا على تاريخهم ، ففيهم مفضوحون ، لا بد من الاعتراف بسوئهم ، ولا يمكن أن يكون أحدهم إماماً ربانياً ، وقيماً عظيماً على الأمة ، موعوداً من الله تعالى على لسان أعاظم الأنبياء عليهم السلام .
والثالثة : أنهم بهذا التفسير يدعون لهؤلاء الملوك منصباً ربانياً لم يدعوه هم لأنفسهم ! فيصيرون بذلك كمن يدعي نبوة لنبي ، والنبي المزعوم ينكرها ! !
وأخيراً ، فقد نصح المفسرون السنيون أتباعهم أن لا يأخذوا بتفسير الشيعة ووعدوهم بأن يفسروا لهم الحديث الشريف بأصح من تفسير الشيعة ، وقد رأينا أنهم داروا في تفسيره كثيراً ، وراوحوا مكانهم . . فمن حق السني أن يعود على بدء ، ويسألهم عن تفسير حديث نبيه صلى الله عليه وآله الصحيح وبشارته القطعية باثني عشر إماماً ، ربانياً ، ملهماً ، مميزاً بعلمه وشخصيته وسلوكه ، قيماً من ربه على الأمة . . يكونون جميعاً على هدى واحد ، وخط واحد . .
ومن حقنا أن نقول لهم : إذا لم تفسروه ، فاعذرونا أن نفسره بالأئمة من أهل بيت النبي وعترته الطاهرين صلى الله عليه وآله ، وأولهم علي عليه السلام وآخرهم المهدي الموعود عليه السلام ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : بنا بدأ الله وبنا يختم . وصدق الله ورسوله .
--------------------------- 146 ---------------------------
تورط الشراح السنيين في حديث سفينة
سفينة : مولى أم سلمة ، وثقه علماء الجرح والتعديل السنيون ، وروى عنه البخاري وغيره من أصحاب الصحاح حديثاً يتعلق بالموضوع وصححوه .
قال الترمذي : 3 / 341 :
( عن سعيد بن جمهان قال : حدثني سفينة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ، ثم ملك بعد ذلك ( عضوض ) .
ثم قال لي سفينة : أمسك عليك خلافة أبي بكر ، ثم قال : وخلافة عمر ، وخلافة عثمان ، ثم قال : أمسك خلافة علي ، فوجدناها ثلاثين سنة .
قال سعيد : فقلت له : إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم ؟
قال : كذب بنو الزرقاء ، بل هم ملوك من شر الملوك .
وفي الباب عن عمر وعلي قالا : لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئاً . هذا حديث حسن ، قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان ، لا نعرفه إلا من حديثه ) . انتهى . ورواه أحمد في مسنده : 5 / 220 ، و 221 بدون كلام سفينة عن ملوك بني أمية . وقال عنه الحاكم : 3 / 71 وقد أسندت هذه الروايات بإسناد صحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى .
ورواه ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 198 : ثم روى بعده عن عبد الرحمن أبي بكرة قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : خلافة نبوة ثلاثون عاماً ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء ، فقال معاوية : رضينا بالملك ! ! . انتهى .
وإذا صح حديث سفينة فهو إخبار نبوي عن انحراف الأمة بعد الثلاثين سنة ، وعدم شرعية الحكم فيها . وبما أن عدد الحكام في هذه الفترة لم يزيدوا
--------------------------- 147 ---------------------------
عن خمسة ، فلا بد أن يكون الأئمة الإثنا عشر من غير الحاكمين ، أو تكون تكملتهم من غيرهم !
فحديث سفينة يحكم بخطأ جعل الأئمة الاثني عشر من الحكام ، كما هو واضح . ولكن أكثر الشراح أشربوا في قلوبهم حب بني أمية ، وارتكبوا كل تناقض لجعل ملكهم العضوض إمامة ربانية ، وجعل حكامهم المعروفين بسلوكهم وبطشهم ، أئمة ربانيين مبشراً بهم على لسان رسول رب العالمين !
والذي يزيدك اطمئناناً بما قلناه ، أنهم قبلوا حديث سفينة ( الخلافة ثلاثون سنة ) وقد فسره راويه سفينة ونفى الخلافة عن بني أمية ، وقال إنهم ملوك شر ملوك ! بل اتهمهم بأنهم أبناء رومية زانية ( بنو الزرقاء ) !
ومع ذلك جعلوهم أئمة ربانيين ، اختارهم الله تعالى لقيادة هذه الأمة !
ومنهم من حاول نفي تفسير سفينة للحديث وقال : إنه زيادة لم تثبت ، مثل الألباني ! وكذلك لم يثبت عندهم كل ما في تاريخ بني أمية من ظلم عضوض للناس ! ! فلا بد لهم أن يردوا وصف النبي له بالعضوض ! !
قال العيني في عمدة القاري : 16 / 74 : ( فإن قلت : يعارض حديث سفينة ما رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة : لا يزال هذا الدين قائماً ما كان اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، الحديث .
قلت : قيل إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، وأراد بهذا خلافة النبوة ، ولم يرد أنه لا يوجد غيرهم .
وقيل : هذا الحديث فيه إشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلين من قريش ، وإن لم يوجدوا على الولاء ، وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في
--------------------------- 148 ---------------------------
ثلاثين سنة ، ثم قد كان بعد ذلك خلفاء راشدون منهم عمر بن عبد العزيز ، ومنهم المهتدي بأمر الله العباسي ، ومنهم المهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان ) . انتهى .
فانظر إلى هذا التصرف بالألفاظ من أجل مصلحة الأمويين ، حيث جعل الخلافة الشرعية نوعين : خلافة نبوة وهي التي كانت لمدة ثلاثين سنة ، وخلافة شرعية ليست خلافة عن النبي صلى الله عليه وآله ! !
فلا بد أن تكون خلافة عن بني تبع وبني حمير أو عن الهواء مثلاً ، وهي التي امتدت بعد الثلاثين ، وهي التي بشر بها النبي صلى الله عليه وآله بقوله : اثنا عشر خليفة ، أو إماماً ! !
وقد تمسك الشراح المحبون لبني أمية بهذا الإبتكار وفرحوا به ، لأنه يبقى لهم إمكانية التلاعب بالحديث ، وتفسيره بأئمتهم الربانيين من بني أمية ! !
قال ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 198 :
( فإن قيل : فما وجه الجمع بين حديث سفينة هذا ، وبين حديث جابر بن سمرة ، المتقدم في صحيح مسلم ؟ . . .
فالجواب : أن من الناس من قال : إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة ثم وقع تخبيط بعدهم في زمان بني أمية .
وقال آخرون : بل هذا الحديث فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلاً من قريش ، وإن لم يوجدوا على الولاء ( التتابع ) وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة ، ثم كانت بعد ذلك خلفاء راشدون فيهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي رضي الله عنه ، وقد نص
--------------------------- 149 ---------------------------
على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين غير واحد من الأئمة ، حتى قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : ليس قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز !
ومنهم من ذكر : من هؤلاء المهدي بأمر الله العباسي .
والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضاً بالنص على كونه من أهل البيت ، واسمه محمد بن عبد الله ، وليس بالمنتظر في سرداب سامرا ، فإن ذاك ليس بموجود بالكلية ، وإنما ينتظره الجهلة من الروافض ) . انتهى .
فترى أن ابن كثير لا جواب عنده على إشكال حديث سفينة ، ولذلك قال : من الناس من قال . . وقال آخرون . . ومنهم من ذكر ! وليته أكمل الرواية عن سفينة كما وردت في مصادرهم !
أما مدحه لعمر بن عبد العزيز أو المهدي العباسي ، فهو مهما كثر لا يصير دليلاً على أنه أحد الأئمة الربانيين المبشر بهم ! وإلا لاستحق كل ممدوح مثلهما أن يكون منهم !
فإن دخول أحد في عداد أشخاص بشر بهم أنبياء الله تعالى يحتاج إلى دليل على أنه مقصود بهذا النص ، وأنه واحد من هؤلاء الربانيين الذين اختارهم الله تعالى وأعطاهم مقاماً فوق مدح المادحين من البشر !
وأما تكراره اتهام الشيعة بانتظار ظهور المهدي الموعود من سرداب سامراء فهو من المكذوبات علينا ، فنحن ننتظر ظهور المهدي عليه السلام من مكة كما ينتظره هو ، وسرداب سامراء بيته وبيت أبيه وجده عليهم السلام ، وهو مكان مبارك ، نصلي فيه ونتبرك به . ولكن ابن كثير . . كثير الكلام والتهم .
--------------------------- 150 ---------------------------
وقال في هامش عون المعبود : 11 / 361 :
( ذكر الشيخ ابن القيم رحمه الله . . . حديث : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، وحديث اثنا عشر خليفة . ثم قال : فإن قيل : فكيف الجمع ؟ قيل : لا تعارض بين الحديثين ، فإن الخلافة المقدرة بثلاثين سنة هي خلافة النبوة كما في حديث أبي بكرة ) . انتهى .
ولم يقل ابن قيم ولا غيره إذا لم تكن خلافة بني أمية خلافة نبوة فهي خلافة ماذا يا ترى ؟ ؟ وهل تبقى لها صفة إسلامية وربانية ، بعد أن وصفها النبي صلى الله عليه وآله بأنها ملك عضوض ، كما اعترف صاحب قرة العينين وغيره ! وهل يعني إقرارهم بأنها ملك عضوض ، ونفيهم عنها صفة الخلافة الإسلامية ، إلا أنها خلافة جاهلية عضوضة ؟
وهل يتصور عاقل أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله يبشران الأمة بأئمة جاهليين ، يَعُضُّونها كالكلب بظلمهم ؟ !
ولو أن ابن حبان وابن حجر وابن قيم وصاحب قرة العينين وأمثالهم . . اكتفوا بتعصبهم لبني أمية ، لكان خطبهم أسهل ، ولكنهم مع الأسف أصروا على تسخير الأحاديث النبوية لنصرتهم ، وتطبيق بشائر الأنبياء عليهم السلام على ملوكهم ! !
ومن طريف عمل الألباني في حديث سفينة ، أنه صحح عدة أحاديث عن الانحراف والأئمة المضلين ، الذين سيحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله ، ومنها حديث برقم 2982 ( إن من أصحابي من لايراني بعد أن أفارقه ! ) .
وحديث برقم 2864 ( إنه سيلي أموركم من بعدي رجال يطفئون السنة ويحدثون بدعة ) .
--------------------------- 151 ---------------------------
وحديث برقم 2865 ( إني ممسك بحجزتكم عن النار ، وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب ، ويوشك أن أرسل حجزتكم . . . ) إلخ .
وحديث برقم 1749 ( أول من يغير سنتي رجل من بني أمية ) . وجعل هذا الحديث تحت عنوان : من أعلام نبوته الغيبية ، وقال بعده : ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة . والله أعلم .
وحديث برقم 744 ( إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دَخَلاً ، وعباد الله خَوَلاً ، ومال الله دِوَلاً ) .
كما صحح حديث سفينة برقم 459 ، ولكنه جعله تحت عنوان : خلافة النبوة !
ومع كل هذه الأحاديث التي صححها ، قال مدافعاً عن الأمويين : فلا ينافي مجيء خلفاء آخرين من بعدهم لأنهم ليسوا خلفاء النبوة . فهؤلاء هم المعنيون في الحديث لا غيرهم ! كما هو واضح ! ! ويزيده وضوحاً قول شيخ الإسلام في رسالته المذكورة : ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء ، وإن كانوا ملوكاً ولم يكونوا خلفاء الأنبياء . . . إلخ . انتهى .
فقد أفتى هذا الإمام الألباني تبعاً لإمامه ابن تيمية ، بأن الأئمة الاثني عشر المبشر بهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله ، القيمين على الأمة بتعيين رب العالمين هم . . معاوية ويزيد وبنو الحكم بن أبي العاص ، الذين صحت فيهم أحاديث ذمٍّ قاصعة ! !
وهكذا يدفعه غلوه في بني أمية إلى أن يعطي الحجة على ربه سبحانه ، وعلى نبيه صلى الله عليه وآله ! !
--------------------------- 152 ---------------------------
فماذا يقول إذا قال له مستشرق مثلاً : إنكم أيها المسلمين تقولون إن ربكم مزاجي ونبيكم مزاجي أيضاً ، لأنهما يلعنان أشخاصاً ويذمانهم ويتبرآن منهم ! ثم يتغير مزاجهما فيرضيان عنهم ، ويعلنان للمسلمين : إنا نبشركم بهم وبأولادهم ، إنهم صفوة البشر ، أئمة ، ربانيون ، معصومون ، قيمون على الأمة !
وهل دخل المستشرقون الخبثاء ، وهل دخل سلمان رشدي وأمثاله ، وطعنوا في الإسلام ، إلا من أبواب أحاديث التعصب لقريش العتاة على ربهم وبني أمية العتاة على نبيهم وآله ، وكعب الأحبار مزرق ثقافة اليهود للمسلمين ؟ !
الثانية عشرة : نماذج من أحاديثنا في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام
روى الصدوق في الخصال / 466 - 467 ، حديث ابن مسعود المتقدم بعدة أسانيد فيها مجالد بن سعيد ، وأسانيد أخرى ليس فيها مجالد ، قال :
حدثنا أبو علي أحمد بن الحسن القطان ، قال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال البغدادي ، قال : حدثنا محمد بن عبدوس الحراني ، قال : حدثنا عبد الغفار بن الحكم ، قال : حدثنا منصور بن أبي الأسود ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عمه قيس بن عبد ، قال : كنا جلوساً في حلقة فيها عبد الله بن مسعود فجاء أعرابي فقال : أيكم عبد الله بن مسعود ؟ فقال عبد الله : أنا عبد الله بن مسعود .
قال : هل حدثكم نبيكم صلى الله عليه وآله كم يكون بعده من الخلفاء ؟
قال : نعم ، اثنا عشر ، عدد نقباء بني إسرائيل .
حدثنا أبو القاسم عتاب بن محمد الوراميني الحافظ ، قال : حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل ، ومحمد بن
--------------------------- 153 ---------------------------
عبيد الله بن سوار ، قالا : حدثنا عبد الغفار بن الحكم ، قال : حدثنا منصور بن أبي الأسود ، عن مطرف ، عن الشعبي .
قال : عتاب بن محمد : وحدثنا إسحاق بن محمد الأنماطي ، قال : حدثنا يوسف بن موسى ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث بن سوار عن الشعبي . قال عتاب بن محمد : وحدثنا الحسين بن محمد الحراني ، قال : حدثنا أيوب بن محمد الوزان قال : حدثنا سعيد بن مسلمة ، قال : حدثنا أشعث بن سوار ، عن الشعبي ، كلهم قالوا عن عمه قيس بن عبد .
قال أبو القاسم عتاب : وهذا حديث مطرف قال : كنا جلوساً في المسجد ، ومعنا عبد الله بن مسعود ، فجاء أعرابي فقال : فيكم عبد الله ؟
قال : نعم أنا عبد الله ، فما حاجتك ؟ قال : يا عبد الله أخبركم نبيكم صلى الله عليه وآله كم يكون فيكم من خليفة ؟
قال : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ قدمت العراق ، نعم ، اثنا عشر عدة نقباء بني إسرائيل .
قال : أبو عروبة في حديثه : نعم عدة نقباء بني إسرائيل . وقال جرير عن الأشعث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله قال : الخلفاء بعدي اثنا عشر ، كعدد نقباء بني إسرائيل . انتهى .
( ورواهما في : كمال الدين وتمام النعمة - 271 ، بنفس السند ) .
- *
وأكبر عمل حديثي قام به قدماء علمائنا في هذا الموضوع ، بل هو أجلُّ ما وجدته في الموضوع من الأعمال العلمية المقارنة : هو ما صنفه المحدث الخبير علي بن محمد بن علي الخزاز القمي الرازي ، من علماء أوائل القرن الرابع
--------------------------- 154 ---------------------------
وكتابه القيم ( كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر ) وقد ذكر منهجه في مقدمته فقال في ص 7 :
أما بعد : فإن الذي دعاني إلى جمع هذه الأخبار ، عن الصحابة والعترة الأخيار ، في النصوص على الأئمة الأبرار ، إني وجدت قوماً من ضعفاء الشيعة ومتوسطيهم في العلم ، متحيرين في ذلك ومتعجزين ، يشكون فرط اعتراض المشبهة عليهم ، وزمرات المعتزلة ، تلبيساً وتمويهاً عاضدتهم عليه ، حتى آل الأمر بهم إلى أن جحدوا أمر النصوص عليهم ، من جهة لا يقطع بمثلها العذر ، حتى أفرط بعضهم وزعم أن ليس لها من الصحابة أثر . . . فلما رأيت ذلك كذلك ، ألزمت نفسي الاستقصاء في هذا الباب موضحاً ما عندي من البينات ، ومبطلاً ما أورده المخالفون من الشبهات ، تحرياً لمرضاة الله ، وتقرباً إلى رسوله والأئمة من بعده .
وأبتديء بذكر الروايات في النصوص عليهم من جهة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله المعروفين مثل عبد الله بن العباس ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وجابر بن سمرة ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، وعمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وأبي أمامة ، وواثلة بن الأسقع ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعمار بن ياسر ، وحذيفة بن أسيد ، وعمران بن الحصين ، وسعد بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي قتادة الأنصاري ، وعلي بن أبي طالب ، وابنيه الحسن والحسين عليهم السلام .
ومن النساء : أم سلمة ، وعائشة ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله . ثم أعقبه بذكر الأخبار التي وردت عن الأئمة صلوات الله عليهم ، مما
--------------------------- 155 ---------------------------
يوافق حديث الصحابة ، في النصوص على الأئمة ، ونص كل واحد منهم على الذي من بعده ، ليعلموا إن أنصفوا ويدينوا به ، ولا يكونوا كما قال الله سبحانه ( فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ) إذ مثل هذه الأخبار تزيل الشك والريب ، ويقطع بها العذر ، وإن الأمر أوكد مما ذهبوا إليه . انتهى .
ثم عقد قدس الله نفسه باباً لما روي عن كل واحد من الصحابة الذين ذكرهم ، وأورد فيه حديثه أو أحاديثه ، بسند متصل منه إليه ، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فحفظ بذلك عدداً من النصوص التي ضاعت في مصادر إخواننا السنيين ، أو تشتتت في مصنفاتهم ، أو بقي منها أجزاء مجزأة ، وأحياناً بقي الحديث بكامله !
ونورد فيما يلي نماذج من كتاب كفاية الأثر : قال في ص 23 في باب ما جاء عن عبد الله بن مسعود :
أخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني رحمه الله ، قال : حدثنا أبو علي محمد بن زهير بن الفضل الأبلي ، قال : حدثنا أبو الحسين عمر بن الحسين بن علي بن رستم ، قال : حدثني إبراهيم بن يسار الرمادي قال : حدثني سفيان بن عتبة ، عن عطا بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، تسعة من صلب الحسين ، والتاسع مهديهم .
وقال في ص 73 في باب ما جاء عن أنس بن مالك :
حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عياش الجوهري ، قال : حدثنا محمد بن أحمد الصفواني ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا عبد الله بن
--------------------------- 156 ---------------------------
مسلمة ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الحمصي ، قال : حدثنا بن حماد ، عن أنس بن مالك قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : معاشر أصحابي ، من أحب أهل بيتي حشر معنا ، ومن استمسك بأوصيائي من بعدي فقد استمسك بالعروة الوثقى .
فقام إليه أبو ذر الغفاري فقال : يا رسول الله كم الأئمة بعدك ؟
قال : عدد نقباء بني إسرائيل .
فقال : كلهم من أهل بيتك ؟
قال : كلهم من أهل بيتي ، تسعة من صلب الحسين ، والمهدي منهم .
وقال في ص 113 في باب ما جاء عن أبي أيوب الأنصاري ، خالد بن زيد :
أخبرنا أبو المفضل الشيباني ، قال : حدثني حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي ، قال : حدثنا محمد بن مسعود ، عن يوسف بن السخت ، عن سفيان الثوري ، عن موسى بن عبيدة ، عن إياس بن مسلمة بن الأكوع ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : أنا سيد الأنبياء ، وعلي سيد الأوصياء ، وسبطاي خير الأسباط ومنا الأئمة المعصومون من صلب الحسين ، ومنا مهدي هذه الأمة .
فقام إليه أعرابي فقال : يا رسول الله كم الأئمة بعدك ؟
قال : عدد الأسباط ، وحواريي عيسى ، ونقباء بني إسرائيل .
وقال في ص 120 في باب ما جاء عن عمار بن ياسر :
أخبرنا محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني ، قال : حدثنا محمد بن الحسين بن حفص الخثعمي الكوفي قال : حدثنا عباد ابن يعقوب قال : حدثنا
--------------------------- 157 ---------------------------
علي بن هاشم ، عن محمد بن عبد الله ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار ، عن أبيه ، عن جده عمار قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله في بعض غزواته ، وقتل علي عليه السلام أصحاب الألوية وفرق جمعهم ، وقتل عمرواً بن عبد الله الجمجمي ، وقتل شيبة بن نافع ، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : يا رسول الله صلى الله عليك إن عليا قد جاهد في الله حق جهاده . فقال : لأنه مني وأنا منه ، وهو وارث علمي وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، والخليفة بعدي ، ولولاه لم يعرف المؤمن المحض ، حربه حربي وحربي حرب الله ، وسلمه سلمي وسلمي سلم الله ، ألا إنه أبو سبطي ، والأئمة من صلبه ، يخرج الله تعالى منه الأئمة الراشدين ، ومنهم مهدي هذه الأمة . فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما هذا المهدي ؟
قال : يا عمار إن الله تبارك وتعالى عهد إلي أنه يخرج من صلب الحسين تسعة ، والتاسع من ولده يغيب عنهم ، وذلك قوله عز وجل : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين ، يكون له غيبة طويلة يرجع عنها قوم ، ويثبت عليها آخرون ، فإذا كان في آخر الزمان يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً ، ويقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، وهو سميي ، وأشبه الناس بي .
يا عمار ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه ، فإنه مع الحق والحق معه .
يا عمار إنك ستقاتل بعدي مع علي صنفين : الناكثين والقاسطين ، ثم تقتلك الفئة الباغية .
قلت : يا رسول الله ، أليس ذلك على رضا الله ورضاك ؟
--------------------------- 158 ---------------------------
قال : نعم على رضا الله ورضاي ، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه .
فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : يا أخا رسول الله ، أتأذن لي في القتال ؟
قال : مهلاً رحمك الله ، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله فأعاد عليه ثالثاً ، فبكى أمير المؤمنين وقال : إنه اليوم الذي وصفه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فنزل أمير المؤمنين عليه السلام عن بغلته وعانق عماراً وودعه ، ثم قال : يا أبا اليقظان جزاك الله عن نبيك خيراً ، فنعم الأخ كنت ، ونعم الصاحب كنت . ثم بكى عليه السلام وبكى عمار .
ثم قال : والله يا أمير المؤمنين ما تبعتك إلا ببصيرة ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم خيبر : يا عمار ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذاك فاتبع علياً وحزبه ، فإنه مع الحق والحق معه ، وستقاتل الناكثين والقاسطين ، فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء ، فلقد أديت وأبلغت ونصحت .
ثم ركب وركب أمير المؤمنين عليه السلام ثم برز إلى القتال ، ثم دعا بشربة من ماء ، فقيل له : ما معنا ماء ، فقام إليه رجل من الأنصار فأسقاه شربة من لبن ، فشربه ثم قال : هكذا عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من لبن . ثم حمل على القوم فقتل ثمانية عشر نفساً ، فخرج إليه رجلان من أهل الشام فطعناه وقتل رحمه الله . فلما كان في الليل
--------------------------- 159 ---------------------------
طاف أمير المؤمنين عليه السلام في القتلى ، فوجد عماراً ملقى بين القتلى ، فجعل رأسه على فخذه ثم بكى عليه السلام وأنشأ يقول :
ألا أيها الموت الذي لست تاركي أرحني فقد أفنيت كل خليل
أراك بصيراً بالذين أحبهم كأنك تمضي نحوهم بدليل
وقال في ص 180 في باب ما جاء عن أم سلمة :
حدثنا علي بن الحسن بن محمد بن مندة ، قال : حدثنا أبو الحسين زيد بن جعفر بن محمد بن الحسين الخزاز بالكوفة في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ، قال حدثنا العباس بن العباس الجوهري ببغداد في دار عميرة ، قال : حدثني عفان بن مسلم قال : حدثني حماد بن سلمة ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن سداد بن أوس قال : لما كان يوم الجمل قلت : لا أكون مع علي ولا أكون عليه ، وتوقفت عن القتال إلى انتصاف النهار ، فلما كان قرب الليل ألقى الله في قلبي أن أقاتل مع علي ، فقاتلت معه حتى كان من أمره ما كان ، ثم إني أتيت المدينة فدخلت على أم سلمة ، قالت : من أين أقبلت ؟ قلت : من البصرة . قالت : مع أي الفريقين كنت ؟ قلت : يا أم المؤمنين إني توقفت عن القتال إلى انتصاف النهار ، وألقى الله عز وجل في قلبي أن أقاتل مع علي .
قالت : نعم ما عملت ، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : من حارب علياً فقد حاربني ، ومن حاربني فقد حارب الله .
قلت : فترين أن الحق مع علي ؟
قالت : إي والله ، علي مع الحق والحق معه ، والله ما أنصف أمة محمد نبيهم ، إذ قدموا من أخره الله عز وجل ورسوله ، وأخروا من قدمه الله تعالى
--------------------------- 160 ---------------------------
ورسوله ! وأنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم ، وأبرزوا حليلة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الفناء ! والله سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : لأمتي فرقة وجعلة ، فجامعوها إذا اجتمعت ، وإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط ، ثم ارقبوا أهل بيتي فإن حاربوا فحاربوا ، وإن سالموا فسالموا ، وإن زالوا فزالوا معهم ، فإن الحق معهم حيث كانوا .
قلت : فمن أهل بيته ؟
قالت : أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم .
قالت : هم الأئمة بعده كما قال : عدد نقباء بني إسرائيل : علي وسبطاه ، وتسعة من صلب الحسين هم أهل بيته ، هم المطهرون ، والأئمة المعصومون .
قلت : إنا لله ! هلك الناس إذاً ؟ !
قالت : كل حزب بما لديهم فرحون . انتهى . - *
--------------------------- 161 ---------------------------
الفصل الثالث : لماذا زعمت قريش أن النبي معصوم من القتل ؟ !
--------------------------- 162 ---------------------------
.
--------------------------- 163 ---------------------------
حاجة الأنبياء ( ع ) في تبليغ رسالاتهم إلى حماية الناس
ارتكب المنظرون للخلافة القرشية من محدثين ومفسرين ، تحريفاً في تفسير آية التبليغ ، فجعلوا معنى ( والله يعصمك من الناس ) أن الله عصم نبيه صلى الله عليه وآله من القتل !
وهدفهم من ذلك أن ينكروا دور أبي طالب وبني هاشم في حماية النبي من مؤامرات قريش ، لأن النبي معصوم من القتل ، فلا يحتاج إلى حماية !
وهدفهم من جهة أخرى أن يبعدوا معنى العصمة في الآية عن عصمة الله لنبيه من ارتداد قريش وطعنها بنبوته إن هو بلغ ولاية أهل بيته من بعده !
فالغرض الثابت عند حكام قريش وعلماء البلاط القرشي ، أن يزوروا التاريخ ، ويكتبوه معكوساً . . ويقنعوك به !
يريدونك أن تخفي معهم واقع قريش التآمري بعد فتح مكة فلا تتحدث عنه بحرف . . ! وأن تردد معهم أن هذه القبائل المشركة ، جنود أئمة الشرك ، ومنجم الفراعنة ، بنص القرآن . . بعد أن أسلمت تحت السيف ، صارت ملائكة ، وتحولت بين عشية وضحاها ، إلى قبائل مسلمة مؤمنة تقية ، تقود الناس بالإسلام والهدى !
فهي أحق بالخلافة من عترة النبي صلى الله عليه وآله !
--------------------------- 164 ---------------------------
معنى التبليغ في القرآن
مفهوم التبليغ في القرآن مفهوم بسيط واضح ، فهو يعني بيان الأنبياء الرسالة الإلهية للناس . . والناس بعد ذلك مختارون في أن يقبلوا أو يتولوا ، وحسابهم على الله تعالى ، وليس على أنبيائه !
وتتفرع من هذا الأساس العميق عدة مبادئ :
أولاً : أن النبي يحتاج إلى ضمان حرية التعبير عن رسالة ربه ، ليتمكن من إيصالها إلى العباد وإبلاغهم إياها . وقد كان هذا هو المطلب الأول للأنبياء عليهم السلام من أممهم .
ثانياً : مهمة الأنبياء عليهم السلام هي التبليغ فقط أي مجرد ( الإبلاغ ) حتى أن الجهاد لم يفرض على أحد من الأنبياء قبل إبراهيم عليهم السلام ، فهو أول من فرض الله عليه الجهاد الدفاعي فقط ! ففي دعائم الاسلام للقاضي النعمان المغربي : 1 / 344 : ( عن علي صلوات الله عليه أنه قال : أول من جاهد في سبيل الله إبراهيم عليه السلام ، أغارت الروم على ناحية فيها لوط ، فأسروه ، فبلغ إبراهيم الخبر فنفر فاستنقذه من أيديهم . وهو أول من عمل الرايات صلى الله عليه ) . انتهى .
ثم فرض الجهاد على الأنبياء من ذرية إبراهيم ، وكل الأنبياء بعده من ذريته ، من أجل إزاحة العقبات المانعة من التبليغ ، أو رد اعتداءات الكفار عن المؤمنين الذين اختاروا الدين الإلهي وإقامة حياتهم على أساسه .
ثالثاً : لا إكراه في الدين ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . . فينبغي أن يبقى قانون الهداية والإضلال فعالاً ، والقدرة على عمل الخير والشر متوفرة .
--------------------------- 165 ---------------------------
رابعاً : الهدف من الإبلاغ هو إقامة الحجة لله على عباده ، واضحة كاملة ، حتى لا يقولوا يوم القيامة لم يبلغنا ذلك نبي ولم نعرف ذلك وكنا عنه غافلين . . فإقامة الحجة في الدين الإلهي محورٌ أصلي ثابتٌ في عمل الأنبياء عليهم السلام سواء على مستوى الكافرين ، أو على مستوى أممهم المؤمنين بهم .
ومعنى أن مهمة النبي عليه السلام إنما هي البلاغ . . أن واجبه أن يوصل العقيدة والأحكام إلى الناس ، ويبين لهم ويفهمهم . . وبذلك يقيم الحجة لربه عز وجل ، ويؤدي ما عليه . . ويسقط المسؤولية عن عاتقه .
أما استجابة الناس أو تكذيبهم . . وأما عملهم وسلوكهم ، فهو شأنهم وليس النبي مسؤولاً عنه ، بل المحاسبة عليه من اختصاص الله تعالى . قال الله تعالى : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) . سورة الأنعام - 149
- *
وأدلة هذه المبادئ من القرآن والسنة كثيرة ، نذكر منها إلى ما ذكره الله تعالى من قول نوح عليه السلام : ( أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون ) . سورة الأعراف - 62
وقول تعالى عن شعيب : ( فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ) . سورة الأعراف - 93
وعن هود : ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ ) . سورة هود - 57
وقوله تعالى عن مهمة جميع الرسل الذين بعثهم عليهم السلام : ( فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) . سورة النحل - 35 . ( قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين ) . سورة يس - 16 ، 17 . . .
--------------------------- 166 ---------------------------
ولا يتسع المجال لاستعراض مفاهيم التبليغ وأحكامه في القرآن والحديث ، فهي أجزاء مشرقة من نظرية متكاملة في مهمة الأنبياء عليهم السلام ، حتى أنه تعالى وصف دينه وقرآنه بأنه بلاغ فقال : ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ) . سورة إبراهيم - 52
وقال إنه بلاغ يشمل الأجيال الآتية التي يبلغها الإسلام : ( قل أي شيء
أكبر شهادة ؟ قل الله شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ . . ) . سورة الأنعام - 19
وأثنى تعالى على أمانة أنبيائه وشجاعتهم في تبليغ رسالاته ، رغم مقاومة الناس واستهزائهم ، فقال عز وجل : ( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً ) . سورة الأحزاب - 39
كما تحدث سبحانه عما لاقاه الأنبياء من تكذيب ، وأذىً ، واضطهاد ، وتشريد ، وتقتيل . . رغم أن مهمتهم كانت مجرد التبليغ عن الله تعالى !
مهمة نبينا صلى الله عليه وآله في التبليغ
والذي يتصل بموضوعنا مباشرة هو تبليغ نبينا محمد صلى الله عليه وآله فقد قال تعالى عن مهمته ومسؤوليته : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ، فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) . سورة المائدة - 92 .
( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم
ما حملتم ، وإن تطيعوه تهتدوا ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) . النور - 54 . ( فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والله بصير بالعباد ) . سورة آل عمران - 20 . فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً ، إن عليك إلا البلاغ . الشورى - 48 .
--------------------------- 167 ---------------------------
وقد أرسل الله نبينا محمداً صلى الله عليه وآله بنفس نظام الرسالة والتبليغ ، الذي أرسل به جميع الأنبياء عليهم السلام وهو قاعدة : إقامة الحجة وإتمامها على الناس ، وعدم إجبارهم على العمل .
وهذا هو معنى ( فإنما عليك البلاغ ) فقط ، وفقط !
وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وآله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ) .
فالإجبار الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله هو إجبار أهل الكتاب على التعايش مع المسلمين ، وليس على الدخول في الإسلام ، وإجبار المشركين الوثنيين على الدخول في الإطار العام للإسلام . . وما عداه متروكٌ للأمة ، داخل هذا الإطار ، يطيع منها من يطيع ، ويعصي من يعصي ، ويهتدي منها من يهتدي ، ويضل من يضل . . والمحاسب هو الله تعالى .
ومن الطبيعي إذن ، أن تحتاج مهمة التبليغ إلى حماية للنبي صلى الله عليه وآله حتى يؤديها ، وإلا فإن قبائل قريش الذين يدركون خطر دعوته على نفوذهم وآلهتهم ، سرعان ما يدبرون قتله ، أو تشويه سمعته وعزله ، وحجب الناس عن سماع صوته .
ورغم أن الألطاف الإلهية على أنبيائه عليهم السلام كثيرة ومتنوعة ، وما خفي عنا منها أعظم وأكثر مما عرفناه ، بل مما يمكن أن يبلغه فهمنا . .
لكن سنته سبحانه في الرسل أن يترك أكثر حمايتهم للأسباب ( الطبيعية ) مضافاً إلى تلك الألطاف . ولا يوجد دليلٌ واحدٌ على ما ذكروه من ضمان الله تعالى عصمة نبيه صلى الله عليه وآله من الجرح والقتل ، وأنواع الأذى التي
--------------------------- 168 ---------------------------
قد يتعرض لها . . وستأتي النصوص على استمرار حراسته صلى الله عليه وآله إلى آخر حياته ، ونذكر هنا ما رواه الجميع من أنه صلى الله عليه وآله كان يطلب من قبائل العرب تأمين هذه الحماية حتى يبلغ رسالة ربه .
ففي سيرة ابن هشام : 2 / 23 عن ربيعة بن عباد ، قال :
( إني لغلامٌ شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به ) . انتهى . ورواه الطبري في تاريخه : 2 / 83 ، وابن كثير في سيرته : 2 / 155 .
وقال اليعقوبي في تاريخه : 2 / 36 :
( وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ، ويكلم شريف كل قوم ، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه ، ويقول : لا أكره أحداً منكم ، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل ، حتى أبلغ رسالات ربي ، فلم يقبله أحد ، وكانوا يقولون : قوم الرجل أعلم به ) ! . انتهى .
كذلك نصت مصادر السيرة على أنه صلى الله عليه وآله طلب البيعة من الأنصار ، على حمايته وحماية أهل بيته مما يحمون أنفسهم وأهليهم . .
ففي سيرة ابن هشام : 2 / 38 :
( فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم . قال فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحروب ،
--------------------------- 169 ---------------------------
وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر ) . ورواه الطبري في تاريخه : 2 / 92 ، وأسد الغابة : 1 / 174 ، وعيون الأثر : 1 / 217 ، وسيرة ابن كثير : 2 / 198 ، ورواه أحمد : 3 / 461 ، وقال عنه في مجمع الزوائد : 6 / 44 : رواه أحمد والطبراني بنحوه ، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع . ورواه في كنز العمال : 1 / 328 ، و 8 / 29 .
- *
إلى هنا يتسق الموضوع . . فقد طلب النبي صلى الله عليه وآله الحماية لتبليغ رسالة ربه ، على سنة الله تعالى في من مضى من الأنبياء عليهم السلام ، وقد حصل عليها من الأنصار .
وقد نصره الله تعالى وهزم أعداءه من المشركين واليهود ، وشملت دولته شبه الجزيرة العربية واليمن والبحرين وساحل الخليج ، وامتدت إلى أطراف الشام ، وصار جيش الإسلام يهدد الروم في الشام وفلسطين . .
وها هو صلى الله عليه وآله في السنة العاشرة يودع المسلمين في حجة الوداع ، ويتلقى سورة المائدة ويتلقى فيها آية تأمره بالتبليغ وتطمئنه بالعصمة من الناس ! !
فما عدا مما بدا ، حتى نزل الأمر بالتبليغ في آخر التبليغ ، وصار النبي الآن وهو قائد الدولة القوية ، بحاجة إلى حماية وعصمة من الناس !
إن الباحث ملزمٌ هنا أن يستبعد حاجة النبي صلى الله عليه وآله إلى الحماية المادية ، لأن الله تعالى أراد لها أن تتم بالأسباب الطبيعية ، وقد وفرها على أحسن وجه ، فلا بد أن تكون العصمة هنا من نوع الحماية المعنوية لا المادية .
والباحث ملزمٌ ثانياً ، أن يفسر الأمر بالتبليغ في الآية بأنه تبليغ موضوعٍ ثقيلٍ على الناس . . وأن الذين يثقل عليهم هم المنافقون من المسلمين ، لأنه لم
--------------------------- 170 ---------------------------
يبق أمرٌ ثقيلٌ على الكفار إلا وبلغه لهم ، كما أنه لم يبلغهم أمراً بارزاً بعد نزول الآية يصح تفسيرها به .
وبهذا لا يبقى معنى للعصمة النازلة من عند الله تعالى إلا العصمة من الطعن في نبوته إذا هو بلَّغهم أن الحكم من بعده في أهل بيته صلى الله عليه وآله .
فبذلك فقط يتسق معنى الآية ويكون معناها :
يا أيها الرسول : إنما أنت رسول مبلغ ، ولست مسؤولاً عما يحدث ، ولا عن النتيجة ، بل هو من اختصاص ربك تعالى . .
بلغ ما أنزل إليك من ربك : وأمرك به جبرئيل في علي ، وحاولت تبليغه مرات في حجة الوداع ، فشوش المنافقون عليك .
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته : ولم تكمل إقامة الحجة لربك ، لأن ولاية عترتك ليست أمراً شخصياً يخصك وإن ظنه المنافقون كذلك ، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من هذه الرسالة الخاتمة الموحدة ، وإذا انتفى الجزء من الرسالة . . انتفى الكل ، وإذا انتفى الجزء من الحجة . . انتفى الكل .
والله يعصمك من الناس : من طعن قريش بنبوتك بسبب هذا التبليغ مع أنه ثقيلٌ عليها . . فسوف يمنعها الله أن ترفض نبوتك بسببه ، وسوف تمر المسألة بسلام , ولا يكون عليك تشويش في التبليغ كما حدث في عرفات ومنى ، ولا ردة عن الإسلام . . وتكون أتمت الحجة لربك على أمتك ، ولكن علياً سوف يحتاج إلى قتالها على تأويل القرآن كما قاتلتها أنت على تنزيله !
إن الله لا يهدي القوم الكافرين : الذين يظلمون عترتك من بعدك ، ويبدلون نعمة الله كفراً ، ويظلمون بذلك الأمة ، ويقودونها إلى الصراعات على الحكم ، ويسببون انهيارها . . إلى أن يبعث الله المهدي من ولدك !
--------------------------- 171 ---------------------------
يهودية قريش . . أوجبت عصمة إضافية لنبينا صلى الله عليه وآله
تدل الآية الكريمة والنصوص العديدة على أن تبليغ النبي صلى الله عليه وآله لرسالة ربه في عترته عليهم السلام ، كان من شأنه أن يزلزل الأمة الجديدة العهد بالاسلام ، ويهدد أصل نبوته صلى الله عليه وآله ! فما هو السبب ، والظروف التي كانت قائمة ؟ !
إن مصدر الخطر على ترتيب النبي صلى الله عليه وآله لأمر الخلافة من بعده كان محصوراً في قريش وحدها . . وحدها . . فلا قبائل العرب غير قريش ، ولا اليهود ، ولا النصارى . . يستطيعون التدخل في هذا الموضوع الداخلي وإعطاء الرأي فيه ، فضلاً عن عرقلة تبليغه أو تنفيذه !
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله كان شبه آيس من إمكانية تنفيذ هذا الموضوع ، وأنه كان يخشى ظهور الردة من مجرد تبليغه بشكل صريح ورسمي ! والسبب في ذلك طبيعة قريش ، وتعقيدها النفسي ، وتركيبتها الذهنية المراوغة كقبائل اليهود الذين عانى منهم موسى والأنبياء عليهم السلام !
قريش منجم الفراعنة
إذا تغاضينا عن أحاديث طعن النبي صلى الله عليه وآله في أنساب زعماء قريش الذين واجهوا آيات ربهم . . وطعن عمه أبي طالب نسابة قريش رضي الله عنه في أنسابهم . . وطعن علي عليه السلام في أنسابهم . . وقلنا بصحة أنسابهم إلى إسماعيل عليه السلام . . فإنهم يكونون ذرية إسماعيل الفاسدة ، لأنهم جمعوا بين صفات اليهود المعقدة من بني عمهم إسحاق ، وبين غطرسة رؤساء القبائل الصحراوية الخشنة !
--------------------------- 172 ---------------------------
وقريش . . باستثناء بني هاشم والقليل القليل من غيرهم ، منجم للتكبر والشيطنة ! فقد حكم الله سبحانه على زعمائها بأنهم فراعنة تماماً ، بالجمع لا بالمفرد ، فقال تعالى : ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً . فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً ) . المزمل 15 - 16 .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله عن عدد منهم لما وقف على قتلى بدر :
( جزاكم الله من عصابة شراً ! لقد كذبتموني صادقاً وخونتموني أميناً . ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال : إن هذا أعتى على الله من فرعون ! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحد الله ، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى ) ! ( حلية الأبرار : 1 / 127 ، أمالي الطوسي : 1 / 316 ، وعنه البحار : 19 / 272 ، ورواه في مجمع الزوائد : 6 / 91 ) .
وروى ابن هشام في : 1 / 207 قول أبي جهل :
( تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا
فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك مثل هذه ! والله لا نؤمن به أبداً ، ولا نصدقه ! ) . انتهى . ورواه في عيون الأثر : 1 / 146 ، وابن كثير في سيرته : 1 / 506 .
وفي تفسير القمي : 1 / 276 :
( قال رسول الله صلى الله عليه وآله لقريش : إن الله بعثني أن أقتل جميع ملوك الدنيا وأجرَّ الملك إليكم ، فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكوا بها العرب ، وتدين لكم بها العجم ، وتكونوا ملوكاً في الجنة . فقال أبو جهل : اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، حسداً لرسول الله صلى الله عليه وآله ،
--------------------------- 173 ---------------------------
ثم قال : كنا وبنو هاشم كفرسي رهان ، نحمل إذا حملوا ، ونطعن إذا طعنوا ، ونوقد إذا أوقدوا ، فلما استوى بنا وبهم الركب ، قال قائل منهم : منا نبي ! لا نرضى بذلك أن يكون في بني هاشم ، ولا يكون في بني مخزوم ! ! ) .
وقال الأبشيهي في المستطرف : 1 / 58 :
( قال معاوية لرجل من اليمن : ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ! فقال : أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، ولم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فاهدنا إليه ) .
وقال البياضي في الصراط المستقيم : 3 / 49 :
( قال معاوية : فضل الله قريشاً بثلاث : وأنذر عشيرتك الأقربين ، ونحن الأقربون . وإنه لذكر لك ولقومك ، ونحن قومه . لإيلاف قريش ، ونحن قريش . فقال رجل أنصاري : على رسلك يا معاوية ، قال الله : وكذب به قومك ، وأنت من قومه . إذا قومك عنه يصدون ، وأنت من قومه . إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ، وأنت من قومه ! ! فهذه ثلاث بثلاث ، ولو زدتنا لزدناك ! ! فأفحمه ) . انتهى .
- *
وفرعون وقومه . . عندما أخذهم الله بالسنين ، طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو لهم ربه . . بينما رسول الله صلى الله عليه وآله دعا ربه على قريش الظالمة العاتية ، فأخذهم الله بالسنين ، وأصيبوا بالفقر والقحط ، حتى أكلوا العلهز . . وما استكانوا لربهم وما يتضرعون ! !
--------------------------- 174 ---------------------------
قال الحاكم في المستدرك : 2 / 394 :
( عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، قد أكلنا العلهز ! يعني الوبر والدم ، فأنزل الله عز وجل : ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون . هذا حديث صحيح الأسناد ، ولم يخرجاه ) . انتهى .
وقال في معجم البلدان : 3 / 458 :
( والعلهز : دم القراد والوبر ، يلبك ويشوى ويؤكل في الجدب ! وقال آخرون : العلهز دم يابس يدق مع أوبار الإبل في المجاعات . وأنشد بعضهم :
وإن قرى قحطان قرفٌ وعلهزٌ فأقبح بهذا ويح نفسك من فعلِ .
ولكن أتباع الخلافة القرشية لا يعجبهم هذا الحديث ، ولا يفسرون به الآية ! بل يزعمون أن القرشيين خضعوا لربهم وتضرعوا ، ودعا لهم الرسول صلى الله عليه وآله ! فانظر إلى ما قاله عباد قريش مثل ابن كثير في البداية والنهاية : 6 / 101 ، قال : ( لما دعا على قريش حين استعصت أن يسلط الله عليها سبعاً كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة حصدت كل شيء ، حتى أكلوا العظام والكلاب والعلهز . ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده في أن يدعو الله لهم ، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم ! ! ) . انتهى .
ومشكلة ابن كثير أنه يحب رائحة آل أبي سفيان ، وإلا فهو مؤلفٌ في السيرة والتاريخ ، يعرف أن مجيء أبي سفيان كان بعد أن أشفق النبي صلى الله عليه وآله على حالة قريش ، وأرسل إليهم بأحمال من المواد الغذائية وبعض الأموال لعلهم يستكينوا لله تعالى ويؤمنوا به وبرسوله ! ! وبعد أن اعتدى بنو
--------------------------- 175 ---------------------------
بكر حلفاء قريش على خزاعة حلفاء النبي وجده عبد المطلب . . وقتلوا منهم ، واعانتهم قريش على الخزاعيين ، رغم الهدنة الموقعة بينهم وبين النبي !
فاغتنمت قريش لفتة القلب النبوي الرحيم ، وأنكرت تحريض بني بكر ومساعدتهم ، وبعثت أبا سفيان إلى النبي صلى الله عليه وآله تتبرأ له من نقضها للهدنة ، وحملته مشروع تمديد للصلح ، من نوع مشاريع السلام الإسرائيلية في عصرنا ، فرفضه النبي صلى الله عليه وآله ، فذهب أبو سفيان إلى علي وفاطمة عليهما السلام يرجوهما التوسط إلى النبي صلى الله عليه وآله فلم يقبلا وعرض عليهم أن يكون هذا ( الصلح ) باسم الحسن والحسين عليهما السلام ليكون فخراً لهما في العرب ، فقالا : إنا لا نجير أحداً على رسول الله صلى الله عليه وآله ! !
قال المفيد في الارشاد : 1 / 132 :
( فصل : ولما دخل أبو سفيان المدينة لتجديد العهد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين قريش ، عندما كان من بني بكر في خزاعة وقتلهم من قتلوا منها ، فقصد أبو سفيان ليتلافى الفارط من القوم ، وقد خاف من نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله لهم ، وأشفق مما حل بهم يوم الفتح . فأتى النبي صلى الله عليه وآله وكتمه في ذلك ، فلم يردد عليه جوابا . فقام من عنده ، فلقيه أبو بكر فتشبث به وظن أنه يوصله إلى بغيته من النبي صلى الله عليه وآله فسأله كلامه له ، فقال : ما أنا بفاعل لعلم أبي بكر بأن سؤاله في ذلك لا يغني شيئاً . فظن أبو سفيان بعمر بن الخطاب ما ظنه بأبي بكر فكتمه في ذلك ، فدفعه بغلظة وفضاضة كادت أن تفسد الرأي على النبي صلى الله عليه وآله . فعدل إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام فاستأذن عليه ، فأذن له وعنده فاطمة
--------------------------- 176 ---------------------------
والحسن والحسين عليهم السلام فقال له : يا علي ، إنك أمس القوم بي رحماً ، وأقربهم مني قرابةً ، وقد جئتك فلا أرجعن كما جئت خائباً ، إشفع لي إلى رسول الله فيما قصدته . فقال له : ويحك يا با سفيان ، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وآله على أمر ما نستطيع أن نكمله فيه فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة عليها السلام ، فقال لها : يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنيك أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر . فقالت : ما بلغ بنياي أن يجيرا بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وآله . فتحير أبو سفيان وسقط في يده ، ثم أقبل على أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا با الحسن ، أرى الأمور قد التبست علي فانصح لي . فقال له أمير المؤمنين : ما أرى شيئاً يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك . قال : فترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟
قال : لا والله لا أظن ولكني لا أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس . ثم ركب بعيره فانطلق !
فلما قدم على قريش قالوا : ما ورائك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته ، فوالله ما رد علي شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً ، ثم لقيت ابن الخطاب فوجدته فظاً غليظاً لا خير فيه ، ثم أتيت علياً فوجدته ألين القوم لي ، وقد أشار في شئ فصنعته ، والله ما أدري يغني عني شيئاً أم لا ، فقالوا : بم أمرك ؟ قال : أمرني ان أجير بين الناس ففعلت . فقالوا له : فهل أجار ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغني عنك ؟ قال أبو سفيان : لا والله ما وجدت غير ذلك ! ) انتهى . ونحوه ابن كثير في البداية والنهاية : 4 / 319
--------------------------- 177 ---------------------------
قبائل قريش
كانت قريش أكثر من عشرين قبيلة منها :
بنو هاشم بن عبد مناف
بنو أمية بن عبد شمس
بنو عبد الدار بن قصي
بنو مخزوم بن يقظة بن مرة
بنو زهرة بن كلاب
بنو أسد بن عبد العزى
بنو الحارث بن فهر بن مالك
بنو عامر بن لؤي
بنو سهم بن عمرو
بنو جمح بن عمرو
بنو أنمار بن بغيض
بنو تيم بن مرة بن كعب
بنو عدي بن كعب . . . إلخ .
ولكن الفعل والتأثير كان محصوراً بالقبائل المهمة ، والزعماء المهمين ، وهم بضع قبائل ، وبضعة عشر زعيماً ، والباقون تبعٌ لهم إلى حد كبير . . فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل ( مشكلة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ) . فقال في : ج 2 / 331 :
--------------------------- 178 ---------------------------
( وقد اجتمع فيها أشراف قريش : من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب . ومن بني نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل . ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة . ومن بني أسد بن عبد العزى : أبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود بن المطلب ، وحكيم بن حزام . ومن بني مخزوم : أبو جهل ابن هشام . ومن بني سهم : نبيه ومنبه ابنا الحجاج . ومن بني جمح : أمية بن خلف .
ومن كان معهم غيرهم ممن لا يعد من قريش ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأياً . قال : فتشاوروا ثم قال قائل منهم : إحبسوه في الحديد ، وأغلقوا عليه باباً ، ثم تربصوا به . . . إلخ ) . وذكر في ج 2 / 488 : أسماء الذين أنفقوا على جيش المشركين في بدر فقال :
( وكان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبد مناف : العباس بن عبد المطلب بن هاشم . ومن بني عبد شمس بن عبد مناف : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس . ومن بني نوفل بن عبد مناف : الحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل ، يعتقبان ذلك . ومن بني أسد بن عبد العزى : أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد ، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ،
--------------------------- 179 ---------------------------
يعتقبان ذلك . ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار . ) . انتهى .
وإليك هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش ، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات ، فإنه يدل على تركيبة قبائلها ، وتميز بني هاشم عليهم : قال البيهقي في سننه : 6 / 364 :
( عن الشافعي وغيره ، أن عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين قال : إبدأ ببني هاشم ، ثم قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب . . . فوضع الديوان على ذلك ، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة . ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم النسب ، فقال : عبد شمس إخوة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل ، فقدمهم ، ثم دعا بني نوفل يتلونهم . ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار ، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيهم أنهم من المطيبين . . . فقدمهم على بني عبد الدار ، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم . ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار . ثم استوت له تيمٌ ومخزوم ، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل ذكر سابقةً ، وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم ، ثم دعا مخزوم يتلونهم . ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب ، فقيل له : إبدأ بعدي ( قبيلة عمر ) ، فقال : بل أقر نفسي حيث كنت ، فإن الإسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد ، ولكن انظروا بني جمح وسهم ، فقيل قدم بني جمح . ثم دعا بني سهم ، وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة ، فلما خلصت إليه دعوته كبر تكبيرة عالية ، ثم قال : الحمد لله الذي أوصل إلي حظي من رسوله . ثم
--------------------------- 180 ---------------------------
دعا بني عامر بن لؤي ، قال الشافعي : فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال : أكل هؤلاء تدعو أمامي ؟ ! فقال : يا أبا عبيدة ، إصبر كما صبرتُ ، أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه ، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا . قال فقدم معاوية بعد بني الحارث بن فهر ، فَصَلَ بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى . وشجر بين بني سهم وعدي شيء في زمان المهدي فافترقوا ، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح ، للسابقة فيهم ) . انتهى .
- *
وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم كانوا مميزين على بقية الفروع في فكرهم وسلوكهم ، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم . . وأن جماهير القبائل والملوك كانوا يحترمونهم احتراماً خاصاً . . حتى حسدهم زعماء قريش ، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبد المطلب .
فقد رتب هاشم ( رحلة الصيف ) إلى الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش كلها ، فسافر في الصحاري والدول ، وفاوض رؤساء القبائل ، والملوك ، الذين تمر قوافل قريش التجارية في مناطقهم ، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة عليها وضمان سلامتها .
وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز ، وبادرت إلى الاستفادة منه ، ولكنها حسدت هاشماً ، وتمنى زعماؤها لو أن ذلك تم على يدهم ، وكان فخره لهم .
وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة ، في ظروف يحق للباحث أن يشك فيها ! ولكن بيت هاشم لم ينطفئ بعده ، فسرعان ما ظهر ولده عبد المطلب ، وساد في قومه ، وواصل مآثر أبيه ، فرتب لقريش رحلة
--------------------------- 181 ---------------------------
الشتاء إلى اليمن ، وعقد معاهدات لحماية قوافلها مع القبائل التي تمر عليها ، ومع ملك اليمن ، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف .
وعلى الصعيد المعنوي . . كانت قبائل قريش ترى أن بني هاشم وعبد المطلب يباهون دائماً بانتمائهم إلى إسماعيل واتباعهم لملة إبراهيم ، كأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام ، بل كان بنو هاشم يطعنون في نسب غيرهم ! كما فعل أبو طالب وبعده النبي صلى الله عليه وآله !
وتفاقم الأمر على قريش . . عندما أخذ عبد المطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة ، فأخبرهم بأن الله تعالى أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم ، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالى ، ووجد فيها غزالين من ذهب فزين بذهبهما باب الكعبة . . وبذلك فاز بمأثرةٍ جديدة فقد كان مطعم الحجيج ، وصار بسبب شحة الماء في مكة ساقي الحرم والحجيج !
ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للكعبة ، بأن الجيش لن يصل إليها ، وأن الله تعالى سيتولى دفعهم . . فصدقت نبوءته ، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول .
ثم وضع عبد المطلب للناس مراسم وسنناً ، كأنه نبي أو ممهد لنبي ، فجعل الطواف سبعاً ! وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً ، فحرم عبد المطلب ذلك !
ونهى عن قتل الموؤودة . وأوجب الوفاء بالنذر ، وتعظيم الأشهر الحرم . وحرم الخمر . وحرم الزنا ووضع الحد عليه ، ونفى البغايا ذوات الرايات إلى خارج مكة . وحرم نكاح المحارم . وأوجب قطع يد السارق . وشدد على القتل ، وجعل ديته مئة من الإبل . . والملاحظ أن كل ذلك قد أقره الإسلام !
--------------------------- 182 ---------------------------
كانت مكانة عبد المطلب تتعاظم في قريش وفي قبائل العرب ، وزعماء قريش يأكلهم الحسد منه ! حتى جرُّوه مرتين إلى المنافرة والاحتكام إلى الكهان ، فنصره الله عليهم بكرامة جديدة ، وتعاظمت مكانته أكثر !
ولعل أكثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبد المطلب ، أنه ادعى أنه مثل جده إبراهيم عليه السلام ، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الكعبة . . . إلى آخر قصة نذر عبد الله والد النبي وفدائه ! - *
وما أن استراح زعماء قريش من عبد المطلب ، حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قومه وفي قريش والعرب رغم قلة ماله ، وأخذ مكانة أبيه وجده ، وواصل سيرة أبيه عبد المطلب ومقولاته .
وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة على زعماء قريش عندما ادعى ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله النبوة ، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته !
وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته ، وأعلن عمه أبو طالب حمايته لابن أخيه النبي صلى الله عليه وآله ليبلغ رسالة ربه بكامل حريته ، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة ! ووقف في وجه مؤامراتها ضده ، وأطلق قصائده في فضح زعمائها ، حتى طعن في أنسابهم إلى إسماعيل . . فسارت بشعره الركبان يمدح فيه محمداً صلى الله عليه وآله ، ويهجو زعماء قريش ويسمي زعيم مخزوم أبا الحكم ( أحيمق مخزوم ) كما سماه ابن أخيه محمد ( أبا جهل ) ! !
ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله . . ففشلوا !
--------------------------- 183 ---------------------------
ثم اتخذوا قرارا باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم من غير بني هاشم ، فهرب أكثرهم إلى الحبشة . . وفشل زعماء قريش !
ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا إليهم بني كنانة ، بعزل كل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة ، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة !
وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أبا طالب ، حتى اتخذ زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد صلى الله عليه وآله ، الذي بقي بزعمهم بلا حامٍ ولا ناصر . . فأفشل الله كيدهم ونقل رسوله إلى المدينة التي أسلم أكثر أهلها ، وهي تقع على طريق شريانهم التجاري ، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها !
وحاول القرشيون أن يضغطوا على أهل المدينة بالإغراء ، والوعيد ، ومكائد اليهود . . ولكنهم فشلوا ، لأن المدينة صارت في يد النبي صلى الله عليه وآله . . فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم ، وحاربوه في بدر ، وأحد ، والخندق . . ففشلوا !
وحاربوه باليهود ، واستنصروا عليه بالفرس والروم . . ففشلوا !
وما هو إلا أن فاجأهم محمد صلى الله عليه وآله في السنة الثامنة من هجرته فدخل عليهم عاصمتهم مكة ، بجيش من جنود الله لا قبل لهم به ! فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم ، والتسليم للنبي صلى الله عليه وآله !
وقام أهل مكة سماطين ينظرون إلى دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وجيشه . . وتقدم براية الفتح بين يديه شاب أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية هو عبد الله بن رواحة ، وهو ينشد للفراعنة :
--------------------------- 184 ---------------------------
خلوا بني الكفار عن سبيله * فاليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله - يا رب إني مؤمن بقيله *
فقال له عمر بن الخطاب : يا بن رواحة ، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله ، تقول الشعر ! ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : مه يا عمر ، فوالذي نفسي بيده لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل !
( البيهقي في سننه : 10 / 228 ، ونحوه الترمذي : 4 / 217 ، والذهبي في سير أعلام النبلاء : 1 / 235 )
فعمر يريد أن يخفف على زعماء قريش وقع هزيمتهم ، ولا يتحداهم في عاصمتهم . . ولا ننس أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة ، وأنه نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم ، ويصعب عليه أن يتحداهم أنصاري في عاصمتهم !
ولكن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيوف والسهام ، وأن عمل عبد الله بن رواحة عملٌ صحيحٌ ، وقيمته عند الله تعالى عالية ، لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل ! ! - *
فقه فتح مكة دوخ الفقهاء السنيين . . ولم يصحوا من دوختهم !
أعلن الرسول صلى الله عليه وآله الأمان لقريش لمن ألقى سلاحه ، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم . . وذكرهم بتكبرهم وتجبرهم وتكذيبهم لآيات الله ومعجزاته ، وعدائهم لله ورسوله ، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين ، وحروبهم ومكائدهم ضد الإسلام ورسوله . . قال الطبري في تاريخه : 2 / 337 :
--------------------------- 185 ---------------------------
( عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده .
ألا كل مأثرةٍ أو دم أو مال يدعى ، فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج . . .
يا معشر قريش : إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء . الناس من آدم وآدم خلق من تراب .
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . الآية .
يا معشر قريش ويا أهل مكة : ما ترون أني فاعلٌ بكم ؟ !
قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم .
ثم قال : إذهبوا فأنتم الطلقاء ! فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً ، وكانوا له فَيْئاً ، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء ) . انتهى .
وهنا تحير فقهاء الخلافة القرشية وكل علماء بلاطها . . ! !
فإن إطلاق الأسير لا يتحقق إلا بعد الأسر والإسترقاق . فهو يعني أن النبي صلى الله عليه وآله قد استرقهم ، ثم أعتقهم ، فصار له ولآله ولاؤهم .
ويعني أن إسلامهم قد رفع عنهم القتل فقط ، ولم يرفع عنهم جواز الاسترقاق ! فهذه أحكام شرعية لا يمكن إنكارها ، لكنها خاصة بقريش ، ولا يوجد لها مثيل في أحكام الجهاد والفتح الإسلامي ! !
--------------------------- 186 ---------------------------
فالحكم الشرعي لقريش حيث خافت ولم تجرؤ على مقاومة النبي صلى الله عليه وآله ، لو كانت من أهل الكتاب ، أن يخيرها النبي بين ثلاث خصال : الإسلام ، أو القتال ، أو دفع الجزية والبقاء على دينهم . .
ولكنهم مشركون فهم مخيرون بين الإسلام والقتال فقط ، وقد اختاروا الإسلام ولو تحت السيف . فكان اللازم أن تثبت لهم أحكام المسلمين ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله رتب عليهم حكم المشركين الأسرى فأطلقهم ( إطلاقاً ) ولم يعتقهم كما قال الطبري !
وهذا الإطلاق لا يعرفه الفقهاء في أحكام الأسرى ! لأن الأسير إما أن يقتل أو يمن عليه ويعتق ، أو يفادى . أما الإطلاق بدون عتق ولا مفاداة ، فهو خاص بقبائل قريش في فتح مكة !
يضاف إلى مصيبة فقهاء البلاط القرشي . . مسألة فقهية ثانية لا حل لها عندهم أيضاً ، وهي : إعلان النبي الأمان لقريش لكل من دخل داره وأغلق بابه ، وكل من ألقى سلاحه ، وكل من دخل دار أبي سفيان . وهو أمان لمشركين في حالة حرب مع المسلمين ليس فيه شرط أن يدخلوا في الإسلام !
ومسألة ثالثة هي حكم أراضي مكة ، وهل أنها بالأصل ، عتيقة من الملكية تبعاً للبيت العتيق ؟
أم أنها مفتوحة عنوة ، فتكون ملكاً لكل المسلمين إلى يوم القيامة ؟
أم أن النبي صلى الله عليه وآله أقر ملكية القرشيين فيها بسبب إعلانهم إسلامهم ، فصارت ملكيتهم صحيحة ثم اشترى الناس من القرشيين ومن تبعهم إلى يومنا هذا ؟ !
--------------------------- 187 ---------------------------
لكن كيف يصح أن يقر النبي ملكية القرشيين ، ثم يعتبرهم أسرى ويطلقهم إطلاقاً لا عتاقاً . . فهل معنى ذلك إلا أن ملكية أراضيهم تابعة لملكية رقابهم ؟ ! وأنها للنبي . . ثم لآله من بعده . . صلى الله عليه وآله .
- *
وحل لهذه المسائل من وجهة نظرنا : أن أرض مكة لا تملك ، والولاية عليها لرسول الله صلى الله عليه وآله ثم للأئمة من أهل بيته عليهم السلام .
وإن الأمان الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله لهم هو أمر برفع القتل فعلاً عن مشركين محاربين ، إلا من استثني منهم .
وأما إطلاقهم فهو يعني أن النبي صلى الله عليه وآله قد أسرهم وتملكهم شرعاً ، ولم يعتقهم بل أطلقهم إطلاقاً ، كالذي يقول لعبيده : إذهبوا وافعلوا ما شئتم ، فيكون ملكه عليهم وعلى ذراريهم باقياً ، وتعود ملكيتهم وممتلكاتهم بعده إلى ذريته .
وهذا يعني أن النبي لم يخيرهم بين الإسلام والقتال ، بل اعتبر أنهم اختاروا القتال وغلبهم وأخذهم أسرى ، كما هو الواقع !
أما إعلان إسلامهم فقد رتب عليه النبي صلى الله عليه وآله أحياناً أحكام المسلمين وألزمهم بالجهاد معه في حنين وأخذ من نسائهم البيعة .
كما رتب عليهم أحيانا أخرى أحكام المشركين ولم يرجع إليهم أولادهم ولا عبيدهم الذين هاجروا إليه بعد فتح مكة ، كما سيأتي ! وهذا يعني أنه مخير بين أن يرتب عليهم أحكام الاسلام عندما يراه مصلحة ، أو أحكام الكفر عندما يراه مصلحة . . وهي أحكام تنسجم في فقهنا مع مقام النبي والامام ، صلى الله على نبينا وآله .
--------------------------- 188 ---------------------------
ولا يتسع المجال للإفاضة في هذا البحث ، فنكتفي بإيراد نصوص عن الأئمة صلوات الله عليهم تؤكد ما ذكرناه ، منها :
ما في نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده : 3 / 30 في جواب علي عليه السلام لمعاوية : ( وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم تلحقك ثلمته . وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس ؟ ! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم ؟ ! ! هيهات ، لقد حن قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ! ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخر حيث أخرك القدر ، فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظافر . . وإنك لذهَّابٌ في التيه ، رواغٌ عن القصد ) . انتهى .
وفي الكافي : 3 / 512 : ( من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده . . وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر . . وقال : إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر ، وإن أهل مكة دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله عنوة فكانوا أسراء في يده ، فأعتقهم وقال : إذهبوا فأنتم الطلقاء ) . انتهى . - *
أما فقهاء المذاهب السنية فقد اعتبروا أن قريشاً دخلوا في الإسلام وترتبت عليهم أحكامه وانتهى الأمر . وإذا سألتهم عن اسم ( الطلقاء ) وعن تطبيق أحكام القتال على أهل مكة وأرضها ، سارعوا إلى التخلص من ذم قريش وذكر أسرها . . وقالوا إنها أحكام خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله .
--------------------------- 189 ---------------------------
قال الشافعي في كتاب الأم : 7 / 382 : ( قال الأوزاعي : فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوةً ، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة ، ولم يجعلها فيئاً . قال أبو يوسف رحمه الله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال : من أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ونهى عن القتل إلا نفراً قد سماهم ، إلا أن يقاتل أحد فيقتل ، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد : ما ترون أني صانع بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم . قال : إذهبوا فأنتم الطلقاء . ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا كثيراً من متاعهم فيئاً . وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره ، فهذا من ذلك ، وتفهم فيما أتاك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن لذلك وجوهاً ومعاني ) . انتهى .
وغرض فقهاء الخلافة القرشية من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لم يجعل أرض مكة فيئاً للمسلمين ، ولا جعل أهلها عبيداً وموالي لهم ، كما هي أحكام الإسلام ، بل عفا عنهم وقبل إسلامهم ، وهذا لا يجوز لأحد أن يفعله ذلك مع مشركين محاربين ! لكنه حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وآله . . فهم بذلك يزعمون تكريم الله ورسوله لقريش ، بأحكام خاصة وامتيازات عن بقية المشركين ! ! لكن العقبة الكأداء تبقى أمامهم صفة ( الطلقاء ) التي ختم بها النبي صلى الله عليه وآله أعناق جميع قريش إلى يوم القيامة . . وهي صفة لا تصح إلا للعبيد المملوكين !
وقد تنبه بعض النواصب إلى أنه لا حل لمشكلة قريش مع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ما دام اسم ( الطلقاء ) وصمة نبوية على جبينهم . فهي
--------------------------- 190 ---------------------------
تعني أن قريشاً صارواً عبيداً شرعيين للنبي صلى الله عليه وآله ، وأنه أطلقهم إطلاقاً فعلياً مع بقاء ملكيتهم له ثم لأهل بيته عليهم السلام ، وحتى لو زعم أحدٌ أن النبي أعتقهم فولاؤهم له ولأهل بيته أيضاً !
ومن هنا حاولوا إنكار اسم ( الطلقاء ) من أساسه ليخلصوا أسيادهم القرشيين من صفة الرق الشرعي للنبي وآله صلى الله عليه وآله ! !
ومما صادفته في تصفحي ، ما ارتكبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين ، حيث ضعف هذا الحديث !
فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة 3 / 307 برقم 1163 : ( ضعيف . رواه ابن إسحاق في السيرة : 4 / 31 32 ، وعنه الطبري في التاريخ 3 / 120 ، ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 4 / 300 - 301 ، ساكتاً عليه . وهذا سند ضعيف مرسل ، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسم ، فهو مجهول . ثم هو ليس صحابياً ، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة ، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه ، فهو مرسل ، أو معضل . انتهى .
ولا بد أن الألباني المحدث يعرف وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخرى ، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات ! فمرضه ليس الجهل بالتاريخ والحديث . . بل مرضه حب القرشيين فهو يحاول تخليصهم من صفة الرق الشرعية للنبي وآله الطاهرين صلى الله عليه وآله ؟ !
إن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق ، واسم ( الطلقاء ) اسم كالعلم لأكثر قريش ، وهو كثير في مصادر الحديث ، وقد دخلت أحكامه في فقه المذاهب . فقد روى البخاري في صحيحه : 5 / 105 - 106 قال : ( لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء ، فأدبروا . . . ) وفي مسلم : 3 / 106 : ( ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده ) أي مع بني هاشم ! ! ونحوه في : 5 / 196 وفي مسند أحمد : 3 / 190 و 279 .
--------------------------- 191 ---------------------------
وفي مسند أحمد : 4 / 363 : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض ، إلى يوم القيامة ) ! !
وهو حديث عجيب ! ! وقد صححه الحاكم في المستدرك : 4 / 80 ، وقال عنه في مجمع الزوائد : 10 / 15 : رواه أحمد والطبراني بأسانيد ، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح ، وقد جوده رضي الله عنه وعنا ، فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي ، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي . ( وراجع أيضاً مغني ابن قدامة : 7 / 321 ، ومبسوط السرخسي : 10 / 39 ، ومسند أحمد : 3 / 279 ، وسنن البيهقي : 6 / 306 ، و 8 / 266 و : 9 / 118 ، وكنز العمال : 12 / 86 ) .
وفي كنز العمال : 5 / 735 : ( قال لهم عمر : إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء ، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبد الله بن أبي ربيعة عنكم غافلاً . ابن سعد ) . انتهى . فقضية الطلقاء وحديثهم صحيحة في مصادرهم . . وتعازينا لعلماء بلاطهم من الألبانيين والعرب !
قريش بعد فتح مكة
ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم إلى الدخول في الإسلام ؟ ؟
من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والكبرياء القرشي بقيت محتدمة في قلوب أكثرهم إن لم نقل كلهم . . ولكن في المقابل ظهر فيهم منطق يقول : إن دولة محمد دولتنا . . فمحمد أخ كريم ، وابن أخ كريم ، ودولته دولة قريش ، وعزه عزها وفخره فخرها ، ومهما كان محمد . . فهو ابن قريش ، ودولته
--------------------------- 192 ---------------------------
أوسع من دولة قريش وأقوى ، وقد عفا عنها وفتح المجال أمام زعمائها في أجهزة هذه الدولة ، فلماذا نحاربها ، ولماذا نتركها بأيدي الأنصار الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين !
أما مسألة من يرث دولة محمد بعده ، فهي مسألة قابلة للعلاج ، وهي على كل حال مسألة قرشية داخلية ! !
من البديهي أن يفهم الباحث أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد صلى الله عليه وآله ، وأن الهدف الأهم عندها كان : منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم ، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة على حد تعبير قريش والناطق الجديد باسمها عمر ! فالنبوة لبني هاشم ، ولكن خلافة محمد يجب أن تكون لقبائل قريش غير بني هاشم !
لكن رغم وجود هذا المنطق ، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل على أنهم كانوا يعملون على كل الجبهات الممكنة ! وأن أكثريتهم كانوا يائسين من أن يشركهم محمد في حكم دولته ، لأنه يعمل بجد لتركيز حكم عترته من بعده . . لذلك اتجه تفكيرهم بعد فتح مكة إلى اغتيال النبي صلى الله عليه وآله . . وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلك في حنين بعد أيام من فتح مكة ! !
إن فراعنة قريش يهود هذه الأمة ، فهم لا يعرفون الوفاء ، بل كأنهم يصابون بالصداع إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن إليهم ! !
لقد أعلنوا إسلامهم ، وادعوا أنهم ذاهبون مع النبي صلى الله عليه وآله إلى حنين ليساعدوه في حربه ضد قبيلتي هوازن وغطفان ، وكان عدد جيش القرشيين ألفين ، وعدد جيش النبي صلى الله عليه وآله الذي فتح مكة عشرة
--------------------------- 193 ---------------------------
آلاف ، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشقة سهام فسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً ، كما حدث في أحد !
وثبت النبي صلى الله عليه وآله ومعه بنو هاشم فقط ، كالعادة ، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا إليهم من الفارين حتى ردوا الحملة ، ثم رجع آخرون من المسلمين الفارين . . وكتب الله النصر .
وفي أثناء هزيمة المسلمين ، قامت قريش بعدة محاولات لقتل النبي صلى الله عليه وآله ! ! وهو أمر يفتح باب الشك بأن الهزيمة كانت أمرا مدبراً مع قبيلة هوازن ! ! ونكتفي هنا بذكر ما نقله زعيم بني عبد الدار النضير بن الحارث ، الذي سيأتي ذكره في تفسير الآية الثالثة ! وقد نقل ذلك عنه محب له ولقريش ولبني أمية ، هو ابن كثير الشامي ، فقال في سيرته : 3 / 691 :
كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس ، فكان يقول : الحمد لله الذي من علينا بالإسلام ، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولم نمت على ما مات عليه الآباء ، وقتل عليه الأخوة وبنو العم .
ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين ، وهم على دينهم بعد ، قال : ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه ، فلم يمكنا ذلك .
فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه ، إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنضير ؟
قلت : لبيك .
قال : هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ؟
--------------------------- 194 ---------------------------
قال : فأقبلت إليه سريعاً .
فقال : قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع !
قلت : قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم زده ثباتاً .
قال النضير : فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين ، وتبصرة بالحق .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي هداه . انتهى .
وأنت تلاحظ أن هذه الكلام يتضمن إقراراً من هذا الزعيم القرشي على نفسه ، وإقرار الإنسان على نفسه حجة ! ويتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالى فقد ذكر أنه تشهد الشهادة الأولى ! ولكن الدعوى لا تثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره !
ومهما يكن من أمر إسلامه يومئذ ، فقد اعترف زعيم بني عبد الدار صاحب راية قريش وقائد قواتها الذي كان تحت إمرته ألفا مسلح في حنين ، بأن إعلان إسلامهم في مكة كان كاذباً ، وأن زعماء قريش كانوا متفقين على قتل النبي صلى الله عليه وآله ، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا . . فقد أحبط الله تعالى خططهم ، وكشف لنبيه صلى الله عليه وآله نواياهم ! !
بل تدل أحاديث السيرة على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر ، فأظهروا كفرهم الراسخ ، وفضحوا أنفسهم !
--------------------------- 195 ---------------------------
ففي سيرة ابن هشام : 4 / 46 :
قال ابن إسحاق : فلما انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وإن الأزلام لَمَعَهُ في كنانته !
وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشركٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا بطل السحر اليوم !
قال ابن إسحاق : وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار : قلت اليوم أدرك ثأري من محمد ، وكان أبوه قتل يوم أحد ، اليوم أقتل محمداً ، قال : فأدرت برسول الله لأقتله ، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذاك ، وعلمت أنه ممنوعٌ مني ! ! . انتهى .
وشيبة هذا قائد آخر من قادة جيش قريش ( المسلمة المؤمنة المجاهدة ! ) يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها ( دار ) مرة أو مراتٍ حول النبي صلى الله عليه وآله ليقتله ! فتأمل . . ! !
إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش ، وتفكيرهم واهتماماتهم ، يصل إلى قناعة بأنهم مردوا على النفاق ، واتخذوا قراراً بأن يكذبوا بكل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد صلى الله عليه وآله ، ويكفروا بكل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعوهم إليها ويعاملهم بها !
لقد قرروا أن لا يدخلوا في دينه إلا في حالتين لا ثالثة لهما :
--------------------------- 196 ---------------------------
إذا كان السيف فوق رؤوسهم !
أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم !
لقد حاربوا هذا الدين ونبيه صلى الله عليه وآله بكل الوسائل حتى عجزوا وانهزموا . .
ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله فعجزوا .
ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي صلى الله عليه وآله ليأخذوا شطراً من دولته فعجزوا .
ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم صلى الله عليه وآله لأنه من قبائل قريش !
فتأمل في طبيعة هذه الطينة التي استولت على مقدرات الدولة الإسلامية ، وأبعدت عن الحكم أهل بيت نبيها صلوات الله عليه وعليهم ! !
قال في مناقب آل أبي طالب : 2 / 239 :
قال الشريف المرتضى في تنزيه الأنبياء : إن النبي صلى الله عليه وآله لما نص على أمير المؤمنين بالإمامة في ابتداء الأمر ، جاءه قوم من قريش وقالوا له : يا رسول الله إن الناس قريبو عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب . . فلو عدلت به إلى غيره ، لكان أولى ! فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : ما فعلت ذلك لرأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ .
فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك ، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس إليه ، ليتم لك أمرك ، ولا تخالف الناس عليك .
--------------------------- 197 ---------------------------
فنزلت الآية : لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ! !
وروى في المصدر المذكور عن عبد العظيم الحسني عن الصادق عليه السلام في خبر : قال رجل من بني عدي اجتمعت إليَّ قريش ، فأتينا النبي فقالوا : يا رسول الله إنا تركنا عبادة الأوثان واتبعناك ، فأشركنا في ولاية علي فنكون شركاء ، فهبط جبرئيل على النبي فقال : يا محمد لئن أشركت ليحبطن عملك . . الآية . انتهى . ( أقول : والحديث الأول في تنزيه الأنبياء / 167 ) .
- *
قريش تتمحور حول زعامة سهيل بن عمرو
على رغم خيانات زعماء قريش بعد فتح مكة وتآمرهم . . فقد حاول النبي صلى الله عليه وآله أن يستقطبهم ، فأكرمهم وتألفهم وأعطاهم أكثر غنائم معركة حنين ! وأطمعهم بالمستقبل إن هم أسلموا وحسن إسلامهم . . . إلخ .
لقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله أن يقاوم عُقَدهم بنور الحلم ، وظلماتهم بنور الإحسان . . ! ! ليس من أجل كرامتهم على الله تعالى ، بل من أجل أجيال ستأتي ومسيرة لا بد أن تنطلق في العالم !
وفي هذه الفترة تراجعت زعامة أبي سفيان ، ولم يبق منها عند قريش إلا ( أمجاد ) حربه لمحمد صلى الله عليه وآله !
فشخصية أبي سفيان تصلح للزعامة في الحرب فقط وفي التجارة ، ولا تصلح للزعامة والعمل السياسي في السلم ، لذلك تراه بعد أن انكسر في فتح مكة ذهب إلى المدينة وطلب منصباً من محمد صلى الله عليه وآله ، فعينه جابياً للزكاة من بعض القبائل ! !
--------------------------- 198 ---------------------------
ثم أبو سفيان من بني عبد شمس ، أبناء عم بني عبد المطلب . . وقد أعطاه النبي في فتح مكة امتيازاً ولو شكلياً ، بأن من دخل داره فهو آمن . . فقريش تخشى منه أن يميل إلى بني هاشم بعد أن انكسر كقائد لجبهة لقريش .
وقد أثبت التاريخ أن الدم المزعوم بين أمية وهاشم ، قد يستعمله القادة الأمويون أحياناً ، إذا رأوا في ذلك مصلحتهم ! !
ففي تاريخ الطبري : 2 / 449 :
حدثني محمد بن عثمان الثقفي قال حدثنا أمية بن خالد قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت قال لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان مالنا ولأبي فصيل ؟ ! إنما هي بنو عبد مناف !
قال فقيل له إنه قد ولى ابنك ! قال : وصلته رحم ! !
حدثت عن هشام قال حدثني عوانة قال : لما اجتمع الناس على بيعة أبى بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول : والله إني لأرى عجاجة لا يطفؤها إلا دم ! يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أموركم ؟ ! أين المستضعفان ؟ أين الاذلان علي والعباس ؟
وقال : أبا حسن أبسط يدك حتى أبايعك ، فأبى علي عليه ، فجعل يتمثل بشعر المتلمس :
ولن يقيم على خسف يراد به إلا الاذلان عير الحي والوتد
هذا على الحسف معكوس برمته وذا يشج فلا يبكى له أحد
قال فزجره علي وقال : إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة ، وإنك والله طالما بغيت الاسلام شرا ! لا حاجة لنا في نصيحتك ! ! ) .
--------------------------- 199 ---------------------------
ومما رواه التاريخ أن عثمان بن عفان . . ضرب يوماً على وتر قرابته مع بني هاشم . . ففي هامش الايضاح لابن شاذان الأزدي ص 258 :
( وأما أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الشيعي الامامي فنقل الحديث في كتابه الموسوم بالمسترشد ضمن كلام له بهذه العبارة ( ص 133 من طبعة النجف ) :
عن شريك أن عائشة وحفصة أتتا عثمان بن عفان تطلبان منه ما كان أبواهما يعطيانهما ، فقال لهما : لا ولا كرامة ، ما ذاك لكما عندي !
فألحتا وكان متكئاً فجلس وقال : ستعلم فاطمة أي ابن عم لها أنا اليوم ! ثم قال لهما : ألستما اللتين شهدتما عند أبويكما ولفقتما معكما أعرابياً يتطهر ببوله مالك بن أوس بن الحدثان فشهدتما معه أن النبي صلى الله عليه وآله قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة ؟ ! فمرة تشهدون أن ما تركه رسول الله صدقة ، ومرة تطالبون ميراثه ؟ ! ! انتهى .
ثم روى نحوه عن الإمام الباقر عليه السلام وفيه ( فتركته وانصرفت وكان عثمان إذا خرج إلى الصلاة أخذت قميص رسول الله صلى الله عليه وآله على قصبة فرفعته عليها ، ثم قالت : إن عثمان قد خالف صاحب هذا القميص ) !
- *
على هذا الأساس كان تفكير قريش بعد فتح مكة أنه لا بد من زعيم يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً . . وقد وجدوه في سهيل بن عمرو ، العقل السياسي المفكر والداهية المخطط ! !
وسرعان ما صار سهيل محوراً لقريش ، ووارثاً لقيادة زعمائها الذين قتلهم محمد صلى الله عليه وآله ، أو أماتهم رب محمد ، سبحانه وتعالى .
--------------------------- 200 ---------------------------
وسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود ، هو في نظر قريش : قرشي أصيل . ولئن كان من بني عامر بن لؤي ، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( سيرة ابن هشام : 2 / 489 ) ، ولكنه صاحب تاريخ في مواجهة محمد . . فهو من الزعماء الذين فاوضوا أبا طالب بشأنه .
وهو من أعضاء دار الندوة الذين اتخذوا قرار مقاطعة بني هاشم .
وهو من الذين ائتمروا على قتل النبي صلى الله عليه وآله عندما ذهب إلى الطائف ، وقرروا نفيه من مكة ، وهددوه بالقتل إن هو دخلها ، ورفضوا أن يجيروه حتى يستطيع الدخول إلى مكة وتبليغ رسالة ربه !
ففي تاريخ الطبري : 2 / 82 : ( أن النبي صلى الله عليه وآله قال للأخنس بن شريق : إئت سهيل بن عمرو فقل له إن محمداً يقول لك : هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي ؟ فأتاه فقال له ذلك ، قال فقال : إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب ! ) . انتهى .
وهو من الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد بعد وفاة أبي طالب ، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة !
وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم ، ومن المعذبين على يده ولده أبو جندل !
وهو أحد قادة المشركين في بدر ، وأحد أثريائهم الذين كانوا يطعمون الجيش !
وهو أحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله صلى الله عليه وآله بفعالياتهم الخبيثة ، فلعنهم الله تعالى وطردهم من رحمته ، وأمر رسوله أن يلعنهم ، ويدعو عليهم في قنوت صلاته بأسمائهم !
--------------------------- 201 ---------------------------
وهو أحد المنفقين أموالهم على تجهيز الناس لحرب النبي صلى الله عليه وآله في أحد والخندق وغيرهما !
قال في سير أعلام النبلاء : 1 / 194 : ( يكنى أبا يزيد ، وكان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم . . وكان قد أسر يوم بدر وتخلص . قام بمكة وحض على النفير ، وقال : يا آل غالب أتاركون أنتم محمداً والصباة يأخذون عيركم ! من أراد مالاً فهذا مال ، ومن أراد قوة فهذه قوة . وكان سمحاً جواداً مفوهاً . وقد قام بمكة خطيباً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم ! وعظم الإسلام ! ! ) . انتهى .
وينبغي الالتفات هنا إلى مدح الذهبي لسهيل ، وأن خطبته في مكة كانت بنحو خطبة أبي بكر الصديق في المدينة ! ! وهي خطبة من سطرين مفادها أيها العابدون محمداً إن محمداً قد مات . . وقريش تعبد رب محمد ! !
فلاحظ ذلك ، فإنه لم يكن بين المدينة ومكة تلفون ولا فاكس يومئذ ! !
وسهيل هو الذي انتدبته قريش لمفاوضة محمد صلى الله عليه وآله في الحديبية ، وقد أجاد المفاوضة وشدد عليه بالشروط ، ولم يقبل أن يكتب في المعاهدة ( رسول الله ) ووقع الصلح معه نيابة عن كل قريش !
وهو المعروف عند قريش بأنه سياسي حكيم ، أكثر من غيره من فراعنتها وهذا يعني أنه وارث أبي الحكم ، أي أبي جهل .
وهو أخيراً ، من أئمة الكفر الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله بقتالهم . . وإعلانه الإسلام تحت السيف لا يغير من إخبار الله وآياته شيئاً !
--------------------------- 202 ---------------------------
ففي تفسير الصنعاني : 1 / 242 : ( عن قتادة في قوله ( وقاتلوا أئمة الكفر . . ) هو أبو سفيان بن حرب ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأبو جهل ، وسهيل بن عمرو ) . انتهى .
وقد اختار سهيل بن عمرو البقاء في مكة بعد فتحها ودخولها تحت حكم النبي صلى الله عليه وآله ولم يهاجر إلى المدينة كبعض الطلقاء ، ولم يطلب من محمد منصباً كما فعل أبو سفيان ، لأن كبرياءه القرشي وتاريخه في الصراع مع النبي صلى الله عليه وآله ، يأبيان عليه ذلك ! !
ومن كبريائه أنه رفض هدية النبي صلى الله عليه وآله في أيام القحط والسنوات العجاف التي حدثت على قريش بدعاء النبي ، فأشفق عليهم وأرسل إليهم مساعدة ، وكانت أحمالاً من المواد الغذائية ، فقبلها أكثرهم وكان سهيل ممن رفضوها !
ولكن سهيلاً قبل هدية النبي صلى الله عليه وآله في حنين ، ولعل السبب أنها كانت مئة بعير !
إنه تاريخٌ طويلٌ أسود عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله ! ولكنه مشرقٌ عند القرشييين ! ومن أجل هذا النسب وهذا التاريخ والصفات ، اجتمعت حوله قريش ( المسلمة ) بعد فتح مكة ، وانضوت تحت زعامته !
فانظر إلى انخداع البسطاء من كتَّاب السيرة والتاريخ . . وتأمل في مكر عباد زعماء قريش منهم ! - *
كان النبي صلى الله عليه وآله قد عين حاكماً لمكة بعد فتحها ، هو عتاب بن أسيد الأموي ، وجعل معه أنصارياً . . وهو تعيين له دلالته النبوية البليغة !
--------------------------- 203 ---------------------------
ولكن قريشاً كانت لا تعرف إلا سهيلاً ولا تسمع إلا كلامه . . وتعتبر أن عتاباً وإن كان قرشياً أموياً ، إلا أنه من جماعة محمد ومن بني عمه الأمويين !
والدليل على ذلك أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ارتدت قريش عن الإسلام ، وخاف حاكمها عتاب أن يقتلوه فاختبأ من سيوفهم مع أنه قرشي أموي . . وبعد أيام وصلهم خبر يطمئنهم ببيعة أبي بكر التيمي ، وأن أحداً من بني هاشم لن يحكم بعد محمد صلى الله عليه وآله فاطمأن سهيل بن عمرو ، وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة ، والتي مفادها أنه من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات ، ونحن لا نعبد محمداً ، بل هو رسول بلغ رسالته ومات ، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش ، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر ، فاسمعوا له وأطيعوا .
لقد طمأنهم سهيل بأن الأمر بيد قريش ، وليس بيد بني هاشم ولا بيد الأنصار اليمانية الذين ( يعبدون ) محمداً ، فلماذا الرجوع عن الإسلام !
فأطاعته قريش وانتهى مشروع الردة ! وأصدر سهيل أمره لعتاب الحاكم من قبل النبي صلى الله عليه وآله : أخرج من مخبئك ، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة بن تيم بن مرة !
( راجع سيرة ابن هشام : 4 / 1079 ، وفيها : فتراجع الناس وكفوا عما هموا به ، وظهر عتاب بن أسيد ! ! ) .
سهيل بن عمرو يناضل لاستقلال دولة قريش !
اقتنعت قريش بعد فتح مكة بأن العمل العلني ضد محمد صلى الله عليه وآله محكوم بالفشل . . فركزت جهودها على العمل السياسي المتقن ، والعمل السري الصامت ، لإبعاد عترته عن الخلافة ، وجعلها في غيرهم من قريش . .
--------------------------- 204 ---------------------------
كانت أكبر مشكلة في نظر قريش أن النبي صلى الله عليه وآله يسير قدماً في ترتيب الأمر من بعده لعلي ، ومن بعده للحسن والحسين ، أولاد ابنته فاطمة . . وقريش لا تطيق علياً ولا أحداً من بني هاشم . . لذلك قام قادتها وفي مقدمتهم سهيل بن عمرو بأنشطة متعددة ، كان من أبرزها محاولة جريئة مع النبي صلى الله عليه وآله ! !
فقد كتب إليه سهيل بن عمرو ، ثم جاء على رأس وفد ، طالبين منه أن يرد ( إليهم ) عدداً من أبنائهم وعبيدهم ، الذين تركوا مكة أو مزارع قريش في الطائف ، وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وآله ليتفقهوا في الدين ، عملاً بالآية القرآنية : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم . . ) الآية .
قال سهيل للنبي صلى الله عليه وآله نحن اليوم حلفاؤك ، فقد انتهت الحرب بيننا وتصالحنا ، وأنا الذي وقعت الصلح السابق معك في الحديبية ! وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك ، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين ، فأرجعهم إلينا ! !
ومعنى هذا الطلب البسيط من زعيم قريش الجديد : أن قريشاً حتى بعد فتح مكة واضطرارها إلى خلع سلاحها وإسلامها تحت السيف . . لا تعترف بالحاكم الشرعي لمكة الذي عينه النبي صلى الله عليه وآله ، بل وتريد من النبي صلى الله عليه وآله الاعتراف بأنها وجود سياسي مستقل ، في مقابل النبي صلى الله عليه وآله ودينه ودولته ! واليك نصوص القصة :
روى الترمذي في : 5 / 298 :
--------------------------- 205 ---------------------------
( عن ربعي بن حراش قال : أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال : لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين ، فقالوا يا رسول الله : خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا ، وليس لهم فقه في الدين ، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا ، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان ! قالوا : من هو يا رسول الله ؟
فقال له أبو بكر : من هو يا رسول الله ؟
وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟
قال هو خاصف النعل ، وكان أعطى علياً نعله يخصفها . هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي ) .
وروى أبو داود : 1 / 611 : ( عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال : خرج عبدانٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني يوم الحديبية قبل الصلح ، فكتب إليه مواليهم فقالوا : يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك ، وإنما خرجوا هرباً من الرق !
فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم !
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا ! وأبى أن يردهم وقال : هم عتقاء الله عز وجل ) . انتهى .
--------------------------- 206 ---------------------------
ولا يغرك ذكر الحديبية في الحديث ، فهو من أساليب رواة البلاط القرشي في التزوير التي يستعملونها كثيراً ! فالحادثة وقعت بعد فتح مكة ، ولو كانت قبله لطالب سهيلٌ النبي صلى الله عليه وآله بالوفاء لهم بشرطهم ، لأنهم شرطوا على النبي صلى الله عليه وآله في صلح الحديبية أن يرد إليهم من يأتيه منهم ، وأن لا يردوا إليه من يأتيهم من المسلمين !
ولو كانت قبل فتح مكة ، لكانت مطالبة طبيعية بشرطهم ، وما استحقت هذا الغضب النبوي الشديد ، وهو لا يغضب إلا بحق . . ولا يغضب إلا لغضب الله تعالى !
ولو كانت قبل فتح مكة وقبل ( دخول ) قريش في الإسلام لما قالوا في مطالبتهم بأولادهم وعبيدهم المهاجرين ( سنفقههم ) فهذا لا يقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الإسلام !
كما أن بعض رواياتهم صرحت بأن الحادثة كانت بعد فتح مكة ، وفضحت التزوير القرشي للقضية ! فقد روى الحاكم في المستدرك : 2 / 138 :
( عن ربعي بن حراش عن علي رضي الله عنه قال : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة ، أتاه ناس من قريش فقالوا : يا محمد إنا حلفاؤك وقومك ، وإنه لحق بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام ، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا ! فشاور أبا بكر في أمرهم فقال : صدقوا يا رسول الله !
فقال لعمر : ما ترى ؟ فقال مثل قول أبي بكر .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان ، فيضرب رقابكم على الدين !
--------------------------- 207 ---------------------------
فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا .
قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في المسجد ، وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها . . هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ) .
وروى نحوه في 4 / 298 ، وصححه على شرط مسلم وفيه :
( لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة أتاه أناس من قريش . . . يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين ، ثم قال : أنا ، أو خاصف النعل ، قال علي : وأنا أخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله . انتهى . رواه في كنز العمال : 13 / 174 ، وقال : ( ش وابن جرير ، ك ، ويحيى بن سعيد في إيضاح الإشكال ) .
وفي هذه الحادثة الخطيرة حقائق مهمة وكبيرة :
الأولى : أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة . . وهذا يعني أنهم بعد فتح مكة وخضوعهم وإعلانهم الإسلام تحت السيف ، وإطلاق النبي صلى الله عليه وآله لرقابهم من السيف ، وما فعلوه في حرب حنين . . جاؤوا إلى ( محمد ) في عاصمته يطالبونه بالاعتراف العملي باستقلالهم السياسي . . وهي وقاحةٌ ما فوقها وقاحة ! !
قالوا له ( يا محمد ) كما رأيت في صحيح الحاكم على شرط مسلم ! وكما في سنن أبي داود : 1 / 611 ولكن الترمذي جعلها ( يا رسول الله ) ! !
وفي مسند أحمد : 3 / 82 عن أبي سعيد الخدري قال :
كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه ، قال : فقمنا معه فانقطعت نعله ، فتخلف عليها علي يخصفها ،
--------------------------- 208 ---------------------------
فمضى رسول صلى الله عليه وسلم ثمت ومضينا معه ، ثم قام ينتظره وقمنا معه ، فقال : إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله ! ! فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال : لا ، ولكنه خاصف النعل ! قال فجئنا نبشره قال : وكأنه قد سمعه . انتهى .
وقال عنه في مجمع الزوائد : 9 / 133 ( رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ) . انتهى .
وهذه الرواية تدل أيضاً على أن الحادثة كانت في المدينة !
الثانية : أنهم اعتبروا أن فتح مكة ( ودخولهم ) في الإسلام لا يعني خضوعهم للنبي صلى الله عليه وآله وذوبانهم في الأمة الإسلامية ، بل هو تحالف مع النبي صلى الله عليه وآله ضد أعداء دولته من القبائل التي لم تدخل تحت سيطرتها ، وإلى حد ما ضد الروم والفرس . فهو تحالف الند للند ، وإن كان تم فتح مكة بقوة السيف ! !
وقد عملوا بزعمهم بهذا التحالف ، فحاربوا معه صلى الله عليه وآله في حنين ، فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل !
وقد اختاروا أول مطلب لهم أو علامة على ذلك : أن يعيد هؤلاء الفارين إليه من أبنائهم وعبيدهم ! يعيدهم من دولته إلى . . دولتهم ! !
الثالثة : أن القرشيين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله - ما عدا بني هاشم - وافقوهم على ذلك ! فهذا أبو بكر بن أبي قحافة التيمي ، وعمر بن الخطاب العدوي يؤيدان مطلب قريش مئة بالمئة ! !
وتتفاوت الروايات هنا في التصريح بتأييد أبي بكر وعمر على مطلب قريش ، فبعضها كما رأيت في رواية الحاكم الصحيحة ينص على أن أبا بكر
--------------------------- 209 ---------------------------
قال ( صدقوا يا رسول الله ! ) وقال عمر مثل قوله : صدقوا يا رسول الله ، ردهم إليهم ! !
وبعضها لا تذكر تصديقهما لمطلب قريش وشهادتهما بأنه حق ، بل تقتصر على سؤالهما إن كانا هما الذين سيبعثهما الله ورسوله لتأديب قريش ! كما في رواية الترمذي المتقدمة ، وكما في مستدرك الحاكم : 3 / 122 ، وكما في مجمع الزوائد : 9 / 134 و 5 / 186 ، وقال ( رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح ) .
وقد غير بعض رواة قريش ( الأذكياء ) اسم الشيخين إلى ( ناس ) ! ففي مستدرك الحاكم : 2 / 125 : ( فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ، ردهم إليهم ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ! ) .
وكذا في كنز العمال : 10 / 473 : ( وقال الهندي عن مصادره : أبو داود وابن جرير وصححه ، ق ض ) .
وبعضهم حذفوا اسم أبي بكر وعمر كلياً من الحادثة ! كما رأيت في سنن أبي داود ، وكما في كنز العمال : 11 / 613 ، حيث رواه بعدة روايات عن أحمد ، وعن مصادر متعددة ، وليس فيه إطلاقاً ذكر لأبي بكر وعمر !
الرابعة : يتساءل الباحث ما هي العلاقة التي كانت تربط أبا بكر وعمر بسهيل بن عمرو ، ولماذا أيدا مطلب قريش المفضوح ؟ !
ويتساءل : ما دام النبي صلى الله عليه وآله فهم خطة القرشيين وغضب ورفض مطلبهم ، وهددهم بالحرب ثانية ، بل وعدهم بها . . فلماذا استشار أبا بكر وعمر في الموضوع ؟ !
على أي حال ، إن أقل ما تدل عليه النصوص : أن زعامة قريش كانت متمثلةً في ذلك الوقت بهؤلاء الأربعة ، الذين جمعتهم هذه الحادثة وهم : رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وآله .
--------------------------- 210 ---------------------------
وسهيل بن عمرو العامري ، أحد زعماء المشركين بالأمس وزعيم قريش اليوم .
وأبو بكر التيمي وعمر العدوي ، الممثلان لقبيلتين صغيرتين لا وزن لهما في قريش ، ولكن لهما شخصياً وزن مهم لصحبتهما للنبي صلى الله عليه وآله ومع ذلك أيدا مطلب سهيل ضد النبي وضد الاسلام !
ولا بد للباحث أن يفترض علاقةً واتفاقاً مسبقاً بين وفد قريش وبين الشيخين ، بل يفهم من بعض الروايات أن سهيلاً ووفد قريش نزلوا في المدينة في ضيافة عمر ، ثم جاء وأبو بكر معهم إلى النبي صلى الله عليه وآله لمساعدتهم على مطلبهم .
الخامسة : تضمن الموقف النبوي من الحادثة أربعة عناصر :
الأول ، الغضب النبوي من تفكير قريش الكافر ووقاحتها ، وقد ذكرته الروايات ولم تصفه بالتفصيل .
الثاني ، يأس النبي صلى الله عليه وآله من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها ، بل يأسه من أن تترك قريش تعقيد أئمتها اليهود وفرعنتهم ، وتخضع للحق ، إلا بقوة السيف ! ! ففي عدد من روايات الحادثة كما في الحاكم : 2 / 125 :
( فقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا ) أي على الإسلام ! وكذا رواه أبو داود : 1 / 611 ، والبيهقي في سننه : 9 / 229 ، وكنز العمال : 10 / 473 ! وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ، ولن يسلموا إلا تحت السيف ! !
الثالث ، تهديدهم بسيف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله ، علي بن أبي طالب عليه السلام الذي ترتعد منه فرائصهم ، لأنهم ذاقوا منه الأمرين ، فقد قتل مجموع المسلمين في حروبهم مع قريش نصف أبطالها ، وقتل علي وحده نصفهم أو أكثر !
--------------------------- 211 ---------------------------
ونلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وآله كنَّى عن ذلك الشخص الذي سيبعثه الله على قريش فيضرب أعناقهم على الدين ، بأنه أنا أو رجل مني
( مجمع الزوائد : 9 / 133 ) ثم سماه عندما سأله أبو بكر وعمر عنه فقال ( أنا أو خاصف النعل - كنز العمال : 7 / 326 ) وغرضه من هذا الإجمال ، أن لا تتصور قريش أن المسألة بعيدة فتطمع في مشروعها ! بل ينبغي أن تحتمل أن الأمر قد يصدر غداً إلى علي بغزو مكة وقتل فراعنة قريش !
وغرضه صلى الله عليه وآله من تعبير ( مني ) أن يبين مكانة علي عليه السلام ، وأن تعلم قريش أنه مؤمنٌ وأنه هاشمي ، من ذلك الفرع الذي ما زالت تحسده ، وتموت منه غيضاً ! !
فلو أنه صلى الله عليه وآله قال لهم : إن علياً سيقاتلهم على تأويل القرآن بعد ربع قرن ، كما قاتلتهم أنا على تنزيله بالأمس ، لطمعوا وقالوا : إذن عندنا فرصة ربع قرن من الزمان ، ولكل حادثٍ حديث !
بل روى في مجمع الزوائد حديثاً قال عنه : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح : أن علياً عليه السلام كان يعلن في زمان النبي صلى الله عليه وآله تهديده لقريش ، ولكل من يفكر بالردة ، بأنه سوف يقاتلهم إلى آخر نفس ، وهو عملٌ وقائي بتوجيه النبي صلى الله عليه وآله لمنع قريش أن تفكر بالردة !
قال في مجمع الزوائد : 9 / 134 :
وعن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل يقول : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى . والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على
--------------------------- 212 ---------------------------
ما قاتل عليه حتى أموت . لا والله . . إني لأخوه ، ووليه ، وابن عمه ، ووارثه ، فمن أحق به مني ؟ !
وروى في نفس المكان حديثاً آخر ينص على أن النبي صلى الله عليه وآله هدد قريشاً بعلي عليه السلام بعد فتح مكة مباشرةً ، قال : وعن عبد الرحمن بن عوف قال : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انصرف إلى الطائف فحاصرها سبع عشرة أو ثمان عشرة لم يفتتحها ، ثم أوغل روحةً أو غدوةً ، ثم نزل ثم هَجَّرَ فقال :
يا أيها الناس إني فرطٌ لكم وأوصيكم بعترتي خيراً ، وإن موعدكم الحوض . والذي نفسي بيده ليقيموا الصلاة ، وليؤتوا الزكاة ، أو لأبعثن إليهم رجلاً مني ، أو لنفسي ، فليضربن أعناق مقاتليهم ، وليسبين ذراريهم . قال فرأى الناس أنه أبو بكر أو عمر ، وأخذ بيد علي فقال : هذا هو .
رواه أبو يعلى وفيه طلحة بن جبر ، وثقه ابن معين في رواية ، وضعفه الجوزجاني ، وبقية رجاله ثقات . انتهى .
وهو تهديد نبوي ( لمسلمة ) الفتح ، له دلالاته الفاضحة لواقعهم ونواياهم ، ويكمله تهديد علي عليه السلام لهم بالحرب إن هم أعلنوا ارتدادهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله .
الرابع ، أن النبي صلى الله عليه وآله حكم بكفر أصحاب هذا الطلب ، ولعمري إن مجرد طلبهم كافٍ لإثبات كفرهم !
ويؤكده الغضب النبوي وقوله صلى الله عليه وآله ( ما أراكم تنتهون يا معشر قريش ) ، يعني عن الكفر ومعاداة الله ورسوله .
--------------------------- 213 ---------------------------
وكذا قوله بأن الله سيبعث عليهم رجلاً يضرب أعناقهم على الدين ، مما يدل على أنهم ليسوا عليه . بل لا يسكتون عن العمل ضد الإسلام إلا تحت السيف ! !
ولكن فقهاء الخلافة يريدون دليلاً أكثر لمساً ، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وآله ذلك الدليل الملموس فأبى أن يرد على القرشيين عبيدهم المملوكين ، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى !
فلو كان هؤلاء الطلقاء مسلمين ، ولو كانت ملكيتهم محترمة ، فكيف يجوز للنبي صلى الله عليه وآله أن يعتدي على ملكيتهم ويعتق عبيدهم ، وهو أتقى الأتقياء ، وهو القائل : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه . . والقائل : إن أموالكم ودماءكم عليكم حرام . . . إلخ .
وقد تخبط الفقهاء في هذا الموضوع وحاول بعضهم أن يعد ذلك من خصوصيات النبي صلى الله عليه وآله .
ولكن كيف يصح أن يكون من خصوصياته وامتيازاته صلى الله عليه وآله أن يعتدي على ملكية المسلمين المحترمة ؟ ! !
أثر هذه الحادثة على قريش
الظاهر أن هذه الحادثة كانت آخر محاولات قريش لانتزاع اعتراف النبي صلى الله عليه وآله باستقلالها السياسي ، ولو بصيغة التحالف معه صلى الله عليه وآله ، أو بصيغة الحكم الذاتي تحت لواء دولته !
فهل سكتت قريش بعد هذه الحادثة ؟
الذين يقرؤون التاريخ المكتوب بحبر الخلافة القرشية ، ويؤمنون بالإسلام المفصل بمقصات رواتها . . يقولون : من المؤكد أن قريشاً تابت بعد هذه الحادثة
--------------------------- 214 ---------------------------
وأسلم زعماؤها وأتباعهم وحسن إسلامهم ، وتصدقوا وأعتقوا وحجوا ، وأكثروا من الصوم والحج والصلاة !
ولكن النبي الصادق الأمين قال ( ما أراكم تنتهون يا معشر قريش ) ! !
وطبيعة قريش ، وطينة زعامتها تؤكد أنهم واصلوا العمل على كل الجبهات الممكنة ! ! لكنهم تراجعوا في ذلك الموضوع رأوا أن حديدة النبي صلى الله عليه وآله حامية ، وأن التفكير بالاستقلال السياسي عنه صلى الله عليه وآله تفكيرٌ خاطيء ، وأن محمداً لا يقعقع له بالشنان ، فهو من علياء هاشم وذروة شجعانها ، ومعه ابن عمه قَتَّال قريشٍ ومجندل أبطالها ، ومعه الأوس والخزرج الذين تجرؤوا لأول مرة في تاريخهم على حرب قريش ، وقتلوا من أبطالها ! !
تراجع عند قريش منطق الاستقلال السياسي عن محمد صلى الله عليه وآله لكن تأكد عندها المنطق القائل إن دولة محمد شملت كل المنطقة ، وهي تتحفز لمقارعة الروم والفرس ، وقد وعد محمد المسلمين بذلك وتطلعوا إليه . . فلا معنى لأن تطالبه قريش بحكم مكة ومن أطاعها من قبائل العرب !
إنه لا بد من التأقلم مع الوضع الجديد ، والعمل الجاد بالسياسة وبالعنف المنظم ، لكي ترث قريش كل دولة محمد صلى الله عليه وآله ! فمحمد من قريش ، وقريش أولى بسلطان ابنها ، ولا كلام للأنصار اليمانية ، ولا لغيرهم من القبائل .
أما مسألة بني هاشم الذين يسميهم محمد صلى الله عليه وآله العترة والقربى وتنزل عليه فيهم آيات القرآن ، ويصدر فيهم الأحاديث ، ويجعل لهم خمس ميزانية الدولة . . فلا بد من معالجة أمرهم بكل الطرق الممكنة !
--------------------------- 215 ---------------------------
نعم . . هذا ما وصلت إليه قريش التي أعتقها النبي صلى الله عليه وآله من القتل والاسترقاق الفعلي ! وهذا ما جازته به في حياته صلى الله عليه وآله !
وقد ساعدها عليه من ساعدها من أصحابه ! !
الخليفة عمر المتعصب لقبائل قريش . . يشهد بفسادها !
قال الطبري في تاريخه : 3 / 426 :
( عن الحسن البصري قال : كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان ، إلا بإذنٍ وأجل ، فشكوه ، فبلغه ، فقام فقال : ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير ، يبدأ فيكون جذعاً ، ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديساً ، ثم بازلاً ، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان .
ألا فإن الإسلام قد بزل ، ألا وإن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله مغوياتٍ دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حيٌّ فلا ، إني قائمٌ دون شعب الحرة ، آخذٌ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار ! ) . انتهى . ورواه في كنز العمال : 13 / 75 ، وفي تاريخ المدينة لابن شبة : 2 / 779 ، وفيه : ( ألا وإني آخذ بحلاقيم قريش عند باب الحرة أن يخرجوا على أمة محمد فيكفروهم ) انتهى . ونحوه في : 2 / 401 .
وهذا الموقف من عمر يتضمن عدة أمور ، نكتفي بالإشارة إليها :
فهو أولاً ، كلام زعيمٍ لا يشك أحد في ولائه لقريش ، لأنه حمل راية قريش وأحقيتها بخلافة النبي صلى الله عليه وآله في مقابل نبيها ، ثم في مقابل الأنصار وبني هاشم ! وخاض صراعاتٍ شديدة ، حتى خلص الخلافة من عترة النبي صلى الله عليه وآله ومن الأنصار وقدمها على طبق إلى قبائل قريش ! وسماه زعماؤها : ضمير قريش !
--------------------------- 216 ---------------------------
وهو ثانياً ، شهادةٌ منه بحق المهاجرين القرشيين بأنهم أناسٌ مضلون ، يجب أن يحبسوا في المدينة حتى لا يضلوا المسلمين ويخرجوهم من الإسلام ! !
وهذا الشهادة من عمر في القرشيين المسلمين ، تؤكد شهادة النبي صلى الله عليه وآله بأنهم لا ينتهون عن عدائهم للاسلام إلا تحت سيف علي ؟ !
وهو ثالثاً ، يتضمن تصوراً لانتهاء الإسلام في مدة قليلة ، وكأن الإسلام دورة سياسية تمر على الجزيرة والمناطق التي امتد إليها . . ثم تنتهي !
وقد ثبت عن الخليفة عمر أنه كان يرى أنه سوف لا تمر سنين طويلة حتى تأخذ الأمم الأخرى مناطق المسلمين بما فيها مكة ، ويهجرها أهلها وتخرب ! !
ويظهر أن كعب الأحبار الذي سيطر على قلب عمر استطاع أن يقنعه بهذا الرأي . . ! وهو بحثٌ مهم ، لكنه خارجٌ عن موضوعنا .
- *
--------------------------- 217 ---------------------------
الفصل الرابع : تفسير آية الأمر بالتبليغ
--------------------------- 218 ---------------------------
.
--------------------------- 219 ---------------------------
نص الآية مع سياقها
( وقالت اليهود يد الله مغلولة ، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً . وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً ، والله لا يحب المفسدين .
( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والأنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون .
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، إن الله لا يهدي القوم الكافرين .
( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ، فلا تأس على القوم الكافرين .
--------------------------- 220 ---------------------------
( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً ، كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون . المائدة 64 70
موضع الآية في القرآن
إذا قلنا بحجية السياق القرآني ، فلا بد أن نأخذ في تفسير الآية أمرين : الأول ، أنها من سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت من القرآن .
والثاني ، أنها وقعت في وسط آيات تتحدث عن أهل الكتاب . وعلى هذا تكون النتيجة : أن الآية تقول للنبي صلى الله عليه وآله : بلغ ولا تخف أهل الكتاب ، فنحن متكفلون بعصمتك منهم ، فلن يستطيعوا أن يضروك .
ولكن هذا التفسير لا يقبله علماء المسلمين ، لا السنة منهم ولا الشيعة ! لأنه صلى الله عليه وآله لم يبلغ اليهود والنصارى في الشهرين الذين عاشهما بعد الآية شيئا إضافياً بارزاً ، ولأن خطرهم عليه عند نزولها كان قد زال ، وقد خضعوا لحكمه ! وبذلك ينفتح البحث للسؤال عن مكان الآية ، وهل أن هذا مكانها من الأصل ؟ أم أنها وضعت هنا باجتهاد أحد الصحابة ؟
نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى ، معاذ الله ، لكن ورد أن الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وآله قد اجتهدوا في وضع آياتٍ في سور من القرآن . . والظاهر أن وضع هذه الآية هنا من اجتهاداتهم ، أو من المصادفات .
- *
--------------------------- 221 ---------------------------
أقوال العلماء السنيين
اختلف المفسرون والفقهاء السنيون في سبب نزول الآية وفي تفسيرها ، على أقوال عديدة ، أهمها سبعة أقوال ، أحدها موافقٌ لتفسير أهل البيت عليهم السلام ، وستة مخالفة . . ونورد فيما يلي الأقوال المخالفة مع مناقشاتها :
القول الأول
يزعم أنها نزلت في أول البعثة ، وأن الله تعالى بعث النبي وأمره بتبليغ رسالته فخاف على نفسه إذا بلغ ! فامتنع عن تبليغ الإسلام ، أو تباطأ ! فهدده الله تعالى وطمأنه . . فقام النبي صلى الله عليه وآله بالتبليغ !
وهذا يعني أن الآية نزلت قبل 23 سنة من نزول سورة المائدة ! وقد ذكر الشافعي هذا التفسير بصيغة ( يقال ) مما يدل على أنه غير مطمئن إليه !
قال في كتاب الأم : 4 / 168 :
قال الشافعي رحمه الله : ويقال والله تعالى أعلم : إن أول ما أنزل الله عليه : إقرأ باسم ربك الذي خلق ، ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين ، فمرت لذلك مدة . ثم يقال : أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم إلى الإيمان به فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يتناول ، فنزل عليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . فقال يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حين تبلغ ما أنزل إليك ما أمر به ، فاستهزأ به قوم فنزل عليه : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين . إنا كفيناك المستهزئين . انتهى .
--------------------------- 222 ---------------------------
كفي للرد على هذا القول :
أولاً ، أن الآية من سورة المائدة ، وقد تقدم أنها آخر ما نزل من القرآن أو على الأقل من آخر ما نزل ، بينما يدعي هذا القول أن الآية من أوائل ما
نزل ! !
وثانياً ، أن الشافعي قد ضعف هذا الوجه ، لأنه نقله بصيغة يقال ويقال ، ولم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله ، بل لم يتبناه .
وثالثاً ، أنه لا يمكن قبول هذه التهمة المشينة للنبي صلى الله عليه وآله ، أنه تلكأ أو امتنع عن تبليغ رسالات ربه ، بسبب خوفه من التكذيب والأذى والقتل ، حتى جاءه التهديد الإلهي بالعذاب ، والتأمين من الأذى ، فتحرك وبلغ ! !
فهذا التصور لا يناسب شخصية المؤمن العادي ، فضلاً عن النبي المعصوم صلى الله عليه وآله الذي هو أعظم الناس إيماناً وشجاعة , وقد صرحت الآيات الكريمة بأنه كان حريصاً على تبليغ الرسالة ، وهداية الناس أكثر مما فرض الله تعالى عليه .
رواية ( يقال ) التي ذكرها الشافعي
قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298
أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني ، فأنزل : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . ( وكذا في أسباب النزول : 1 / 438 ) .
--------------------------- 223 ---------------------------
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشاً فأنزل الله : والله يعصمك من الناس ، فاستلقى ثم قال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثاً .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : لما نزلت : بلغ ما أنزل إليك من ربك ، قال : يا رب إنما أنا واحدٌ كيف أصنع يجتمع علي الناس ؟ ! فنزلت : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ! . انتهى .
ورواه الواحدي في أسباب النزول : 1 / 139 ، والطبري في تفسيره : 6 / 198 .
وقال النيسابوري في الوسيط : 2 / 208 : وقال الأنباري : ( كان النبي صلى الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ، ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من شر المشركين إليه وإلى أصحابه . . . ) . انتهى .
ويكفي لرد هذه الروايات مضافاً إلى أن الآية جزء من سورة المائدة التي نزلت قبيل وفاته صلى الله عليه وآله ، أنها روايات غير مسندة ، بل هي قولٌ للحسن البصري ومجاهد وابن جريح وأمثالهم ، لا أكثر . وستعرف أن الحسن البصري يقصد رسالةً معينة ، وأنه أخذ هذا التعبير من خطبة النبي صلى الله عليه وآله في يوم الغدير ، وخاف أن يرويها على حقيقتها !
رواية ( يقال ) تتحول إلى رأي يتبناه العلماء !
مع أن المفسرين يعرفون أن الآية نزلت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله ، ويعرفون أن تفسيرها بحدث في أوائل البعثة إنما هو قول مفسرين من متفقهة التابعين في العصر الأموي ! أو روايات غير تامة السند ! لكن مع ذلك تراهم يفسرونها بهذا الوجه ويقدمون نزول الآية جهاراً نهاراً ثلاثاً وعشرين سنة ! ويزداد تعجبك عندما ترى منهم مفسرين محترمين مثل الزمخشري
--------------------------- 224 ---------------------------
والفخر الرازي ! والسبب في ذلك أنهم يريدون الفرار من تفسيرها ببيعة الغدير ، ولا يجدون مفراً إلا بأحد أمرين :
إما تفسيرها بأول البعثة والقول بأن النبي صلى الله عليه وآله خاف وتباطأ في تبليغ الرسالة فهدده الله تعالى وطمأنه بالعصمة من الناس !
وإما تفسيرها بروايات رفع الحراسة المزعومة التي لا يؤيدها التاريخ ، ولا يساعد عليها نص الآية ، كما سترى .
قال الزمخشري في الكشاف : 1 / 659 :
والله يعصمك : عِدَةٌ من الله بالحفظ والكلاءة ، والمعنى : والله يضمن لك العصمة من أعدائك . . . فإن قلت : أين ضمان العصمة ، وقد شج في وجهه يوم أحد ؟ ! . . . قلت المراد : أنه يعصمه من القتل ! وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : بعثني الله برسالته فضقت ذرعاً ، فأوحى الله إلي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك ، وضمن لي العصمة فقويت . انتهى . ونحوه في الوسيط : 2 / 208 .
وقال الرازي في تفسيره : مجلد 6 جزء 12 / 48 - 50 :
( يا أيها الرسول بلغ . . روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله قال : إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني ، واليهود والنصارى ، وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية ، زال الخوف بالكلية . . .
في قوله : والله يعصمك من الناس سؤال : وهو كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه شج وجهه ، وكسرت رباعيته ؟
والجواب من وجهين : أحدهما أن المراد يعصمه من القتل . . . وثانيها : أنها نزلت بعد يوم أحد ) . انتهى .
--------------------------- 225 ---------------------------
وقد خان الرازي الأمانة في النقل ، فأضاف في نقله عن الحسن البصري
( اليهود والنصارى ) ، لأنه يريد تفسير الآية بالعصمة من اليهود والنصارى ، ويبعدها عن قريش ! ! ولا نلومه على حبه لقريش خاصة لجده أبي بكر بن أبي قحافة ، ولكن نطالبه بالأمانة العلمية ! فالمصادر التي نقلت هذا القول عن البصري لم يرد فيها ذكر لليهود والنصارى ! وستعرف أن البصري أخذ روايته من حديث الغدير ! !
أما ابن كثير فقد زاد على الرازي وغيره كعادته ! قال في البداية : 3 / 53 : ( روى ابن أبي حاتم في تفسيره ، عن أبيه ، عن الحسن بن عيسى بن ميسرة الحارثي ، عن عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي : لما نزلت هذه الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبناً ، وادع لي بني هاشم ، فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل ، أو أربعون ورجل ، فذكر القصة نحو ما تقدم ، إلى أن قال : وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ؟ قال فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسن العباس .
ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك ، قلت : أنا يا رسول الله ! قال : أنت . . . ومعنى قوله في هذا الحديث : من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ، يعني إذا مت ، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه ، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله ، ويقضي عنه ، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى : يا أيها
--------------------------- 226 ---------------------------
الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . الآية .
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، لا يصرفه عن ذلك صارف ، ولا يرده عن ذلك راد ، ولا يصده عنه ذلك صاد ، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج . . . ) . انتهى . وكرر كلامه بلفظه تقريباً في سيرته : 1 / 460 .
وقد خلط ابن كثير في كلامه هذا كثيراً ، وتعصب أكثر ! فقد بتر حديث ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) وحذف منه اختيار النبي صلى الله عليه وآله خليفته من عشيرته الأقربين بأمر ربه تعالى ، وأورد بدله حديثاً محرفاً ، وفسره المحرف بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يخاف أن يقتله القرشيون ، فطلب من بني هاشم شخصاً يكون خليفته في أهله ويقضي دينه ، فقبل ذلك علي عليه السلام ، ثم انتفت الحاجة إلى ذلك بنزول الآية ! !
لقد تجاهل ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وآله كان مأموراً في تلك المرحلة بدعوة عشيرته الأقربين فقط ، ولم يكن مأموراً بعد بدعوة قريش وبقية الناس ! وأنه لا محل لما حبكته الرواية من خوفه من القتل والأذى !
ثم إن ابن كثير تفرد بربط آية العصمة بآية الأقربين ، ولم أجد أحداً سبقه إليه ولا تبعه عليه ، ولا ذكر هو من أين أخذه ؟ ! وكأن المهم عنده أن يحرف كلام النبي صلى الله عليه وآله في حديث الدار ويميع نصه على أن علياً أخوه ووزيره وخليفته من بعده ! وفي نفس الوقت يبعد آية التبليغ عن سورة المائدة ويوم الغدير ! ! وهذا قليل من كثير من عمل ابن كثير ، وإليك الحديث الذي بتره : قال الأميني في الغدير : 1 / 207 :
--------------------------- 227 ---------------------------
( وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي : قال في تاريخه : 2 / 217 من الطبعة الأولى : إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت - وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً - : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ) .
وقال الأميني : 2 / 279 :
( وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفى 240 في كتابه نقض العثمانية ، وقال : إنه روي في الخبر الصحيح . ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء / 46 - 48 . وابن الأثير في الكامل 2 / 24 . وأبو الفدا عماد الدين الدمشقي في تاريخه 1 / 116 . وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض 3 / 37 ( وبتر آخره ) وقال : ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح . والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره / 390 . والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 / 392 نقلاً عن الطبري ، وفي / 397 ، عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي . وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3 / 254 ) . انتهى .
ثم شكا صاحب الغدير من تحريف الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش ، ومنهم الطبري ، الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه ، لكنه حذف كلام النبي صلى الله عليه وآله في حق علي عليه السلام ، فقال : ثم
--------------------------- 228 ---------------------------
قال : إن هذا أخي وكذا وكذا . وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 40 ، وفي تفسيره : 3 / 351 . انتهى .
- *
القول الثاني
أنها نزلت في مكة قبل الهجرة بدون تحديد ، فاستغنى بها النبي صلى الله عليه وآله عن حراسة عمه أبي طالب ، أو عمه العباس !
وهذا القول هو المشهور في مصادر السنيين ، ورواياته نوعان :
نوعٌ نص على تاريخ نزولها تصريحاً أو تلويحاً ، وأنه في مكة .
ونوعٌ لم يصرح بذلك ولم يربط نزولها بحراسة أبي طالب أو العباس ، ولكنه ربطه بإلغاء النبي صلى الله عليه وآله لحراسته ، وينبغي حمله على القول الأول ، لأن أصله رواية الترمذي عن عائشة ، وقد فهم منها البيهقي وغيره أنها تقصد مكة ، كما ستعرف .
فالنوع الأول : كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298 - 299 ، قال : ( أخرج ابن مردويه والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي آية أنزلت من السماء أشد عليك ؟
فقال : كنت بمنى أيام الموسم ، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . قال : فقمت عند العقبة فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ؟ أيها الناس قولوا لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، تنجوا ، ولكم الجنة .
--------------------------- 229 ---------------------------
قال فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ، ويقولون كذاب صابيء ، فعرض علي عارض فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه . قال الأعمش : فبذلك تفتخر بنو العباس . . .
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت والله يعصمك من الناس ، فذهب ليبعث معه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث ! !
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه ، فقال : يا عم إن الله عصمني لا حاجة إلى من تبعث ! ) . انتهى .
والرواية في معجم الطبراني الكبير : 11 / 205 .
وفي مجمع الزوائد : 7 / 17 :
( قوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس ) . رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عطية العوفي وهو ضعيف .
--------------------------- 230 ---------------------------
( وعن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم ، حتى نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ، فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني من الجن والأنس ) . رواه الطبراني وفيه النضر بن عبد الرحمن وهو ضعيف .
والنوع الثاني : أصله ما رواه الترمذي في سننه : 4 / 317 :
( عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس ، حتى نزلت هذه الآية : والله يعصمك من الناس ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا ، فقد عصمني الله . هذا حديث غريب .
وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، ولم يذكروا فيه عن عائشة ) . انتهى .
ورواه الحاكم في المستدرك : 2 / 313 عن عائشة أيضاً وقال عنه : ( هذا حديث صحيح الأسناد ، ولم يخرجاه ) . انتهى .
والظاهر أن حديث عائشة يقصد أن الآية نزلت في مكة أيضاً ومعنى
( فأخرج رأسه من القبة ) أي من الخيمة التي كان فيها ، وقال لحراسه انصرفوا .
ويؤيد ذلك أن البيهقي رواه في سننه : 9 / 8 وعقب عليه بقول الشافعي المتقدم فقال : ( قال الشافعي : يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حتى تبلغهم ما أنزل إليك ، فبلغ ما أمر به فاستهزأ به قوم ، فنزل : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ، إنا كفيناك المستهزئين ) . انتهى .
--------------------------- 231 ---------------------------
ويؤيده أيضاً أن المراغي نقل في تفسيره : مجلد 2 جزء 4 / 160 رواية السيوطي الأولى عن ابن مردويه عن ابن عباس ، ورواية الطبراني أيضاً ثم قال : ( روى الترمذي وأبو الشيخ . . . أن النبي صلى الله عليه وآله كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية . . . ) .
وكذلك ذكر غيره ، مع أنه لا يوجد في رواية عائشة في الترمذي ما يدل على أنها تقصد مكة ، فلعل كلمة ( في مكة ) سقطت من نسخة الترمذي الفعلية !
وقال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 291 عن حديث عائشة : ( وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل ، وابن مردويه ، عن عائشة . . إلخ ) .
وروى السيوطي عدة روايات بنفس مضمونه عن غير عائشة ، وبعضها قد يفهم منه أن نزول الآية في المدينة ، فجعلناه في القول الثالث .
قال في الدر المنثور : 2 / 298 - 299 :
( وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس .
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي ذر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل ، حتى نزلت آية العصمة : والله يعصمك من الناس ) . انتهى .
وقد أخذ بهذا القول كثير من المفسرين والمؤلفين في السيرة ، فقد ذكره الزمخشري في الكشاف : 1 / 659 ، وكأنه قبله ، وكذلك فعل الرازي في
--------------------------- 232 ---------------------------
تفسيره : مجلد 6 جزء 12 / 50 ! مع أنهما قالا كما رأيت بنزول الآية في مكة ! وبذلك يكونا حملا حديث عائشة على أول البعثة ، كما حملا قول الحسن البصري وأمثاله !
وقد أخذ بهذا القول أيضاً السهيلي في الروض الأنف : 2 / 290 .
والقسطلاني في إرشاد الساري : 5 / 86 .
وابن العربي في شرح الترمذي : مجلد 6 جزء 11 / 174 .
والعيني في عمدة القاري مجلد 7 جزء 14 / 95 .
وابن جزي في التسهيل : 1 / 244 .
والنويري في نهاية الأرب : مجلد 8 جزء 16 / 196 ، و 19 جزء 18 / 342 . والنيسابوري في الوسيط : 2 / 209 .
والدميري في حياة الحيوان : 1 / 79 . . وغيرهم ، وغيرهم .
وممن أخذ بهذا القول صاحب السيرة الحلبية : 3 / 327 ، وقد اغتنم فرصة الآية وارتباطها بحراسة النبي صلى الله عليه وآله لإثبات فضيلة لأبي بكر بن أبي قحافة فقال : ( حراسه صلى الله عليه وآله قبل أن ينزل عليه قوله تعالى : والله يعصمك من الناس . . سعد بن معاذ حرسه ليلة يوم بدر ، وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر شاهراً سيفه حين نام بالعريش ) . انتهى .
وبذلك ناقض هذا الحلبي نفسه وجاء بدليل على ضد مراده ، لأن إلغاء الحراسة إذا كان قبل الهجرة ، فلم تبق حاجة لحراسة أبي بكر وغيره في بدر ! على أن أصل وجود عريش للمسلمين في بدر أمر مشكوك ، لأن المسلمين نزلوا بالعدوة القصوى وهي منطقة مكشوفة !
مضافاً إلى أن الحاكم روى رواية وصححها على شرط مسلم ، تذكر أن ثلث المسلمين حرسوا النبي صلى الله عليه وآله في بدر ، وهو أمر معقول .
--------------------------- 233 ---------------------------
قال الحاكم : 2 / 326 : ( عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سألته عن الأنفال ، قال : فينا يوم بدر نزلت ، كان الناس على ثلاث منازل ، ثلثٌ يقاتل العدو ، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأسارى ، وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه . . . فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقسمه على السواء ) . انتهى . - *
ويدل على بطلان هذا القول الذي ربط الآية بالحراسة :
أولاً : ما تقدم في القول الأول .
ثانياً : نفس روايات القول الثالث وغيره ، التي تنص على أن إلغاء الحراسة المزعوم حصل في المدينة ، وليس في مكة .
ثالثاً : أن عمدة رواياته رواية القبة عن عائشة ، ورواية حراسة العباس . . أما الروايات الأخرى فكلها غير مسندة ، وغرض بعضها تقليل دور أبي طالب في نصرة النبي صلى الله عليه وآله كما هو واضحٌ ، وأن أبا طالب لم بكن له دور في مكة .
كما يلاحظ في الرواية الأولى أنها تريد إثبات فضيلة للعباس بأنه كان حارس النبي صلى الله عليه وآله في مكة بدل أبي طالب ، وأنه هو الذي عصم الله به رسوله من الناس ! مع أن دور العباس قبل الهجرة كان دوراً عادياً مثل بقية بني هاشم الذين تضامنوا مع النبي صلى الله عليه وآله وتحملوا معه حصار الشعب ، ولم يعرف عنهم أنهم أسلموا ولا برزوا في نصرته ، ولم يهاجروا معه إلى المدينة مثل علي وحمزة . ومن المعروف أن العباس قد أسر في بدر ، وأسلم عند فكاك الأسرى .
--------------------------- 234 ---------------------------
هذا مضافاً إلى تضعيف الهيثمي وغيره لهذه الرواية ، كما يؤيده ضعف متنها وركته . وسيأتي قول الألباني بعدم صحة نسبتها إلى عائشة .
رابعاً : ما سيأتي في إثبات استمرار حراسته صلى الله عليه وآله إلى آخر عمره الشريف ، ونفي كل ما يدل على إلغائها ، ومن ذلك رواية القبة . - *
القول الثالث
أنها نزلت في المدينة بدون تاريخ !
فقد روى السيوطي عدة روايات تربط نزول الآية بإلغاء النبي صلى الله عليه وآله للحراسة ، وليس فيها أن ذلك كان في مكة أو في المدينة ، ولكن يفهم من نص بعضها أو رواة بعضها ، أن نزولها كان في المدينة .
قال في الدر المنثور : 2 / 298 - 299 :
( وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عصمة بن مالك الخطمي قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، حتى نزلت : والله يعصمك من الناس ، فترك الحرس .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : يا أيها الرسول . . . إلى قوله : والله يعصمك من الناس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحرسوني ، إن ربي قد عصمني .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن شقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، فخرج فقال : يا أيها الناس إلحقوا بملاحقكم ، فإن الله قد عصمني من الناس .
--------------------------- 235 ---------------------------
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحارسه أصحابه ، حتى أنزل الله : والله يعصمك من الناس ، فترك الحرس حين أخبره أنه سيعصمه من الناس .
وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه ، حتى نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك . . الآية ) . انتهى .
ورواه ابن شبة في تاريخ المدينة : 1 / 301 ، عن عبد الله بن شقيق وعن محمد بن كعب القرظي .
ورواه الطبري في تفسيره : 6 / 199 ، عن عبد الله بن شقيق .
وابن سعد في الطبقات : مجلد 1 جزء 1 / 113 .
والبيهقي في دلائل النبوة : 2 / 180 . - *
ويدل على بطلان هذا القول وغيره من الأقوال التي ربطت نزول الآية بالحراسة : أن من المجمع عليه في أحاديث سيرته صلى الله عليه وآله أنه كان يطلب من قبائل العرب أن تحميه وتمنعه مما يراد به من القتل ، لكي يبلغ رسالة الله عز وجل ، وقد بايعه الأنصار بيعة العقبة على أن يحموه ويحموا أهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم . . فلو أن آية العصمة نزلت في مكة ، لما احتاج إلى شيء من ذلك ! وسنذكر في آخر البحث أحاديث طلب النبي صلى الله عليه وآله من الأنصار أن يحموه ويحرسوه . . وأنهم بايعوه على ذلك !
ثم . . إن مصادر الحديث والتفسير والتاريخ مليئة بالروايات التي ذكرت حراسة النبي صلى الله عليه وآله وأنها كانت في مكة والمدينة ، خاصة في الحروب ، وأنها استمرت إلى آخر حياته صلى الله عليه وآله !
--------------------------- 236 ---------------------------
وفي الفصول التي عقدها المحدثون ، وكُتَّاب السيرة لحراسته صلى الله عليه وآله وقصصها ، وأسماء حراسه وقصصهم . . ما يكفي لرد هذه المقولة !
والعجيب أنك ترى بعضهم يذكر كل ذلك عن الحراسة ، ثم يقول إنه صلى الله عليه وآله ألغى الحراسة بعد نزول الآية في مكة قبل الهجرة ، أو بعد الهجرة ! فتراه كأنه حلف يميناً أن يبعد آية العصمة من الناس عن يوم الغدير !
ولذا يجب رفض كل الروايات التي زعمت أنه ألغى الحراسة قبل هذا التاريخ ، لأنها تزعم إلغاءها مطلقاً ، في السلم والحرب والسفر والحضر !
وقد تقدمت في رواية الحاكم أن ثلث المسلمين كانوا يحرسونه صلى الله عليه وآله في بدر !
وروى أحمد : 2 / 222 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه . . . ! ! !
ورواه في كنز العمال : 12 / 430 ، عن مسند عبد الله بن عمرو بن العاص .
وقال عنه في مجمع الزوائد : 10 / 367 : رواه أحمد ورجاله ثقات . انتهى .
وقد كانت غزوة تبوك في آخر سنة من حياته صلى الله عليه وآله .
وقال صاحب عيون الأثر في : 2 / 402 : ( وحرسه يوم بدر حين نام في العريش : سعد بن معاذ ، ويوم أحد : محمد بن مسلمة ، ويوم الخندق : الزبير بن العوام . وحرسه ليلة بني بصفية : أبو أيوب الأنصاري بخيبر ، أو ببعض طريقها ، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني . وحرسه بوادي القرى : بلال ، وسعد بن أبي وقاص ، وذكوان بن عبد قيس . وكان على حرسه عباد بن بشر ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك الحرس ! ! ) . انتهى .
--------------------------- 237 ---------------------------
وقد حاول أن يجيب على حراستهم للنبي صلى الله عليه وآله في تبوك ، ففسر نص الحراسة بأنه يعني انتظارهم انتهاء صلاته ! قال في : 1 / 119 :
( وفي حديث عمرو بن شعيب : فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى . . . والمراد والله أعلم : ينتظرون فراغه من الصلاة ! وأما حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين ، فقد كان انقطع منذ نزلت : والله يعصمك من الناس ، وذلك قبل تبوك . والله أعلم ) . انتهى .
ولكنه تفسير مخالف لنص الرواية في الحراسة !
وعلى كل حال ، فإن هذا القول بنزول الآية في المدينة يرد القول الأول الذي جعل تاريخ نزول الآية في مكة ! - *
والنتيجة : أن دعوى إلغائه صلى الله عليه وآله للحراسة لا دليل عليها من سيرته صلى الله عليه وآله ، بل الدليل على خلافها ، وأن بني هاشم كانوا يحرسونه في مكة حتى هجرته ، ثم كانوا هم وبقية أصحابه يحرسونه في المدينة ، إلى آخر عمره الشريف .
وفي اعتقادي أن نفس محاولة تفسير الآية بإلغاء الحراسة دليلٌ على صحة تفسير أهل البيت عليهم السلام بأن الآية تقصد العصمة من الإرتداد ، فترى مخالفيهم يصرون على تفسيرها بالعصمة الحسية ويربطونها بالحراسة ، ويقعون في التناقض مع الواقع المعروف في قصص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وينكرون أسطوانة الحرس التي ما زالت تواجههم في المسجد النبوي !
ومن التناقضات التي وجدناها عند أصحاب هذا القول أن الألباني تبناه في أول كلامه ، ثم رد تصحيح الحاكم لحديث القبة الذي هو أساسه واعتبره
--------------------------- 238 ---------------------------
صحيحاً مرسلاً ، ثم ذكر له شاهداً وهو حديث اغتيال شخصٍ للنبي ، الذي سيأتي في القول الخامس ، وحسنه ! ! فاعجب لهذا التهافت ! !
القول الرابع
أنها نزلت في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد حرب أحد !
قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 291 :
( وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله .
فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : أبا حباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه ! قال : إذن أقبل ، فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ، إلى أن بلغ إلى قوله : والله يعصمك من الناس . . . ) . انتهى .
ويكفي في الدلالة على بطلان هذا القول ما تقدم في الحراسة ، ويضاف إليه أنه من كلام عطية بن سعد ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله ، والآيات المذكور ة فيها هي الآيات من 1 إلى 67 من سورة المائدة ، ولم يقل أحدٌ إن هذا الآيات نزلت في قصة ولاء ابن سلول لليهود ، الذي توفي قبل نزول سورة المائدة !
--------------------------- 239 ---------------------------
القول الخامس
أنها نزلت على أثر محاولة شخص اغتيال النبي صلى الله عليه وآله ، وقد تناقضت رواياتهم في ذلك ، فذكر بعضها أن الحادثة كانت في غزوة بني أنمار المعروفة بذات الرقاع ، وأن شخصاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله بقصد اغتياله وطلب منه أن يعطيه سيفه ليراه ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله إياه بكل سهولة . . ! أو كان علقه وغفل عنه ، أو دلى رجليه في البئر . . . إلخ !
قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298 - 299 :
( وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ! فقال غورث بن الحرث : لأقتلن محمداً ، فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال أقول له أعطني سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به ! فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشِمْهُ ، فأعطاه إياه فرعدت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حال الله بينك وبين ما تريد ، فأنزل الله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، الآية .
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثرت دماغه فأنزل الله : والله يعصمك من الناس !
وأخرج ابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها ،
--------------------------- 240 ---------------------------
فنزل ذات يوم تحت شجرة ، وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يمنعني منك ، ضع عنك السيف فوضعه ، فنزلت : والله يعصمك من الناس ) . انتهى .
وقال بعضهم : إن شخصاً أراد اغتيال النبي صلى الله عليه وآله فقبضوا عليه : ففي الدر المنثور : 2 / 299 : ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم تُرَعْ ، ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي . . ) . انتهى . - *
ومما يدل على بطلان هذا القول وأنها لم تنزل في قصة غورث ولا شبهها :
أولاً ، أن غزوة ذات الرقاع أو بني أنمار كانت في السنة الرابعة من الهجرة ( سيرة ابن هشام : 3 / 225 ) وهو تاريخٌ قبل نزول سورة المائدة بسنوات ، كما أن بعض رواياتها بلا تاريخ ، وبعضها غير معقول !
ثانياً ، أن المصادر الأساسية التي روت قصة غورث وغزوة ذات الرقاع ، لم تذكر نزول آية العصمة فيها ، بل ذكر أكثرها تشريع صلاة الخوف والحراسة المشددة على النبي صلى الله عليه وآله حتى في الصلاة ، وهو كافٍ لرد رواية نزول الآية فيها !
أما ابن هشام فقد ذكر أن الآية التي نزلت في قصة غورث هي قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم . . . ( سيرة ابن هشام : 3 / 227 ، تحقيق السقا ) ولكن ذلك لا يصح أيضاً ، لأن تلك الآية من سورة المائدة أيضاً !
--------------------------- 241 ---------------------------
وأما البخاري وغيره فقد رووا فيها تشريع صلاة الخوف وتشديد الحراسة معاً ! قال في صحيحه : 5 / 53 : ( عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه ، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه ، قال جابر فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا ! فقال لي من يمنعك مني ؟ قلت له : الله ، فها هو ذا جالس ، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن أبي سلمة عن جابر قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة ، فاخترطه فقال له : تخافني ؟ فقال لا . قال فمن يمنعك مني ؟ قال الله . فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقيمت الصلاة ، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين . وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر : اسم الرجل غورث بن الحرث ) . انتهى .
وروى الحاكم نحوه : 3 / 29 ، وذكر فيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله صلى بعد الحادثة صلاة الخوف بالحراسة المشددة ! وقال عن الحديث : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وكذلك روى أحمد قصة غورث في : 3 / 364 و 390 ، وذكر فيها صلاة الخوف ولم يذكر نزول الآية !
--------------------------- 242 ---------------------------
وراجع أيضاً : 4 / 59 ، ورواها الهيثمي في مجمع الزوائد : 9 / 8 ، وفيها تفصيلات كثيرة وليس فيها ذكر نزول الآية ! !
وروى الكليني صيغة معقولة لقصة غورث ، قال في الكافي : 8 / 127 :
( أبان عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه ، فرآه رجل من المشركين ، والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل ، فقال رجل من المشركين لقومه : أنا أقتل محمداً ، فجاء وشد على رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف ثم قال : من ينجيك مني يا محمد ؟ فقال : ربي وربك ، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط على ظهره ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ السيف ، وجلس على صدره وقال : من ينجيك مني يا غورث ؟ فقال : جودك وكرمك يا محمد ! فتركه ، فقام وهو يقول : والله لأنت خير مني وأكرم ) . انتهى .
وهكذا لا تجد أثراً في هذه المصادر لنزول الآية في ذات الرقاع ، أو في قصة غورث ، بل تلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله صلى بعد الحادثة بالحراسة المشددة ! فهل صار إلغاء الحراسة عند أصحاب هذا القول ، أن النبي صلى الله عليه وآله لم يطمئن قلبه بالعصمة المزعومة فأمر بتشديد الحراسة ؟ !
ومن تخبطهم في قصة غورث وآية التبليغ ، ما تراه من الرد والبدل بين ابن حجر والقرطبي ، فقد قال القرطبي إن كون النبي وحده في القصة يدل على عدم حراسته حينذاك ، وأن الآية نزلت قبلها ! !
--------------------------- 243 ---------------------------
فأجابه ابن حجر : لا ، فالآية نزلت يومذاك فألغى الحرس ، أما قبلها فكان أحياناً يضعف إيمانه فيتخذ الحرس ، وأحياناً يقوى فيلغيه ، وفي قصة غورث كان بلا حراسة لقوة إيمانه يومذاك ! !
قال في فتح الباري : 8 / 2752 : ( قوله باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والإستظلال بالشجر . ذكر فيه حديث جابر الماضي قبل بابين من وجهين ، وهو ظاهر فيما ترجم له ، وقد تقدمت الإشارة إلى مكان شرحه .
قال القرطبي : هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في هذا الوقت لا يحرسه أحدٌ من الناس ، بخلاف ما كان عليه في أول الأمر ، فإنه كان يحرس حتى نزل قوله تعالى : والله يعصمك من الناس .
قلت : قد تقدم ذلك قبل أبواب ، لكن قد قيل إن هذه القصة سبب نزول قوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، وذلك فيما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنا إذا نزلنا طلبنا للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم شجرة وأظلها . . فنزل تحت شجرة ، فجاء رجل فأخذ سيفه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فأنزل الله : والله يعصمك من الناس ، وهذا إسناد حسن .
فيحتمل إن كان محفوظاً أن يقال : كان مخيراً في اتخاذ الحرس ، فتركه مرةً لقوة يقينه ، فلما وقعت هذه القصة ونزلت هذه الآية ، ترك ذلك ! ! . انتهى .
فأعجب لابن الحجر الذي لم يلتفت إلى أن الآية من سورة المائدة التي نزلت سنة عشر ! وأن غزوة ذات الرقاع سنة أربع ! وأن مجئ راويها أبي هريرة إلى المدينة كان سنة سبع ! وغفل عن تشديد الحراسة وصلاة الخوف في ذات الرقاع ! وهو مع ذلك يشرح رواية البخاري في صلاة الخوف ! ! وما
--------------------------- 244 ---------------------------
ذلك إلا لأن ذهنه مملوءٌ بما زرَّقوه فيه من ربط آية العصمة بالحراسة ، لإبعادها عن بيعة الغدير ! !
وأخيراً . . فقد تقدمت روايات حراسة النبي صلى الله عليه وآله في تبوك ، وهي بعد غزوة ذات الرقاع بنحو ست سنوات ، ونضيف إليها هنا حراسته في فتح مكة الذي كان بعد هذه الحادثة بنحو أربع سنوات ! فقد روى البخاري أن المسلمين كانوا يحرسون النبي صلى الله عليه وآله حينئذ !
قال في صحيحه : 5 / 91 : عن هشام عن أبيه قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً ، خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران ، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة ، فقال أبو سفيان ما هذه ، لكأنها نيران عرفة ؟ ! فقال بديل بن ورقاء : نيران بني عمرو ! فقال أبو سفيان : عمرو أقل من ذلك ! فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأدركوهم فأخذوهم ، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . انتهى .
ونضيف إلى ذلك أسطوانة الحراسة التي ما زالت في المسجد النبوي الشريف ، والتي عرفت بهذا الاسم في عام الوفود ، وهو السنة التاسعة كما في سيرة ابن هشام : 4 / 214 ، تحقيق السقا ! فإذا استطاع أصحاب هذا القول أن ينكروا حراسة النبي صلى الله عليه وآله ، يبقى عليهم أن ينكروا وجود الأسطوانة في المسجد النبوي ! ! وقد يفعلون . - *
--------------------------- 245 ---------------------------
القول السادس
لم يعين أصحابه تاريخ نزول الآية ، ولا ربطوها بالحراسة ، ولكنهم قالوا إنها عامة تؤكد على النبي صلى الله عليه وآله وجوب تبليغ الرسالة ، وإلا فإنه لم يبلغها ! ففي الدر المنثور : 2 / 299 :
( وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ ، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت فقال : والله لا يدع الله عقبى للناس ما صاحبتهم ) . انتهى .
وهذا القول يشبه القول الأول ، ويرد عليه ما تقدم ، وأن رواياته غير مسندة ، وأنه لا ينطبق على معنى الآية ، ولا يكفي لتصحيح القضية الشرطية فيها ، كما ستعرف . - *
القول الموافق لرأي لأهل البيت عليهم السلام
قال في الدر المنثور : 2 / 298 :
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها لرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - أن علياً مولى المؤمنين - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ! انتهى .
وفي كتاب المعيار والموازنة / 213 :
--------------------------- 246 ---------------------------
وعن جابر بن عبد الله وعبد الله بن العباس الصحابيين قالا : أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم . انتهى .
وقال في هامشه : وروى السيوطي في الدر المنثور عن الحافظ ابن مردويه وابن عساكر بسنديهما عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم . . .
أقول : ورواه أيضاً بأسانيد الحافظ الحسكاني في الحديث 211 وتواليه من شواهد التنزيل 1 / 157 . ورواه أيضاً ابن عساكر في الحديث ( 585 - 586 ) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق : 2 / 85 ط 1 .
وقد روى الخطيب والحافظ الحسكاني وابن عساكر وابن كثير والخوارزمي وابن المغازلي بأسانيد عن أبي هريرة قال : من صام يوم ثماني عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب ، فقال : ألست ولي المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم . . . ومن أراد المزيد فعليه بما ألفه علماء المسلمين في هذا الحديث قرناً بعد قرن مثل رسالة الحافظ ابن عقدة ، وحديث الغدير للطبري المفسر والمؤرخ الشهير ، وحديث الغدير للحافظ الدارقطني ، والذهبي ، وعبيد الله الحسكاني ، ومسعود السجستاني وغيرهم . وعليك بكتاب
--------------------------- 247 ---------------------------
الغدير ، وحديث الغدير من كتاب عبقات الأنوار ، فإن فيهما ما تشتهي الأنفس . انتهى .
وفي تفسير الميزان : 6 / 54 :
وعن تفسير الثعلبي قال قال جعفر بن محمد : معنى قوله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، في فضل علي ، فلما نزلت هذه أخذ النبي صلى الله عليه وآله بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه .
وعنه بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية قال : نزلت في علي بن أبي طالب ، أمر الله النبي صلى الله عليه وآله أن يبلغ فيه فأخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
وفي الغدير : 1 / 214 :
نزلت هذه الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة ( 10 ه ) سنة حجة الوداع لما بلغ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله غدير خم ، فأتاه جبرئيل بها على خمس ساعات مضت من النهار فقال : يا محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في علي - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، الآية . وكان أوائل القوم وهم مائة ألف أو يزيدون قريباً من الجحفة فأمر أن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، وأن يقيم علياً عليه السلام علماً للناس ، ويبلغهم ما أنزل الله فيه ، وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس .
وما ذكرناه من المتسالم عليه عند أصحابنا الإمامية ، غير أنا نحتج في المقام بأحاديث أهل السنة في ذلك . انتهى .
--------------------------- 248 ---------------------------
وقد ذكر الأميني رحمه الله ثلاثين مؤلفاً لعلماء سنيين أوردوا فيها أحاديث نزول الآية في ولاية علي عليه السلام نذكر عدداً منهم باختصار :
1 - الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 ، أخرج بإسناده في كتاب ( الولاية ) في طرق حديث الغدير ، عن زيد بن أرقم قال : لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بغدير خم في رجوعه من حجة الوداع ، وكان في وقت الضحى وحر شديد ، أمر بالدوحات فقمَّت ، ونادى الصلاة جامعة ، فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال : إن الله تعالى أنزل إلي : بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . . .
2 - الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي المتوفى 327 .
3 - الحافظ أبو عبد الله المحاملي المتوفى 330 ، أخرج في أماليه بإسناده عن ابن عباس . . .
4 - الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي المتوفى 407 ، روى في كتابه ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين ، بالأسناد عن ابن عباس . . .
5 - الحافظ ابن مردويه المولود 323 والمتوفى 416 ، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب ، وبإسناد آخر عن ابن مسعود أنه قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك أن علياً مولى المؤمنين . . .
6 - أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى 427 ، روى في تفسيره الكشف والبيان . .
--------------------------- 249 ---------------------------
7 - الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430 ، روى في تأليفه : ما نزل من القرآن في علي . . .
8 - أبو الحسن الواحدي النيسابوري المتوفى 468 ، روى في أسباب النزول . . .
9 - الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477 ، في كتاب الولاية بإسناده من عدة طرق عن ابن عباس . . .
10 - الحافظ الحاكم الحسكاني أبو القاسم روى في شواهد التنزيل لقواعد التفصيل والتأويل ، بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وجابر . . .
11 - الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الشافعي المتوفى 571 ، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري . . .
12 - أبو الفتح النطنزي أخرج في الخصائص العلوية ، بإسناده عن الإمامين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق . . .
13 - أبو عبد الله فخر الدين الرازي الشافعي المتوفى 606 ، قال في تفسيره الكبير 3 / 636 : العاشر : نزلت الآية في فضل علي ، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه . . .
14 - أبو سالم النصيبي الشافعي المتوفى 652 ، في مطالب السؤول . . .
15 - الحافظ عز الدين الرسعني الموصلي الحنبلي المولود 589 . . .
16 - شيخ الإسلام أبو إسحاق الحمويني المتوفى 722 ، أخرج في فرايد السمطين عن مشايخه الثلاثة : السيد برهان الدين إبراهيم بن عمر الحسيني المدني ، والشيخ الإمام مجد الدين عبد الله بن محمود الموصلي ، وبدر الدين
--------------------------- 250 ---------------------------
محمد بن محمد بن أسعد البخاري ، بإسنادهم عن أبي هريرة : أن الآية نزلت في علي .
17 - السيد علي الهمداني المتوفى 786 ، قال في مودة القربى : عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فلما كان بغدير خم نودي الصلاة جامعة ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وأخذ بيد علي ، وقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله .
فقال : ألا من أنا مولاه فعلي مولاه . اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . فلقيه عمر رضي الله عنه فقال : هنيئاً لك يا علي بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة . وفيه نزلت : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . الآية .
18 - بدر الدين بن العيني الحنفي المولود 762 والمتوفى 855 ، ذكره في عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 8 / 584 في قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل . . . عن الحافظ الواحدي . . .
- *
الوهابيون وحديث الغدير
من العجيب أن يبقى القول الموافق لأهل البيت عليهم السلام في سبب نزول آية التبليغ حياً في مصادر إخواننا السنيين ! لأنه ينسف الأسس التي أقام القرشيون عليها خلافتهم ، وبذلوا جهودهم ليقنعوا بها المسلمين .
ولهذا ترى النواصب يغيظهم وجود حديث الغدير ، وحديث آية التبليغ وأمثاله ، ويودون لو أن شيئاً منها لم يكن موجوداً في الصحاح والمصادر . .
--------------------------- 251 ---------------------------
وتراهم بدل أن يبحثوها بحثاً علمياً على ضوء القرآن والمتفق عليه من السنة . . يكيلون التهم والسباب للشيعة وعلماء الشيعة لأنهم اطلعوا عليها ، وأخرجوها لهم من مصادرهم ! !
قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5 / 644 :
عصمته من الناس : كان يحرس حتى نزلت هذه الآية : والله يعصمك من الناس ، فأخرج رسول الله رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله . أخرجه الترمذي : 2 / 175 ، وابن جرير : 6 / 199 ، والحاكم : 2 / 3 ، من طريق الحارث بن عبيد عن سعيد الجريري ، عن عبد بن شقيق ، عن عائشة قالت : فذكره . وقال الترمذي : حديث غريب . وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق قال : كان النبي يحرس . . ولم يذكروا فيه : عن عائشة .
قلت : وهذا أصح ، لأن الحارث بن عبيد - وهو أبو قدامة الأيادي - فيه ضعف من قبل حفظه ، أشار إليه الحافظ بقوله : صدوق يخطئ . وقد خالفه بعض الذين أشار إليهم الترمذي ، ومنهم إسماعيل بن علية الثقة الحافظ ، رواه ابن جرير بإسنادين عنه عن الجريري مرسلاً .
قلت : فهو صحيح مرسلاً ، وأما قول الحاكم عقب المسند عن عائشة : صحيح الأسناد فمردود ، لما ذكرنا ، وإن تابعه الذهبي .
نعم الحديث صحيح ، فإن له شاهداً من حديث أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا نزل منزلاً نظروا أعظم شجرة يرونها فجعلوها للنبي فينزل تحتها وينزل أصحابه بعد ذلك في ظل الشجر ، فبينما هو نازل تحت شجرة وقد علق السيف عليها إذ جاء أعرابي فأخذ السيف من الشجرة ثم دنا من النبي وهو نائم فأيقظه ، فقال : يا محمد من يمنعك مني الليلة ؟
--------------------------- 252 ---------------------------
فقال النبي صلى الله عليه وآله الله . فأنزل الله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . . الآية . أخرجه ابن حبان في صحيحه 1739 موارد وابن مردويه كما في ابن كثير 6 / 198 من طريقين عن حماد بن سلمة : حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه . قلت . وهذا إسناد حسن . وذكر له ابن كثير شاهداً ثانياً من حديث جابر رواه ابن أبي حاتم .
وله شاهدان آخران عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي مرسلاً .
واعلم أن الشيعة يزعمون - خلافاً للأحاديث المتقدمة - أن الآية المذكورة نزلت يوم غدير خم في علي رضي الله عنه ويذكرون في ذلك روايات عديدة مراسيل ومعاضيل أكثرها ، ومنها عن أبي سعيد الخدري ولا يصح عنه كما حققته في الضعيفة ( 4922 ) والروايات الأخرى أشار إليها عبد الحسين الشيعي في مراجعاته / 38 دون أي تحقيق في أسانيدها كما هي عادته في سرد أحاديث كتابه ، لأن غايته حشد كل ما يشهد لمذهبه سواء صح أو لم يصح ، على قاعدتهم : الغاية تبرر الوسيلة ! فكن منه ومن رواياته على حذر ، وليس هذا فقط ، بل هو يدلس على القراء - إن لم أقل يكذب عليهم - فإنه قال في المكان المشار إليه في تخريج أبي سعيد هذا المنكر بل الباطل : أخرجه غير واحد من أصحاب السنن كالإمام الواحدي . . !
ووجه كذبه : أن المبتدئين في هذا العلم يعلمون أن الواحدي ليس من أصحاب السنن الأربعة ، وإنما هو مفسر يروي بأسانيده ما صح وما لم يصح ، وحديث أبي سعيد هذا مما لم يصح ، فقد أخرجه من طريق فيه متروك شديد الضعف ! كما هو مبين في المكان المشار إليه من الضعيفة .
--------------------------- 253 ---------------------------
وهذه من عادة الشيعة قديماً وحديثاً ، أنهم يستحلون الكذب على أهل السنة عملاً في كتبهم وخطبهم ، بعد أن صرحوا باستحلالهم للتقية ، كما صرح بذلك الخميني في كتابه كشف الأسرار ، وليس يخفى على أحد أن التقية أخت الكذب ولذلك قال أعرف الناس بهم شيخ الإسلام ابن تيمية : الشيعة أكذب الطوائف . وأنا شخصياًّ قد لمست كذبهم لمس اليد في بعض مؤلفيهم ، وبخاصة عبد الحسين هذا ، والشاهد بين يديك فإنه فوق كذبته المذكورة أوهم القراء أن الحديث عند أهل السنة من المسلمات بسكوته عن علته ، وادعائه كثرة طرقه .
وقد كان أصرح منه في الكذب الخميني فإنه صرح في الكتاب المذكور / 149 ، أن آية العصمة نزلت يوم غدير خم بشأن إمامة علي بن أبي طالب ، باعتراف أهل السنة ، واتفاق الشيعة . كذا قال عامله الله بما يستحق . وسأزيد هذا الأمر بياناً في الضعيفة ، إن شاء الله تعالى . انتهى .
ونقول للباحث الألباني :
أولاً : دع عنك التهم والشتائم وإصدار الأحكام ، وتصنيف من هم أصدق الطوائف الإسلامية ومن هم أكذبها ، فإن السنيين والشيعيين فيهم أنواع الناس . . ولكن النواصب لهم حكم خاص . .
ولا تنس أيها الباحث أن ابن تيمية الذي لم ينصف علي بن أبي طالب عليه السلام لا يمكنه أن ينصف شيعته . . وقد دافعت أنت عن علي عليه السلام ورددت ظلم ابن تيمية وإنكاره حديث الغدير ( من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) فصححت الحديث واعترفت بالحق
--------------------------- 254 ---------------------------
مشكوراً ، وكتبت صفحات في ذلك في أحاديثك الصحيحة 5 / 330 برقم 1750 ، ثم قلت في / 344 : ( إذا عرفت هذا فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته : أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ضعَّف الشطر الأول من الحديث ، وأما الشطر الآخر فزعم أنه كذب ! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ، ويدقق النظر فيها . والله المستعان .
أما ما يذكره الشيعة في هذا الحديث وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله قال في علي رضي الله عنه : إنه خليفتي من بعدي ، فلا يصح بوجه من الوجوه ، بل هو من أباطيلهم الكثيرة التي دل الواقع التاريخي على كذبها ، لأنه لو فرض أن النبي قاله لوقع كما قال لأنه ( وحي يوحى ) والله سبحانه لا يخلف وعده ! ! ) . انتهى .
ونلاحظ أن الشيخ الألباني الذي انتقد ( تسرع ) إمامه ابن تيمية ، تسرع هو أيضاً وجعل الإخبار التشريعي إخباراً غيبياً ! وشتان ما بينهما . . فلو صح ذلك لانتقض حديثه الذي صححه وأحكمه ، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) فهو أيضاً ( وحيٌ يوحى ) فوجب على قوله بأنه إخبار غيبي عما سيقع أن يكون علي ولياًّ لكل المسلمين وسيداً لهم ، وأن يكونوا معه كالعبيد كما كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله . . ولكن ذلك لم يتحقق ، بل لقد هاجموا بيت علي وفاطمة عليهما السلام في اليوم الثاني لوفاة النبي صلى الله عليه وآله أو الثالث ، وهددوا المعتصمين فيه بإحراقه عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا . . ثم أجبروا علياًّ إجباراً على البيعة كما هو معروف . .
--------------------------- 255 ---------------------------
فقوله صلى الله عليه وآله : عليٌّ خليفتي من بعدي ، مثل قوله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وإذا كان الأول إخباراً عما سيقع ، كما ادعى الألباني ، فكذلك الثاني ، فكيف تحقق عكسه وصار معنى : من كنت سيده فعلي سيده ، أنَّ الرعية أجبروا سيدهم على بيعتهم ؟ !
إن الإخبار في الحديثين تشريعي أيها المحدث ، وبيانٌ لتكليف المسلمين وما يجب عليهم ، وليس إخباراً غيبياً عما سيقع ، حتى لا يصح وقوع غيره !
ونقول له ثانياً : عندما ضعَّفت حديث سبب نزول آية ( والله يعصمك من الناس ) في بيعة الغدير ، هل جمعت طرقه ودققت النظر فيها فقلت ( مراسيل ومعاضيل أكثرها ) ؟
هل رأيت طرق الثعلبي ، وأبي نعيم ، والواحدي ، وأبي سعيد السجستاني ، والحسكاني ، وبحثت أسانيدهم فوجدتها كلها مرسلة أو ضعيفة أو معضلة ، ووجدت في رواتها من لم تعتمد أنت عليهم ؟ ! أم وقعت فيما وقع فيه ابن تيمية من التسرع والتعصب الذي انتقدته عليه ؟ !
على أي حالٍ ، لم يفت الوقت ، فنرجو أن تتفضل بملاحظة ما كتبناه في تفسير الآية ، وأن تدقق الطرق والأسانيد التي قدمناها ، وتبحثها بموازينك التي تريدها ، بشرط أن لا تناقض ما كتبته في كتبك ، وأن لا تضعِّف راوياً هنا لأنه روى فضيلةً لعلي ، وقد اعتمدت عليه وقبلت روايته في مكان آخر لأنه روى فضيلة لخصوم علي !
ونذكر فيما يلي أسانيد مصدر واحد هو : كتاب شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني عبيد الله بن عبد الله بن أحمد العامري القرشي ، تلميذ الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك .
--------------------------- 256 ---------------------------
قال في كتابه المذكور ، بتحقيق المحمودي : 1 / 250 - 257 :
244 - أخبرنا أبو عبد الله الدينوري قراءة ، ( قال ) حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق ( بن إبراهيم ) السني قال : أخبرني عبد الرحمان بن حمدان قال : حدثنا محمد بن عثمان العبسي قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال : حدثنا علي بن عابس عن الأعمش عن أبي الجحاف ( داود بن أبي عوف ) عن عطية : عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) .
245 - أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ جملة ( قال : أخبرنا ) علي بن عبد الرحمان بن عيسى الدهقان بالكوفة قال : حدثنا الحسين بن الحكم الحبري قال : حدثنا الحسن بن الحسين العرني قال : حدثنا حبان بن علي العنزي قال : حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . . الآية . ( قال ) نزلت في علي ، أمر رسول الله صلى الله عليه أن يبلغ فيه فأخذ رسول الله بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .
246 - رواه جماعة عن الحبري وأخرجه السبيعي في تفسيره عنه فكأني سمعته من السبيعي ورواه جماعة عن الكلبي .
وطرق هذا الحديث مستقصاة في كتاب دعاء الهداة إلى أداء حق الموالاة من تصنيفي في عشرة أجزاء .
247 - أخبرنا أبو بكر السكري قال : أخبرنا أبو عمرو المقري قال : أخبرنا الحسن بن سفيان قال : حدثني أحمد بن أزهر قال : حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة قال : حدثنا عمر بن نعيم بن عمر بن قيس الماصر قال :
--------------------------- 257 ---------------------------
سمعت جدي قال : حدثنا عبد الله بن أبي أوفى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم وتلا هذه الآية ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) ثم رفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ثم قال : ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . ثم قال : اللهم اشهد .
248 - أخبرنا عمرو بن محمد بن أحمد العدل بقراءتي عليه من أصل سماع نسخته قال : أخبرنا زاهر بن أحمد قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي قال : حدثنا المغيرة بن محمد قال : حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال : حدثني أبي قال : سمعت زياد بن المنذر يقول : كنت عند أبي جعفر محمد بن علي وهو يحدث الناس إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له : عثمان الأعشى - كان يروي عن الحسن البصري - فقال له : يا بن رسول الله جعلني الله فداك إن الحسن يخبرنا أن هذه الآية نزلت بسبب رجل ولا يخبرنا من الرجل ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) . فقال : لو أراد أن يخبر به لأخبر به ولكنه يخاف . إن جبرئيل هبط على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صلاتهم ، فدلهم عليها . ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على زكاتهم ، فدلهم عليها . ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صيامهم ، فدلهم . ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على حجهم ، ففعل . ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة في جميع ذاك . فقال رسول الله : يا رب إن قومي قريبو عهد بالجاهلية ، وفيهم تنافس وفخر ، وما منهم رجل إلا وقد
--------------------------- 258 ---------------------------
وتره وليهم ، وإني أخاف ، فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) يريد فما بلغتها تامة ( والله يعصمك من الناس ) فلما ضمن الله ( له ) بالعصمة وخوفه أخذ بيد علي بن أبي طالب ثم قال : يا أيها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه . قال زياد : فقال عثمان : ما انصرفت إلى بلدي بشيء أحب إلي من هذا الحديث .
249 - حدثني علي بن موسى بن إسحاق عن محمد بن مسعود بن محمد قال : حدثنا سهل بن بحر قال : حدثنا الفضل بن شاذان ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة عن الكلبي عن أبي صالح : عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا : أمر الله محمداً أن ينصب علياًّ للناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه فأوحى الله إليه : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية ، فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم .
250 - حدثني محمد بن القاسم بن أحمد في تفسيره قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الفقيه قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثنا أحمد بن عبد الله البرقي عن أبيه عن خلف بن عمار الأسدي عن أبي الحسن العبدي عن الأعمش عن عباية بن ربعي : عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( وساق ) حديث المعراج إلى أن قال : وإني لم أبعث نبياً إلا جعلت له وزيراً وإنك رسول الله ، وإن علياًّ وزيرك .
--------------------------- 259 ---------------------------
قال ابن عباس : فهبط رسول الله فكره أن يحدث الناس بشيء منها إذ كانوا حديثي عهد بالجاهلية ، حتى مضى ( من ) ذلك ستة أيام ، فأنزل الله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ، فاحتمل رسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى كان يوم الثامن عشر أنزل الله عليه ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً حتى يؤذن في الناس أن لا يبقى غداً أحداً إلا خرج إلى غدير خم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس من الغد فقال : يا أيها الناس إن الله أرسلني إليكم برسالة ، وإني ضقت بها ذرعاً مخافة أن تتهموني وتكذبوني حتى عاتبني ربي فيها بوعيد أنزله علي بعد وعيد ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما ثم قال : أيها الناس الله مولاي وأنا مولاكم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله . وأنزل الله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) . انتهى .
( ملاحظة : كتب هذا الموضوع قبل أن يتوفى الألباني وأرسلت له نسخة من الكتاب . . ولم يجب عليه ) !
- *
رأي أهل البيت عليهم السلام في الآية
في تفسير العياشي : 1 / 331 :
عن أبي صالح ، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا : أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وآله أن ينصب علياًّ عليه السلام علماً للناس ، ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقولوا حابى ابن عمه ،
--------------------------- 260 ---------------------------
وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . .
وفي الكافي : 1 / 290 :
محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين جميعاً ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن منصور بن يونس ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : فرض الله على العباد خمساً ، أخذوا أربعاً وتركوا واحدة ، قلت : أتسميهن لي جعلت فداك ؟
فقال : الصلاة ، وكان الناس لا يدرون كيف يصلون ، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال : يا محمد أخبرهم بمواقيت صلاتهم .
ثم نزلت الزكاة فقال : يا محمد أخبرهم من زكاتهم ما أخبرتهم من صلاتهم .
ثم نزل الصوم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان يوم عاشورا بعث إلى ما حوله من القرى فصاموا ذلك اليوم ، فنزل شهر رمضان بين شعبان وشوال .
ثم نزل الحج ، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال : أخبرهم من حجهم ما أخبرتهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم .
ثم نزلت الولاية . . . وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام فقال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ويقول قائل ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني ، فأتتني عزيمة من الله عز وجل بتلة ، أوعدني إن لم أبلغ أن يعذبني ، فنزلت : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك
--------------------------- 261 ---------------------------
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيد علي عليه السلام فقال :
أيها الناس : إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلا وقد عمره الله ثم دعاه فأجابه ، فأوشك أن أدعى فأجيب ، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟
فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت ما عليك ، فجزاك الله أفضل جزاء المرسلين . فقال : اللهم اشهد ، ثلاث مرات .
ثم قال : يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدي ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب .
وفي بحار الأنوار : 94 / 300 :
ومن الدعوات في يوم عيد الغدير ما ذكره محمد بن علي الطرازي في كتابه . رويناه بإسنادنا إلى عبد الله بن جعفر الحميري قال : حدثنا هارون بن مسلم عن أبي الحسن الليثي ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال لمن حضره من مواليه وشيعته : أتعرفون يوماً شيد الله به الإسلام ، وأظهر به منار الدين ، وجعله عيداً لنا ولموالينا وشيعتنا ؟
فقالوا : الله ورسوله وابن رسوله أعلم أيوم الفطر هو يا سيدنا ؟ قال : لا .
قالوا : أفيوم الأضحى هو ؟
قال : لا ، وهذان يومان جليلان شريفان ، ويوم منار الدين أشرف منهما وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما انصرف من حجة الوداع ، وصار بغدير خم ، أمر الله عز وجل جبرئيل عليه
--------------------------- 262 ---------------------------
السلام أن يهبط على النبي وقت قيام الظهر من ذلك اليوم ، وأمره أن يقوم بولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأن ينصبه علماً للناس بعده ، وأن يستخلفه في أمته ، فهبط إليه وقال له : حبيبي محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : قم في هذا اليوم بولاية علي ليكون علماً لأمتك بعدك يرجعون إليه ، ويكون لهم كأنت . فقال النبي صلى الله عليه وآله : حبيبي جبرئيل ، إني أخاف تغير أصحابي لما قد وتروه ، وأن يبدوا ما يضمرون فيه ، فعرج وما لبث أن هبط بأمر الله فقال له : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . فقام رسول الله صلى الله عليه وآله ذَعِراً مرعوباً خائفاً وقدماه تشويان من شدة الرمضاء ، وأمر بأن ينظف الموضع ويقمَّ ما تحت الدوح من الشوك وغيره ففعل ذلك ، ثم نادى بالصلاة جامعة فاجتمع المسلمون ، وفيمن اجتمع أبو بكر وعمر وعثمان وسائر المهاجرين والأنصار ، ثم قام خطيباً ، وذكر الولاية فألزمها للناس جميعاً ، فأعلمهم أمر الله بذلك .
وفي دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي : 1 / 14 :
وروينا عن أبي جعفر محمد بن علي صلى الله عليه أن رجلاً قال له : يا بن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري ، وخشيت أن يكذبني الناس ، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني .
قال له أبو جعفر : فهل حدثكم بالرسالة ؟ قال : لا .
قال : أما والله إنه ليعلم ما هي ، ولكنه كتمها متعمداً !
قال الرجل : يا بن رسول الله جعلني الله فداك وما هي ؟
--------------------------- 263 ---------------------------
فقال : إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه ، فلم يدروا ما الصلاة ولا كيف يصلون ، فأمر الله عز وجل محمداً نبيه صلى الله عليه وآله أن يبين لهم كيف يصلون . فأخبرهم بكل ما افترض الله عليهم من الصلاة مفسراً . .
وأمر بالزكاة ، فلم يدروا ما هي ، ففسرها رسول الله صلى الله عليه وآله وأعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع ، ولم يدع شيئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته ، وبينه لهم .
وفرض عليهم الصوم ، فلم يدروا ما الصوم ولا كيف يصومون ، ففسره لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وبين لهم ما يتقون في الصوم ، وكيف يصومون .
وأمر بالحج فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم كيف يحجون ، حتى أوضح لهم ذلك في سنته .
وأمر الله عز وجل بالولاية فقال : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ففرض الله ولاية ولاة الأمر ، فلم يدروا ما هي ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم ما الولاية ، مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله ذرعاً ، وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه ، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ، فصدع بأمر الله وقام بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه يوم غدير خم ، ونادى لذلك الصلاة جامعة ، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب .
--------------------------- 264 ---------------------------
وكانت الفرائض ينزل منها شيء بعد شيء ، تنزل الفريضة ثم تنزل الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .
قال أبو جعفر : يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة ، قد أكملت لكم هذه الفرائض .
وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : أوصي من آمن بالله وبي وصدقني : بولاية علي بن أبي طالب ، فإن ولاءه ولائي ، أمرٌ أمرني به ربي ، وعهدٌ عهده إليَّ ، وأمرني أن أبلغكموه عنه . انتهى .
وروى الحديث الأول في شرح الأخبار : 1 / 101 ، ونحوه في : 2 / 276 ، وروى أيضاً فيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا جبرائيل أمتي حديثة عهدٍ بجاهلية ، وأخاف عليهم أن يرتدوا ، فأنزل الله عز وجل : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في علي - فإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس . فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله بدا من أن جمع الناس بغدير خم فقال : أيها الناس إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني ، أفلستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي وأني مولى المسلمين ووليهم وأولى بهم من أنفسهم ؟
قالوا : بلى ، فأخذ بيد علي عليه السلام فأقامه ورفع يده بيده وقال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، ومن كنت وليه فهذا علي وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار .
--------------------------- 265 ---------------------------
ثم قال أبو جعفر عليه السلام : فوجبت ولاية علي عليه السلام على كل مسلم ومسلمة . انتهى . ورواه بنحوه في تفسير العياشي : 1 / 333 ، وفيه :
كنت عند أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام بالأبطح وهو يحدث الناس ، فقام إليه رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعشى ، كان يروي عن الحسن البصري . . إلخ .
وقد تقدمت بعض الأحاديث فيه في آية إكمال الدين ، وهي في مصادرنا كثيرة وصحيحة تبلغ حد التواتر .
ملاحظات عامة حول الأقوال المخالفة
الملاحظة الأولى
مع أن البخاري عقد للآية في صحيحه بابين : الأول في : 5 / 88 ، وروى فيه حديثا عن عائشة في التبليغ وعدم الكتمان ، والثاني في : 8 / 9 ، وروى فيه عن الزهري في التبليغ ، كما روى حديثين تضمنا الآية في : 6 / 50 ، وفي : 8 / 210 ، وكذا مسلم : 1 / 110 .
مع هذا ، فلم يرويا ولا روى غيرهما من أصحاب الصحاح شيئاً في تفسير الآية ، ما عدا رواية الترمذي في الحراسة ، والتي قال عنها إنها غريبة .
ونحن لا نرى أن عدم روايتهم لحديثٍ دليلاً ولا مؤشراً على ضعفه ، فكم من حديثٍ هو أصح مما في الصحاح لم يرووه ، وكم من حديثٍ روته الصحاح ، وذكر له علماء الجرح والتعديل عللاً كثيرة .
لكنا نريد القول : إن أصحاب الصحاح حريصون على رد مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وهم يعرفون أن آية التبليغ هذه يستدل بها أهل البيت وشيعتهم على مذهبهم ، فلو كان عندهم رواية قوية في ردها لرووها
--------------------------- 266 ---------------------------
وكرروها ، حتى لا تبقى روايات الشيعة بلا معارض قوي . فمن ذلك نستكشف أن تركهم لروايتها ليس بسبب ضعف سندها ، بل بسبب ما رأوه من ضعف متنها ، وتعارض صيغها ، وورود الإشكالات على كل واحدة منها ! فاضطروا بذلك إلى عدم الرد على روايات الشيعة ، وما وافقها من روايات السنة ، وبذلك بقيت بلا معارض من الصحاح الستة !
الملاحظة الثانية
أن روايات السنيين في تاريخ نزول الآية قد غطَّت الثلاث وعشرين سنة ، التي هي كل مدة بعثة النبي صلى الله عليه وآله ما عدا حجة الوداع التي نزلت فيها سورة المائدة ! وهو أمر يوجب الشك في أن الغرض من سعة تلك الروايات ، واستثنائها تلك الفترة وحدها ، هو التهرب من الفترة التاريخية التي نزلت فيها السورة !
الملاحظة الثالثة
أن سبب نزول الآية في مصادرنا سبب واحد ، بتاريخ واحد ، على نحو الجزم واليقين . أما في مصادر إخواننا السنيين فأسبابٌ متعددة ، بتواريخ متناقضة ، وعلماؤهم منها في شكٍّ وحيرة ، ولم تروها صحاحهم الستة . وفي رواياتهم ما يوافق قول أهل البيت عليهم السلام وإن لم يقبله خلفاء قريش !
وعندما نواجه من كتاب الله تعالى آيةً يتفق المسلمون على أنها نزلت مرة واحدة في تاريخ واحد ، ونجد أنهم يروون تاريخاً متفقاً عليه ، وفيهم أهل بيت نبيهم صلى الله عليه وآله ويروي بعضهم أسباباً أخرى متعارضة مختلفاً فيها . . فإن السبب المجمع على روايته يكون أقوى وأحق بالاتباع والفتوى .
- *
--------------------------- 267 ---------------------------
تقييم الأقوال المخالفة على ضوء الآية
في الآية خمس مسائل لا بد من تحديدها لمعرفة السبب الصحيح في نزولها :
المسألة الأولى : في المأمور به في الآية
لا يستقيم معنى الآية الشريفة إلا بحمل ( أنزل ) فيها على الماضي الحقيقي ، لأنها قالت ( بلغ ما أنزل إليك ) ولم تقل : بلغ ما سوف ينزل إليك . . وبيان ذلك : أولاً ، ظهور الفعل في الماضي الحقيقي ، وعدم وجود قرينةٍ توجب حمله على ما سوف ينزله الله تعالى في المستقبل . بل لم أجد استعمال ( أنزل ) في القرآن لما سوف ينزل أبداً ، على كثرة وروده في الآيات .
ثانياً ، أن الآية نزلت في آخر شهور نبوته صلى الله عليه وآله ، وإذا حملنا الفعل على المستقبل يكون معناها : إنك إن لم تبلغ ما سوف ننزله عليك في هذه الشهور الباقية من نبوتك ، فإنك لم تبلغ رسالة ربك أبداً ! وهو معنى لم تجىء به رواية ، ولم يقل به أحدٌ من علماء الشيعة ، ولا السنة !
وإذا تعين حمل لفظ ( أنزل إليك ) على الماضي الحقيقي ، دلَّ على أن الله تعالى كان أنزل على رسوله أمراً ثقيلاً ، وأمره بتبليغه فكان الرسول يفكر في ثقله على الناس ، وفي كيفية تبليغه لهم ، فجاءت الآية لتقول له : لا تتأخر في التنفيذ ، ولا تفكر في موقف الناس ، هل يؤمنون أو يكفرون . . ولكن نطمئنك بأنهم سوف لن يكفروا ، وسنعصمك منهم .
وهذا هو تفسير أهل البيت عليهم السلام وما وافقه من أحاديث السنيين .
المسألة الثانية : فيما يصحح الشرط والمشروط به في التبليغ
وقد اتضح ذلك من المسألة الأولى ، وأنه لا معنى لقولك : يا فلان بلغ رسائلي التي سوف أرسلها معك ، فإنك إن لم تفعل لم تبلغ رسائلي ! لأنه
--------------------------- 268 ---------------------------
من المعلوم أنه إن لم يفعل ، فلم يبلغ رسائلك ، ويكون كلامك من نوع قول الشاعر : وفسر الماء بعد الجهد بالماء !
نعم يصح أن تقول له عن رسالة معينة فعلية أو مستقبلية : إن هذه الرسالة مهمة وضرورية جداً ، وإن لم تبلغها ، فإنك لم تبلغ شيئاً من رسائلي !
قال في تفسير الميزان : 6 / 49 :
فالكلام موضوع في صورة التهديد وحقيقته بيان أهمية الحكم ، وأنه بحيث لو لم يصل إلى الناس ولم يراع حقه ، كان كأن لم يراع حق شيء من أجزاء الدين . فقوله : وإن لم تفعل فما بلغت ، جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجوداً وعدما ، لترتب الجزاء الأهم عليه وجوداً وعدماً ، وليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا ، فإنا نستعمل إن الشرطية طبعاً فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط ، وحاشا ساحة النبي صلى الله عليه وآله من أن يقدر القرآن في حقه احتمال أن يبلغ الحكم النازل عليه من ربه ، وأن لا يبلغ ! انتهى .
المسألة الثالثة : في نوع تخوف النبي صلى الله عليه وآله
ولا بد من القول بأن الخوف الذي كان عند النبي صلى الله عليه وآله كان خوفاً على الرسالة وليس على شخصه من القتل أو الأذى ، وذلك لشجاعته وعصمته عن التباطؤ عن التبليغ بسبب الخوف من ذلك صلى الله عليه وآله .
فإن الله تعالى كان أخبر رسوله صلى الله عليه وآله من الأيام الأولى لبعثته ، بثقل مسؤولية النبوة والرسالة وجسامة تبعاتها . . وكان صلوات الله عليه وآله موطِّناً نفسه على ذلك كله ، فلا معنى لأن يقال بأنه تلكأ بعد ذلك ، أو تباطأ
--------------------------- 269 ---------------------------
أو امتنع في أول البعثة ، أو في وسطها أو في آخرها ، حتى جاءه التهديد والتطمين ! !
وقد تبين مما تقدم أن الخوف الذي كان يعيشه النبي صلى الله عليه وآله عند نزول الآية ، ليس إلا خوفه من ارتداد الأمة ، وعدم قبولها إمامة عترته من بعده ، وأن يقول قائل منهم جارى ابن عمه ، ويشكوا في رسالته !
المسألة الرابعة : في معنى الناس في الآية
قال الفخر الرازي في تفسيره : مجلد 6 جزء 12 / 50 :
واعلم أن المراد من ( الناس ) ها هنا الكفار بدليل قوله تعالى : إن الله لا يهدي القوم الكافرين . . . لا يمكنهم مما يريدون . انتهى .
ولا يمكن قبول ذلك ، لأن نص الآية ( يعصمك من الناس ) وهو لفظ أعم من المسلمين والكفار ، فلا وجه لحصره بالكفار . . وقد تصور الرازي أن المعصوم منهم هم الذين لا يهديهم الله تعالى ، وأن المعنى : إن الله سيعصمك من الكفار ولا يهديهم !
ولكنه تصور خاطيء ، لأن ربْط عدم هدايته تعالى للكفار بالآية يتحقق من وجوه عديدة . . فقد يكون المعنى : سيعصمك من كل الناس ، ولا يهدي من يقصدك بأذى لأنه كافر . أو يكون المعنى : بلغ وسيعصمك الله من
الناس ، ومن أبى ما تبلغه فهو كافر ، ولا يهديه الله تعالى .
وهذا المعنى الأخير هو المرجح . وقد ورد شبيهه في البخاري : 8 / 139 قال :
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ! قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ! قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى . انتهى .
--------------------------- 270 ---------------------------
فإبقاء لفظة ( الناس ) على إطلاقه وشموله للجميع ، يتناسب مع مصدر الأذى والخطر على النبي صلى الله عليه وآله الذي هو غير محصور بالكفار ، بل يشمل المنافقين من الأمة أيضاً .
بل عرفت أن الخطر عند نزول الآية كاد يكون محصوراً بالمنافقين . ولكن الرازي يريد إبعاد الذم في الآية عن القرشيين المنافقين ، وإبعاد الأمر الإلهي فيها عن تبليغ ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام !
المسألة الخامسة : في معنى العصمة من الناس
وقد اتضح مما تقدم أن العصمة الإلهية الموعودة في الآية ، لا بد أن تكون متناسبة مع الخوف منهم ، ويكون معناها عصمته صلى الله عليه وآله من أن يطعنوا في نبوته ويتهموه بأنه حابى أسرته واستخلف عترته ، وقد كان من مقولاتهم المعروفة أن محمداً صلى الله عليه وآله يريد أن يجمع النبوة والخلافة لبني هاشم ، ويحرم قبائل قريش . . ! ! وكأنه صلى الله عليه وآله هو الذي يملك النبوة والإمامة ويعطيهما من جيبه ! !
فهذا هو المعنى المتناسب مع خوف الرسول صلى الله عليه وآله وأنه كان يفكر بينه وبين نفسه بما سيحدث من تبليغه ولاية علي عليه السلام .
فهي عصمةٌ في حفظ نبوته عند قريش ، وليست عصمةً من القتل أو الجرح أو الأذى ، كما ادعت الأقوال المخالفة . ولذلك لم تتغير حراسته صلى الله عليه وآله بعد نزول الآية عما قبلها ، ولا تغيرت المخاطر والأذايا التي كان يواجهها ، بل زادت .
--------------------------- 271 ---------------------------
كما ينبغي الالتفات إلى أن القدر المتيقن من هذه العصمة هو حفظ نبوة النبي صلى الله عليه وآله في الأمة وإن ثقلت عليهم أوامره ، وقرروا مخالفته . والغرض من هذه العصمة بقاء النبوة ، وتمام الحجة لله تعالى .
وهي غير العصمة الإلهية الأصلية للرسول صلى الله عليه وآله في أفعاله وأقواله وكل تصرفاته !
وقد وفى الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله بما وعد ، فقد أعلن صلى الله عليه وآله في يوم الغدير خلافة علي والعترة عليهم السلام بوضوح وصراحة ، ثم أمر أن تنصب لعلي خيمة ، وأن يهنؤوه بتولية الله عليهم . . ففعلوا على كره ! ولم يخدش أحد منهم في نبوة النبي صلى الله عليه وآله .
ولكنهم عندما توفي فعلوا ما يريدون ، وأقصوا علياً والعترة عليهم السلام !
بل أحرقوا بيتهم وأجبروهم على بيعة صاحبهم ! !
- *
مسألتان تتعلقان بآية العصمة من الناس
يوجد مسألتان ترتبطان بالآية الشريفة ، نتعرض لهما باختصار :
المسألة الأولى : محاربة علي عليه السلام بآية تبليغ ولايته !
يشهد جميع المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله بأنه بلغ عن ربه كل ما أمره به ، ونصح لأمته ، وأنه تحمل أكثر من جميع الأنبياء صلى الله عليهم .
لكنك تجد في مصادر السنيين تهمةً للشيعة بأنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله كتم أشياء ولم يبلغها إلى الأمة ، والعياذ بالله ! ويستدلون لردهم بآية : بلغ ما أنزل إليك . قال القرطبي في تفسيره : 6 / 243 :
--------------------------- 272 ---------------------------
من قال أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد كذب . الله تعالى يقول : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، وقبح الله الروافض حيث قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه . انتهى .
وقال القسطلاني في إرشاد الساري : 7 / 106 :
وقال الراغب فيما حكاه الطيبي : فإن قيل : كيف قال : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، وذلك كقولك إن لم تبلغ فما بلغت ! قيل : معناه وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك ، تكون في حكم من لم يبلغ شيئاً مما أنزل الله ، بخلاف ما قالت الشيعة إنه قد كتم أشياء على سبيل التقية ! انتهى .
والظاهر أن قصة هذه التهمة وبيت القصيد فيها هو حديث عائشة القائل : من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله كتم شيئاً من كتاب الله ، فقد أعظم على الله الفرية . وقد رووه عنها وأكثروا من روايته . . وقصدهم به الرد على علي عليه السلام وتكذيبه !
فقد كان علي عليه السلام يقول إنه وارث علم النبي صلى الله عليه وآله وإن عنده غير القرآن حديث النبي صلى الله عليه وآله ومواريثه . . فعنده جامعة فيها كل ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش .
وكان يقول إن النبي صلى الله عليه وآله قد أخبره بما سيحدث على عترته من بعده حتى هجومهم على بيته وإحراقه ، وإجباره على بيعتهم ، وأنه أمره في كل ذلك بأوامره . .
ونحن الشيعة نعتقد بكل ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام ، وتروي مصادرنا بل ومصادر السنيين عن مقام علي عليه السلام وقربه من النبي صلى
--------------------------- 273 ---------------------------
الله عليه وآله ومكانته عنده ، وشهاداته صلى الله عليه وآله في حقه . . ما يوجب اليقين بأن النبي صلى الله عليه وآله كان مأموراً من الله تعالى أن يعد علياً إعداداً خاصاً ، ويورثه علمه . .
مضافا إلى ما أعطى الله علياً عليه السلام من صفات ومؤهلات وإلهام . .
ونعتقد بأن علياً عليه السلام طاهرٌ مطهر ، صادقٌ مصدق ، في كل ما يقوله ولو كان شهادةً لنفسه وعترته .
قال السيوطي في الدر المنثور : 6 / 260 :
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والواحدي ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، وابن النجاري ، عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي : إن الله أمرني أن أدنيك ، ولا أقصيك ، وأن أعلمك ، وأن تعي وحقٌّ لك أن تعي . فنزلت هذه الآية : وتعيها أذن واعية . انتهى . ثم ذكر السيوطي رواية أبي نعيم في الحلية وفيها : فأنت أذُنٌ واعيةٌ لعلمي . انتهى .
وإذا كان حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي صلى الله عليه وآله وهو من أتباع علي عليه السلام . . فإن علياًّ هو صاحب أسرار النبي صلى الله عليه وآله وعلومه . وقد روى الجميع أنه صلى الله عليه وآله عهد إليه أن يقاتل على تأويل القرآن من بعده ، وأخبره أنه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين !
بل الظاهر أن وصايا النبي صلى الله عليه وآله لعلي كان بعضها معروفاً في حياته ، ومن ذلك وصيته له بأن يسجل مظلوميته ويقيم الحجة على القوم ، ولا يقاتلهم من أجل الخلافة . . فلو لم يكونوا يعرفون ذلك ، لما كانت عندهم جرأة أن يهاجموا علياًّ في بيته بعشرين مسلح أو خمسين ، ويقتحموا داره ، ثم يلقوا القبض عليه ، ويجروه بحمائل سيفه إلى البيعة ! !
--------------------------- 274 ---------------------------
لقد كان علي عليه السلام معجزةً وأسطورةً في القوة والشجاعة ، وفي الهيبة والرعب في قلوب الناس . . وأكثر الذين هاجموه في داره كانوا معروفين بالخوف والفرار في عدة حروب . . ولم يكن أحد منهم ولا من غيرهم يجرؤ أن يقف في وجه علي عليه السلام إذا جرد ذا الفقار ! !
ولكنهم كانوا مطمئنين أن إطاعته للنبي صلى الله عليه وآله تغلب شجاعته وغيرته ، وأنه سيعمل بالوصية ، ولن يجرد ذا الفقار ، حتى لو ضربوا الزهراء عليها السلام وأسقطوا جنينها ! !
وحاصل مسألتنا أن الخلافة القرشية قد ردت أقوال علي بأن عنده مواريث النبي صلى الله عليه وآله وعلمه ، ونفت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله ورث عترته شيئاً ، لا علماً ولا أوقافاً ولا مالاً ! وبذلك صادر أبو بكر مزرعة فدك ، التي كان النبي صلى الله عليه وآله أعطاها آل فاطمة عليها السلام عندما نزل قوله تعالى ( وآت ذا القربى حقه ) !
بل زادت السلطة على نفي كلام علي ، وحاولت أن تستفيد من آية الأمر بالتبليغ التي هي موضوع بحثنا فقالت : من قال إن النبي صلى الله عليه وآله قد بلغه وحده أموراً وأحكاماً ، ولم يبلغها إلى الأمة عامة ، فقد اتهم النبي صلى الله عليه وآله بأنه قصر في تبليغ الأمة ، وهو نوع من الكفر به صلى الله عليه وآله ! ! وليست مقولة عائشة المتقدمة إلا مقولة السلطة في رد قول علي عليه السلام . . قال البخاري في صحيحه : 5 / 188 :
باب يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وآله كتم شيئاً مما أنزل عليه ،
--------------------------- 275 ---------------------------
فقد كذب ، والله يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . . الآية . انتهى . ثم كرر البخاري ذلك في : 6 / 50 و 8 / 210 ، ومسلم : 1 / 10 ، والترمذي : 4 / 328 . . . وغيرهم .
ولكن هذه العملية من خصوم علي عليه السلام تتضمن مغالطتين :
في توسيع معنى المأمور بتبليغه ، وتوسيع المأمور بتبليغهم ! كما تتضمن تحريفاً لمقولة علي عليه السلام وشيعته !
فليس كل ما قاله الله تعالى لرسوله أوجب عليه أن يبلغه . . فإن علوم النبي صلى الله عليه وآله وما أوحى الله إليه ، وألهمه إياه ، وما شاهده في إسرائه ومعراجه . . أوسع مما بلغه لعامة الناس ، بأضعافٍ مضاعفة ، ولا يمكن أن يوجب الله تعالى عليه تبليغها ، لأن الناس لا يطيقونها حتى لو كانوا مؤمنين !
ولا كل شيء أمره أن يبلغه ، أمره أن يبلغه إلى كل الناس بدون استثناء . . فهناك أمور عامة لكل الناس ، وقد بلغها لهم ، وأمور خاصةٌ لأناسٍ خاصين مؤمنين أو كافرين ، وقد بلغها لأصحابها ، مثل قوله تعالى ( قل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ) . . إلخ . ولم يقل عليٌّ عليه السلام ولا أحدٌ من شيعته إن النبي صلى الله عليه وآله لم يبلغ ، بل قالوا إنه كلم الناس على قدر عقولهم وعلى قدر تحملهم وتقبلهم ، وأنه لذلك بلغ علياً عليه السلام أكثر من غيره ، واستودعه علومه كما أمره الله تعالى . .
وليس في هذا تهمة بعدم التبليغ ، كما زعم القرطبي والقسطلاني . بل هي قولٌ بتبليغ إضافي خاصٍ بعلي والزهراء والحسنين عليهم السلام !
--------------------------- 276 ---------------------------
بل إن علياًّ وشيعته قالوا إن النبي صلى الله عليه وآله قد بلغ الأمة أموراً كثيرة ، تتعلق بعترته وغيرهم كما ترى في كتابنا هذا . . فتبليغه عندهم أوسع مما يقول به القرشيون .
ولكن القرشيين يظلمون علياً عليه السلام ويفترون عليه ! ! في حين تراهم يتغاضون عن تصريح عمر بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يبين عدة آيات مثل الكلالة والربا ! كما تقدم في آية إكمال الدين ! وهي تهمة صريحة للنبي صلى الله عليه وآله بأنه لم يبين ما أنزله الله عليه ، وأمره ببيانه لعامة الناس ! !
والنتيجة أن الأمر بالتبليغ وأمتثاله لا يتنافى مع تخصيص النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام عليها السلام بعلوم عن غيره ، لأن ذلك مما أمره بتبليغه له وليس لعامة الناس . . كما لا يتنافى مع التقية التي قد يستعملها النبي صلى الله عليه وآله مع قريش أو غيرها ، لأنه مأمور بالعمل بالحكمة لأهداف الإسلام ، وبالتقية ومداراة الناس . . ففي الكافي : 2 / 117 ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض .
وفي مجمع الزوائد 8 / 17 ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس .
وعن بريدة قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رجل من قريش فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقربه ، فلما قام قال : يا بريدة أتعرف هذا ؟ قلت : نعم ، هذا أوسط قريش حسباً ، وأكثرهم مالاً ، ثلاثاً . فقلت : يا رسول الله قد أنبأتك بعلمي فيه ، فأنت أعلم . فقال : هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزناً .
--------------------------- 277 ---------------------------
وقد عقد البخاري في صحيحه أكثر من باب لمداراة الناس ، قال في : 7 / 102 باب المداراة مع الناس . ويذكر عن أبي الدرداء إنا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم . . . عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة ، فلما دخل الآن له الكلام ، فقلت يا رسول الله : قلت ما قلت ، ثم ألنت له في القول ؟ ! فقال : أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس ، اتقاء فحشه . انتهى .
وفي وسيط النيسابوري 2 / 208 :
وقال الأنباري : كان النبي صلى الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ، ويخفي بعضه إشفاقا على نفسه من شر المشركين إليه ، وإلى أصحابه . . . انتهى .
والنتيجة : أننا نحن الشيعة نقول أن النبي صلى الله عليه وآله قد بين للناس كل ما أمره الله ببيانه لهم ، وأمره أن يكلمهم حسب عقولهم ، فمنهم من لا يتحمل أكثر من البيان العام ومنهم من يتحمل أكثر حسب درجته . وقد كان علي عليه السلام من الدرجة الأولى ، وقد أمر الله رسوله أن يبين له أكثر ووهبه قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً وجعله الأذن الواعية لرسوله صلى الله عليه وآله .
والنتيجة ثانياً : أن الذين يتهمون النبي بأنه كتم ولم يبلغ هم غيرنا لا نحن ، وهذه صحاحهم تروي عن عمر في آيات الربا والكلالة وغيرها أن النبي لم يبينها للناس مع أنها كانت قانوناً مفروضاً ، وواجب النبي تبليغها !
- *
--------------------------- 278 ---------------------------
المسألة الثانية : الآية رد على زعمهم أن النبي ( ص ) قد سحر
فقد استدل عددٌ من علماء الفريقين بالآية على كذب الروايات التي تزعم أن يهودياً قد سحر النبي صلى الله عليه وآله فأخذ مشطه صلى الله عليه وآله وبعض شعره ، وجعل فيه سحراً ودفنه في بئر . . وزعموا أن ذلك السحر أثَّر في النبي صلى الله عليه وآله فصار يتخيل أنه فعل الأمر ولم يفعله ! وأنه بقي مدة على تلك الحالة رجلاً مسحوراً ! حتى دله رجل أو ملك أو جبرئيل ، على الذي سحره وعلى البئر التي أودع المشط والمشاطة ، فذهب النبي صلى الله عليه وآله إلى البئر ، ولكنه لم يستخرج المشط منها ، لأنه كان شفي من السحر ، أو لأنه لم يرد أن يثير فتنة ، فأمر بدفن البئر ! !
فقد روى البخاري هذه التهمة وهذه القصة الخرافية عن عائشة في خمس مواضع من صحيحه ، فقال في : 4 / 91 :
عن عائشة قالت : سُحِرَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الليث كتب إلى هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه عن عائشة قالت سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله ، حتى كان ذات يوم دعا ودعا ، ثم قال : أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي .
فقال أحدهما للآخر : ما وجع الرجل ؟
قال : مطبوب !
قال : ومن طَبَّهُ ؟
قال : لبيد بن الأعصم ؟
قال : في ماذا ؟
--------------------------- 279 ---------------------------
قال : في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر !
قال : فأين هو ؟
قال : في بئر ذروان !
فخرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع فقال لعائشة حين رجع : نخلها كأنها رؤوس الشياطين !
فقلت : استخرجته ؟ فقال : لا ، أما أنا فقد شفاني الله ، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً ، ثم دفنت البئر ! ! انتهى . ورواه في : 4 / 68 ، و 7 / 28 29 و 164 ، ورواه مسلم في : 7 / 14 ، وغيره . . وغيره .
وقد رد هذه التهمة علماء الشيعة قاطبةً ، وتجرأ قليل من العلماء السنيين على ردها ! ومما استدلوا به آية ( والله يعصمك من الناس ) .
قال الطوسي في تفسير التبيان : 1 / 384 :
ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله سحر وكان يرى أنه يفعل ما لم يفعله ! فأخبار آحادٍ لا يلتفت إليها ، وحاشا النبي صلى الله عليه وآله من كل صفة نقصٍ ، إذ تنفر من قبول قوله ، لأنه حجة الله على خلقه ، وصفيه من عباده ، واختاره الله على علم منه ، فكيف يجوِّز ذلك مع ما جنبه الله من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة والخلق المشينة ، ولا يجوز ذلك على الأنبياء إلا من لم يعرف مقدارهم ، ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم . وقد قال الله تعالى : والله يعصمك من الناس ، وقد أكذب الله من قال : إن يتبعون إلا رجلاً مسحوراً ، فقال : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً . فنعوذ بالله من الخذلان .
وقال ابن إدريس العجلي في السرائر : 3 / 534 :
--------------------------- 280 ---------------------------
والرسول عليه السلام ما سُحِر عندنا بلا خلاف لقوله تعالى : والله يعصمك من الناس . وعند بعض المخالفين أنه سُحر ، وذلك بخلاف التنزيل المجيد !
وقال المجلسي في بحار الأنوار : 60 / 38 :
ومنها سورة الفلق ، فقد اتفق جمهور المسلمين على أنها نزلت فيما كان من سحر لبيد بن أعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله حتى مرض ثلاث ليال . ومنها ما روي أن جارية سحرت عائشة ، وأنه سحر ابن عمر حتى تكوعت يده !
فإن قيل : لو صح السحر لأضرت السحرة بجميع الأنبياء والصالحين ، ولحصَّلوا لأنفسهم الملك العظيم ، وكيف يصح أن يسحر النبي صلى الله عليه وآله وقد قال الله : والله يعصمك من الناس ، ولا يفلح الساحر حيث أتى ! وكانت الكفرة يعيبون النبي صلى الله عليه وآله بأنه مسحور ، مع القطع بأنهم كاذبون . انتهى .
وممن رد هذه التهمة من السنيين : النووي في المجموع : 19 / 243 ، قال :
قلت : وأكتفي بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول صلى الله عليه وآله . . تنبيه : قال الشهاب بعد نقل في التأويلات : عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث سحره صلى الله عليه وسلم المروي هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور ، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه .
ونقل الرازي عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلةٌ ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول : والله يعصمك من الناس ، وقال : ولا يفلح الساحر حيث أتى ؟ ! ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين . انتهى .
--------------------------- 281 ---------------------------
كما ردها الرازي في تفسيره : مجلد 16 جزء 32 / 187 ، قال :
قول جمهور المسلمين أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وآله في إحدى عشرة عقدة . . فاعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم . وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول : والله يعصمك من الناس . . . قال الأصحاب : هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل . . إلخ . انتهى .
ولكن هؤلاء قلة من علماء السنة ، فأكثرهم يقبلون أحاديث سحر نبيهم !
وأصل المشكلة عندهم أنهم يقبلون كلام عائشة وكلام البخاري مهما كان ، ولا يسمحون لأنفسهم ولا لأحدٍ أن يبحثه وينقده . . وقد أوقعهم هذا المنهج في مشكلات عقائدية عديدة ، في التوحيد والنبوة والشفاعة . . ومنها أحاديث بدء الوحي وورقة بن نوفل ، وحديث الغرانيق الذي أخذه المرتد سلمان رشدي وحرفه وسماه الآيات الشيطانية . . ومنها أحاديث أن اليهود سحروا النبي صلى الله عليه وآله ! وبطل روايتها البخاري عن عائشة !
وقد تحيروا فيها كما رأيت ، ولم يجرؤ أحد منهم على القول إنها من المكذوبات على عائشة ، أو من خيالات النساء . .
والرد الصحيح أن تهمة السحر تتنافى مع أصل النبوة ، وأنها تهمة الكفار التي برأ الله نبيه صلى الله عليه وآله ، منها بنص القرآن ، كما تقدم .
أما ردها بآية العصمة فهو ضعيف ، لأنه قد يجاب عنه بأن آية العصمة نزلت في آخر عمره صلى الله عليه وآله ، وقصة السحر المزعومة كانت قبلها .
وأما على تفسيرنا للآية ، أن عصمته صلى الله عليه وآله من تأثير السحر عليه عقلي ونقلي بنص القرآن . . وأما العصمة في الآية فالقدر المتيقن منها
--------------------------- 282 ---------------------------
عصمته صلى الله عليه وآله من ارتداد قريش والمسلمين في حياته ، بسبب تبليغه ولاية عترته من بعده . . فيقتصر فيها على هذا القدر المتيقن ، ما لم يقم دليل على شمولها لغيره .
كما يؤكد المفسرون والشراح السنيون عدة مسائل تتعلق بالعصمة من الناس ، تحيروا فيها . . منها أن النبي صلى الله عليه وآله قد تمنى القتل في سبيل الله تعالى ، مع أن الآية تدل على عصمته من القتل ، فهل يجوز أن يتمنى النبي شيئاً وهو يعلم أنه لا يكون ؟ ! قال ابن حجر في فتح الباري : 8 / 2644 :
عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول . . والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله . . .
استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل ، وأجاب ابن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، وهو متعقب فإن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة ، وهذا الحديث صرح أبو هريرة بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع من الهجرة .
والذي يظهر في الجواب : أن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : وددت لو أن موسى صبر ، كما سيأتي في مكانه ، وسيأتي في كتاب التمني نظائر لذلك ، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه ، قال ابن التين : وهذا أشبه .
وحكى شيخنا ابن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله ( ولوددت ) مدرج من كلام أبي هريرة ، قال : وهو بعيد . ونحوه في عمدة القاري : مجلد 7 جزء 14 / 95 .
--------------------------- 283 ---------------------------
هذا بعض ما تجشموه وسودوا به صحفاً تفريعاً على تحريفهم لمعنى العصمة المقصودة في الآية . .
ونحن نقول : لو ثبت عنه صلى الله عليه وآله أنه تمنى الشهادة . . لكان ذلك تمنياً حقيقياً ، لأنه لا عصمة له من القتل ولا الجرح كما زعموا . .
وآية التبليغ إنما تضمن عدم ردة الناس في حياته صلى الله عليه وآله ، ولا ربط لها بضمان عدم القتل والجرح والأذى . بل إن قوله تعالى : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . . الآية ، يدل على أنه صلى الله عليه وآله لم يمت موتاً طبيعياً لأن الله تعالى أبهم نوع وفاة نبيه وأنها تكون بالموت أو القتل ولا وجه لترديده الأمر بينهما ، إلا علمه تعالى بأن وفاة رسوله ستكون قتلاً ، أو أمراً بين الموت والقتل ! - *
وفي الختام . . فقد أكثر المفسرون والشراح السنييون من التخرص في تفسير العصمة في الآية ، وتحيروا فيما يتنافى معها وما لا يتنافى ، وتجشموا التأويلات وأكثروا من الظنون والاحتمالات . .
كل ذلك بسبب إصرارهم على أن لآية تعني عصمته صلى الله عليه وآله من القتل والسم والجرح !
ومن ذلك تصورهم أن الآية تعارض الرواية القائلة إن موته صلى الله عليه وآله استند إلى اللقمة التي أكلها من الشاة المسمومة التي قدمتها إليه اليهودية ، ثم أتاه جبريل عليه السلام فأخبره فامتنع عن الأكل ، فانتقض عليه سم تلك اللقمة بعد سنة فتوفي بسببه . . قال في هامش الشفا 1 / 317 :
--------------------------- 284 ---------------------------
فإن قيل : ما الجمع بين قوله تعالى ( والله يعصمك من الناس ) وبين هذا الحديث المقتضي لعدم العصمة ، لأن موته عليه السلام بالسم الصادر من اليهودية ؟
والجواب : أن الآية نزلت عام تبوك ، والسم كان بخيبر قبل ذلك .
مع أن العصمة في الآية عصمته عن ارتداد قريش ، وتسبيبها ارتداد الأمة ! - *
--------------------------- 285 ---------------------------
الفصل الخامس : قصة الغدير
--------------------------- 286 ---------------------------
.
--------------------------- 287 ---------------------------
قريش في حجة الوداع
رأيت في أحاديث حجة الوداع كيف ركز النبي صلى الله عليه وآله في خطبه وكلامه وتصرفاته على مقام أهل بيته الطاهرين عليهم السلام ، فبشر الأمة بالأئمة الاثني عشر منهم ، وبلغها أن الله تعالى فرض وجوب طاعتهم إلى جانب القرآن ، فسماهم مع القرآن ( الثقلين ) ، وأنه تعالى كرمهم فحرم عليهم الصدقات ، وجعل لهم مالية خاصة هي : الخمس . . إلخ .
لقد كانت خطبه صلى الله عليه وآله في الحج ، وما رافقها من أعماله وأقواله ، في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، أقصى ما يمكن أن تتحمله قريش من ترسيخ قيادة بني هاشم ، و ( حرمان ) بقية قبائل قريش من القيادة حسب زعمهم ، بل تكريس قريش عبيداً طلقاء محكومين لبني هاشم ! !
ولا تذكر المصادر السنية ردة الفعل الصريحة لزعماء قريش المعروفين على هذه الخطب والأعمال النبوية في حجة الوداع .
ومن الطبيعي أن لا تذكر ذلك . . فهل تريد من مصدر قرشي أن يعترف لك بأن قريشاً لم تكن مرتاحة لكلام النبي صلى الله عليه وآله ؟ ! وأن سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبا الأعور السلمي . . . وغيرهم ، وغيرهم . .
--------------------------- 288 ---------------------------
كانوا مكفهري الوجوه من تمهيد النبي صلى الله عليه وآله لبني هاشم ، وأنهم نشطوا في اتصالاتهم مع القرشيين المهاجرين ، من غير بني هاشم لمعالجة هذا الاتجاه النبوي الخطير ؟ ! !
أما مصادرنا الشيعية فتذكر أنهم نشطوا ضد بني هاشم منذ فتح مكة ، إلا أن نشاطهم زاد في حجة الوداع ، وتفاقم في منى في أيام التشريق ، وكانت نتيجة مشاوراتهم ومحادثاتهم أن كتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا
( الصحيفة الملعونة ) لأنهم تعاهدوا فيها أن لا يسمحوا لبني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة !
وتذكر أن بضعة نفر من ممثليهم انسلوا خفية من منى إلى مكة ، وعلقوا الصحيفة الملعونة الثانية في داخل الكعبة ، حيث كانوا علقوا الصحيفة الملعونة الأولى ! فكانت صحيفة قرشية جديدة ضد بني هاشم ، ولكنها هذه المرة سرية وليست علنية ، كما أنها ليست لمحاصرتهم في الشعب باسم اللات والعزى . . بل لعزلهم سياسياً وحرمانهم من القيادة بعد النبي صلى الله عليه وآله ، باسم . . الإسلام ! ! وذكرت مصادرنا أن الله تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وآله على هذه الصحيفة ، فأخبر أصحابها بفعلتهم ، فارتعدت فرائصهم !
وأنه نظر بغضب إلى أبي عبيدة بن الجراح وقال له ( أصبحت أمين هذه
الأمة ؟ ! ) لأنه كان مؤتمنا على نسخة الصحيفة ! ولكنه صلى الله عليه وآله اكتفى بإتمام الحجة عليهم ، وترك لهم حرية العمل ، تطبيقاً لقانون تبليغ الأنبياء عليهم السلام وواجبهم في إقامة الحجة لله تعالى على عباده !
--------------------------- 289 ---------------------------
ولا بد أن يكون ما ذكرته الصحاح السنية من لغطٍ وكلامٍ وضجةٍ وصراخٍ في وسط خطبة النبي صلى الله عليه وآله في عرفات ، عندما وصل إلى نسب الأئمة الاثني عشر من أهل بيته . . من فعاليات قريش المنظمة ضد بني هاشم ، وأن يكون النبي صلى الله عليه وآله أنبهم عليه أيضاً ، قال لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ، وعرفهم أنه مطلع عليه جيداً ! !
- *
نتائج حجة الوداع
على أي حال ، فقد اعتبر القرشيون أن حجة الوداع مرَّت بسلامٍ نسبياً ، فقد تحدث النبي صلى الله عليه وآله كثيراً عن بني هاشم وعن عترته وعن ذريته من فاطمة ، وعن اختيار الله تعالى لهم ، وللأئمة إلى آخر الدهر منهم ، وتحريم الصدقات عليهم ، وفرض الخمس لهم . . ولكنه لم يتخذ إجراءاً عملياً والحمد لله ، ولم يطلب من قريش والمسلمين أن يبايعوا علياً كبير أهل البيت ، بصفته الإمام الأول من العترة !
أما النبي صلى الله عليه وآله فقد اعتبر أنه بلغ رسالة ربه في عترته بأقصى ما يمكنه ، وأن قريشاً لا تتحمل أكثر من ذلك . . فقد وصل الأمر عندها إلى آخر حدود الصبر ، ولو طلب منها بيعة علي بخلافته ، فإنها قد تطعن في نبوته وتتهمه بأن هدفه إقامة ملك لبني هاشم ، شبيهاً بملك كسرى وقيصر ! ! وتستطيع بذلك أن تقود حركة ردة في العرب ، وتخوفهم من القبول بملك بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وآله ، ملكٌ يبدأ بعلي ثم يكون للحسن ثم للحسين ، ثم لا يخرج من أبناء فاطمة إلى يوم القيامة !
وقد سجلت المصادر مضمون هذه العبارات ، على ألسنة زعماء قريش !
--------------------------- 290 ---------------------------
وكأنهم لم يشموا رائحة الإسلام ! ! وكأن الملك ملك محمد صلى الله عليه وآله ، وهو الذي أعطاه أو يريد أن يعطيه لعترته عليهم السلام ! !
- *
الوحي يضغط على النبي ( ص ) من السماء وقريش من الأرض
كان جبرئيل عليه السلام في حجة الوداع وظروفها المصيرية ينزل على النبي صلى الله عليه وآله بأوامر ربه ، وقد يكون رافقه طوال موسم الحج ، وأملى عليه عبارات خطبه . . وكان مما قال له في المدينة :
يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك إنه قد دنا أجلك ، وإني مستقدمك عليَّ ، ويأمرك أن تدل أمتك على حجهم ، كما دللتهم على صلاتهم وزكاتهم وصيامهم .
وحج النبي صلى الله عليه وآله بالمسلمين ، وعلمهم حجهم ، وواصل تركيز مبادئ الإسلام في نفوسهم ، ومكانة الأئمة من عترته ، كما مر في حديث الأئمة الاثني عشر ، وحديث الثقلين ، وحديث فرض الخمس لهم ، وتحريم الصدقات عليهم . . . إلخ .
وفي آخر أيام الحج نزل عليه جبرئيل عليه السلام أن الله تعالى يأمرك أن تدل أمتك على وليهم ، فاعهد عهدك ، واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث الأنبياء فورثه إياه ، وأقمه للناس علماً ، فإني لم أقبض نبياً من أنبيائي إلا بعد إكمال ديني ، ولم أترك أرضي بغير حجة على خلقي . . . الخ .
فأخذ النبي صلى الله عليه وآله يفكر في طريقة الإعلان ، نظراً إلى وضع قريش المتشنج ، وقال في نفسه : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ، ويقول قائل !
--------------------------- 291 ---------------------------
لذلك قرر أن ينفذ هذا الأمر الإلهي الجديد في عترته ، بعد رجوعه إلى المدينة ، بالتمهيد المناسب ، وبمعونة الأنصار . .
الوحي يوقف القافلة النبوية
ورحل النبي صلى الله عليه وآله من مكة وهو ناوٍ أن يكون أول عمل يقوم به في المدينة إعلان ولاية عترته ، كما أمره ربه تعالى .
لكن في اليوم الثالث من مسيره ، عندما وصل إلى كراع الغميم ، وهو كما في مراصد الاطلاع : موضع بين مكة والمدينة ، أمام عسفان بثمانية أميال . . جاءه جبرئيل عليه السلام لخمس ساعات مضت من النهار ، وقال له : يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) .
فخاف النبي صلى الله عليه وآله وخشع لربه ، وتَسَمَّرَ في مكانه ، وأصدر أمره إلى المسلمين بالتوقف ، وكان أولهم قد وصل إلى مشارف الجحفة ، وكانت الجحفة بلدةً عامرةً على بعد ميلين أو أقل من كراع الغميم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله أراد تنفيذ الأمر الإلهي المشدد فوراً ، في المكان الذي نزل فيه الوحي . .
قال صلى الله عليه وآله للناس : أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي . . وأمرهم أن يردوا من تقدم من المسلمين إليه ، ويوقفوا من تأخر منهم حين يصلون إليه . .
ونزل الرسول عن ناقته ، وكان جبرئيل إلى جانبه ، ينظر إليه نظرة الرضا ، وهو يراه يرتجف من خشية ربه ، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول : تهديدٌ . .
--------------------------- 292 ---------------------------
ووعدٌ ووعيدٌ . . لأمضين في أمر الله ، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبني العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة !
وقبل أن يفارقه جبرئيل أشار إليه على يمينه فإذا دوحة أشجار . . فودع النبي جبرئيل ومال إليها ، وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ .
قال بعض المسلمين : فبينا نحن كذلك ، إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ينادي : أيها الناس أجيبوا داعي الله . . فأتيناه مسرعين في شدة الحر ، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه على رأسه .
ونادى منادي النبي صلى الله عليه وآله في الناس بالصلاة جامعة ، ووقت الصلاة لم يَحُنْ بَعْدُ ولكن حانت قبلها ( صلاةٌ ) أخرى لا بد من أدائها قبل صلاة الظهر ! إنها فريضة ولاية عترته الطاهرة ، ولا بد أن يبلغها عن ربه إلى المسلمين مهما قال فيه قائلون ، وقال فيهم قائلون ! ! فقد شدد عليه ربه في ذلك ، وأفهمه أن مسألة عترته ليست مسألة شخصية تخصه . . وأنك إن كنت تخشى الناس ، فالله أحق أن تخشاه وسيعصمك منهم ، فاصدع بما تؤمر ! !
ونزل المسلمون حول نبيهم صلى الله عليه وآله ، وكان ذلك اليوم قائظاً شديد الحر ، فأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبة الولاية ، ثم للصلاة في ذلك الهجير ، وأن ينصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر ، ليشرف على الناس ، فيرونه ويسمعهم كلامه . .
ورتب المسلمون المكان والمنبر ، ووضعوا على أحجاره حدائج الإبل ، فصار منصة أكثر ارتفاعاً ، وحسناً . .
وورد المسلمون ماء الغدير فشربوا منه ، واستقوا ، وتوضؤوا . .
--------------------------- 293 ---------------------------
وتجمعوا لاستماع خطبة نبيهم صلى الله عليه وآله قبل الصلاة ، ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير ، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة ، فجلس كثير منهم في الشمس ، أو استظل بظل ناقته . .
عرفوا أن أمراً قد حدث ، وأن النبي صلى الله عليه وآله سيخطب . . فقد نزل عليه وحيٌ أو حدث أمرٌ مهمٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير ، ولا يصبر عليهم حتى يصلوا إلى مدينة الجحفة العامرة ، التي تبعد عنهم ميلين فقط !
كان مجموع من شارك في حجة الوداع مئة ألف إلى مئة وعشرين ألفاً ، كما ذكرت الروايات ، ولكن هذا العدد كان في عرفات ومنى . . أما بعد أداء الحج فقد توزعوا ، فمنهم من أهل مكة رجعوا إليها ، ومنهم بلادهم عن طريق الطائف فسلكوا طريقها ، وآخرون بلادهم عن طريق جدة وما إليها . .
أما الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله ومناطقهم عن طريق الجحفة والمدينة فكانوا عدة ألوف . . عشرة آلاف أو أكثر . . فقد قال الإمام الصادق عليه السلام مؤرخاً تضييع قريش لحادثة الغدير :
( العجب مما لقي علي بن أبي طالب ! إنه كان له عشرةُ آلافِ شاهدٍ ولم يقدر على أخذ حقه ، والرجل يأخذ حقه بشاهدين ! ) . الوسائل : 18 / 17 .
- *
لم يدم طويلاً تطلع المسلمين إلى ما سيفعله النبي صلى الله عليه وآله وما سيقوله . . فقد رأوه صعد على منبر الأحجار والأحداج ، وبدأ باسم الله تعالى وأخذ يرتل قصيدة نبوية في حمد الله تعالى والثناء عليه . . ويشهد الله والناس على عبوديته المطلقة لربه العظيم .
--------------------------- 294 ---------------------------
ثم قدم لهم عذره ، لأنه اضطر أن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر ، ولم يمهلهم حتى يصلوا إلى بلدة الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبيرة ، المتوفر فيها ما يحتاج إليه المسافر . . ولا انتظر بهم وقت الصلاة ، بل ناداهم قبل وقتها ، وكلفهم الاستماع إليه في حر الظهيرة . .
أخبرهم صلى الله عليه وآله أن جبرئيل عليه السلام نزل عليه في مسجد الخيف ، وأمره أن يقيم علياً للناس . . ثم قال لهم : إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، وخفت الناس أن يكذبوني ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي ، يقول قائل ، ويقول قائل ! فأتتني عزيمة من الله بتلة ( قاطعة ) في هذا المكان ، وتواعدني إن لم أبلغها ليعذبني . وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس ، وهو الكافي الكريم ، فأوحى إلي : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) .
ثم قال صلى الله عليه وآله : لا إله إلا هو ، لا يؤمن مكره ، ولا يخاف جوره ، أقرُّ له على نفسي بالعبودية ، وأشهد له بالربوبية ، وأؤدي ما أوحى إلي ، حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعةٌ ، لا يدفعها عني أحدٌ ، وإن عظمت حيلته .
أيها الناس : إني أوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟
فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت .
فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق ؟
--------------------------- 295 ---------------------------
قالوا : يا رسول الله بلى .
فأومأ رسول الله إلى صدره وقال : وأنا معكم .
ثم قال رسول الله : أنا لكم فرط ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وسعته ما بين صنعاء إلى بصرى ، فيه عدد الكواكب قِدْحان ، ماؤه أشد بياضاً من الفضة . . فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين .
فقام رجل فقال : يا رسول الله وما الثقلان ؟
قال : الأكبر : كتاب الله ، طرفه بيد الله وسبب طرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا .
والأصغر : عترتي أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض . . سألت ربي ذلك لهما ، فلا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .
أيها الناس : ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأني أولى بكم من أنفسكم ؟
قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : قم يا علي . فقام علي ، وأقامه النبي صلى الله عليه وآله عن يمينه ، وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار . فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم وليا وإماما مفترضا طاعته على المهاجرين والأنصار ، وعلى التابعين لهم
--------------------------- 296 ---------------------------
بإحسان ، وعلى البادي والحاضر ، وعلى الأعجمي والعربي ، والحر والمملوك والصغير والكبير .
فقام أحدهم فسأله وقال : يا رسول الله ولاؤه كماذا ؟
فقال صلى الله عليه وآله : ولاؤه كولائي ، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه !
وأفاض النبي صلى الله عليه وآله في بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الاثني عشر من بعده : علي والحسن والحسين ، وتسعة من ذرية الحسين ، واحدٌ بعد واحد ، مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه ولا يفارقهم ، حتى يردوا عليَّ حوضي . . .
ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه . . فشهدوا له . .
وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب . . فوعدوه وقالوا : نعم . .
وقام إليه آخرون فسألوه . . . فأجابهم . . - *
وما أن أتم خطبته ، حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) . فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، وولاية علي بعدي . .
ونزل عن المنبر ، وأمر أن تنصب لعلي خيمة ، وأن يهنئه المسلمون بولايته عليهم . . حتى أنه أمر نساءه بتهنئته ، فجئن إلى باب خيمته وهنأنه !
وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له : بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة !
--------------------------- 297 ---------------------------
وجاء حسان بن ثابت ، وقال : إئذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتاً تسمعهن ، فقال : قل على بركة الله ، فأنشد حسان :
يناديهمُ يوم الغدير نبيُّهُمْ * بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكم ووليُّكُمْ * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليُّ فإنني * رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى علياً معاديا - *
أخذنا هذا التسلسل في قصة الغدير من مصادرنا المتعددة مثل : كمال الدين وتمام النعمة للصدوق / 276 ، والاحتجاج للطبرسي : 1 / 70 ، وروضة الواعظين للنيسابوري / 89 ، والمسترشد / 117 ، وغيرها .
وقد روت مصادر السنة حديث الغدير قريباً مما في مصادرنا ، كما تراه في كتاب الغدير للأميني ، ونكتفي هنا بنقل رواية مسلم في صحيحه : 7 / 122 قال :
عن يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين :
لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً . حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
--------------------------- 298 ---------------------------
قال : يا ابن أخي ، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا ، فلا تكلفونيه .
ثم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيباً ، بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال :
أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ) .
فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟
قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده .
قال : ومن هم ؟
قال : هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس .
قال : كل هؤلاء حرم الصدقة .
قال : نعم . انتهى . ورواه أحمد في مسنده : 2 / 366 ، وغيره . . وغيره .
وقال الحاكم في المستدرك 3 / 148 :
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وأهل بيتي ، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض . هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
--------------------------- 299 ---------------------------
انتهى . وقد رأيت أن مسلماً رواه ، ولكن لفظ الحاكم فيه إخبارٌ نبوي باستمرار وجود إمام من أهل بيته صلى الله عليه وآله إلى يوم القيامة .
وانظر كيف صوَّر ابن كثير القضية في بدايته : 5 / 408 ، قال :
لما تفرغ النبي من بيان المناسك ، ورجع إلى المدينة خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدير خم ، تحت شجرة هناك ، فبين فيها أشياء ، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه ، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ، وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري ، فجمع فيه مجلدين ، وأورد فيها طرقه وألفاظه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة . انتهى .
فقد جعل ابن كثير القضية أن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين من علي بن أبي طالب ، متحاملين عليه في أنفسهم ، فأوقف النبي المسلمين صلى الله عليه وآله في غدير خم ، لكي يثبت لهم براءة علي ويرضِّيهم عنه ، فذكر فضله وقربه منه وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ) وبين في خطبته ( أشياء ) من هذا القبيل ! وكان الله يحب المحسنين !
ولو كان ابن كثير مؤرخاً من عشيرة بني عبد الدار - الذين قتل علي منهم بضعة عشر فارساً منهم حملوا لواء قريش في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله - لما كتب بأسوأ من هذا الأسلوب ! فإن المؤرخ المسلم لا يستطيع أن يكتب به إلا . . إذا كان مبغضاً لعلي بن أبي طالب !
فهل عرفت لماذا يحب ( السلفيون ) ابن كثير ويهتمون بنشر كتبه ؟ ! - *
--------------------------- 300 ---------------------------
لماذا الجحفة وغدير خم ؟
والسؤال هنا : لماذا الوحي في طريق المدينة . . والصحراء ، والظهيرة ؟
والجواب : أن الله تعالى قال بذلك لرسوله : المدينة أيها الرسول مثل مكة ، فإن بلَّغت ولاية عترتك فيها ، فقد تعلن قريش معارضتها ، ثم رِدًّتها !
فموقفها من عترتك جازم ، ومستميت . . وبما أن واجبك التبليغ مجرد التبليغ ، وإنما بعثت للتبليغ ، فهو ممكنٌ هنا . . والزمان والمكان هنا مناسبان من جهات شتى ، فبلغ ولا تؤخر .
ومن أجل أن تكمل التبليغ وتفهمهم رسالتي . . سوف أعصمك من قريش ، وأمسك بقلوبها وأذهانها ، وألجم شياطينها الحاضرين ، وأعالج آثار التبليغ ، وأحفظ نبوتك فيها . . ثم أملي لها بعدك ، فتأخذ دولتك وتضطهد عترتك . . حتى يتحقق في أمتك وفي عترتك ما أريد !
ثم أبعث المهدي فيهم فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً !
ولا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون .
والسؤال هنا : كيف تمت عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله من قريش ، فلم يحدث تشويش ، ولم يقم معترض . . !
صحيح أن ثقل زعماء قريش كانوا في مكة ، لكن بعضهم كان في قافلة الرسول صلى الله عليه وآله ، وكان فيها قرشيون مهاجرون مؤيدون لهم !
فكيف سكتت قريش وضبطت أعصابها ، وهي تسمع تبليغ الرسول في علي والعترة ؟ !
ثم أشهدها النبي صلى الله عليه وآله على تبليغ ذلك . . فشهدت .
--------------------------- 301 ---------------------------
ثم طلب منها أن تبلغ الغائبين . . فوعدت .
ثم جاءت إلى خيمة علي وهنأته بالولاية ، وإمرة المؤمنين ؟ ! !
الجواب : أنه تعالى أراد للرسالة أن تصل ، وللحجة أن تقام ، وأن يبقى رسوله صلى الله عليه وآله محفوظ الشخصية ، سالم النبوة . . فأسكت الله قريشاً بقدرته المطلقة ، وكمَّمَ أفواهها في غدير خم .
والظاهر أن قريشاً أخذت تقنع نفسها بأن المسألة في غدير خم ، ليست أكثر من إعلانٍ وإعلامٍ ، يضاف إلى إعلانات حجة الوداع . . وأن النبي صلى الله عليه وآله ما زال حياًّ . . فإن مات ، فلكل حادثٍ حديث . .
وعندما أرادت قريش أن تخرج عن سكوتها ، وتخطو خطوةً نحو الردة . . أنزل الله على ناطقها الرسمي النضر بن الحارث حجراً من سجيل فأهلكه ، وأرسل على آخر ناراً فأحرقته ! !
فزاد ذلك من قناعة قريش بالسكوت فعلاً عن ولاية العترة !
أما النبي صلى الله عليه وآله فكان تفكيره رسولياً ، وليس قرشياً . .
لقد ارتاح ضميره بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره ، واتقى غضب ربه وعذابه . . واغرورقت عيناه بدموع الفرح والخشوع ، لأن الله رضي عنه بإعلان ولاية علي ، وأنزل عليه آية إكمال الدين وإتمام النعمة ، فأخبره بأن مهمته وصلت إلى ختامها . .
كان النبي صلى الله عليه وآله في عيد ، لأنه أدى رسالة من أصعب رسالات ربه ، فرضي عنه ، وقد تكون أصعب رسالة عليه في عمره النبوي على الإطلاق ! !
--------------------------- 302 ---------------------------
وتمت المسألة بسلامٍ ولم تقم قائمة قريش ، ولم يصب جابر بن سمرة وغيره بالصمم من لغط الناس عند سماع كلمة عترتي أهل بيتي ، أو كلمة علي ، أو بني هاشم .
ولم تحدث حركة عصيان منظمة ، كما حدثت في المدينة عندما طلب النبي صلى الله عليه وآله قبل وفاته بأربعة أيام ، أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبداً . .
ولم تحدث حركة ردة نهائياً ، والحمد لله !
ارتاح ضمير النبي صلى الله عليه وآله بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره . .
وهذه هي الرسالة التي روى الحسن البصري أن الله أمر رسوله بها فضاق بها صدره ، فتوعده ربه بالعذاب إن لم يبلغها ، فخاف ربه وصدع بها . . ولكن الحسن البصري كما قال الراوي راغ عنها ، ولم يخبرهم ما هي !
وكل غلمان قريش إخوة الحسن البصري الفارسي ، يراوغون فيها وفي أمثالها ، ويخفون ما أنزل الله تعالى في عترة نبيه صلى الله عليه وآله !
كان النبي صلى الله عليه وآله يفكر ربانياً بمستوى أعلى من البيعة . . يفكر على مستوى الأمر الإلهي والاختيار الإلهي ، الذي لا خيرة فيه لأحد ، ولا محل فيه للبيعة ، إلا إذا طلبها من الناس النبي أو الوصي ، فتجب .
فهذا هو منطق التبليغ ، وحسب !
ولذلك لم يشاورهم النبي صلى الله عليه وآله في بيعة علي ، لأن اختيار الله تعالى لا يحتاج إلى مشورتهم ، ولا بيعتهم ، ولا رضاهم . .
--------------------------- 303 ---------------------------
لقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله أن يشاورهم ليتألفهم ، ويسيروا معه في الطريق الصحيح . . وأمره : إذا عزمت فتوكل ، ولا تسمع لكلام مخلوق لأنك تسير بهدى الخالق !
أما إذا عزم الله تعالى واختار للأمة ولياً بعد نبيه صلى الله عليه وآله ، وقال لنبيه بلغ ولا تخف ، ولست مسؤولاً عن إطاعة من أطاع ومعصية من عصى . . فهل يبقى للمشاورة محل من الإعراب ؟ !
وهل يبقي للبيعة محل من الإعراب ؟ !
لقد طلب منهم الرسول صلى الله عليه وآله تهنئة علي عليه السلام إقراراً بالاختيار الإلهي ، وهي تهنئةٌ أقوى من البيعة ، وألزم منها للأعناق . . ثم ليفعلوا بعدها ما يحلو لهم . . فإنما على النبي صلى الله عليه وآله أن يبلغهم ، وحسابهم على من يملك كل الأوراق ، ويملك الدنيا والآخرة ، ويفعل ما يريد . . سبحانه وتعالى !
وتدل رواياتنا على أنه صلى الله عليه وآله طلب منهم مع التهنئة البيعة ، فيكون معناها أنه طلب منهم أيضا إعلان التزامهم بإطاعة علي عليه السلام . . فأعلنوا !
ولكن الأمر لا يختلف من ناحية شرعية وحقوقية ، فسواء أمرهم النبي صلى الله عليه وآله ببيعة علي عليه السلام أم أمرهم بتهنئته فقط . . فإن تبليغ الولاية أقوى من التهنئة ، والتهنئة أقوى من البيعة . .
فالتبليغ اصطفاء ، والتهنئة اعتراف وتبريك . . والبيعة تعهد بالالتزام .
--------------------------- 304 ---------------------------
لقد سكتت قريش آنياً بسبب أنها لم تكن حاضرةً كلها في الجحفة . . وبسبب عنصر المفاجأة ، وظرف المكان والزمان ! ولعلها كانت تقنع نفسها بأن منطق التفكير النبوي يبقي لها مساحة للعمل . .
ذلك أن التبليغ وإتمام الحجة كلامً تركيٌّ عند قريش الناطقة بالضاد !
وحتى التهنئة بالولاية والبيعة المأمور بها من النبي صلى الله عليه وآله يمكن لقريش أن تجعلها مثل المراسم الدينية الأخرى الشكلية ، وتجردها من معنى إمامة علي وقيادة عترة النبي صلى الله عليه وآله من بعده !
فالباب في تصور قريش ما زال مفتوحاً أمامها للتصرف ! !
- *
المنطق النبوي حقق أهدافه وفضح قريشاً
نقلت المصادر السنية ندم الخليفة القرشي أبي بكر على إصداره أمراً بمهاجمة بيت علي وفاطمة عليهما السلام في اليوم الثاني أو الثالث لوفاة النبي صلى الله عليه وآله . ففي مجمع الزوائد : 5 / 202 :
( عن عبد الرحمن بن عوف قال : دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفي فيه ، فسلمت عليه وسألته : كيف أصبحت ؟
فاستوى جالساً فقال : أصبحت بحمد الله بارئاً ، فقال : أما إني على ما ترى وجع وجعلتم لي شغلاً مع وجعي !
جعلت لكم عهداً من بعدي ، واخترت لكم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم لذلك أنفه ، رجاء أن يكون الأمر له !
ورأيت الدنيا أقبلت ، ولما تقبل ، وهي خائنة ، وستنجدون بيوتكم بستور الحرير ونضائد الديباج ، وتألمون النوم على الصوف الأذربي ، كأن أحدكم
--------------------------- 305 ---------------------------
على حسك السعدان ( يقصد أنكم من ترفكم سترون السجاد الأذربيجاني خشناً لمنامكم مثل الشوك ) . والله لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد ، خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا .
ثم قال : أما إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن ، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن ، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن .
فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن : فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته ، وإن أغلق على الحرب .
ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة ، قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ، أبي عبيدة أو عمر ، وكان أمير المؤمنين وكنت وزيراً .
ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد إلى أهل الردة ، أقمت بذي القصة ، فإن ظفر المسلمون ظفروا ، وإلا كنت ردءاً ومدداً .
وأما الثلاث اللاتي وددت أني فعلتها : فوددت أني يوم أتيت بالأشعث أسيراً ضربت عنقه ، فإنه يخيل إلى أنه لا يكون شرٌّ إلا طار إليه .
ووددت أني يوم أتيت بالفجاءة السلمي ، لم أكن أحرقته ، وقتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً .
ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد إلى الشام ، وجهت عمر إلى العراق فأكون قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله عز وجل .
وأما الثلاث اللاتي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن :
--------------------------- 306 ---------------------------
فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فلا ينازع أهله . ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر سبب ؟ ووددت أني سألته عن العمة وبنت الأخ فإن في نفسي منهما حاجة ) . انتهى .
وغرضنا من النص بيان حالة الخليفة وأنه يقصد بقوله ( وددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وإن أغلق على الحرب ) أنه نادمٌ على مهاجمة البيت ، حتى لو كان أهله يعدون العدة لحربه !
وخلاصة القصة : أن أبا بكر أرسل إلى علي عليه السلام يطلب منه أن يبايعه ، فامتنع علي عن بيعته ، وأجابهم جواباً شديداً ، اتهمهم فيه بخيانة الرسول صلى الله عليه وآله .
وبلغ أبا بكر أن عدداً من الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في بيت علي الذي كان يعرف ببيت فاطمة عليهما السلام ، فأشار عليه عمر بأن يهاجموا البيت ويهددوهم بإحراقه عليهم ، إن لم يخرجوا ويبايعوا !
وبالفعل هاجمت مجموعة بقيادة عمر بن الخطاب بيت الزهراء عليها السلام وحاصروه وجمَّعوا الحطب على باب داره ، وهددوا علياً وفاطمة عليهما السلام والذين كانوا في البيت - ومنهم مؤيدون لموقف علي ، ومنهم جاؤوا معزين بوفاة النبي صلى الله عليه وآله - فهددوهم إما أن تخرجوا وتبايعوا أبا بكر ، أو نحرق عليكم الدار بمن فيها !
وبالفعل أشعلوا الحطب في باب الدار الخارجي ! !
ولم يشأ علي عليه السلام أن يخرج إليهم بذي الفقار عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وآله ، الذي كان أخبره بكل ما سيحدث وأمره فيه بأوامره . . فخرجت إليهم فاطمة الزهراء عليها السلام لعلهم يستحون منها ويرجعون ،
--------------------------- 307 ---------------------------
لكنهم أهانوها وضربوها حتى أسقطت جنينها . . إلى آخر تلك الأحداث المؤلمة لقلب كل مسلم . .
في ذلك الظرف ، قرر علي وفاطمة عليهما السلام أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعة العقبة ، التي شرط عليهم النبي صلى الله عليه وآله فيها أن يحموه وأهل بيته وذريته ، مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم ، فبايعوه على ذلك ! وكانت فاطمة عليها السلام مريضة مما حدث لها في الهجوم على بيتها فأركبها علي عليه السلام على دابة ، وأخذا معهما الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم ، وجالوا على بيوت رؤساء الأنصار في تلك الليلة والتي بعدها ، وكلمتهم فاطمة عليها السلام فكان قول أكثرهم : يا بنت رسول الله ، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ، ما عدلنا بعلي أحداً ! فقالت الزهراء عليها السلام :
وهل ترك أبي يوم غدير خمٍّ لأحد عذراً ! ! ( الخصال 1 / 173 )
إن منطق الزهراء عليها السلام هو منطق أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله تماماً . . فهي بضعةٌ منه ، وهي مطهرةٌ من منطق المثَّاقلين إلى الأرض وتفكيرهم . . وكل تكوينها وتفكيرها ومشاعرها وتصرفاتها ربانية ، ولذلك قال عنها أبوها ( إن الله يرضى لرضا فاطمة ، ويغضب لغضبها ) ! .
ذلك أنها ليس لها شخصيتان : واحدةٌ رسالية والأخرى شخصية ، فتغلب هذه مرة وهذه مرة . . بل وجودها عالم موحد منسجم دائماً . . فهي أَمَةُ هذا الرب العظيم لا غير ، وتابعةٌ لهذا الرسول والأب الحبيب لا غير . . صلى الله عليه وآله . وفاطمة الزهراء تعرف أنه سبحانه يتعامل مع الناس بإقامة الحجة عليهم في أصول الإسلام وتفاصيله ، وفي أسس العقيدة وجزئيات الشريعة ، وفيما يجب على الأمة في حياة نبيها ، وبعد وفاته . .
--------------------------- 308 ---------------------------
وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة ، في جميع الأمور ، ومن أعظمها حق زوجها علي ، وولديها الحسن والحسين عليهم السلام ، الذين أعطاهم الله حق الولاية على الأمة بعد نبيها !
بهذا المنطق قالت الزهراء عليها السلام للأنصار : إن جوابكم لي جواب سياسي . . ومنطق الحجة الإلهية أعلى من منطق اللعب السياسية ، ومهيمنٌ عليه ، ومتقدم عليه رتبةً ، وفاضحٌ له . .
فقد بلَّغ أبي صلى الله عليه وآله عن ربه ، وأخبركم أن المالك العظيم سبحانه قد قضى الأمر ، وجعل لأمة رسوله ولياً . . فمتى كان لكم الخيرة من أمركم حتى تختاروا زيداً أو عمرواً ، بعد أن قضى الله ورسوله أمراً ! !
فالحجة عليكم تامةٌ من أبي ، والآن مني ، ونعم الموعدُ القيامة ، والزعيم محمد صلى الله عليه وآله . . وعند الساعة يخسر المبطلون !
- *
لقد كان إعلان غدير خم عملاً ربانياً خالداً ، بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية . .
وكانت الأعمال المقابلة له أعمالاً قويةً بمنطق الأعمال السياسية ، وفرض الأمر الواقع . .
والعمل السياسي قد يغلب العمل الرسولي . .
ولكنها غلبةٌ سياسيةٌ جوفاء بلا حجة ، ولا وزن عند العقل . . ولو استمرت سنين ، أو قروناً ، أو إلى ظهور المهدي الموعود عليه السلام . - *
--------------------------- 309 ---------------------------
الفصل السادس : تفسير آية إكمال الدين
--------------------------- 310 ---------------------------
.
--------------------------- 311 ---------------------------
آخر ما نزل من القرآن
ليس من المبالغة القول : إن البحث الجاد في أسباب نزول آيات القرآن وسوره ، من شأنه أن يحدث تحولاً علمياً ، لأنه سيكشف حقائق كثيرة ، ويبطل بعض المسلَّمات التي تصور الناس لقرونٍ طويلةٍ أنها حقائق ثابتة !
ذلك أن الجانب الرياضي في أسباب النزول أقوى منه في موضوعات التفسير الأخرى . . فعندما تجد خمس روايات في سبب نزول آية ، وكل واحدة منها تذكر سبباً وتاريخاً لنزولها ، وهي متناقضة في المكان ، أو الزمان ، أو الحادثة . . فلا يمكنك أن تقول كلها مقبولة ، وكل رواتها صحابة ، وكلهم نجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا . . بل لا بد أن يكون السبب واحداً من هذه الأسباب ، أو من غيرها ، والباقي غير صحيح !
ولهذه الطبيعة المحددة في سبب النزول ، كانت أسبابه مادةً حاسمة في تفسير القرآن . . وإن كانت صعوبة البحث فيها تعادل غناها ، بل قد تزيد عليه أحياناً ، لكثرة التشويش ، والتناقض ، والوضع في رواياتها !
ومهما تكن الصعوبة ، فلا بد للباحثين في تفسير القرآن وعلومه ، أن يدخلوا هذا الباب بفعاليةٍ وصبر ، ويقدموا نتائج بحوثهم إلى الأمة والأجيال ،
--------------------------- 312 ---------------------------
لأنها ستكون نتائج جديدة مفيدة في فهم القرآن والسيرة ، بل في فهم العقائد والفقه والإسلام عموماً . .
وأكتفي من هذا الموضوع بهذه الإشارة لنستفيد في موضوعنا من أسباب النزول .
- *
ليس عجيباً أن يختلف المسلمون في أول آيات نزلت على النبي صلى الله عليه وآله ، لأنهم لم يكونوا آنذاك مسلمين . . ثم إنهم باستثناء القلة ، لم يكتبوا ما سمعوه من نبيهم في حياته ، ومنعت السلطة كتابتها بعد وفاته . . فأوقعت أجيال المسلمين في اختلاف في أحاديثه وسيرته !
ولهذا لا نعجب إذا وجدنا أربعة أقوال في تعيين أول ما أنزله الله تعالى من كتابه أنه سورة إقرأ . وأنه سورة المدثر . وأنه سورة الفاتحة . وأنه البسملة . . كما في الإتقان للسيوطي : 1 / 91 ! !
ولكن العجيب اختلافهم في آخر ما نزل من القرآن ، وقد كانوا دولةً وأمةً ملتفَّةً حول نبيها ، وقد أعلن لهم نبيهم صلى الله عليه وآله أنه راحل عنهم عن قريب ، وحج معهم حجة الوداع ، ومرض قبل وفاته مدة ، وودعوه وودعهم !
فلماذا اختلفوا في آخر آيةٍ أو سورةٍ نزلت عليه صلى الله عليه وآله ؟
الجواب : أن الأغراض السياسية لم تدخل في مسألة أول ما نزل من القرآن كما دخلت في مسألة آخر ما نزل منه . . كما سترى ! ! - *
--------------------------- 313 ---------------------------
سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن
يصل الباحث في مصادر الحديث والفقه والتفسير إلى أن سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن . . وأن آية ( اليوم أكملت لكم دينكم ) نزلت بعد إكمال نزول جميع الفرائض . . وأن بعض الصحابة حاولوا أن يجعلوا بدل المائدة سوراً أخرى ، وبدل آية إكمال الدين ، آيات أخرى .
رأي أهل البيت عليهم السلام
قال العياشي في تفسيره : 1 / 288 :
عن عيسى بن عبد الله ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي عليه السلام قال : كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً ، وإنما كان يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بآخره ، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة ، فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء . لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء ، وثقل عليه الوحي ، حتى وقفت وتدلى بطنها ، حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض ، وأغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي ، ثم رفع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقرأ علينا سورة المائدة ، فعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وعملنا . انتهى .
ويقصد علي عليه السلام بذلك : أن المسح على القدمين في الوضوء هو الواجب وليس غسلهما ، لأن المسح نزل في سورة المائدة وعمل به النبي صلى الله عليه وآله والمسلمون ولم ينسخ . ورواه في تفسير نور الثقلين : 1 / 582 و 5 / 447 .
وفي الكافي : 1 / 289 :
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية
--------------------------- 314 ---------------------------
وأبي الجارود ، جميعاً عن أبي جعفر عليه السلام قال : أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي وأنزل عليه : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، وفرض ولاية أولي الأمر ، فلم يدروا ما هي ؟ فأمر الله محمداً صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم الولاية ، كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وتخوف أن يرتدوا عن دينهم ، وأن يكذبوه ، فضاق صدره وراجع ربه عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، فصدع بأمر الله تعالى ذكره ، فقام بولاية علي عليه السلام يوم غدير خم ، فنادى الصلاة جامعة ، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب - قال عمر بن أذنية : قالوا جميعاً غير أبي الجارود - وقال أبو جعفر عليه السلام : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي . قال أبو جعفر عليه السلام : يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض .
وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 43 :
وقد قيل إن آخر ما نزل عليه : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) وهي الرواية الصحيحة ، الثابتة الصريحة .
- *
--------------------------- 315 ---------------------------
مصادر السنيين الموافقة لرأي أهل البيت عليهم السلام
قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 252 :
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن أبي ميسرة قال : آخر سورة أنزلت سورة المائدة ، وإن فيها لسبع عشرة فريضة .
وقال ابن حزم في المحلى : 9 / 407 :
روينا من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أن سورة المائدة آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها حلالاً فحللوه ، وما وجدتم فيها حراماً فحرموه . وهذه الآية في المائدة فبطل أنها منسوخة ، وصح أنها محكمة .
وقال في المحلى : 7 / 389 :
فإن هذا قد عارضه ما رويناه عنها من طريق ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن جري بن كليب ، عن جبير بن نفير قال : قالت لي عائشة أم المؤمنين : هل تقرأ سورة المائدة ؟
قلت : نعم ؟ قالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها حراماً فحرموه . انتهى . ورواه أحمد في مسنده : 6 / 188 ، ورواه البيهقي في سننه : 7 / 172 عن ابن نفير ، ونحوه عن عبد الله بن عمرو . ورواه في طبقات الحنابلة : 1 / 427 .
ورواه الحاكم : 2 / 311 ، وقال :
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . ثم روى عن عبد الله بن عمرو أن آخر سورة نزلت سورة المائدة وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . انتهى . وستعرف أنهما لم يخرجاه مراعاة لعمر ، حيث ادعى أن آخر ما نزل من القرآن غير المائدة .
--------------------------- 316 ---------------------------
وفي مجمع الزوائد : 1 / 256 :
وعن ابن عباس أنه قال : ذكر المسح على الخفين ، وعند عمر سعدٌ وعبد الله بن عمر ، فقال عمر : سعد أفقه منك ، فقال عبد الله بن عباس : يا سعد إنا لا ننكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح ، ولكن هل مسح منذ نزلت المائدة ، فإنها أحكمت كل شيء ، وكانت آخر سورة نزلت من القرآن ، ألا تراه قال . . . فلم يتكلم أحد . رواه الطبراني في الأوسط ، وروى ابن ماجة طرفاً منه ، وفيه عبيد بن عبيدة التمار وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : يُغرب . انتهى .
يقصد الهيثمي أن الرواية ضعيفة بهذا الراوي ، الذي وثقه ابن حبان ، وقال عنه إنه يروي روايات غريبة ، أي مخالفة لمقررات المذهب الرسمي الذي يقول إن الواجب هو غسل الرجلين في الوضوء ، ويقول إن المائدة ليست آخر سورة نزلت !
وفي الدر المنثور : 2 / 252 :
وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المائدة ( من ) آخر القرآن تنزيلا ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها . انتهى .
ويشك الإنسان في كلمة ( من ) التي تفردت بها هذه الرواية ، وكأن راويها أضافها للمصالحة بين الواقع وبين ما تبنته السلطة ، وجعلته مشهوراً .
وفي تفسير التبيان : 3 / 413 :
وقال عبد الله بن عمر : آخر سورة نزلت المائدة .
وفي الغدير : 1 / 228 :
--------------------------- 317 ---------------------------
ونقل ابن كثير من طريق أحمد والحاكم والنسائي عن عايشة : أن المائدة آخر سورة نزلت . انتهى .
- *
ويتضح من مجموع ذلك أن المتسالم عليه عند عند أهل البيت عليهم السلام أن آخر ما نزل من القرآن سورة المائدة . . وأنه مؤيدٌ برواياتٍ صحيحة وكثيرة في مصادر إخواننا . . بل يمكن القول بأن نص آية ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وحده يكفي دليلاً على أنها نزلت في آخر ما نزل من القرآن ، لأنها تنص على أن نزول الفرائض قد تم . . وتنفي أن يكون نزل بعدها فريضة .
على أنه وردت نصوص بذلك كما تقدم عن الإمام الباقر عليه السلام ، وكما سيأتي من رواية الطبري ، والبيهقي ، وقول السدي .
وعليه ، فكل قول يزعم نزول فريضة بعد هذه الآية مردود ، ولا بد أن يكون ما نزل بعدها من القرآن خالياً من الفرائض والأحكام ، لأن التشريع كان قد تم بنزولها . - *
الآراء المخالفة والمتناقضة
ولكن هذا الأمر المحدد الواضح ، صار غير واضحٍ ولا محددٍ عندهم ! ! وكثرت فيه الروايات وتناقضت ! وزاد في الطين بلةً أن المتناقض منها صحيحٌ بمقاييسهم ! وأنها آراء صحابةٍ كبارٍ لا يجرؤون على ردهم !
ولعل السيوطي استحى لجماعته من كثرة الأقوال في آخر ما نزل من القرآن ، فأجملها إجمالا ، ولم يعددها أولاً وثانياً ، كما عدد الأقوال الأربعة في أول ما نزل ! ! ونحن نعدها باختصار لنرى أسباب نشأتها !
--------------------------- 318 ---------------------------
1 - أن آخر آية هي آية الربا ، وهي الآية 278 من سورة البقرة .
2 - أن آخر آية هي آية الكلالة ، أي الورثة من الأقرباء غير المباشرين ، وهي الآية 176 من سورة النساء .
3 - أن آخر آية هي آية ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله . . ) وهي الآية 281 من سورة البقرة .
4 - أن آخر آية هي آية ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم . . . ) وهي الآية 128 من سورة التوبة .
5 - أن آخر آية هي آية ( وما أرسلنا من قبلك من رسول . . . ) وهي الآية 25 من سورة الأنبياء .
6 - أن آخر آية هي آية ( فمن كان يرجو لقاء ربه . . . ) الكهف - 110 .
7 - أن آخر آية هي آية ( ومن يقتل مؤمنا متعمداً . . . ) النساء - 93 .
8 - أن آخر سورة نزلت هي سورة التوبة .
9 - أن آخر سورة نزلت هي سورة النصر .
هذا ما جاء فقط في إتقان السيوطي 1 / 101 ، وقد تبلغ أقوالهم ورواياتهم ضعف هذا العدد ، لمن يتتبع المصادر ! !
- *
كيف نشأت هذه الآراء المتناقضة
القصة التالية . . تعطينا ضوءً على نشأة هذا الاضطراب والضياع :
سئل الخليفة عمر ذات يوم عن تفسير آية الربا وأحكام الربا ، فلم يعرفها فقال : أنا متأسف ، لأن هذه الآية آخر آية نزلت ، وقد توفي النبي ولم يفسرها لنا !
--------------------------- 319 ---------------------------
ومن يومها دخلت آيات الربا على الخط ، وشوشت على سورة المائدة ، وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين المائدة ، وبين آيات الربا !
ولكن الربا ذكر في أربع سور من القرآن : في الآيتين 275 و 276 من سورة البقرة والآية 161 من سورة النساء ، والآية 39 من سورة الروم ، والآية 130 من سورة آل عمران . . وبعض هذه السور مكي وبعضها مدني ! فأي آية منها قصد الخليفة ؟ !
وتبرع الراكضون لتبرير كل عمل وكل قول لعمر ، وقالوا إن مقصود الخليفة الملهم هو الآية 278 من سورة البقرة ! فصار مذهبهم أن آخر آية نزلت من القرآن وضعت في سورة البقرة ، التي نزلت في أول الهجرة !
وصار عليهم أن يقبلوا أن مذهبهم أن تحريم الربا تشريعٌ إضافي ، لأنه نزل بعد آية إكمال الدين !
ولعلهم يتصورون أنه لا بأس بهذه المفارقة في نزول القرآن والوحي ، ما دام هدفهم هدفاً شرعياً صحيحاً هو الدفاع عمر بن الخطاب ، الذي يعتقدون أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله !
قال أحمد بن حنبل في مسنده : 1 / 36 :
عن سعيد بن المسيب قال : قال عمر رضي الله عنه : إن آخر ما نزل من القرآن آية الربا ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسرها ، فدعوا الربا والريبة ! ! ورواه في كنز العمال : 4 / 186 عن ( ش ، وابن راهويه ، حم ، ه ، وابن الضريس ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، ق في الدلائل ) .
وقال السرخسي في المبسوط : 2 / 51 و 12 / 114 :
--------------------------- 320 ---------------------------
فقد قال عمر رضي الله عنه : إن آية الربا آخر ما نزل ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبين لنا شأنها ! انتهى . وصلوات الله على رسوله الذي أنزل عليه وبينه للناس ، رغم اتاهه عمر له بأنه لم يبين ! !
وقال السيوطي في الإتقان : 1 / 101 :
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت آية الربا . وروى البيهقي عن عمر مثله . . . وعند أحمد وابن ماجة عن عمر : من آخر ما نزل آية الربا . انتهى .
ولكن إضافتهم ( من ) في هذه الرواية لا تحل المشكلة ، كما لم تحلها إضافتها في سورة المائدة ، لأن الروايات الأخرى ليس فيها ( من ) وهي نص على دعوى الخليفة أن آية الربا آخر ما نزل !
قصة ثانية !
وذات يوم بل ذات أيام . . لم يعرف الخليفة عمر معنى الكلالة ، وتحير فيها ، واستعصى عليه فهمها ، إلى آخر عمره ! فقال وقالوا عنه : إنها آخر آية نزلت وتوفي النبي قبل أن يبينها له ، أو بينها له بياناً ناقصاً !
ففي البخاري : 5 / 115 :
عن البراء رضي الله عنه قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة . . .
ونحوه في : 5 / 185 . وقال السيوطي في الإتقان : 1 / 101 :
فروى الشيخان عن البراء بن عازب قال آخر آية نزلت : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، وآخر سورة نزلت براءة .
--------------------------- 321 ---------------------------
وفي مسند أحمد : 4 / 298 : عن البراء قال : آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : يستفتونك ، إلى آخر السورة . . . إلى آخره !
ومن يومها دخلت آية الكلالة على الخط ، وشاركت في التشويش على سورة المائدة ! وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين آيات الربا والكلالة ، وبقية المائدة بما فيها آيتا العصمة من الناس ، وإكمال الدين !
وقد راجعت ما تيسر لي من المصادر السنية في مسألة الربا والكلالة ، فهالتني مشكلة الخليفة معهما ، خاصةً مسألة الكلالة ، حتى أنه جعلها من قضية الهامة على مستوى قضايا الأمة الإسلامية الكبرى ، وكان يطرحها من على منبر النبي صلى الله عليه وآله ! واستمر يطرحها كمشكلة كبرى ، حتى ساعات حياته الأخيرة ، وأوصى المسلمين بحلها ! وهو أمر غريب يدل على شعوره العميق بالحرج أمام المسلمين ، لعدم تمكنه من استيعابها ! !
ففي صحيح البخاري : 6 / 242 :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه قد نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسة أشياء : العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل . والخمر ما خامر العقل . وثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهداً : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا . انتهى .
ورواه مسلم في : 2 / 81 ، بتفصيل أكثر ، وروى نحوه في : 5 / 61 و 8 / 245 ، ورواه ابن ماجة في : 2 / 910 ، وقال عنه السيوطي في الدر المنثور : 2 / 249 : وأخرج عبد الرزاق ، والبخاري ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عمر . . .
--------------------------- 322 ---------------------------
ويدل هذا الصحيح المؤكد ، على أن عمر لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله عن الكلالة .
وقد صرح بذلك ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه : 2 / 303 ، قال :
محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثٍ أحب إلي من حمر النعم : عن الخليفة بعده ، وعن قوم قالوا نقرُّ بالزكاة في أموالنا ولا نؤديها إليك ، أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة . هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . انتهى .
ولكن ماذا يصنعون بصحيح مسلم الذي روى أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وآله عنها مراراً ! قال مسلم في : 5 / 61 :
عن معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر أبا بكر ثم قال : إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ! ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة ! وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه ، حتى طعن بإصبعه في صدري وقال : يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ؟ !
وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن . انتهى .
يعني أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله عنها مراراً فوضحها له مراراً ، ولكنه كرر سؤاله حتى غضب عليه النبي صلى الله عليه وآله لعدم فهمه لشرحه إياها !
بل يدل الصحيحان التاليان على أن النبي صلى الله عليه وآله أخبر عمر أنه لن يفهم الكلالة طول عمره ، أو دعا عليه بذلك ! ففي الدر المنثور : 2 / 250 :
--------------------------- 323 ---------------------------
وأخرج العدني والبزار في مسنديهما ، وأبو الشيخ في الفرائض ، بسند صحيح عن حذيفة قال : نزلت آية الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بحذيفة فلقاها إياه ، فنظر حذيفة فإذا عمر فلقاها إياه . فلما كان في خلافة عمر ، نظر عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها ، فقال حذيفة : لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتك كما لقاني ، والله لا أزيدك على ذلك شيئاً أبداً . انتهى .
وفي كنز العمال : 11 / 80 حديث 30688 :
عن سعيد بن المسيب أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يورث الكلالة ؟ قال : أوليس قد بين الله ذلك ، ثم قرأ : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة . . . إلى آخر الآية ، فكأن عمر لم يفهم !
فأنزل الله : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة . . إلى آخر الآية ، فكأن عمر لم يفهم !
فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس ، فاسأليه عنها فقال : أبوك ذكر لك هذا ؟ ما أرى أباك يعلمها أبداً ! !
فكان يقول : ما أراني أعلمها أبداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ! ! وذكر في مصدره أن ابن راهويه أو ابن مردويه صححه . انتهى .
بل روى السيوطي في الدر المنثور : 2 / 249 :
أن النبي صلى الله عليه وآله قد كتبها لعمر في كتف ! قال : وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن مردويه عن طاوس ، أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فسألته فأملاها عليها في كتف ، وقال : من أمرك بهذا أعمر ؟ ما أراه يقيمها ، أوما تكفيه آية الصيف ؟ ! !
--------------------------- 324 ---------------------------
قال سفيان : وآية الصيف التي في النساء : وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ . . فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزلت الآية التي في خاتمة النساء . انتهى .
فانظر إلى هذه التناقضات في أحاديث عمر والكلالة ، وكلها صحيحة !
ولاحظ أن الكلالة هي إحدى المسائل الثلاث التي قال البخاري إن النبي صلى الله عليه وآله لم يبينها للأمة ولا سأل عمر النبي عنها . . مع أن روايتهم الصحيحة تقول إن النبي صلى الله عليه وآله قد كتب الملالة لعمر في كتف !
وانظر إلى هذه التهمة للنبي صلى الله عليه وآله بأنه توفي ولم يبين القرآن الذي أمره الله ببيانه ! ! ثم انظر كيف رد الله هذه التهمة لنبيه على ألسنة المتهمين أنفسهم !
وقد مر معك في آية التبليغ افتراؤهم على الشيعة بأنهم يتهمون النبي صلى الله عليه وآله بعدم البيان لأنه أخر تبليغ ولاية علي حتى قال الله تعالى ( بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغة رسالته ) . .
مع أن هذه الرواية لا تتهم النبي بأنه لم يبلغ حتى توفي ، بل تقول إنه أمر في حجة الوداع بتبليغ ولاية علي رسمياً ، ولم يعين له وقتاً ، وبدأ النبي بالتمهيد وبيان مقام عترته الطاهرين فشوشت قريش على خطبه ، فنوى أن يؤخر ذلك إلى المدينة ، فنزل عليه جبرئيل في الطريق أن يبلغ ذلك في غدير خم .
وهذا ليس فيه أدنى تهمة للنبي صلى الله عليه وآله . . بل فيه عار قريش !
- *
--------------------------- 325 ---------------------------
وأما المسألة الثانية التي هي الخلافة ، فقد روى البخاري نفسه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله دعا بدواة وكتف ليكتب للأمة الإسلامية كتاباً لا تضل بعده أبداً ، ولكن عمر رفض ذلك . . ورد على النبي . . وعمل ما عمل !
وأما المسألة الثالثة ، وهي أبواب الربا ، فمحال أن يكون النبي صلى الله عليه وآله توفي ولم يبينها ، وقد يكون كتبها لعمر أو غيره في كتف أيضاً ! !
دلالة هاتين القصتين
تدل هاتان القصتان على أن صحاح إخواننا فيها متناقضاتٌ لا يمكن لباحث أن يقبلها جميعاً ، بل لا بد له أن يرجح بعضها ويرد بعضها .
وكيف يمكن لعاقلٍ أن يقبل في موضوعنا أن عمر لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله عن الآية لأنها آخر آية نزلت . . ثم يقبل أنه سأله عنها مراراً ، حتى دفعه بإصبعه في صدره ، وغضب منه . . . إلخ ! !
وكيف يقبل أن الكلالة آخر آية ، وآيات الربا آخر آيات . . إلى آخر التناقضات التي ذكرناها ، وأكثر منها مما لم نذكره !
--------------------------- 326 ---------------------------
وتدل القصتان على أن سلطة الخليفة عمر على السنيين بلغت حداً تستطيع معه أن تجعل ادعاءه غير المعقول . . معقولاً ! وأن المهم عندهم تكييف تفسير الاسلام والقرآن ، وأحداث نزول آياته ، وأسبابها ، وفق ما قاله الخليفة ، حتى لو تناقضت أقواله ، وحتى لو لزم من ذلك اتهام النبي صلى الله عليه وآله بأنه قصر في التبليغ ، أو اتهام الله تعالى بالتناقض في دينه ، وفي أفعاله تعالى !
وإذا اعترض أحدٌ على ذلك فهو رافضي ، عدوٌّ للإسلام ورسوله وصحابته !
وتدل القصتان في موضوعنا على أن آيات الربا وإرث الكلالة ، وربما غيرهما ، حسب رأي الخليفة قد نزلت بعد آية إكمال الدين ! !
ومعنى ذلك أن الله تعالى قال للمسلمين : اليوم أكملت لكم دينكم ، ولكنه لم يكن أكمل أحكام الإرث والربا وأحكام القتل ! !
إن أتباع عمر ، يريدون ممن يحترم عقله أن يجادل عن شخص غير معصوم ليبرئه من التناقض ، ويرمي به الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وآله !
- *
بقية الأقوال في آخر سورة نزلت
لا نطيل في ذكر بقية الأقوال ، وأحاديثها الصحيحة عندهم ، بل نجملها إجمالاً : ففي صحيح البخاري : 5 / 182 :
قال سمعت سعيد بن جبير قال : آية اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم هي آخر ما نزل ، وما نسخها شيء . ( النساء - 93 ) .
وفي البخاري : 6 / 15 :
عن سعيد بن جبير قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فرحلت فيه إلى ابن عباس فقال : نزلت في آخر ما نزل ، ولم ينسخها شيء .
وفي الدر المنثور : 2 / 196 :
وأخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني من طريق سعيد بن جبير قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فرحلت فيها . . . هي آخر ما نزل وما نسخها شيء .
--------------------------- 327 ---------------------------
وأخرج أحمد ، وسعيد بن منصور ، والنسائي ، وابن ماجة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، والطبراني من طريق سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس . . . قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة ؟ !
وفي مجموع النووي : 18 / 345 :
قوله تعالى : ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جنهم خالداً فيها . . الآية . في صحيح البخاري . . . هي آخر ما نزل وما نسخها شيء . وكذا رواه مسلم والنسائي من طرق عن شعبة به . ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الآية فقال : ما نسخها شيء . انتهى .
- *
فهل يمكن لمسلم أن يقبل هذه الروايات ( الصحيحة ) سواء من البخاري أو غيره ، ومن ابن عباس أو غيره ، ويلتزم بأن تحريم قتل المؤمن تشريع إضافي في الإسلام ، نزل بعد آية إكمال الدين ! - *
وفي مستدرك الحاكم : 2 / 338 :
عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : آخر ما نزل من القرآن : لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم . حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . انتهى .
--------------------------- 328 ---------------------------
وهذه الرواية ( الصحيحة ) على شرط الشيخين تقصد الآيتين 128 و 129 ، من سورة التوبة .
وفي الدر المنثور : 3 / 295 :
وأخرج ابن أبي شيبة ، وإسحق بن راهويه ، وابن منيع في مسنده ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، من طريق يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ أن آخر ما نزل من القرآن - لقد جاءكم رسول من أنفسكم . . إلى آخر الآية .
وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن مردويه ، عن الحسن أن أبي بن كعب كان يقول : إن أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان : لقد جاءكم رسول من أنفسكم . . إلى آخر السورة .
وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند ، وابن الضريس في فضائله ، وابن أبي دؤاد في المصاحف ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والخطيب في تلخيص المتشابه ، والضياء في المختارة ، من طريق أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر ، فكان رجال يكتبون ويمل عليهم أبي بن كعب ، حتى انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم . . . قوم لا يفقهون ، فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن ، فقال أبي بن كعب : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فإن تولوا
--------------------------- 329 ---------------------------
فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم . فهذا آخر ما نزل من القرآن . قال فختم الأمر بما فتح به بلا إله إلا الله ، يقول الله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون .
وأخرج ابن أبي دؤاد في المصاحف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال : من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان ، فقتل وهو يجمع ذلك إليه .
فقام عثمان بن عفان فقال : من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به ، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد به شاهدان ، فجاء خزيمة بن ثابت فقال : إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما ! فقالوا : ما هما ؟ قال : تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم . . إلى آخر السورة . قال عثمان : وأنا أشهد أنهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال : إختم بهما آخر ما نزل من القرآن ، فختمت بهما براءة . انتهى . وشبيه به في سنن أبي داود : 1 / 182 .
وقد بحثنا هذه الروايات في كتاب تدوين القرآن . - *
وفي صحيح مسلم : 8 / 243 :
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قال لي ابن عباس : تعلم - وقال هارون تدري - آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً ؟ قلت نعم ، إذا جاء نصر الله والفتح . قال : صدقت .
--------------------------- 330 ---------------------------
وفي رواية ابن أبي شيبة : تعلم أي سورة ، ولم يقل آخر .
وفي سنن الترمذي : 4 / 326 : وقد روي عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة أنزلت : إذ جاء نصر الله والفتح .
وفي الغدير : 1 / 228 : وروى ابن كثير في تفسيره : 2 / 2 : عن عبد الله بن عمر أن آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ( يعني النصر ) .
وفي الدر المنثور : 6 / 407 :
وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله : إذا جاء نصر الله والفتح ، قال : علمٌ وحدٌّ حده الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ونعى إليه نفسه ، إنك لا تبقى بعد فتح مكة إلا قليلاً .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس قال : آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً : إذا جاء نصر الله والفتح .
وفي المعجم الكبير للطبراني : 12 / 19 : عن ابن عباس قال : آخر آية أنزلت : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله . انتهى . وهي الآية 281 من سورة البقرة ! - *
ونذكر في آخر ادعاءاتهم في آخر آيةٍ من القرآن : أن معاوية بن أبي سفيان أدلى بدلوه في هذا الموضوع ، ونفى على المنبر أن تكون آية ( اليوم أكملت لكم دينكم . . ) آخر ما نزل ، وأفتى للمسلمين بأن آخر آية نزلت هي الآية 110 من سورة الكهف ، وأنها كانت تأديباً من الله لنبيه صلى الله عليه وآله ! !
ففي المعجم الكبير للطبراني : 19 / 392 :
عمرو بن قيس أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر نزع بهذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم . . قال : نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ، ثم تلا هذه
--------------------------- 331 ---------------------------
الآية : فمن كان يرجو لقاء ربه . . . وقال : إنها آخر آية نزلت . . . تأديباً لرسول الله . . انتهى .
وقد التفت السيوطي إلى أن كيل التناقض قد طفح لإبعاد آية إكمال الدين عن ختم القرآن وحجة الوداع وغدير خم . . فاستشكل في قبول قول معاوية وعمر ! ولكنه مر بذلك مروراً سريعاً ، على عادتهم في التغطية والتستر على تناقض من يحبونهم . قال في الإتقان : 1 / 102 :
من المشكل على ما تقدم قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم ، فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع ، وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها . وقد صرح بذلك جماعة منهم السدي ، فقال : لم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ ، مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعدها !
وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال : الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم الدين بإفرادهم بالبلد الحرام ، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون ، لا يخالطهم المشركون ! انتهى .
ومعنى كلام ابن جرير الطبري الذي ربما ارتضاه السيوطي : أن حل التناقض في كلام الصحابة بأن نقبله ونبعد إكمال الدين وإتمام النعمة عن التشريع وتنزيل الأحكام والفرائض ، ونحصره بتحرير مكة فقط ، حتى تسلم لنا أحاديث عمر عن الكلالة والربا ، وحديث معاوية عن آخر آية في ( تأديب النبي ) ! !
إنها فتاوى تتكرر أمامك من علماء الدولة السنية بوجوب قبول كلام الصحابة - ما عدا أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله - حتى لو استلزم ذلك
--------------------------- 332 ---------------------------
تفريغ آيات الله تعالى وأحاديث رسوله من معانيها ! فهم عملياً يعطون الصحابة درجة العصمة ، بل يعطونهم حق النقض على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله ! ! فيجعلون كلامهم حاكماً عليه ! ثم يفرضون عليك أن تقبل ذلك وتغمض عينيك ، وتصم سمعك عن صراخ ضحاياهم من الآيات الظاهرة والأحاديث الصحيحة ! !
ونتيجة هذا المنطق : أن آية اليوم أكملت لكم دينكم ليست آخر آية ، ولا سورتها آخر سورة ، ولا معناها أكملت لكم الفرائض والأحكام ، بل أكملت لكم فتح مكة !
وأن معنى ( اليوم ) في الآية ليس يوم نزول الآية ، بل يوم فتح مكة قبل سنتين من حجة الوداع !
وسوف تعرف أن الخليفة عمر أقر في جواب اليهودي بأن معنى اليوم في الآية : يوم نزولها ، وليس يوم فتح مكة ! بل قال القرطبي إن اليوم هنا بمعنى الساعة التي نزلت فيها الآية ، كما سيأتي . - *
نص آية إكمال الدين
( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً ، وإذا حللتم فاصطادوا ، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب .
--------------------------- 333 ---------------------------
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ، وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ، ذلكم فسق ، اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ، فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) . المائدة 2 - 3 .
آية إكمال الدين واللحوم المحرمة
أول ما يواجه الباحث في آية إكمال الدين غرابة مكانها في القرآن ، فظاهر ما رواه المحدثون والمفسرون عنها ، أنها نزلت في حجة الوداع آية مستقلة لا جزء آية . . ثم يجدها في القرآن جزء من آية اللحوم المحرمة ، وكأنها حشرت حشراً في وسطها ، بحيث لو رفعنا آية إكمال الدين منها لما نقص من معناها شيء ، بل لا تصل السياق ! !
فما هي الحكمة من هذا السياق ؟ وهل كان هذا موضعها الأصلي من القرآن ، أم وضعت هنا باجتهاد بعض الصحابة ؟ !
نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى ، معاذ الله ، لكن نتساءل عسى أن يعرف أحد الجواب : ما هو ربط آية إكمال الدين باللحوم المحرمة ؟ ألا يحتمل أن تكون بالأساس في خاتمة سورة المائدة مثلاً ، ولم يلتفت إلى ذلك الذين جمعوا القرآن ، فوضعوها هنا .
ثم . . قد يقبل الإنسان أن تكون الآية نزلت بعد آيات بيان أحكام اللحوم ولكن كيف يمكن أن ينزلها الله تعالى في وسط أحكام اللحوم ؟ !
--------------------------- 334 ---------------------------
فإذا قال الله تعالى : أكملت لكم دينكم ، فقد تمت الأحكام ، فكيف يقول بعدها مباشرة : ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ؟ ! ثم يقول بعدها مباشرة : ( يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لكم الطيبات وما علمتم . . . إلى آخر أحكام الدين الذي قال عنه أحكم الحكماء
سبحانه قبل لحظات : إنه قد أكمله وأتم نعمته به ؟ ! !
قال في الدر المنثور : 2 / 259 :
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : اليوم أكملت لكم دينكم قال : هذا نزل يوم عرفة ، فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلالٌ . انتهى .
وقال في : 2 / 257 :
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس . . . فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله : اليوم أكملت لكم دينكم ، يقول حلالكم وحرامكم فلم ينزل بعد هذا حلالٌ ولا حرامٌ . انتهى .
والأحاديث والأقوال في عدم نزول أحكام بعد الآية كثيرة ، وقد مر بعضها ، ولا نحتاج إلى استقصائها بعد أن كان ذلك مفهوماً من الآية نفسها .
الفرق بين الإكمال والإتمام
ذهب بعض اللغويين إلى أن الكمال والتمام والاكمال والاتمام مترادفتان ولا فرق بينهما .
وذهب آخرون إلى وجود فرق بينهما ، وأكثروا الكلام في محاولتهم التمييز بيهما ، لكن بلا محصل . . فقد حاموا حول الفرق ولم يحددوه !
قال الزبيدي في شرح القاموس : 8 / 103 :
--------------------------- 335 ---------------------------
( الكمال : التمام ) وهما مترادفان كما وقع في الصحاح وغيره ، وقد فرق بينهما بعض أرباب المعاني ، وأوضحوا الكلام في قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، وبسطه في العناية ، وأوسع الكلام فيه البهاء السبكي في عروس الأفراح .
وقيل : التمام الذي تجزأ منه أجزاؤه كما سيأتي ، وفيه ثلاث لغات ( كمل كنصر وكرم وعلم ) قال الجوهري والكسر أردؤها ، وزاد ابن عباد : كمل يكمل مثل ضرب يضرب ، نقله الصاغاني ( كمالاً وكمولاً فهو كامل وكميل ) جاؤوا به على كمل .
وقال في ص 212 : ( وتمام الشيء وتمامته وتتمته ما يتم به ) .
وقال الفارسي : تمام الشيء ما تم به بالفتح لا غير ، يحكيه عن أبي زيد .
وتتمة كل شيء ما يكون تمام غايته ، كقولك هذه الدراهم تمام هذه المائة ، وتتمة هذه المائة .
قال شيخنا : وقد سبق في كمل أن التمام والكمال مترادفان عند المصنف وغيره ، وأن جماعة يفرقون بينهما بما أشرنا إليه .
وزعم العيني أن بينهما فرقاً ظاهراً ولم يفصح عنه .
وقال جماعة : التمام الإتيان بما نقص من الناقص ، والكمال الزيادة على التمام ، فلا يفهم السامع عربياً أو غيره من رجل تام الخلق إلا أنه لا قص في أعضائه ، ويفهم من كامل معنى زائد على التمام كالحسن والفضل الذاتي أو العرضي . فالكمال تمام وزيادة ، فهو أخص .
وقد يطلق كل على الآخر تجوزاً ، وعليه قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي . كذا في كتاب التوكيد لابن أبي الأصبع .
--------------------------- 336 ---------------------------
وقيل التمام يستدعي سبق نقص ، بخلاف الكمال .
وقيل غير ذلك ، مما حرره البهاء السبكي في عروس الأفراح ، وابن الزملكاني في شرح التبيان ، وغير واحد .
قلت : وقال الحراني : الكمال الانتهاء إلى غاية ليس وراءها مزيد من كل وجه . وقال ابن الكمال : كمال الشيء حصول ما فيه الغرض منه ، فإذا قيل كمل فمعناه حصل ما هو الغرض منه . انتهى .
- وقال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية ص 458 :
الفرق بين الكمال والتمام : أن قولنا كمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به ، ولهذا قال المتكلمون العقل كمال علوم ضروريات يميز بها القبيح من الحسن يريدون اجتماع علوم ، ولا يقال تمام علوم لان التمام اسم للجزء والبعض الذي يتم به الموصوف بأنه تام .
ولهذا قال أصحاب النظم القافية تمام البيت ، ولا يقال كمال البيت ، ويقولون البيت بكماله أي باجتماعه ، والبيت بتمامه أي بقافيته .
ويقال هذا تمام حقك للبعض الذي يتم به الحق ، ولا يقال كمال حقك ، فإن قيل : لم قلت إن معنى قول المتكلمين كمال علوم اجتماع علوم ؟
قلنا : لا اختلاف بينهم في ذلك ، والذي يوضحه أن العقل المحدود بأنه كمال علوم هو هذه الجملة واجتماعها ، ولهذا لا يوصف المراهق بأنه عاقل وإن حصل بعض هذه العلوم أو أكثرها له ، وإنما يقال له عاقل إذا اجتمعت له . انتهى .
أقول : من المؤكد أن بينهما فرقاً ، بدليل استعمال القرآن لفظ الإكمال للدين ، ولفظ الإتمام للنعمة . . فما ذكره العسكري أقرب إلى الصواب ،
--------------------------- 337 ---------------------------
والظاهر أن مادة ( كمل ) تستعمل للمركب الذي لا يحصل الغرض منه إلا بكل أجزائه ، فهو يكمل بها جميعاً ، وإن نقص شئ منها يكون وجوده ناقصاً أو مثلوماً ! ولذا قال علي عليه السلام سيد الفصحاء بعد النبي صلى الله عليه وآله في عهده لمالك الأشتر ، كما في نهج البلاغة : 3 / 103 : ( فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك ، كاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغاً من بدنك ما بلغ ) . انتهى .
فالإكمال منصب على نفس الشئ ، لرفع نقص أجزائه أو ثلمه . .
أما الإتمام فهو أعم منه لأنه قد ينصب على نفس الشئ أو هدفه وغرضه . .
فقوله تعالى ( أكملت لكم دينكم ) معناه إكماله بتنزيل جزئه المكمل لمركبه ، وبدونه يبقى الاسلام ناقصاً مثلوماً ، بمثابة غير الموجود . وهو تعبير آخر عن قوله تعالى ( فإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) لأن الاسلام للمركب من الدين وآلية تطبيقه التي هي الإمامة ، وعدم تبليغ الجزء المكمل للمركب يساوي عدم تبليغ شئ منه !
أما قوله تعالى ( وأتممت عليكم نعمتي ) فهو يعني النعمة بتنزيل الاسلام وشروط تحقيق أغراضه وأهدافه في الأرض ، فهو تعالى بإكمال مركب الدين بالإمامة أتم النعمة على المسلمين ، وبها ضمن تحقيق هدف الدين في الأرض ، إن هم أطاعوا الامام الذي نصبه لهم .
وبذلك يتضح أن الإمامة جزء لا يتجزأ من الاسلام ، فلا وجود حقيقيا له بدونها ، لأن وجوده الشكلي بمثابة العدم . . كما أن تبليغ النبي للإمامة تتميم للنعمة الإلهية على هذه الأمة ، فالنعمة موجودة بدون تبليغها ، لكنها لا تكون تامة إلا بها !
--------------------------- 338 ---------------------------
وللراغب الأصفهاني لفتة جيدة في معنى الآية ، وهي أن إكمال الدين يعني ثبات صيغته النهائية وعدم نزول النسخ عليه إلى يوم القيامة . . قال في مفرداته ص 440 : ( وقوله : وتمت كلمة ربك ، إشارة إلى نحو قوله : اليوم أكملت لكم دينكم . . الآية ، ونبه بذلك أنه لا تنسخ الشريعة بعد هذا ) . انتهى .
وهذه يعني أن النسخ كان مفتوحاً في القرآن والسنة حتى نزلت الإمامة ، فانتهى النسخ وكمل الدين بصيغته الخالدة ، وتمت به النعمة .
استعمال الكمال والتمام في القرآن
وإذا تأملت المورد الوحيد الذي استعمل فيه القرآن لفظ ( أكملت ) ! والموارد الأربعة الأخرى التي استعمل فيها مشتقات ( كمل ) ، والموارد الأكثر التي استعمل فيها مشتقات ( تم ) . . يتأكد لك ما ذهبنا اليه من التفريق بينهما .
ونكتفي بآية جمعت بينهما ، وهي قوله تعالى ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) . سورة البقرة - 232
فصفة الكمال للحولين تعني أن الحولين اسم مركب ينتفي بانتفاء جزء منه ، فإن نقصت الرضاعة يوماً عنهما ، لم تتحقق الرضاعة لحولين .
أما التمام فهو اسم للرضاعة الأعم ، فإن نقصت عن الحولين فهي رضاعة ، وإن كانت غير تامة .
مناقشة الأقوال في تفسير الآية
وبعد السؤال عن مكان الآية والفرق بين الكمال والتمام فيها . . يواجهنا السؤال عن معناها ، وسبب نزولها . . وفي ذلك ثلاثة أقوال :
--------------------------- 339 ---------------------------
القول الأول
قول أهل البيت عليهم السلام أنها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة في الجحفة ، في رجوع النبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع ، عندما أمره الله تعالى أن يوقف المسلمين في غدير خم ، قبل أن تتشعب بهم الطرق ، ويبلغهم ولاية علي عليه السلام من بعده ، فأوقفهم وخطب فيهم وبلغهم ما أمره به ربه . وهذه نماذج من أحاديثهم :
فقد تقدم ما رواه الكليني في الكافي : 1 / 289 :
عن الإمام محمد الباقر عليه السلام وفيه ( وقال أبو جعفر عليه السلام : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى ، وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، قال أبو جعفر عليه السلام : يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض .
وعن علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن هارون بن خارجة ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : كنت عنده جالساً فقال له رجل : حدثني عن ولاية علي ، أمن الله أو من رسوله ؟
فغضب ثم قال : ويحك كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخوف ( لله ) من أن يقول ما لم يأمره به الله ! ! بل افترضه الله ، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج . انتهى .
وفي الكافي : 1 / 198 :
أبو محمد القاسم بن العلاء رحمه الله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنا مع الرضا عليه السلام بمرو ، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء
--------------------------- 340 ---------------------------
مقدمنا ، فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي عليه السلام فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسم عليه السلام ثم قال :
يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم ، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله حتى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء ، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً ، فقال عز وجل : ما فرطنا في الكتاب من شيء ، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .
وأمر الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض صلى الله عليه وآله حتى بين لأمته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم ، وتركهم على قصد سبيل الحق ، وأقام لهم علياً عليه السلام علماً وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ، ومن رد كتاب الله فهو كافر به .
هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة ، فيجوز فيها اختيارهم ؟ !
إن الإمامة أجل قدراً ، وأعظم شأناً ، وأعلى مكاناً ، وأمنع جانباً ، وأبعد غوراً ، من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم .
إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة ، مرتبةً ثالثة ، وفضيلة شرفه بها ، وأشاد بها ذكره فقال : إني جاعلك للناس إماماً ، فقال الخليل عليه السلام سروراً بها : ومن ذريتي ؟ قال الله تبارك وتعالى : لا ينال عهدي الظالمين .
--------------------------- 341 ---------------------------
فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة ، وصارت في الصفوة .
ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة ، فقال : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاًّ جعلنا صالحين . وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين . فلم تزل في ذريته ، يرثها بعض عن بعض ، قرناً فقرناً ، حتى ورثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله فقال جل وتعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ، فكانت له خاصة فقلدها صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان ، بقوله تعالى : قال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ، فهي في ولد علي عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله .
فمن أين يختار هؤلاء الجهال ! انتهى .
- *
القول الثاني
قول المفسرين السنيين الموافق لقول أهل البيت عليهم السلام :
وأحاديثهم في بيعة الغدير تبلغ العشرات ، وفيها صحاح من الدرجة الأولى وقد جمعها عدد من علمائهم القدماء منهم الطبري المؤرخ في كتابه ( الولاية ) فبلغت طرقها ونصوصها عنده مجلدين ، وكذلك فعل ابن عساكر وغيره . وتنص رواياتها على أن النبي صلى الله عليه وآله أصعد علياً معه على المنبر ، ورفع يده حتى بان بياض إبطيهما ، وبلغ الأمة ما أمره الله فيه . . . إلخ .
--------------------------- 342 ---------------------------
وقد انتقد بعض المتعصبين المحدث الطبري الذي يحترمونه بسبب تأليفه كتاب ( الولاية ) في أحاديث الغدير ، خوفاً أن يحتج بها الشيعة عليهم ، ويجادلوهم بها عند ربهم !
وتنص بعض روايات الغدير عندهم على أن آية إكمال الدين نزلت في الجحفة يوم الغدير بعد إبلاغ النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام .
لكن أن أكثر علماء السنيين مع أنهم صححوا أحاديث الغدير ، لم يقبلوا الأحاديث القائلة بأن آية إكمال الدين نزلت يوم الغدير ، وأخذوا بقول عمر ومعاوية ، أنها نزلت يوم عرفة ، كما سيأتي . . فحديث الغدير محل إجماع عندهم ، ونزول آية إكمال الدين فيه ، محل خلاف .
وقد جمع أحاديث بيعة الغدير عدد من علماء الشيعة القدماء والمتأخرين ، ومن أشهر المتأخرين : النقوي الهندي في كتابه عبقات الأنوار ، والشيخ الأميني في كتابه الغدير ، والسيد المرعشي في كتابه شرح إحقاق الحق ، والسيد الميلاني في كتابه نفحات الأزهار .
وقد أورد صاحب الغدير عدداً من روايات مصادر السنيين في أن آية إكمال الدين نزلت في يوم الغدير ، بعد إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام . . وهذه خلاصة ما ذكره في الغدير : 1 / 230 :
ومن الآيات النازلة يوم الغدير في أمير المؤمنين عليه السلام قوله تعالى :
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً . . ثم أورد رحمه الله عدداً من المصادر التي روتها ، نذكر منها :
--------------------------- 343 ---------------------------
1 - الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 روى في كتاب ( الولاية ) بإسناده عن زيد بن أرقم نزول الآية الكريمة يوم غدير خم في أمير المؤمنين عليه السلام . . .
2 - الحافظ ابن مردويه الأصفهاني المتوفى 410 ، روى من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري . . . ثم رواه عن أبي هريرة . . .
3 - الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430 ، روى في كتابه ( ما نزل من القرآن في علي ) . . . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى علي في غدير خم ، وأمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس فدعا علياً فأخذ بضبعيه فرفعهما ، حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله ، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم . . الآية . . . إلخ .
4 - الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي المتوفى 463 ، روى في تاريخه 8 / 290 . . . عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . . . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب : بخٍ بخ ٍيا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله : اليوم أكملت لكم دينكم . . الآية .
5 - الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477 ، في كتاب الولاية بإسناده عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي ، عن قيس بن الربيع ، عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري . . .
6 - أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى 483 ، روى في مناقبه عن أبي بكر أحمد بن محمد بن طاوان قال : أخبرنا أبو الحسين أحمد بن الحسين بن
--------------------------- 344 ---------------------------
السماك قال : حدثني أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير الخلدي ، حدثني علي بن سعيد بن قتيبة الرملي ، قال : . . عن أبي هريرة . . .
7 - الحافظ أبو القاسم الحاكم الحسكاني . . . عن أبي سعيد الخدري : إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم ، قال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي .
8 - الحافظ أبو القاسم بن عساكر الشافعي الدمشقي المتوفى 571 ، روى الحديث المذكور بطريق ابن مردويه ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، كما في الدر المنثور 2 / 259 .
9 - أخطب الخطباء الخوارزمي المتوفى 568 ، قال في المناقب / 80 . . . عن أبي سعيد الخدري إنه قال : إن النبي صلى الله عليه وآله يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس ثم دعا الناس إلى علي ، فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس إلى إبطيه ، حتى نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم . . الآية . . .
وروى في المناقب / 94 . . . عن ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر الوارق . . . إلى آخر ما مر عن الخطيب البغدادي سنداً ومتناً .
10 - أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصايص العلوية ، عن أبي سعيد الخدري بلفظ مر في / 43 ، وعن الخدري وجابر الأنصاري . . .
11 - أبو حامد سعد الدين الصالحاني ، قال شهاب الدين أحمد في توضيح الدلايل على ترجيح الفضايل : وبالإسناد المذكور عن مجاهد رضي الله عنه
--------------------------- 345 ---------------------------
قال : نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم ، بغدير خم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعلي . رواه الصالحاني .
12 - شيخ الإسلام الحمويني الحنفي المتوفى 722 ، روى في فرايد السمطين في الباب الثاني عشر ، قال : أنبأني الشيخ تاج الدين . . . إلخ . انتهى . - *
القول الثالث
قول عمر بأنها نزلت في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة ، وهذا هو القول المشهور عند السنيين ، فقد رواه البخاري في صحيحه : 1 / 16 :
عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ! !
قال : آية آية ؟
قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .
قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قائم بعرفة ، يوم جمعة .
وفي البخاري 5 / 127 :
عن طارق بن شهاب إن أناساً من اليهود قالوا : لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً .
--------------------------- 346 ---------------------------
فقال عمر : أيةُ آيةٍ ؟
فقالوا : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .
فقال عمر : إني لأعلم أي مكان أنزلت ، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة . . .
عن طارق بن شهاب : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية ، لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً !
فقال عمر : إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت . يوم عرفة وأنا والله بعرفة .
قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة ، أم لا . وروى نحوه في 8 / 137 .
وقد روت عامة مصادر السنيين رواية البخاري هذه ونحوها بطرق متعددة ، وأخذ بها أكثر علمائهم ، ولم يديروا بالاً لتشكيك سفيان الثوري والنسائي وغيرهما في أن يكون يوم عرفة في حجة الوداع يوم جمعة ! ولا لرواياتهم المؤيدة لرأي أهل البيت عليهم السلام ، التي تقدمت . .
وذلك بسبب أن الخليفة عمر قال إنها لم تنزل يوم الغدير ، بل نزلت في عرفات قبل الغدير بتسعة أيام ، وقول عمر مقدم عندهم على كل اعتبار .
قال السيوطي في الإتقان 1 / 75 ، عن الآيات التي نزلت في السفر :
منها : اليوم أكملت لكم دينكم . في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع ، وله طرقٌ كثيرة . لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت يوم غدير خم . وأخرج مثله من حديث
--------------------------- 347 ---------------------------
أبي هريرة وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع . وكلاهما لا يصح . انتهى .
وقال في الدر المنثور : 2 / 259 :
أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر بسند ضعيف ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم ، فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم .
وأخرج ابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة قال : لما كان غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فأنزل الله : اليوم أكملت لكم دينكم . انتهى .
وموقف السيوطي هو الموقف العام للعلماء السنيين . . ولكنه لا يعني أنهم يضعفون حديث الغدير ، فهم يقولون إنه صحيحٌ ، لكن يدعون أن الآية نزلت قبله ، تمسكاً بقول عمر الذي روته صحاحهم ، فهم يتمسكون بحديث عمر حتى لو خالفته أحاديث صحاح ، أو خالفه الحساب والتاريخ !
ومن المتعصبين لرأي عمر المذكور : ابن كثير ، وهذه خلاصة كلامه في تفسيره : 2 / 14 : قال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ . وقال ابن جرير وغير واحد : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً ، رواهما ابن جرير .
ثم ذكر ابن كثير رواية مسلم وأحمد والنسائي والترمذي المتقدمة وقال : قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا : اليوم أكملت لكم دينكم ، الآية .
--------------------------- 348 ---------------------------
وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورُّعٌ ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري رحمه الله ، فإن هذا أمر معلومٌ مقطوعٌ به ، لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة ، لا يشك في صحتها ، والله أعلم . وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر .
وقال ابن جرير . . . عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه ! !
فقال عمر : أي آيةٍ يا كعب ؟
فقال : اليوم أكملت لكم دينكم .
فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه ، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ . . .
وقال ابن جرير : . . . حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم ، حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة . . .
وقال ابن جرير : وقد قيل ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ! !
ثم روى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : اليوم أكملت لكم دينكم ، يقول ليس بيوم معلوم عند الناس . قال : وقد قيل إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ( إلى ) حجة الوداع .
--------------------------- 349 ---------------------------
ثم قال ابن كثير :
قلت : وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم ، حين قال لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه . ثم رواه عن أبي هريرة ، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع .
ولا يصح لا هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية ، أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب رضي الله عنه ، وأرسله الشعبي ، وقتادة بن دعامة ، وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله . انتهى . - *
وتلاحظ أن ابن كثير لا يريد الاعتراف بوجود تشكيكٍ في أن يوم عرفة كان يوم جمعة ، لأن ذلك يخالف قول عمر ، وقد صعب عليه تشكيك سفيان الثوري الصريح فالتفَّ عليه ليخربه معتذراً بأنه احتياط وتقوى من الثوري ! !
ومما يدل على أن الرواة كانوا في شكٍّ من أن يوم عرفات كان يوم جمعة ما رواه الطبري في تفسيره : 4 / 111 ، ولم يذكره ابن كثير ، قال :
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا عبد الوهاب قال : ثنا داود قال قلت لعامر : إن اليهود تقول : كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟ !
فقال عامر : أو ما حفظته ؟
قلت له : فأي يوم ؟
--------------------------- 350 ---------------------------
قال : يوم عرفة ، أنزل الله في يوم عرفة ! !
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ، أعني قوله : اليوم أكملت لكم دينكم يوم الاثنين ، وقالوا : أنزلت سورة المائدة بالمدينة .
ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى قال : ثنا إسحاق قال : أخبرنا محمد بن حرب قال : ثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش عن ابن عباس : ولد نبيكم صلى الله عليه وآله يوم الاثنين ، وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين : اليوم أكملت لكم دينكم ، ورفع الذكر يوم الاثنين .
ثم قال الطبري : وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده ووهي أسانيد غيره . انتهى . - *
الموقف العلمي في سبب نزول الآية
من حسن حظ الباحث هنا أن بإمكانه أن يفتش عني السبب الحقيقي لنزول الآية في أحاديث حجة الوداع ، لأن هذا الوداع الرسولي المهيب قد تم بإعلانٍ ربانيٍّ مسبق ، وإعدادٍ نبوي واسع . . وقد حضره ما بين سبعين ألفاً إلى مئة وعشرين ألفاً من المسلمين ، ورووا الكثير من أحداثه ، ومن أقوال النبي صلى الله عليه وآله وأفعاله فيها ، ورووا أنه خطب في أثنائها خمس خطب أو أكثر . . وسجلوا يوم حركة النبي من المدينة ، والأماكن التي مر بها أو توقف فيها ، ومتى دخل مكة ، ومتى وكيف أدى المناسك . .
--------------------------- 351 ---------------------------
ثم رووا حركة رجوعه وما صادفه فيها . . إلى أن دخل إلى المدينة المنورة ، وعاش فيها نحو شهرين هي بقية عمره الشريف صلى الله عليه وآله .
وعلى هذا ، فإن عنصر التوقيت والتاريخ الحاسم هو الذي يجب أن يكون مرجحاً للرأي الصحيح في المسألة من بين الرأيين المتعارضين .
وعنصر التوقيت هنا يرجح قول أهل البيت عليهم السلام والروايات السنية الموافقة لهم ، مضافاً إلى المرجحات الأخرى العلمية ، التي تنضم إليه كما يلي :
أولاً : أن التعارض هنا ليس بين حديثين أحدهما أصح سنداً وأكثر طرقاً ، كما توهم الطبري وغيره . . بل هو تعارض بين حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وبين قولٍ لعمر بن الخطاب .
فإن الأحاديث التي ضعفوها أحاديث نبوية مسندة ، بينما أحاديث البخاري وغيره ما هي إلا قول لعمر لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله !
فالباحث السني لا يكفيه أن يستدل بقول عمر في سبب نزول القرآن ، ويرد به الحديث النبوي المتضمن سبب النزول ، بل لا بد له أن يبحث في سند الحديث ونصه ، فإن صح عنده فعليه أن يأخذ به ويترك قول عمر . . وإن لم يصح رجع إلى أقوال الصحابة المتعارضة ، وجمع بين الموثوق منها إن أمكن الجمع ، وإلا رجح بعضها وأخذ به ، وترك الباقي . .
ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع الأسف !
- *
ثانياً : لو تنزلنا وقلنا إن أحاديث أهل البيت عليهم السلام في سبب نزول الآية والأحاديث السنية المؤيدة لها ليست أكثر من رأي لأهل البيت ومن
--------------------------- 352 ---------------------------
أيدهم في ذلك ، وأن التعارض يصير بين قولين لصحابيين في سبب النزول ، أو بين قول صحابي وقول بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام . . فنقول :
إن النبي صلى الله عليه وآله أوصى أمته بأخذ الدين من أهل بيته عليهم السلام ولم يوصها بأخذه من أصحابه . . وذلك في حديث الثقلين الصحيح المتواتر عند الجميع ، وهو كما في مسند أحمد : 3 / 14 : عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني تاركٌ فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض . انتهى . ورواه أيضاً في : 3 / 17 26 و 59 ، و 4 / 366 ، و 371 ، والدارمي : 2 / 431 ، ومسلم 7 / 122 ، والحاكم ، وصححه على شرط الشيخين وغيرهما في : 3 / 109 و 148 ، والبيهقي في سننه : 2 / 148 ، وغيرهم .
وهذا الحديث الصحيح بدرجة عالية يدل على حصر مصدر الدين بعد النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته صلى الله عليهم ، أو يدل على الأقل على ترجيح قولهم عند تعارضه مع قول غيرهم . . لذا يجب ترجيحه هنا . - *
ثالثاً : أن الرواية عن عمر نفسه متعارضة ، وتعارضها يوجب التوقف في الأخذ بها ، فقد رووا عنه أن يوم عرفة في حجة الوداع كان يوم خميس ، وليس يوم جمعة . قال النسائي في سننه : 5 / 251 :
أخبرنا إسحق بن إبراهيم قال : أنبأنا عبد الله بن إدريس ، عن أبيه ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : قال يهودي لعمر : لو علينا نزلت هذه الآية لاتخذناه عيداً : اليوم أكملت لكم دينكم .
--------------------------- 353 ---------------------------
قال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والليلة التي أنزلت ، ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات ! انتهى .
والطريف أن النسائي روى عن عمر في : 8 / 114 ، أنها نزلت في عرفات في يوم جمعة ! - *
رابعاً : تقدم قول البخاري في روايته أن سفيان الثوري ، وهو من أئمة الحديث والعقيدة عندهم ، لم يوافق على أن يوم عرفة كان يوم جمعة ( قال سفيان وأشك كان يوم الجمعة أم لا . . ) وهناك عددٌ من الروايات تؤيد شك سفيان ! بل يظهر أن سفياناً كان قاطعاً بأن يوم عرفة في حجة الوداع لم يكن يوم جمعة ، وإنما قال ( أشك ) مداراة لجماعة عمر ، الذين فرضوا سلطتهم ورتبوا كل روايات أحداث حجة الوداع ، بل وأحداث التاريخ الإسلامي كلها . . على أساس أن يوم عرفات كان يوم جمعة ، كما ستعرف ! - *
خامساً : أن عيد المسلمين هو يوم الأضحى ، وليس يوم عرفة ، ولم أجد روايةً تدل على أن يوم عرفة عيدٌ شرعي ، فالقول بذلك مما تفرد به عمر بن الخطاب ، ولم يوافقه عليه أحدٌ من المسلمين . فيجب أن يدخل عند السلفيين يدخل في باب البدعة !
أما إذا أخذنا برواية النسائي القائلة إن عرفة كان يوم خميس ، وأن الآية نزلت ليلة عرفة . . فلا يبقى عيد حتى يصطدم به العيد النازل من السماء ، ولا يحتاج الأمر إلى قانون إدغام الأعياد الإلهية المتصادمة ، كما ادعى عمر !
وعلى هذا يكون معنى جوابه أن يوم نزول آية إكمال الدين يستحق أن يكون عيداً ، ولكن آيته نزلت قبل العيد بيومين ، فلم نتخذ يومها عيدا !
وهو كلام متهافت !
--------------------------- 354 ---------------------------
سادساً : أن قول عمر يناقض ما رووه عنه نفسه بسند صحيح أيضاً . . فقد فهم هذا اليهودي من الآية أن الله تعالى قد أكمل تنزيل الإسلام وختمه في يوم نزول الآية ، وقبل عمر منه هذا التفسير . . فلا بد أن يكون نزولها بعد نزول جميع الفرائض ، فيصح على رأيه ما قاله أهل البيت عليهم السلام وما قاله السدي وابن عباس وغيرهما من أنه لم تنزل بعدها فريضةٌ ولا حكم .
مع أن عمر قال إن آية إكمال الدين نزلت قبل آيات الكلالة ، وأحكام الإرث ، وغيرها ، كما تقدم في بحث آخر ما نزل من القرآن ! فوجب على مذهبه أن يقول لليهودي : ليس معنى الآية كما ظننت ، بل كان بقي من الدين عدة أحكامٍ وشرائع نزلت بعدها ، وذلك اليوم هو الجدير بأن يكون عيداً ، وليس يوم نزول الآية !
وعندما تتناقض الروايات عن شخص واحد ، فلا بد من التوقف فيها جميعاً ، وتجميد كل روايات عمر في آخر ما نزل من القرآن ، وفي وقت نزول آية إكمال الدين ، لأنه اضطرب في المسألة أو اضطربت روايتها عنه !
ومن جهة أخرى ، فقد أقر عمر أن ( اليوم ) في الآية هو اليوم المعين الذي نزلت فيه ، وليس وقتاً مجملاً ولا يوماً مضى قبل سنين كفتح مكة ، أو يوم يأتي بعد شهور مثلاً . وهذا يستوجب رد قول الطبري الذي تعمد اختياره ليوافق عمر ، ويستوجب رد كل الروايات التي تريد تعويم كلمة ( اليوم ) في الآية ، أو تريد جعله يوم فتح مكة ، لتبرير رأي عمر .
قال القرطبي في تفسيره : 1 / 143 : وقد يطلق اليوم على الساعة منه قال الله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم ، وجمع يوم أيام ، وأصله أيوام فأدغم .
--------------------------- 355 ---------------------------
وقال في : 2 / 61 : واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه ، وكذلك عن الشهر ببعضه تقول : فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا ، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة ، وذلك مستعملٌ في لسان العرب والعجم . انتهى . - *
سابعاً : أن جواب عمر لليهودي غير مقنعٍ لا لليهودي ولا للمسلم ! لأنه إن كان يقصد الاعتذار بأن نزولها صادف يوم عيد ولذلك لم نتخذ يومها عيداً ، فيمكن لليهودي أن يجيبه : لماذا خرب عليكم ربكم هذا العيد وأنزله في ذلك اليوم ؟ !
وإن كان يقصد إدغام عيد إكمال الدين بعيد عرفة ، حتى صار جزءاً منه ، فمن حق سائل أن يسأل : هذا يعني أنكم جعلتم يوم نزولها نصف عيد ، مشتركاً مع عرفة . . فأين هذا العيد الذي لا يوجد له أثر عندكم ، إلا عند الشيعة ؟ !
وإن كان يقصد أن هذا اليوم الشريف والعيد العظيم ، قد صادف يوم جمعة ويوم عرفة ، فأدغم فيهما وذاب ، أو أكلاه واختفى ! فكيف أنزل الله تعالى هذا العيد على عيدين ، وهو يعلم أنهما سيأكلانه ؟ !
فهل تعمد الله تعالى تذويب هذا العيد ، أم نسي والعياذ بالله ، فأنزل عيداً في يوم عيد ، فتدارك المسلمون الأمر بقرار الدمج والإدغام ، أو التنصيف ! !
ثم من الذي اتخذ قرار الإدغام ؟ ومن الذي يحق له أن يدغم عيداً إلهياً في عيد آخر ، أو يطعم عيداً ربانياً لعيد آخر ؟ !
وما بال الأمة الإسلامية لم يكن عندها خبر من حادثة اصطدام الأعياد الربانية في عرفات ، حتى جاء هذا اليهودي في خلافة عمر ونبههم ! فأخبره
--------------------------- 356 ---------------------------
الخليفة عمر بأنه يوافقه على كل ما يقوله ، وأخبره وأخبر المسلمين بقصة تصادم الأعياد الإلهية في عرفات ، وأن الحكم الشرعي في هذا التصادم هو الإدغام لمصلحة العيد السابق ، أو إطعام العيد اللاحق للسابق ! وهل هذه الأحكام للأعياد أحكامٌ إسلامية ربانية ، أم أحكام عمرية استحسانية ، شبيهاً بقانون تصادم السيارات ، أو قانون تصادم الأعياد الوطنية والدينية ؟ ! !
إن المشكلة التي طرحها اليهودي ، ما زالت قائمة عند الخليفة وأتباعه ، لأن الخليفة لم يقدم لها حلاًّ . . وكل الذي قدمه أنه اعترف بها وأقرها ، ثم رتب عليها أحكاماً لا يمكن قبولها ، ولم يقل إنه سمعها من النبي صلى الله عليه وآله ! فقد اعترف ( خليفة المسلمين ) بأن يوم نزول الآية يوم عظيمٌ ومهمٌّ بالنسبة إلى المسلمين ، لأنه يوم مصيري وتاريخي أكمل الله فيه تنزيل الإسلام ، وأتمَّ فيه النعمة على أمته ، ورضيه لهم ديناً يدينونه به ، ويسيرون عليه ، ويدعون الأمم إليه . وأن هذا اليوم العظيم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة الإسلامية تحتفل فيه وتجتمع فيه ، في صف أعيادها الشرعية الثلاث : الفطر والأضحى والجمعة ، وأنه لو كان عند أمة أخرى يوم مثله ، لأعلنته عيداً ربانياً ، وكان من حقها ذلك شرعاً . .
لقد وافق الخليفة صاحه اليهودي على كل هذا ، وبذلك يكون عيد إكمال الدين في فقه إخواننا عيداً شرعياً سنوياً ، يضاف إلى عيدي الفطر والأضحى السنويين وعيد الجمعة الأسبوعي !
إن الناظر في المسألة يلمس أن عمر وقع في ورطة ( آية علي بن أبي طالب ) من ناحيتين : فهو من ناحية ناقض نفسه في آخر ما نزل من القرآن . . ومن ناحية فتح على نفسه المطالبة بعيد الآية إلى يوم القيامة ! !
--------------------------- 357 ---------------------------
وصار من حق المسلم أن يطالب الفقهاء أتباع عمر عن هذا العيد الذي لا يرى له عيناً ولا أثراً ، ولا إسماً ولا رسماً في تاريخ المسلمين ولا في حياتهم ، ولا في مصادرهم إلا . . عند الشيعة !
ثم . . ألا يتفقون معنا في أن الأعياد الإسلامية توقيفية ، فلا يجوز لأحد أن يشرع عيداً من نفسه . . ؟ ! !
إن حجة الشيعة في جعل يوم الغدير عيداً ، أن أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أن يوم الآية أي يوم الغدير عيدٌ شرعي ، وأن جبرئيل أخبره بأن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأمرون أممهم أن تتخذ يوم نصب الوصي عيداً ، وأمره أن يتخذه عيداً .
فما هي حجة عمر في تأييد كلام اليهودي ، وموافقته له بأن ذلك اليوم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة الإسلامية ! ثم أخذ يعتذر له بأن مصادفة نزولها في عيدين أوجبت عدم إفراد المسلمين ليومها بعيد . . . إلخ .
فإن كان حكم من عند نفسه بأن يوم الآية يستحق أن يكون عيداً ، فهو تشريع وبدعة ، وإن كان سمعه من النبي صلى الله عليه وآله ، فلماذا لم يذكره ولم يرو أحدٌ من المسلمين شيئاً عن عيد الآية ، إلا ما رواه الشيعة ؟ ! - *
ثامناً : لو كان يوم يوم عرفة يوم جمعة كما قال عمر في بعض أقواله ، لصلى النبي صلى الله عليه وآله بالمسلمين صلاة الجمعة ، مع أن أحداً لم يرو أنه صلى الجمعة في عرفات ، بل روى النسائي وغيره أنه قد صلى الظهر والعصر ! والظاهر أن النسائي يوافق سفيان الثوري ولا يوافق عمر ، فقد جعل في سننه : 1 / 290 عنواناً باسم ( الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ) وروى
--------------------------- 358 ---------------------------
فيه عن جابر بن عبد الله قال : سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس ، أمر بالقصواء فرحلت له ، حتى إذا انتهى إلى بطن الوادي خطب الناس ، ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً ! ! انتهى . وكذلك روى أبو داود في سننه : 1 / 429 قال :
عن ابن عمر قال : غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة ، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة ، وهي منزل الإمام الذي ينزل بعرفة ، حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً ، فجمع بين الظهر والعصر ، ثم خطب الناس ، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة . انتهى .
وأما الجواب بأن الجمعة تسقط في السفر ، فهو أمر مختلفٌ فيه عندهم ، ولو صح أن يوم عرفة كان يوم جمعة ولم يصل النبي صلى الله عليه وآله صلاة الجمعة ، لذكر ذلك مئات المسلمين الذين كانوا في حجة الوداع !
وقد تمحل ابن حزم في الجواب عن ذلك فقال في المحلى : 7 / 272 :
مسألة : وإن وافق الإمام يوم عرفة يوم جمعةٍ جهر وهي صلاة جمعة ! ويصلي الجمعة أيضاً بمنى وبمكة ، لأن النص لم يأت بالنهي عن ذلك ، وقال تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، فلم يخص الله تعالى بذلك غير يوم عرفة ومنى . وروينا . . . عن عطاء بن أبي رباح قال : إذا وافق يوم جمعة يوم عرفة ، جهر الإمام بالقراءة . . . فإن ذكروا خبراً رويناه . . . عن الحسن بن مسلم قال : وافق يوم التروية يوم الجمعة وحجة النبي عليه السلام فقال : من استطاع منكم أن يصلي الظهر
--------------------------- 359 ---------------------------
بمنى فليفعل ، فصلى الظهر بمنى ولم يخطب . . . فهذا خبرٌ موضوعٌ فيه كل بلية : إبراهيم بن أبي يحيى مذكور بالكذب متروك من الكل ، ثم هو مرسل ، وفيه عن ابن الزبير ، مع ابن أبي يحيى الحجاج بن أرطاة ، وهو ساقط ، ثم الكذب فيه ظاهر ، لأن يوم التروية في حجة النبي عليه السلام إنما كان يوم الخميس ، وكان يوم عرفة يوم الجمعة ، روينا ذلك من طريق البخاري . . .
فإن قيل : إن الآثار كلها إنما فيها جمع رسول الله عليه السلام بعرفة بين الظهر والعصر ؟
قلنا : نعم وصلاة الجمعة هي صلاة الظهر نفسها ! وليس في شيء من الآثار أنه عليه السلام لم يجهر فيها ، والجهر أيضاً ليس فرضاً ، وإنما في أن ظهر الجمعة في الحضر والسفر للجماعة ركعتان . انتهى .
وجوابنا لابن حزم : أنه مصادرة على المطلوب ، لأن حجته في رد الرواية مجرد مخالفتها لقول عمر بأن يوم عرفة لم يكن يوم جمعة ! فلماذا لم يرد قول عمر بقوله الثاني بأن عرفة كانت يوم خميس ، وروايته صحيحة ؟ أو بقول النسائي والثوري ، والأقوال العديدة التي ذكرها الطبري وغيره ؟
ولو صح ما قاله من أن النبي صلى الله عليه وآله اعتبر ركعتي الظهر في عرفة صلاة جمعة لأنه جهر فيهما ، لاشتهر بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله جهر في صلاة الظهر التي لا يجهر بها لتصبح ( أتوماتيكياً ) صلاة جمعة !
بل إن الرواية التي كذبها وهاجمها بسبب مخالفتها لرواية عمر تنص على أنه صلى الله عليه وآله صلى الجمعة في منى ، وهي أقرب إلى حساب سفره صلى الله عليه وآله من المدينة الذي كان يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة ، ووصوله إلى مكة يوم الخميس لأربع مضين من ذي الحجة ، وأن أول ذي
--------------------------- 360 ---------------------------
الحجة كان يوم الاثنين ، فيوم عرفة يوم الثلاثاء ، وعيد الأضحى الأربعاء ، ويوم الجمعة كان ثاني عشر ذي الحجة كما سيأتي . . فيكون قول الراوي إن الجمعة كانت في منى قولاً صحيحاً ، ولكنه اشتبه وحسبها قبل موقف عرفات ، مع أنها كانت بعده ! - *
تاسعاً : إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة ، تعارضه رواياتهم التي تقول إنه صلى الله عليه وآله عاش بعد نزول الآية إحدى وثمانين ليلةً أو ثمانين !
فقد ثبت عندهم أن وفاة النبي صلى الله عليه وآله في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ، ومن 9 ذي الحجة إلى 12 ربيع الأول أكثر من تسعين يوماً . . فلا بد لهم إما أن يأخذوا برواية وفاته قبل ذلك فيوافقونا على أنها في 28 من صفر ، أو يوافقونا على نزول الآية في يوم الغدير 18 ذي الحجة .
قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 259 :
وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : اليوم أكملت لكم دينكم . انتهى . وذكر نحوه في : 2 / 257 عن البيهقي في شعب الإيمان .
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير بهامش مجموع النووي : 7 / 3 :
وروى أبو عبيد ، عن حجاج ، عن ابن جريح أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق بعد نزول قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم إلا إحدى وثمانين ليلة . ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 12984 ، ورواه الطبري في تفسيره : 4 / 106 عن ابن جريح قال : حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثنا حجاج
--------------------------- 361 ---------------------------
عن ابن جريج قال : مكث النبي صلى الله عليه وآله بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : اليوم أكملت لكم دينكم .
وقال القرطبي في تفسيره : 20 / 223 :
وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزلت : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي . فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً . ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً ، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم . فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً . ثم نزل واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله فعاش بعدها أحدا وعشرين يوماً . وقال مقاتل سبعة أيام . وقيل غير هذا . انتهى .
ورواية ابن عمر تؤيد قول أبيه بنزول آية الكلالة بعد آية إكمال الدين ، ولكنه نسي آية الربا التي قال أبوه أيضاً إنها آخر آية ، كما خالف أباه من ناحية أخرى في أن آية إكمال الدين نزلت في عرفة ، وقال إنها نزلت بعد سورة النصر بمنى ، يعني بعد انتهاء حجة الوداع وسفر النبي صلى الله عليه وآله ، واقترب من القول بنزولها في الغدير ! !
فإن صح الحديث عن ابن عمر ، فقد رتق جانباً وفتق جوانب !
قال الأميني في الغدير : 1 / 230 :
الذي يساعده الاعتبار ويؤكده النقل الثابت في تفسير الرازي : 3 / 529 عن أصحاب الآثار : أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحدا وثمانين يوماً ، أو اثنين وثمانين ، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي : 3 / 523 ، وذكر المؤرخون منهم أن وفاته صلى
--------------------------- 362 ---------------------------
الله عليه وآله في الثاني عشر من ربيع الأول ، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين وثمانين يوماً ، بعد إخراج يومي الغدير والوفاة . .
وعلى أي حال فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة ، كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما لزيادة الأيام حينئذ . انتهى .
كما إن رواياتهم التي تنص على أن الآية نزلت يوم الاثنين تعارض قول عمر بأن يوم عرفات كان يوم جمعة . .
ففي دلائل البيهقي : 7 / 233 : عن ابن عباس قال :
ولد نبيكم صلى الله عليه وآله يوم الاثنين ، ونبئ يوم الاثنين ، وخرج من مكة يوم الاثنين ، وفتح مكة يوم الاثنين ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين : اليوم أكملت لكم دينكم وتوفي يوم الاثنين .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 196 :
رواه أحمد والطبراني في الكبير وزاد فيه : وفتح بدراً يوم الاثنين ، ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين : اليوم أكملت لكم دينكم ، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف ، وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح . انتهى .
وللحديث طرقٌ ليس فيها ابن لهيعة . . ولكن علته الحقيقية عندهم مخالفته لما قاله الخليفة عمر ، كما صرح به السيوطي وابن كثير ! فقد قال ابن كثير في سيرته : 1 / 198 : تفرد به أحمد ، ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة ، وزاد : نزلت سورة المائدة يوم الاثنين : اليوم أكملت لكم دينكم ، وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به ، وزاد أيضاً : وكانت وقعة بدر يوم الاثنين . وممن قال هذا يزيد بن حبيب . وهذا منكرٌ جداً ! ! قال ابن عساكر : والمحفوظ
--------------------------- 363 ---------------------------
أن بدراً ونزول : اليوم أكملت لكم دينكم يوم الجمعة ، وصدق ابن عساكر . انتهى .
وقد تقدم أن علة نكارته عند ابن كثير أنه مخالف لقول عمر ، وقول معاوية ! وقد كان ابن عساكر أكثر اتزاناً منه حيث لم يصف الخبر بالضعف أو النكارة ، بل قال إنه مخالف للمحفوظ ، أي المشهور عندهم ، وهو قول عمر . - *
وينبغي الإلفات إلى أن الإشكال عليهم بأحاديث نزول الآية في يوم الاثنين إنما هو إلزامٌ لهم بما التزموا به ، وإلا فنحن لا نقبل أنه صلى الله عليه وآله لم يبق بعد الآية إلا ثمانين يوماً ، لأن المعتمد عندنا أن الآية نزلت يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وأن وفاته صلى الله عليه وآله كانت في الثامن والعشرين من صفر ، فتكون الفاصلة بنحو سبعين يوماً .
وقد ثبت عندنا أن الآية نزلت يوم الخميس ، وفي رواية يوم الجمعة ، كما ثبت عندنا أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله كانت يوم الاثنين ، وأن علياً عليه السلام صلى معه يوم الثلاثاء ، وأن وفاته صلى الله عليه وآله كانت في يوم الاثنين أيضاً ، وقد تكون سورة المائدة نزلت يوم الاثنين أي أكثرها ، ثم نزلت بقيتها بعد ذلك ، ومنها آية التبليغ ، وآية إكمال الدين . - *
عاشراً : إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة ، تعارضه الروايات التي سجلت يوم حركة النبي صلى الله عليه وآله من المدينة ، وأنه كان يوم الخميس لأربعٍ بقين من ذي القعدة . وهو الرواية المشهورة عن أهل
--------------------------- 364 ---------------------------
البيت عليهم السلام ، وهي منسجمةٌ مع تاريخ نزول الآية في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة .
وذلك ، لأن سفر النبي صلى الله عليه وآله كان في يوم الخميس ، أي في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة ، لأربع بقين من ذي القعدة هي : الخميس والجمعة والسبت والأحد . . ويكون أول ذي الحجة يوم الاثنين ، ووصول النبي صلى الله عليه وآله إلى مكة عصر الخميس الرابع من ذي الحجة في سلخ الرابع ، كما في رواية الكافي : 4 / 245 ، ويكون يوم عرفة يوم الثلاثاء ، ويوم الغدير يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة .
وهذه نماذج من روايات أهل البيت عليهم السلام في ذلك :
ففي وسائل الشيعة : 9 / 318 :
محمد بن إدريس في ( آخر السرائر ) نقلاً من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله لأربعٍ بقين من ذي القعدة ، ودخل مكة لأربعٍ مضين من ذي الحجة ، دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين ، وخرج من أسفلها .
وفي الكافي : 4 / 245 :
عن أبي عبد الله عليه السلام قال : حج رسول الله صلى الله عليه وآله عشرين حجة . . . إن رسول الله صلى الله عليه وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ، ثم أنزل الله عز وجل عليه : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍّ عميق ، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله يحج في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب ، واجتمعوا لحج رسول الله صلى الله عليه وآله ،
--------------------------- 365 ---------------------------
وإنما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه ، أو يصنع شيئاً فيصنعونه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله في أربع بقين من ذي القعدة ، فلما انتهى إلى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل ، ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر ، وعزم بالحج مفرداً ، وخرج حتى انتهى إلى البيداء عند الميل الأول فصف له سماطان ، فلبى بالحج مفرداً ، وساق الهدي ستاً وستين أو أربعاً وستين ، حتى انتهى إلى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة فطاف بالبيت سبعة أشواط ، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام ، ثم عاد إلى الحجر فاستلمه . . .
وفي المسترشد / 119 :
العبدي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا الناس إلى علي عليه السلام بغدير خم ، وأمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس ، ثم دعا الناس ، وأخذ بضبعيه ورفعه حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه ، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي . انتهى . - *
ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام ما روته مصادر الفريقين من أن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يبدأ سفره إلا يوم الخميس ، أو قلما يبدأه في غيره كما في البخاري : 4 / 6 وسنن أبي داود 1 / 586 ، بل تنص رواية ابن سيد الناس في عيون الأثر : 2 / 341 على أن سفر النبي من المدينة كان يوم الخميس .
--------------------------- 366 ---------------------------
وروى في بحار الأنوار : 16 / 272 عن الكافي بسند مقبول عن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان النبي صلى الله عليه وآله إذا خرج في الصيف من البيت خرج يوم الخميس ، وإذا أراد أن يدخل في الشتاء من البرد ، دخل يوم الجمعة . انتهى .
ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام أيضاً ما رووه عن جابر بأن حركته صلى الله عليه وآله كانت لأربعٍ بقين من ذي القعدة ، كما يأتي من سيرة ابن كثير . بل يؤيده أيضاً ، أن البخاري وأكثر الصحاح رووا أن سفره صلى الله عليه وآله كان كان لخمسٍ بقين من ذي القعدة ، بدون تحديد يوم . راجع البخاري : 2 / 146 و 184 و 187 و 4 / 7 وفيه ( وقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة ) ، والنسائي : 1 / 154 و 208 و 5 / 121 ، ومسلم : 4 / 32 ، وابن ماجة : 2 / 993 ، والبيهقي : 5 / 33 ، وغيرها .
ويؤيده أيضاً أن مدة سيره صلى الله عليه وآله من المدينة إلى مكة لا تزيد على ثمانية أيامٍ ، وذلك بملاحظة الطريق الذي سلكه ، والذي هو في حدود 400 كيلومتراً ، وملاحظة سرعة السير ، حتى أن بعض الناس شكوا له تعب أرجلهم فعلمهم النبي صلى الله عليه وآله أن يشدوها ! وأن أحداً لم يرو توقفه في طريق مكة أبداً . وبملاحظة روايات رجوعه ووصوله إلى المدينة أيضاً ، مع أنه توقف طويلاً نسبياً في الغدير . . . إلخ .
ثم بملاحظة الروايات التي تتفق على أن وصوله إلى مكة كان في الرابع من ذي الحجة كما رأيت في روايات أهل البيت عليهم السلام ورواية البخاري الآنفة ! وبذلك تسقط رواية خروجه من المدينة لستٍّ بقين من ذي الحجة ، كما في عمدة القاري ، وإرشاد الساري ، وابن حزم ، وهامش السيرة الحلبية : 3 / 257 ، لأنها تستلزم أن تكون مدة السير إلى مكة عشرة أيام !
--------------------------- 367 ---------------------------
وبهذا يتضح حال القول المخالف لرواية أهل البيت عليهم السلام الذي اعتمد أصحابه رواية ( خمس بقين من ذي القعدة ) وحاولوا تطبيقها على يوم السبت ، ليجعلوا أول ذي الحجة الخميس ، ويجعلوا يوم عرفة يوم الجمعة تصديقا لقول عمر ، بل تراهم ملكيين أكثر من الملك ، لما تقدم عن عمر من أن يوم عرفة كان يوم الخميس . وممن قال برواية السبت ابن سعد في الطبقات : 2 / 124 ، والواقدي في المغازي : 2 / 1089 ، وكذا في هامش السيرة الحلبية : 3 / 3 ، والطبري : 3 / 148 ، وتاريخ الذهبي : 2 / 701 ، وغيرهم .
وعلى هذه الرواية يكون الباقي من شهر ذي القعدة خمسة أيام هي : السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ويكون أول ذي الحجة الخميس ، ويكون يوم عرفة يوم الجمعة ، وتكون مدة السير إلى مكة تسعة أيام ، إلا أن يكون الراوي تصور أن ذي القعدة كان تاماً ، فظهر ناقصاً .
وقد حاول ابن كثير الدفاع عن هذا القول ، فقال في سيرته : 4 / 217 :
وقال أحمد . . . عن أنس بن مالك الأنصاري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات ، ثم صلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين آمناً لا يخاف ، في حجة الوداع . تفرد به أحمد من هذين الوجهين ، وهما على شرط الصحيح . وهذا ينفي كون خروجه عليه السلام يوم الجمعة قطعاً .
ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم ، لأنه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة ، لأنه لا خلاف أن أول ذي الحجة كان يوم الخميس لما ثبت ( بالتواتر والإجماع ) من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة ، وهو تاسع ذي الحجة بلا نزاع .
--------------------------- 368 ---------------------------
فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة ، لبقي في الشهر ست ليال قطعاً : ليلة الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء . فهذه ست ليال . وقد قال ابن عباس وعائشة وجابر إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة وتعذر أنه يوم الجمعة لحديث أنس ، فتعين على هذا أنه عليه السلام خرج من المدينة يوم السبت ، وظن الراوي أن الشهر يكون تاماً فاتفق في تلك السنة نقصانه ، فانسلخ يوم الأربعاء واستهل شهر ذي الحجة ليلة الخميس . ويؤيده ما وقع في رواية جابر : لخمس بقين أو أربع .
وهذا التقريب على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه . والله أعلم . انتهى .
ويظهر من كلام ابن كثير عدم اطمئنانه بهذه التقديرات ، لأنه رأى تشكيك الخليفة عمر نفسه ، وتشكيك سفيان الثوري الذي رواه البخاري ، وتشكيك النسائي . وجزم ابن حزم بأن سفره صلى الله عليه وآله كان يوم الخميس .
ونلاحظ أنه استدل على أن خروج النبي صلى الله عليه وآله يوم الخميس بالمصادرة على المطلوب فقال ( لما ثبت بالتواتر والإجماع من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة ) ، فأي تواترٍ وإجماع يقصد ، وما زال في أول البحث ؟ !
كما أنه استدل على أن سفر النبي صلى الله عليه وآله لم يبدأ من المدينة يوم الجمعة برواية أنس أن النبي صلى الظهر والعصر ولم يصل الجمعة ، وهو استدلالٌ يؤيد قول أهل البيت عليهم السلام بأن بدء سفره كان الخميس لأربعٍ بقين من ذي القعدة ! وقد تقدمت الرواية عندنا أنه صلى الله عليه وآله صلى الظهر والعصر في ذي الحليفة .
--------------------------- 369 ---------------------------
ولو صحت رواية أنس بأنه صلى الظهر في مسجده في المدينة ، ثم صلى العصر في ذي الحليفة ، فلا ينافي ذلك أن يكون سفره الخميس ، بل يكون معناه أنه أحرم بعد العصر من ذي الحليفة ، وواصل سفره صلى الله عليه وآله . - *
والنتيجة : أن القول بنزول آية إكمال الدين في يوم عرفة ، يرد عليه إشكالاتٌ عديدةٌ ، سواء في منطقه ، أم في تاريخه وتوقيته . . وكلها تستوجب من الباحث المنصف أن يتركه ولا يأخذ به .
ويكون رأي أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم في سبب نزول الآية بدون معارض معتد به ، لأن المعارض الذي لا يستطيع النهوض للمعارضة كعدمه . . أما تمسككم بصحة سنده فالمتن الكسيح لا ينهضه السند الصحيح ! ! - *
وفي الختام : فإن المجمع عليه عند جميع المسلمين أن يوم نزول الآية عيدٌ إلهيٌّ عظيم ( عيد إكمال الدين وإتمام النعمة ) بل ورد عن أهل البيت عليهم السلام أنه أعظم الأعياد الإسلامية على الاطلاق ، ودليله المنطقي واضحٌ ، حيث ارتبط العيد الأسبوعي للمسلمين بصلاة الجمعة ، وارتبط عيد الفطر بعبادة الصوم ، وارتبط عيد الأضحى بعبادة الحج . .
أما هذا العيد ، فهو مرتبطٌ بإتمام الله تعالى نعمة الإسلام كله على الأمة ، وقد تحقق في رأي إخواننا السنة بتنزيل أحكام الدين وإكماله من دون تعيين آلية لقيادة مسيرته . .
وتحقق في رأينا بإكمال تنزيل الأحكام ، ونعمة الحل الإلهي لمشكلة القيادة ، وإرساء نظام الإمامة إلى يوم القيامة ، في عترة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله .
--------------------------- 370 ---------------------------
وما دام جميع المسلمين متفقون على أنه عيدٌ شرعي ، فلماذا يقبل علماء المسلمين ومفكروهم ورؤساؤهم أن تخسر الأمة أعظم أعيادها ، ولا يكون له ذكر في مناسبته ، ولا مراسم تناسب شرعيته وقداسته ؟ !
فهل يستجيب علماء إخواننا السنة إلى دعوتنا بالبحث في فقه هذا العيد المظلوم المغيب . . وإعادته إلى حياة كل المسلمين ، بالشكل الذي ينسجم مع عقائدهم وفقه مذاهبهم ؟ ! - *
--------------------------- 371 ---------------------------
الفصل السابع : تفسير آية سأل سائل بعذاب واقع
--------------------------- 372 ---------------------------
.
--------------------------- 373 ---------------------------
قال الله تعالى في مطلع سورة المعارج :
( سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج . . . ) إلى آخر السورة الكريمة التي هي 44 آية .
أحداث كانت وراءها قريش
نمهد لتفسير الآية بفهرسٍ لعدد من الأحداث الخطيرة في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله . . ثبت أن قريشاً كانت وراء بعضها ، وتوجد مؤشرات توجب الظن أو الاطمئنان بأنها كانت وراء الباقي !
الأولى : محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله في حنين . . وقد تقدم في البحث الخامس اعتراف بعض زعماء قريش بها !
الثانية : محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله في العقبة في طريق رجوعه من تبوك ، وقد كانت محاولةً متقنةً ، نفذتها مجموعةٌ منافقة بلغت نحو عشرين شخصاً ، حيث عرفوا أن النبي صلى الله عليه وآله سيمر ليلاً من طريق الجبل بينما يمر الجيش من طريق حول الجبل ، وكانت خطتهم أن يكمنوا فوق عقبة الجبل التي سيمر فيها الرسول صلى الله عليه وآله ، حتى إذا وصل إلى المضيق
--------------------------- 374 ---------------------------
ألقوا عليه ما استطاعوا من صخور لتنحدر بقوةٍ وتقتله ، ثم يفرون ويضيعون أنفسهم في جيش المسلمين ، ويبكون على الرسول ، ويأخذون خلافته !
وقد تركهم الله تعالى ينفذون خطتهم ، حتى إذا بدؤوا بدحرجة الصخور ، جاء جبرئيل وأضاء الجبل عليهم ، فرآهم النبي صلى الله عليه وآله وناداهم بأسمائهم ، وأراهم لمرافقيه المؤمنين : حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وأشهدهما عليهم ، فسارعوا ونزلوا من الجهة الثانية من الجبل ، وضيعوا أنفسهم في المسلمين ! !
أما لماذا يعاقبهم النبي ؟ أو يعلن أسماءهم ويوبخهم على الأقل ؟ !
فلا جواب إلا أنهم من قريش ، ومن المعروفين فيها . . وإعلان أسمائهم يعني معاقبتهم ، ومعاقبتهم تعني خطر ارتداد قريش عن الإسلام ، ويعني إمكان أن تقنع قريش بعض قبائل العرب بالارتداد معها ، بحجة أن محمداً أعطى كل شيء من بعده لبني هاشم ، ولم يعط لقريش والعرب شيئاً !
وهذا يعني السمعة السيئة للإسلام ، وأن نبيه صلى الله عليه وآله بعد أن آمن به أصحابه اختلف معهم على السلطة والملك ، وقاتلهم وقاتلوه !
ويعني الحاجة من جديد إلى بدرٍ ، وأحدٍ ، والخندق ، وفتح مكة !
ولن تكون نتائج هذه الدورة للإسلام أفضل من الدورة الأولى !
فالحل الإلهي هو : السكوت عنهم ما داموا يعلنون قبول الإسلام ، ونبوة الرسول صلى الله عليه وآله ، وينكرون فعلتهم ! !
ومن الملاحظ أن روايات مؤامرة العقبة ذكرت أسماء قرشية معروفة ، وقد ضعَّفها رواة قريش طبعاً ، لكن أكثرهم وثقوا الوليد بن جُمَيْع وغيره من
--------------------------- 375 ---------------------------
الرواة الذين نقلوا أسماء هؤلاء ( الصحابة ) المشاركين فيها ! كما أنهم رووا عن حذيفة وعمار رواياتٍ فاضحةٍ لبعض الصحابة الذين كانوا يسألونهما عن أنفسهم : هل رأياهم في الجبل ليلة العقبة ؟ ! ويحاولون أن يأخذوا منهما براءةً من النفاق والمشاركة في المؤامرة ! ورووا أنهم كانوا يعرفون الشخص أنه من المنافقين أم لا ، عندما يموت . . فإن صلى حذيفة على جنازته فهو مؤمن ، وإن لم يصل على جنازته فهو منافق .
ورووا أن حذيفة لم يصل على جنازة أي زعيمٍ من قريش مات في حياته ! !
- *
الثالثة : قصة سورة التحريم ، التي تنص على أن النبي صلى الله عليه وآله أسرَّ بحديثٍ خطيرٍ إلى بعض أزواجه ، وأكد عليها أن لا تقوله لأحد ، ولا بد أن الله تعالى أمره بذلك لِحِكَمٍ ومصالح يعلمها سبحانه . .
فخالفت ( أم المؤمنين ) حكم الله تعالى ، وخانت زوجها رسول الله صلى الله عليه وآله بإفشاء سره ، وعملت مع صاحبتها لمصلحة ( قريش ) ضد مصلحة زوجها الرسول ! !
وأطْلع الله تعالى نبيه على مؤامرتهما ، فأخبرهما بما فعلتا ، ونزل القرآن بكشف سرهما وسر من ورائهما ، وهددهما وضرب لهما مثلاً بامرأتي نوح ولوط ، اللتين خانتاهما ، فدخلتا النار ! !
أما رواة الخلافة القرشية فيقولون إن المسألة كانت عائلية محضة ! تتعلق بغيرة النساء من بعضهن ، وبعض الأخطاء الفنية الخفيفة لهن مع النبي صلى الله عليه وآله ! !
--------------------------- 376 ---------------------------
إنهم يريدونك أن تغمض عينيك عن آيات الله تعالى في سورة التحريم ، التي تتحدث عن خطرٍ عظيمٍ على الرسول صلى الله عليه وآله والرسالة ، وتحشد أعظم جيشٍ جرارٍ لمواجهة الموقف فتقول ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ، وإن تظاهرا عليه ، فإن الله هو مولاه ، وجبريل ، وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير ! ) .
فإلى مَن صغت قلوبهما ، ولمصلحة من تعاونتا ضد الرسول صلى الله عليه وآله ؟ ! وما هي القضية الشخصية التي تحتاج معالجتها إلى هذا الجيش الإلهي الجرار ، الذي لا يستنفره الله تعالى إلا لحالات الطوارئ القصوى ؟ !
ما ابن عباس الذي يصفونه بحبر الأمة ، فكان يقرأ الآية ( زاغت قلوبكما ) .
وبذلك تكون أما المؤمنين عائشة وحفصة احتاجتا إلى تجديد إسلامهما ! - *
الرابعة : حادثة هجر النبي صلى الله عليه وآله لنسائه شهراً ، وشيوع خبر طلاقه لهن . . وذهابه بعيداً عنهن وعن المسجد ، إلى بيت مارية القبطية الذي كان في طرف المدينة أو خارجها !
وعلى العادة ، صورت الروايات القرشية هذه الحادثة على أنها حادثةٌ شخصية . . شخصيةٌ بزعمهم وشغلت النبي صلى الله عليه وآله والوحي والمسلمين ! وادعوا أن سببها كثرة طلبات نسائه المعيشية منه صلى الله عليه وآله ، وأكدوا أنه لا ربط للحادثة أبداً بقضايا الإسلام المالئة للساحة السياسية آنذاك ، والشاغلة لزعماء قريش خاصة ! ! - *
--------------------------- 377 ---------------------------
الخامسة : تصعيد عمل قريش ضد علي بن أبي طالب عليه السلام لإسقاط شخصيته ، وغضب النبي صلى الله عليه وآله وشدته عليهم في دفاعه عن علي ، وتركيزه لشخصيته . . ولهذا الموضوع مفرداتٌ عديدة في حروب النبي وسلمه وسفره وحضره صلى الله عليه وآله . . لكن يلاحظ أنها كثرت في السنة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وآله وأنه غضب بسببها مراراً ، وخطب أكثر من مرة ، مبينا فضل علي عليه السلام ، وفسق من يؤذيه أو كفره !
ولو لم يكن من ذلك إلا قصة بريدة الأسلمي الكاسحة ، التي روتها مصادر السنيين بطرق عديدة ، وأسانيد صحيحة عالية ، وكشفت عن وجود شبكة عملٍ منظم ترسل الرسائل وتضع الخطط ضد علي عليه السلام ، وسجلت إدانة النبي صلى الله عليه وآله الغاضبة لهم ، وتصريحه بأن علياً وليكم من بعدي ، وأن كل من ينتقد علياً ولا يحبه فهو منافق ! وهي حادثةٌ تكفي دليلاً على ظلم زعماء قريش وحسدهم لعلي عليه السلام . . . إلخ ! - *
السادسة : منع تدوين سنة النبي صلى الله عليه وآله في حياته . . أما القرآن فقد كان عامة الناس يكتبونه من حين نزوله ، وكان النبي صلى الله عليه وآله يأمر بوضع ما ينزل منه جديداً بين منبره والحائط ، حيث كان يوجد ورق ودواة ، لمن يريد أن يكتب ما نزل جديداً منه . وكان النبي صلى الله عليه وآله يأمر علياً عليه السلام بكتابة القرآن وحديثه . وكان آخرون يكتبون حديث النبي صلى الله عليه وآله ، ومنهم شبانٌ قرشيون يعرفون الكتابة مثل عبد الله بن عمرو بن العاص . . وقد أحست قريش بأن ذلك يعني تدوين مقولات النبي صلى الله عليه وآله العظيمة في حق عترته وبني هاشم ، ومقولاته
--------------------------- 378 ---------------------------
في ذم عددٍ كبيرٍ من فراعنة قريش وشخصياتها . . فعملت على منع كتابة سنة النبي صلى الله عليه وآله في حياته ، في حين أن بعض زعمائها كان يكتب أحاديث اليهود ، ويحضر درسهم في كل سبت ! !
وقد وثقنا ذلك في كتاب تدوين القرآن .
وقد روت مصادر السنيين أن عبد الله بن عمرو شكى إلى النبي صلى الله عليه وآله أن ( قريشاً ) نهته عن كتابة حديثه ، لأن أحاديثه التي فيها غضبٌ عليها ليست حجة شرعاً ! قال أبو داود في سننه : 2 / 176 : ( عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيءٍ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أريد حفظه ، فنهتني قريش ( يعني عمر ) وقالوا : أتكتب كل شيء تسمعه ! ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا ! فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال : ( أكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق ) ! انتهى . ورواه أحمد في مسنده : 2 / 192 ، و 215 ، والحاكم في المستدرك : 1 / 105 و 3 / 528 ، وصححه . - *
السابعة : محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله في طريق عودته من حجة الوداع عند عقبة هرشى بعد نصبه علياً في غدير خم ، وقد كشف الوحي المؤامرة ، وكانت شبيهةً إلى حد كبيرٍ بمؤامرة اغتياله صلى الله عليه وآله في العقبة ، في طريق رجوعه من مؤتة !
الثامنة : تصعيد قريش انتقادها ومقاومتها لأعمال النبي صلى الله عليه وآله لتركيز مكانة عترته عليهم السلام وأسرته بني هاشم في الأمة ، واعتراض عددٍ منهم عليه بصراحةٍ ووقاحةٍ ، ومطالبتهم بأن يجعل الخلافة لقريش تدور في قبائلها ، أو يشرك مع علي غيره من قبائل قريش ! !
--------------------------- 379 ---------------------------
وقد رفض النبي صلى الله عليه وآله كل مطالبهم ، لأنه لا يملك شيئاً مع الله تعالى ، ولم يعط شيئاً من عنده حتى يمنعه ، وإنما هو عبدٌ ورسولٌ مبلغ صلى الله عليه وآله . وقد تقدم نص تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى / 167 :
( جاءه قوم من قريش فقالوا له : يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن الناس قريبو عهد بالإسلام ، لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب . فلو عدلت به إلى غيره لكان أولى . فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه علي . فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك ، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس إليه ، ليتم لك أمرك ، ولا يخالف الناس عليك ! ! ) . - *
التاسعة : أن النبي صلى الله عليه وآله عندما كان مريضاً شكل جيشاً بقيادة أسامة بن زيد ، وجعل تحت إمرته كل زعماء قريش غير بني هاشم ، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد ، وهو شاب عمره 18 سنة ، أسمر أمه أم أيمن الإفريقية ، وأمره أن يسير إلى مؤتة في الأردن لمحاربة الروم حيث استشهد أبوه في حملة جعفر بن أبي طالب . . وقد أراد النبي بذلك أن يرسخ قدرة الدولة الإسلامية ويأخذ بثأر شهداء مؤتة ، وفي نفس الوقت أراد أن يفرغ المدينة من المعارضين لعلي عليه السلام قبيل وفاته صلى الله عليه وآله .
فخرج أسامة بمن معه وعسكر خارج المدينة ، ولكن زعماء قريش أحبطوا خطة النبي صلى الله عليه وآله بتثاقلهم عن الانضمام إلى جيش أسامة ، وتأخيرهم من استطاعوا عنه ، ثم طعنوا في تأمير النبي صلى الله عليه وآله
--------------------------- 380 ---------------------------
لأسامة الإفريقي الشاب بحجة صغر سنه ، وواصلوا تسويفهم للوقت ، فكانوا يذهبون إلى معسكر أسامة عند ضغط النبي عليهم ، ثم يرجعون إلى المدينة ! حتى صعد النبي صلى الله عليه وآله المنبر وشدد على إنفاذ جيش أسامة ، وأبلغ المسلمين صدور اللعنة من ربه عز وجل ومن رسوله على كل من تخلف عن جيش أسامة ! ! - *
العاشرة : تصعيد قريش فعاليتها ضد النبي صلى الله عليه وآله ، وقرارها الخطير بمواجهته صلى الله عليه وآله مباشرة إذا أراد أن يستخلف علياً وأهل بيته عليهم السلام ، رسمياً !
وبالفعل قام زعيم قريش الجديد عمر بن الخطاب بمهمة أقسى مواجهة لأمة مع نبيها ! وذلك عندما جمع النبي صلى الله عليه وآله زعماء قريش والأنصار في مرض وفاته ، وأخبرهم أنه قرر أن يكتب لأمته كتاباً لن تضل بعده أبداً ، فعرفوا أنه يريد أن يثبت ولاية علي وأهل بيته عليهم السلام على الأمة بصورة رسمية مكتوبة ، فواجهه عمر بصراحة ووقاحة : لا نريد كتابك وأمانك من الضلال ، ولا سنتك ولا عترتك ، وحسبنا كتاب الله . . وحتى تفسيره من حقنا نحن لا من حقك ، وحق عترتك ! !
وأيده القرشيون الحاضرون ومن أثَّروا عليهم من الأنصار ، وصاحوا في وجه نبيهم صلى الله عليه وآله : القول ما قاله عمر . . القول ما قاله عمر ! !
وانقسم الحتشدون في بيت نبيهم في آخر أيامه ، وتشادوا بالكلام فوق رأسه صلى الله عليه وآله ، منهم من يقول قربوا له قلماً وقرطاساً يكتب لكم
--------------------------- 381 ---------------------------
أماناً من الضلال . وأكثرهم يصيح : القول ما قاله عمر ، لا تقربوا له شيئاً ، ولا تَدَعُوهُ يكتب ! !
ويظهر أن جبرئيل حينذاك كان عند النبي صلى الله عليه وآله فقد كثر نزوله عليه في الأيام الأخيرة ، فأخبره أن الحجة قد تمت ، وأن الإصرار على الكتاب يعني دفع قريش نحو الردة ، والحل هو الاعراض عنهم وإكمال تبليغهم بطردهم ! !
فطردهم النبي صلى الله عليه وآله وقال لهم : قوموا فما ينبغي عند نبي تنازع ! قوموا ، فما أنا فيه خير مما تدعوني إليه . . . ! !
وهذا الحديث ( إيتوني بدواةٍ وقرطاسٍ ) حديث معروفٌ ، رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه ! وروى أن ابن عباس سمى تلك الحادثة ( رزية يوم الخميس ) ! - *
الحادية عشرة : أصيب النبي صلى الله عليه وآله بحمى شديدة في مرضه ، وكان يغشى عليه لدقائق من شدة الحمى ويفيق . . فأحس بأن بعض من حوله أرادوا أن يسقوه دواء عندما أغمي عليه ، فأفاق ونهاهم ، وشدد عليهم النهي بأن لا يسقوه أي دواء إذا أغمي عليه . . ولكنهم اغتنموا فرصة الأغماء عليه بعد ذلك ، وصبوا في فمه دواء فرفضه ، فسقوه إياه بالقوة ! !
فأفاق النبي صلى الله عليه وآله ، ووبخهم على عملهم ! وأمر كل من كان حاضراً أن يشرب من ذلك الدواء ، ما عدا بني هاشم ! !
ورووا أن الجميع غير بني هاشم شربوا من ( ذلك ) الدواء ! !
--------------------------- 382 ---------------------------
هذه الحادثة المعروفة في السيرة بحادثة ( لَدّ النبي ) صلى الله عليه وآله ينبغي أن تعطى حقها من البحث والتحقيق ، فربما كانت محاولةً لقتل النبي صلى الله عليه وآله بالسم ! !
إن كل واحدة من هذه الحوادث تصلح أن تكون موضوعاً لرسالة دكتوراه . . ولكنا أردنا منها التمهيد لتفسير آية ( سأل سائل ) في مطلع سورة المعارج . .
وإذا أردت أن تعرف الأبطال الحقيقيين لهذه الحوادث ، والأدمغة المخططة لها . . فابحث عن قريش ! وإذا أردت أن تفهم أكثر وتتعمق أكثر ، فابحث . . عن علاقة قريش باليهود ! !
أليس من حق الباحث أن يعجب من ذلك ، ويفهم كيف عصم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله من أن ترتد قريش في حياته ، وتعلن كفرها بنبوته ! ولكنه لم يعصمه من أذاها ومؤامراتها . . فذلك هو طريق الأنبياء عليهم السلام وتكاليفه . . لا تغيير فيها !
استنفار قريش بعد الغدير
تحركت قافلة النبوة والإمامة من غدير خمٍ نحو المدينة . . وسكن قلب النبي صلى الله عليه وآله واطمأن . . ولكن قريشاً لم تسكن ، بل صارت في حالة غليان من الغيظ !
هكذا تقول الأحاديث ، ومنطق الأحداث . . فقريش لا تسكت حتى ترى العذاب الأليم ! وقد قال لهم الصادق الأمين الذي لا ينطق إلا وحياً صلى الله عليه وآله : ( لا أراكم منتهين يا معشر قريش ) ! !
إن آية العصمة من الناس كما قدمنا ، لا تعني أن الله تعالى جعل الطريق أمام رسوله صلى الله عليه وآله ناعماً كالحرير ، ولا أنه جعل له قريشاً فرساً ريِّضاً
--------------------------- 383 ---------------------------
طائعاً . . نعم ، إن قدرته تعالى لا يمتنع منها شيء . . ولكنه أراد للأمور أن تجري بأسبابها ، وللأمة أن تجري عليها سنن الأمم الماضية ، فتمتحن بإطاعة نبيها من بعده ، أو معصيته . . وهذا يستوجب أن تبقى لها القدرة على معصيته . . أما على الردة في حياته وفي وجهه . . فلا .
إن قدرتها تصل إلى حد قولها لنبيها صلى الله عليه وآله : لا نريد وصيتك ولا سنتك ولا عترتك ، حسبنا كتاب الله ! ! لكن ما بعد ذلك خطٌّ أحمر . . هكذا أراد الله تعالى ! !
لقد تحققت عصمة النبي صلى الله عليه وآله من قريش في منعطفات كثيرة في حجة الوداع . . في مكة ، وعرفات ، وفي ثلاث خطب في منى ، خاصةً خطبة مسجد الخيف . . وما تنفست قريش الصعداء إلا برحيل النبي من مكة بعد حجة الوداع دون أن يطالبها بالبيعة لعلي !
ولكن الله تعالى لم يكتف بذلك ، حتى أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يوقف المسلمين في طريق عودتهم في حر الظهيرة ، في صحراء ليس فيها كلأ لخيولهم وجمالهم ، ولا سوق ليشتروا منه علوفة وطعاماً ، إلا دوحةٌ من بضع أشجار على قليل من ماء ، وذلك بعد مسير ثلاثة أيام . . فلم يصبر عليهم حتى يصلوا إلى مدينة الجحفة التي لم يبق عنها إلا ميلان أو أقل ، بل كان أول القافلة وصل إلى مشارفها . . فبعث إليهم النبي وأرجعهم إلى صحراء الغدير !
كل ذلك لكي يصعد الرسول صلى الله عليه وآله المنبر في غير وقت صلاة ويرفع بيد ابن عمه وصهره علي عليه السلام ويقول لهم : هذا وليكم من بعدي ، ثم من بعده ولداه الحسن والحسين ، ثم تسعة من ذرية الحسين عليهم السلام .
--------------------------- 384 ---------------------------
هنا تجلت آية العصمة من الناس مجسمةً للعيان . . فقد كمَّمَ الله تعالى أفواه قريش عن المعارضة ، وفتح أفواههم للموافقة ، فقالوا جميعاً : نشهد أنك بلغت عن ربك . . وأنك نعم الرسول . . سمعنا وأطعنا . . وتهافتوا مع المهنئين إلى خيمة علي . . وكبروا مع المكبرين عندما نزلت آية ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) !
ثم أصغوا جميعاً إلى قصيدة حسان بن ثابت في وصف نداء النبي صلى الله عليه وآله ، وإبلاغه عن ربه ولاية علي عليه السلام من بعده .
واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر إلى ما شاء الله . . وبعد صلاة المغرب والعشاء تتابع المهنئون لعلي على ضوء القمر ليلة التاسع عشر من ذي الحجة . . فقد بات النبي صلى الله عليه وآله في غدير الإمامة ، وتحرك إلى المدينة بعد صلاة فجره . . وقيل بقي فيه يومان !
أما كيف سلب الله تعالى قريشاً القدرة على تخريب مراسم الغدير . . وكيف كف ألسنتها . . وهي السليطةُ بالاعتراض . . الجريئةُ على الأنبياء ؟ ! وكيف جعلها تفكر بأن تمرر هذا اليوم لمحمد صلى الله عليه وآله كي يفعل لبني هاشم وعليٍّ ما يشاء ؟ !
ذلك من عمله عز وجل ، وقدرته المطلقة . . المطلقة !
وما نراه من الظاهر هو الأسلوب الأول الذي عصم الله به رسوله من ارتداد قريش ، ولا بد أن ما خفي عنا من ألطافه تعالى أعظم .
أما الأسلوب الثاني فكان لغة العذاب السماوي ، التي لا تفهم قريش غيرها كما لم يفهم غيرها اليهود في زمان أنبيائهم ! !
--------------------------- 385 ---------------------------
أحجار من السماء للناطقين باسم قريش
وردت في أحاديث السنة والشيعة أسماءٌ عديدةٌ لأشخاص اعترضوا على إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام في غدير خم . ويفهم منها أن عدداً منها تصحيفات لاسم شخص واحد ، ولكن عدداً آخر لا يمكن أن يكون تصحيفاً ، بل يدل على تعدد الحادثة ، خاصة أن العقاب السماوي في بعضها مختلف عن الآخر . . وهم :
جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري . .
والحارث بن النعمان الفهري . .
والحرث بن النعمان الفهري . .
وعمرو بن عتبة المخزومي . .
والنضر بن الحارث الفهري . .
والحارث بن عمرو الفهري . .
والنعمان بن الحارث اليهودي . .
والنعمان بن المنذر الفهري . .
وعمرو بن الحارث الفهري . .
ورجل من بني تيم . . ورجل أعرابي . . ورجل أعرابي من أهل نجد من ولد جعفر بن كلاب بن ربيعة .
وكل هؤلاء قرشيون إلا الربيعي واليهودي ، إذا صحت روايتهما !
وليس فيهم أنصاري واحد ، إذ لم يعهد من الأنصار اعتراضٌ على الامتيازات التي أعطاها الله تعالى لعترة النب في حياته صلى الله عليه وآله ! وإن تخاذلوا وخذلوهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ولم يفوا له فيهم .
--------------------------- 386 ---------------------------
وخلاصة الحادثة : أن أحد هؤلاء الأشخاص - أو أكثر من واحد - اعترض على النبي صلى الله عليه وآله واتهمه بأن إعلانه علياً عليه السلام ولياً على الأمة ، كان عملاً من عنده وليس بأمر الله تعالى ! ولم يقتنع بتأكيد النبي صلى الله عليه وآله له ، بأنه ما فعل ذلك إلا بأمر ربه !
وذهب المعترض من عند النبي صلى الله عليه وآله غاضباً وهو يدعو الله تعالى أن يمطر الله عليه حجارة من السماء إن كان هذا الأمر من عنده . . فرماه الله بحجرٍ من سجيلٍ فأهلكه ! أو أنزل عليه ناراً من السماء فأحرقته !
وهذه الحادثة تعني أن الله تعالى استعمل التخويف مع قريش أيضاً ، ليعصم رسوله صلى الله عليه وآله من تكاليف حركة الردة التي قد تُقْدِم عليها . . وبذلك تعزز عند زعماء قريش الاتجاه القائل بفشل المواجهة العسكرية مع النبي صلى الله عليه وآله ، وضرورة الصبر حتى يتوفاه الله تعالى !
- *
مسائل وبحوث في الآية
وفي هذا الحديث النبوي ، والحادثة الربانية ، مسائل وبحوث ، أهمها :
المسألة الأولى : في أن مصادر السنيين روت هذا الحديث
لم تختص بروايته مصادرنا الشيعية بل روته مصادر السنيين أيضاً ، وأقدم من رواه من أئمتهم : أبو عبيد الهروي في كتابه : غريب القرآن .
قال في مناقب آل أبي طالب 2 / 240 :
أبو عبيد ، والثعلبي ، والنقاش ، وسفيان بن عينيه ، والرازي ، والقزويني ، والنيسابوري ، والطبرسي ، والطوسي في تفاسيرهم ، أنه لما بَلَّغَ رسول صلى
--------------------------- 387 ---------------------------
الله عليه وآله بغدير خم ما بَلَّغ ، وشاع ذلك في البلاد ، أتى الحارث بن النعمان الفهري ، وفي رواية أبي عبيد : جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال : يا محمد ! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وبالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، فقبلنا منك ، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شيء منك أم من الله ؟ !
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله .
فولى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر ، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع . . الآية . انتهى .
وقد أحصى علماؤنا ، كصاحب العبقات ، وصاحب الغدير ، وصاحب إحقاق الحق ، وصاحب نفحات الأزهار ، وغيرهم . . عدداً من أئمة السنيين وعلمائهم الذين أوردوا هذا الحديث في مصنفاتهم ، فزادت على الثلاثين . . نذكر منهم اثني عشر :
1 - الحافظ أبو عبيد الهروي المتوفى 223 ، في تفسيره ( غريب القرآن ) .
2 - أبو بكر النقاش الموصلي البغدادي المتوفى 351 ، في تفسيره .
3 - أبو إسحاق الثعلبي المتوفى 427 ، في تفسيره ( الكشف والبيان ) .
4 - الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب ( أداء حق الموالاة ) .
5 - أبو بكر يحيى القرطبي المتوفى 567 ، في تفسيره .
6 - أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى 654 في تذكرته .
--------------------------- 388 ---------------------------
7 - شيخ الإسلام الحمويني المتوفى 722 ، روى في فرائد السمطين في الباب الثالث عشر قال :
أخبرني الشيخ عماد الدين الحافظ بن بدران بمدينة نابلس ، فيما أجاز لي أن أرويه عنه إجازة ، عن القاضي جمال الدين عبد القاسم بن عبد الصمد الأنصاري إجازة ، عن عبد الجبار بن محمد الحواري البيهقي إجازة ، عن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي قال : قرأت على شيخنا الأستاذ أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره : أن سفيان بن عيينة سئل عن قوله عز وجل : سأل سائل بعذاب واقع ، فيمن نزلت فقال . . .
8 - أبو السعود العمادي المتوفى 982 ، قال في تفسيره 8 / 292 :
قيل هو الحرث بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله عليه السلام في علي رضي الله عنه : من كنت مولاه فعلي مولاه ، قال . . .
9 - شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى 977 ، قال : في تفسيره السراج المنير : 4 / 364 : اختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس : هو النضر بن الحرث ، وقيل : هو الحرث بن النعمان . . .
10 - الشيخ برهان الدين علي الحلبي الشافعي المتوفى 1044 ، روى في السيرة الحلبية : 3 / 302 ، وقال : لما شاع قوله صلى الله عليه وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه في ساير الأمصار وطار في جميع الأقطار ، بلغ الحرث بن النعمان الفهري . . . إلى آخر لفظ سبط ابن الجوزي .
11 - شمس الدين الحفني الشافعي المتوفى 1181 ، قال في شرح الجامع الصغير للسيوطي : 2 / 387 ، في شرح قوله صلى الله عليه وآله : من كنت مولاه فعلي مولاه .
--------------------------- 389 ---------------------------
12 - أبو عبد الله الزرقاني المالكي المتوفى 1122 ، في شرح المواهب اللدنية / 13 . انتهى .
وسيأتي ذكر بقية مصادر الحديث في بحث أسانيده .
المسألة الثانية : هل أن سورة المعارج مكية أو مدنية
يلاحظ القارئ أن الجو العام للسورة الشريفة إلى آية 36 ، أقرب إلى جو السور المدنية وتشريعات سورة النور والمؤمنين ، وأن جو الآيات 36 إلى آخر السورة أقرب إلى جو السور المكية ، التي تؤكد على مسائل العقيدة والآخرة .
ولهذا لا يمكن معرفة مكان نزول السورة من آياتها ، حسب ما ذكروه من خصائص للسور المكية والمدنية ، وضوابط للتمييز بينها . . على أن هذه الخصائص والضوابط غير دقيقة ولا علمية ! وإذا صح لنا أن نقبل بها ، فلا بد أن نقول إن القسم الأخير من السورة من قوله تعالى ( فما للذين كفروا قبلك مهطعين ) إلى آخرها ، نزلت أولاً في مكة ، ثم نزل القسم الأول منها في المدينة ، ووضع في أولها ! ! ولكن ذلك ليس أكثر من ظن ! والطريق الصحيح لتعيين مكيتها أو مدنيتها هو النص ، والنص هنا متعارضٌ سواءً في مصادرنا أو مصادر السنيين ، ولكن المفسرين السنيين رجحوا مكيتها وعدوها في المكي . ولا يبعد أن ذلك هو المرجح حسب نصوص مصادرنا أيضاً . فقد روى القاضي النعمان في شرح الأخبار 1 / 241 :
عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : نزلت والله بمكة للكافرين بولاية علي عليه السلام . انتهى . والظاهر أن مقصوده عليه السلام : أنها نزلت في مكة وكان مقدراً أن يأتي تأويلها في المدينة عند اعتراضهم على إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام .
--------------------------- 390 ---------------------------
وقال الكليني في الكافي 5 / 450 :
قال : سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمد بن النعمان صاحب الطاق ، فقال له : يا أبا جعفر ما تقول في المتعة ، أتزعم أنها حلال ؟ قال : نعم . قال : فما يمنعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ويكتسبن عليك ؟
فقال له أبو جعفر : ليس كل الصناعات يرغب فيها ، وإن كانت حلالاً ، وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم .
ولكن ما تقول يا أبا حنيفة في النبيذ ، أتزعم أنه حلال ؟ فقال : نعم .
قال : فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نباذات فيكتسبن عليك ؟
فقال أبو حنيفة : واحدةٌ بواحدة ، وسهمك أنفذ ! !
ثم قال له : يا أبا جعفر إن الآية التي في سأل سائل ، تنطق بتحريم المتعة والرواية عن النبي صلى الله عليه وآله قد جاءت بنسخها ؟
فقال له أبو جعفر : يا أبا حنيفة إن سورة سأل سائل مكية ، وآية المتعة مدنية ، وروايتك شاذة ردية .
فقال له أبو حنيفة : وآية الميراث أيضاً تنطق بنسخ المتعة ؟
فقال أبو جعفر : قد ثبت النكاح بغير ميراث .
قال أبو حنيفة : من أين قلت ذاك ؟
فقال أبو جعفر : لو أن رجلاً من المسلمين تزوج امرأة من أهل الكتاب ، ثم توفي عنها ما تقول فيها ؟ قال : لا ترث منه .
قال : فقد ثبت النكاح بغير ميراث . ثم افترقا . انتهى .
وقول أبي حنيفة إن سورة سأل سائل تنطق بتحريم المتعة ، يقصد به قوله تعالى في السورة ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما
--------------------------- 391 ---------------------------
ملكت أيمانهم ) . فأجابه مؤمن الطاق بأن السورة مكية وآية ( فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهن ) مدنية ، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر ؟
ولكن الجواب الأصح : أن المتمتع بها زوجةٌ شرعية ، فهي مشمولة لقوله تعالى ( إلا على أزواجهم ) وقد أفتى عدد من علماء السنيين بأنه يجوز للرجل أن يتزوج امرأة حتى لو كان ناوياً أن يطلقها غداً ، وهو نفس المتعة التي يشنعون بها علينا . بل أفتى أبو حنيفة نفسه بأن الرجل لو استأجر امرأة لخدمته وكنْس منزله وغسل ثيابه ، فقد جاز له مقاربتها بدون عقد زواج ، لا دائمٍ ولا منقطع ! ! بحجة أن عقد الإجارة يشمل ذلك !
وهذا أوسع من المتعة التي يقول بها الفقه الشيعي ، لأن عقد الزواج شرطٌ فيها ، وإلا كانت زنا .
وغرضنا أن المرجح أن تكون سورة المعارج مكية ، ولكن ذلك لا يؤثر على صحة الحديث القائل بأن العذاب الواقع هو العذاب النازل على المعترض على النبي صلى الله عليه وآله عندما أعلن ولاية علي عليه السلام ، لأن ذلك يكون تأويلاً لها ، وإخباراً من جبرئيل عليه السلام بأن هذه الحادثة هي من العذاب الواقع الموعود .
فقد تقدمت رواية شرح الأخبار في ذلك ، وستأتي منه رواية فيها ( فأصابته الصاعقة فأحرقته النار ، فهبط جبرئيل وهو يقول : إقرأ يا محمد : سأل سائلٌ بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ) . وهي كالنص في أن جبرئيل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وآله بتطبيق الآية أو تأويلها .
--------------------------- 392 ---------------------------
بل يظهر من أحاديثنا أن ما حل بالعبدري والفهري ما هو إلا جزءٌ صغيرٌ من ( العذاب الواقع ) الموعود ، وأن أكثره سينزل تمهيداً لظهور الإمام المهدي عليه السلام أو نصرةً له . .
وقد أوردنا في معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام : 5 / 458 ، عدة أحاديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام في تفسير العذاب الواقع بأحداثٍ تكون عند ظهور الإمام المهدي عليه السلام . . منها ما رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره : 2 / 385 قال :
سأل سائلٌ بعذاب واقع ، قال : سئل أبو جعفر عليه السلام عن معنى هذا ، فقال : نارٌ تخرج من المغرب ، وملكٌ يسوقها من خلفها حتى تأتي دار بني سعد بن همام عند مسجدهم ، فلا تدع داراً لبني أمية إلا أحرقتها وأهلها ، ولا تدع داراً فيها وتر لآل محمد إلا أحرقتها ، وذلك المهدي عليه السلام .
ومنها ما رواه النعماني في كتاب الغيبة / 272 قال :
حدثنا محمد بن همام قال : حدثنا جعفر بن محمد بن مالك قال : حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن الحسن بن علي ، عن صالح بن سهل ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام في قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع ، قال : تأويلها فيما يأتي عذابٌ يقع في الثوية يعني ناراً حتى تنتهي إلى الكناسة كناسة بني أسد ، حتى تمر بثقيف لا تدع وتراً لآل محمد إلا أحرقته ، وذلك قبل خروج القائم عليه السلام . انتهى .
والأمكنة التي ذكرتها الروايتان ، من أمكنة الكوفة التي ثبت أن الإمام المهدي عليه السلام سيتخذها عاصمةً له .
--------------------------- 393 ---------------------------
وقول الإمام الصادق عليه السلام ( تأويلها فيما يأتي ) يدل على أن مذهب أهل البيت عليهم السلام أن العذاب الواقع في الآية وعيدٌ إلهيٌّ مفتوحٌ منه ما وقع فيما مضى على المشركين والمنافقين ، ومنه ما يقع فيما يأتي على بقيتهم . . وهو المناسب لإطلاق التهديد في الآية ، ولسنة الله تعالى وانتصاره لدينه وأوليائه .
المسألة الثالثة : هل العذاب في سورة المعارج دنيوي أم أخروي
المتأمل في السورة نفسها بقطع النظر عن الأحاديث والتفاسير . . يلاحظ في النظرة الأولى أن موضوعها ومحور كل آياتها هو العذاب الأخروي وليس الدنيوي . كما أن آياتها لا تنص على ذم السائل لأنه سأل عن ذلك العذاب ، فقد يكون مجرد مستفهمٍ لا ذنب له ، وقد يكون السائل بالعذاب هنا بمعنى الداعي به ، وقد رأيت أن القرطبي ذكر قولاً بأن السائل بالعذاب نبي الله نوح عليه السلام ، وقولاً آخر بأنه نبينا صلى الله عليه وآله !
ولذلك يرد في الذهن سؤال : من أين أطبق المفسرون الشيعة والسنة على أنها تشمل العذاب الدنيوي وأن ذلك السائل بالعذاب سأل متحدياً ومكذباً ؟ !
والجواب : أن سر ذلك يكمن في ( باء ) العذاب ، وأن ( سأل به ) تعني التساؤل عن الشيء المدعي وطلبه ، استنكاراً وتحدياً ! فكلمة ( سأل به ) تدل على أن السائل سمع بهذا العذاب ، لأن النبي صلى الله عليه وآله كان ينذرهم بالعذاب الدنيوي والأخروي معاً . . فتساءل عنه ، وأنكره ، وتحدى أن يقع !
وقد أجابه الله تعالى بالسورة ، ولم ينف سبحانه العذاب الدنيوي لأعدائه ، وإن كان ركز على العذاب الأخروي وأوصافه ، لأنه الأساس والأكثر أهميةً واستمراراً ، وصفته الجزائية أكثر وضوحاً . فكأن السورة تقول :
--------------------------- 394 ---------------------------
أيها المستهزؤون بالعذاب الذي ينذركم به رسولنا . . إن كل ما أنذركم به من عذاب دنيوي أو أخروي سوف يقع ، ولا دافع له عن الكفار . . فآمنوا بالله ليدفعه عنكم بقوانينه في دفع عذابه عن المؤمنين .
فقوله تعالى ( للكافرين ليس له دافع ) ينفي إمكان دفعه عن الكافرين ، فهو ثابت لمن يستحقه منهم ، وهو أيضاً ثابتٌ لمن يستحقه من الذين قالوا آمنا . . والدافع له التوبة والاستغفار مثلاً .
كما أن كلمة ( الكافرين ) في الآية لا يبعد أن تكون بالمعنى اللغوي ، فتشمل الكافرين ببعض آيات الله تعالى ، أو بنعمه ، ولو كانوا مسلمين .
وعندما نشك في أن كلمة استعملت بمعناها اللغوي أو الاصطلاحي ، فلا بد أن نرجح المعنى اللغوي ، لأنه الأصل ، والإصطلاحي يحتاج إلى قرينة .
وقد وقع المفسرون السنيون في تهافتٍ في تفسير السورة ، لأنهم جعلوا ( العذاب الواقع ) عذاباً أخروياً أو لغير المسلمين ، وفي نفس الوقت فسروه بعذاب النضر بن الحارث العبدري بقتله يوم بدر ، فصار بذلك شاملاً للعذاب الدنيوي ! وما أكثر تهافتهم في التفسير !
ويلاحظ الباحث في التفاسير السنية أنه يوجد منهجٌ فيها ، يحاول أصحابه دائماً أن يفسروا آيات العذاب الواردة في القرآن الكريم - خاصة التي نزلت في قريش - بالعذاب الأخروي ، أو يرموها على أهل الكتاب ، ويبعدوها حتى عن المنافقين ! وقد أوجب عليهم حرضهم هذا على تبرئة قريش ، أن يتهموا النبي صلى الله عليه وآله بأنه دعا ربه بالعذاب على قومه ، فلم يستجب له ! بل وبخه الله تعالى بقوله : ليس لك من الأمر شيء . . . ! ! إلخ .
--------------------------- 395 ---------------------------
وهكذا ركزت الدولة القرشية على مقولة اختيار الله لقريش ، وعدم سماحه بعذابها ، وجعلتها أحاديث نبوية ، ولو كان فيها تخطئةٌ وإهانةٌ للنبي صلى الله عليه وآله . . وأدخلتها في مصادر التفسير والحديث ! !
أما عندما يضطرون إلى الاعتراف بوقوع العذاب الدنيوي لأحد فراعنة قريش ، فيقولون إنه خاصٌ بحالة معينة ، مثل حالة النضر بن الحارث ، وقد وقعت في بدر وانتهى الأمر !
اختار الفخر الرازي في تفسيره : 30 / 122 ، أن العذاب المذكور في مطلع السورة هو العذاب الأخروي ، وأن الدنيوي مخصوص بالنضر بن الحارث ، قال : ( لأن العذاب نازل للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد ، وقد وقع بالنضر لأنه قتل يوم بدر ) ، ثم وصف هذا الرأي بأنه سديد . . وهو بذلك يتابع جمهور المفسرين السنيين ، الذين قالوا بانتهاء العذاب الدنيوي الموعود ، مع أن السورة لا تشير إلى انتهاء أي نوع من العذاب الموعود ! !
على أن حرص المفسرين القرشيين على إبعاد العذاب عن قريش ، أقل تشدداً من حرص المحدثين الرسميين ، فهؤلاء لا يقبلون ( العذاب الواقع ) لأحدٍ من قريش ، حتى للنضر بن الحارث وحتى لأبي جهل ! فهم الذين اخترعوا تهمة النبي صلى الله عليه وآله بأنه دعا على قومه ، فوبخه الله تعالى !
فقد روى البخاري في صحيحه : 5 / 199 : ( عن أنس بن مالك قال : قال أبو جهل : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فنزلت : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) . ورواه البخاري في عدة أماكن أخرى ، ورواه مسلم في : 8 / 129 ! !
--------------------------- 396 ---------------------------
وإذا أردت أن تقرأ ما لا تكاد تصدقه عيناك ، فاقرأ ما رووه في تفسير قوله تعالى ( ليس لك من الأمر شيء ) فهي آيةٌ تنفي عن النبي صلى الله عليه وآله كل أنواع الألوهية والشراكة لله تعالى ، ولكنها في نفس الوقت لا تسلب عنه شيئاً من مقامه النبوي وخلقه العظيم وحكمته ، وحرصه على هداية قومه . . لكن أنظر ماذا عمل المحدثون القرشيون في تفسيرها ، وكيف صوروا النبي صلى الله عليه وآله بأنه ضيق الصدر ، مبغضٌ لقريش ، يريد الاعتداء عليها وظلمها . . ! ! فينزل الوحي مدافعاً عن هذه القبائل المقدسة الثلاث وعشرين ، ورد عدوانية نبيه عنها ! !
ولا يتسع المجال للإفاضة في هذا الموضوع ، ولكن القارئ السني يجد نفسه متحيراً بين ولاء المفسرين لقريش ، كالمفسر مجاهد الذي يسمح بكون قتل بعض فراعنتها كالنضر عذاباً لها ، وبين ولاء المحدثين لها كالبخاري الذي يقول إن قتل النضر وأبي جهل ليس هو العذاب الإلهي ، فهؤلاء قومٌ برزوا إلى مضاجعهم ، فقد رفع الله عذابه عن قريش ، ووبخ رسوله ، لأنه دعا عليها ! !
وأخيراً . . يمكن للباحث أن يستدل لنصرة رأي المفسرين القائل بأن العذاب في السورة يشمل العذاب الدنيوي ، بما رواه ابن سعد في الطبقات ، من قصة اختلاف طلحة والزبير وابنيهما على إمامة الصلاة في معسكر عائشة في حرب الجمل ، قال : ( ولما قدموا البصرة أخذوا بيت المال ، وختماه جميعاً طلحة والزبير ، وحضرت الصلاة فتدافع طلحة والزبير حتى كادت الصلاة تفوت ، ثم اصطلحا على أن يصلي عبد الله بن الزبير صلاةً ومحمد بن طلحة صلاةً ، فذهب ابن الزبير يتقدم فأخره محمد بن طلحة ، وذهب محمد بن طلحة يتقدم فأخره عبد الله بن الزبير عن أول صلاة ! ! فاقترعا فقرعه محمد بن طلحة ، فتقدم فقرأ : سأل سائل بعذاب واقع ) ! ! . انتهى .
--------------------------- 397 ---------------------------
فقد فهم محمد بن طلحة القرشي التيمي من السورة أنها تهديدٌ بعذاب دنيوي ، ولذلك هدد بها ابن الزبير ! وهو دليلٌ على أن الإرتكاز الذهني عند الصحابة المعاصرين للنزول ، أن العذاب في السورة يشمل العذاب الدنيوي أيضاً .
المسألة الرابعة : موقف السنيين من الحديث
موقف الذين أوردوا الحديث من السنيين ليس واحداً . . فمنهم من قبله ورجحه على غيره كأبي عبيد والثعلبي والحمويني . . ومنهم من نقله بصيغة : روي أو قيل أو رجح غيره عليه .
ولكن أحداً منهم لم يطعن فيه . . وأقل موقفهم منه أنه حديثٌ موجودٌ ، قد يكون سنده صحيحاً ، ولكن غيره أرجح منه ، كما سترى .
إن العالم السني يرى نفسه ملزماً باحترام هذا الحديث ، بل يرى أنه بإمكانه أن يطمئن إليه ويأخذ به ، لأن الذين قبلوه من أئمة العلم والدين قد يكتفي العلماء بمجرد نقل أحدهم للحديث وقبوله له ، كأبي عبيد وسفيان بن عيينة . .
وقد رأينا المحدث الألباني الذي يعتبره الكثيرون المجتهد الأول في التصحيح والتضعيف في عصرنا ، ربما اكتفي في سلسلة أحاديثه الصحيحة للحكم بصحة الحديث بتصحيح عالمين أو ثلاثة من قبيل : ابن تيمية والذهبي وابن القيم .
مضافاً إلى أن المحدثين السنة ذكروا له طرقاً أخرى ، عن حذيفة ، وعن أبي هريرة وغيرهما . . وتجد ترجمات أئمتهم والرواة الذين رووا الحديث مفصلةً في مصادر الجرح والتعديل السنية ، وفي عبقات الأنوار ، والغدير ، ونفحات الأزهار ، من مصادرنا .
--------------------------- 398 ---------------------------
نماذج من تفسيرات السنيين لآية : سأل سائل
قال الشوكاني في فتح القدير : 5 / 352 :
( وهذا السائل هو النضر بن الحارث حين قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . وهو ممن قتل يوم بدر صبراً . وقيل : هو أبو جهل . وقيل : هو الحارث بن النعمان الفهري . والأول أولى لما سيأتي ) . انتهى .
وقصده بما يأتي ما ذكره في ص 356 ، من رواياتهم التي تثبت أن السورة مكية وأن صاحب العذاب الواقع هو النضر ، وليس ابنه جابراً ، ولا الحارث الفهري قال : ( وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : سأل سائل ، قال : هو النضر بن الحارث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) . انتهى .
ولم يذكر الشوكاني الحديث المروي في جابر والحارث ، ومن رووه ، ولماذا رجح عليه حديث النضر ؟ هل بسبب السند أو الدلالة . . ؟ إلخ . ولو أنه اقتصر على ذكر ما اختاره في سبب نزولها لكان له وجهٌ ، ولكنه ذكر القولين ، وذكر رواية أحدهما دون الآخر ، وهذا تحيز بدون مبرر !
لكن شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى سنة 977 ، صاحب التفسير المعروف ، كان أكثر إنصافاً من الشوكاني ، فقد ذكر السببين معاً ، فقال كما نقل عنه صاحب عبقات الأنوار : 7 / 398 :
( سأل سائل بعذاب واقع : اختلف في هذا الداعي ، فقال ابن عباس : هو النضر بن الحارث . وقيل : هو الحارث بن النعمان ، وذلك أنه لما بلغه قول
--------------------------- 399 ---------------------------
النبي صلى الله عليه وآله من كنت مولاه فعلي مولاه ، ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته في الأبطح ثم قال : يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك . . . ) إلخ . انتهى .
أما أبو عبيد المتوفى سنة 223 ، فقد جعل الحديث سبباً لنزول الآية على نحو الجزم ، لأنه ثبت عنده ، ولعله لم يثبت عنده غيره حتى يذكره . فقال كما في نفحات الأزهار : 7 / 291 : ( لما بَلَّغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير خم ما بلغ ، وشاع ذلك في البلاد ، أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال : يا محمد ! أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وبالصلاة ، والصوم والحج ، والزكاة ، فقبلنا منك . . ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شيء منك أم من الله ؟ !
فقال رسول الله : والله الذي لا إله إلا هو إنَّ هذا من الله .
فولى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع . . الآية ) . انتهى .
وقال القرطبي في تفسيره : 18 / 278 :
( أي سأل سائل عذاباً واقعاً . للكافرين : أي على الكافرين . وهو النضر بن الحارث حيث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فنزل سؤاله . وقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبرا غيرهما ، قاله ابن عباس ومجاهد .
--------------------------- 400 ---------------------------
وقيل : إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح . . إلى آخره ، بنحو رواية أبي عبيد . ثم قال :
وقيل : إن السائل هنا أبو جهل ، وهو القائل لذلك ، قاله الربيع .
وقيل : إنه قول جماعةٍ من كفار قريش .
وقيل : هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين .
وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي دعا عليه السلام بالعقاب ، وطلب أن يوقعه الله بالكفار ، وهو واقع بهم لا محالة ، وامتد الكلام إلى قوله تعالى : فاصبر صبراً جميلاً أي : لا تستعجل فإنه قريب ) . انتهى .
- *
وبذلك نلاحظ أن المفسرين السنيين وإن رجحوا تفسير الآية بالنضر بن الحارث العبدري ، ورجحوا أن العذاب الموعود فيها هو قتله في بدر . . لكنهم في نفس الوقت ذكروا تفسيرها بوقوع العذاب على من اعترض على النبي صلى الله عليه وآله لإعلانه ولاية علي عليه السلام من بعده في غدير خم ! ومجرد ورود ذلك التفسير في مصادرهم بصفته قولاً محترماً في تفسير الآية ، وإن رجحوا عليه غيره ، يدل على وجود إعلان نبوي رسمي بحق علي ، ووجود اعتراضٍ عليه !
والمسلم لا يحتاج إلى أكثر من اعتراف المفسرين بذلك ، سواءً وقعت الصاعقة على المعترض أم لم تقع ، وسواء نزلت سورة المعارج عند هذه الحادثة
--------------------------- 401 ---------------------------
أم لم تنزل ! ! فلا بد لنا من توجيه الشكر لهم ، وإن ناقشناهم في الوجه الآخر الذي رجحوه .
وأهم الإشكالات التي ترد عليهم : أن القول الذي رجحوه إنما هو قول صحابي أو تابعي ، ابن عباس ومجاهد ، وليس حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله ، بينما التفسير الشيعي لها حديث مرفوع .
ويرد على تفسيرهم أيضاً : أن من المتفق عليه عندهم تقريباً أن السؤال في الآية حقيقي وليس مجازياً ، فالنضر بن الحارث ، حسب قولهم سأل بالعذاب الواقع ، وطلب نزوله فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فعذبه الله في بدرٍ بالقتل .
لكن آية مطر الحجارة هي من سورة الأنفال التي نزلت مع أحكام الأنفال بعد بدر ، وبعد قتل النضر . . فكيف يكون جواب قول النضر نزل في سورة مكية قبل الهجرة ، ونفس قوله نزل في سورة مدنية ، بعد هلاكه ؟ !
ويرد عليه أيضاً : أن قولهم ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأنزل علينا حجارة من السماء ) أكثر تناسباً وانطباقاً على تفسيرنا ، وأصعب انطباقاً على تفسيرهم . .
لأن معناه على تفسيرهم : اللهم إن كان هذا الدين منزلاً من عندك فأمطر علينا حجارة !
ومعناه على تفسيرنا : اللهم إن كان الحكم لآل محمد صلى الله عليه وآله من بعده منزلاً من عندك ، فأمطر علينا حجارة !
--------------------------- 402 ---------------------------
وهذا أكثر تناسباً ، لأن الدعاء بحجارة من السماء لا يقوله قائله إلا في حالة اليأس من التعايش مع وضع سياسي جديد ، يتحدى وضعه القبلي المتجذر في صميمه ! !
ويرد عليه أيضاً : أنه لو صح قولهم ، فهو لا يمنع من تفسيرنا ، فلا وجه لافتراضهم التعارض بينهما . . فأي تعارض بين أن يكون العذاب الواقع هو العذاب الذي وقع على النضر بن الحارث في بدر ، ثم وقع على ولده جابر بن النضر ، كما في رواية أبي عبيد ، ثم وقع ويقع على الآخرين من مستحقيه !
وينبغي أن نشير هنا إلى قاعدة مهمة في تفسير القرآن والنصوص عامة ، وهي ضرورة المحافظة على إطلاقات النص ما أمكن وعدم تضييقها وتقييدها . . فالآية الكريمة تقول إن أحدهم تحدى وتساءل عن العذاب الموعود ، الذي أنذر به النبي صلى الله عليه وآله ، فأجابه الله تعالى إنه واقعٌ بالكفار لا محالة كما أنذركم به رسولنا صلى الله عليه وآله حرفياً ، في الدنيا وفي الآخرة ، وأنه جارٍ في الكفار وفي من آمن ، حسب القوانين الخاصة التي وضعها له الله تعالى . وعليه فيكون عذاب الله تعالى لقريش في بدر والخندق من ذلك العذاب الواقع الموعود ، وعذابهم بالجوع والقحط ، منه أيضاً . وعذابهم بفتح مكة واستسلامهم وخلعهم سلاحهم ، منه أيضاً .
ويكون عذاب المعترضين على النبي صلى الله عليه وآله لإعلانه ولاية عترته من بعده ، منه أيضاً !
فلا موجب لحصر الآية بالنضر وحده ، ولا لتضييق العذاب المنذر به بقتل شخص ، ولو كان فرعوناً ، ولا حصره بعصر دون عصر ، بل هو مفتوح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . .
--------------------------- 403 ---------------------------
وكم تجد عند المفسرين السنيين من هذه التضييقات في آيات العذاب والرحمة ، حيث يحصرون أنفسهم فيها بلا موجب ، ويحصرون فيها كلام الله المطلق ، بلا دليل !
المسألة الخامسة : موقف النواصب من حديث حجر السجيل
لم نعثر على أحد من النواصب المبغضين لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، رد هذا الحديث وكذبه قبل . . ابن تيمية ، فقد هاجمه بعنف وتخبط في رده ! وتبعه على ذلك من المتأخرين الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه تفسير المنار . . ومن الملاحظ أنه شخص ناصبي متأثرٌ بابن تيمية وتلميذه ابن قيم المدرسة الجوزية ، بل مقلدٌ لهما في كثير من أفكارهما ، وقد أدخلها في تفسيره وقد استفاد لنشرها من اسم أستاذه الشيخ محمد عبده رحمه الله ، حيث خلط في تفسيره بين أفكاره وأفكار أستاذه ! ويلمس القارئ الفرق بين الجزءين الأولين من تفسير المنار اللذين كتبهما في حياة الشيخ محمد عبده ، واستفاد مما سجله من دروسه ، ففيهما من عقلانيته رحمه الله واعتقاده بولاية أهل البيت عليهم السلام ، وبين الأجزاء التي أخرجها رشيد رضا بعد وفاة الشيخ محمد عبده ، أو أعاد طباعتها ، وفيها أفكاره الناصبة لأهل البيت عليهم السلام .
وقد نقل صاحب تفسير المنار في : 6 / 464 وما بعدها عن تفسير الثعلبي أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وآله في موالاة علي شاع وطار في البلاد ، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى النبي صلى الله عليه وآله على ناقة وكان بالأبطح فنزل وعقل ناقته ، وقال للنبي صلى الله عليه وآله وهو في ملأ من أصحابه : يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله
--------------------------- 404 ---------------------------
فقبلنا منك . . . ثم ذكر سائر أركان الإسلام . . . ثم لم ترضَ بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا منك أم من الله ! فقال صلى الله عليه وآله : والله الذي لا إله إلا هو ، هو أمر الله . فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم !
فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجرٍ فسقط على هامته وخرج من دبره وأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع . . الحديث . . . ثم قال رشيد رضا :
وهذه الرواية موضوعة ، وسورة المعارج هذه مكية ، وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك . . ) كان تذكيراً بقول قالوه قبل الهجرة ، وهذا التذكير في سورة الأنفال ، وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين ، وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتد ، ولم يعرف في الصحابة ، والأبطح بمكة والنبي صلى الله عليه وآله لم يرجع من غدير خم إلى مكة ، بل نزل فيه منصرفه من حجة الوداع إلى المدينة . انتهى .
وكأن رشيد رضا اغتاظ من هذا الحديث ، وحاول تكذيبه من ناحية سنده فلم يجد ما يشفي غليله ، ولما وجد تكذيب ابن تيمية له بنقد متنه فرح به وتبناه ، ولكنه لم ينسبه إلى إمامه ابن تيمية !
وعمدة ما قاله ابن تيمية وصاحب المنار : أن مكان الرواية الأبطح ، وهو مكان في مكة ، والنبي صلى الله عليه وآله لم يرجع بعد الغدير إلى مكة . . وقد جهلا أو تجاهلا أبطح المدينة المشهور !
--------------------------- 405 ---------------------------
ثم قالا : إن الرواية تدعي أن الآية نزلت في المدينة ، مع أن سورة المعارج مكية . . وقد تجاهلا أن جوَّ السورة إلى الآية 36 على الأقل مدني ، وأن هذا الحديث دليل على مدنيتها .
ثم لو صح كونها مكية ، فقد يتكرر نزول الآية لبيان تفسيرها أو تأويلها ، فتكون الحادثة تأويلاً لها . وقد روى المفسرون نزول آية ( إنا أعطيناك الكوثر ) في عدة مواضع نزل بها جبرئيل ، تسليةً لقلب الرسول صلى الله عليه وآله .
فما المانع أن يكون تأويل العذاب الواقع قد وقع في ( عشيرة العذاب الواقع ) فتحقق في الأب النضر بن الحارث عندما قتله النبي صلى الله عليه وآله في بدر ، ثم تحقق في الابن جابر عندما قتله الله بحجرٍ من السماء في أبطح المدينة ، وأن يكون جبرئيل عليه السلام أكد الآية عندما تحقق تأويلها .
ثم من حق الباحث أن يقول لهما : لو سلمنا أن ذكر نزول الآية في الحادثة خطأ ، أو زيادة ، فما ذنب بقية الحديث ؟ ! فلماذا تردونه كله ولا تقتصرون على رد زيادته ، وهو نزول الآية بمناسبته ؟ !
وقد ناقش صاحب تفسير الميزان 6 / 54 ، تضعيف صاحب المنار للحديث فقال : وأنت ترى ما في كلامه من التحكم . أما قوله إن الرواية موضوعة وسورة المعارج هذه مكية ، فيعول في ذلك على ما في بعض الروايات عن ابن عباس وابن الزبير أن سورة المعارج نزلت بمكة ، وليت شعري ما هو المرجح لهذه الرواية على تلك الرواية ، والجميع آحاد .
ولو سلمنا أن سورة المعارج مكية كما ربما تؤيده مضامين معظم آياتها ، فما هو الدليل على أن جميع آياتها مكية ؟ فلتكن السورة مكية والآيتان خاصة غير مكيتين . كما أن سورتنا هذه ، أعني سورة المائدة ، مدنية نازلة في آخر
--------------------------- 406 ---------------------------
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وقد وضعت فيها الآية المبحوث عنها ، أعني قوله تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، الآية ) وهو ، كغيره من المفسرين ، مصرّ على أنها نزلت بمكة في أول البعثة ! . . .
وأما قوله وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش . . إلى آخره ، فهو في التحكم كسابقه ، فهب أن سورة الأنفال نزلت قبل المائدة ببضع سنين ، فهل يمنع ذلك أن يوضع عند التأليف بعض الآيات النازلة بعدها فيها ، كما وضعت آيات الربا وآية : ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) البقرة 281 وهي آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله عندهم ، في سورة البقرة النازلة في أوائل الهجرة ، وقد نزلت قبلها ببضع سنين ؟
ثم قوله إن آية : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق ، الآية ) تذكيرٌ لما قالوه قبل الهجرة ، تحكمٌ آخر من غير حجة ، لو لم يكن سياق الآية حجة على خلافه ، فإن العارف بأساليب الكلام لا يكاد يرتاب في أن هذا ، أعني قوله : ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) لاشتماله على قوله : إن كان هذا هو الحق من عندك ، بما فيه من اسم الإشارة وضمير الفصل والحق المحلى باللام ، وقوله من عندك ، ليس كلام وثني مشرك يستهزئ بالحق ويسخر منه ، إنما هو كلام من أذعن بمقام الربوبية ، ويرى أن الأمور الحقة تتعين من لدنه وأن الشرائع مثلاً تنزل من عنده ، ثم إنه يتوقف في أمر منسوب إلى الله تعالى يدعي مدعٍ أنه الحق لا غيره ، وهو لا يتحمل ذلك ويتحرج منه ، فيدعو على نفسه دعاء منزجر ملول سئم الحياة .
--------------------------- 407 ---------------------------
وأما قوله : وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتد ، ولم يعرف في الصحابة ، تحكم آخر ! فهل يسع أحداً أن يدعي أنهم ضبطوا أسماء كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله ، وآمن به ، أو آمن به فارتد ! وإن يكن شيء من ذلك فليكن هذا الخبر من ذلك القبيل .
وأما قوله والأبطح بمكة والنبي صلى الله عليه وآله لم يرجع من غدير خم إلى مكة ، فهو يشهد على أنه أخذ لفظ الأبطح اسماً للمكان الخاص بمكة ، ولم يحمله على معناه العام وهو كل مكان ذي رمل . . ولا دليل على ما حمله عليه ، بل الدليل على خلافه وهو القصة المسرودة في الرواية وغيرها . . . قال في مراصد الاطلاع : أبطح بالفتح ثم السكون وفتح الطاء والحاء المهملة : كل مسيل فيه رقاق الحصى فهو أبطح . . .
على أن الرواية بعينها رواها غير الثعلبي ، وليس فيه ذكر من الأبطح ، وهي ما يأتي من رواية المجمع من طريق الجمهور وغيرها .
وبعد هذا كله ، فالرواية من الآحاد وليست من المتواترات ، ولا مما قامت على صحتها قرينة قطعية ، وقد عرفت من أبحاثنا المتقدمة أنا لا نعول على الآحاد في غير الأحكام الفرعية ، على طبق الميزان العام العقلائي ، الذي عليه بناء الإنسان في حياته ، وإنما المراد بالبحث الآنف بيان فساد ما استظهر به من الوجوه التي استنتج منها أنها موضوعة ) . انتهى . - *
وكلام صاحب الميزان رحمه الله في رد تضعيف رشيد رضا للحديث كلامٌ قوي ، لكن ليته بدل أن يضعِّف الحديث بدعوى أنه من أخبار الآحاد ، اطلع على مصادره ورواته . . وعلى بحث الأميني حوله في المجلد الأول من الغدير ،
--------------------------- 408 ---------------------------
وبحث السيد النقوي الهندي في عبقات الأنوار : مجلد 7 و 8 ، وغيرهما . ونورد فيما يلي خلاصةً لما كتبه صاحب الغدير رحمه الله في : 1 / 239 ، قال :
ومن الآيات النازلة بعد نص الغدير ، قوله تعالى من سورة المعارج : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج .
وقد أذعنت به الشيعة وجاء مثبتاً في كتب التفسير والحديث لمن لا يستهان بهم من علماء أهل السنة ، ودونك نصوصها . .
ثم أورد صاحب الغدير أعلى الله مقامه نصوص ثلاثين عالما سنياً رووا الحديث في مؤلفاتهم بعدة طرق ، وفيهم محدثان أقدم من الثعلبي كما تقدم . .
ثم أفاض في رد الوجوه التي ذكرها ابن تيمية في كتابه منهاج السنة : 4 / 13 ، وأجاب عنها ، ونورد فيما يلي خلاصتها ، قال رحمه الله :
الوجه الأول : إن قصة الغدير كانت في مرتجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع ، وقد أجمع الناس على هذا ، وفي الحديث : أنها لما شاعت في البلاد جاءه الحارث ، وهو بالأبطح بمكة ، وطبع الحال يقتضي أن يكون ذلك بالمدينة ، فالمفتعل للرواية كان يجهل تاريخ قصة الغدير .
الجواب : أولاً ، ما سلف في رواية الحلبي في السيرة ، وسبط ابن الجوزي في التذكرة ، والشيخ محمد صدر العالم في معارج العلي ، من أن مجيء السائل كان في المسجد إن أريد منه مسجد المدينة ، ونص الحلبي على أنه كان بالمدينة ، لكن ابن تيمية عزب عن ذلك كله ، فطفق يهملج في تفنيد الرواية بصورة جزمية . . . فحسب اختصاص الأبطح بحوالي مكة ، ولو كان يراجع كتب الحديث ومعاجم اللغة والبلدان والأدب لوجد فيها نصوص أربابها بأن الأبطح
--------------------------- 409 ---------------------------
كل مسيل فيه دقاق الحصى . روى البخاري في صحيحه : 1 / 181 ، ومسلم في صحيحه : 1 / 382 : ( عن عبد الله ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها ) .
الوجه الثاني : أن سورة المعارج مكية باتفاق أهل العلم ، فيكون نزولها قبل واقعة الغدير بعشر سنين أو أكثر من ذلك .
الجواب : أن المتيقن من معقد الإجماع المذكور هو نزول مجموع السورة مكياً ، لا جميع آياتها ، فيمكن أن يكون خصوص هذه الآية مدنياً ، كما في كثير من السور .
ولا يرد عليه أن المتيقن من كون السورة مكية أو مدنية ، هو كون مفاتيحها كذلك أو الآية التي انتزع منها اسم السورة ، لما قدمناه من أن هذا الترتيب هو ما اقتضاه التوقيف ، لا ترتيب النزول ، فمن الممكن نزول هذه الآية أخيراً ، وتقدمها على النازلات قبلها بالتوقيف ، وإن كنا جهلنا الحكمة في ذلك ، كما جهلناها في أكثر موارد الترتيب في الذكر الحكيم ، وكم لها من نظير ، ومن ذلك :
1 - سورة العنكبوت ، فإنها مكية إلا من أولها عشرة آيات ، كما رواه الطبري في تفسيره في الجزء العشرين / 86 ، والقرطبي في تفسيره 13 / 323 .
2 - سورة الكهف ، فإنها مكية إلا من أولها سبع آيات ، فهي مدنية . . . كما في تفسير القرطبي 10 / 346 ، وإتقان السيوطي 1 / 16 . . .
ثم عدد الأميني سبع عشرة سورة مكية ، فيها آيات مدنية ، وسوراً مدنية فيها آيات مكية .
--------------------------- 410 ---------------------------
الوجه الثالث : أن قوله تعالى : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل يوم الغدير بسنين .
الجواب : كأن هذا الرجل يحسب أن من يروي تلك الأحاديث المتعاضدة يرى نزول ما لهج به الحارث بن النعمان الكافر من الآية الكريمة . . . في اليوم المذكور . والقارئ لهاتيك الأخبار جد عليم بمينه في هذا الحسبان ، أو أنه يرى حجراً على الآيات السابق نزولها أن ينطق بها أحدٌ ، فهل في هذه الرواية غير أن الرجل المرتد الحارث أو جابر تفوه بهذه الكلمات ؟ وأين هو من وقت نزولها ، فدعها يكن نزولها في بدر أو أحد ، فالرجل أبدى كفره بها كما أبدى الكفار قبله إلحادهم بها !
لكن ابن تيمية يريد تكثير الوجوه في إبطال الحق الثابت .
الوجه الرابع : أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون بمكة ، ولم ينزل عليهم العذاب هناك لوجود النبي صلى الله عليه وآله ، لقوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .
الجواب : لا ملازمة بين عدم نزول العذاب في مكة على المشركين ، وبين عدم نزوله هاهنا على الرجل ، فإن أفعال المولى سبحانه تختلف باختلاف وجوه الحكمة .
ثم أورد الأميني عدداً من الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله فعذبهم الله تعالى ، ثم قال : ( ولو كان وجود الرسول صلى الله عليه وآله مانعاً عن جميع أقسام العذاب بالجملة ، لما صح ذلك التهديد ، ولما أصيب النفر الذين
--------------------------- 411 ---------------------------
ذكرناهم بدعوته ، ولما قتل أحد في مغازيه بعضبه الرهيف ، فإن كل هذه من أقسام العذاب ، أعاذنا الله منها ) .
الوجه الخامس : أنه لو صح ذلك لكان آية كآيةً أصحاب الفيل ، ومثلها تتوفر الدواعي لنقله ، ولما وجدنا المصنفين في العلم من أرباب المسانيد والصحاح والفضايل والتفسير والسير ونحوها ، قد أهملوه رأساً فلا يروى إلا بهذا الإسناد المنكر ، فعلم أنه كذب باطل .
الجواب : إن قياس هذه التي هي حادثة فردية ، لا تحدث في المجتمع فراغاً كبيراً يؤبه له ، وورائها أغراض مستهدفة تحاول إسدال ستور الإنساء عليها كما أسدلوها على نص الغدير نفسه . . . مجازفةٌ ظاهرةٌ ، فإن من حكم الضرورة أن الدواعي في الأولى دونها في الثانية . . .
وأما ما ادعاه ابن تيمية من إهمال طبقات المصنفين لها ، فهو مجازفة أخرى لما أسلفناه من رواية المصنفين لها من أئمة العلم ، وحملة التفسير ، وحفاظ الحديث ، ونقلة التاريخ . . .
لم نعرف المشار إليه في قوله : بهذا الإسناد المنكر ! فإنه لا ينتهي إلا إلى حذيفة بن اليمان الصحابي العظيم ، وسفيان بن عيينة المعروف بإمامته في العلم والحديث والتفسير ، وثقته في الرواية .
وأما الإسناد إليهما ، فقد عرفه الحفاظ والمحدثون والمفسرون المنقبون في هذا الشأن ، فوجدوه حرياًّ بالذكر والاعتماد ، وفسروا به آيات من الذكر الحكيم ، من دون أي نكير ، ولم يكونوا بالذين يفسرون الكتاب بالتافهات .
نعم : هكذا سبق العلماء وفعلوا ، لكن ابن تيمية استنكر السند ، وناقش في المتن لأن شيئاً من ذلك لا يلائم دعارة خطته !
--------------------------- 412 ---------------------------
الوجه السادس : أن المعلوم من هذا الحديث أن حارثاً المذكور كان مسلماً باعترافه بالمباديء الخمسة الإسلامية ، ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً من المسلمين لم يصبه عذاب على العهد النبوي .
الجواب : إن الحديث كما أثبت إسلام الحارث ، فكذلك أثبت ردته برده قول النبي صلى الله عليه وآله وتشكيكه فيما أخبر به عن الله تعالى ، والعذاب لم يأته حين إسلامه ، وإنما جاءه بعد الكفر والارتداد . . . على أن في المسلمين من شملته العقوبة لما تجرؤوا على قدس صاحب الرسالة . . .
ثم ذكر الأميني عدداً من الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله من المسلمين ، منهم من ذكره مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع : أن رجلاً أكل عند النبي صلى الله عليه وآله بشماله ، فقال : كل بيمينك . قال : لا أستطيع ، قال : لا استطعت ! قال : فما رفعها إلى فيه بعد . . إلخ .
الوجه السابع : أن الحارث بن النعمان غير معروف في الصحابة ، ولم يذكره ابن عبد البر في الإستيعاب وابن مندة وأبو نعيم الأصبهاني وأبو موسى في تآليف ألفوها في أسماء الصحابة ، فلم نتحقق وجوده .
الجواب : إن معاجم الصحابة غير كافلة لاستيفاء أسمائهم ، فكل مؤلف من أربابها جمع ما وسعته حيطته وأحاط به اطلاعه ، ثم جاء المتأخر عنه فاستدرك على من قبله بما أوقفه السير في غضون الكتب وتضاعيف الآثار ، وأوفى ما وجدناه من ذلك كتاب الإصابة بتمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ، ومع ذلك فهو يقول في مستهل كتابه : ( ومع ذلك فلم يحصل لنا من ذلك جميعاً الوقوف على العشر من أسامي الصحابة بالنسبة إلى ما جاء عن أبي زرعة الرازي قال : توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة
--------------------------- 413 ---------------------------
على مائة ألف إنسان ، من رجل وامرأة ، كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية . . . ) وبعد هذا كله فالنافي لشخص لم يجد اسمه في كتب هذا شأنها خارج عن ميزان النصفة ، ومتحايد عن نواميس البحث ، على أن من المحتمل قريباً أن مؤلفي معاجم الصحابة أهملوا ذكره لردته الأخيرة . انتهى .
ونضيف إلى ما ذكره صاحب الغدير رحمه الله وما تقدم :
أولاً : أن من الأدلة القوية على صحة هذا الحديث أنه لا يمكن أن ينشأ من فراغ ، وأن احتمال وضعه من قبل رواة الخلافة القرشية غير معقول ، لأنهم لا يقدمون على وضع حديث يثبت أن ولاية علي عليه السلام نزلت من السماء قبل بيعة أبي بكر في السقيفة ، وأن الله تعالى عاقب من اعترض عليها بحجر من السماء ، كما عاقب أصحاب الفيل والكفار !
كما أن القول بتسرب الحديث من مصادر الشيعة إلى مصادر السنة باب خطير عليهم . . فلو قبلوا بفتحه لأنهار بناء صحاحهم كلها ، ثم انهارت الخلافة القرشية وسقيفتها ! وذلك لأن رواة هذه الأحاديث ( الشيعية ) هم رواة أصول عقيدة الخلافة القرشية وبناة قواعدها . . فالسنين مجبورون على توثيقهم وقبول رواياتهم ، ومنها هذه الروايات التي تضر أصول مبانيهم !
ثانياً : أن المتفق عليه في مصادر الشيعة والسنة أقوى من المختلف فيه . . لأنك عندما ترى أن مذاهب المسلمين كلها تروي حديثاً ، يقوى عندك احتمال أن يكون صدر عن النبي صلى الله عليه وآله ، وعندما يرويه بعضها ويرده بعضها تنزل عندك درجة الاحتمال .
ومما يزيد في درجة احتمال الصحة : أن يكون الطرف الراوي للحديث متضرراً منه ضرراً مؤكداً ، ومتحيراً في كيفية التخلص منه !
--------------------------- 414 ---------------------------
وحديثنا من هذا النوع ، فهو حديثٌ يتضرر منه أتباع خلافة قريش من المسلمين ، ويبغضه عَبَدَةُ قبيلة قريش من النواصب ! أما أتباع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله فيحتجون به ، وتخبت له قلوبهم .
ثالثاً : أن الاختلاف في اسم الشخص الذي نزل عليه حجر السجيل ، لا يضر في صحة الحديث ، إذا تمت بقية شروطه . . خاصة أن اسمه صار سوأةً على أقاربه وعشيرته ، ولا بد أنهم عملوا على إخفائه ونسيان أمره ، حتى لا يعيرهم به المسلمون ، كما قال الأميني رحمه الله .
على أن للباحث أن يرجح أن اسم المعترض هو : جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ، وليس الحارث بن النعمان الفهري . . بدليل أن الحافظ أبي عبيد الهروي المتوفى سنة 223 ، ضبطه في تفسيره بهذا الاسم ، وكل العلماء السنيين يحترمون علم أبي عبيد ، وخبرته بالأحاديث ، وقدم عصره . . وجابر بن النضر شخصيةٌ قرشية معروفة ، لأنه ابن زعيم بني عبد الدار ، حامل لواء قريش يوم بدر . . فلا يبقى لابن تيمية والنواصب حجةٌ في رد الحديث !
على أن الباقين الذين وردت أسماؤهم في روايات الحديث ، كالحارث الفهري وغيره ، ترجم لهم المترجمون للصحابة أيضاً ، أو ترجموا لمن يصلحوا أن يكونوا أقارب لهم .
المسألة السادسة : طرق وأسانيد حديث حجر الغدير
أولاً : طرق وأسانيد المصادر السنية
الطريق الأول : حديث أبي عبيد الهروي
--------------------------- 415 ---------------------------
في كتابه : غريب القرآن ، وقد تقدم ، وهو بمقاييس أهل الجرح والتعديل السنيين مسند مقبول .
الطريق الثاني : حديث الثعلبي عن سفيان بن عيينة
وله أسانيد كثيرة ، وأكثر الذين ذكرهم صاحب الغدير رحمه الله ، رووه عن الثعلبي بأسانيدهم إليه ، أو نقلوه من كتابه .
وذكر السيد المرعشي رحمه الله عدداً منهم في إحقاق الحق : 6 / 358 ، قال :
العلامة الثعلبي في تفسيره ( مخطوط ) : روى بسنده عن سفيان بن عيينة رحمه الله سئل عن قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع ، فيمن نزلت ؟ فقال للسائل : لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك ، حدثني أبي ، عن جعفر بن محمد عن آبائه رضي الله عنهم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد علي رضي الله عنه وقال من كنت مولاه فعلي مولاه ، فشاع ذلك فطار في البلاد ، وبلغ ذلك الحارث ( خ . الحرث ) بن النعمان الفهري ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له ، فأناخ راحلته ونزل عنها ، وقال : يا محمد أمرتنا عن الله عز وجل أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلنا منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصوم رمضان وأمرتنا بالحج فقبلنا ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شيء منك أم من الله عز وجل ؟ !
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي لا إله إلا هو إنَّ هذا من الله عز وجل . فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما
--------------------------- 416 ---------------------------
يقول محمد حقاًّ فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ! ! فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله عز وجل بحجر سقط على هامته فخرج من دبره فقتله ، فأنزل الله عز وجل ( سئل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج ) .
ومنهم العلامة الحمويني في فرائد السمطين ( المخطوط ) قال :
أخبرني الشيخ عماد الدين عبد الحافظ بن بدران بن شبل المقدسي بمدينة نابلس فيما أجازني أن أرويه عنه ، عن القاضي جمال الدين عبد القاسم بن عبد الصمد بن محمد الأنصاري إجازة ، عن عبد الجبار بن محمد الخوارزمي البيهقي إجازة ، عن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي رحمه الله قال : قرأت على شيخنا الأستاذ أبي إسحاق الثعلبي رحمه الله في تفسيره أن سفيان بن عيينة . . فذكر الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي .
ومنهم العلامة الزرندي في نظم درر السمطين / 93 ط . مطبعة القضاء :
روى الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي .
ومنهم العلامة ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة / 24 ط . الغري :
روى الحديث نقلاً عن الثعلبي بعين ما تقدم عن تفسيره بلا واسطة .
ومنهم العلامة عبد الرحمن الصفوري في نزهة المجالس 2 / 209 ط . القاهرة :
روى الحديث نقلاً عن تفسير القرطبي بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي .
ومنهم العلامة السيد جمال الدين عطاء الله الشيرازي الهروي في الأربعين حديثاً ( مخطوط ) : روى الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي ، لكنه زاد بعد قوله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من
--------------------------- 417 ---------------------------
نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث كان ، وفي رواية اللهم أعنه وأعن به وارحمه وارحم به ، وانصره وانصر به .
ومنهم العلامة عبد الله الشافعي في المناقب / 205 مخطوط :
روى الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي .
ومنهم العلامة القندوزي في ينابيع المودة / 274 ط . إسلامبول :
روى الحديث عن الثعلبي بعين ما تقدم عنه في تفسيره .
ومنهم العلامة الآمرتسري في أرجح المطالب / 568 ط . لاهور :
روى الحديث من طريق شهاب الدين الدولت آبادي ، والسيد السمهودي في جواهر العقدين ، وجمال الدين المحدث صاحب روضة الأحباب في أربعينه .
وعبد الرؤوف المناوي في فيض القدير .
ومحمد بن محمد القادري في الصراط السوي .
والحلبي في إنسان العيون .
وأحمد بن الفضل بن محمد باكثير في وسيلة الآمال .
ومحمد بن إسماعيل الأمير في الروضة الندية .
والحافظ محمد بن يوسف الكنجي في كفاية الطالب . . . انتهى .
سندا القاضي الحسكاني إلى ابن عيينة
قال في شواهد التنزيل : 2 / 381 :
( 1030 - أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي أخبرنا أبو بكر الجرجرائي ، حدثنا أبو أحمد البصري قال : حدثني محمد بن سهل حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصاري ، حدثنا محمد بن أيوب الواسطي ، عن سفيان بن عينية ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : عن علي قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه
--------------------------- 418 ---------------------------
وسلم علياًّ يوم غدير خم فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه . طار ذلك في البلاد ، فقدم على رسول الله النعمان بن الحرث الفهري فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة والصوم فقبلناها منك ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله ؟ ! !
قال : أمرٌ من عند الله .
قال : الله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله ؟
قال : الله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله .
قال : فولى النعمان وهو يقول ( اللهم ) إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، فأنزل الله تعالى ( سأل سائل ) .
1031 - حدثونا عن أبي بكر السبيعي ، حدثنا أحمد بن محمد بن نصر أبو جعفر الضبعي ، قال : حدثني زيد بن إسماعيل بن سنان ، حدثنا شريح بن النعمان ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن جعفر عن أبيه ، عن علي بن الحسين قال : نصب رسول الله صلى الله عليه وآله علياً يوم غدير خم ( و ) قال : من كنت مولاه فعلي مولاه فطار ذلك في البلاد . الحديث به سواء معنى ) .
الطريق الثالث : للقاضي الحسكاني عن جابر الجعفي
قال في شواهد التنزيل : 2 / 382 :
( 1032 - ورواه أيضاً في التفسير العتيق قال : حدثنا إبراهيم بن محمد الكوفي قال : حدثني نصر بن مزاحم ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر الجعفي ،
--------------------------- 419 ---------------------------
عن محمد بن علي قال : أقبل الحارث بن عمرو الفهري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنك أتيتنا بخبر السماء فصدقناك وقبلنا منك . فذكر مثله إلى قوله : فارتحل الحارث ، فلما صار ببطحاء ( مكة ) أتته جندلة من السماء فشدخت رأسه ، فأنزل الله ( سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ) بولاية علي عليه السلام . وفي الباب عن حذيفة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وابن عباس ) .
الطريق الرابع : للقاضي الحسكاني عن حذيفة بن اليمان
قال في شواهد التنزيل : 2 / 383 :
( 1033 - حدثني أبو الحسن الفارسي ، حدثنا أبو الحسن محمد بن إسماعيل الحسني ، حدثنا عبد الرحمان بن الحسن الأسدي ، حدثنا إبراهيم . وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد البغدادي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الشيباني ، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن الأسدي ، حدثنا إبراهيم بن الحسن الكسائي ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان بن سعيد ، حدثنا منصور ، عن ربعي ، عن حذيفة بن اليمان قال : لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي : من كنت مولاه فهذا مولاه . قام النعمان بن المنذر الفهري ( كذا ) فقال : هذا شيء قلته من عندك أو شيء أمرك به ربك .
قال : لا ، بل أمرني به ربي .
فقال : اللهم أنزل علينا حجارة من السماء . فما بلغ رحله حتى جاءه حجرٌ فأدماه فخر ميتاً ، فأنزل الله تعالى ( سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ) و ( الطريقان ) لفظهما واحد ) .
--------------------------- 420 ---------------------------
الطريق الخامس : للقاضي الحسكاني عن أبي هريرة
قال في شواهد التنزيل : 2 / 385 :
( 1034 - وأخبرنا عثمان أخبرنا فرات بن إبراهيم الكوفي قال : حدثنا الحسين بن محمد بن مصعب البجلي قال : حدثنا أبو عمارة محمد بن أحمد المهدي ، حدثنا محمد بن أبي معشر المدني ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضد علي بن أبي طالب يوم غدير خم ، ثم قال : من كنت مولاه فهذا مولاه . فقام إليه أعرابي فقال : دعوتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فصدقناك ، وأمرتنا بالصلاة والصيام فصلينا وصمنا ، وبالزكاة فأدينا ، فلم يقنعك إلا أن تفعل هذا ! فهذا عن الله أم عنك ؟
قال : عن الله ، لاعني .
قال : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن الله لا عنك ؟ !
قال : نعم ، ثلاثاً ، فقام الأعرابي مسرعاً إلى بعيره ، وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك . . الآية ، فما استتم الكلمات حتى نزلت نار من السماء فأحرقته ، وأنزل الله في عقب ذلك : سأل سائل . . إلى قوله دافع ) . انتهى .
وقد ذكر الحسكاني كما رأيت طريقين آخرين إلى سعد بن أبي وقاص ، وابن عباس ، ولم يذكر سندهما . . ولعلهما الطريقان الموجودان في تفسير فرات الكوفي .
--------------------------- 421 ---------------------------
ثانياً : طرق وأسانيد مصادرنا إلى سفيان بن عيينة
1 . أسانيد فرات بن إبراهيم الكوفي إلى سفيان بن عيينة
تفسير فرات الكوفي ص 505 :
( 3 - فرات قال : حدثني محمد بن أحمد ظبيان معنعناً : عن الحسين بن محمد الخارفي قال : سألت سفيان بن عيينة عن : سأل سائل ، فيمن نزلت : قال : يا ابن أخي سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، لقد سألت جعفر بن محمد عليهما السلام عن مثل الذي سألتني عنه ، فقال : أخبرني أبي عن جدي عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما كان يوم غدير خم ، قام رسول الله صلى الله عليه وآله خطيباً فأوجز في خطبته ، ثم دعا علي بن أبي طالب عليه السلام فأخذ بضبعه ثم رفع بيده حتى رئي بياض إبطيهما وقال : ألم أبلغكم الرسالة ؟ ألم أنصح لكم ؟ قالوا : اللهم نعم .
فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله .
ففشت في الناس فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري ، فرحل راحلته ثم استوى عليها ورسول الله صلى الله عليه وآله إذ ذاك بمكة حتى انتهى إلى الأبطح ، فأناخ ناقته ثم عقلها ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فسلم ، فرد عليه النبي صلى الله عليه وآله ، فقال :
يا محمد ! إنك دعوتنا أن نقول لا إله إلا الله فقلنا ! ثم دعوتنا أن نقول إنك رسول الله فقلنا ، وفي القلب ما فيه ، ثم قلت صلوا فصلينا ، ثم قلت صوموا فصمنا فأظمأنا نهارنا وأتعبنا أبداننا ، ثم قلت حجوا فحججنا ، ثم قلت إذا رزق أحدكم مأتي درهم فليتصدق بخمسة كل سنة ، ففعلنا .
--------------------------- 422 ---------------------------
ثم إنك أقمت ابن عمك فجعلته علما وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ، أفعنك أم عن الله ؟ !
قال : بل عن الله . قال : فقالها ثلاثاً .
قال : فنهض ، وإنه لمغضب وإنه ليقول : اللهم إن كان ما قال محمد حقاًّ فأمطر علينا حجارة من السماء ، تكون نقمة في أولنا وآية في آخرنا ، وإن كان ما قال محمد كذبا فأنزل به نقمتك .
ثم أثار ناقته فحل عقالها ثم استوى عليها ، فلما خرج من الأبطح رماه الله تعالى بحجر من السماء فسقط على رأسه وخرج من دبره ، وسقط ميتاً فأنزل الله فيه : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج ) . انتهى .
2 . أسانيد محمد بن العباس إلى سفيان بن عيينة
تأويل الآيات : 2 / 722 :
( قال محمد بن العباس رحمه الله : حدثنا علي بن محمد بن مخلد ، عن الحسن بن القاسم ، عن عمر بن الأحسن ، عن آدم بن حماد ، عن حسين بن محمد قال : سألت سفيان بن عيينة عن قول الله عز وجل : سأل سائل ، فيمن نزلت ؟ فقال . . . ) ، بنحو رواية فرات الأخيرة .
3 . سند الشريف المرتضى إلى سفيان بن عيينة
مدينة المعاجز : 1 / 407 :
( 270 - السيد المرتضى في عيون المعجزات : قال : حدث أبو عبد الله محمد بن أحمد قال : حدثنا أبي قال : حدثني علي بن فروخ السمان قال :
--------------------------- 423 ---------------------------
حدثني يحيى بن زكرياء المنقري قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : حدثني عمر بن أبي سليم العيسى ، عن جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه عليهما السلام قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وآله علياً يوم غدير خم وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه . . .
قلت : قد ذكرت في معنى هذا الحديث رواية المفضل بن عمر الجعفي ، عن الصادق عليه السلام في كتاب البرهان في تفسير القرآن بالرواية عن أهل البيت في قوله تعالى : قل فلله الحجة البالغة ، من سورة الأنعام .
وفي سورة المعارج في قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع ، رواية أخرى ) .
4 . سند منتجب الدين الرازي إلى سفيان بن عيينة
الأربعون حديثاً لمنتجب الدين الرازي ص 82 :
( الحكاية الخامسة : أنا أبو العلاء زيد بن علي بن منصور الأديب والسيد أبو تراب المرتضى بن الداعي بن القاسم الحسني قالا : نا الشيخ المفيد عبد الرحمن بن أحمد الواعظ الحافظ إملاءً : أنا محمد بن زيد بن علي الطبري أبو طالب بن أبي شجاع البريدي بآمل بقراءتي عليه ، أنا أبو الحسين زيد بن إسماعيل الحسني ، نا السيد أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني ، أنا عبد الرحمن بن الحسن الخاقاني ، نا عباس بن عيسى ، نا الحسن بن عبد الواحد الخزاز ، عن الحسن بن علي النخعي ، عن رومي بن حماد المخارقي قال :
قلت لسفيان بن عيينة : أخبرني عن ( سأل سائل ) فيمن أنزلت ؟ قال : لقد سألتني عن مسألة ما سألني عنها أحد قبلك ، سألت عنها جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام فقال : لقد سألتني عن مسألة ما سألني عنها أحد
--------------------------- 424 ---------------------------
قبلك ، حدثني أبي عن آبائه عليهم السلام قال : لما حج النبي صلى الله عليه وآله حجة الوداع فنزل بغدير خم ، نادى في الناس فاجتمعوا .
فقال : يا أيها الناس ألم أبلغكم الرسالة ؟ قالوا : اللهم بلى .
قال : أفلم أنصح لكم ؟ قالوا : اللهم بلى .
قال : فأخذ بضبع علي عليه السلام فرفعه حتى رؤي بياض إبطيهما ، ثم قال : أيها الناس من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .
قال : فشاع ذلك ، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري ، فأقبل يسير على ناقة له حتى نزل بالأبطح فأناخ راحلته وشد عقالها ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وهو في ملأ من أصحابه ، فقال : يا رسول الله والله الذي لا إله إلا هو إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فشهدنا ، ثم أمرتنا أن نشهد أنك رسوله فشهدنا ، ثم أمرتنا أن نصلي خمساً فصلينا ، ثم أمرتنا أن نصوم شهر رمضان فصمنا ، ثم أمرتنا أن نزكي فزكينا ، ثم أمرتنا أن نحج فحججنا ، ثم لم ترض حتى نصبت ابن عمك علينا ، فقلت : من كنت مولاه فهذا علي مولاه هذا عنك أو عن الله تعالى ؟ ! قال النبي صلى الله عليه وآله : لا ، بل عن الله .
قال : فقام الحارث بن النعمان مغضباً وهو يقول : اللهم إن كان ما قال محمد حقاًّ فأنزل بي نقمة عاجلة .
قال : ثم أتى الأبطح فحل عقال ناقته واستوى عليها ، فلما توسط الأبطح رماه الله بحجر فوقع وسط دماغه وخرج من دبره ، فخر ميتاً ، فأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع . وقد أورد أبو إسحاق الثعلبي إمام أصحاب الحديث في تفسيره هذه الحكاية بغير إسناد .
--------------------------- 425 ---------------------------
5 . سند الطبرسي إلى سفيان بن عيينة
تفسير الميزان : 6 / 58 :
( وفي المجمع أخبرنا السيد أبو الحمد قال : حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال : أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال : أخبرنا أبو بكر الجرجاني قال : أخبرنا أبو أحمد البصري قال : حدثنا محمد بن سهل قال : حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار قال : حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن محمد الصادق ، عن آبائه قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وآله علياًّ يوم غدير خم قال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه . . . ) .
ثالثاً : طرق وأسانيد من مصادرنا من غير طريق سفيان بن عيينة
1 . أسانيد محمد بن يعقوب الكليني
الكافي : 1 / 422 :
( 47 - علي بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ( بولاية علي ) ليس له دافع ثم قال : هكذا والله نزل بها جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله ) . انتهى .
ومعنى قوله عليه السلام ( هكذا والله نزل بها جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله ) أن جبرئيل نزل بتأويلها ، وهو مثل قول ابن مسعود المتقدم في آية التبليغ أنهم كانوا يقرؤون على عهد النبي صلى الله عليه
--------------------------- 426 ---------------------------
وآله ( بلغ ما أنزل إليك - في علي ) ، ومثله عن ابن عباس في آيات الخندق أنه كان يقرأ ( وكفى الله المؤمنين القتال - بعلي ) فهذه ليست قراءات ، لأنه لا يجوز إضافة أي حرفٍ إلى نص كتاب الله تعالى ، بل كلها تفاسير من الصحابة أو تفسيرٌ نزل به جبرئيل عليه السلام فبلغهم إياه النبي صلى الله عليه وآله فكانوا يقرؤونها كالذي يشرح آيةً ، أو كتبوها في تفاسيرهم كالهامش .
وفي الكافي : 8 / 57 :
( 18 - عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي بصير قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم جالساً إذ أقبل أمير المؤمنين عليه السلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : إن فيك شبهاً من عيسى بن مريم ، ولولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك قولاً لا تمر بملأٍ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك ، يلتمسون بذلك البركة .
قال : فغضب أعرابيان والمغيرة بن شعبة وعدة من قريش معهم ، فقالوا : ما رضي أن يضرب لابن عمه مثلاً إلا عيسى بن مريم ، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله فقال : ( ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون ، وقالوا أآلهتنا خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ، إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل . ولو نشاء لجعلنا منكم - يعني من بني هاشم - ملائكة في الأرض يخلفون ) . قال : فغضب الحارث بن عمرو الفهري فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك أن بني هاشم يتوارثون هرقلاً بعد هرقل ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . . . إلى آخره .
--------------------------- 427 ---------------------------
ولعل في متن هذا الحديث اضطراباً ، وفيه : ( ثم قال له : يا بن عمرو إما تبت وإما رحلت . فقال : يا محمد ، بل تجعل لسائر قريش شيئاً مما في يديك ، فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم ! فقال له النبي صلى الله عليه وآله : ليس ذلك إلي ، ذلك إلى الله تبارك وتعالى .
فقال : يا محمد قلبي ما يتابعني على التوبة ، ولكن أرحل عنك ، فدعا براحلته فركبها فلما صار بظهر المدينة ، أتته جندلةٌ فرضخت هامته ، ثم أتى الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : ( سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين - بولاية علي - ليس له دافع ، من الله ذي المعارج ) .
2 . أسانيد فرات بن إبراهيم الكوفي
تفسير فرات الكوفي ص 503 :
( 1 - قال : حدثنا الحسين بن محمد بن مصعب البجلي قال : حدثنا أبو عمارة محمد بن أحمد المهتدي قال : حدثنا محمد بن معشر المدني ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : طرحت الأقتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم قال فعلا عليها فحمد الله وأثنى عليه ، ثم أخذ بعضد علي بن أبي طالب عليه السلام فاستلها فرفعها ، ثم قال : اللهم من كنت مولاه فعلي ( فهذا علي ) مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله .
فقام إليه أعرابي من أوسط الناس فقال : يا رسول الله دعوتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فشهدنا وأنك رسول الله فصدقنا ، وأمرتنا بالصلاة فصلينا ، وبالصيام فصمنا ، وبالجهاد فجاهدنا ، وبالزكاة فأدينا ، قال : ولم يقنعك إلا أن أخذت بيد هذا الغلام على رؤوس الأشهاد ، فقلت : اللهم من كنت
--------------------------- 428 ---------------------------
مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ! فهذا عن الله أم عنك ؟ !
قال : هذا عن الله ، لاعني .
قال : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن الله لا عنك ؟ !
قال : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن الله لاعني .
ثم قال ثالثة : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن ربك لا عنك ؟
قال : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن ربي لاعني .
قال : فقام الأعرابي مسرعاً إلى بعيره وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . قال : فما استتم الأعرابي الكلمات حتى نزلت عليه نار من السماء فأحرقته ، وأنزل الله في عقب ذلك : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج .
2 - قال فرات : حدثني جعفر بن محمد بن بشرويه القطان معنعناً ، عن الأوزاعي ، عن صعصعة بن صوحان والأحنف بن قيس قالا جميعاً : سمعنا ابن عباس رضي الله عنه قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله إذ دخل علينا عمرو بن الحارث الفهري قال : يا أحمد أمرتنا بالصلاة والزكاة ، أفمنك هذا أم من ربك يا محمد ؟ قال : الفريضة من ربي وأداء الرسالة مني ، حتى أقول : ما أديت إليكم إلا ما أمرني ربي .
قال : فأمرتنا بحب علي بن أبي طالب ، زعمت أنه منك كهارون من موسى ، وشيعته على نوق غر محجلةٍ يرفلون في عرصة القيامة ، حتى يأتي
--------------------------- 429 ---------------------------
الكوثر فيشرب ويسقي هذه الأمة ، ويكون زمرة في عرصة القيامة ، أبهذا الحب سبق من السماء أم كان منك يا محمد ؟
قال : بل سبق من السماء ثم كان مني . لقد خلقنا الله نوراً تحت العرش !
فقال عمرو بن الحارث : الآن علمت أنك ساحر كذاب ! يا محمد ألستما من ولد آدم ؟ قال : بلى ، ولكن خلقني الله نوراً تحت العرش قبل أن يخلق الله آدم باثني عشر ألف سنة ، فلما أن خلق الله آدم ألقى النور في صلب آدم ، فأقبل ينتقل ذلك النور من صلب إلى صلب ، حتى تفرقنا في صلب عبد الله بن عبد المطلب وأبي طالب ، فخلقنا ربي من ذلك النور لكنه لكن لا نبي بعدي .
قال : فوثب عمرو بن الحارث الفهري مع اثني عشر رجلاً من الكفار ، وهم ينفضون أرديتهم فيقولون : اللهم إن كان محمد صادقاً في مقالته فارم عمرواً وأصحابه بشواظ من نار .
قال فرمي عمرو وأصحابه بصاعقة من السماء ، فأنزل الله هذه الآية : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج . فالسائل عمرو وأصحابه .
3 - فرات قال : حدثنا أبو أحمد يحيى بن عبيد بن القاسم القزويني معنعناً ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله صلاة الفجر يوم الجمعة ، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم الحسن وأثنى على الله تبارك وتعالى ، فقال : أخرج يوم القيمة وعلي بن أبي طالب أمامي ، وبيده لواء الحمد ، وهو يومئذ من شقتين شقة من السندس وشقة من الإستبرق ، فوثب إليه رجل أعرابي من أهل نجد من ولد جعفر بن كلاب بن ربيعة ، فقال : قد أرسلوني إليك لأسألك ، فقال : قل يا أخا البادية .
--------------------------- 430 ---------------------------
قال : ما تقول في علي بن أبي طالب ، فقد كثر الاختلاف فيه ؟
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ضاحكاً فقال : يا أعرابي ، ولم يكثر الاختلاف فيه ؟ علي مني كرأسي من بدني ، وزري من قميصي .
فوثب الأعرابي مغضباً ثم قال : يا محمد إني أشد من علي بطشاً ، فهل يستطيع علي أن يحمل لواء الحمد ؟
فقال النبي صلى الله عليه وآله : مهلاً يا أعرابي ، فقد أعطي علي يوم القيامة خصالاً شتى : حسن يوسف ، وزهد يحيى ، وصبر أيوب ، وطول آدم ، وقوة جبرئيل . وبيده لواء الحمد وكل الخلائق تحت اللواء ، يحف به الأئمة والمؤذنون بتلاوة القرآن والأذان ، وهم الذين لا يتبددون في قبورهم . فوثب الأعرابي مغضباً وقال : اللهم إن يكن ما قال محمد فيه حقاًّ فأنزل علي حجراً .
فأنزل الله فيه : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج ) .
3 . سندا محمد بن العباس
تأويل الآيات : 2 / 722 :
( وقال أيضاً : حدثنا أحمد بن القاسم ، عن أحمد بن محمد السياري ، عن محمد بن خالد ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه تلا : ( سأل سائل بعذاب
--------------------------- 431 ---------------------------
واقع للكافرين - بولاية علي - ليس له دافع ) ثم قال : هكذا هي في مصحف فاطمة عليها السلام .
ويؤيده : ما رواه محمد البرقي ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين - بولاية علي - ليس له دافع ، ثم قال : هكذا والله نزل بها جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله . ) انتهى .
وقد تقدم أن عبارة ( بولاية علي عليه السلام ) تفسير للآية ، وكانوا يكتبون ذلك في هامش مصاحفهم ، كما ورد عن مصحف ابن عباس أنه كان فيه : وكفى الله المؤمنين القتال ، بعلي ، عليه السلام .
4 . سند جامع الأخبار
بحار الأنوار : 33 / 165 :
( 42 - جامع الأخبار : أخبرنا علي بن عبد الله الزيادي ، عن جعفر بن محمد لدوريستي ، عن أبيه ، عن الصدوق ، عن أبيه ، عن سعد ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن أبيه ، عن محمد بن سنان ، عن زرارة قال : سمعت الصادق عليه السلام قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى مكة في حجة الوداع ، فلما انصرف منها - وفي خبر آخر : وقد شيعه من مكة اثنا عشر ألف رجل من اليمن وخمسة آلاف رجل من المدينة - جاءه جبرئيل في الطريق فقال له : يا رسول الله إن الله تعالى يقرؤك السلام ، وقرأ هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . . فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : يا جبرئيل إن الناس حديثو عهد بالإسلام فأخشى أن يضطربوا ولا يطيعوا . . . فقال له : يا جبرئيل أخشى من أصحابي أن يخالفوني ، فعرج جبرئيل ونزل عليه في اليوم الثالث وكان رسول الله صلى الله عليه وآله بموضع يقال له غدير خم ، وقال له : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ) .
--------------------------- 432 ---------------------------
فلما سمع رسول الله هذه المقالة قال للناس : أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي ، وأمر أن ينصب له منبر من أقتاب الإبل وصعدها وأخرج معه علياً عليه السلام وقام قائماً وخطب خطبة بليغة ، وعظ فيها وزجر ، ثم قال في آخر كلامه : يا أيها الناس ألست أولى بكم منكم ؟
فقالوا : بلى يا رسول الله . . .
فلما كان بعد ثلاثة ، وجلس النبي صلى الله عليه وآله مجلسه أتاه رجل من بني مخزوم يسمى عمر بن عتبة ، وفي خبر آخر حارث بن النعمان الفهري ، فقال : يا محمد أسألك عن ثلاث مسائل . فقال : سل عما بدا لك .
فقال : أخبرني عن شهادة أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله ، أمنك أم من ربك ؟
قال النبي صلى الله عليه وآله : أوحي إلي من الله ، والسفير جبرئيل ، والمؤذن أنا ، وما أذنت إلا من أمر ربي .
قال : فأخبرني عن الصلاة والزكاة والحج والجهاد ، أمنك أم من ربك ؟
قال النبي صلى الله عليه وآله مثل ذلك .
قال : فأخبرني عن هذا الرجل - يعني علي بن أبي طالب عليه السلام - وقولك فيه : من كنت مولاه فهذا علي مولاه . . . أمنك أم من ربك ؟ !
قال النبي صلى الله عليه وآله : أوحي إلي من الله ، والسفير جبرئيل ، والمؤذن أنا ، وما أذنت إلا ما أمرني .
فرفع المخزومي رأسه إلى السماء فقال : اللهم إن كان محمد صادقاً فيما يقول فأرسل عليَّ شواظاً من نار ، وفي خبر آخر في التفسير فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، وولى ، فوالله
--------------------------- 433 ---------------------------
ما سار غير بعيد حتى أظلته سحابة سوداء ، فأرعدت وأبرقت فأصعقت ، فأصابته الصاعقة فأحرقته النار !
فهبط جبرئيل وهو يقول : إقرأ يا محمد : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع .
فقال النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه : رأيتم ؟ ! قالوا : نعم .
قال : وسمعتم ؟ قالوا : نعم .
قال : طوبى لمن والاه والويل لمن عاداه ، كأني أنظر إلى علي وشيعته يوم القيامة يزفون على نوقٍ من رياض الجنة ، شباب متوجون مكحلون لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ، قد أيدوا برضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم ، حتى سكنوا حظيرة القدس من جوار رب العالمين ، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون ، ويقول لهم الملائكة : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) .
5 . سند مدينة المعاجز للبحراني
مدينة المعاجز : 2 / 267 :
( العلامة الحلي في الكشكول : عن محمد بن أحمد بن عبد الرحمان الباوردي : فقال النضر بن الحارث الفهري : إذا كان غداً اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أقبل أنا وأتقاضاه ما وعدنا به في بدء الإسلام ، وانظر ما يقول ، ثم نحتج ، فلما أصبحوا فعلوا ذلك فأقبل النضر بن الحارث فسلم على النبي صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله إذا كنت أنت سيد ولد آدم ، وأخوك سيد العرب ، وابنتك فاطمة سيدة نساء العالمين وابناك الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وعمك حمزة سيد الشهداء وابن عمك ذو الجناحين
--------------------------- 434 ---------------------------
يطير بهما في الجنة حيث يشاء . وعمك جلدة بين عينيك وصنو أبيك ، وشيبة له السدانة ، فما لسائر قومك من قريش وسائر العرب ؟ !
فقد أعلمتنا في بدء الإسلام أنا إذا آمنا بما تقول لنا مالك وعلينا ما عليك .
فأطرق رسول الله صلى الله عليه وآله طويلاً ثم رفع رأسه فقال : أما أنا والله ما فعلت بهم هذا ، بل الله فعل بهم هذا فما ذنبي ؟ !
فولى النضر بن الحارث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم . يعني الذي يقول محمد فيه وفي أهل بيته ، فأنزل الله تعالى : وإذ قالوا إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم . . إلى قوله : وهم يستغفرون . فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى النضر بن الحارث الفهري وتلا عليه الآية فقال : يا رسول الله إني قد سررت ذلك جميعه أنا ومن لم تجعل له ما جعلته لك ولأهل بيتك من الشرف والفضل في الدنيا والآخرة ، فقد أظهر الله ما أسررنا به . أما أنا فأسألك أن تأذن لي أن أخرج من المدينة ، فإني لا أطيق المقام بها !
فوعظه النبي صلى الله عليه وآله إن ربك كريم ، فإن أنت صبرت وتصابرت لم يخلك من مواهبه ، فارض وسلم ، فإن الله يمتحن خلقه بضروب من المكاره ، ويخفف عمن يشاء ، وله الخلق والأمر ، مواهبه عظيمة ، وإحسانه واسع .
فأبى الحارث ، وسأله الإذن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله فأقبل إلى بيته وشد على راحلته وركبها مغضباً ، وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم .
--------------------------- 435 ---------------------------
فلما صار بظهر المدينة وإذا بطيرٍ في مخلبه حجرٌ ، فأرسله إليه فوقع على هامته ، ثم دخلت في دماغه وخرج من جوفه ووقع على ظهر راحلته وخرج من بطنها ، فاضطربت الراحلة وسقطت وسقط النضر بن الحارث من عليها ميتين ، فأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين - بعلي وفاطمة والحسن والحسين وآل محمد - ليس له دافع من الله ذي المعارج . انتهى .
وقال في هامشه : لم نجد كتاب الكشكول للعلامة الحلي رحمه الله بل هو للمحدث الجليل العلامة السيد حيدر بن علي الحسيني الآملي من علماء القرن الثامن الهجري ، أوله : أما البداية فليس بخفي من علمك ولا يستتر عن فهمك وآخره : والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين . انتهى .
6 . رواية المناقب لابن شهرآشوب
بحار الأنوار : 31 / 320 :
( 17 - قب : أبو بصير عن الصادق عليه السلام لما قال النبي صلى الله عليه وآله : يا علي لولا أنني أخاف أن يقول فيك ما قالت النصارى في المسيح لقلت اليوم فيك مقالة لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدمك . . الخبر .
قال الحارث بن عمرو الفهري لقوم من أصحابه : ما وجد محمد لابن عمه مثلاً إلا عيسى بن مريم يوشك أن يجعله نبياً من بعده . والله إن آلهتنا التي كنا نعبد خير منه ! فأنزل الله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلاً . . إلى قوله : وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون ، هذا صراط مستقيم .
وفي رواية : أنه نزل أيضاً : إن هو إلا عبد أنعمنا عليه . . الآية . فقال النبي صلى الله عليه وآله : يا حارث إتق الله وارجع عما قلت من العداوة لعلي بن
--------------------------- 436 ---------------------------
أبي طالب . فقال : إذا كنت رسول الله وعلي وصيك من بعدك وفاطمة بنتك سيدة نساء العالمين والحسن والحسين ابناك سيدي شباب أهل الجنة ، وحمزة عمك سيد الشهداء ، وجعفر الطيار ابن عمك يطير مع الملائكة في الجنة ، والسقاية للعباس عمك ، فما تركت لسائر قريش وهم ولد أبيك ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ويلك يا حارث ما فعلت ذلك ببني عبد المطلب ، لكن الله فعله بهم !
فقال : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء . . الآية . فأنزل الله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله الحارث فقال : إما أن تتوب أو ترحل عنا .
قال : فإن قلبي لا يطاوعني إلى التوبة ، لكني أرحل عنك ! فركب راحلته ، فلما أصحر أنزل الله عليه طيراً من السماء في منقاره حصاة مثل العدسة فأنزلها على هامته وخرجت من دبره إلى الأرض ، ففحص برجله ، وأنزل الله تعالى على رسوله : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين - بولاية علي - .
7 . رواية علي بن إبراهيم القمي
تفسير القمي : 2 / 385 :
( أخبرنا أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الله ، عن محمد بن علي ، عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي الحسن عليه السلام في قوله : سأل سائل بعذاب واقع ، قال : سأل رجل عن الأوصياء وعن شأن ليلة القدر ، وما يلهمون فيها . فقال النبي صلى الله عليه وآله : سألت عن عذابٍ واقع ، ثم كفر بأن ذلك لا يكون ، فإذا وقع فليس له من دافع ) . انتهى .
--------------------------- 437 ---------------------------
وهناك أسانيد أخرى ، يصعب استقصاؤها فراجع شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ، وكنز الحقائق للكراجكي ، والفضائل لشاذان بن جبرئيل ، وتفسير القمي ، والمناقب لابن شهرآشوب ، وغاية المرام للبحراني . . وغيرها .
النتيجة : صحة أصل الحديث ، وتعدد العقاب الإلهي
المتأمل في روايات العقاب الإلهي العاجل لمن اعترض على ولاية علي عليه السلام يصل إلى نتيجتين :
النتيجة الأولى : أن أصل الحديث مستوفٍ لشروط الصحة . . فمهما كان الباحث بطيء التصديق ، ميالاً للتشكيك ، وأجاز لنفسه القول إن الشيعة وضعوا هذا الحديث ودونوه في مصادرهم . . فلا يمكنه أن يفسر وجوده في مصادر السنة بذلك ، لأن عدداً من أئمتهم المحدثين قد رووه وتبنوه ، كما رأيت !
نعم قد يعترض متعصبٌ بأن هؤلاء الأئمة السنيين ، قد رووا ذلك عن أئمة أهل البيت عليهم السلام .
وجوابه أولاً ، أن مقام أهل البيت عليهم السلام عند السنة لا يقل عن مقام كبار أئمتهم ، خاصة مثل الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام الذين يروي عنهما مباشرة أو بالواسطة عدد من كبار أئمتهم ، مثل أبي عبيد والسفيانين والزهري ومالك وأحمد . . وغيرهم .
والحساسية التي قد تراها عند السنيين من أحاديث أهل البيت عليهم السلام إنما هي مما نرويه نحن الشيعة ! أما ما يرويه عنهم أئمتهم ، فقد قبلوه ودونوه في صحاحهم .
--------------------------- 438 ---------------------------
وجوابه ثانياً ، أن طرق الحديث ليست محصورةً بأهل البيت عليهم السلام فقد تقدم طريق الحاكم الحسكاني عن حذيفة ، وأبي هريرة ، وغيرهما أيضاً .
والنتيجة الثانية : أن الحادثة التي وردت في الأحاديث المتقدمة وغيرها لا يمكن أن تكون حادثة واحدة ، بل هي متعددة . . وذلك بسبب تعدد الأسماء ، ونوع العقوبة والأمكنة ، والأزمنة ، والملابسات المذكورة في روايات الحديث . . فرواية أبي عبيد والثعلبي وغيرها تقول إن الحادثة كانت في المدينة أو قربها ، وأن العذاب كان بحجرٍ من سجيل . . ورواية أبي هريرة وغيرها تقول إن الاعتراض كان في نفس غدير خم بعد خطبة النبي صلى الله عليه وآله ، وأن العقوبة كانت بنارٍ نزلت من السماء . . وبعضها يقول إنها كانت بصاعقة . .
والأسماء الواردة متعددة أيضاً ، والتصحيف يصح في بعضها ، لكن لا يصح في جميعها .
المسألة السابعة : عشيرة سأل سائل بعذاب واقع
بقيت عدة مسائل وبحوث ، تتعلق بموضوعنا :
منها ، عدد المعترضين على النبي صلى الله عليه وآله بعد الغدير ، وهوياتهم . . ونوع العقوبة الإلهية التي وقعت عليهم . .
ومنها ، ما أحدثه الإعلان النبوي عن ولاية العترة الطاهرة من تأثير على المسلمين عامة ، وعلى قريش خاصة . . وما يتصل به من الجو العام في الشهرين الأخيرين من حياة النبي صلى الله عليه وآله ، والآيات التي نزلت ، والأحداث التي وقعت . . ومن أهمها تشاور الأنصار وعرضهم على النبي صلى الله عليه وآله أن يخصصوا له ولعترته ثلث أموالهم لمصارفهم ، ونزول آية ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) وزيادة حساسية قريش بسبب ذلك .
--------------------------- 439 ---------------------------
ومن أهمها أيضاً ، أن النبي صلى الله عليه وآله قرر أن يرسل كل شخصيات قريش المؤثرين في جيش إلى مؤتة ، وأمَّر عليهم شاباً أسود البشرة من أصل إفريقي عمره تسع عشرة سنة ، هو أسامة بن زيد !
وهدف النبي صلى الله عليه وآله من ذلك أن يوجه نظر الأمة إلى الجبهة الخارجية ، ويفرغ المدينة من المخالفين لعترته ، حتى إذا توفي لم يكن فيها إلا علي والأنصار . . إلى آخر الأحداث في هذه الفترة الحاسمة .
ومنها ، بحث محاولتي اغتيال النبي صلى الله عليه وآله بعد إعلان الغدير ، في طريق رجوعه في عقبة هرشى ، وفي قصة لده وإعطائه الدواء بالقوة عندما أغمي عليه من الحمى في مرضه رغم نهيه إياهم عن ذلك !
ومنها ، قصة الصحيفة الملعونة الثالثة ، التي ورد في مصادرنا أن المعارضين لإعلان ولاية علي عليه السلام كتبوها في المدينة ، وتعاهدوا ضد آل النبي صلى الله عليه وآله !
ومن البحوث المفيدة أيضاً ، بحث فضل يوم الغدير ، وما ورد في مصادر الفريقين من استحباب صومه ، والشكر وإظهار السرور فيه . . . إلخ .
ومع أنها جميعاً بحوث مفيدة ، ترتبط بموضوعنا . . لكن فضلنا عدم الإطالة والاقتصار على أولها ، وهو عشيرة بني عبد الدار القرشية ، التي ورد عند الفريقين أن آية ( سأل سائل بعذاب واقع ) نزلت في رئيسها النضر بن الحارث ، وفي ابنه جابر بن النضر . . وغرضنا منه استكمال الصورة الصحيحة عن قبائل قريش وحسدها للنبي وأهل بيته الطاهرين ، صلى الله عليه وعليهم .
--------------------------- 440 ---------------------------
الحسد القديم وحلف لعقة الدم
كانت الجزيرة العربية مجتمعات قبلية ، ولم تكن فيها حكومةٌ مركزية ، بل معظم مناطقها تحكمها القبائل . . وكانت الصراعات والحروب ، والتحالفات القبلية أمراً شائعاً بين قبائلها ، ومنها قبائل قريش .
ومن أهم الأحلاف القرشية التي سجلتها مصادر التاريخ ، حلف الفضول الذي دعا إليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله ، وسموه حلف المطيبين ، لأنهم أكدوا تحالفهم بغمس أيديهم في جفنة طيبٍ صنعتها لهم بنت عبد المطلب .
وكانت أهم مبادئ هذا الحلف : أن يحموا الكعبة الشريفة ممن يريد بها شراً ويمنعوا الظلم فيها ، وينصروا المظلوم حتى يصل إلى حقه . وهو الحلف الذي شارك فيه النبي صلى الله عليه وآله ، وكان عمره الشريف نحو عشرين سنة . .
بل تدل بعض الأحاديث على أنه صلى الله عليه وآله أمضاه بعد بعثته ، كما في مسند أحمد : 1 / 190 ، قال : شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام ، فما أحب أن لي حمر النعم . . . وصححه الحاكم : 2 / 220 .
وكان هذا الحلف جواباً لحلف مضاد ، دعا إليه بنو عبد الدار ، فأجابتهم بعض قبائل قريش ، وعرف حلفهم باسم ( لعقة الدم ) لأنهم ذبحوا بقرة ، وأكدوا تحالفهم بأن يلعق ممثل القبيلة لعقةً من دمها !
وقد اختلفت النصوص في سبب الحلفين ووقتهما ، فذكر بعضها أنه عند بناء الكعبة بسبب اختلافهم على القبيلة التي تفوز بشرف وضع الحجر الأسود في موضعه . وذكر بعضها أنه كان بسبب شكاية بائع مظلوم ، اشترى منه قرشي بضاعة ، وأراد أن يأكل عليه ثمنها . .
--------------------------- 441 ---------------------------
والأرجح ما ذكره ابن واضح اليعقوبي من أن بني عبد الدار حسدوا عبد المطلب ، فدعوا إلى حلف لعقة الدم ، فدعا عبد المطلب في مقابلهم إلى حلف المطيبين . قال اليعقوبي في تاريخه : 1 / 248 :
( ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر ، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا ، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب ، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم فقالوا : إمنعونا من بني عبد مناف . . . فتطيب بنو عبد مناف ، وأسد ، وزهرة ، وبنو تيم ، وبنو الحارث بن فهر ، فسموا حلف المطيبين .
فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا : من أدخل يده في دمها ولعق منه ، فهو منا ! فأدخلت أيديها بنو سهم ، وبنو عبد الدار ، وبنو جمح ، وبنو عدي ، وبنو مخزوم ، فسموا اللعقة .
وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا ، ولا يسلم بعضهم بعضاً .
وقالت اللعقة : قد اعتدنا لكل قبيلةٍ قبيلة . انتهى .
وقال اليعقوبي : 2 / 17 : ( حضر رسول الله صلى الله عليه وآله حلف الفضول وقد جاوز العشرين ، وقال بعد ما بعثه الله : حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ، ما يسرني به حمر النعم ، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت . وكان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة على الحمية والمنعة ، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف ، وبنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو تيم ، وبنو الحارث بن فهر ، على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير ، وما بلَّ بحرٌ صوفة .
--------------------------- 442 ---------------------------
وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيباً فغمسوا أيديهم فيه . . . فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريب ولا غيره ، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم ، واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي .
وكانت الأحلاف هاشم ، وأسد ، وزهرة ، وتيم ، والحارث بن فهر ، فقالت قريش : هذا فضول من الحلف ، فسمي حلف الفضول ) . انتهى .
وفي سيرة ابن هشام : 1 / 85 : ( فكان بنو أسد بن عبد العزى بن قصي ، وبنو زهرة بن كلاب ، وبنو تيم بن مرة بن كعب ، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر ، مع بني عبد مناف .
وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة ، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب ، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب ، وبنو عدي بن كعب ، مع بني عبد الدار ) . انتهى .
- *
ويفهم من هذه النصوص وغيرها أن حركة التحالف بدأها بنو عبد الدار حسداً لعبد المطلب ، فسعوا للتحالف ضده ، فبادر عبد المطلب ومؤيدوه إلى عقد حلف المطيبين قبلهم ، ثم عقد بنو عبد الدار ومؤيدوهم حلف لعقة الدم . ويفهم منها ، أن أهداف حلف عبد المطلب حماية الكعبة ونصرة المظلوم ، بينما هدف حلف بني عبد الدار مواجهة المطيبين !
بنو عبد الدار أصحاب لواء قريش
وذكر المؤرخون أن بني عبد الدار ورثوا من جدهم قصي دار الندوة التي كانت مركزاً لمجلس شيوخ قريش ، يبحثون فيها الأمور المهمة ، ويتخذون
--------------------------- 443 ---------------------------
فيها القرارات ، كما ورث بنو عبد الدار لواء الحرب ، فكانوا هم أصحاب لواء قريش في حروبها . . قال البلاذري في فتوح البلدان 60 :
( فلم تزل دار الندوة لبني عبد الدار بن قصي ، حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي ، من معاوية بن أبي سفيان ، فجعلها داراً للإمارة ) . انتهى .
وقد قتل علي عليه السلام من بني عبد الدار كل من رفع لواء قريش في وجه رسول صلى الله عليه وآله ، فبلغوا بضعة عشر ، وروي أن بعضهم قتله عمه حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه !
قال ابن هشام في : 3 / 587 : واصفاً تحميس أبي سفيان وزوجته لبني عبد الدار في أحد : ( قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال : يا بني عبد الدار إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر ، فأصابنا ما قد رأيتم ، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم ، إذا زالت زالوا ، فإما أن تكفونا لواءنا ، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه !
فهمُّوا به وتواعدوه ، وقالوا : نحن نسلم إليك لواءنا ؟ ! ! ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع ! وذلك أراد أبو سفيان .
فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض ، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها ، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم ، فقالت هند فيما تقول :
وَيْهاً بني عبد الدار . . . وَيْهاً حماة الأدبار . . . ضرباً بكل بتار
وفي سيرة ابن هشام : 3 / 655 : ( قال ابن هشام : أنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي يمدح أبا الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ،
--------------------------- 444 ---------------------------
ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، صاحب لواء المشركين يوم أحد :
لله أيُّ مذببٍ عن حرمةٍ * أعني ابن فاطمة المعِمَّ المخْوِلا
سبقت يداك له بعاجل طعنةٍ * تركت طليحة للجبين مجدلا
وشددت شدةَ باسلٍ فكشفتهم * بالجر إذ يهوون أخول أخولا
- *
وقد تتابع على حمل لواء المشركين يوم أحد تسعة من بني عبد الدار ، وقيل أكثر وركزوا حملاتهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله بعد أن تركه المسلمون وهربوا صعوداً في الجبل ، وثبت النبي صلى الله عليه وآله ومعه علي عليه السلام وحدهما ! في وجه حملات قريش التي تواصلت إلى ما بعد الظهر ! وكان النبي صلى الله عليه وآله يقاتل في مركزه ، وعلي عليه السلام يحمل عليهم ، يضرب مقدمتهم ، ثم يغوص فيهم يضرب يميناً وشمالاً ، حتى يصل إلى العبدري حامل لوائهم فيحصد رأسه ، فتنكفيء الحملة . .
ثم يتحمس عبدريٌّ آخر فيحمل لواء الشرك ، ويهجمون باتجاه الرسول صلى الله عليه وآله فيتلقاهم علي عليه السلام وهو راجلٌ وهم فرسان ! ! حتى قتل من فرسان قريش عشرات ، ومن العبدريين أصحاب ألويتهم تسعة ! فيئسوا وانسحبوا ، ونادى مناديهم كذباً : قتل محمد !
وقد أصابته صلى الله عليه وآله بضع جراحات ، وأصابت علياًّ عليه السلام بضع وسبعون جراحة ! منها جراحاتٌ بليغة ، مسح عليها النبي صلى الله عليه وآله بريقه فبرأت !
--------------------------- 445 ---------------------------
بنو عبد الدار علموا قريشاً فناًّ مبتكراً في الدفاع
ومن طريف ما ذكره المؤرخون عن بني عبد الدار الشجعان ، أنهم أول من علم قريشاً أسلوباً في الدفاع عن نفسها في الحرب أمام بني هاشم ، فابتكروا طريقة في الحرب تستفيد من سمو بني هاشم الأخلاقي وخساسة أقرانهم !
روى ابن كثير في السيرة : 3 / 39 ، ناقلاً عن ابن هشام :
( لما اشتد القتال يوم أحد ، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار ، وأرسل إلى علي أن قدم الراية ، فقدم علي وهو يقول : أنا أبو القصم ، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة ، وهو صاحب لواء المشركين : هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة ؟ قال : نعم .
فبرزا بين الصفين ، فاختلفا ضربتين ، فضربه علي فصرعه ، ثم انصرف ولم يجهز عليه ! فقال له بعض أصحابه : أفلا أجهزت عليه ؟
فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم ، وعرفت أن الله قد قتله .
وقد فعل ذلك علي رضي الله عنه يوم صفين مع بسر بن أبي أرطاة ، لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته ، فرجع عنه .
وكذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين ، أبدى عن عورته ، فرجع علي أيضاً . ففي ذلك يقول الحارث بن النضر :
أفي كل يوم فارسٌ غير منتهٍ * وعورته وسط العجاجة باديه
يكفُّ لها عنه عليٌّ سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاوية ! !
--------------------------- 446 ---------------------------
النضر بن الحارث رئيس بني عبد الدار
قال ابن هشام في سيرته : 1 / 195 :
( وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العدواة ، وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار ، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فذكر فيه بالله ، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم قال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه ، فهلم إلي فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار ، ثم يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً مني ؟ !
قال ابن هشام : وهو الذي قال فيما بلغني : سأنزل مثل ما أنزل الله .
قال ابن إسحاق : وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول فيما بلغني : نزل فيه ثمان آيات من القرآن ، قول الله عز وجل : إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين . وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن ) . انتهى .
وذكر ابن هشام 1 / 239 ، قول النضر عن النبي صلى الله عليه وآله ( وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتبتها كما اكتتبتها ! ) .
وقال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 181 :
( وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : نزلت في النضر : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ، ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ، وسأل سائل بعذاب واقع ! قال عطاء رضي الله عنه : لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله ) . انتهى . وروى نحوه في : 5 / 297 عن عبد بن حميد .
--------------------------- 447 ---------------------------
وقال عنه في تفسير الجلالين 540 :
( وهو النضر بن الحارث ، كان يأتي الحيرة يتجر فيشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة ويقول : إن محمداً يحدثكم أحاديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم أحاديث فارس والروم ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ! ) . انتهى .
وقد عرفت أن مصادرنا وعدداً من مصادر السنيين ذكرت أن السائل بالعذاب الواقع هو جابر بن النضر بن الحارث ، أو الحارث الفهري . وأن أكثر مصادر السنيين رجحت أنه أبوه النضر بن الحارث ، اعتماداً على روايات عن ابن جبير وابن عباس غير مرفوعة .
فقد روى الحاكم في المستدرك : 2 / 502 : ( عن سعيد بن جبير ، سأل سائل بعذاب واقع ، قال : هو النضر بن الحارث بن كلدة ، قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) .
وقال السيوطي في الدر المنثور : 6 / 263 :
أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عباس . . . إلخ ) . انتهى .
ولم أجد في مصادر السيرة والتراجم عن الابن غير قصة هلاكه بحجر من السماء ، لكفره وبغضه لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، ولعله كان شاباً ، أو أنهم عتَّموا على ذكره حسداً لأهل البيت عليهم السلام .
ويدل الموجود في مصادر السيرة على أن الأب أسوأ من الأبن بكثير ، لأنه من كبار الفراعنة الذين واجهوا النبي صلى الله عليه وآله ، ولعل ابنه لو عاش لفاق أباه كفراً وعتواً ! !
--------------------------- 448 ---------------------------
وكان النضر عضو مجلس الفراعنة المتآمرين على النبي صلى الله عليه وآله قال ابن هشام : 1 / 191 : ( ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء ، وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين . ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة . . . اجتمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث أخو بني عبد الدار ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف ، أو من اجتمع منهم . . . قال : اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، قال بعضهم لبعض : إبعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه . فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فقالوا له : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة ، فما بقي أمرٌ قبيحٌ إلا قد جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا - : فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً .
وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا .
وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا .
وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً - فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيك !
--------------------------- 449 ---------------------------
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون ، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم . . . إلى آخر مناظرتهم .
وقال ابن هشام : 2 / 331 :
( عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما أجمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة . . . وقد اجتمع فيها أشراف قريش من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب . ومن بني نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل . ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة . . . إلخ .
فقال أبو جهل بن هشام : والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد .
قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟
قال : أرى أن نأخذ من كان قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم . انتهى . ورواه الطبري في تاريخه : 2 / 98
--------------------------- 450 ---------------------------
وكان النضر رسول قريش إلى اليهود
جاء في سيرة ابن هشام : 1 / 195
( قام النضر بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي . . . قال : يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمرٌ ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثاً ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به ، قلتم ساحر ، لا والله ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم . وقلتم كاهن ، لا والله ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم . وقلتم شاعر ، لا والله ما هو بشاعر ، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها : هزجه ورجزه . وقلتم مجنون ، لا والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقة ، ولا وسوسته ، ولا تخليطه . يا معشر قريش فانظروا في شأنكم ، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم . . .
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه ، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، وقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصفاً لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ؟
فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول فَرَوْا فيه رأيكم . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول : ما كان أمرهم ، فإنه قد كان لهم حديث عجيب ؟
--------------------------- 451 ---------------------------
وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبأه ؟ وسلوه عن الروح ما هي ؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي ، وإن لم يفعل فهو رجلٌ متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . . . إلى آخر القصة . ورواها في عيون الأثر : 1 / 142 .
كاتب الصحيفة الملعونة الأولى ضد بني هاشم
قال ابن هشام : 1 / 234 :
( اجتمعوا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم ، وبني المطلب ، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم ، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ، تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم ، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي . قال ابن هشام : ويقال النضر بن الحارث ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشل بعض أصابعه ) .
وقال ابن واضح اليعقوبي في تاريخه : 2 / 31 :
( وهمت قريش بقتل رسول الله ، وأجمع ملأها على ذلك ، وبلغ أبا طالب فقال :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أغيَّبَ في التراب دفينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح * ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه * من خير أديان البرية دينا
--------------------------- 452 ---------------------------
فلما علمت قريش أنهم لا يقدرون على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وأن أبا طالب لا يسلمه ، وسمعت بهذا من قول أبي طالب ، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة ألا يبايعوا أحداً من بني هاشم ، ولا يناكحوهم ، ولا يعاملوهم ، حتى يدفعوا إليهم محمدا فيقتلوه .
وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا ، وختموا على الصحيفة بثمانين خاتماً ، وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ، فشلت يده .
ثم حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب بن عبد مناف في الشعب الذي يقال له شعب أبي طالب ست سنين من مبعثه . فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين ، حتى أنفق رسول الله ماله ، وأنفق أبو طالب ماله ، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها ، وصاروا إلى حد الضر والفاقة .
ثم نزل جبريل على رسول الله فقال : إن الله بعث الأرضة على صحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم ، إلا المواضع التي فيها ذكر الله ! فخبر رسول الله أبا طالب بذلك ، ثم خرج أبو طالب ومعه رسول الله وأهل بيته حتى صار إلى الكعبة فجلس بفنائها ، وأقبلت قريش من كل أوب فقالوا : قد آن لك يا أبا طالب أن تذكر العهد وأن تشتاق إلى قومك ، وتدع اللجاج في ابن أخيك ! فقال لهم : يا قوم أحضروا صحيفتكم فلعلنا أن نجد فرجاً وسبباً لصلة الأرحام وترك القطيعة ، وأحضروها وهي بخواتيمهم . فقال : هذه صحيفتكم على العهد لم تنكروها ؟ قالوا : نعم .
قال : فهل أحدثتم فيها حدثاً ؟ قالوا : اللهم لا .
--------------------------- 453 ---------------------------
قال : فإن محمداً أعلمني عن ربه أنه بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله ، أفرأيتم إن كان صادقاً ماذا تصنعون ؟
قالوا : نكف ونمسك .
قال : فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه .
قالوا : قد أنصفت وأجملت . وفضت الصحيفة فإذا الأرضة قد أكلت كل ما فيها إلا مواضع بسم الله عز وجل ! ! فقالوا : ما هذا إلا سحر ، وما كنا قط أجد في تكذيبه منا ساعتنا هذه ! ! وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم ، وخرج بنو هاشم من الشعب وبنو المطلب فلم يرجعوا إليه ) . انتهى .
- قال ابن كثير في تاريخه : 3 / 121 ، وسيرته : 2 / 69 :
قال ابن إسحاق : فلما مزقت وبطل ما فيها ، قال أبو طالب ، فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم :
ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أرود
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت * وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
تراوحها إفك وسحر مجمع * ولم يلف سحرا آخر الدهر يصعد
تداعى لها من ليس فيها بقرقر * فطائرها في رأسها يتردد
وكانت كفاء وقعة بأثيمة * ليقطع منها ساعد ومقلد
ويظعن أهل المكتين فيهربوا * فرائصهم من خشية الشر ترعد
ويترك حراث يقلب أمره * أيتهم فيها عند ذاك وينجد
فمن ينش من حضار مكة عزة * فعزتنا في بطن مكة أتلد
نشأنا بها والناس فيها قلائل * فلم ننفك نزداد خيرا ونحمد
--------------------------- 454 ---------------------------
وبعده في السيرة :
وتصعد بين الاخشبين كتيبة * لها حدج سهم وقوس ومرهد
ونطعم حتى يترك الناس فضلهم * إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
جزى الله رهطا بالحجون تبايعوا * على ملا يهدي لحزم ويرشد
قعودا لذي خطم الحجون كأنهم * مقاولة بل هم أعز وأمجد
أعان عليها كل صقر كأنه * إذا مامشى في رفرف الدرع أحرد
جرئ على جلى الخطوب كأنه * شهاب بكفي قابس يتوقد
( ألا إن خير الناس نفسا ووالداً * إذا عد سادات البرية أحمد
نبي الإله والكريم بأصله * وأخلاقه وهو الرشيد المؤيد
جرئ على جلى الخطوب كأنه * شهاب بكفي قابس يتوقد )
من الأكرمين من لؤي بن غالب * إذا سيم خسفا وجهه يتربد
طويل النجاد خارج نصف ساقه * على وجهه يسقي الغمام ويسعد
عظيم الرماد سيد وابن سيد * يحض على مقرى الضيوف ويحشد
والخبر في سيرة ابن هشام : 1 / 254 )
وفي هامشه : ( بحرينا : قال السهيلي : يعني الذين بأرض الحبشة ، والذين هاجروا إليها من المسلمين في البحر .
قال السهيلي : وللنساب من قريش في كاتب الصحيفة قولان ، أحدهما : إن كاتب الصحيفة هو بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد الدار .
والقول الثاني : أنه منصور بن عبد شرحبيل بن هاشم من بني عبد الدار أيضا ! ! وهو خلاف قول ابن إسحاق ، ولم يذكر الزبير في كاتب الصحيفة غير هذين القولين ، والزبيريون أعلم بأنساب قومهم ) . انتهى .
--------------------------- 455 ---------------------------
والأبيات الثلاثة التي وضعناها بين قوسين لا توجد في نسخة ابن هشام ولا ابن كثير المتداولة ، وقد ذكرها الأميني رحمه الله ( 7 / 366 ) في روايته عن ابن كثير . . ومن عادة قدماء الرواة والمؤلفين السنيين أن يحذفوا أمثالها ، لأنها تضر بزعمهم أن أبا طالب رضوان الله عليه مات مشركاً ولم يسلم ! !
وقال الأميني رحمه الله : ( توجد في ديوان أبي طالب أبيات من هده القصيدة غير ما ذكر لم نجدها في غيره .
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة * متى ما يخبر غائب القوم يعجب
محى الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب
فأصبح ما قالوا من الأمر باطلا * ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
انتهى . وهي أبيات من قصيدة طويلة لأبي طالب رضوان الله عليه ، يبدو أنه قالها قبل القصيدة المتقدمة . وقد روى منها الشيخ المفيد رحمه في ( إيمان أبي طالب ) ص 33 ، وكذا ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب : 1 / 60 : - كما رواها البحراني رحمه الله في حلية الأبرار : 1 / 79 ( و 86 ) ، عن تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم قال : حدثنا علي بن جعفر ، قال : حدثني محمد بن عبد الله الطائي ، قال : حدثنا محمد بن أبي عمير ، قال : حدثنا حفص الكناسي ، قال : سمعت عبد الله بن بكر الأرجاني . . . : ( فقال أبو طالب : يا قوم اتقوا الله وكفوا عما أنتم عليه ، فتفرق القوم ولم يتكلم أحد ، ورجع أبو طالب إلى الشعب ، وقال في ذلك قصيدته البائية ، التي أولها :
ألا من لهم آخر الليل منصب * وشعب العصا من قومك المتشعب
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة * متى ما يخبر غائب القوم يعجب
--------------------------- 456 ---------------------------
محا الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب
وأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً * ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً * على سخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبونا مسلمين محمداً * لذي عزة منا ولا متعرب
ستمنعه منا يدٌ هاشميةٌ * مركبها في الناس خير مركب . انتهى
وقد بحثنا في المجلد الثالث من العقائد الاسلامية ، افتراء قريش على بني هاشم وزعمها أن أبا طالب مات مشركاً ! !
وكان النضر من المطعمين جيش قريش في بدر
تقدم في البحث الخامس أن النضر أحد الرهط الذين كانوا يطعمون جيش قريش في حرب بدر ، وقد عده النبي صلى الله عليه وآله من أفلاذ أكباد مكة عاصمة قريش ! ( ابن هشام : 2 / 488 ، وتاريخ الطبري : 2 / 142 ) .
نهاية الأول من فراعنة ( سأل سائل )
قال ابن هشام في سيرته : 2 / 206 - 207 :
( ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً إلى المدينة ، ومعه الأسارى من المشركين ، وفيهم عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث . . . قال ابن إسحاق : حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء ، قتل النضر بن الحارث ، قتله علي بن أبي طالب ، كما خبرني بعض أهل العلم من أهل مكة . قال ابن إسحاق : ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية ، قتل عقبة ابن أبي معيط . ( راجع أيضاً سيرة ابن هشام : 2 / 286 و 527 ، وتاريخ الطبري : 2 / 157 و 286 ) .
--------------------------- 457 ---------------------------
وفي معجم البلدان : 1 / 94 :
الأثيل : تصغير الأثل موضعٌ قرب المدينة ، وهناك عين ماء لآل جعفر بن أبي طالب ، بين بدر ووادي الصفراء ، ويقال له ذو أثيل . . . وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، قتل عنده النضر بن الحارث بن كلدة ، عند منصرفه من بدر ، فقالت قتيلة بنت النضر ترثي أباها ، وتمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا راكباً إن الأثيل مظنةٌ * من صبحِ خامسةٍ ، وأنت موفقُ
بلغ به ميتاً ، فإن تحيةً * ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليه ، وعبرةً مسفوحةً * جادت لمائحها وأخرى تخنق
فليسمعن النضر ، إن ناديته * إن ان يسمع ميت أو ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه * لله أرحام هناك تشقق !
أمحمد ! ولأنت ضنء نجيبة * في قومها ، والفحل فحل معرق
لو كنت قابل فدية ، فلنأتين * بأعزماً يغلو لديك وينفق
ما كان ضرك لو مننت وربما * مَنَّ الفتى ، وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من أصبت وسيلة * وأحقهم ، إن كان عتق يعتق
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم شعرها رق لها ، وقال : لو سمعت شعرها قبل قتله لوهبته لها . انتهى .
ومن الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كان أكره الناس للقتل ، وأنه لم يقتل أحداً إلا عند اللزوم والضرورة . . وحسبك أن جميع القتلى في جميع حروبه صلى الله عليه وآله من الطرفين ومن أقام عليهم الحد الشرعي لا يبلغون
--------------------------- 458 ---------------------------
ست مئة شخص ، وبذلك كانت حركته العظيمة صلى الله عليه وآله أعظم حركة في نتائجها ، وأقل حركة في كلفتها !
وأما قتله للنضر فلأنه كان جرثومة شر وفساد !
ومثله صديق النضر وشريكه في الشر ، عقبة بن معيط الأموي ، وكان صاحب خمارة ومبغى في مكة ، وكان معروفاً بإلحاده .
وإذا صح ما قاله صلى الله عليه وآله لبنت النضر الشاعرة ، فمعناه أن الله تعالى أجاز له أن يعفو عنه لابنته ، لما في شعرها من قيم واستعطاف !
النضير بن الحارث . . أخ النضر ووارثه
ذكرت مصادر السيرة والتاريخ أن لواء قريش بعد النضر كان بيد آخرين من بني عبد الدار ، ولم تذكر أن أخاه النضير كان فارساً مثله ، ويظهر أنه صار بعد أخيه النضر رئيس بني عبد الدار ، وإن لم يكن شجاعاً صاحب اللواء ، فقد وصفه رواة قريش وأصحاب السير بالحلم ، إشارة إلى أنه كان سياسياً محباً للدعة . . وعدوه من رؤساء قريش والمؤلفة قلوبهم ، الذين أعطى النبي لكل واحد منهم مئة بعير من غنائم حنين .
قال الطبري في تاريخه : 2 / 358 عن عطاءات النبي في حنين :
( فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير ، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير ، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة بن علقمة أخا بني عبد الدار مائة بعير ، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير ، وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير ، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير ، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير ، وأعطى حويطب بن عبد
--------------------------- 459 ---------------------------
العزى بن أبي قيس مائة بعير . . . ونحوه في سيرة ابن هشام : 4 / 929 ، وابن كثير : 3 / 682 وتاريخ اليعقوبي . وقد تقدم ذكره في البحث الخامس ، واعترافه بأنه خطط مع زعماء قريش لقتل النبي صلى الله عليه وآله في حنين ، ولم يتمكنوا من ذلك !
وقد اختلط اسم النضير عند بعضهم باسم أخيه النضر ، قال الرازي في الجرح والتعديل : 8 / 473 :
( النضر بن الحارث بن كلدة العبدري من مسلمة الفتح ، ويقال نضير وليست له رواية ، سمعت أبي يقول ذلك . وقال في هامشه : وهذا هو الصواب إن شاء الله ، لأن النضر بن الحارث قتل كافراً إجماعاً ، وإنما هذا أخوه ، واحتمال أن يكون مسمى باسمه أيضاً بعيد ، وأثبت ما جاء في الروايات أن هذا هو ( النضير ) . . راجع الإصابة الترجمتين ) . انتهى .
رواة قريش يجعلون النضير مسلماً مهاجراً شهيداً !
وعلى عادة رواة قريش ، فقد جعلوا من الحارث أو النضير شخصيةً إسلامية ، وعدوه في المهاجرين وشهداء اليرموك . . ويظهر أنهم جعلوا كل الذين كانوا في الشام من القرشيين وماتوا في طاعون عمواس ، مثل سهيل بن عمرو والعبدريين ، جعلوهم شهداء ، وعدوهم في شهداء اليرموك !
قال السمعاني المحب لقريش وبني أمية ، في أنسابه : 3 / 110 :
( الرهيني : بفتح الراء وكسر الهاء بعدهما الياء الساكنة آخر الحروف وفي آخرها النون ، هذه النسبة إلى رهين ، وهو لقب الحارث بن علقمة ويلقب بالرهين ، ومن ولده محمد بن المرتفع بن النضير بن الحارث بن علقمة بن
--------------------------- 460 ---------------------------
كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي الرهيني ، يروي عن عبد الله بن الزبير ، روى عنه سفيان بن عيينة .
فأما جده النضير بن الحارث فكان من المهاجرين ، وكان يعد من حلماء قريش ، قتل يوم اليرموك شهيداً ، وهو أخو النضر بن الحارث الذي قتله علي بن أبي طالب بالصفراء صبرا يوم بدر ، وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه نزلت سورة ( سأل سائل بعذاب واقع ) وقالت بنته أبياتاً من الشعر . . . وتبعه في إكمال الكمال : 1 / 327 ، وغيره .
هل اعترض النضير على النبي صلى الله عليه وآله
مثل أخيه وابن أخيه ؟
روت مصادرنا مناقشة غريبة لأحدهم مع النبي صلى الله عليه وآله في المدينة ، وسمته النضر بن الحارث الفهري ، ويحتمل أن تكون كلمة الفهري تصحيف العبدري ، نسبةً إلى بني عبد الدار ، والنضر تصحيف النضير . . وإذا صحت نسبتها إليه ، فتكون صدرت منه في المدينة بعد حجة الوداع . وقد تقدمت من كتاب مدينة المعاجز للبحراني : 2 / 267 ، وفيها :
( أقبل النضر بن الحارث فسلم على النبي صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله إذا كنت أنت سيد ولد آدم ، وأخوك سيد العرب ، وابنتك فاطمة سيدة نساء العالمين ، وابناك الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وعمك حمزة سيد الشهداء ، وابن عمك ذا الجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء ، وعمك جلدة بين عينيك وصنو أبيك ، وشيبة له السدانة . . فما لسائر قومك من قريش وسائر العرب ؟ ! فقد أعلمتنا في بدء الإسلام أنا إذا آمنا بما تقول لنا ما لك وعلينا ما عليك .
--------------------------- 461 ---------------------------
فأطرق رسول الله صلى الله عليه وآله طويلاً ، ثم رفع رأسه فقال : أما أنا والله ما فعلت بهم هذا ، بل الله فعل بهم هذا ، فما ذنبي ؟ ! . . .
فوعظه النبي صلى الله عليه وآله وقال له : إن ربك كريم ، فإن أنت صبرت وتصابرت ، لم يخلك من مواهبه ، فارض وسلم ، فإن الله يمتحن خلقه بضروب من المكاره ، ويخفف عمن يشاء ، وله الخلق والأمر ، مواهبه عظيمة ، وإحسانه واسع . فأبى الحارث ) . انتهى .
وقد نص ابن هشام : 2 / 488 ، على أن النضير هذا يسمى الحارث أيضاً باسم أبيه ، وسماه اليعقوبي في تاريخه : 2 / 63 ( الحارث بن الحارث بن كلدة ) ، وهو أمر يوجب الشك ، لأنه يستغرب أن يكون لشخص اسمان معاً ، خاصةً إذا كان أحدهما باسم أبيه ، لأن العوائل المالكة في القبائل تحترم اسم الأب ولا تغيره إلى اسمٍ آخر ، ولا تضيف معه اسماً آخر ، لأنه يضعف مكانته ! وهذا يفتح باب الاحتمال أن يكون الحارث أخاهم الثالث ، وأن يكون هو الذي ورد اسمه في بعض الروايات أنه اعترض على النبي صلى الله عليه وآله لإعلانه ولاية علي والحسنين من بعده عليهم السلام ، فرماه الله بصاعقة أو حجر من سجيل ! وبذلك يكون العذاب الواقع نزل بثلاثة أشخاص من هذه الأسرة : الأب في بدر ، وولده جابر الذي نص عليه أبو عبيد ، والحارث هذا . . ويكون اسم عشيرة العذاب الواقع ، مثلث الانطباق على هذه القبيلة ! !
كما يحتمل أن يكون صاحبنا النضير بن الحارث ، أو الحارث بن الحارث العبدري ، هو الحارث المعترض ، لكن لم تنزل عليه العقوبة ، لأنهم ذكروا وفاته في الشام ، وليس بالعذاب الواقع .
--------------------------- 462 ---------------------------
ومهما يكن ، فإن من المؤكد أنه يوجد حارثٌ غيره اعترض على النبي صلى الله عليه وآله حيث ورد ذكره في تفسير الثعلبي ، وعدد من مصادرنا باسم الحارث بن النعمان الفهري ، وأنه هو صاحب حجر السجيل ، كما تقدم . وكذلك تقدم اسم الحارث بن عمرو الفهري ، في رواية الحاكم الحسكاني ، ورواية الكافي والمناقب .
ومما يؤيد أنه حارثٌ آخر ، أنهم ترجموا لشخص وأولاده ، ولم يذكروا عنه شرحاً ، ولا ذكروا سبب موته . . فقد ينطبق عليه !
قال ابن كثير في سيرته : 2 / 499 : ( عامر بن الحارث الفهري ، كذا ذكره سلمة عن ابن إسحاق وابن عائذ . وقال موسى بن عقبة وزياد عن ابن إسحاق : عمرو بن الحارث ) .
وقال في ص 502 : ( عمرو بن عامر بن الحارث الفهري ، ذكره موسى بن عقبة ) . انتهى . وذكر نحوه في عيون الأثر : 1 / 358 .
وعليه ، يكون الحارث صاحب حجر السجيل فهرياً ، وليس عبدرياً .
ويكون جابر بن النضر العبدري الذي ورد في رواية أبي عبيد ، صاحب حجر سجيل آخر . . والله العالم .
الأفجران من قريش أم . . . الأفجرون ؟
ورد في مصادر الحديث أن أسوأ قبائل قريش ، وأشدها على النبي صلى الله عليه وآله هم بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وهم فرع أبي جهل من مخزوم ، وورد وصفهم بالأفجرين . . ولا بد أن نضيف إليهم بني عبد الدار فيكون الأفجرون بالجمع . . وإن كان الإنسان بعد أن يستثني بني هاشم والقلة الذين معهم من قريش ، يشك في من هو الأحسن والأفجر من الباقين ! !
--------------------------- 463 ---------------------------
قال السيوطي في الدر المنثور : 4 / 84 :
( وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، قال : هما الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ! ) . انتهى .
ويشبه أن يكون ذلك كلاماً نبوياً ردده عمر ، وإذا صح ذلك عنه ، يتوجه إليه السؤال : لماذا ولى معاوية الأموي على حكم الشام ، وأطلق يده ولم يحاسبه أبداً ، ثم رتب الخلافة من بعده في شورى جعل فيها حق النقض لصهر عثمان الأموي ، فأكمل بذلك تسليم الدولة الإسلامية لأحد الأفجرين من قريش ؟ ولكنها . . السياسة ! !
- *
تم كتاب آيات الغدير ، والحمد لله رب العالمين