سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام - ج 4
--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
سلسلة جواهر التاريخ
سيرة أمير المؤمنين عليهم السلام
نقل العاصمة إلى الكوفة وحرب صفين
علي الكوراني العاملي
المجلد الرابع
طبعة مزيدة ومنقحة
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
سيرة أمير المؤمنين عليهم السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الرابع
الطبعة الأولى
1440 - 2018
دار المعروف
--------------------------- 4 ---------------------------
سرشناسه ، كورانى ، على ، 1944 - م . / Kurani . Ali
عنوان ونام پديدآور : سيرة أمير المؤمنين ( ع ) / على الكوراني العاملي .
مشخصات نشر : قم : دار النشر المعروف ، 1438 ق = 2017 م . = 1396 -
مشخصات ظاهري : ج .
شابك : ج . 4 9786008916147
وضعيت فهرست نويسى : فيپا
يادداشت : عربى .
مندرجات : ج . 4 . نقل العاصمة إلى الكوفة وحرب صفين
موضوع : علي بن أبى طالب ( ع ) ، امام أول ، 23 قبل از هجرت - 40 ق . - سرگذشتنامه
موضوع : 600 - 661 Ali ibn abi - Talib , Imam I
رده بندى كنگره : 1396 9 س 85 ك / 37 BP
رده بندى ديويى : 951 / 297
شماره كتابشناسى ملى : 4992656
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
نقل العاصمة إلى الكوفة وحرب صفين
المؤلف : علي الكوراني
الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
الطبعة : الأولى .
تاريخ النشر : ربيع الأول 1440 ه ق - 2018 Nov
المطبعة : باقرى - قم المقدسة .
عدد المطبوع : 2000 نسخة .
شابك : 7 - 14 - 8916 - 600 - 978
دار المعروف
للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 158 - 37156 تلفون : 2532926175 ( 0 ) 0098
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www . maroof . org
Email : nashremaroof @ gmail . com
--------------------------- 5 ---------------------------
الفصل الثامن والستون: الكوفة مدينة عريقة جددها المسلمون
زعمت السلطة أنها مَصَّرَت الكوفة
فقد ادعت مصادر الحديث والتاريخ الرسمي ، أن سعد بن أبي وقاص مصَّرالكوفة وأسكنها المسلمين ، وأن ذلك كان بتوجيه عمر بن الخطاب .
ففي فتوح البلاذري ( 2 / 338 ) : ( أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره أن يتخذ للمسلمين دار هجرة ، وأن لا يجعل بينه وبينهم بحراً . فأتى الأنبار وأراد أن يتخذها منزلاً ، فكثر على الناس الذباب ، فتحول إلى موضع آخر فلم يصلح ، فتحول إلى الكوفة فاختطها وأقطع الناس المنازل ، وأنزل القبائل منازلهم وبنى مسجدها . وذلك في سنة سبع عشرة ) .
والصحيح أن الذي اختار مكان الكوفة حذيفة وسلمان ، بتوجيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال الكلاعي ( 2 / 534 ) : ( فكتب إليه عمر : إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان ، فابعث سلمان رائداً وحذيفة ، وكانا رائدي الجيش ، فليرتادا ) .
وقال الطبري ( 3 / 145 ) : فخرج سلمان حتى أتى الأنبار فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة . وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، والكوفة على حصباء . وكل رملة حمراء يقال لها سهلة ، وكل حصباء ورمل هكذا مختلطين فهو كوفة ، فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة : دير حرقة ، ودير أم عمرو ، ودير سلسلة ، وخصاص خلال ذلك ، فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا وقال كل واحد منهما : اللهم رب السماء وما أظلت ورب الأرض وما أقلت ، والريح وما ذرَت والنجوم وما هوَت ، والبحار وما جرت ، والشياطين وما أضلت ، والخصاص وما أجنت ، بارك لنا في هذه الكوفة واجعلها منزل ثبات . وكتبا إلى سعد بالخبر » .
--------------------------- 6 ---------------------------
أقول : هذه النصوص تدل على أن الكوفة تمصرت في زمن عمر باختيار سلمان ( رضي الله عنه ) ، وأنه كان يعرف تاريخها ومستقبلها ، وكانت معمورة نسبياً ! وكان تمصيرها بتوجيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) ، لكنهم ينسبون كل فضيلة إلى حكامهم ، ويبعدونها عن أهل البيت ( عليهم السلام ) !
وقد ذكروا في صلح خالد مع أهل بانقيا مع القسيس صلوبا في عهد أبي بكر ، ومن ضمنها الكوفة ، فقالوا إنها كانت معمورة ، وأكثر أهلها نصارى .
قال الطبري ( 2 / 551 ) : « فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السواد يقال لها بانقيا وباروسما وألِّيس فصالحه أهلها . وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا ، وذلك في سنة اثنتي عشرة ) .
فكانت الكوفة قرى وأديرة ، وفيها قصر للأكاسرة ، وآثار مسجد نوح ( عليه السلام ) .
وروى البلاذري ( 2 / 354 ) عن سلمان قوله : « الكوفة قبة الإسلام ، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها ، أو يهوي قلبه إليها » .
فتحدث عن مستقبلها ، بما سمعه من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) .
وروى ابن عساكر ( 37 / 15 ) : « عن عبد الملك بن أبي ذر الغفاري ، قال : أمرني أبي بصحبة سلمان الفارسي ، فصحبته إلى الشام فرابطنا بها ، حتى إذا انقضى رباطنا أقبلنا نريد الكوفة ، فلما أتينا إلى النجف قال لي سلمان : أهي هي ؟ قال : قلت لا ، وكانت أبيات الحيرة . قال : فسرنا حتى بدت لنا أبيات الكوفة فقال لي : أهي هي ؟ قال : قلت نعم . قال : واهاً لك أرض البلية وأرض التقية ! والذي نفس سلمان بيده إني لأعلم أن لك زماناً لا يبقى تحت أديم السماء مؤمن إلا وهو فيك أو يحن إليك .
والذي نفس سلمان بيده كأني أنظر إلى البلاء يصب عليك صباً ، ثم يكشفه عنك قاصم الجبارين . والذي نفس سلمان بيده ما أعلم أنه تحت أديم السماء أبيات يدفع الله عنها من البلاء والحزن إلا دون ما يدفع عنك ، إلا أبياتاً أحاطت ببيت الله الحرام أو بقبر نبيه ( عليه السلام ) . والذي نفس سلمان بيده كأني أنظر إلى المهدي قد خرج منك في اثني عشر ألف عنان ، لا يرفع له راية إلا أكبها الله لوجهها ، حتى يفتح مدينة القسطنطينية » .
--------------------------- 7 ---------------------------
وقصده بالقسطنطينية عاصمة الروم . وفي بعض الروايات أنه يفتح بلاد الروم ، فطبق الراوي كلام سلمان على القسطنطينية .
قال أهل البيت ( عليهم السلام ) إن الكوفة من زمن آدم ونوح ( ( صلى الله عليه وآله ) )
فقد روينا بسند صحيح أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « عُرِجَ بي إلى السماء ، وإني هبطت إلى الأرض فأهبطت إلى مسجد أبي نوح ( عليه السلام ) وأبي إبراهيم وهو مسجد الكوفة ، فصليت فيه ركعتين » . ( كامل الزيارات / 78 ) .
وفي الكافي ( 8 / 279 ) : « عن المفضل بن عمر ، قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس ( السفاح ) فلما انتهينا إلى الكناسة قال : هاهنا صلب عمي زيد ( رحمه الله ) ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين ، فنزل وقال : إنزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول ، الذي خطه آدم ( عليه السلام ) وأنا أكره أن أدخله راكباً . قال قلت : فمن غيَّره عن خطته ؟ قال : أما أول ذلك الطوفان في زمن نوح ( عليه السلام ) ، ثم غيره أصحاب كسرى ونعمان ، ثم غيَّره بعد زياد بن أبي سفيان . فقلت : وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح ( عليه السلام ) ؟ فقال لي : نعم يا مفضل ، وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات ، مما يلي غربي الكوفة . قال : وكان نوح رجلاً نجاراً فجعله الله عز وجل نبياً وانتجبه ، ونوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء . قال : ولبث نوح ( عليه السلام ) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل فيهزؤون به ويسخرون منه ، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّاراً . فأوحى الله عز وجل إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها ، وعجل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده ، فأتى بالخشب من بُعد حتى فرغ منها .
قال المفضل : ثم انقطع حديث أبي عبد الله ( عليه السلام ) عند زوال الشمس فقام فصلى الظهر والعصر ، ثم انصرف من المسجد ، فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين ، وهو موضع دار ابن حكيم ، وذاك فرات اليوم ، فقال لي :
--------------------------- 8 ---------------------------
يا مفضل ، هاهنا نصبت أصنام قوم نوح ( عليه السلام ) : يغوث ويعوق ونسراً . ثم مضى حتى ركب دابته فقلت : جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته حتى فرغ منها ؟ قال : في دورين ، قلت : وكم الدورين ؟ قال : ثمانين سنة . قلت : وإن العامة يقولون : عملها في خمس مائة عام ، فقال : كلا كيف والله يقول : وَوَحْيِنَا ! قال قلت : فأخبرني عن قول الله عز وجل : حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ، فأين كان موضعه وكيف كان ؟ فقال : التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد . فقلت له : فإن ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم . ثم قلت له : وكان بدء خروج الماء من ذلك التنور ؟ فقال : نعم إن الله عز وجل أحب أن يرى قوم نوح آية ، ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً ، وفاض الفرات فيضاً ، والعيون كلهن فيضاً ، فغرقهم الله عز ذكره ، وأنجى نوحاً ومن معه في السفينة . فقلت له : كم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء وخرجوا منها ؟ فقال : لبثوا فيها سبعة أيام ولياليها ، وطافت بالبيت أسبوعاً ، ثم استوت على الجودي ، وهو فرات الكوفة .
فقلت له : إن مسجد الكوفة قديم ؟ فقال : نعم ، وهو مصلى الأنبياء ( عليهم السلام ) ولقد صلى فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أسري به إلى السماء ، فقال له جبرئيل : يا محمد هذا مسجد أبيك آدم ومصلى الأنبياء ( عليهم السلام ) ، فانزل فصل فيه ، فنزل فصلى فيه . ثم إن جبرئيل عرج به إلى السماء » . يعني بعد إكمال الإسراء به .
وفي رواية تفسير القمي ( 2 / 3 ) أن جبرئيل ( عليه السلام ) أنزل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المدينة ، فصلى فيها وأخبره أنها مهاجره ، وصلى في طور سيناء ، وبيت لحم أيضاً .
واستفاضت أحاديثنا في فضل الكوفة
فقد عقد الشيخ الطوسي في التهذيب ( 6 / 31 ) : باب فضل الكوفة والمواضع التي يستحب فيها الصلاة . وأورد فيه ستاً وعشرين حديثاً .
منها : عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) : ( قلت له : أي البقاع أفضل بعد حرم الله وحرم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقال : الكوفة يا أبا بكر ، هي الزكية الطاهرة ، فيها قبور النبيين المرسلين وغير المرسلين ، والأوصياء الصادقين ، وفيها مسجد سهيل الذي لم
--------------------------- 9 ---------------------------
يبعث الله نبياً إلا وقد صلى فيه ، وفيها يظهرعدل الله ، وفيها يكون قائمه والقُوَّامُ من بعده ، وهي منازل النبيين والأوصياء والصالحين ) .
فهي ثالث الحرمين ، وسماها الإمام الصادق ( عليه السلام ) حرماً ، قال : ( مكة حرم الله وحرم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وحرم علي بن أبي طالب ، الصلاة فيها بمائة ألف صلاة ، والدرهم فيها بمائة ألف درهم . والمدينة حرم الله وحرم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وحرم علي بن أبي طالب ، الصلاة فيها بعشرة آلاف صلاة ، والدرهم فيها بعشرة آلاف درهم ، والكوفة حرم الله تعالى وحرم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وحرم علي بن أبي طالب ، الصلاة فيها بألف صلاة ، والدرهم فيها بألف درهم ) .
ومعنى : الدرهم فيها بألف : ثواب ما تنفقه فيها ، أو بركة ما تربحه فيها .
وروى الطوسي أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) جاء من المدينة ليصلي في مسجد الكوفة ، وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال : ( صلى فيه ألف نبي وألف وصي ) .
وعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لو يعلم الناس ما في مسجد الكوفة لأعدوا له الزاد والرواحل من مكان بعيد ، إن صلاة فريضة فيه تعدل حجة ، وصلاة نافلة
تعدل عمرة ) .
وروينا عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قوله : ( وإن ميمنته لروضة من رياض الجنة ، وإن مؤخره لروضة من رياض الجنة ، وإن الصلاة المكتوبة فيه لتعدل بألف صلاة ، وإن النافلة لتعدل بخمس مائة صلاة ، وإن الجلوس فيه بغير تلاوة ولا ذكر لَعبادة ، ولو علم الناس ما فيه لأتوْه ولو حبواً ) .
وعن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ( إن الله عز وجل يهبط ملكاً في كل ليلة معه ثلاثة مثاقيل من مسك الجنة فيطرحه في فراتكم هذا ، وما من نهر في شرق الأرض وغربها أعظم بركة منه ) .
وروي أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( جاء على دابته في ثياب سفره حتى وقف على جسر الكوفة ، ثم قال لغلامه : إسقني ، فأخذ كوز ملاح فغرف فيه وسقاه وشرب الماء ، وهو يسيل على لحيته وثيابه ، ثم استزاده فزاده ، ثم استزاده فزاده ، فحمد الله
--------------------------- 10 ---------------------------
ثم قال : نهر ما أعظم بركته ، أما إنه يسقط فيه كل يوم سبع قطرات من الجنة ، أما لو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا الأخبية على حافتيه ، ولولا ما يدخله من الخطائين ما اغتمس فيه ذو عاهة الا برئ . . ما أظن أحداً يحنك بماء الفرات إلا أحبنا أهل البيت ) .
وفي بصائر الدرجات / 97 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ( إن ولايتنا عرضت على السماوات والأرض والجبال والأمصار ، ما قبلتها قبول أهل الكوفة ) .
أي كانوا أحسن الناس تقبلاً لولايتنا ، وفي رواية : ما قبلها إلا أهل الكوفة .
وفي أمالي الصدوق / 298 : « عن الأصبغ بن نباتة قال : بينا نحن ذات يوم حول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في مسجد الكوفة إذ قال : يا أهل الكوفة ، لقد حَبَاكم الله عز وجل بما لم يَحْبُ به أحداً ، ففضل مصلاكم ، وهو بيت آدم ، وبيت نوح ، وبيت إدريس ، ومصلى إبراهيم الخليل ، ومصلى أخي الخضر ، ومصلاي . وإن مسجدكم هذا أحد الأربعة مساجد التي اختارها الله عز وجل لأهلها ، وكأني به يوم القيامة في ثوبين أبيضين شبيه بالمحرم يشفع لأهله ولمن صلى فيه فلا ترد شفاعته . ولا تذهب الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه ! وليأتين عليه زمان يكون مصلى المهدي من ولدي ، ومصلى كل مؤمن ، ولا يبقى على الأرض مؤمن إلا كان به أو حنَّ قلبه إليه ، فلا تهجروه وتقربوا إلى الله عز وجل بالصلاة فيه ، وارغبوا إليه في قضاء حوائجكم ، فلو يعلم الناس ما فيه من البركة ، لأتوه من أقطار الأرض ، ولو حبواً على الثلج » .
وفي كامل الزيارات / 78 : « عن عائشة قالت : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : عرج بي إلى السماء ، وإني هبطت إلى الأرض فأهبطت إلى مسجد أبي نوح وأبي إبراهيم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو مسجد الكوفة فصليت فيه ركعتين ، قال ثم قالت : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الصلاة المفروضة فيه تعدل حجة مبرورة ، والنافلة تعدل عمرة مبرورة » .
وقد عبرت عائشة عن مسجد الكوفة بأنه مصلى نوح لكن رواية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عبَّرت عنه ببيت آدم ونوح وإدريس ، ثم مصلى إبراهيم ( عليهم السلام ) ، ومعناها أن إبراهيم ( عليه السلام ) هو الذي اتخذه مسجداً .
وقال في السرائر : 1 / 422 : « مسجد إبراهيم ( عليه السلام ) هو مسجد الكوفة ، ذكر ذلك في كتاب الكوفة » .
--------------------------- 11 ---------------------------
وكان المسجد أكبر ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن القائم إذا قام رد البيت الحرام إلى أساسه ، ومسجد الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أساسه ، ومسجد الكوفة إلى أساسه .
قال أبو بصير : إلى موضع التمارين من المسجد » . ( الكافي : 4 / 543 )
فلمسجد الكوفة مكانة خاصة في مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، بعكس السلطة ! فهو أحد المساجد الأربعة التي يتخير المصلي فيها بين القصر والتمام .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 4 / 586 ) : « تتمُّ الصلاة في أربعة مواطن : في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومسجد الكوفة ، وحرم الحسين صلوات الله عليه » .
فهذه الأماكن كالوطن للمسلم ، ولذا يتخير فيها بين الصلاة قصراً أو تماماً .
وفي الكافي ( 8 / 281 ) قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إن نوحاً ( عليه السلام ) لما فرغ من السفينة وكان ميعاده فيما بينه وبين ربه في إهلاك قومه أن يفور التنور ففار ، فقالت امرأته : إن التنور قد فار ، فقام إليه فختمه فقام الماء ، وأدخل من أراد أن يدخل وأخرج من أراد أن يخرج ، ثم جاء إلى خاتمه فنزعه ، يقول الله عز وجل : فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ . وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ . وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ . قال : وكان نجَّرها في وسط مسجدكم ، ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع ) .
وروى الكشي ( 1 / 73 ) عن المسيب بن نجبة الفزاري قال : « لما أتانا سلمان الفارسي قادماً تلقيته فيمن تلقاه ، فسار حتى انتهى إلى كربلاء فقال : ما تسمُّون هذه ؟ قالوا : كربلاء ، فقال : هذه مصارع إخواني ، هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم ، قُتل بها خير الأولين ، ويقتل بها خير الآخرين ! ثم سار حتى انتهى إلى حروراء فقال : ما تسمون هذه الأرض ؟ قالوا : حروراء فقال : حروراء خرج بها شر الأولين ويخرج بها شرالآخرين . ثم سار حتى انتهى إلى بانقيا وبها جسرالكوفة الأول فقال : ما تسمون هذه ؟ قالوا : بانقيا . ثم سار حتى انتهى إلى الكوفة قال : هذه الكوفة ؟ قالوا : نعم . قال : قبة الإسلام » !
--------------------------- 12 ---------------------------
الكوفة مهاجر علي ( عليه السلام ) ومغرس شيعته
روى في جامع أحاديث الشيعة ( 12 / 437 ) وبحار الأنوار ( 45 / 179 ) ومستدرك سفينة البحار ( 9 / 197 ) حديث الحسين بن أحمد بن المغيرة ، تلميذ ابن قولويه صاحب كامل الزيارة ، وهو شيخ المفيد أيضاً ، وهو ثقة ورع ، قال عن حديثه هذا : وقد كنت استفدت هذا الحديث بمصرعن شيخي أبي القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي ( رحمه الله ) ، مما نقله عن مزاحم بن عبد الوارث البصري ، بإسناده عن قدامة بن زائدة ، عن أبيه زائدة ، عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) . وقد ذاكرت شيخنا ابن قولويه بهذا الحديث بعد فراغه من تصنيف هذا الكتاب ليدخله فيه فما قُضِيَ ذلك ، وعاجلته منيته ( رضي الله عنه ) وألحقه بمواليه ( عليهم السلام ) ، وهذا الحديث داخل فيما أجاز لي شيخي ( رحمه الله ) ، وقد جمعت بين الروايتين بالألفاظ الزائدة والنقصان والتقديم والتأخير فيهما ، حتى صح بجميعه عمن حدثني به أولاً ثم الآن ، وذلك أني ما قرأته على شيخي ( رحمه الله ) ولا قرأه عليَّ ، غير أني أرويه عمن حدثني : عن عبد الله بن الفضل بن محمد بن هلال ، عن سعيد بن محمد ، عن محمد بن سلام الكوفي ، عن أحمد بن محمد الواسطي ، عن عيسى بن أبي شيبة القاضي ، عن نوح بن دراج ، عن قدامة بن زائدة عن أبيه زائدة : قال [ لي ] علي بن الحسين ( عليه السلام ) : بلغني يا زائدة أنك تزور قبر أبي عبد الله أحياناً ؟ فقلت : إن ذلك لكما بلغك فقال لي : فلماذا تفعل ذلك ، ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا ، والواجب على هذه الأمة من حقنا ؟ فقلت : والله ما أريد بذلك إلا الله ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط ، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه !
فقال : والله إن ذلك لكذلك ؟ فقلت : والله إن ذلك لكذلك ، يقولها : ثلاثاً وأقولها ثلاثاً ، فقال : أبشر ثم أبشر ثم أبشر ، فلأخبرنك بخبركان عندي في النَّخْب المخزون ، فإنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا وقتل أبي ( عليه السلام ) وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا ! فعظم ذلك في صدري ، واشتد لما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي ( عليه السلام ) فقالت : مالي أراك تجود
--------------------------- 13 ---------------------------
بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي ؟ فقلت : وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي ، وولد عمي وأهلي ، مصرعين بدمائهم مرملين بالعرا ، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر ، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر !
فقالت : لا يجزعنك ما ترى ، فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جدك وأبيك وعمك ، ولقد أخذ الله الميثاق من أناس من هذه الأمة ، لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة ، وهم معروفون في أهل السماوات ، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة ، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يعفو رسمه ، على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه [ وطمسه ] فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلا علواً .
فقلت : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟ فقالت : نعم ، حدثتني أم أيمن أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زار منزل فاطمة ( عليها السلام ) في يوم من الأيام ، فعملت له حريرة وأتاه علي ( عليه السلام ) بطبق فيه تمر ، ثم قالت أم أيمن : فأتيتهم بعس فيه لبن وزبد فأكل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، من تلك الحريرة وشرب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشربوا من ذلك اللبن ، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد ، ثم غسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يده وعلي يصب عليه الماء ، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه ، ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه ، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً ، ثم إنه وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا ثم خر ساجداً وهو ينشج فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه ، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر ، كأنها صوب المطر ، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وحزنت معهم ، لما رأينا من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهبناه أن نسأله حتى إذا طال ذلك ، قال له علي وقالت له فاطمة : ما يبكيك يا رسول الله لا أبكى الله عينيك ، فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك !
--------------------------- 14 ---------------------------
فقال : يا أخي سررت بكم ( وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه ها هنا فقال يا حبيبي إني سررت بكم ) سروراً ما سررت مثله قط ، وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته علي فيكم ، إذ هبط عليَّ جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إن الله تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك ، وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكمل لك النعمة وهنأك العطية ، بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة ، لا يفرق بينك وبينهم ، يَحْيَوْنَ كما تحيا ، ويُعطون كما تعطى حتى ترضى وفوق الرضا ، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم ، بأيدي أناس ينتحلون ملتك ، ويزعمون أنهم من أمتك ، براء من الله ومنك ، خبطاً خبطاً ، وقتلاً قتلاً ، شتى مصارعهم ، نائية قبورهم ، خيرةً من الله لهم ولك فيهم ، فاحمد الله عز وجل على خيرته وارض بقضائه ، فحمدت الله ، ورضيت بقضائه بما اختاره لكم .
ثم قال لي جبرئيل : يا محمد إن أخاك مضطهد بعدك ، مغلوب على أمتك ، متعوب من أعدائك ، ثم مقتول بعدك ، يقتله أشرالخلق والخليقة وأشقى البرية ، يكون نظير عاقر الناقة ، ببلد تكون اليه هجرته وهو مغرس شيعته وشيعة ولده فيه ، على حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم .
وإن سبطك هذا وأومى بيده إلى الحسين ، مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك ، وأخيار من أمتك بضفة الفرات ، بأرض يقال لها كربلاء ، من اجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريتك في اليوم الذي لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته ، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة ، يقتل فيها سبطك وأهله ، وإنها من بطحاء الجنة .
فإذا كان ذلك اليوم الذي يقتل فيه سبطك وأهله وأحاطت به كتايب أهل الكفر واللعنة ، تزعزعت الأرض من أقطارها ، ومادت الجبال وكثر اضطرابها ، واصطفقت البحار بأمواجها ، وماجت السماوات بأهلها ، غضباً لك يا محمد ولذريتك ، واستعظاماً لما ينتهك من حرمتك ، ولشر ما تكافى به في ذريتك وعترتك ، ولا يبقى شئ من ذلك إلا استأذن الله عز وجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين ، الذين هم حجة الله على خلقه بعدك ، فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومن فيهن :
--------------------------- 15 ---------------------------
إني أنا الله الملك القادر الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر فيه على الإنتصار والانتقام . وعزتي وجلالي لأعذبن من وتر رسولي وصفيي ، وانتهك حرمته ، وقتل عترته ، ونبذ عهده ، وظلم أهل بيته ، عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين . فعند ذلك يضج كل شئ في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك ، واستحل حرمتك ، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها ، تولى الله عز وجل قبض أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة معهم آنية من الياقوت والزمرد مملوة من ماء الحياة وحلل من حلل الجنة وطيب من طيب الجنة ، فغسلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحلل وحنطوها بذلك الطيب ، وصلت الملائكة صفاً صفاً عليهم ، ثم يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار ، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية ، فيوارون أجسامهم ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء يكون علماً لأهل الحق وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ، وتحفه ملائكة من كل سماء مئة ألف ملك ، في كل يوم وليلة ويصلون عليه ويطوفون عليه ، ويسبحون الله عنده ويستغفرون الله لمن زاره ، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك ، متقرباً إلى الله تعالى واليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ، ويوسمون في وجوههم بميسم نورعرش الله : هذا زائر قبر خير الشهداء ، وابن خير الأنبياء ، فإذا كان يوم القيمة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم ، نور تغشى منه الأبصار ، يدل عليهم ويعرفون به . وكأني بك يا محمد بيني وبين ميكائيل وعلي أمامنا ، ومعنا من ملائكة الله ما لا يحصى عددهم ، ونحن نلتقط من ذلك الميسم ، في وجهه من بين الخلايق ، حتى ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده ، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد أو قبر أخيك أو قبر سبطيك ، لا يريد به غير الله عز وجل . وسيجتهد أناس ممن حقت عليهم اللعنة من الله والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً . ثم قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فهذا أبكاني وأحزنني !
--------------------------- 16 ---------------------------
قالت زينب : فلما ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي ( عليه السلام ) ورأيت عليه أثرالموت منه ، قلت له : يا أبه حدثتني أم أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك . فقال : يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأني بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، أذلاء خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس ! فصبراً صبراً فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما لله على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم وغير محبيكم وشيعتكم ، ولقد قال لنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أخبرنا بهذا الخبر إن إبليس لعنه الله في ذلك اليوم يطير فرحاً ، فيجول الأرض كلها بشياطينه وعفاريته فيقول : يا معاشر الشياطين قد أدركنا من ذرية آدم الطلبة ، وبلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورثناهم النار إلا من اعتصم بهذه العصابة ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم وحملهم على عداوتهم واغرائهم بهم وأوليائهم ، حتى تستحكموا ضلالة الخلق وكفرهم ، ولا ينجو منهم ناج . ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب .
إنه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ، ولا يضر مع محبتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر . قال زائدة : ثم قال علي بن الحسين ( عليه السلام ) بعد أن حدثني بهذا الحديث : خذه إليك فلوضربت في طلبه اباط الإبل حولاً لكان قليلاً ) .
وشاهدنا قول جبرئيل ( عليه السلام ) : ثم مقتول بعدك يقتله أشرالخلق والخليقة ، وأشقى البرية ، نظير عاقر الناقة ، ببلد تكون إليه هجرته ، وهي مغرس شيعته وشيعة ولده ، وفيها على حال تكثر بلواهم ويعظم مصابهم .
فهذا الحديث جامع لشروط كامل الزيارة بشهادة راويه الثقة ، وفيه ميزتان للكوفة : أولاهما أنها مهاجر علي ( عليه السلام ) . والثانية أنها مغرس شيعته وشيعة أولاده ، فهي منبت التشيع ومعدنه . وكفى بذلك فخراً .
ويبدو أن ابن قولويه ( رحمه الله ) توقف في إدخاله في كتابه ، لأنه يريد تفكيكه ، فهو أكثر من حديث وعنوان ، وكان دقيقاً في ملأ عناوين كتابه بما يطابقها حرفياً .
وقد يكون السبب أنه ينسب للإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أنه لم يكن يعرف الحديث مع أنه طان يعرف أنه سيرجع من الكوفة لدفن الأجساد الطاهرة .
--------------------------- 17 ---------------------------
ويمكن الجواب عنه بأنه ( عليه السلام ) كان يعرف ذلك ، لكنه أراد أن تحدثه به عمته زينب ( عليها السلام ) ليكون تسلية لها في ذلك اليوم .
وروت مصادر السنة فضل الكوفة
فقد روى ابن أبي شيبة ( 3 / 268 و : 7 / 564 ) : ( عن وكيع ، عن سفيان ، عن أبي المقدام عن حبة قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني اشتريت بعيراً وتجهزت وأريد المقدس فقال : بع بعيرك وصل في هذا المسجد - قال أبو بكر يعني مسجد الكوفة - فما من مسجد بعد المسجد الحرام أحب إليَّ منه ، لقد نقص مما أسس خمس مائة ذراع .
وروى عن الأسود قال : لقيني كعب ببيت المقدس فقال : من أين جئت ؟ فقلت : من مسجد الكوفة ، فقال : لأن أكون جئت من حيث جئت أحب إلي من أن أتصدق بألفي دينار ، أضع كل دينار منها في يد كل مسكين ، ثم حلف : إنه لوسط الأرض كقعر الطست ) . يقصد كعب فضل مسجد الكوفة .
وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان ( 4 / 490 ) : ( سميت الكوفة لاستدارتها أخذاً من قول العرب : رأيت كوفاناً وكوفاناً ، بضم الكاف وفتحها ، للرميلة المستديرة فكانت ستة عشر ميلاً وثلثي ميل ، وذكر أن فيها خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر ، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب ، وستة آلاف دار لليمن . وكان علي ( عليه السلام ) يقول : الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء ، والذي نفسي بيده لينتصرن الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز . وكان سلمان الفارسي يقول : أهل الكوفة أهل الله ، وهي قبة الإسلام ، يحن إليها كل مؤمن .
وقال الشعبي : مسجد الكوفة ستة أجربة وأقفزة ، وقال زادا نفروخ : هو تسعة أجربة . ( الجريب نحو ألف متر مربع ) .
وقال السيد إسماعيل بن محمد الحميري ، يذكر مسجد الكوفة :
--------------------------- 18 ---------------------------
لعمرك ما من مسجد بعد مسجد * بمكة طهراً أو مصلَّىً بيثرب
بشرق ولا غرب علمنا مكانه * من الأرض معموراً ولا متجنب
بأبين فضلاً من مصلى مبارك * بكوفان رحب ذي أواسٍ ومخصب
مصلَّىً به نوح تأثل وابتنى * به ذات حيزوم وصدر محنب
وفار به التنور ماءً وعنده * له قيل آيانوح في الفلك فاركب
وباب أمير المؤمنين الذي به * ممر أمير المؤمنين المهذب
عن مالك بن دينار قال : كان علي بن أبي طالب إذا أشرف على الكوفة قال :
يا حبذا مقالنا بالكوفة * أرض سواءٌ سهلة معروفه
تعرفها جمالنا العلوفه
وأما ظاهر الكوفة فإنها منازل النعمان بن المنذر : الحيرة ، والنجف ، والخورنق والسدير ، والغريَّان ، وما هناك من المتنزهات والديرة الكبيرة ) .
وانفردت مصادرنا بتقديس مسجد سهيل
وهو معروف بمسجد السهلة ، وعند الأئمة ( عليه السلام ) بمسجد سهيل . ويفهم من بعض الروايات أنه كمسجد الكوفة بل أفضل منه من بعض الجهات كالإستجارة ، ففي كامل الزيارات / 30 ، عن أبي بكر الحضرمي ، عن الباقر ( عليه السلام ) :
( قلت له : أيُّ بقاع الأرض أفضل بعد حرم الله عز وجل وحرم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ؟ فقال : الكوفة يا أبا بكر ، هي الزكية الطاهرة ، فيها قبورالنبيين المرسلين وقبور غير المرسلين والأوصياء الصادقين ، وفيها مسجد سهيل الذي لم يبعث الله نبياً إلا وقد صلى فيه ، ومنها يظهر عدل الله ، وفيها يكون قائمه والقوام من بعده ، وهي منازل النبيين والأوصياء والصالحين ) .
وفي كامل الزيارات / 75 : ( يا أباحمزة هل شهدت عمي ليلة خرج ؟ قال : نعم . قال : فهل صلى في مسجد سهيل ، قال : وأين مسجد سهيل لعلك تعني مسجد السهلة . قال : نعم ، قال : أما إنه لو صلى فيه ركعتين ثم استجار الله لأجاره سنة . فقال له أبو حمزة : بأبي أنت وأمي هذا مسجد السهلة . قال : نعم فيه بيت إبراهيم الذي كان يخرج منه إلى
--------------------------- 19 ---------------------------
العمالقة ، وفيه بيت إدريس الذي كان يخيط فيه ، وفيه مناخ الراكب ، وفيه صخرة خضراء فيها صورة جميع النبيين ، وتحت الصخرة الطينة التي خلق الله عز وجل منها النبيين . وفيه المعراج ، وهو الفاروق الأعظم موضع منه ، وهو ممر الناس وهو من كوفان ، وفيه ينفخ في الصور ، واليه المحشر . يحشر من جانبه سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب . أولئك الذين أفلج الله حججهم وضاعف نعمهم ، فإنهم المستبقون الفائزون القانتون ، يحبون أن يدرؤوا عن أنفسهم المفخر ، ويجلون بعدل الله عن لقائه ، أسرعوا في الطاعة فعملوا وعلموا أن الله بما يعملون بصير ، ليس عليهم حساب ولا عذاب . ومن وسطه سار جبل الأهواز . وقد أتى عليه زمان وهومعمور ) .
فهذان حديثان صحيحان ، فيهما حقائق مهمة ، وفيهما مبهمات ، مثل سير جبل الأهواز من الكوفة ، وأن النفخ في الصور والمحشر يبدأ منها .
ملاحظات على هذه النصوص
1 . تدل على مكانة الكوفة العظيمة ، وأن سلمان ( رضي الله عنه ) اختارها عن علم نبوي ، وتوجيه من علي ( عليه السلام ) ، فنسبوا ذلك إلى عمر وسعد .
2 . تضمنت الأحاديث حقائق عديدة ، منها أن نبي الله إبراهيم ( عليه السلام ) عاد إلى العراق بعد نمرود ، وروي أنه عاد مع إسماعيل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وقد ذكرنا في سلسلة القبائل العربية أنه أسس القدس ، ثم جدد الكعبة وسماها قادس ، ثم أسس القادسية وهي النجف والكوفة والسهلة والنخيلة ، لولده المهدي ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) واشترى أرضها بمئة شاة فسميت با نقيا ، كما اشترى أرض كربلاء لولده الحسين ( عليه السلام ) . ولا نعرف أي العمالقة كان يخرج إلى حربهم من الكوفة ، أما خير الأولين الذي قتل في كربلاء فقد يكون المقصود به هابيل ( عليه السلام ) .
ولا نعرف المقصود بشرالأولين الذين خرجوا في حروراء ، لكن شرالآخرين الخوارج ، تجمعوا أول أمرهم فيها ، وسموا الحروريين .
--------------------------- 20 ---------------------------
3 . حث الأئمة ( عليهم السلام ) على زيارة مسجد الكوفة ومسجد سهيل والصلاة فيهما وفضلوهما على المسجد الأقصى ! فقد روى الثقفي في الغارات ( 2 / 416 ) : ( عن حبة العرني وميثم التمار قالا : جاء رجل إلى علي ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين إني قد تزودت زاداً وابتعت راحلةً وقضيت شأني يعني حوائجي ، فأرتحل إلى بيت المقدس ؟ فقال له : كل زادك وبع راحلتك ، عليك بهذا المسجد يعني مسجد الكوفة ، فإنه أحد المساجد الأربعة ، ركعتان فيه تعدل عشراً فيما سواه من المساجد ، والبركة منه على اثني عشرميلاً من حيث ما أتيت ، وقد ترك من أسه ألف ذراع ، وفي زاويته فار التنور ، وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، وقد صلى فيه ألف نبي وألف وصي ، وفيه عصا موسى ( عليه السلام ) وشجرة يقطين ، وفيه هلك يغوث ويعوق ، وهو الفاروق . ومنه سُيَّرَ جبل الأهواز . وفيه مصلى نوح ( عليه السلام ) . ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ما عليهم حساب ولا عذاب ، ووسطه على روضة من رياض الجنة . وفيه ثلاث أعين يزهرن أنبتت بالضغث ، تذهب الرجس وتطهر المؤمنين : عين من لبن ، وعين من دهن ، وعين من ماء ، جانبه الأيمن ذكر ، وجانبه الأيسرمكر ، ولو علم الناس ما فيه لأتوه ولو حبواً ) .
وتقدمت رواية ابن أبي شيبة في تفضيل التعبد في مسجد الكوفة على التعبد في المسجد الأقصى ، وكأن مكانة المسجد الأقصى عقائدية استراتيجية ، أما تكليف هذه الأمة بالتعبد والزيارة ، فهو للمشاهد المرتبطة بنبينا ( ( عليهما السلام ) ) وعترته ( عليهم السلام ) . والعيون الثلاث : قد تكون تحت الأرض تصب في الفرات ، ومعنى أنبتت بالضغث أن أحد الأنبياء ( عليهم السلام ) ضرب بضغث فنبعت ، ولعل أصلها : أنبعت .
4 . تواترت الرواية عند الجميع بأن جبرئيل ( عليه السلام ) أخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن كربلاء بأنها مكان قتل سبطه الحسين ( عليه السلام ) ، وأتاه بقبضة من تربتها ، فلا عجب أن يكون سلمان ( رضي الله عنه ) يعرف مكان كربلاء ، ويخبر عنها .
5 . كما تواترت الرواية عند الجميع بأن الكوفة عاصمة المهدي ( عليه السلام ) الموعود ( عليه السلام ) . وهذا الأمر ثقيل على النواصب ، والوهابية خاصة !
6 . قلنا إن في حديث الغارات نقاطاً غامضة مثل تسيير جبل الأهواز من الكوفة وأن
--------------------------- 21 ---------------------------
فيه عصا موسى ، وهي من مواريث الأنبياء التي جمعها الله لنبينا ( ( عليهما السلام ) ) .
وشجرة اليقطين قد تكون لشبهها بشجرة يقطين يونس ( عليه السلام ) التي نبتت عليه في ساحل البحر المتوسط في جهة أنطاكية .
أما الذين يحشرون بغير حساب فورد أنهم من وادي السلام بظهرالكوفة .
وأما قوله : جانبه الأيمن ذكر وجانبه الأيسر مكر ، فقد يكون محل الذكر والإيمان محل الأنبياء ( عليهم السلام ) ، ومحل الكفر للجبابرة ومكرهم بالمؤمنين .
أقوال المؤرخين تؤيد عراقة الكوفة
قال المؤرخ العبودي في صفحته : ( ورد اسم مدينة عاقولا كثيراً في المصادر السريانية ، لكن لا يعرف بالضبط متى شيدت بلدة عاقولا ؟ ويذكر الباحث أديب نوار أنه كان في الكوفة أسقفان ، أحدهما نسطوري والآخر يعقوبي ، وكانا يسكنان في دار الروم ، لأن نصارى الكوفة كانوا يسمونها عاقولا بالسريانية . ويحتمل الباحث إبراهيم السامرائي : أن الكوفة الحاضرة هي في الآرامية القديمة كوثا ، أو في جوارها ؟ وليس غريباً أن تكون الثاء تبدلت فاء ، وهذا يحدث كثيراً في الأصوات السامية .
وقد ضمت الكوفة أكثر من عشرة أديرة معظمها حول المدينة بالإضافة إلى كنيسة كبيرة هي كنيسة أم خالد .
وكان الناس يقصدون تلك الأديرة أيام الأعياد المسيحية ، فتكون موضع احتفالات ولقاءات ، وكانوا يسعون فيها للتقرب إلى الله والصلاة له ، أو ينقطع الرهبان والنساك منهم فيها طوال حياتهم . وكان للأديرة كذلك دورصحي إذ اشتهر بعض الرهبان القادمين من الحيرة وجنديشابور في مزاولة الطب والتداوي بالأعشاب ومعالجة المرضى .
كما كان للأديرة دور ثقافي في تعلم القراءة والكتابة ، أو في تبادل وجهات النظر في الأديان والفلسفة وعلوم الأقدمين ، وخاصة اليونان .
كان أسقف الكوفة في مطلع القرن الثامن جرجيس ، وكان يصلي بالمسيحيين
--------------------------- 22 ---------------------------
الذين كانوا من قبائل طي وعقيل وتنوخ ، وعرف أيضاً بأسقف العرب . وكان من المتضلعين في الفلسفة ووضع شروحاً لبعض الأسفار . .
إلا أن ما يميز الإبداع الكوفي هو ظهور الخط الكوفي الذي يدل على دقة في الرسم ، وكانت الخطوط المستقيمة متأثرة بالخط السرياني الأسطرنجيلي من حيث هيئته العامة المربعة . والمعروف أن العرب في بداية الإسلام يدينون للحيرة بمشاركتها الفعالة في الكتابة العربية .
كما تأثر أهل الكوفة بحياة الرهبان ، حتى أن بعض الزهاد الكوفيين قد لبسوا المنسوجات الصوفية الخشنة ، المشابهة لمسوح الرهبان .
كما بنى أول والٍ للكوفة خالد بن عبد الله القسري كنيسة قرب جامع المدينة ، سميت بكنيسة خالد أو كنيسة أم خالد ، وهو أول شخصية إسلامية يبني بيعة للنصارى في تاريخ الإسلام ، والمعتقد أن ذلك يعود إلى أن أمه كانت مسيحية . وقد ضمت الكوفة جماعات مختلفة من العراقيين ، لعلهم بقايا سكنة بابل وسلوقية وينبور وسبار ) .
وادي السلام أعرق مقابرالعالم
كتبنا في الجزء الثاني من سلسلة القبائل العربية في العراق أن إبراهيم ( عليه السلام ) أسس في فلسطين والعراق والحجاز ، فقد هاجربعائلته وأمواله إلى بلاد الشام ، واستقر في الخليل ، واشترى جبلاً فيها وجعله مقبرة له ولأسرته ، وذهب إلى حرَّان ، وبئر سبع في النقب ، ويروى أنها سبعة آبار احتفرها .
وزار مكة وأسكن فيها ابنه إسماعيل وأمه هاجر ( عليهم السلام ) ، ثم زارها للعمرة والحج ، وجدد بناء البيت . وكان يزور العراق بعد هلاك نمرود ، وأسس فيه مسجد الكوفة والسهلة والنخيلة ، واشترى أرض القادسية والنجف وكربلاء .
« قال محمد بن إدريس في السرائر ( 1 / 479 ) : ( بأنقياء : هي القادسية وما والاها وأعمالها ، وإنما سميت القادسية بدعوة إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) لأنه قال : كوني مقدسة للقادسية أي مطهرة من التقديس . وإنما سميت القادسية بانقيا لأن إبراهيم اشتراها بمائة نعجة من غنمه لأن با : مائة ، ونقيا : شاة ، بلغة النبط . وقد ذكر بانقيا أعشى قيس
--------------------------- 23 ---------------------------
في شعره ، وفسره علماء اللغة وواضعوا كتب الكوفة من أهل السيرة ، بما ذكرناه » .
وفي علل الشرائع ( 2 / 585 ) عن علي ( عليه السلام ) قال : « إن إبراهيم صلى الله عليه مر ببانقيا فكان يزلزل بها فبات بها ، فأصبح القوم ولم يزلزل بهم فقالوا : ما هذا وليس حدث ، قالوا : نزل هاهنا شيخ ومعه غلام له قال : فأتوه فقالوا له : يا هذا إنه كان يزلزل بنا كل ليلة ولم يزلزل بنا هذه الليلة فبت عندنا ، فبات فلم يزلزل بهم فقالوا : أقم عندنا ونحن نجري عليك ما أحببت قال : لا ، ولكن تبيعوني هذا الظهر ولا يزلزل بكم ! فقالوا : فهو لك ، قال : لا آخذه إلا بالشراء فقالوا : فخذه ما شئت فاشتراه بسبع نعاج وأربعة أحمرة ، فلذلك سمي بانقيا ، لأن النعاج بالنبطية نقيا قال : فقال له غلامه : يا خليل الرحمن ما تصنع بهذا الظهر ليس فيه زرع ولا ضرع ؟ فقال له أسكت فإن الله تعالى يحشر من هذا الظهر سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع الرجل منهم لكذا وكذا » !
قد يكون اشترى المنطقة كلها بمائة شاة ، ثم اشترى ظهر الكوفة بسبع نعاج . وفي معجم البكري ( 1 / 222 ) : « قال أحمد بن يحيى ثعلب : فقال ( إبراهيم ( عليه السلام ) ) : لمن تلك الأرض يعني النجف ؟ قالوا : لنا . قال : فتبيعونيها ؟ قالوا : هي لك فوالله ما تنبت شيئاً . فقال : لا أحب إلا أن تكون شراء ، فدفع إليهم غنيمات كن معه ، والغنم بالنبطية يقال لها نقيا . وذكر إبراهيم ( عليه السلام ) أنه يحشر من ولده من ذلك الظهر سبعون ألف شهيد . فاليهود تنقل موتاها إلى بانقيا لمكان هذا الحديث . ثم نزل إبراهيم ( عليه السلام ) القادسية فغسل بها رأسه ، ثم دعا لها أن يقدسها الله فسميت القادسية ، ثم أخذ فضل الماء فصبه يمنة ويسرة ، فحيث انتهى ذلك الماء منتهى العمران . ثم ارتحل إلى البيت الحرام ) .
وفي رواية معجم البلدان ( 1 / 331 ) : « وخرج حتى أتى النجف فلما رآه رجع أدراجه أي من حيث مضى ، فتباشروا وظنوا أنه رغب فيما بذلوا له . . فصنعوا ما صنع أهل بيت المقدس بصاحبهم ، وهبوا له أرضهم ، فلما نزلت بها البركة رجعوا عليه ! ولما رأى غدرهم به تركهم ومضى نحو مكة . . القصة ) !
--------------------------- 24 ---------------------------
فقد أسس إبراهيم ( عليه السلام ) لذريته القدس في فلسطين ، وجدد الكعبة في الحجاز ، والقادسية في العراق ، ومنها مسجد الكوفة ومسجد السهلة ومسجد النخيلة . فتأسيسها عمل رسولي بالوحي ، وليس صدفة برأي عمر أو سعد ، كمازعموا .
ومما يلفتك أن علياً ( عليه السلام ) جدد شراء ظهر الكوفة والغريين ، تأكيداً لشراء جده إبراهيم ( عليه السلام ) لئلا يدعيها أحد !
ففي الغارات للثقفي ( 2 / 845 ) : « اشترى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ما بين الخورنق إلى الحيرة إلى الكوفة . وفي رواية : ما بين النجف إلى الحيرة إلى الكوفة من الدهاقين بأربعين ألف درهم ، وأشهد على شرائه ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : كوفان يُرَدُّ أولها على آخرها ، يحشرمن ظهرها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ! فاشتهيت أن يحشروا من ملكي » .
وفي أخبار إصبهان ( 2 / 174 ) : « اشترى علي بن أبي طالب ما بين الخورنق إلى الحيرة بأربعين ألفاً من دهاقين الخورنق ، فقيل له يا أمير المؤمنين اشتريت حجراً أصم لا ينبت شيئاً ! قال : صدقتم إني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . الخ . والجواهر ( 4 / 346 ) .
وقوله ( ( عليهما السلام ) ) : يُرَدُّ أولها على آخرها : أي تعود عاصمة كما كانت في زمن نوح ( عليه السلام ) .
وقول البكري : فاليهود تنقل موتاها إلى بانقيا لمكان هذا الحديث . يدل على أن الدفن في وادي السلام بدأ من عهد إبراهيم ( عليه السلام ) . فالقادسية ليست مدينة الديوانية ، ولا قرية تسمى القادسية التي تبعد عن الكوفة 18 كلم ، ولا المكان الذي يسمى قَادِس ، وآخر يسمى قَدِيس . ( الحيرة للدكتورحسن الحكيم / 53 ) .
بل تشمل ذلك وتشمل النجف والكوفة ، وتشمل مسجد النخيلة وقبر النبي ذي الكفل ( عليه السلام ) ، وكان اليهود يدفنون موتاهم عنده أيضاً .
راجع في إنشاء القادسية والربط بينها وبين مكة والقدس : الكافي : 1 / 390 ، وأمالي الصدوق / 694 ، وحقائق التأويل / 175 ، والسرائر : 1 / 479 ، ومفتاح الكرامة : 10 / 348 ، وكامل الزيارات / 84 ، و 452 ، والفقيه : 2 / 229 ، و 586 ، ومختصر بصائر الدرجات / 199 ، وعلل الشرائع : 1 / 214 ، والحدائق الناضرة : 11 / 318 ، ورياض المسائل : 2 / 12 ، والغارات : 2 / 856 ، والأنساب : 4 / 422 ،
--------------------------- 25 ---------------------------
ومعجم البكري : 1 / 270 ، ومعجم البلدان : 1 / 331 ، و : 2 / 511 ، و 514 ، و : 3 / 33 ، و : 4 / 210 و 291 ، و 314 ، والأنساب : 4 / 422 ، وقاموس الكتاب المقدس / 129 .
أما اليوم فصارت وادي السلام أوسع مقبرة في العالم ، تهوي قلوب المؤمنين من أنحاء العالم ، إلى الدفن فيها ، بجوار قبر أمير المؤمنين وأنبياء الله ( عليهم السلام ) .
أوصى خبَّاب بن الأرتِّ أن يدفن في وادي السلام
1 . كان الصحابي الجليل خَبَّاب بن الأرت أول من دُفن فيها من المسلمين ، وذلك بتوجيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) . فقد روى عامة المؤرخين كابن سعد ( 3 / 167 ) أن خَبَّاباً أوصى أن يدفن في ظهر الكوفة لما سمعه من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
ووصف الطبري ( 4 / 45 ) دخول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الكوفة راجعاً من صفين قال : ( ثم مضى حتى إذا جزنا بني عوف ، إذا نحن عن أيماننا بقبور سبعة أو ثمانية فقال علي : ما هذه القبور ؟ فقال قدامة بن العجلان الأزدي : يا أمير المؤمنين إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك فأوصى بأن يدفن في الظهر . وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم فدفن بالظهر ( رحمه الله ) ودَفَنَ الناس إلى جنبه . فقال علي : رحم الله خبَّاباً ، فقد أسلم راغباً وهاجر طائعاً ، وعاش مجاهداً ، وابتلى في جسمه أحوالاً ، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .
ثم جاء حتى وقف عليهم فقال : السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة ، والمحال المقفرة ، من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، أنتم لنا سلف فارط ونحن لكم تبع ، بكم عما قليل لاحقون . اللهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم . وقال : الحمد لله الذي جعل منها خلقكم وفيها معادكم ، منها يبعثكم وعليها يحشركم ، طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب ، وقنع بالكفاف ، ورضي عن الله عز وجل . . .
ثم مضى حتى مر بالناعطيين وكان جلهم عثمانية ، فسمع رجلاً منهم يقال له عبد الرحمن بن يزيد من بني عبيد يقول : والله ما صنع علي شيئاً ، ذهب ثم
--------------------------- 26 ---------------------------
انصرف في غير شئ ! فلما نظروا إلى علي أبلسوا فقال : وجوه قوم ما رأوا الشام العام ، ثم قال لأصحابه : قوم فارقناهم آنفاً ، خير من هؤلاء ) .
لاحظ أن الناس دفنوا بجنب الصحابي خباب ، وأن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يعاقب من تخلف عنه واكتفى بالقول إن غيرهم أفضل منهم .
وفي رواية ابن الصباغ في الفصول المهمة ( 1 / 490 ) : ( ثم مر بالشباميين . . فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي . . وأقبل حرب يمشي وعلي راكب فقال له : إرجع ، وأمسك دابته عن السيرفقال : بل أمشي بين يديك يا أمير المؤمنين ، فقال : بل إرجع فإنّ مَشْيَ مثلك مع مثلي فتنةٌ للوالي ومَذلة للمؤمنين . ثم مضى فلم يزل يذكر الله تعالى حتى دخل الكوفة ) .
2 . خبَّاب بن الأرتَّ ، صحابي جليل من السابقين ، وروي أنه سادس المسلمين ، وهو من كسكر بلد بين واسط والبصرة ، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم ، سَبَوْهُ وهو صغير ، فصار إلى أم أنمار بنت سباع الخزاعية ، زوجة الأخنس بن شريق الثقفي ، ولما أعتقته حالف بني زهرة .
وفي إكمال كمال التهذيب ( 4 / 169 ) : ( سمعت الهيثم بن عدي قال : خباب بن الأرت من أهل استينيا قرية عند قنطرة الكوفة . قال الهيثم : وخباب سابق النبط ، وهو أول من دفن بظهر الكوفة فدفن الناس موتاهم بها ، وإنما كانوا يدفنونهم في جبانتهم . وفي كتاب الإستيعاب : لم يصبه سبي ، ولكنه انتمى إلى حلفاء أمه من بني زهرة ، وكان فاضلاً يكنى أبا يحيى ) .
وهذا يعني أنه نبطي عراقي غير عربي ، ويؤيده أنه قين والعربي لا يكون قيناً ، ولعله من السابقين الذين قال الله فيهم : وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ . الذين أسلموا في السنوات الثلاث الأولى ، وهم بضعة نفر فقط من بني هاشم ، ومعهم أبو ذر ، وربما خباب ، وقد يكون معهم عمار وأبواه .
والسابقون الثانيون هم الذين أسلموا في السنة الرابعة ، بعد أن قتل الله المستهزئين الستة في يوم واحد ، وأمر رسوله ( ( عليهما السلام ) ) أن يصدع بالدعوة فأنزل عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
--------------------------- 27 ---------------------------
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ .
3 . كان خباب قَيناً يطبع السيوف ، وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يألفه ويأتيه ، فأخبرت مولاته بذلك فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه ، فشكى ذلك إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : اللهم انصر خباباً ، فشكت مولاته من رأسها فكانت تعوي مثل الكلاب ! فقيل لها : إكتوي ، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها ! ويبدو أنها أعتقته لما أصابها ذلك .
وقال خباب : كنت رجلًا غنيّاً ، وكان لي على العاص بن وائل دَيْنٌ ، فأتيته أتقاضاه فقال لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لن أكفر به حتى نموت ونبعث . فقال : فإني لمبعوث بعد الموت ، ولأوتين مالاً وولداً فأقضيك ! فنزلت : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا . أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً . ونزلت فيه آيات أخرى ، رواها المفسرون .
4 . هاجر إلى المدينة ، وشهد بدراً ومشاهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكان شيعياً مجاهراً فشهد مع علي ( عليه السلام ) حرب الجمل وسكن الكوفة ، ولم يحضر صفين لمرضه .
5 . قال الطبري في المنتخب / 57 : ( روى خباب عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حديثاً كثيراً ) . لكن القوم ضيعوا حديثه ، لأن أكثره في فضائل علي والزهراء والعترة ( عليهم السلام ) ، وبعضه في الطعن برجالاتهم ، فيجب عندهم إخفاؤه !
6 . اشتهر ابنه عبد الله ( رضي الله عنهما ) الذي كان والياً لعلي ( عليه السلام ) فقتله الخوارج .
قال البلاذري ( 2 / 367 ) : ( وكان الخوارج الذين قدموا من البصرة مع مسعر بن فدكي استعرضوا الناس في طريقهم ، فإذا هم برجل يسوق بامرأته على حمار له ، فدعوه وانتهروه ورعبوه وقالوا له : من أنت ؟ فقال : رجل مؤمن . قالوا : فما اسمك ؟ قال : أنا عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول ( ( عليهما السلام ) ) فكفوا عنه ثم قالوا له : ما تقول في علي ؟ قال : أقول إنه أمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، وقد حدثني أبي عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل
--------------------------- 28 ---------------------------
فيصبح مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً . فقالوا : والله لنقتلنك قتلة ما قتلها أحد ، وأخذوه فكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم حتى نزلوا تحت نخل مواقير فسقطت رطبة منها فقذفها بعضهم في فيه ، فقال له رجل منهم : أبغير حلها ولا ثمن لها ! فألقاها من فيه واخترط سيفه وجعل يهزه فمرّ به خنزير لذمي فقتله بسيفه ، فقال له بعض أصحابه : إن هذا لمن الفساد في الأرض . فطلب صاحب الخنزير حتى أرضاه ! فقال ابن خباب : لئن كنتم صادقين فيما أرى وأسمع إني لآمن من شركم . قال : فجاؤوا به فأضجعوه على شفير نهر والقوه على الخنزير المقتول فذبحوه عليه ، فصار دمه مثل الشراك فما اذْمَقَرَّ ( اختلط ) في الماء ، وأخذوا امرأته فبقروا بطنها وهي تقول : أما تتقون الله ! وقتلوا ثلاث نسوة كن معها ! فبلغ علياً خبر ابن خباب وامرأته والنسوة ، وخبر سوادي لقوه بنُفَّر فقتلوه ، فبعث عليّ إليهم الحرث بن مرة العبدي ليتعرف حقيقة ما بلغه عنهم ، فلما أتى النهروان وقرب منهم خرجوا إليه فقتلوه ، وبلغ ذلك علياً ومن معه فقالوا له : ما تركنا هؤلاء وراءنا يخلفونا في أموالنا وعيالاتنا بما نكره ، سر بنا إليهم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل المغرب ، فإن هؤلاء أحضر عداوة وأنكى حداً . والثبت : أنه بعث ابن الحرث رجلاً من أصحابه ، لأن الحرث بن مرّة قتل بالقيقان من أرض السند ، في سنة اثنتين وأربعين ) .
راجع ترجمة خباب في : الحاكم : 3 / 382 , ومجمع الزوائد : 9 / 299 ، وكنز العمال : 3 / 396 ، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم : 2 / 908 ، وإكمال الكمال : 4 / 169 ، وخاتمة المستدرك : 7 / 343 ، والفصول المختارة / 274 ، ومناقب آل أبي طالب : 1 / 49 و 71 و 104 و 288 وتفسيرالإمام العسكري / 600 ، وتفسير القمي : 2 / 54 ، وتفسير مقاتل : 1 / 110 ، وتفسير الطبري : 16 / 152 ، وتفسير ابن أبي حاتم : 11 / 127 ، وأسباب النزول للواحدي / 146 ، و 204 و 251 ، وتفسير البغوي : 4 / 127 ، ومعجم السيد الخوئي : 8 / 47 ، , والطبقات : 8 / 290 ، و : 3 / 167 ، وتهذيب التهذيب : 3 / 115 ، والبلاذري : 1 / 175 ، و : 2 / 362 ، وشرح النهج : 2 / 281 ، والطبراني الكبير : 4 / 56 ، والفصول المهمة : 1 / 490 . . وغيرها .
--------------------------- 29 ---------------------------
خطط الكوفة وسكانها
أكثرَ المؤرخون والمحدثون من أخبارتمصيرالكوفة وخططها ، وألفوا فيه كتباً ، وكلامهم يشبه بعضه بعضاً ، ومنهم غربيون ، واشتهركتاب : خطط الكوفة وشرح خريطتها ، للمسيو لويس ماسينيون ، ترجمة تقي بن محمد المصعبي ، وليس فيه جديد عما كتبه المسلمون .
قال في تاريخ الكوفة / 154 : ( بنيت دورها باللبن ، وجعل النهج الشارع الأعظم 40 ذراعاً وما بين ذلك 30 ذراعاً ، والأزقة سبعة أذرع ، وصارت قاعدة أعمال العراق تتبع لها من أعمال الفرس : الباب وأذربيجان وهمدان والري وأصبهان وماه والموصل وقرقيسياء ، وكلها في الجهة الشمالية .
كانت الكوفة واسعة كبيرة ، تتصل قراها وجباناتها إلى الفرات الأصلي وقرى العذار ، فهي تبلغ ستة عشر ميلاً وثلثي ميل .
قال ياقوت : ذكر أن فيها من الدور خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر ، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب ، وستة آلاف دار لليمن . وعد الطبري : من اليمن الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة وقضاعة وحضرموت . وعدّ من مضر تميماً وهوازن وأبناء أعصر وأسداً وغطفان ومذحج وهمدان .
قال البراقي : أحد حدودها خندق الكوفة المعروف بكري سعد ، والحد الآخر القاضي الذي هو بقرب القائم إلى أن يصل قريباً من القرية المعروفة اليوم بالشنافية ، والحد الآخر الفرات الذي هو ممتد من الديوانية إلى الحسكة إلى القرية المعروفة اليوم بأبوقوارير ، وهي منزل الرماحية ، والحد الرابع قرى العذار التي هي من نواحي الحلة السيفية ) .
وقال في شوارعها : ( نَهَجَ في الودعة من الصحن خمسة مناهج ، وفي قبلته أربعة مناهج ، وفي شرقيه ثلاثة مناهج ، وفي غربيه ثلاثة مناهج وعلمها ، فأنزل في ودعة الصحن سليماً وثقيفاً مما يلي الصحن على طريقين ، وهمدان على طريق ، وبجيلة على طريق آخر ، وتيم اللات على آخرهم وتغلب ، وأنزل في
--------------------------- 30 ---------------------------
قبلة الصحن بني أسد على طريق ، وبين بني أسد والنخع طريق ، وبين النخع وكندة طريق ، وبين كندة وأزد طريق ، وأنزل في شرقي الصحن الأنصار ومزينة على طريق ، وتميم ومحارب على طريق ، وأسد وعامر على طريق ، وأنزل في غربي الصحن بجالة وبجلة على طريق ، وجديلة وأخلاط على طريق ، وجهينة وأخلاط على طريق ، فكان هؤلاء الذين يلون الصحن ، وسائر الناس بين ذلك ومن وراء ذلك ، واقتسمت على السهمان ، فهذه مناهجها العظمى ) .
وقال في قصر الكوفة : ( فقال له دهقان من أهل همذان يقال له : روزبه بن بزرجمهر : أنا أبنيه لك وأبني لك قصراً فأصلهما ويكون بنياناً واحداً . فخط قصرالكوفة على ما خط عليه ، ثم أنشأه من نقض آخرقصر كان للأكاسرة في ضواحي الحيرة على مساحته اليوم . . ثم مدّ به عن يمين ذلك إلى منقطع رحبة عليّ ( عليه السلام ) والرحبة قبلته ثم مد به ، فكانت قبلة المسجد إلى الرحبة وميمنة القصر ، وكان بنيانه على أساطين من رخام كانت لكسرى بكنائس بغيرمجنبات ، فلم يزل على ذلك حتى بني زمان معاوية بن أبي سفيان بنيانه اليوم على يدي زياد .
ولما تم تمصير الكوفة شقت فيها شوارع سكك ، وكان عرض السكة خمسين ذراعاً ، وكانت السكك تنوّر أثناء الليل بالمشاعل ، وقد وصل إلينا من السكك : سكة البريد ، وسكة العلاء ، وسكة بني محرز ، وسكة شبث ، وسكة عميرة ، وسكة دار الروميين قريبة من قصر الإمارة ، وكثيرغيرها كانت تعرف بأسماء الأعلام والتجّار من قبيل سكة عنترة الحجام ، وأهم سكك الكوفة سكة البريد ، وموقعها بين الجسرالذي كان في الجانب الشرقي وبين القصر وبين الكناسة ، وموقع القصراليوم إلى جانب الجامع من الجنوب الشرقي . أما موقع الكناسة فستعرفه في الشمال الشرقي بين مسجد السهلة ومسجد الكوفة .
وكانت أرباع الكوفة تنقسم إلى خمسة عشر منهجاً : فمنهاج الربع الأول وهو الواقع شمال الجامع : محلات سليم وثقيف وهمذان وبجيلة وتيم اللات وتغلب .
--------------------------- 31 ---------------------------
ومنهاج الربع الثاني ، وموقعه في جهة القبلة جنوباً : محلات بني أسد ونخع وكندة والأزد . ومنهاج الربع الثالث وموقعه شرقي الجامع : محلات الأنصار ومزينة وتميم ومحارب وأسد وعامر . ومنهاج الربع الرابع وموقعه غربي الجامع : محلات بجيلة غطفان وبجيلة قيس وجديلة وجهينة ، وغيرها من عدة عشائر .
علي ( عليه السلام ) أول من حفر الآبار العذبة في الكوفة
وفي خلال القرن الأول لم تكن في الكوفة بئر للإستقاء ، وإنما كانت بعض أقنية والناس يعتمدون على السقائين الذين يحملون الماء من الشريعة ، وبعد ذلك عرفت بئر عليّ ( عليه السلام ) ، واستقى الناس منها ) .
ملاحظات
1 . كان طول الكوفة وعرضها عند تمصيرها نحو أربع كيلو مترات تقريباً ، فتكون أقل من عشرين كيلو متراً مربعاً . ولو جعلنا سكانها مئة ألف بيت ، لما بلغوا مليون نسمة ، ويؤيد ذلك عليه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يتجول في سوقها صباحاً ثم يرجع إلى عمله . وربما بلغ سكانها مليوناً ونصفاً في زمن عمر وعثمان .
وينبغي الالتفات إلى أن الدور كانت كبيرة لتسع الجمال والحيوانات الأخرى .
2 . كان اليمانيون أغلب أهل الكوفة ، فقد جاؤوا للجهاد بعوائلهم ، ثم سكنوا . قال الطبري ( 3 / 82 ) : ( لم يكن من قبائل العرب أحد أكثر امرأة يوم القادسية من بجيلة والنخع ، وكان في النخع سبع مائة امرأة فارغة ، وفي بجيلة ألف ، فصاهر هؤلاء ألفٌ من أحياء العرب ، وهؤلاء سبع مائة ) .
وكان في الكوفة زعماء منافقون يثيرون العصبة اليمانية ويستغلونها لزعامتهم ، وأبرز أمثلتهم الأشعث بن قيس الكندي ، وأبو موسى الأشعري . وبهذه العصبة فرضوا على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولاية أبي موسى على الكوفة ، فولاه حتى ظهرت خيانته ، ثم فرضوا عليه الرضا بالحكمين ، وانسحاب الأشتر في صفين وقد شارف على النصر ، وفرضوا أبا موسى حكماً مقابل الداهية عمرو العاص !
--------------------------- 32 ---------------------------
ظهر الكوفة يشمل النجف وكربلاء
روت مصادرنا بأسانيد صحيحة أن اسم ظهر الكوفة يشمل النجف وكربلاء :
1 . ففي تهذيب الأحكام ( 6 / 34 ) : ( عن أبي بصير ، قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أين دفن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟ قال : دفن في قبر أبيه نوح ( عليه السلام ) قلت : وأين قبر نوح ؟ الناس يقولون إنه في المسجد ؟ قال : لا ، ذاك في ظهر الكوفة ) .
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( احتمله الحسن فأتي به ظهرالكوفة قريباً من النجف يسرة عن الغري يمنة عن الحيرة فدفنه بين ذكوات بيض ) . ( الكافي : 1 / 456 ) .
وفي الغارات ( 2 / 845 ) : ( اشترى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ما بين الخورنق إلى الحيرة إلى الكوفة . وفي رواية : ما بين النجف إلى الحيرة إلى الكوفة من الدهاقين بأربعين ألف درهم وأشهد على شرائه . . وقد تقدم ) .
وهذا هو الشراء الثاني بعد شراء جده إبراهيم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهذه البقعة .
2 . وفي كامل الزيارات / 165 : ( قال علي ( عليه السلام ) : بأبي وأمي الحسين المقتول بظهر الكوفة ، والله كأني أنظر إلى الوحوش مادة أعناقها على قبره من أنواع الوحش يبكونه ويرثونه ليلاً حتى الصباح ، فإذا كان ذلك فإياكم والجفاء ) .
وفي كامل الزيارات / 314 : ( عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : إن بظهر الكوفة لقبراً ما أتاه مكروب قط إلا فرج الله كربته ، يعني قبر الحسين ( عليه السلام ) ) .
ظهر الكوفة مجمع أرواح المؤمنين
في الكافي ( 3 / 243 ) : ( عن حبة العرني قال : خرجت مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الظهر فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام ، فقمت بقيامه حتى أعييت ثم جلست حتى مللت ، ثم قمت حتى نالني مثل ما نالني أولاً ، ثم جلست حتى مللت ، ثم قمت وجمعت ردائي فقلت : يا أمير المؤمنين إني قد أشفقت عليك من طول القيام ، فراحة ساعة ثم طرحت الرداء ليجلس عليه ، فقال لي : يا حبة إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته ، قال قلت : يا أمير المؤمنين وإنهم لكذلك ، قال : نعم ولو كشف لك لرأيتهم
--------------------------- 33 ---------------------------
حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون ! فقلت : أجسام أم أرواح فقال : أرواح . وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلا قيل لروحه إلحقي بوادي السلام ، وإنها لبقعة من جنة عدن ) .
وفي تهذيب الأحكام ( 1 / 466 ) : ( عن مروان بن مسلم ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال قلت له : إن أخي ببغداد وأخاف أن يموت فيها . قال : ما تبالِ حيثما مات ، أما إنه لا يبقى أحد في شرق الأرض ولا في غربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السلام . قال قلت : جعلت فداك ، وأين وادي السلام ؟ قال : ظهر الكوفة . أما إني كأني بهم حلق حلق قعود يتحدثون ) .
وأرواح المؤمنين يخلق لها أبدان كأبدانهم
في الكافي ( 3 / 244 ) : ( عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال قلت له : جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ؟ فقال : لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ولكن في أبدان كأبدانهم . .
وقال له أبو بصير : قلت : فأين هي ؟ قال : في روضة كهيئة الأجساد في الجنة .
وعنه ( عليه السلام ) قال : إن أرواح المؤمنين لفي حجرات في الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون : ربنا أقم الساعة لنا وأنجز لنا ما وعدتنا وألحق آخرنا بأولنا . . إن الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تعارف وتساءل فإذا قدمت الروح على الأرواح يقول : دعوها فإنها قد أفلتت من هول عظيم ثم يسألونها : ما فعل فلان وما فعل فلان ؟ فإن قالت لهم : تركته حياً ارتجوه ،
وإن قالت لهم : قد هلك قالوا : قد هوى هوى ) .
وأرواح الأشرار في برهوت باليمن
في الكافي ( 3 / 245 ) : ( عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سألته عن أرواح المشركين فقال : إن أرواح الكفار في نار جهنم يعرضون ؟ يقولون : ربنا لا تقم لنا الساعة ،
ولا تنجز لنا ما وعدتنا ، ولاتلحق آخرنا بأولنا . .
--------------------------- 34 ---------------------------
وروى عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : شربئر في النار برهوت الذي فيه أرواح الكفار . وروى : شر ماء على وجه الأرض ماء برهوت ، وهو الذي بحضرموت ترده هام الكفار ) . ورويَ : يرد عليه هام الكفار وصداهم .
أقول : أخطأ كثيرون في تفسير الهام والصدى مع وضوحهما ، فالهامة والهامة البدن والصدى ظل الهام ، لأنه رجع الصوت ، فالعذاب يشمل ظل الهام أيضاً .
أخذ جبرئيل حجراً من ظهر الكوفة لقواعد البيت
في الكافي في الصحيح ( 4 / 195 ) : ( أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى جبرئيل ( عليه السلام ) : أنا الله الرحمن الرحيم ، وإني قد رحمت آدم وحواء لما شكيا إلي ما شكيا ، فأهبط عليهما بخيمة من خيم الجنة . . ثم قال : إن الله عز وجل أوحى إلى جبرئيل بعد ذلك أن اهبط إلى آدم وحواء ، فنحهما عن مواضع قواعد بيتي وارفع قواعد بيتي لملائكتي . . فرفع قواعد البيت الحرام بحجر من الصفا وحجر من المروة ، وحجر من طور سيناء ، وحجر من جبل السلام ، وهو ظهر الكوفة . وأوحى الله عز وجل إلى جبرئيل أن ابنه وأتمه ، فاقتلع جبرئيل الأحجار الأربعة بأمر الله عز وجل من مواضعهن بجناحه ، فوضعها حيث أمر الله عز وجل في أركان البيت على قواعده التي قدرها الجبار ونَصَّفَ أعلامها ، ثم أوحى الله عز وجل إلى جبرئيل ( عليه السلام ) أن ابنه وأتمه بحجارة من أبي قبيس ، واجعل له بابين باباً شرقياً وباباً غربياً ، قال : فأتمه جبرئيل ( عليه السلام ) فما أن فرغ طافت حوله الملائكة ، فلما نظر آدم وحواء إلى الملائكة يطوفون حول البيت ، انطلقا فطافا سبعة أشواط ) .
وفي تفسير العياشي ( 1 / 35 ) رواية مفصلة في نزول آدم ( عليه السلام ) عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( قال : ثم إن جبريل أتاهما فأنزلهما من المروة ، وأخبرهما أن الجبار تبارك وتعالى قد هبط إلى الأرض ( أهبط جبرئيل ) فرفع قواعد البيت الحرام . . قال : فأتمه جبرئيل . فلما أن فرغ منه طافت الملائكة حوله فلما نظرآدم وحوا إلى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا بالبيت سبعة أشواط ، ثم خرجا يطلبان ما يأكلان ، وذلك من يومهما الذي هبط بهما فيه ) .
أقول : ورد أن الأحجار الأربعة أحجار خضراء ، وأن أساس البيت تختلف أحجاره عن البناء الفوقي .
- *
--------------------------- 35 ---------------------------
الفصل التاسع والستون: أشرقت الكوفة ( عليه السلام ) بعلي فأعاد العهد النبوي
وَصْفُ دخول الإمام ( عليه السلام ) إلى الكوفة
1 . قال ابن حاتم في الدر النظيم ( 1 / 358 ) : ( وكان مقام علي في البصرة شهراً وأمر مالك بن الحارث الأشتر أن يتقدمه في الخيل إلى الكوفة . قال : فقدم علي ( عليه السلام ) إلى الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين من الهجرة . وخرج قوم من أشياخ الكوفة مع قرظة بن كعب الأنصاري يتلقون علياً ( عليه السلام ) في يوم ذي قَر ، وهو يتصبب عرقاً وكسوته خفيفة ! وقد روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعا له ألا يصيبه حر ولا قَر . وكان مقام علي ( عليه السلام ) في حرب الجمل خمسة عشر يوماً ) . أي مدة المعارك . وفي الكافئة للمفيد / 31 :
( عن أبي جعفر ( عليه السلام ) : فقاله قرظة : لحمد لله يا أمير المؤمنين الذي أعز وليك وأذل عدوك ، ونصرك على القوم الباغين الطاغين الظالمين ) .
2 . وقال ابن قتيبة في الأخبار الطوال / 152 : ( شَخَصَ عليٌ عن البصرة ، واستعمل عليها عبد الله بن عباس ، فلما انتهى إلى المربد التفت إلى البصرة ، ثم قال : الحمد لله الذي أخرجني من شر البقاع تراباً ، وأسرعها خراباً ، وأقربها من الماء ، وأبعدها من السماء . ثم سار ، فلما أشرف على الكوفة قال : ويحك يا كوفان ، ما أطيب هواءك ، وأغذى تربتك ، الخارج منك بذنب ، والداخل إليك برحمة ، لا تذهب الأيام والليالي ، حتى يجئ إليك كل مؤمن ، ويبغض المقام بك كل فاجر ، وتعمرين حتى أن الرجل من أهلك ليبكر إلى الجمعة فلا يلحقها من بعد المسافة . قالوا : وكان مقدمه الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتنزل القصر ؟ قال : لا حاجة لي في نزوله لكني نازل
--------------------------- 36 ---------------------------
الرحبة ! ثم أقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى ركعتين ، ثم نزل الرحبة ، فقال الشني يحرض علياً على المسير إلى الشام :
قل لهذا الإمام قد خبت الحرب * وتمت بذلك النعماء
وفرغنا من حرب من نكث العهد * وبالشام حية صماء
تنفث السم ما لمن نهشته * فارمها قبل أن تعض شفاء
قالوا : وإن أول جمعة صلى بالكوفة خطب ، فقال : الحمد لله أحمده وأستعينه وأستهديه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأعوذ بالله من الضلالة والردى ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، انتخبه لرسالته ، واختصه لتبليغ أمره ، أكرم خلقه عليه ، وأحبهم إليه ، فبلغ رسالة ربه ، ونصح لأمته ، وأدى الذي عليه ( ( عليهما السلام ) ) .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله ، وأقربه لرضوان الله ، وأفضله في عواقب الأمور عند الله ، وبتقوى الله أمرتم ، وللإحسان خلقتم ، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه ، فإنه حذر بأساً شديداً ، واخشوا الله خشية ليست بتعذير ، واعملوا من غير رياء ولا سمعة ، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ، ومن عمل مخلصاً له تولاه الله ، وأعطاه أفضل نيته .
وأشفقوا من عذاب الله ، فإنه لم يخلقكم عبثاً ، ولم يترك شيئاً من أمركم سدًى ، قد سمي آثاركم ، وعلم أسراركم ، وأحصى أعمالكم ، وكتب آجالكم ، فلا تغرنكم الدنيا ، فإنها غرارة لأهلها ، والمغرور من اغتر بها ، وإلى فناء ما هي ، وإن الآخرة هي دار القرار . نسأل الله منازل الشهداء ، ومرافقة الأنبياء ، ومعيشة السعداء ، فإنما نحن به وله .
ثم وجه عماله إلى البلدان ، فاستعمل على المدائن وجوخى كلها يزيد بن قيس الأرحبي ، وعلى الجبل وأصبهان محمد بن سليم ، وعلى البهقباذات قرط بن كعب ، وعلى كسكر وحيزها قدامة بن عجلان الأزدي ، وعلى بهرسير وأستانها عدي بن الحارث ، وعلى أستان العالي حسان بن عبد الله البكري ، وعلى أستان الزوابي سعد بن مسعود الثقفي ، وعلى سجستان وحيزها ربعي بن كأس ، وعلى خراسان كلها خليد بن كأس .
--------------------------- 37 ---------------------------
فأما خليد بن كأس فإنه لما دنا من خراسان بلغه أن أهل نيسابور خلعوا يداً من طاعة ، وأنه قدمت عليهم بنت لكسرى من كابل ، فمالوا معها ، فقاتلهم خليد فهزمهم ، وأخذ ابنة كسرى بأمان وبعث بها إلى علي ، فلما أدخلت عليه قال لها : أتحبين أن أزوجك من ابني هذا ؟ يعني الحسن ، قالت : لا أتزوج أحداً على رأسه أحد ، فإن أنت أحببت رضيت بك ، قال : إني شيخ ، وابني هذا من فضله كذا وكذا ، قالت : قد أعطيتك الجملة . فقام رجل من عظماء دهاقين العراق يسمى نرسى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد بلغك أني من سنخ المملكة وأنا قرابتها فزوجنيها . فقال : هي أملك بنفسها ، ثم قال لها : إنطلقي حيث شئت وانكحي من أحببت ، لا بأس عليك .
واستعمل على الموصل ونصيبين ودارا وسنجار وآمد وميافارقين وهيت وعانات ، وما غلب عليها من أرض الشام ، الأشتر ، فسار إليها فلقيه الضحاك بن قيس الفهري ، وكان عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان ، فاقتتلوا بين حران والرقة بموضع يقال له المرج إلى وقت المساء . وبلغ ذلك معاوية ، فأمد الضحاك بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في خيل عظيمة ، وبلغ ذلك الأشتر ، فانصرف إلى الموصل ، فأقام بها يقاتل من أتاه من أجناد معاوية ، ثم كانت وقعة صفين ) .
أول خطبة خطبها الإمام ( عليه السلام ) في الكوفة
روى نصر بن مزاحم ( صفين / 10 ) عن الإمام زين العابدين خطبة الجمعة لجده أمير المؤمنين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالكوفة والمدينة : ( إن الحمد لله ، أحمده وأستعينه وأستهديه ، وأعوذ بالله من الضلالة . من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، انتجبه لأمره ، واختصه بالنبوة ، أكرم خلقه وأحبهم إليه ، فبلغ رسالة ربه ، ونصح لأمته ، وأدى الذي عليه . وأوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله وأقربه لرضوان الله ، وخيره في عواقب الأمور عند الله . وبتقوى الله أمرتم ، وللإحسان والطاعة خلقتم . فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه فإنه
--------------------------- 38 ---------------------------
حذر بأساً شديداً . واخشوا الله خشية ليست بتعذير ، واعملوا في غير رياء ولا سمعة ، فإن من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له ، ومن عمل لله مخلصاً تولى الله أجره .
وأشفقوا من عذاب الله ، فإنه لم يخلقكم عبثاً ، ولم يترك شيئاً من أمركم سدى ، قد سمى آثاركم ، وعلم أعمالكم ، وكتب آجالكم . فلا تُغروا بالدنيا فإنها غرارة بأهلها ، مغرور من اغتر بها ، وإلى فناء ما هي : وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . أسأل الله منازل الشهداء ، ومرافقة الأنبياء ، ومعيشة السعداء ، فإنما نحن له وبه ) .
أقول : هذا مفتتح خطبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المدينة ، قد يكون قاله أيضاً لأهل الكوفة ، ورواية ابن قتيبة أكمل من هذه . كما ورد عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) شبيهه ، فيكون أخذه من جده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وروى اليعقوبي ( 1 / 193 ) خطبةً مختلفة ، قال : ( لما قدم علي الكوفة قام خطيباً فقال بعد حمد الله والثناء عليه والتذكير لنعمه والصلاة على محمد وذكره بما فضله الله به : أما بعد أيها الناس ، فأنا فقأت عين الفتنة ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون ، ولا القاسطون ، ولا المارقون ، ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني فإني عن قليل مقتول ، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم أعلاها ، فوالذي فلق البحر وبرأ النسمة لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدي مائة ، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها إلى يوم القيامة . إن القرآن لا يعلم علمه إلا من ذاق طعمه ، وعلم بالعلم جهله ، وأبصر عمله ، واستمع صممه ، وأدرك به مأواه ، وحي به إن مات ، فأدرك به الرضى من الله ، فاطلبوا ذلك عند أهله ، فإنهم في بيت الحياة ، ومستقر القرآن ، ومنزل الملائكة ، وأهل العلم الذين يخبركم عملهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم هم الذين ، لا يخالفون الحق ، ولا يختلفون فيه ، قد مضى فيهم من الله حكم صادق ، وفي ذلك ذكرى للذاكرين .
أما أنكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاتلا ً ، وأثرة قبيحة ، يتخذها الظالمون عليكم سنة تفرق جموعكم ، وتبكي عيونكم ، وتدخل الفقر بيوتكم ، وستذكرون ما أقول لكم عن قليل ، ولا يبعد الله إلا من ظلم ) !
--------------------------- 39 ---------------------------
أقول : يبدو ان هذه الخطبة لما قدم ( عليه السلام ) من حرب النهروان ، وليس في أول قدومه إلى الكوفة . ويظهر منها أنه صلوات الله عليه كان على يقين بما أخبره به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ووضوح من المستقبل ، وأنه يوبخ من لم يعرفوا قدره َ
رفض الإمام ( عليه السلام ) أن يسكن قصرالإمارة
وصل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الكوفة قبل أن تصل عائلته وأثقاله ، فنزل على باب المسجد ، فجلس قليلاً ثم دخل المسجد ، ولما وصل ثقله قالوا له : أعددنا لك قصرالإمارة فرفض أن ينزل فيه ، ونزل عند ابن أخته أم هاني : جعدة بن هبيرة ، ثم استأجر بيتاً متواضعاً في قبلة المسجد ونزل فيه :
قال نصر بن مزاحم / 6 : ( لما دخل الكوفة قيل له أيَّ القصرين ننزلك ؟ قال : قصر الخبال لا تنزلونيه ! فنزل على جعدة بن هبيرة المخزومي .
نزل على باب المسجد فدخل وصلى ، ثم تحول فجلس إليه الناس ، فسأل عن رجل من أصحابه كان ينزل الكوفة فقال قائل : استأثر الله به . فقال : إن الله لايستأثر بأحد من خلقه ، وقرأ : وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . قال : فلما لحق الثقلُ قالوا : أي القصرين تنزل ؟ فقال : قصرالخبال لا تنزلونيه ) !
أقول : استأجر الإمام ( عليه السلام ) بيتاً في قبلة المسجد ولم يشتر بيتاً ، وبعد وفاته جعل المسلمون بيته مزاراً . قال الثوري : ( ما بنى عليٌّ آجرة على آجرة ، ولا لبنة على لبنة ولاقصبة على قصبة ، وإن كان ليؤتى بحبوتة من المدينة في جراب ) .
أقول : في بعض المصادر يؤتى بحبوبه ، وفي بعضها برزقه ، أي بما يخبزه .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( الكافي : 8 / 130 ) : ( إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما رأته عين وهو يأكل وهو متكئ ، منذ أن بعثه الله إلى أن قبضه ، ثم قال : يا محمد لعلك ترى أنه شبع من خبز البرثلاثة أيام متوالية منذ أن بعثه الله إلى أن قبضه ! ثم قال : لا والله ما شبع من خبز البر ثلاثة أيام متوالية منذ بعثه الله إلى أن قبضه ، أما إني لا أقول : إنه كان لا يجد ، لقد كان يجيز الرجل الواحد بالمائة من الإبل ، فلو أراد أن يأكل
--------------------------- 40 ---------------------------
لأكل ، ولقد أتاه جبرئيل ( عليه السلام ) بمفاتيح خزائن الأرض ثلاث مرات ، يخيِّره من غير أن ينقصه الله تبارك وتعالى مما أعد الله له يوم القيامة شيئاً ، فيختار التواضع لربه عز وجل . وما سئل شيئاً قط فيقول لا . إن كان أعطى وإن لم يكن قال : يكون . وما أعطى على الله شيئاً قط إلا سلم ذلك إليه حتى أن كان ليعطي الرجل الجنة فيسلم الله ذلك له . ثم تناولني بيده وقال : وإن كان صاحبكم ( علي ( عليه السلام ) ) ليجلس جلسة العبد ويأكل أكلة العبد ، ويطعم الناس خبز البر واللحم ، ويرجع إلى أهله فيأكل الخبز والزيت ! وإن كان ليشتري القميص السنبلاني ثم يخير غلامه خيرهما ثم يلبس الباقي ، فإذا جاز أصابعه قطعه ، وإذا جاز كعبه حذفه ! وما ورد عليه أمران قط كلاهما لله رضى إلا أخذ بأشدهما على بدنه ، ولقد وليَ الناس خمس سنين فما وضع آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا أقطع قطيعة ، ولا أورث بيضاء ولا حمراء إلا سبع مائة درهم فضلت من عطاياه ، أراد أن يبتاع لأهله بها خادماً . وما أطاق أحد عمله ، وإن كان علي بن الحسين لينظر في الكتاب من كتب علي فيضرب به الأرض ويقول : من يطيق هذا ) !
وكان ( عليه السلام ) أمر برد ما يكون معه إلى بيت المال ، فرد الإمام الحسن ( عليه السلام ) السبع مئة درهم إلى بيت المال !
وصف الرحالة ابن جبيرالكوفة وبيت علي ( عليه السلام )
قال في رحلته / 188 : ( هي مدينة كبيرة عتيقة البناء ، قد استولى الخراب على أكثرها فالغامر منها أكثر من العامر ، ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها ، فهي لا تزال تضر بها . وكفاك بتعاقب الأيام والليالي محيياً ومفنياً . وبناء هذه المدينة بالآجر خاصة ولا سور لها . والجامع العتيق آخرها مما يلي شرقي البلد ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق وهو جامع كبير ، في الجانب القبلي منه خمسة أبلطة ، وفي سائر الجوانب بلاطان ، وهذه البلاطات على أعمدة من السواري الموضوعة ، من صم الحجارة المنحوتة قطعة على قطعة مفرغة بالرصاص ولا قسي عليها على الصفة التي ذكرناها في مجسد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهي في نهاية الطول متصلة بسقف المسجد ، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها ، فما أرى في الأرض مسجداً أطول أعمدة منه ولا أعلى سقفاً . ولهذا الجامع
--------------------------- 41 ---------------------------
المكرم آثار كريمة فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة يقال إنه كان مصلى إبراهيم الخليل ، عليه ستر أسود صوناً له ، ومنه يخرج الخطيب لابساً ثياب السواد للخطبة ، فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه .
وعلى مقربة منه مما يلي الجانب الأيمن من القبلة محراب محلق عليه بأعواد الساج مرتفع عن صحن البلاط كأنه مسجد صغير ، وهو محراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، وفي ذلك الموضع ضربه الشقي اللعين عبد الرحمن بن ملجم بالسيف ، فالناس يصلون فيه باكين داعين . وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبلي المتصل بآخر البلاط الغربي ، شبه مسجد صغير محلق عليه أيضاً بأعواد الساج ، هو موضع مفار التنور الذي كان آية لنوح ( عليه السلام ) ، وفي ظهره خارج المسجد بيته الذي كان فيه ، وفي ظهره بيت آخر يقال إنه كان متعبد إدريس .
ويتصل بهما فضاء متصل بالجدار القبلي من المسجد يقال إنه كان منشأ السفينة ، ومع آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، والبيت الذي غسل فيه ( ويتصل به بيت يقال إنه كان بيت ابنة نوح صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآثار الكريمة تلقيناها من ألسنة أشياخ من أهل البلد ، فأثبتناه حسبما نقلوه إلينا ، والله أعلم بصحة ذلك كله .
وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت صغير يصعد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، وفي جوفي الجامع على بعد منه يسير سقاية كبيرة من ماء الفرات ، فيها ثلاثة أحواض كبار .
وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشان المنسوب لعلي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجى ميتاً على ما يذكر ، ويقال إن قبره فيه والله أعلم بصحة ذلك .
وفي هذا المشهد بناء حفيل على ما ذكر لنا ، لأنا لم نشاهده بسبب أن وقت المقام بالكوفة ضاق عن ذلك ، لأنا لم نبت فيها سوى ليلة يوم السبت ، وفي غداته رحلنا ، ونزلنا قريب الظهر علي نهر منسرب من الفرات ، والفرات من الكوفة
--------------------------- 42 ---------------------------
على مقدار نصف فرسخ مما يلي الجانب الشرقي والجانب الشرقي كله حدائق نخيل ملتفة يتصل سوادها ، ويمتد امتداد البصر ورحلنا من ذلك الموضع ، وبتنا ليلة الأحد منسلخ محرم بمقربة من الحلة ثم جئناها يوم الأحد المذكور .
ذكر مدينة الحلة حرسها الله تعالى : هي مدينة كبيرة عتيقة الوضع مستطيلة لم يبق من سورها الا حلق من جدار ترابي مستدير بها ، وهي على شط الفرات يتصل بها من جانبها الشرقي ويمتد بطولها ، ولهذه المدينة أسواق حفيلة جامعة للمرافق المدنية والصناعات الضرورية ، وهي قوية العمارة كثيرة الخلق ، متصلة حدائق النخيل داخلاً وخارجاً ، فديارها بين حدائق النخيل . وألفينا بها جسراً عظيماً معقوداً على مراكب كبار ، متصلة من الشط إلى الشط ، تحف بها من جانبها سلاسل من حديد كالأذرع المفتلة عظماً وضخامة ، ترتبط إلى خشب مثبتة في كلا الشطين تدل على عظم الاستطاعة والقدرة ، أمر الخليفة بعقده على الفرات اهتماماً بالحاج واعتناء بسبيله ، وكانوا قبل ذلك يعبرون في المراكب فوجدوا هذا الجسر قد عقده الخليفة في مغيبهم ، ولم يكن عند شخوصهم إلى مكة شرفها الله .
وعبرنا الجسر ظهر يوم الأحد المذكور نزلنا بشط الفرات على مقدار فرسخ من البلد ، وهذا النهر كاسمه فرات هو من أعذب المياه وأخفها ، وهو نهر كبير زخار تصعد فيه السفن وتنحدر .
والطريق من الحلة إلى بغداد أحسن طريق وأجملها ، في بسائط من الأرض وعمائر ، تتصل بها القرى يميناً وشمالاً ويشق هذه البسائط أغصان من ماء الفرات ، تتسرب بها وتسقيها ، فمحرثها لاحد لاتساعه وانفساحه ، فللعين في هذه الطريق مسرح انشراح ، وللنفس مزاد انبساط وانفساح والأمن فيها متصل بحمد الله سبحانه .
شهرصفر سنة ثمانين عرفنا الله يمنه وبركته هلاله على الكمال ، من ليلة الاثنين بموافقة الرابع عشر من مايه ، استهل هلاله ونحن على شط الفرات بظاهر مدينة الحلة ، وفي ضحوة يوم الاثنين المذكور رحلنا وأجزنا جسراً على نهر يسمى النيل ، وهو فرع متشعب من الفرات ، وكان عليه ازدحام غرق فيه كثير من الناس والدواب في الماء ،
--------------------------- 43 ---------------------------
فتنحينا مريحين إلى أن انفرج ذلك المزدحم ، وعبرنا على سلامة وعافية والحمد لله ) .
وصف الرحالة ابن بطوطة الكوفة وبيت علي ( عليه السلام )
قال في رحلته / 213 : ( وردنا إلى مدينة الكوفة وهي إحدى أمهات البلاد العراقية المتميزة فيها ، بفضل مزية مثوى الصحابة والتابعين ، ومنزل العلماء والصالحين ، وحضرة علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، إلا أن الخراب قد استولى عليها بسبب أيدي العدوان التي امتدت إليها ، وفسادها من عرب خفاجة المجاورين لها فإنهم يقطعون طريقها .
ولا سور عليها وبناؤها بالآجر وأسواقها حسان ، وأكثر ما يباع فيها التمر والسمك ، وجامعها الأعظم جامع كبير شريف بلاطاته سبع ، قائمة على سواري حجارة ضخمة منحوته قد صنعت قطعاً ووضع بعضها على بعض وأفرغت بالرصاص وهي مفرطة الطول ، وبهذا المسجد آثار كريمة ، فمنها بيت إزاء المحراب عن يمين مستقبل القبلة يقال إن الخليل صلوات الله عليه كان له مصلى بذلك الموضع ، وعلى مقربة منه محراب محلق عليه بأعواد الساج مرتفع ، وهو محراب علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، وهنالك ضربه الشقي ابن ملجم ، والناس يقصدون الصلاة به .
وفي الزاوية من هذا البلاط مسجد صغيرمحلق عليه أيضاً بأعواد الساج ، يذكر أنه الموضع الذي فار منه التنور حين طوفان نوح ، وفي ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنه بيت نوح ( عليه السلام ) ، وإزاءه بيت يزعمون أنه متعبد إدريس ( عليه السلام ) ، ويتصل بذلك فضاء ويتصل بالجدار القبلي للمسجد ، يقال إنه موضع إنشاء سفينة نوح ( عليه السلام ) . وفي آخرهذا الفضاء دارعلي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) والبيت الذي غسل فيه . ويتصل به بيت يقال أيضاً إنه بيت نوح ( عليه السلام ) ، والله أعلم بصحة ذلك كله .
وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت مرتفع يصعد إليه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، وبمقربة منه خارج المسجد قبر عاتكة وسكينة بنتي الحسين ( عليه السلام ) . وأما قصر الإمارة بالكوفة الذي بناه سعد بن أبي وقاص فلم يبق
--------------------------- 44 ---------------------------
إلا أساسه . والفرات من الكوفة على مسافة نصف فرسخ في الجانب الشرقي منها ، وهو منتظم بحدائق النخل الملتفة المتصل بعضها بعض ، ورأيت بغربي جبانة الكوفة موضعاً مسوداً شديد السواد في بسيط أبيض ، فأخبرت أنه قبر الشقي ابن ملجم ، وأن أهل الكوفة يأتون كل سنة بالحطب الكثير فيوقدون النار على موضع قبره سبعة أيام ، وعلى قرب منه قبة أخبرت أنها على قبر المختار بن أبي عبيد ) .
ويبدو أنه قرأ رحلة بن جبير ، وأخذ منها ، وقد نص على أن المسلمين جعلوا بيته الإمام ( عليه السلام ) مزاراً ، وهو الآن في قبلة مسجد الكوفة يزوره الناس ويتبركون بماء بئر فيه ، وفيه دهاليز وعدة غرف ، مثل بيوت الكوفة القديمة .
وقال البراقي في تاريخ الكوفة / 40 : ( إن ابن بطوطة شاهد آثاراً كثيرة ، وفي زماننا هذا ليس لها عين ولا أثر ، ويظهر من كلامه في محراب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه المحراب الموجود الآن الذي بجنبه المنبر المبني بالجص والحجارة . وبقوله : في الزاوية من آخر هذا البلاط ، يشير إلى الزاوية الغربية ، وهي الآن حجرة كبيرة ، فعلى كلامه يكون منها فار التنور .
ويظهر من قوله : في ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنه بيت نوح ( عليه السلام ) ، أن بيت نوح ملاصق للزاوية الغربية ويتصل بالباب الذي ذكرنا أنه مقام نوح ( عليه السلام ) الذي بجنب المنبر ، وهو الباب الذي يدخل منه الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى المسجد . وأما متعبد إدريس فليس له اليوم عين ولا أثر . وأما الفضاء الذي ذكره المتصل بالجدار القبلي من المسجد الذي نجرت فيه السفينة ، فهو هذا الفضاء الموجود ما بين بيت أمير المؤمنين وبيت نوح ، الذي هو ملاصق للحائط القبلي ) .
وصفوا فرش بيت علي ( عليه السلام )
روى سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ( 1 / 110 ) : ( عن سويد بن غفلة قال : دخلت على علي ( عليه السلام ) يوماً وليس في داره سوى حصير رثّ ، وهو جالس عليه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أنت ملك المسلمين والحاكم عليهم وعلى بيت المال ، وتأتيك الوفود ، وليس في بيتك سوى هذا الحصير شئ ؟ قال : يا سويد إن اللبيب لايتأثث في دار
--------------------------- 45 ---------------------------
النقلة ، وأمامنا دار المقامة قد نقلنا إليها متاعنا ، ونحن منقلبون إليها عن قريب ! قال : فأبكاني والله كلامه ) !
وصفوا ملبسه ومأكله
1 . كان ( عليه السلام ) يدعو الناس إلى الاقتداء برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 60 ) : ( ولقد كان في رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما يدلك على مساوي الدنيا وعيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصته ، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته . فلينظر ناظر بعقله أكرم الله محمداً ( ( عليهما السلام ) ) بذلك أم أهانه ؟ فإن قال أهانه فقد كذب والعظيم ، وإن قال أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه ! فتأسى متأس بنبيه ، واقتص أثره ، وولج مولجه ، وإلا فلا يأمن الهلكة ، فإن الله جعل محمداً ( ( عليهما السلام ) ) علماً للساعة ، ومبشراً بالجنة ، ومنذراً بالعقوبة ، خرج من الدنيا خميصاً ، وورد الآخرة سليماً ، لم يضع حجراً على حجر حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه .
فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفاً نتبعه ، وقائداً نطأ عقبه . والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ، ولقد قال لي قائل ألا تنبذها ؟ فقلت : أغرب عني ، فعند الصباح يحمد القوم السرى ) .
وراقعها ابنه الحسن ( عليه السلام ) ، لكن شخص آخر قال له : أنبذها فإن الأتان لا ترضاها بردعة لها ! فأجابه بما تقدم .
2 . وروى الصادق ( عليه السلام ) عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قصة ملفتة ، قال ( عليه السلام ) ( أمالي الصدوق / 211 ) : ( جاء رجل إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد بلي ثوبه ، فحمل اليه اثني عشر درهماً ، فقال : يا علي خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه . قال علي ( عليه السلام ) : فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً ، وجئت به إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنظر إليه فقال : يا علي غيرهذا أحب إلي ، أترى صاحبه يقيلنا ؟ فقلت : لا أدري ، فقال : أنظر ، فجئت إلى صاحبه فقلت : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد كره هذا يريد ثوباً دونه فأقلنا فيه ، فرد علي الدراهم ، وجئت بها إلى رسول الله فمشى معي إلى السوق
--------------------------- 46 ---------------------------
ليبتاع قميصاً ، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي فقال لها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما شأنك ؟ فقالت : يا رسول الله إن أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع إليهم ، فأعطاها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أربعة دراهم ، وقال : إرجعي إلى أهلك ، ومضى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى السوق واشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله وخرج ، فرأى رجلاً عرياناً يقول : من كساني كساه الله من ثياب الجنة ، فخلع رسول الله قميصه الذي اشتراه وكساه السائل ، ثم رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسهُ وحمد الله ورجع إلى منزله ، وإذا الجارية قاعدة على الطريق ، فقال لها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مالك لا تأتين أهلك ؟ قالت : يا رسول الله ، إنّي قد أبطأت عليهم فأخاف أن يضربوني ، فقال لها رسول الله : مري بين يديَّ ودلّيني على أهلك ، فجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى وقف على باب دارهم ثم قال : السلام عليكم يا أهل الدار فلم يجيبوه ، فأعاد السلام فلم يجيبوه ، فأعاد السلام فقالوا : عليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فقال لهم : ما لكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني ؟ قالوا : يا رسول الله ، سمعنا سلامك فأحببنا أن نستكثر منه ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها فقالوا : يا رسول الله هي حرة لممشاك ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الحمد لله ، ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من هذه ، كسا الله بها عريانين وأعتق بها نسمةً ) .
3 . وفي المحاسن للبرقي ( 2 / 409 ) : ( قال حبة العرني : أُتيَ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بخوان فالوذج ، فوضع بين يديه فنظر إلى صفائه وحسنه ، فوجأ بإصبعه فيه حتى بلغ بأسفله ، ثم سلها ولم يأخذ منه شيئاً وتلمظ إصبعه وقال : إنه لحلال طيب وما هو بحرام ، ولكني أكره أن أعود نفسي ما لم أعودها ، إرفعوه عني ، فرفعوه ) .
وفي شرح النهج ( 9 / 235 ) : ( عن أحمد بن حنبل قال : قيل لعلي : يا أمير المؤمنين لم تُرَقِّعُ قميصك ؟ قال : ليخشع القلب ، ويقتدى بي المؤمنون . وكان يطوف الأسواق مؤتزراً بإزار ، مرتدياً برداء ، ومعه الدرة ، فطاف مرة حتى بلغ سوق الكرابيس فقال لواحد : يا شيخ بعني قميصاً تكون قيمته ثلاثة دراهم ، فلما عرفه الشيخ لم يشتر منه شيئاً ، ثم
--------------------------- 47 ---------------------------
أتى آخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئاً ، فأتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ، فلما جاء أبوالغلام أخبره فأخذ درهماً ، ثم جاء إلى علي ( عليه السلام ) ليدفعه إليه فقال له : ما هذا ؟ فقال يا مولاي إن القميص الذي باعك ابني كان يساوى درهمين . فلم يأخذ الدرهم وقال : باعني رضاي وأخذ رضاه !
وجاء إلى السوق ومعه غلام له وهو خليفة ، فاشترى قميصين وقال لغلامه : إختر أيهما شئت ، فأخذ أحدهما ، وأخذ عليٌّ الآخر ثم لبسه ومد يده ، فوجد كمه فاضلة فقال : اقطع الفاضل فقطعته ، ثم كفه وذهب .
وروى أحمد عن الصمال بن عمير قال : رأيت قميص علي ( عليه السلام ) الذي أصيب فيه ، وهو كرابيس سبيلاني ، ورأيت دمه قد سال عليه كالدردي .
وروى عن التميمي : خرج علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بسيفه إلى السوق فقال : من يشتري مني سيفي هذا ؟ فلو كان عندي أربعة دراهم اشتري بها إزاراً ما بعته . وقال أبو رجاء : قلت يا أمير المؤمنين ، أنا أبيعك وأنسيك إلى العطاء ) .
أقول : أنسيك : أي أبيعك إزاراً نسيئة إلى أن يخرج عطاؤك . ولا بد أن يكون ذلك السيف غير ذي الفقار ، فإنه لا يباع ولا يوهب .
روى الخوارزمي عن سويد بن غفلة ، قال : دخلت على علي ( عليه السلام ) فوجدته جالساً وبين يديه صحفة فيها لبن حازر ، أجد ريحه من شدة حموضته ، وفي يديه رغيف أرى آثار قشار الشعير في وجهه ، وهو يكسره بيده أحياناً ، فإذا أعيا عليه كسره بركبتيه وطرحه في اللبن ، فقال : أدن فأصب من طعامنا هذا ، فقلت : إني صائم ، فقال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : من منعه الصيام من طعام يشتهيه كان حقاً على الله أن يطعمه من طعام الجنة ويسقيه من شرابها . قال : فقلت لجاريته وهي قائمة بقرب منه : ويحك يا فضة ألا تتقين الله في هذا الشيخ ؟ ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة ، فقالت : لقد تقدم إلينا ألا ننخل له طعاماً .
قال لي : ما قلت لها ؟ فأخبرته فقال : بأبي وأمي من لم ينخل له طعام ( ( عليهما السلام ) ) ،
ولم يشبع من خبز البّر ثلاثة أيام ، حتى قبضه الله عز وجل ) .
--------------------------- 48 ---------------------------
وفي حلية الأولياء ( 1 / 83 ) : ( أُتيَ بشئ من خبيص فوضعه بين أيديهم ، فجعلوا يأكلون ، فقال علي : إن الإسلام ليس ببكر ضال ، ولكن قريش رأت هذا فتناحرت عليه ) !
أي جعلت قريش الإسلام مكسباً دنيوياً كالفصيل الضائع لا صاحب له ، فطمعوا به وتقاتلوا عليه ، وتناحروا عليه . ورواه أحمد في الفضائل / 435 .
وهو يدل على رأيه في قريش ، وأن مبادرتها إلى السقيفة كان طلباً للدنيا .
4 . وروى ابن حنبل في فضائل الصحابة / 535 : ( عن الأعمش قال : كان علي يُغدي ويعشي ، ويأكل هو من شئ يجيئه من المدينة . عن محمد بن كعب القرظي قال : سمعت علياً قال : كنت مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإني لأربط على بطني الحجر من الجوع ، وإن صدقتي اليوم لأربعون ألفاً .
عن زيد بن وهب قال : قدم على عليٍّ وفد من أهل البصرة منهم رجل من رؤوس الخوارج يقال له الجعد بن بعجة ، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا علي ، إتق الله فإنك ميت ، وقد علمت سبيل المحسن ، يعني بالمحسن عمر ، ثم قال : إنك ميت ! فقال علي : كلا والذي نفسي بيده ، بل مقتول قتلاً ضربة على هذا يخضب ، هذا قضاء مقضي وعهد معهود وقد خاب من افترى . ثم عاتبه في لبوسه فقال : ما يمنعك أن تلبس ؟ قال : ما لك وللبوسي ، إن لبوسي هذا أبعد من الكبر ، وأجدر أن يقتدي به المسلم .
رأيت علي بن أبي طالب اشترى تمراً بدرهم ، فحمله في ملحفته ، فقالوا : نحمل عنك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ، أبوالعيال أحق أن يحمل .
أبوخريم الباهلي قال : رأيت علي بن أبي طالب بشط الكلأ يسأل عن الأسعار . عن كريمة بنت همام الطابية قالت : كان علي يقسم فينا الورس بالكوفة . عن عبيدة السلماني قال : صحبت عبد الله بن مسعود سنة ثم صحبت علياً ، فكان فضل علي على عبد الله في العلم ، كفضل المهاجر على الأعرابي ! عن ابن عيينة قال : كان علي بن أبي طالب يقول : كفوا عني خفق نعالكم ، فإنها مفسدة لقلوب نوكى الرجال ) .
أي لا تتبعوني وتمشوا خلفي ، وأريحوني من ضرب أقدامكم خلفي ! فإن مشيكم خلف الحاكم يفسد قلبه ويورثه التكبر إن كان أحمق !
--------------------------- 49 ---------------------------
5 . وفي نهج البلاغة ( 2 / 187 ) : ( ومن كلام له ( عليه السلام ) بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده ، فلما رأى سعة داره قال : ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ؟ أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج ، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تُقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة .
فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين أشكوا إليك أخي عاصم بن زياد . قال وما له ؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن الدنيا . قال عليَّ به ، فلما جاء قال : يا عُدَيَّ نفسه لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها ؟ أنت أهون على الله من ذلك .
قال : يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك . قال : ويحك إني لست كأنت ، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيغ بالفقير فقره ) .
قال الشيخ مغنية في ظلال النهج ( 3 / 240 ) : ( على القائد أعباء قاسية وجسيمة وأولها إقامة العدل والمساواة بين الناس في السراء والضراء ، على أن يبدأ القائد بنفسه وأهله . وإن وجد فقير واحد في رعيته عمل لدفع المضرة عنه وإن عجز شاركه في مكاره العيش ، لئلا يزداد ألماً على ألم ، أو يعيبه ويعيره ببلواه عائب ومعير ، ما دامت هذه هي حال الخليفة ودنياه . وإذن فخشونة الإمام في عيشه جزء من جهاده وعمله من أجل الفقراء والمستضعفين ، وفضيلة من فضائل القادة والحاكمين ، أما خشونة عاصم فجمود وانهزام ) .
وفي شرح النهج ( 11 / 33 ) : ( يا عديَّ نفسه : تصغيرعدو وقد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا ، ويمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها ، ويمكن أن يخرج مخرج التحنن والشفقة كقولك يا بني . واستهام بك الخبيث : يعني الشيطان أي جعلك هائماً ضالاً . . وتبيغ الدم بصاحبه وتبوغ به : أي هاج به . وفي الحديث : عليكم بالحجامة لايتبيغ بأحدكم الدم فيقتله . وقيل أصل يتبيغ يتبغى
--------------------------- 50 ---------------------------
فقلب جذب وجبذ أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه وطعامه بضعفة الناس جمع ضعيف ، لكيلا يهلك الفقراء من الناس . فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة وبذلك المطعم كان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا والصبر عن شهوات النفوس .
واعلم أن الذي رويته عن الشيوخ ورأيته بخط عبد الله بن أحمد بن الخشاب ( رحمه الله ) أن الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشابة في جبينه ، فكانت تنتقض عليه في كل عام ، فأتاه علي ( عليه السلام ) عائداً فقال : كيف تجدك أبا عبد الرحمن ؟ قال : أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بي إلا بذهاب بصري لتمنيت ذهابه . قال : وما قيمة بصرك عندك ؟ قال لو كانت لي الدنيا لفديته بها . قال : لاجرم ليعطينك الله على قدر ذلك ، إن الله تعالى يعطي على قدر الألم والمصيبة ، وعنده تضعيف كثير .
قال الربيع : يا أمير المؤمنين ألا أشكوا إليك عاصم بن زياد أخي ؟ قال : ما له ؟ قال : لبس العباء وترك الملاء وغم أهله وحزن ولده . فقال عليٌّ : ادعوا لي عاصماً ، فلما أتاه عبس في وجهه وقال : ويحك يا عاصم ، أترى الله أباح لك اللذات وهو يكره ما أخذت منها ! لأنت أهون على الله من ذلك . أوَما سمعته يقول : مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ . ثم قال : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ . وقال : وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها .
أما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال ، وقد سمعتم اللَّه يقول : وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ . وقوله : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ا للهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِه وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ . إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ . وقال : يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً . وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لبعض نسائه : مالي أراك شعثاء مرهاء سلتاء !
قال عاصم : فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن وأكل الجشب ؟ قال ( عليه السلام ) : إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم بالقوام كيلا يتبيغ بالفقير فقره . فما قام علي ( عليه السلام ) حتى نزع عاصم العباء ، ولبس ملائة .
والربيع بن زياد هو الذي افتتح بعض خراسان وفيه قال عمر : دلوني على رجل إذا كان في القوم أميراً فكأنه ليس بأمير ، وإذا كان في القوم ليس بأمير فكأنه الأمير بعينه ،
--------------------------- 51 ---------------------------
وكان خيراً متواضعاً ) .
وقد فسر شمس الدين في دراسات في النهج / 233 ، قوله ( عليه السلام ) : أنت أهون على الله من ذلك ؟ بأن الله قد يحل شيئاً وهو يكره فعله ، والبشرأهون على الله تعالى من أن يحل لهم أمراً مجاملة واستصلاحاً .
بل معناه : أنه تعالى قد يرغب من بعض أوليائه ترك بعض الحلال كرامة لهم لتعلو درجتهم ، وليس عاصم منهم .
6 . قال العلامة في شرح التجريد / 526 : ( كان أزهد الناس بعد رسول الله فيكون أفضل من غيره ، كان سيد الأبدال واليه تشد الرحال في معرفة الزهد والتسليك فيه ، وترتيب أحوال الرياضات ، وذكر مقامات العارفين ، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً ولم يشبع من طعام قط .
قال عبيد الله بن أبي رافع : دخلت عليه يوماً فقدم جراباً مختوماً فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً فأكل منه ، فقلت يا أمير المؤمنين : كيف تختمه ، فقال : خفت هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن . وهذا شئ اختص به علي ( عليه السلام )
لم يشاركه فيه غيره ولم ينل أحد بعض درجته ، وكان نعلاه من ليف ، ويرقع قميصه بجلد تارة وبليف أخرى ، وقل أن يأتدم ، فإن فعل فبالملح أو بالخل ، فإن ترقى فبنبات الأرض ، فإن ترقى فبلبن . وكان لا يأكل اللحم إلا قليلاً ويقول : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان ) .
7 . روى ابن حمدون في تذكرته ( 1 / 11 ) عن الأحنف بن قيس ، قال : ( دخلت على معاوية فقدم إليَّ من الحلو والحامض ما كثر تعجبي منه ، ثم قدم لوناً ما أدري ما هو ، فقلت ما هذا ؟ قال : مصارين البط محشوة بمخاخ العصافير قد قليَ بدهن الفستق وذُرَّ عليه الطبرزد ، فبكيت ، فقال ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت علياً ، بينا أنا عنده فحضر وقت إفطاره فسألني المقام ، إذ دعا بجراب مختوم ، قلت : ما في الجراب ؟ قال : سويق شعير ، قلت خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟ قال : لا ولا أحدهما ولكني خفت أن يلتَّه الحسن والحسين بسمن أو زيت .
--------------------------- 52 ---------------------------
قلت : محرم هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس ، لئلا يٌطغي بالفقير فقره ! قال معاوية : ذكرتَ من لا ينكر فضله ) . ونثر الدرر / 137 .
8 . وقال أبو نعيم في حلية الأولياء ( 1 / 71 ) : ( وكان مزيناً من بين العباد ، متحققاً بزينة الأبرار والزهاد . عن الأصبغ بن نباتة ، قال : سمعت عمار بن ياسر يقول : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي إن الله تعالى قد زينك بزينة لم تزين العباد بزينة أحب إلى الله تعالى منها ، هي زينة الأبرار عند الله عز وجل ، الزهاد في الدنيا ، فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئاً ولا ترزأ الدنيا منك شيئاً ، ووهب لك حب المساكين ، فجعلك ترضي بهم أتباعاً ، ويرضون بك إماماً .
وروى أبو نعيم عن مجاهد ، قال : خرج علينا علي بن أبي طالب يوماً معتجراً فقال : جعت مرة بالمدينة جوعاً شديداً فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة ، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً تريد بله ، فأتيتها فقاطعتها كل ذَنُوب على تمرة ، فمددت ستة عشر ذنوباً حتى مجلت يداي ، ثم أتيت الماء فأصبت منه ثم أتيتها فقلت بكفي هكذا بين يديها ، وبسط إسماعيل يديه وجمعهما ، فعدَّت لي ست عشرة تمرة ، فأتيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبرته فأكل معي منها . وقال حماد في حديثه : فقال لي خيراً ودعا لي ) .
والإعتجار : لف العمامة على الرأس ، وإبقاء وسط الرأس مكشوفاً .
خصائصه وامتيازاته ( عليه السلام ) لا يسعها مجلد
ألَّفَ النسائي كتاباً باسم : خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، روى فيه الأحاديث التي تميزه عن غيره ، وترفعه على بقية الصحابة . وقد تبين لك مما تقدم من سيرته ( عليه السلام ) تميزه في علمه وعمله وأخلاقه وسلوكه . وتبين لك من مقارنة ماليته بمالية غيره أنه عمل في حفر العيون وزراعة النخيل فصار أغنى الصحابة ، وكان وارده من نخيل ينبع أربعين ألف دينار ، وفي رواية أربع مئة ألف دينار ، وكان يطعم الناس الثريد الخبز واللحم ، ويأكل هو خبز الشعير . ولم يكن ينفق من بيت المال ولا استقرض
--------------------------- 53 ---------------------------
منه ، بينما كان أبو بكر وعمر ينفقان على نفسيهما من بيت المال ، واستقرضا منه عشرات آلاف الدراهم ، وأوصيا بأن يوفى قرضاهما ، لكن ورثتهما لم يوفوا شيئاً .
وذكرنا امتيازه ( عليه السلام ) بأنه الوحيد الذي لم يجبرأحداً على بيعته ، ولا على القتال معه . وأنه أعطى مخالفيه حرية القول والعمل ، وأجرى عليهم حقوقهم من بيت المال ، ولم يقاومهم حتى بدؤوا بقتل الناس بغير حق . وخصائصه ( عليه السلام ) كثيرة لا يتسع لها فصل من كتاب .
نوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الاستيطان في الكوفة
قال نصر بن مزاحم / 10 : ( عن أبي طيبة ، عن أبيه قال : أتم عليٌّ الصلاة يوم دخل الكوفة ، فلما كانت الجمعة وحضرت الصلاة ، صلى بهم وخطب خطبة .
كان الإمام ( عليه السلام ) يؤذن فيسمع أذانه كل أهل الكوفة !
في بحار الأنوار ( 42 / 263 ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يبكر في صلاة الصبح ويؤذن للفجر فيقول السامع : ما أشبهه بصوت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وكان إذا أذن يصل صوته إلى نواحي الكوفة كلها ) .
قال نصر / 532 : ( قال أبو محمد نافع بن الأسود التميمي :
ألا أبلغا عني علياً تحية * فقد قبَّل الصماء لما استقلت
بنى قبة الإسلام بعد انهدامها * فقامت عليه قصره فاستقرت
كأن نبياً جاءنا بعد هدمها * بما سن فيها بعد ما قد أبرت
وكان يجول على أسواق الكوفة كل يوم !
ففي الكافي ( 5 / 151 ) : ( عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرةً من القصر ، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرة على عاتقه ، وكان لها طرفان وكانت تسمى السبيبة ، فيقف على أهل كل سوق فينادي : يا معشر التجار اتقوا الله عز وجل ، فإذا سمعوا صوته ( عليه السلام ) ألقوا ما بأيديهم وأرعوا إليه بقلوبهم وسمعوا بآذانهم ، فيقول ( عليه السلام ) : قدموا الاستخارة
--------------------------- 54 ---------------------------
وتبركوا بالسهولة ، واقتربوا من المبتاعين ، وتزينوا بالحلم ، وتناهوا عن اليمين ، وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن الظلم وأنصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الربا ، وأوفوا الكيل والميزان ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاتَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ . فيطوف ( عليه السلام )
في جميع أسواق الكوفة ، ثم يرجع فيقعد للناس ) .
وفي أمالي المفيد / 198 : ( وكان إذا نظروا إليه قد أقبل إليهم وقال : يا معشر الناس أمسكوا أيديهم ، وأصغوا إليه بآذانهم ، ورمقوه بأعينهم حتى يفرغ ( عليه السلام ) من كلامه ، فإذا فرغ قالوا : السمع والطاعة يا أمير المؤمنين ) .
وفي الجواهر ( 36 / 343 ) : ( مرَّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالقصابين فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة : نهاهم عن بيع الدم ، والغدد ، وآذان الفؤاد ، والطحال والنخاع والخصي والقضيب ، فقال له بعض القصابين : يا أمير المؤمنين ما الطحال والكبد إلاسواء ، فقال ( عليه السلام ) : كذبت يا لكع ، آتني بتورين من ماء أنبئك بخلاف ما بينهما ، فأتى بكبد وطحال وتورين من ماء ، فقال : شقوا الكبد من وسطه والطحال من وسطه ، ثم أمر فمُرِسَتَا جميعاً في الماء فابيضت الكبد ، ولم ينقص منها شئ ولم يبيض الطحال ، وخرج ما فيه وصار دماً كله . . فقال له : هذا خلاف ما بينهما ، هذا لحم وهذا دم ) !
وفي الكافي ( 5 / 151 ) : ( مرَّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على جارية قد اشترت لحماً من قصاب وهي تقول : زدني . فقال له : زدها فإنه أعظم للبركة . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من اتجر بغيرعلم ارتطم في الربا ثم ارتطم . قال : وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : لايقعدن في السوق إلا من يعقل الشراء والبيع ) .
وقال ابن كثير في النهاية ( 8 / 5 ) : ( ثم أتى أصحاب التمر فإذا خادم تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : باعني هذا الرجل تمراً بدرهم ، فرده مولاي فأبى أن يقبله ، فقال له علي : خذ تمرك وأعطها درهماً فإنها ليس لها أمر ، فدفعه ، فقلت : أتدري من هذا ؟ فقال : لا . فقلت : هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين فصبت تمره وأعطاها درهماً . ثم قال الرجل : أحب أن ترضى عني يا أمير المؤمنين ، قال : ما أرضاني عنك إذا أوفيت الناس حقوقهم .
--------------------------- 55 ---------------------------
ثم مر مجتازاً بأصحاب التمرفقال : يا أصحاب التمر أطعموا المساكين يربُّ كسبكم . ثم مر مجتازاً ومعه المسلمون حتى انتهى إلى أصحاب السمك فقال :
لا يباع في سوقنا طافٍ ) . أي مات في الماء ، وليس خارج الماء .
أعطى الإمام الحريات للجميع وأعاد التحديث والتدوين
وقد روينا في الفصل الحادي والخمسين كيف أعاد ( عليه السلام ) العهد النبوي ، ومن أمثلته : ( كان ( عليه السلام ) جالساً في أصحابه فمرت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم ! فقال : إن أبصار هذه الفحول طوامح ، وإن ذلك سبب هُبابها ، فإذا نظرأحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله ، فإنما هي امرأة كامرأة ! فقال رجل من الخوارج : قاتله الله كافراً ما أفقهه ! فوثب القوم ليقتلوه فقال : رويداً ، إنما هو سبٌّ بسب ، أو عفوٌ عن ذنب ) . ( نهج البلاغة : 4 / 98 ) .
يقول لهم : إن الناس أحرار ، ومَن سب رئيس الدولة فجزاؤه السب ،
أو العفو عنه ! وبهذه الحرية لخصومه ، فضح القرشيين الذين بطشوا بالناس للتهمة والظنة ، وقتلوهم على الكلمة ، وجعلوا رئيس الدولة أعظم حرمةً من الله تعالى !
لما أعاد الإمام ( عليه السلام ) حرية الحديث والتدوين ، أشرقت الكوفة بعلم الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يفيض به مدينة علمه ، في خطبه في مسجد الكوفة ، وتعليمه المسلمين بأحاديثه وكلماته . ومعه الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وخيار الصحابة ، وقراء القرآن .
وقد كتبنا في تدوين القرآن / 405 : ( وقف علي ( عليه السلام ) وشيعته ضد سياسة منع الحديث ، وكان يأمر من يطيعه بالتحديث والتدوين ، ويروي لهم أحاديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالتحديث عنه وتدوين حديثه .
وهو بذلك يطبق أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( أكتبوا هذا العلم فإنكم تنتفعون به إما في دنياكم وإما في آخرتكم ، وإن العلم لا يضيع صاحبه ) . ( كنز العمال : 10 / 262 ) .
( يا معشر المسلمين واليهود أكتبوا بما سمعتم فقالوا : يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الكتابة أذكر لكم ) ( الإحتجاج : 1 / 42 ) .
وكتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لعماله : ( أدقوا أقلامكم ، وقاربوا بين سطوركم ، واحذفوا
--------------------------- 56 ---------------------------
عني فضولكم ، واقصدوا قصد المعاني ، وإياكم والإكثار ، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار ) . ( الخصال للصدوق / 310 ) .
ونصب عدداً من ولاة الأمصار
وفي السنة الأولى نصب الإمام ( عليه السلام ) ولاة الأمصار ، وأرسل كتبه ورسله إلى الآفاق ، وقد خصصنا الفصل الخمسين لجهاز الدولة عند الإمام ( عليه السلام ) وبينا أنه نصب الولاة الأكفاء ، وعزل الولاة الفاسدين ، وأصلح القضاء وواصل الفتوح في جبهة خراسان ، وجبهة أرمينيا ، وجبهة الهند عن طريق البحر .
ومن نماذج نصب الولاة ، ما رواه نصر بن مزاحم في كتاب صفين / 11 ، قال : ( ثم إن علياً ( عليه السلام ) أقام بالكوفة ، واستعمل العمال . . . بعث يزيد بن قيس الأرحبي على المدائن وجوخا كلها . وقال أصحابنا : وبعث مخنف بن سليم على أصبهان وهمدان . . وبعث قرظة بن كعب على البهقباذات ، وبعث قدامة بن مظعون الأزدي على كسكر ، وعدي بن الحارث على مدينة بهرسير وأستانها ، وبعث أباحسان البكري على أستان العالي ، وبعث سعد بن مسعود الثقفي على أستان الزوابى ، واستعمل ربعي بن كأس على سجستان ، وكأس أمه يعرف بها ، وهو من بني تميم . وبعث خليداً إلى خراسان ، فسار خليد حتى إذا دنا من نيسابور بلغه أن أهل خراسان قد كفروا ونزعوا يدهم من الطاعة ، وقدم عليهم عمال كسرى من كابل ، فقاتل أهل نيسابور فهزمهم وحصر أهلها ، وبعث إلى علي بالفتح والسبي ، ثم صمد لبنات كسرى فنزلن على أمان فبعث بهن إلى علي ( عليه السلام ) فلما قدمن عليه قال : أزوجكن ؟ قلن : لا ، إلا أن تزوجنا ابنيك ، فإنا لا نرى لنا كفواً غيرهما . فقال علي ( عليه السلام ) : إذهبا حيث شئتما ، فقام نرسا فقال : مر لي بهن ، فإنها منك كرامة ، فبيني وبينهن قرابة ففعل ، فأنزلهن نرسا معه وجعل يطعمهن ويسقيهن في الذهب والفضة ، ويكسوهن كسوة الملوك ، ويبسط لهن الديباج .
وبعث علي الأشتر على الموصل ونصيبين ، ودارا ، وسنجار ، وآمد ، وهيت ، وعانات ، وما غلب عليه من تلك الأرضين من أرض الجزيرة .
وبعث معاوية بن أبي سفيان الضحاك بن قيس على ما في سلطانه من أرض الجزيرة ،
--------------------------- 57 ---------------------------
وكان في يديه حران والرقة والرها وقرقيسيا . وكان من كان بالكوفة والبصرة من العثمانية قد هربوا فنزلوا الجزيرة في سلطان معاوية ، فخرج الأشتر وهو يريد الضحاك بن قيس بحران ، فلما بلغ ذلك الضحاك بعث إلى أهل الرقة فأمدوه ، وكان جل أهلها يومئذ عثمانية ، فجاءوا وعليهم سماك بن مخرمة ، وأقبل الضحاك يستقبل الأشتر ، فالتقى الضحاك وسماك بن مخرمة ، بمرج مرينا بين حران والرقة ، فرحل الأشتر حتى نزل عليهم فاقتتلوا اقتتالاً شديداً حتى كان عند المساء ، فرجع الضحاك بمن معه فسار ليلته كلها حتى صبح بحران فدخلها ، وأصبح الأشتر فرأى ما صنعوا فتبعهم حتى نزل عليهم بحران فحصرهم ، وأتى الخبر معاوية فبعث إليهم عبد الرحمن بن خالد في خيل يغيثهم فلما بلغ ذلك الأشتر كتب كتائبه ، وعبى جنوده وخيله ، ثم ناداهم الأشتر : ألا إن الحي عزيز ، ألا إن الذمار منيع ، ألا تنزلون أيها الثعالب الرواغة ؟ احتجرتم احتجار الضباب . فنادوا : يا عباد الله أقيموا قليلاً ، علمتم والله أن قد أتيتم . فمضى الأشتر حتى مر على أهل الرقة فتحرزوا منه ، ثم مضى حتى مر على أهل قرقيسيا فتحرزوا منه ، وبلغ عبد الرحمن بن خالد انصراف الأشتر فانصرف . فلما كان بعد ذلك عاتب أيمن بن خريم الأسدي معاوية ، وذكر بلاء قومه بني أسد في مرج مرينا . وفي ذلك يقول :
أبلغ أمير المؤمنين رسالة * من عاتبين مساعر أنجاد
منيتهم إن آثروك ، مثوبة * فرشدت إذ لم توف بالميعاد
أنسيت إذ في كل عام غارة * في كل ناحية كرجل جراد
غارات أشتر في الخيول يريدكم * بمعرة ومضرة وفساد
وضع المسالح مرصداً لهلاككم * ما بين عانات إلى زيداد
وحوى رساتيق الجزيرة كلها * غصباً بكل طمرة وجواد
لما رأى نيران قومي أوقدت * وأبوأنيس فاتر الإيقاد
أمضى إلينا خيله ورجاله * وأغذ لا يجرى لأمر رشاد
ثرنا إليهم عند ذلك بالقنا * وبكل أبيض كالعقيقة صاد ) .
--------------------------- 58 ---------------------------
وجاءه المتخلفون عنه في حرب الجمل معتذرين
1 . قال نصر في كتاب صفين / 7 : عن ابن أبي الكنود : ( إن سليمان بن صرد الخزاعي دخل على علي بن أبي طالب بعد رجعته من البصرة ، فعاتبه وعذله وقال له : ارتبت وتربصت وراوغت ، وقد كنت من أوثق الناس في نفسي وأسرعهم فيما أظن إلى نصرتي ، فما قعد بك عن أهل بيت نبيك ، وما زهدك في نصرهم ؟ فقال يا أمير المؤمنين ، لا تردن الأمور على أعقابها ، ولا تؤنبني بما مضى منها واستبق مودتي تخلص لك نصيحتي . وقد بقيت أمور تعرف فيها وليك من عدوك . فسكت عنه .
وجلس سليمان قليلاً ، ثم نهض فخرج إلى الحسن بن علي وهو قاعد في المسجد فقال : ألا أعجبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التبكيت والتوبيخ ؟ فقال له الحسن : إنما يعاتب من ترجى مودته ونصيحته . فقال : إنه بقيت أمور سيستوسق فيها القنا ، وينتضى فيها السيوف ويحتاج فيها إلى أشباهي ، فلاتستغشوا عتبي ولاتتهموا نصيحتي . فقال له الحسن : رحمك الله : ما أنت عندنا بالظنين ) .
2 . ( عن الشعبي ، أن سعيد بن قيس دخل على علي بن أبي طالب فسلم عليه ، فقال له عليٌّ : وعليك ، وإن كنت من المتربصين . فقال : حاش لله يا أمير المؤمنين لست من أولئك . قال : فعل الله ذلك ) . أي برأك الله .
3 . عن محمد بن مخنف قال : دخلت مع أبي على علي ( عليه السلام ) حين قدم من البصرة ، وهو عام بلغت الحلم ، فإذا بين يديه رجال يؤنبهم ويقول لهم : ما بطأ بكم عني وأنتم أشراف قومكم ؟ والله لئن كان من ضعف النية وتقصير البصيرة ، إنكم لبور . والله لئن كان من شك في فضلي ومظاهرة عليَّ إنكم لعدو . قالوا : حاش لله يا أمير المؤمنين ، نحن سلمك وحرب عدوك . ثم اعتذر القوم ، فمنهم من ذكر عذره ، ومنهم من اعتل بمرض ، ومنهم من ذكر غيبة . فنظرت إليهم فإذا عبد الله بن المعتم العبسي ، وإذا حنظلة بن الربيع التميمي وكلاهما كانت له صحبة ، وإذا أبو بردة بن عوف الأزدي ، وإذا غريب بن شرحبيل الهمداني .
--------------------------- 59 ---------------------------
قال : ونظرعلي ( عليه السلام ) إلى أبي فقال : لكن مخنف بن سليم وقومه لم يتخلفوا ، ولم يكن مَثَلهم مثل القوم الذين قال الله تعالى : وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيدًا . وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِى كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ) .
أقول : دعا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المسلمين إلى نصرته في حرب الجمل ، ولم يجبر أحداً على الحرب معه ، وكان بعضهم يخذل الناس عن الالتحاق به ، فغاضه موقفهم ، والذين عاتبهم ووبخهم كانوا منهم أو في جوهم . وهم يستحقون التوبيخ شرعاً لأنهم عملوا لمنع غيرهم من المشاركة في الجهاد معه ( عليه السلام ) .
4 . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 259 ) : ( ومن كلامه ( عليه السلام ) حين قدم الكوفة من البصرة بعد حمد الله والثناء عليه : أما بعد : فالحمدلله الذي نصر وليه ، وخذل عدوه ، وأعز الصادق المحق ، وأذل الكاذب المبطل .
عليكم يا أهل هذا المصر بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم ، الذين هم أولى بطاعتكم من المنتحلين المدعين القائلين : إلينا إلينا ، يتفضلون بفضلنا ، ويجاحدونا أمرنا ، وينازعونا حقنا ويدفعونا عنه ، وقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غياً . وقد قعد عن نصرتي منكم رجال وأنا عليهم عاتبٌ زارٍ ، فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون ، حتى يعتبونا ونرى منهم ما نحب ) .
أسس الإمام ( عليه السلام ) شَرَطة الخميس قوة خاصة لحفظ النظام
1 . شكَّل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الكوفة قوة خاصة باسم : شَرَطة الخميس ، بفتح الراء لابضمها ، وقد سماهم بها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأخبر علياً ( عليه السلام ) بأنه سيشارطهم في يوم خميس على بذل أنفسهم ، ويضمن لهم الجنة بضمان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال ابن النديم في الفهرست / 223 : ( معنى شَرَطة الخميس : أن علياً ( عليه السلام ) قال : لهذه الطائفة : تشرطوا فإنما أشارطكم على الجنة ، ولست أشارطكم على ذهب ولا فضة . إن نبياً من الأنبياء ( عليهم السلام ) فيما مضى قال لأصحابه : تشرطوا ، فإني لست أشارطكم إلا على الجنة ) .
--------------------------- 60 ---------------------------
وروى العلامة في الخلاصة / 191 ، وأفتى بصحته : ( عبد الله بن يحيى الحضرمي ، قال له علي ( عليه السلام ) يوم الجمل : أبشر يا ابن يحيى فإنك وأباك من شرطة الخميس حقاً ، لقد أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس ، والله سماكم في السماء شرطة الخميس على لسان نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ) .
2 . كان أن اسم الشُّرْطة قبلهم ، ففي الحديث النبوي : لا تكن شرطياً ولا عريفاً . وقال علي ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 4 / 24 ) : ( يا نوف إن داود ( عليه السلام ) قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال : إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلا أن يكون عشاراً أو عريفاً أو شرطياً أو صاحب عرطبة ، وهي الطنبور ) .
والشرطة : اسم مأخوذ برأي الخليل ( 6 / 235 ) من النخبة ، وهو أعلم اللغويين قال : ( سموا شرطاً ، لأن شرطة كل شئ خياره ، وهم نخبة السلطان من جنده ) .
وهو أصح من رأي الجوهري ( 3 / 1136 ) : ( سمي الشرَط لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها ، الواحد شرْطَة وشَرْطي ) .
وقال الكشي ( 1 / 24 ) : ( ذكر أن شرطة الخميس كانوا ستة آلاف رجل ) .
وكان ( عليه السلام ) يدعوهم فيقول : ( يا قنبر ، أدع لي شرطة الخميس ) . ( الكافي : 7 / 371 ) .
3 . وكان من مهام شرطة الخميس حراسة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ففي المناقب ( 2 / 84 ) : ( عن عبد الله بن الحسن أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان في مسجد الكوفة يوماً فلما جنه الليل أقبل رجل من باب الفيل عليه ثياب بيض فجاء الحرس وشرطة الخميس ، فقال لهم أمير المؤمنين : ما تريدون ؟ فقالوا : رأينا هذا الرجل أقبل الينا فخشينا أن يغتالك ، فقال : كلا ، انصرفوا رحمكم الله ، أتحفظوني من أهل الأرض ، فمن يحفظني من أهل السماء ! ومكث الرجل عنده ملياً يسأله فقال : يا أمير المؤمنين لقد ألبست الخلافة بهاء وزينة وكمالاً ، ولم تلبسك . ولقد افتقرت إليك أمة محمد وما افتقرت إليها ، ولقد تقدمك قوم وجلسوا مجلسك فعذابهم على الله ، وإنك لزاهد في الدنيا وعظيم في السماوات والأرض ، وإن لك في الآخرة لمواقف كثيرة تقر بها عيون شيعتك ، وإنك لسيد الأوصياء ، وأخوك سيد الأنبياء ، ثم ذكر الأئمة الاثني عشر ( عليهم السلام ) ، فانصرف .
--------------------------- 61 ---------------------------
وأقبل أمير المؤمنين على الحسن والحسين فقال : تعرفانه ؟ قالا : ومن هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : هذا أخي الخضر ( عليه السلام ) ) .
4 . اشتهر في رئاسة شرطة الخميس : الأصبغ بن نباتة التميمي وقيس بن سعد بن عبادة ( الطبقات : 6 / 52 ) وذكر البخاري ( الكبير : 6 / 31 ، والصغير : 1 / 275 ) : ( عَبَّاد بن نُسَيب أبوالوضئ القيسي . سمع علياً وأبابرزة ، يعد في البصريين سماه علي ، وكان من فرسان علي ( رضي الله عنه ) على شرطة الخميس ) .
وذكر عبد الرزاق في المصنف ( 6 / 252 ) أنه صاحب علي ( عليه السلام ) ، ووثقه ابن معين ، ورووا عنه خبر الخوارج وقتل المخدج ، ونسبه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 6 / 87 ) بالقيسي السحتني .
روى له أبو داود والنسائي في مسند علي ، وابن ماجة . ويبدو لي أن أصله من فرس بعلبك ، أي جيش كسرى الذي كان مستقراً في بعلبك ، وقد بقي بعضهم فيها ، ومنهم آل العجمي ، وآل حمادة .
كما ذكرالبغدادي في خزانة الأدب ( 7 / 120 ) : ( عُفَاق بن المسيح بن بشر بن أسماء بن عوف الفزاري . وكان عُفاق على شرطة الخميس مع علي بن أبي طالب . وكانوا يعرضون يوم الخميس ) .
أقول : يبدو أن أفضلهم الأصبغ ، قال نصر / 442 : ( فقام إليه الأصبغ بن نباتة فقال : يا أمير المؤمنين ، قدمني في البقية من الناس ، فإنك لاتفقد لي اليوم صبراً ولا نصراً . فقال علي : تقدم باسم الله والبركة . فتقدم وأخذ رايته فمضى وهو يقول :
حتى متى ترجو البقا يا أصبغ * إن الرجاء بالقنوط يدمغ . . .
فرجع الأصبغ وقد خصب رمحه دماً ، وكان شيخاً ناسكاً عابداً ، وكان إذا لقي القوم بعضهم بعضاً يغمد سيفه ( أي يقاتل بالرمح ) وكان من ذخائر علي ممن قد بايعه على الموت ، وكان من فرسان أهل العراق ، وكان علي ( عليه السلام ) يضن به على الحرب والقتال ) .
5 . ولم تقتصرمهام شرطة الخميس على الكوفة ، بل كانوا فرقة في جيش الإمام في حروبه في صفين والنهروان ، ففي دعائم الإسلام ( 1 / 372 ) : أنه ( عليه السلام ) قال في صفين :
--------------------------- 62 ---------------------------
( قدموا الرجالة والرماة فليرشقوا بالنبل وليتناوش الجنبان ، ولا تنشزوا عن مراكزكم لفارس شذ من العدو . . . فإذا أردتم الحملة فليبدأ صاحب المقدمة ، فإن تضعضع دعمته شرطة الخميس ، فإن تضعضعوا حملت المنتجبة ، ورشقت الرماة ) .
6 . وكان جيش الخميس نخبة أصحابه ( عليه السلام ) ، قال المفيد في الإختصاص / 6 : ( ذكر السابقين المقربين من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : حدثنا جعفر بن الحسين ، عن محمد بن جعفر المؤدب : الأركان الأربعة : سلمان والمقداد وأبو ذر وعمار ، هؤلاء الصحابة . ومن التابعين : أويس بن أنيس القرني الذي يشفع في مثل ربيعة ومضر ، عمرو بن الحمق الخزاعي ، وذكر جعفر بن الحسين أنه كان من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بمنزلة سلمان من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . رشيد الهجري ، ميثم التمار ، كميل بن زياد النخعي ، قنبر مولى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، محمد بن أبي بكر ، مزرع مولى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، عبد الله بن يحيى ، قال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوم الجمل : أبشر يا ابن يحيى فأنت وأبوك من شرطة الخميس سماكم الله به في السماء . جندب بن زهير العامري ، وبنو عامر شيعة علي على الوجه ، حبيب بن مظهر الأسدي ، الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، مالك بن الحارث الأشتر ، العلم الأزدي ، أبو عبد الله الجدلي ، وجويرية بن مسهر العبدي ) .
كان مجتمع الكوفة مجتمعاً قبلياً وفيه فرس
1 . جمع الإمام ( عليه السلام ) الدهاقين ، أي المزارعين الفرس والنبط ( صفين / 14 ) : ( لما قدم علي ( عليه السلام ) حشر أهل السواد ، فلما اجتمعوا أذن لهم ، فلما رأى كثرتهم قال : إني لا أطيق كلامكم ، ولا أفقه عنكم ، فأسندوا أمركم إلى أرضاكم في أنفسكم وأعمه نصيحة لكم . قالوا : نَرْسَا ، ما رضي فقد رضيناه وما سخط فقد سخطناه . فتقدم فجلس إليه فقال : أخبرني عن ملوك فارس كم كانوا ؟ قال : كانت ملوكهم في هذه المملكة الآخرة اثنين وثلاثين ملكاً . قال : فكيف كانت سيرتهم ؟ قال : ما زالت سيرتهم في عظم أمرهم واحدة ، حتى ملكنا كسرى بن هرمز ، فاستأثر بالمال والأعمال ، وخالف أولانا وأخرب الذي للناس وعمر الذي له ، واستخف بالناس ، فأوغر نفوس فارس حتى ثاروا عليه
--------------------------- 63 ---------------------------
فقتلوه ، فأرملت نساؤه ويتم أولاده . فقال : يا نرسا ، إن الله عز وجل خلق الخلق بالحق ، ولا يرضى من أحد إلا بالحق ، وفي سلطان الله تذكرة مما خول الله ، وإنها لا تقوم مملكة إلا بتدبير ولا بد من إمارة ، ولا يزال أمرنا متماسكاً ما لم يشتم آخرنا أولنا ، فإذا خالف آخرنا أولنا وأفسدوا هلكوا وأهلكوا . ثم أمَّر عليهم أمراءهم . ثم إن علياً ( عليه السلام ) بعث إلى العمال في الآفاق ، وكان أهم الوجوه إليه الشام ) .
2 . قال نصر بن مزاحم وقعة صفين / 117 : ( فقدموا على علي ( عليه السلام ) بالنخيلة ، وأمَّر الأسباع من أهل الكوفة : سعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس ، ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش وكنانة وأسد ، ومخنف بن سليم على الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة ، وحجر بن عدي الكندي على كندة وحضرموت وقضاعة ومهرة ، وزياد بن النضر على مذحج والأشعريين ، وسعيد بن قيس بن مرة الهمداني على همدان ومن معهم من حمير ، وعدي بن حاتم على طيئ ، ويجمعهم الدعوة مع مذحج وتختلف الرايتان : راية مذحج مع زياد بن النضر ، وراية طيئ مع عدي بن حاتم ) .
3 . وقال الطبري ( 3 / 152 ) : « وعرَّفوهم على مائة ألف درهم ، فكانت كل عَرَافة من القادسية خاصة ثلاثة وأربعين رجلاً ، وثلاثاً وأربعين امرأة ، وخمسين من العيال ، لهم مائة ألف درهم . وكل عرافة من أهل الأيام عشرين رجلاً على ثلاثة آلاف ، وعشرين امرأة وكل عيل على مائة ألف درهم . وكل عرافة من الرادفة الأولى ستين رجلاً وستين امرأة وأربعين من العيال ، ممن كان رجالهم ألحقوا على ألف وخمس مائة ، على مائة ألف درهم . . ثم على هذا من الحساب .
وقال عطية : قدأدركت مائة عريف ، وعلى مثل ذلك كان أهل البصرة ، كان العطاء يدفع إلى أمراء الأسباع وأصحاب الرايات ، والرايات على أيادي العرب ، فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء ، فيدفعونه إلى أهله في دورهم » .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 379 ) : ( الحلية ، وفضايل أحمد : عاصم بن كليب عن أبيه أنه قال : أتيَ عليٌّ بمال من أصفهان وكان أهل الكوفة أسباعاً ، فقسمه
--------------------------- 64 ---------------------------
سبعة أسباع ، فوجد فيه رغيفاً فكسره بسبعة كسر ، ثم جعل على كل جزء كسرة . ثم دعا امراء الأسباع فأقرع أيهم ) .
4 . وجاء في موسوعة ويكيبيديا : ( كانت الكوفة مدينة واسعة كبيرة تتصل قراها وجباناتها إلى الفرات وقرى العذار . وكان فيها من الدور 50 ألف دار للعرب و 24 ألف دار لغير العرب ، وتبلغ مساحتها اليوم 510 كم 2 .
ومن أسواقها : سوق حراضة وسوق أسد وسوق حكمت وسوق يوسف .
ومن قراها القديمة : أستينيا ، أقساس ، حبانية ، الحصاصة ، الأكيراح سنينيا ، السوارية ، عقر بابل ، الغاضرية ، بانقيا ، الرداة ، برثة البويب ، جرعة ، جرير ، حرورا ، حضر السبيع ، حمام سعد ، حمام أعين ، الخورنق ، درتا ، زوره ، زيدان ، شانيا ، شوميا ، شيلي ، صحراء ، أم سلمة ، صريفين ، الصين ، عين جمل ، الغريان . ومن محلاتها الحديثة : محلة السراي ، الرشادية ، الجديدة ، السهيلية ، البوحداري ، البراكية ، ومحلة كندة ، وأحياء حديثة كثيرة .
أنهارها القديمة : نهر كوثى ، نهر أبا ، نهر البردان ، نهر البويب ، نهر سورا ، نهر التاجية ، نهر الغدير ، نهر شيلي ، نهر الصنين ، نهر نرس .
معالمها وآثارها التاريخية : مسجد الكوفة ، أول ما اختط في الكوفة مسجدها على بعد 5 / 1 كم من الفرات في الجهة الغربية من الكوفة ، وهو اليوم يتألف من أربعة جدران مدعومة بأبراج نصف دائرية ، يبلغ عددها 28 برجاً ، وفي ساحته عدة مقامات منها ، مقام النبي إبراهيم ، ومقام الخضر ، ومقام بيت الطشت ، ودكة القضاء ، ومقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومقام الإمام جعفر الصادق ، ومقام آدم ، ومقام جبرائيل ، ومقام الإمام زين العابدين .
وفي صدر الجدار القبلي للمسجد يقع محراب المسجد الذي ضرب فيه الامام وهو مزخرف بالقاشاني ، وفي وسطه مشبك نحاسي .
وفي وسط المسجد منفذ يؤدي إلى سرداب يعرف بسفينة نوح أو التنور . دار الإمارة : موضع الفضاء المتصل بمسجد الكوفة من جهة القبلة .
--------------------------- 65 ---------------------------
مسجد السهلة : يقع في الجهة الشمالية الغربية من مسجد الكوفة على بعد 2 كم عنها ، وفيه مقام الإمام المهدي المنتظر .
بيت الإمام علي : يقع على أرض مرتفعة ، ملاصق لسور دار الإمارة الغربي .
مسجد زيد بن صوحان : يقع في الجهة الجنوبية من مسجد السهلة .
مرقد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة : في الجهة الشرقية من جامع الكوفة .
ضريح المختار بن أبي عبيدة الثقفي : في الزاوية الشرقية بجنب الحائط القبلي . مسجد الحمراء : وهو مسجد النبي يونس وليس بقبره ، سمي بذلك لأنه كان يسكن حوله جماعة من غير العرب ، تميل وجوهم إلى اللون الأحمر - غير الأسمر -
فأطلق عليهم الحمر .
مرقد ميثم التمار : يقع في الجهة الجنوبية الغربية من دار الإمارة وعلى بعد 1 كم عن مسجد الكوفة .
موضع حرق عبد الرحمن بن ملجم : وهو التل الذي أحرقت فيه جثته ويقع حالياً بجوار قبر ميثم التمار .
قبر خديجة بنت الإمام علي : وهو مكان لحانوت ميثم التمار .
قبرالسيد إبراهيم الغمر : يقع في الطريق العام بين الكوفة - النجف .
قبر السادة أولاد الحسن : على يسار الطريق للذاهب إلى مسجد السهلة .
كري سعدة أو خندق سابور : وهو الحد الفاصل بين الكوفة والنجف وينسب إلى سابور ذي الأكتاف الذي حفره ) .
5 . في دلائل النبوة للبيهقي ( 6 / 434 ) : ( عن مسروق قال : قالت عائشة : عندك علم من ذي الثدية الذي أصابه في الحرورية ؟ قلت : لا . قالت : فاكتب لي بشهادة من شهدهم ، فرجعت إلى الكوفة وبها يومئذ أسباع ، فكتبت شهادة عشرة من كل سُبع ، ثم أتيتها بشهادتهم فقرأتها عليها ، قالت : أكل هؤلاء عاينوه ؟ قلت : لقد سألتهم فأخبروني أن كلهم قد عاينه . قالت : لعن الله فلاناً ( ابن العاص ) فإنه كتب إلي أنه أصابهم بنيل مصر . ثم أرْخَت عينيها فبكت ، فلما سكتت عبرتها قالت :
--------------------------- 66 ---------------------------
رحم الله علياً ، لقد كان على الحق ، وما كان بيني وبينه إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ) .
وفي شرح الأخبار ( 1 / 141 ) : ( قال مسروق قلت : يا أماه فإني أسألك بحق الله وبحق رسوله وبحقي فإني ابنك ، لما أخبرتني بما سمعت من رسول الله فيهم . قالت : سمعته يقول فيهم : هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خيرالخلق والخليقة وأقربهم إلى الله وسيلة ! وفتح الباري ( 12 / 253 ) ومجمع الزوائد ( 6 / 239 ) .
وكان نظام الأسباع والعرفاء هو السائد
قال البراقي في تاريخ الكوفة / 161 : ( فأقطع عمر أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكانت عبس إلى جانب المسجد ، ثم تحول قوم منهم إلى أقصى الكوفة ، واختط سلمان بن ربيعة الباهلي والمسيب بن نجبة الفزاري وناس من قيس حيال دار مسعود ، واختط عبد الله بن مسعود وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن حريث الدور حول المسجد ، وأقطع عمر بن جبير بن مطعم ، فبنى داراً ثم باعها من موسى بن طلحة ، وأقطع سعد بن قيس عند دار سلمان بن ربيعة بينهما طريقاً ، واستقطع سعد ابن أبي وقاص لنفسه الدار التي تعرف بدار عمر بن سعد ، وأقطع خالد بن عرفطة وخباب بن الأرثّ وعمرو بن الحرث بن أبي ضرار وعمارة بن رويبة التميمي ، وأقطع أبامسعود عقبة بن عمر الأنصاري ، وأقطع بني شمج بن فزارة مما يلي جهينة ، وأقطع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص شهارسوج خنيس ، وأقطع شريح بن الحارث الطائي ، وأقطع عمر بن أسامة بن زيد داراً ما بين المسجد إلى دار عمرو بن الحارث ابن أبي ضرار ، وأقطع أبا موسى الأشعري نصف الآري ، وكان فضاء عند المسجد ، وأقطع حذيفة بن اليمان مع جماعة من عبس نصف الآري ، وهو فضاء كانت فيه خيل المسلمين ، وأقطع عمرو بن ميمون الآوي الرحبة التي تعرف بعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ،
وأقطع أباجبيرة الأنصاري وكان على ديوان الجند ، وأقطع علي بن حاتم وسائر طي ناحية جبانة بشر ، وأقطع الزبير بن العوام ، وأقطع جرير بن عبد الله البجلي وسائر بجيلة قطعة واسعة كبيرة ، وأقطع الأشعث بن قيس الكندي وكندة من ناحية جهينة إلى بني أود ، وجاء قوم من الأزد فوجدوا فرجة فيما بين بجيلة وكندة فنزلوا ، وتفرقت
--------------------------- 67 ---------------------------
همدان بالكوفة ، وجاءت تميم وبكر وأسد فنزلوا الأطراف . وأقطع أبا عبد الله الجدلي في بجيلة فقال جرير بن عبد الله : لم نزل هذا فينا وليس منا ؟ فقال له عمر : انتقل إلى ما هو خير لك . فانتقل للبصرة وانتقلت عامة أحمس عن جرير بن عبد الله إلى الجبانة ، وقد تغيرت الخطط وصارت تعرف بقوم اشتروا بعد ذلك وبنوا .
وكان لكل قبيلة جَبَّانة تعرف بهم ، وبرؤسائهم منها : جبانة عرزم ، وجبانة كندة ، وجبانة الصائدين ، وصحراء أثير ، وصحراء بني يشكر ، وصحراء بني عامر . وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد : أن يجعل سكك الكوفة خمسين ذراعاً بالسواء ، وجعلت السوق من القصر والمسجد إلى دار الوليد إلى القلائين إلى دور ثقيف وأشجع ، وعليها ظلال بواري إلى أيام خالد بن عبد الله القسري ، فإنه بنى الأسواق وجعل لأهل كل باعة داراً وطاقاً وجعل غلالها للجند ، وكان ينزلها عشرة آلاف مقاتل .
السُّبعة التي كانت عليها الكوفة
الأول : كنانة وحلفاؤها وجديلة ، وقد كانت هذه القبائل سناد العامل في الكوفة من زمن سعد إلى العهد الأموي ، وهم المعروفون بأهل العالية ، كان لهم العدد الأوفر ولكنه أخذ يتضاءل تدريجاً .
والقسم الثاني : قضاعة وبجيلة وغسان وخثعم وكندة وحضرموت والأزد .
الثالث : مذحج وحمير وهمدان ، ولعب هذا القسم دوره في حوادث الكوفة
وكانت له المواقف البارزة . الرابع : تميم ورباب . الخامس : بنوأسد ومحارب ونمر من بني بكر وتغلب ، وأكثرية هؤلاء من ربيعة .
والسادس : إياد وبنو عبد قيس وأهل هجر والحمر ، والأولان من هذا القسم بقية قبائل كانت تقيم هناك من السابق ، أمّا بنو عبد القيس فقد هبطوا من البحرين تحت زعامة زهرة بن حوية ، وقد كان الحمر حلفاء زهرة وينزلون معه ، وهؤلاء الحمر عدتهم أربعة آلاف جندي فارسي يسمون جند شاهنشاه ، كما ذكر البلاذري : استأموا يوم القادسية على أن ينزلوا حيث أحبوا ويخالفوا من أحبوا ،
--------------------------- 68 ---------------------------
ويفرض لهم في العطاء فأعطوا الذي سألوه ، وكان لهم نقيب يقال له : ديلم ، فقيل لهم : حمراء ديلم . ولما جاء عهد زياد فرقهم في الشام والبصرة والكوفة . وكان لهذا القسم السادس دور ثقافي في الكوفة والبصرة . السابع : مُلملمة ، أظهرهم طي ) .
محلات الكوفة وشوارعها أو سككها
أجرى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تعديلاً على نظام الأسباع لرغبة القبائل وتناسبها ، فكانت أولاً : همدان وحمير والحمر . وثانياً : مذحج وأشعر وطي ، وثالثاً : قيس وعبس وذبيان وعبد القيس . ورابعاً : كندة وحضرموت وقضاعة ومهرة . وخامساً : الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار . وسادساً : بكر وتغلب وبقية ربيعة . وسابعاً : قريش وكنانة وأسد وتميم وضبة ورباب .
وشُقت فيها شوارع بعرض خمسين ذراعاً وتسمى السكك ، وكانت تضاء في الليل بالمشاعل ، ومنها سكة البريد وهي أهمها وتقع بين الجسر والقصر والكناسة ، وسكة العلاء ، وسكة بني محرز ، وسكة شبث ، وسكة عميرة ، وسكة دار الروميين ، قريبة من قصرالإمارة .
والكناسة تقع بين مسجد الكوفة ومسجدالسهلة ، وهي كالمربد في البصرة .
وكانت أرباع الكوفة تنقسم إلى خمسة عشر منهاجاً :
فالأول : شمال الجامع محلات : سليم وثقيف وهمذان وبجيلة وتيم اللات وتغلب .
والمنهاج الثاني : في جهة القبلة جنوباً وفيه محلات بني أسد والنخع وكندة والأزد . والثالث : شرقي الجامع ، محلات الأنصار ومزينة وتميم ومحارب وأسد وعامر . والمنهاج الرابع : غربي الجامع ، محلات بجيلة غطفان وبجيلة قيس وجديلة وجهينة وغيرها . وألزم المنصورالكوفيين بحفر خندق يحيط بها يأخذ من الفرات وله قناطر ، وكانت تجري فيه القوارب لأعمال التجارة .
--------------------------- 69 ---------------------------
ومن مواقع الكوفة :
الجبانات والصحاري ، فكان يترك وسط كل خطة ومحلة رحبة من الأرض فسيحة يسمونها صفا ، ومناخة ، وبعضها يسمى الجبانة ، لأنه يدفن فيها الموتى ، ومنها جبانة السبيع ، وجبانة عرزم . وجبانة بشر لطي . وجبانة مخنف للأزد . وجبانة سالم لعامر بن قيس . وجبانة مراد لمذحج . وجبانة كندة وربيعة ، وجبانة الصعيدين لبني أسد . ( البراقي / 164 ) .
- *
--------------------------- 70 ---------------------------
الفصل السبعون: عدل علي ( عليه السلام ) كشف ظلم الآخرين !
كان ( عليه السلام ) يقسم بيت المال بالسوية
روى أبو نعيم في الحلية ( 1 / 82 ) : ( جاءه ابن النباج فقال : يا أمير المؤمنين امتلأ بيت مال المسلمين من صفراء وبيضاء ، فقال : الله أكبر ، فقام متوكئاً على ابن النباج حتى قام على بيت مال المسلمين فقال :
هذا جناي وخياره فيه وكل جان يده إلى فيه
يا ابن النباج : علي بأشباع الكوفة ، قال : فنودي في الناس ، فأعطى جميع ما في بيت مال المسلمين وهو يقول : يا صفراء ويا بيضاء غري غيري ، ها وها . حتى ما بقي منه دينار ولا درهم ، ثم أمره بنضحه وصلي فيه ركعتين . .
كان يكنس بيت المال ويصلي فيه ، يتخذه مسجداً رجاء أن يشهد له يوم القيامة . خطب الناس فقال : والله الذي لا إله إلا هو ، ما رزئت من فيئكم إلا هذه ، وأخرج قارورة من كم قميصه فقال : أهداها إلي مولاي دهقان .
وفي فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل / 535 : ( عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، أن علياً قسم ما في بيت المال على سبعة أسباع ، ثم وجد رغيفاً فكسره سبع كسر ، ثم دعا أمراء الأجناد فأقرع بينهم ) .
أقول : كانت بيوت الأموال متعددة ، وكانت قسمة كل بيت مال في منطقته . وكان عدد سكان الكوفة في عهده ( عليه السلام ) بتقديرنا مليوناً وكسراً .
--------------------------- 71 ---------------------------
كان الفقر والعوز شديداً في الكوفة في عهد عثمان
فقد روى المؤرخون والمحدثون صوراً عن فقر المسلمين في عهد عثمان ، لأن ثروة الفتوحات الضخمة كانت دُولة بين بني أمية ، بينما عامة المسلمين يعيشون الفقر والجوع والعوز . مثلاً ، رووا أن المسلمين في زمن أويس القرني كانوا يعانون الجوع والعري فلا يجد أحدهم طعاماً ولباساً !
قال سفيان الثوري كما روى الحاكم وصححه ( 3 / 406 ) : ( كان لأويس القرني رداء إذا جلس مس الأرض ، وكان يقول : اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة وجسد عار ، وليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني ) .
وروى البيهقي في شعب الإيمان ( 1 / 524 ) وأبو نعيم حلية الأولياء ( 2 / 87 ) : ( كان أويس القرني إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب ، ثم يقول : اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به ، ومن مات عرياناً فلا تؤاخذني به ) .
وروى الذهبي في سيره ( 4 / 29 ) : ( إن كان أويس القرني ليتصدق بثيابه ، حتى يجلس عرياناً ، لا يجد ما يروح فيه إلى الجمعة ) !
وفي لسان الميزان ( 1 / 80 ) : ( كان أويس يجالس رجلاً من فقهاء الكوفة يقال له يسير ففقدته ، فإذا هو في خص له قد انقطع من العري ) .
وروى الحاكم ( 3 / 405 ) : ( جاء رجل من مراد إلى أويس القرني فقال : السلام عليكم ، قال وعليكم . قال : كيف أنتم يا أويس ؟ قال : الحمد لله . قال : كيف الزمان عليكم ؟ قال : لا تسأل ! الرجل إذا أمسى لم يرأنه يصبح ، وإذا أصبح لم ير أنه يمسي ! يا أخا مراد ، إن الموت لم يبق لمؤمن فرحاً . يا أخا مراد إن عرفان المؤمن بحقوق الله لم تبق له فضة ولا ذهباً . يا أخا مراد ، إن قيام المؤمن بأمر الله لم يبق له صديقاً ! والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذوننا أعداء ، ويجدون على ذلك من الفاسقين أعواناً ، حتى والله لقد يقذفوننا بالعظائم ، ووالله لا يمنعني ذلك أن أقول بالحق ) !
وقال ابن حبان في المجروحين ( 3 / 151 ) : ( كان ابن عم له يلزم السلطان تولع به ،
--------------------------- 72 ---------------------------
فإن رآه مع قوم أغنياء قال ما هو إلا يشاكلهم ! وإن رآه مع قوم فقراء ، قال ما هو إلا يخدعهم ! وأويس لا يقول في ابن عمه إلا خيراً ) !
ومن الواضح أن ابن عم أويس الذي يلزم السلطان كان من مخابرات والي الكوفة الأموي ، وكان مولعاً بأذية أويس ! وكان ضرر هؤلاء الجواسيس على المسلمين كضرر الفقر والجوع ! وتستطيع أن تقدر بؤس عامة الناس ما دام شخصياتهم وأعيانهم مثل أويس يعيشون في حالة بؤس وفقر واضطهاد !
في السنة الأولى من حكمه محى الفقر من الكوفة
أمضى الإمام ( عليه السلام ) في الكوفة قبل التوجه إلى صفين بضعة أشهر ، فقد وصل إليها في الثاني عشر من رجب سنة ست وثلاثين ( الدر النظيم ( 1 / 358 ) وخرج منها في الرابع من شوال من تلك ( وقعة صفين / 131 ) . ووصل إلى صفين في الثامن والعشرين من ذي القعدة .
( مروج الذهب : 2 / 377 ) .
وفي هذه المدة القصيرة من حكمه ( عليه السلام ) ، أعاد العدل والتسوية في العطاء ، وأنفق بيت المال ولم يكدسه ، ولم يعطه للمقربين ، فمحى الفقر من الكوفة .
لقد عمم الإمام رخاء الفتوحات على الناس ، بعد أن كان محصوراً ببني أمية ! وروى الحاكم وصححه ( 2 / 445 ) وأحمد في فضائل الصحابة ( 1 / 531 ) وابن شيبة ( 8 / 157 ) والبيهقي في الشعب ( 7 / 226 ) إعلانه ( عليه السلام ) انتهاء الفقر في الكوفة ، قال :
( ما أصبح بالكوفة أحد إلاناعماً ، وإن أدناهم منزلة يشرب من ماء الفرات ويجلس في الظل ، ويأكل من البُرّ ) ! وهكذا تغير الحال في فترة قصيرة !
وقال ابن أبي الحديد ( 2 / 200 ) : ( وروى بكر بن عيسى كان علي ( عليه السلام ) يقول : يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان ، فأنا خائن ، فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع ، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم ، ويأكل هو الثريد بالزيت . وكان إذا أتيَ بغلة ماله من ينبع ، اشترى الزيت والعجوة واللحم ، فيتخذ لنفسه ثريداً يأتدمه ويطعم الناس اللحم ) .
وقال شمس الدين في دراسات في نهج البلاغة / 233 : ( إن الامام ليكره الفقر ويستعيذ
--------------------------- 73 ---------------------------
بالله منه ، ويأمر الناس بالاستعاذة بالله منه ، وينعته بأقبح النعوت . قال ( عليه السلام ) : الغنى في الغربة وطن ، والفقر في الوطن غربة . الفقر يخرس الفطن عن حجته . الفقر الموت الأكبر . ألا وإن من البلاء الفاقة ، وأشد من الفاقة مرض البدن ، وأشد من مرض البدن مرض القلب .
ألا وإن من النعم سعة المال ، وأفضل من سعة المال صحة البدن ، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب .
وقال لابنه محمد بن الحنفية : يا بني إني أخاف عليك الفقر ، فاستعذ بالله منه فإن الفقر منقصة للدين ، مدهشة للعقل ، داعية للمقت .
وإن إنساناً ينعت الفقر بهذه النعوت لا يمكن أن يقال عنه إنه يحبذ الفقر ويكره الغنى ، ولقد كان ( عليه السلام ) يستعيذ بالله من الفقر ، ويسأله أن يغنيه ، فمن دعاء له ( عليه السلام ) : اللهم صن وجهي باليسار ، ولا تبذل جاهي بالإقتار ، فأسترزق طالبي رزقك ، واستعطف شرار خلقك ، وأبتلى بحمد من أعطاني ، وافتتن بذم من منعني ، وأنت من وراء ذلك كله ولي الاعطاء والمنع . إنك على كل شئ قدير .
ومن دعاء له ( عليه السلام ) : اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك ، أو أضل في هداك ،
أو أضام في سلطانك ، أو اضطهدَ والأمر لك .
وهكذا ترى أنه ( عليه السلام ) يحارب الفقر حرباً لا هوادة فيها ، ويحذر منه ويستعيذ بالله أن يبتليه به . إن الدنيا عنده جديرة بالإقبال عليها ، والعمل فيها ، والأخذ بحظ من متعها ولذاتها ، وإن الفقر عنده أمر مذموم خطر ، على الإنسان أن يتخلص منه ، ويستعيذ بالله من بلوائه ) .
قيمة الخلافة عند علي ( عليه السلام )
في تذكرة الخواص ( 1 / 110 ) : ( قال أحمد في الفضائل : كان يأتزر بعباءة ويشد وسطه بعقال ، ويهنأ بعيره وهو يومئذ خليفة . وذكرأحمد أيضاً في الفضائل بإسناده إلى ابن عباس قال : دخلت عليه يوماً وهو يخصف نعله فقلت له : ما قيمة هذا النعل حتى تخصفها ؟ فقال : هي والله أحب إلي من دنياكم أو إمرتكم
--------------------------- 74 ---------------------------
هذه إلا أن أقيم حقاً أو ادفع باطلاً . ثم قال : كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يخصف نعله ويرقع ثوبه ويركب الحمار ويردف خلفه . قال ابن عباس : أقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالكوفة مدة خمس سنين لم يأكل من طعامهم ، وما كان يأكل إلا من شئ يأتيه من المدينة ) . يهنأ بعيره : أي يدهنه بالقطران .
قصة أخيه عقيل بن أبي طالب ( رضي الله عنه )
1 . استطاع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يغني الناس ويمحو الفقر من الكوفة ، لأنه حفظ بيت المال ، ومنع سياسة التبذير والسرقات التي كانت سائدة ، ولم يسلط أقاربه وعشيرته على أموال المسلمين كما فعل الذين قبله . وعندما جاءه يوماً أخوه عقيل بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) يطلب منه أكثر من حقه ، قال ( عليه السلام ) : ( والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً ، وأجرًّ في الأغلال مصفداً ، أحبُّ إلي من أن ألقى الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، أو غاصباً لشئ من الحطام ! وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ، ويطول في الثرى حلولها ! والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق ، حتى استماحني من بركم صاعاً ، ورأيت صبيانه شعث الشعورغُبرالألوان من فقرهم ، كأنما سُوِّدت وجوههم بالعِظْلم ، وعاودني مؤكداً وكرر علي القول مردداً ، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقتي ! فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها وكاد أن يحترق من ميسمها ! فقلت له : ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه ! أتئن من الأذى ولا أئن من لظى ) . ( نهج البلاغة : 2 / 216 ) .
2 . روى الثقفي في الغارات ( 1 / 64 ) : ( عن جعفر بن علي بن الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : قدم عقيل على علي ( عليه السلام ) وهو جالس في صحن مسجد الكوفة فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله ، قال : وعليك السلام يا أبايزيد ، ثم التفت إلى الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : قم وأنزل عمك ، فذهب به فأنزله وعاد إليه فقال له : إشتر له قميصاً جديداً ورداء جديداً وإزاراً جديداً ونعلاً جديداً . فغدا على علي ( عليه السلام ) في الثياب ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين قال : وعليك السلام يا أبايزيد ، قال : يا أمير المؤمنين ما أراك أصبت من
--------------------------- 75 ---------------------------
الدنيا شيئاً إلا هذه الحصباء ! قال : يا أبايزيد يخرج عطائي فأعطيكاه ، فارتحل عن علي ( عليه السلام ) إلى معاوية فلما سمع به معاوية نصب كراسيه وأجلس جلساءه فورد عليه ، فأمر له بمائة ألف درهم فقبضها ، فقال له معاوية : أخبرني عن العسكرين ، قال : مررت بعسكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فإذا ليل كليل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونهار كنهار النبي إلا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليس في القوم ، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نَفَّرَ برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة العقبة ! ثم قال : من هذا الذي عن يمينك يا معاوية ؟ قال : هذا عمرو بن العاص ، قال : هذا الذي اختصم فيه ستة نفر فغلب عليه جزارها !
فمن الآخر ؟ قال : الضحاك بن قيس الفهري ، قال : أما والله لقد كان أبوه جيد الأخذ لعسب التيس ! فمن هذا الآخر ؟ قال : أبو موسى الأشعري ، قال : هذا ابن المراقة [ السراقة ] ! فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه ، قال : يا أبايزيد ما تقول فيَّ ؟ قال : دع عنك ، قال : لتقولن ، قال : أتعرف حمامة ؟ قال : ومن حمامة ؟ قال : أخبرتك ! ومضى عقيل ، فأرسل معاوية إلى النسابة ، قال : فدعاه فقال : أخبرني من حمامة ، قال : أعطني الأمان على نفسي وأهلي ، فأعطاه ، قال : حمامة جدتك وكانت بغيَّةً في الجاهلية ، لها راية تؤتى . قال الشيخ : قال أبو بكر بن زبين : هي أم أم أبي سفيان ) !
ورواه الطوسي في أماليه / 723 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، وفيه أن علياً ( عليه السلام ) قال لعقيل : ( أكتب لك إلى ينبع . قال : ليس غيرهذا ؟ قال : لا . فبينما هو كذلك إذ أقبل الحسين ( عليه السلام ) فقال : إشتر لعمك ثوبين فاشترى له قال : يا ابن أخي ما هذا ؟ قال : هذه كسوة أمير المؤمنين . . قال عقيل : يا أمير المؤمنين ، إئذن لي إلى معاوية . قال : في حل محلل ، فانطلق نحوه ، وبلغ ذلك معاوية فقال : إركبوا أفره دوابكم ، والبسوا من أحسن ثيابكم ، فإن عقيلاً قد أقبل نحوكم ، وأبرز معاوية سريره ، فلما انتهى إليه عقيل قال معاوية : مرحباً بك يا أبايزيد ما نزع بك ؟ قال : طلب الدنيا من مظانها . قال : وفقت وأصبت ، قد أمرنا لك بمائة ألف فأعطاه المائة ألف . ثم قال :
--------------------------- 76 ---------------------------
أخبرني عن العسكرين اللذين مررت بهما عسكري وعسكر علي . قال : في الجماعة أخبرك أو في الوحدة ؟ قال : لا بل في الجماعة . قال : مررت على عسكر علي فإذا ليل كليل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونهار كنهار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا أن رسول الله ليس فيهم ومررت على عسكرك فإذا أول من استقبلني أبوالأعور وطائفة من المنافقين والمنفرين برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
( ليلة العقبة ) إلا أن أبا سفيان ليس فيهم ! فكف عنه حتى إذا ذهب الناس قال له : يا أبايزيد ، أيش صنعت بي ؟ قال : ألم أقل لك : في الجماعة أو في الوحدة فأبيت عليَّ ؟
قال : أما الآن فاشفني من عدوي ( يقصد عمرو العاص ) قال : ذلك عند الرحيل . فلما كان من الغد شد غرائره ورواحله ، وأقبل نحو معاوية وقد جمع معاوية حوله ، فلما انتهى إليه قال : يا معاوية من ذا عن يمينك ؟ قال : عمرو بن العاص ، قال : هذا الذي اختصم فيه ستة نفرفغلب عليه جزارها ! فمن الآخر ؟ قال : الضحاك بن قيس الفهري ، فتضاحك ثم قال : لقد علمت قريش أنه لم يكن أخصى لتيوسها من أبيه ! ثم قال : من هذا ؟ قال : هذا أبو موسى ، فتضاحك ثم قال : لقد علمت قريش بالمدينة أنه لم يكن بها امرأة أطيب ريحاً من قب أمه ! قال : أخبرني عن نفسي يا أبايزيد . قال : تعرف حمامة ، ثم سار ، فألقي في خلد معاوية ، قال : أم من أمهاتي لست أعرفها ! فدعا بنسابين من أهل الشام فقال : أخبراني عن أم من أمهاتي يقال لها حمامة لست أعرفها . فقالا : نسألك بالله لاتسألنا عنها اليوم . قال : أخبراني أو لأضربن أعناقكما ، لكما الأمان . قالا : فإن حمامة جدة أبي سفيان السابعة وكانت بغياً ، وكان لها بيت توفي فيه . قال جعفر بن محمد ( عليه السلام ) : وكان عقيل من أنسب الناس ) .
أقول : في تاريخ دمشق ( 41 / 23 ) : ( قال ابن المرَّاقة ، كانت أمه طيبة المرق ، فقال له معاوية : أبايزيد على رسلك ، فقد علمنا مقصدك ) ! وهو يعني أنها كانت زانية ! وفي المنتظم ( 5 / 252 ) : ( أمه ظبية بنت وهب بن عك ، أسلمت وماتت بالمدينة . وكان خفيف الجسم ، قصيراً ، أثط . ( كوسج لا لحية له ) .
وقال في شرح النهج : ( وقال أبو بكر بن عبد الله بن جهم : ليس أبو موسى من مهاجرة الحبشة ، وليس له حلف في قريش ، وكان قد أسلم بمكة قديماً ثم رجع إلى بلاد قومه ،
--------------------------- 77 ---------------------------
فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله ، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين جعفر وأصحابه من أرض الحبشة ، ووافق رسول الله بخيبر . . . عن أبي هريرة قال : دخل رسول الله المسجد ، فسمع قراءة رجل فقال : من هذا ؟ قيل عبد الله بن قيس ، فقال : لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود » .
أقول : شهادة أبي هريرة فيه غير مقبولة ، لأنه شريكه في بغض علي ( عليه السلام ) .
3 . ولعقيل قصص وأخبار طريفة مع معاوية وغيره . وقد روى عبد الرزاق في مصنفه ( 6 / 513 ) : ( أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت : تضمن لي وأنفق عليك ، فكان إذا دخل عليها قالت : أين عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ؟ فيسكت عنها ، حتى إذا دخل عليها يوماً وهو برم ، قالت : أين عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ؟ قال : عن يسارك في النار إذا دخلت ، فشدت عليها ثيابها ، فجاءت عثمان ، فذكرت ذلك له فضحك ) . وفي رواية البلاذري ( 2 / 78 ) أنها شكته إلى عثمان ، فأراد عبد الله بن عباس أن يفرق بينهما فقالت : ( والله ما أريد بأبي يزيد بدلاً . فانصرفا ) .
أقول : بنت عتبة هذه أخت هند وكانت كثيرة المال ، وقد اشترطت على عقيل أن يضمن لها وتنفق عليه ، وشرطها أن يضمن لها أن لا يطلقها !
وقال البلاذري ( 2 / 75 ) : ( دخل عقيل على معاوية وقد كف بصره فلم يسمع كلاماً ، فقال : يا معاوية : أما في مجلسك أحد ؟ قال : بلى . قال : فما لهم لا يتكلمون ؟ فتكلم الضحاك بن قيس فقال عقيل : من هذا ؟ فقال له معاوية : هذا الضحاك بن قيس . قال عقيل : كان أبوه خاصي القردة ، ما كان بمكة أخصى لكلب وقرد من أبيه ) !
وقال البلاذري ( 2 / 72 ) : ( قال معاوية لعقيل بن أبي طالب : ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم ! قال : لكنه في نسائكم يا بني أمية أبين ) !
وقال في شرح النهج ( 11 / 252 ) : ( قال معاوية لعقيل : يا أبايزيد أين يكون عمك أبو لهب اليوم ؟ قال : إذا دخلت جهنم فاطلبه تجده مضاجعاً لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية !
--------------------------- 78 ---------------------------
وسأل معاوية عقيلاً عن قصة الحديدة المحماة المذكورة ، فبكى وقال : نعم أقويت وأصابتني مخمصة شديدة ، فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضرظاهران عليهم فقال : إئتني عشية لأدفع إليك شيئاً ، فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي ، ثم قال : ألا فدونك فأوهيت حريصاً قد غلبني الجشع ، أظنها صرة فوضعت يدي على حديدة تلتهب ناراً ، فلما قبضتها نبذتها وخرت كما يخورالثورتحت يد جازره ، فقال لي ثكلتك أمك ، هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا ، فكيف بك وبي غداً إن سلكنا في سلاسل جهنم ! ثم قرأ : إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ . ثم قال ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى ، فانصرف إلى أهلك . فجعل معاوية يتعجب ويقول : هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله ) .
أقول : زاد بعضهم في هذه الرواية أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) أخذ من بيت المال شيئاً من العسل لضيفه ، فوبخه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ويبدو أنها موضوعة للطعن في الحسين ( عليه السلام ) ، وهي رواية عامية لا تتفق مع مستواه وعصمته ( عليه السلام ) .
4 . وفي مناقب آل أبي طالب ( 1 / 376 ) : ( وقدم عليه عقيل فقال للحسن : أُكْسُ عمك ، فكساه قميصاً من قميصه ورداء من أرديته ، فلما حضر العشاء فإذا هو خبز وملح ، فقال عقيل : ليس غيرما أرى . فقال : أوليس هذا من نعمة الله ، فله الحمد كثيراً ، فقال : أعطني ما أقضي به ديني وعجل سراحي حتى أرحل عنك ، قال : فكم دينك يا أبايزيد ؟ قال مائة ألف درهم ، قال والله ما هي عندي ولا أملكها ، ولكن إصبر حتى يخرج عطاي فأواسيكه ، ولولا أنه لابد للعيال من شئ لأعطيتك كله .
فقال عقيل : بيت المال في يدك وأنت تسوفني إلى عطائك وكم عطاؤك وما عسى يكون ولو أعطيتنيه كله ! فقال : ما أنا وأنت فيه إلا بمنزلة رجل من المسلمين ، وكانا يتكلمان فوق قصرالامارة مشرفين على صناديق أهل السوق ، فقال له علي ( عليه السلام ) : إن أبيت يا أبايزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه ، فقال وما في هذه الصناديق ؟ قال فيها أموال التجار ، قال : أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم ! فقال أمير المؤمنين : أتأمرني أن أفتح بيت المال
--------------------------- 79 ---------------------------
المسلمين فأعطيك أموالهم وقد توكلوا على الله وأقفلوا عليها ! وإن شئت أخذت سيفك وأخذتُ سيفي وخرجنا جميعاً إلى الحيرة ، فإن بها تجاراً مياسير فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله ، فقال : أو سارقٌ جئتُ ! قال : تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً !
قال له : أفتأذن لي أن أخرج إلى معاوية ؟ فقال له : قد أذنت لك ، قال : فأعني على سفري هذا ، قال يا حسن أعط عمك أربع مائة درهم فخرج عقيل وهو يقول :
سيغنيني الذي أغناك عني * ويقضي ديننا رب قريب
وذكر عمرو بن العاص أن عقيلاً لما سأل عطاه من بيت المال قال له : تقيم إلى يوم الجمعة ، فأقام فلما صلى الجمعة قال لعقيل : ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين ؟ قال بئس الرجل ذاك ، قا : ل فأنت تأمرني أن أخون هؤلاء وأعطيك ) !
5 . ورواه الصدوق في أماليه / 718 ، وفيه : ( والله لقد رأيت عقيلاً أخي وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً ، وعاودني في عشروسق من شعيركم يطعمه جياعه ، ويكاد يلوي ثالث أيامه خامصاً ما استطاعه ، ورأيت أطفاله شعث الألوان من ضرهم كأنما اشمأزت وجوههم من قرهم ، فلما عاودني في قوله وكرره ، أصغيت إليه سمعي فغرَّه ، وظنني أوتغ ديني فأتبع ما سرَّه ، أحميت له حديدة لينزجر ، إذ لا يستطيع منها دنواً ولا يصبر ، ثم أدنيتها من جسمه ، فضج من ألمه ضجيج ذي دنف يئن من سقمه ، وكاد يسبني سفهاً من كظمه ، ولحرقة في لظى أضنى له من عدمه . فقلت له : ثكلتك الثواكل يا عقيل ، أتئن من حديدة أحماها إنسانها لمدعبه ، وتجرني إلى نار سجرها جبارها من غضبه ! أتئن من الأذى ، ولا أئن من لظى ! والله لو سقطت المكافاة عن الأمم ، وتركت في مضاجعها باليات في الرمم ، لاستحييت من مقت رقيب يكشف فاضحات من الأوزار تنسخ .
فصبراً على دنياً تمر بلأوائها ، كليلة بأحلامها تنسلخ ، كم بين نفس في خيامها ناعمة ، وبين أثيم في جحيم يصطرخ ) .
--------------------------- 80 ---------------------------
6 . وقال ابن قتيبة في عيون الأخبار ( 2 / 214 ) : ( أخرج ابن عساكر ، أن عقيلاً سأل علياً فقال : إني محتاج وإني فقير فأعطني ، قال : إصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك معهم فألحّ عليه ، فقال لرجل : خذ بيده وانطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل له : دق هذه الأقفال وخذ ما في هذه الحوانيت ! قال : تريد أن تتخذني سارقاً ! قال : وأنت تريد أن تتخذني سارقاً ، أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم . قال : لآتين معاوية قال : أنت وذاك . فأتى معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف ثم قال : إصعد على المنبر فأذكر ما أولاك به علي وما أوليتك ، فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني أخبركم إني أردت علياً على دينه ، فاختار دينه . وإني أردت معاوية على دينه ، فاختارني على دينه . وقال يوماً : لولا علمه بأني خير له من أخيه ما أقام عندنا وتركه ، فقال له عقيل : أخي خير لي في ديني ، وأنت خير لي في دنياي ، وقد آثرت دنياي ، واسأل الله خاتمة خير ) .
7 . عقيل بن أبي طالب صحابي جليل ( رضي الله عنه ) ، كان رسول الله يحبه حبين ، وقد وثق ذلك علماء السنة ، قال له : ( يا أبايزيد إني أحبك حبين : حباً لقرابتك مني وحباً لما كنت أعلم من حب عمي إياك ) ( الطبراني الكبير : 17 / 191 )
ومعناه أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يحب أبا طالب ويحب من يحبه ، بينما يوجد مدعون للإسلام لا يحبون أبا طالب ، ولا يحبون من يحبه ! فاعجب لعقدة قريش من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسرته بني هاشم ، كيف اتخذوها ديناً !
8 . قال في شرح النهج ( 11 / 250 ) : ( هو عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن
عبد مناف ، أخو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأمه وأبيه ، وكان بنو أبي طالب أربعة : طالب وهو أسن من عقيل بعشر سنين وعقيل وهو أسن من جعفر بعشر سنين وجعفر وهو أسن من على بعشر سنين وعلى وهو أصغرهم سناً وأعظمهم قدراً ، بل وأعظم الناس بعد ابن عمه قدراً .
وكان أبو طالب يحب عقيلاً أكثر من حبه سائر بنيه . قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
يا أبايزيد إني أحبك حبين . . الخ .
أخرج عقيل إلى بدر مكرهاً كما أخرج العباس ، فأسر وفديَ وعاد إلى مكة ثم أقبل
--------------------------- 81 ---------------------------
مسلماً مهاجراً قبل الحديبية ، وشهد غزاة مؤتة مع أخيه جعفر ( عليه السلام ) وتوفى في خلافة معاوية في سنة خمسين ، وعمره ست وتسعون سنة .
وله دار بالمدينة معروفة ، وخرج إلى العراق ثم إلى الشام ثم عاد إلى المدينة ولم يشهد مع أخيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شيئاً من حروبه ، وعرض نفسه وولده عليه فأعفاه ، ولم يكلفه حضور الحرب ) .
أقول : نشك فيما ذكره المؤرخون من الفرق بين ولادة علي وجعفر وعقيل وأنها عشر سنوات . كما أن روايتهم بأن أبا طالب كان فقيراً وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخذ علياً ليخفف عائلته ، مكذوبة ، بل طلبه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أبي طالب ليكون له عضداً .
9 . قال البلاذري ( 2 / 76 ) : ( المدائني قال : كان عقيل يقول : لا يختر أحدكم ولداً ، فإني كنت أعز ولد أبي فصرت أخسهم ) !
أقول : صدق عقيل ( رضي الله عنه ) فإخوته أفضل منه ، وأصغرهم أمير المؤمنين أفضل الخلق بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وجعفر الطيار مقامه عظيم ، وكبيرهم طالب باعتقادي قتله المشركون في طريقهم إلى بدر ، لأنه دعا الله أن يغلب محمد ( ( عليهما السلام ) ) .
10 . قال في شرح النهج عن عقيل ( 11 / 250 ) : ( وكان أنسب قريش وأعلمهم بأيامها ، وكان مُبَغَّضاً إليهم لأنه كان يَعُدُّ مساوئهم ! وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيصلي عليها ، ويجتمع إليه الناس في علم النسب وأيام العرب ، وكان حينئذ قد ذهب بصره . وكان أسرع الناس جواباً وأشدهم عارضةً . كان يقال إن في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قريش ويرجع إلى قولهم : عقيل بن أبي طالب ، ومخرمة بن نوفل الزهري ، وأبوالجهم بن حذيفة العدوي ، وحويط بن عبد العزى ) .
أقول : قال أبو نصر البخاري في السلسلة العلوية / 88 : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لعقيل بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وهو أعلم قريش بالنسب : أطلب لي امرأة ولدتها شجعان العرب حتى تلد لي ولداً شجاعاً ، فوقع الاختيار على أم البنين الكلابية ، وولدت العباس بن علي وأخوته ) .
--------------------------- 82 ---------------------------
ولما أخذ عمر بنصحية علي ( عليه السلام ) بأن يقسم بيت المال ولا يدخره ، دعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا نُسَّاب قريش وقال : أكتبوا الناس على منازلهم فكتبوا فبدؤوا ببني هاشم ، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه ثم عمر وقومه ، على ترتيب الخلافة ، فلما نظر إليه قال : وددت أنه كان هكذا ، لكن أبدأ بقرابة النبي الأقرب فالأقرب ، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله .
قال أبو جعفر : جاءت بنو عدي إلى عمر ، فقالوا له أنت خليفة رسول الله ، قال : أو خليفة أبي بكر وأبو بكر خليفة رسول الله . فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم ! فقال : بخ بخ يا بني عدي ! أردتم الأكل على ظهري . والله ما أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد فهو شرفنا وقومه أشرف العرب ، ثم الأقرب منه فالأقرب فإنهم أولى بمحمد منا يوم القيامة ) ! ( شرح النهج : 12 / 94 ) .
وحالات عمر متناقضة ، وهذه من حالاته التي اعترف فيها بمكانة بني هاشم عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وبالأمس هدد علياً بالقتل إن لم يبايعه ، ومنع عجوزاً أنصارية من زيارة آل محمد ، لأنه لاحقوق اجتماعية لهم بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 8 / 156 ) : ( كانت امرأة من الأنصار تودنا أهل البيت وتكثر التعاهد لنا ، وإن عمر بن الخطاب لقيها ذات يوم وهي تريدنا فقال لها : أين تذهبين يا عجوز الأنصار ؟ فقالت : أذهب إلى آل محمد أسلم عليهم وأجدد بهم عهداً وأقضي حقهم ، فقال لها عمر : ويلك ليس لهم اليوم حق عليك ولا علينا ، إنما كان لهم حق على عهد رسول الله فأما اليوم فليس لهم حق فانصرفي ! فانصرفت حتى أتت أم سلمة فقالت لها أم سلمة : ماذا أبطأ بك عنا ؟ فقالت : إني لقيت عمر بن الخطاب وأخبرتها بما قالت لعمر وما قال لها عمر ، فقالت لها أم سلمة : كَذِبَ ، لا يزال حق آل محمد واجباً على المسلمين إلى يوم القيامة ) !
11 . وكان عمر يهابه ، قال ابن أبي شيبة ( 4 / 214 ) : ( أحرم عقيل بن أبي طالب في ثوبين ورديين فرآه عمرفقال : ما هذا ؟ فقال له : إن أحداً لايعلمنا بالسنة ) .
وفي الدعاء للطبراني / 291 : ( تزوج امرأة فقيل له : بالرفاء والبنين ، فقال : سمعت
--------------------------- 83 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إذا تزوج أحدكم فليقل له : بالخير والبركة , بارك الله عليك ، وبارك فيك ) .
12 . هاجر عقيل إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل الحديبية ، أي في السنة الخامسة بعد معركة الخندق ، وشارك في حروب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وسجل الرواة عنه تقواه ونزاهته ، فروى عبد الرزاق ( 1 / 137 ) أنه أخذ من الغنائم إبرة : ( فقال لامرأته خيطي بهذه ثيابك ، قال فبعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منادياً : ألا يغُلَّنَّ رجلٌ إبرة فما دونها ، فقال عقيل لامرأته : ما أرى إبرتك إلا قد فاتتك ) !
كما رووا إيمانه ففي مسند أبي يعلى ( 12 / 176 ) وأوسط الطبراني ( 8 / 253 ) : ( قال جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا إن بن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا فانهه عن أذانا . فقال : يا عقيل ائتني بمحمد ، فذهبت فأتيته به فقال : يا ابن أخي إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم ، فانته عن ذلك . قال : فحلق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بصره إلى السماء فقال : أترون هذه الشمس ؟ قالوا : نعم . قال : ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تستشعلوا لي منها شعلة ! قال فقال أبو طالب ما كذبنا بن أخي ، والله ما كذب قط ، إرجعوا راشدين ) .
أي قال الحق وأنا أصدقه ، ولا شكوى لكم . وهو يثبت إيمان أبي طالب ( عليه السلام ) .
وقال : ( كنا إذا أصبحنا وليس عندنا طعام ، قال لنا أبي : إئتوا زمزم ، فنأتيها فنشرب منها فنجتزئ ) . ( عمدة القاري : 9 / 277 ) .
13 . وقد ثبت عقيل مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حنين : « فرَّ الناس جميعاً وأعْرَوْا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلم يبق معه إلا سبعة نفر من بني عبد المطلب : العباس وابنه الفضل وعلي وأخوه عقيل وأبو سفيان وربيعة ونوفل بنو الحارث بن عبد المطلب ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصلت سيفه في المجتلد ) . ( أمالي الطوسي / 575 ) .
14 . ولما أخرج عثمان أبا ذر إلى الربذة ، نادي مناديه : ألا يكلمه أحد ولا يشيعه . فتحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعماراً ، فإنهم خرجوا معه يشيعونه ) . ( شرح النهج ( 8 / 252 ) .
--------------------------- 84 ---------------------------
15 . ولما طلب المسلمون عزل الوليد بن عقبة أخ عثمان من الرضاعة عن الكوفة ، لسوء سيرته ، واحتدم النقاش في دار الخلافة ، تصدى عقيل في دار الخلافة لابن أبي معيط فقال له : ( إنك لتتكلم يا ابن أبي مُعَيْط كأنك لا تدري من أنت ، وأنت علج من أهل صفورية ! وهي قرية بين عكاء واللجون ذكر أن أباه كان يهودياً منها ) ! ( مروج الذهب : 2 / 334 ) .
16 . وكان عقيل في حصار الشعب مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال علي ( عليه السلام ) : « فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا العذب ، وأحلسونا الخوف ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، مؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل . ومن أسلم من قريش خلوٌ مما نحن فيه ، بحلف يمنعه ، أو عشيرة تقوم دونه ، فهو من القتل بمكان آمن » . « نهج البلاغة : 3 / 8 » .
وقال في شرح النهج ( 14 / 65 ) : ( وكان العباس في حصار الشعب معهم إلا أنه كان على دين قومه ، وكذلك عقيل بن أبي طالب وطالب بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وابنه الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وكان شديداً على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبغضه ويهجوه بالأشعار ، إلا إنه كان لا يرضى بقتله ، ولا يقار قريشاً في دمه محافظة على النسب ) .
لكن بعض أكثر من ذكرهم أسلموا ولم يعلنوا إسلامهم .
17 . وأكره المشركون عقيلاً على الذهاب معهم إلى بدر . ففي الطبري ( 2 / 292 ) :
( قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأصحابه : إني قد عرفت رجالاً من بني هاشم قد خرجوا إلى بدر كرهاً ، فمن لقي منكم أحداً منهم فلا يقتله » .
وفي شرح النهج ( 14 / 199 ) : ( أُسِرَ من بني هاشم العباس بن عبد المطلب ، أسره أبو اليسر كعب بن عمرو ، وعقيل بن أبي طالب أسره عبيد بن أوس الظفري . ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب أسره جبار بن صخر ، وأسر حليف لبني هاشم من بني فهر ، اسمه عتبة . ومن بني المطلب بن عبد مناف السائب بن عبيد وعبيد بن عمرو بن علقمة ، رجلان أسرهما سلمة بن حريش الأشهلي ) .
--------------------------- 85 ---------------------------
وفي تفسير العياشي ( 2 / 69 ) : ( فأرسل علياً فقال : أنظر من ههنا من بني هاشم ، قال : فمر عليٌّ على عقيل بن أبي طالب فجاز عنه فقال له : يا ابن أم علي ، أما والله لقد رأيت مكاني . قال : فرجع إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : هذا أبو الفضل في يد فلان ، وهذا عقيل في يد فلان ، وهذا نوفل بن الحارث في يد فلان ، فقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى انتهى إلى عقيل فقال له : يا أبايزيد قتل أبو جهل . قال : إذاً لاتنازعون في تهامة . فقال : إن كنتم أثخنتم القوم وإلا فاركبوا أكتافهم . فقال : فجيئ بالعباس فقيل له : إفد نفسك وافد ابن أخيك . فقال : يا محمد تتركني أسأل قريشاً في كفي ! فقال : أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها : إن أصابني في وجهي هذا شئ فأنفقيه على ولدك ونفسك ، فقال له : يا ابن أخي من أخبرك بهذا ؟ فقال : أتاني به جبرئيل ( عليه السلام ) من عند الله عز وجل ، فقال ومحلوفه : ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي ! أشهد أنك رسول الله ، قال : فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل كرم الله وجوههم ، وفيهم نزلت هذه الآية :
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . ( الكافي : 8 / 202 ) .
وفي أسباب النزول للواحدي / 162 : ( نزلت في العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحرث ) .
18 . وكانت علاقة عقيل بعلي ( عليه السلام ) جيدة من صغرهما ، قال ابن حجر في الدراية ( 2 / 174 ) : ( وقد صح أن علياً وكل عقيلاً وبعد ما أسن وكل عبد الله بن جعفر . أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن جعفر قال : كان علي يكره الخصومة ، فكان إذا كانت له خصومة وكل فيها عقيل بن أبي طالب ، فلما كبر عقيل وكلني ) .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كالمازح : ( ما زلت مظلوماً منذ ولدتني أمي ، حتى أن عقيلاً كان يصيبه الرمد فيقول : لا تذرُّوني حتى تذرُّوا علياً ، فيذرُّوني وما بي رمد ) !
( إعتقادات الصدوق / 105 ) .
وتقدم أن علياً ( عليه السلام ) أعفاه من المشاركة في حروبه لأنه كان كبير السن أو أعمى .
--------------------------- 86 ---------------------------
19 . وكان مخلصاً مناصحاً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ففي شرح النهج ( 2 / 117 ) : ( كتب في أثر هذه الوقعة ( غارة الضحاك بن قيس الفهري على أطراف أعماله ) عقيل بن أبي طالب إلى أخيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين بلغه خذلان أهل الكوفة وتقاعدهم به : لعبد الله علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من عقيل بن أبي طالب . سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن الله حارسك من كل سوء ، وعاصمك من كل مكروه ، وعلى كل حال ، إني قد خرجت إلى مكة معتمراً ، فلقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح في نحو من أربعين شاباً من أبناء الطلقاء ، فعرفت المنكر في وجوههم فقلت : إلى أين يا أبناء الشانئين ! أبمعاوية تلحقون ! عداوة والله منكم قديماً غير مستنكرة ، تريدون بها إطفاء نور الله وتبديل أمره . فأسمعني القوم وأسمعتهم ، فلما قدمت مكة ، سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة ، فاحتمل من أموالها ما شاء ، ثم انكفأ راجعاً سالماً . فأفٍّ لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك ! وما الضحاك ، فقع بقرقر ! وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك ، فاكتب إلى يا ابن أمي برأيك فإن كنت الموت تريد ، تحملت إليك ببني أخيك ، وولد أبيك ، فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا مت ، فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواقاً . وأقسم بالأعز الاجل ، إن عيشاً نعيشه بعدك في الحياة لغير هنئ ولامرئ ولانجيع . والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
فكتب إليه ( عليه السلام ) : من عبد الله علي أمير المؤمنين : إلى عقيل بن أبي طالب . سلام الله عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : كلأَنا الله وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب ، إنه حميد مجيد . قد وصل إلي كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي ، تذكر فيه أنك لقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح مقبلاً من قديد في نحو من أربعين فارساً من أبناء الطلقاء ، متوجهين إلى جهة الغرب ، وإن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه ، وصد عن سبيله وبغاها عوجاً ، فدع ابن أبي سرح ، ودع عنك قريشاً وخلهم وتركاضهم في الضلال ، وتجوالهم في الشقاق . ألا وإن العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل اليوم ، فأصبحوا قد جهلوا
--------------------------- 87 ---------------------------
حقه ، وجحدوا فضله ، وبادروه العداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهدوا عليه كل الجهد ، وجروا إليه جيش الأحزاب !
اللهم فاجز قريشاً عني الجوازي ! فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن أمي ، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول ، وسابقتي في الإسلام ! إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ، والحمد لله على كل حال .
فأما ما ذكرته من غارة الضحاك على أهل الحيرة ، فهو أقل وأذل من أن يلم بها أو يدنو منها ، ولكنه قد كان أقبل في جريدة خيل ، على السماوة ، حتى مر بواقصة وشراف والقطقطانة ، مما والى ذلك الصقع ، فوجهت إليه جنداً كثيفاً من المسلمين ، فلما بلغه ذلك فر هارباً ، فأتبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب ، فتناوشوا القتال قليلاً كلا ولا ، فلم يصبر لوقع المشرفية وولى هارباً ، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلاً ، ونجا جريضاً ( مجهداً ) بعد ما أخذ منه بالمخنق ، فلأياً بلأيٍ ما نجا . ( أي بصعوبة ) .
فأما ما سألتني أن أكتب لك برأيي فيما أنا فيه ، فإن رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس معي عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة ، لأنني محق والله مع المحق ، ووالله ما أكره الموت على الحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقاً . وأما ما عرضت به من مسيرك إليَّ ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك ، فأقم راشداً محموداً ، فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت ، ولا تحسبن ابن أمك ولو أسلمه الناس متخشعاً ولا متضرعاً ، إنه لكما قال أخو بني سليم :
فإن تسأليني كيف أنت فإنني * صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن تري بي كآبة * فيشمت عاد أو يساء حبيب ) .
20 . لكن موقفه أيام السقيفة كان ضعيفاً فقد سأل رجل الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( أصلحك الله فأين كان عز بني هاشم وما كانوا فيه من العدد ؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ومن كان بقي من بني هاشم ، إنما كان جعفر وحمزة فمضيا وبقي
--------------------------- 88 ---------------------------
معه رجلان ضعيفان ذليلان حديثا عهد بالإسلام : عباس وعقيل وكانا من الطلقاء . أما والله لو أن حمزة وجعفراً كانا بحضرتهما ما وصلا إلى ما وصلا إليه ، ولوكانا شاهديهما لأتلفا نفسيهما ) . ( الكافي : 8 / 190 )
يقصد ( عليه السلام ) أن عقيلاً والعباس كانا ضعيفين ذليلين أي ليسا صاحبي همة عالية ، ولم يكونا راسخين في الإسلام . ومعنى قوله ( عليه السلام ) : ولو كانا شاهديهما لأتلفا نفسيهما ، أي لو كان حاضرين عند ظلامة علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لنصراهما حتى الموت .
21 . رُزق عقيل ثمانية عشرولداً ، واستشهد منهم خمسة أو ستة مع الحسين وانحصرعقبه بابنه محمد ، وبارك الله في نسله ، ويوجد قبيلة بني عقيل منه .
قال العمري في أنساب الطالبين / 313 : ( وأما جعفر بن عبد الله بن عقيل النسابة ، فمات بحران سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة ، فمن ولده أبو الحسن محمد بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن عقيل بن عبد الله النسابة بن عقيل بن محمد الأكبر بن عبد الله الأحول بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، له بقية بحلب إلى يومنا ، وله بقية أيضاً ببيروت ومصر ) .
وقال البلاذري ( 2 / 69 ) : ( ولد عقيل مسلماً وعبد الله الأصغر وعبيد الله وأم عبد الله ومحمداً ورملة لأم ولد يقال لها : حلية ، وعبد الرحمان وحمزة وعلياً وجعفر الأصغر ، وعثمان وزينب ، وفاطمة تزوجها علي يزيد بن ركانة من بني عبد المطلب بن عبد مناف . وفاطمة وأسماء تزوجها عمر بن علي بن أبي طالب وأم هانئ لأمهات شتى . ويزيد وسعيد ، أمهما أم عمر بنت عمر الكلابية . وأباسعيد وجعفر الأكبر وعبد الله الأكبر ، أمهم أم البنين كلابية . وبعضهم يقول : أم أنيس . فقتل من بني عقيل مع الحسين ( عليه السلام ) جعفرالأكبر ومسلم ، وعبد الله الأكبر ، وعبد الرحمان ، ومحمد بن عقيل . ويقال : إن الذين قتلوا مع الحسين ستة ، قال الشاعر :
عين جودي بعبرة وعويل * واندبي إن ندبت آل الرسول
تسعة منهم لصلب علي * قد أبيدوا وستة لعقيل ويروى .
22 . اختلفت الرواية في تاريخ وفاته ومكان قبره ( رضي الله عنه ) . فذكرت أكثر الروايات أنه توفي في طريقه إلى الشام ، ولا يعرف له قبر بالشام إلا ما ذكره القلقشندي في صبح الأعشى
--------------------------- 89 ---------------------------
( 4 / 132 ) : ( أما الباب ( قرب حلب ) فبليدة صغيرة . قال في تقويم البلدان : بها مشهد به قبر عقيل بن أبي طالب رضي اللَّه عنه ، وبها أسواق وحمام ومسجد جامع ، وبها البساتين الكثيرة والنزه ) .
ويحتمل أن يكون قبر عقيل آخر . لأن آل عقيل عشيرة في حلب ومنهم نسابون .
وذكرت المصادر وجود قبر لعقيل في البقيع بين قبر العباس وقبور أزواج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال أبو الطيب الحسني في شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ( 2 / 466 ) : ( وقال محمد بن موسى : كان قبر صفية بنت عبد المطلب عند زاوية دار المغيرة بن شعبة ، وقبرعقيل بن أبي طالب أخي علي ( رضي الله عنه ) في قبة في أول البقيع أيضاً ، ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفرالطيار وابن أبي طالب الجواد المشهور ، وقبور أزواج النبي ، وهي أربعة قبورظاهرة ) .
ونحوه النويري في نهاية الإرب ( 33 / 217 ) وابن جبير في رحلته / 174 ، وابن بطوطة في رحلته / 119 ، قالوا : ( وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وقبر عبد الله بن ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، وبإزائهم روضة فيها قبور أمهات المؤمنين رضياللهعنهن ، ويليها روضة فيها قبرالعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب ، وهي قبة ذاهبة في الهواء بديعة الإحكام ، عن يمين الخارج من باب البقيع ، ورأس الحسن إلى رجلي العباس ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان ، مغشيان بألواح بديعة الإلتصاق ، مرصعة بصفائح الصفر البديعة العمل ) .
وقال الأحمدي في كتابه : عقيل ابن أبي طالب / 100 : ( وفي تاريخ البخاري الأصغر : بسند صحيح أنه مات في أول خلافة يزيد قبل الحرة ، وقيل مات في خلافة معاوية ) .
وقال ابن النجار المتوفى 643 ، في كتابه : الدرة الثمينة في أخبار المدينة ( 1 / 166 ) : ( وقبر عقيل بن أبي طالب أخي علي ، في قبة في أول البقيع أيضاً ، ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر الطيار ابن أبي طالب الجواد المشهور ) .
وقال السمهودي في وفاء الوفا ( 3 / 96 ) : ( وأول من رأيته ذكر أنه بذلك المشهد
--------------------------- 90 ---------------------------
ابن النجار ، فقال : . . قلت : والظاهر أنه بالمشهد المنسوب اليوم لعقيل ؛ لأن ابن زبالة وابن شبة لم يذكرا قبر عقيل بالبقيع ، وكذا الغزالي لما ذكر في الإحياء من يزار بالبقيع لم يذكره ، بل المنقول الذي ذكره ابن قدامة وغيره أن عقيلاً توفي بالشام في خلافة معاوية ، فكان سبب اشتهار ذلك المشهد به كون الدار التي هو بها له ، ويحتمل على بعد أنه نقل من الشام ودفن بذلك المحل أيضاً ، وأول من رأيته ذكر أنه بذلك المشهد ابن النجار ، فقال . . . ) .
وقال في الدرجات الرفيعة / 165 : ( توفي عقيل ( رحمه الله ) في خلافة معاوية ، قال ابن الضحاك : ولم يوقف على السنة التي مات فيها . وقال ابن أبي الحديد : توفي في خلافة معاوية في سنة خمسين وعمره ست وتسعون سنة ، وكان له من البنين ثمانية عشر ذكراً . قتل بالطف منهم مع الحسين ( عليه السلام ) خمسة ، وانقرض الجميع ولم يعقب منهم إلا محمد بن عقيل ، ولا عقب له من غيره ) .
وفي تهذيب التهذيب لابن حجر ( 7 / 227 ) : ( في تاريخ البخاري الأصغر بسند صحيح أنه مات في أول خلافة يزيد بن معاوية قبل وقعة الحرة . وقال ابن سعد : خرج عقيل مهاجراً في أول سنة ثمان فشهد مؤتة ثم رجع فعرض له مرض فلم يسمع له بخبر لا في فتح مكة ولا حنين ولا الطائف وله عقب . وفيما قال نظر فقد روى الزبير بن بكار من طريق الحسين بن علي قال : كان ممن ثبت مع النبي يوم حنين العباس وعلي وعقيل وسمي جماعة ) .
أقول : خلط ابن سعد في سيرة عقيل ووفاته ومكان قبره . والأقوى أن قبره في الشام ، لكن الباب ليس في طريق الحجاز إلى الشام ، بل في طريق تركيا إلى الشام .
لكن لامانع من زيارة قبره ( رضي الله عنه ) في البقيع وفي الشام ، في مدينة الباب ، أو في دمشق . ولعله دفن في دمشق ةلم يعرف ، لأن علاقته ساءت بمعاوية .
- *
--------------------------- 91 ---------------------------
الفصل الحادي والسبعون: رتب الإمام ( عليه السلام ) وضع الدولة واستعد لحرب معاوية
استشار الناس وراسل عماله في الأمصار
كان الناس يحثون الإمام ( عليه السلام ) على حرب معاوية من دخوله إلى الكوفة . قال في الأخبار الطوال / 153 : ( أقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى ركعتين ثم نزل الرحبة ، فقال الشني يحرض علياً ( عليه السلام ) على المسير إلى الشام :
قل لهذا الإمام قد خَبَت الحرب * وتمت بذلك النعماء
وفرغنا من حرب من نكث ال - * عهد وبالشام حية صماء
تنفث السم ما لمن نهشته * فارمها قبل أن تعض ، شفاء ) .
وقد أشار عليه المهاجرين والأنصار وغيرهم بالتوجه إلى الشام لحرب معاوية . قال البلاذري ( 2 / 293 ) وابن مزاحم / 91 : ( عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود قال : لما أراد علي المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدونا ، وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم .
فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهداً ، مشاحة على الدنيا ، وضناً بما في أيديهم منها . وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان . كذبوا ليسوا بدمه يثأرون ، ولكن الدنيا يطلبون . فسر بنا إليهم فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق
--------------------------- 92 ---------------------------
إلا الضلال . وإن أبوإلا الشقاق فذلك الظن بهم . والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ويسمع إذا أمر .
ثم قام عمار بن ياسر ، فذكر الله بما هو أهله ، وحمده وقال : يا أمير المؤمنين إن استطعت ألا تقيم يوماً واحداً فافعل . إشخص بنا قبل استعار نار الفجرة واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى رشدهم وحظهم .
فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلا حربنا ، فوالله إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند الله ، وهو كرامة منه .
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين ، انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد ، فوالله لجهادهم أحب إليَّ من جهاد الترك والروم ، لإدهانهم في دين الله ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان .
إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه . وفيؤنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم فيما يزعمون قطعين : يعني رقيق .
فقال أشياخ الأنصار ، منهم خزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما : لمَ تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام ؟ فقال : أما إني عارف بفضلكم معظم لشأنكم ، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب .
فقال بعضهم لبعض : ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم ، فقالوا : قم يا سهل بن حنيف . فقام سهل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت ، وحرب لمن حاربت ، ورأينا رأيك ونحن كف يمينك . وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة ، فتأمرهم بالشخوص ، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل ، فإنهم هم أهل البلد وهم الناس . فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب . وأما نحن فليس عليك منا خلاف ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك .
--------------------------- 93 ---------------------------
من رسائل الإمام ( عليه السلام ) إلى عماله
روى نصر بن مزاحم وغيره عدداً من رسائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى عماله ، ودعوته الناس إلى حرب معاوية ، واستجابتهم له ، ومخالفة بعضهم .
قال نصر : فكتب إلى مخنف بن سليم : سلام عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو . أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه ، وهب في نعاس العمى والضلال اختياراً له فريضة على العارفين . إن الله يرضى عمن أرضاه ، ويسخط على من عصاه . وإنا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، واستأثروا بالفئ ، وعطلوا الحدود ، وأماتوا الحق ، وأظهروا في الأرض الفساد ، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا ولى لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه وأدنوه وبروه ، فقد أصروا على الظلم ، وأجمعوا على الخلاف . وقديماً ما صدوا عن الحق ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين . فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا لعلك تلقى هذا العدو المحل فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتجامع الحق وتباين الباطل ، فإنه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد . وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وكتب عبد الله بن أبي رافع سنة سبع وثلاثين .
فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع ، واستعمل على همدان سعيد بن وهب ، وكلاهما من قومه ، وأقبل حتى شهد مع علي صفين .
وكتب له ابن عباس يذكر اختلاف أهل البصرة ، فكتب إليه عليٌّ :
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس : أما بعد ، فقد قدم عليَّ رسولك وذكرت ما رأيت وبلغك عن أهل البصرة بعد انصرافي . وسأخبرك عن القوم : هم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو عقوبة يخشاها . فأرغب راغبهم بالعدل عليه ، والإنصاف له والإحسان إليه ، وحل عقدة الخوف عن قلوبهم ، فإنه ليس لأمراء أهل البصرة في قلوبهم عظم إلا قليل منهم . وانته إلى أمري ولا
--------------------------- 94 ---------------------------
تعده ، وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة ، وكل من قبلك فأحسن إليهم ما استطعت ، إن شاء الله . والسلام .
وكتب : عبد الله بن أبي رافع ، في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين .
وكتب ( عليه السلام ) : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأسود بن قطنة . أما بعد ، فإنه من لم ينتفع بما وعظ لم يحذر ما هو غابر . ومن أعجبته الدنيا رضي بها ، وليست بثقة ، فاعتبر بما مضى تحذر ما بقي ، واطبخ للمسلمين قبلك من الطلاء ما يذهب ثلثاه ، وأكثر لنا من لطف الجند ، واجعله مكان ما عليهم من أرزاق الجند ، فإن للولدان علينا حقاً ، وفي الذرية من يخاف دعاؤه ، وهو لهم صالح . والسلام .
وكتب ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عامر أما بعد ، فإن خير الناس عند الله عز وجل أقومهم لله بالطاعة فيما له وعليه ، وأقولهم بالحق ولو كان مرا ، فإن الحق به قامت السماوات والأرض . ولتكن سريرتك كعلانيتك ، وليكن حكمك واحدا ، وطريقتك مستقيمة ، فإن البصرة مهبط الشيطان . فلا تفتحن على يد أحد منهم باباً لا نطيق سده نحن ولا أنت . والسلام .
وكتب ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس . أما بعد ، فانظر ما اجتمع عندك من غلات المسلمين وفيئهم فاقسمه من قبلك حتى تغنيهم ، وابعث إلينا بما فضل نقسمه فيمن قبلنا . والسلام .
وكتب ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس . أما بعد ، فإن الإنسان قد يسره ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه وإن جهد . فليكن سرورك فيما قدمت من حكم أو منطق أو سيرة ، وليكن أسفك على ما فرطت لله فيه من ذلك . ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر به حزناً ، وما أصابك فيها فلا تبغ به سروراً . وليكن همك فيما بعد الموت . والسلام .
وكتب ( عليه السلام ) إلى أمراء الجنود :
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين . أما بعد فإن حق الوالي ألا يغيره على رعيته أمر ناله ، ولا أمر خص به ، وأن يزيده ما قسم الله له دنواً من عباده
--------------------------- 95 ---------------------------
وعطفاً عليهم . ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سراً إلا في حرب ، ولا أطوى عنكم أمراً إلا في حكم ، ولا أؤخر حقاً لكم عن محله ، ولا أرزأكم شيئاً ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء . فإذا فعلت ذلك وجبت عليكم النصيحة والطاعة . فلا تنكصوا عن دعوتي ، ولا تفرطوا في صلاح دينكم من دنياكم ، وأن تنفذوا لما هو لله طاعة ، ولمعيشتكم صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ولا يأخذكم في الله لومة لائم . فإن أبيتم أن تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أهون عليَّ ممن فعل ذلك منكم ، ثم أعاقبه عقوبة لا يجد عندي فيها هوادة . فخذوا هذا
من أمرائكم ، وأعطوهم من أنفسكم ، يصلح الله أمركم . والسلام .
وكتب ( عليه السلام ) إلى أمراء الخراج :
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أمراء الخراج . أما بعد ، فإنه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ولم يحرزها . ومن اتبع هواه وانقاد له على ما يعرف نفع عاقبته ، عما قليل ليصبحن من النادمين . ألا وإن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره ، وإن أشقاهم من اتبع هواه . فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدمتم من خير ، وما سوى ذلك وددتم لو أن بينكم وبينه أمداً بعيداً ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ . وإن عليكم ما فرطتم فيه ، وإن الذي طلبتم ليسير ، وإن ثوابه لكبير . ولو لم يكن فيما نهى عنه من الظلم والعدوان عقاب يخاف ، كان في ثوابه ما لا عذر لأحد بترك طلبته ، فارحموا ترحموا ، ولا تعذبوا خلق الله ولا تكلفوهم فوق طاقتهم ، وأنصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية . لا تتخذن حجاباً ، ولا تحجبن أحداً عن حاجته حتى ينهيها إليكم . ولا تأخذوا أحداً بأحد إلا كفيلاً عمن كفل عنه ، واصبروا أنفسكم على ما فيه الاغتباط ، وإياكم وتأخير العمل ودفع الخير ، فإن في ذلك الندم . والسلام .
--------------------------- 96 ---------------------------
وكتب ( عليه السلام ) إلى معاوية :
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان . سلام على من اتبع الهدى ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو . أما بعد فإنك قد رأيت من الدنيا وتصرفها بأهلها وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقي من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى . ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بوناً بعيداً .
واعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمراً لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية ، ولست تقول فيه بأمر بين تعرف لك به أثرة ، ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنياً أبهجت بزينتها ، وركنت إلى لذتها ، وخلى فيها بينك وبين عدو جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها .
فاقعس عن هذا الأمر ، وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك منه مجن . ومتى كنتم يا معاوية ساسة للرعية ، أو ولاة لأمر هذه الأمة بغيرقدم حسن ، ولا شرف سابق على قومكم .
فشمر لما قد نزل بك ، ولا تمكن الشيطان من بغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان . فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء .
وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك ، فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق .
واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم ، لحسدونا وامتنوا به علينا ، ولكنه قضاء ممن امتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدق .
لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة . اللهم احكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين .
فكتب معاوية :
بسم الله الرحمن الرحيم . من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب . أما بعد فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة قدمك بشره نخوتك ، فإن الأعمال
--------------------------- 97 ---------------------------
بخواتيمها ، ولا تمحق سابقتك في حق من لا حق لك في حقه ، فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، ولا تبطل إلا حجتك . ولعمري ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقاً ، لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحق . فاقرأ سورة الفلق ، وتعوذ بالله من شر نفسك ، فإنك الحاسد إذا حسد .
وكتب ( عليه السلام ) إلى عمرو بن العاص :
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو العاص . أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، وصاحبها مقهور فيها ، لم يصب منها شيئاً قط إلا فتحت له حرصاً ، وأدخلت عليه مؤونة تزيده رغبة فيها ، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسعيد من وعظ بغيره . فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله ، فإن معاوية غَمَصَ الناس ، وسَفَهَ الحق . والسلام .
وكتب إليه عمرو بن العاص :
من عمرو بن العاص إلى علي بن أبي طالب . أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا وألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق ، وأن تجيب إلى ما تدعون إليه من شورى . فصَبَرَ الرجل منا نفسه على الحق ، وعذره الناس بالمحاجزة . والسلام . فجاء كتاب عمرو إلى علي ( عليه السلام ) قبل أن يرتحل من النخيلة .
وكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية :
بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي بن صخر . سلام على أهل طاعة الله ممن هو مسلم لأهل ولاية الله . أما بعد ، فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقاً بلا عنت ولا ضعف في قوته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيداً ، وجعل منهم شقياً وسعيداً ، وغوياً ورشيداً ، ثم اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب منهم محمداً ( ( عليهما السلام ) ) فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولاً مصدقاً لما بين يديه من الكتب ،
--------------------------- 98 ---------------------------
ودليلاً على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وصدق ووافق ، وأسلم وسلم ، أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب فصدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، فوقاه كل هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع ، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله . وقد رأيتك تساميه وأنت أنت . وهو هو المبرز السابق في كل خير ، أول الناس إسلاماً ، وأصدق الناس نية ، وأطيب الناس ذرية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عم . وأنت اللعين ابن اللعين .
ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتخالفان فيه القبائل . على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله . والشاهد لعلي مع فضله المبين وسبقه القديم ، أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم ، من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وكتائب حوله ، يجالدون بأسيافهم ، ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في اتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي ، وهو وارث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه وأبو ولده وأول الناس له اتباعاً وآخرهم به عهداً ، يخبره بسره ويشركه في أمره ، وأنت عدوه وابن عدوه ! فتمتع ما استطعت بباطلك ، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا . واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده ، وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور ، وبالله وأهل رسوله عنك الغناء ، والسلام على من اتبع الهدى .
--------------------------- 99 ---------------------------
فكتب إليه معاوية :
بسم الله الرحمن الرحيم . من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر . سلام على أهل طاعة الله . أما بعد فقد أتاني كتابك ، تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه ، وما أصفى به نبيه ، مع كلام ألفته ووضعته ، لرأيك فيه تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف .
ذكرت حق ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته من نبي الله صلى الله عليه ، ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول ، واحتجاجك على بفضل غيرك لا بفضلك . فأحمد إلهاً صرف الفضل عنك وجعله لغيرك . وقد كنا وأبوك معنا في حياة من نبينا صلى الله عليه نرى حق ابن أبي طالب لازماً لنا ، وفضله مبرزاً علينا ، فلما اختار الله لنبيه ما عنده ، وأتم له ما وعده ، وأظهر دعوته وأفلج حجته ، قبضه الله إليه ، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه . على ذلك اتفقا واتسقا ، ثم دعواه إلى أنفسهم فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم ، فبايع وسلم لهما ، لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قبضا وانقضى أمرهما .
ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان يهتدي بهديهما ، ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وصاحبك ، حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ، وبطنتما له وأظهرتما ، وكشفتما عداوتكما وغلكما ، حتى بلغتما منه مناكما .
فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، فسترى وبال أمرك . وقس شبرك بفترك تقصرعن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه ، ولا تلين على قسر قناته ، ولا يدرك ذو مدى أناته . أبوك مهد مهاده ، وبنى ملكه وشاده ، فإن يكن ما نحن فيه صواباً فأبوك أوله ، وإن يك جوراً فأبوك أسسه ونحن شركاؤه ، وبهديه أخذنا ، وبفعله اقتدينا .
ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب وأسلمنا له ، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك فاحتذينا بمثاله ، واقتدينا بفعاله . فعب أباك ما بدا لك أو دع ، والسلام على من أناب ، ورجع عن غوايته وتاب !
--------------------------- 100 ---------------------------
خطبة أمير المؤمنين والحسنين ( عليهم السلام )
قال نصر / 112 : ( ثم إن علياً ( عليه السلام ) صعد المنبر فخطب الناس ودعاهم إلى الجهاد ، فبدأ بالحمدلله والثناء عليه ثم قال : إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ، فانصبوا أنفسكم في أداء حقه ، وتنجزوا موعوده ، واعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة ، وعراه وثيقة ، ثم جعل الطاعة حظ الأنفس برضا الرب ، وغنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة . وقد حملت أمر أسودها وأحمرها ، ولا قوة إلا بالله . ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه ، وتناول ما ليس له وما لا يدركه : معاوية وجنده ، الفئة الباغية الطاغية ، يقودهم إبليس ، ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويدليهم بغروره . وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه ، فاستغنوا بما علمتم ، واحذروا ما حذركم الله من الشيطان ، وارغبوا فيما أنالكم من الأجر والكرامة ، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته ، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى . فلا أعرف أحدا منكم تقاعس عني وقال : في غيري كفاية ، فإن الذود إلى الذود إبل ، ومن لا يذد عن حوضه يتهدم .
ثم إني آمركم بالشدة في الأمر ، والجهاد في سبيل الله ، وألا تغتابوا مسلماً . وانتظروا النصر العاجل من الله ، إن شاء الله .
ثم قام الحسن بن علي ( عليه السلام ) خطيباً فقال :
الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له ، وأثنى عليه بما هو أهله . ثم قال : إن مما عظم الله عليكم من حقه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدي شكره ، ولا يبلغه صفة ولا قول .
ونحن إنما غضبنا لله ولكم ، فإنه من علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه ، قولاً يصعد إلى الله فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق ، يصدق الله فيه قولنا ، ونستوجب فيه المزيد من ربنا ، قولاً يزيد ولا يبيد ، فإنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم ، واستحكمت عقدتهم . فاحتشدوا في قتال عدوكم : معاوية وجنوده ، فإنه قد حضر . ولا تخاذلوا فإن الخذلان يقطع نياط القلوب ، وإن الإقدام على الأسنة نجدة وعصمة ، لأنه لم يمتنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة ، وكفاهم جوائح الذلة ،
--------------------------- 101 ---------------------------
وهداهم إلى معالم الملة .
والصلح تأخذ منه ما رضيت به * والحرب يكفيك من أنفاسها جرعُ .
ثم قام الحسين بن علي ( عليه السلام ) خطيباً :
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا أهل الكوفة : أنتم الأحبة الكرماء ، والشعار دون الدثار ، جدوا في إحياء ما دثر بينكم ، وإسهال ما توعر عليكم ، وألفة ما ذاع منكم . ألا إن الحرب شرها ذريع ، وطعمها فظيع ، وهي جرع متحساة ، فمن أخذ لها أهبتها ، واستعد لها عدتها ، ولم يألم كلومها عند حلولها ، فذاك صاحبها .
ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها ، فذاك قمن ألا ينفع قومه ، وأن يهلك نفسه . نسأل الله بعونه أن يدعمكم بألفته . ثم نزل . فأجاب علياً ( عليه السلام ) إلى السير والجهاد جل الناس .
وقام هاشم بن عتبة فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلوا حرامه وحرموا حلاله ، واستولاهم الشيطان ، ووعدهم الأباطيل ومناهم الأماني حتى أزاغهم عن الهدى ، وقصد بهم قصد الردى ، وحبب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة إنجاز موعود ربنا . وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رحماً ، وأفضل الناس سبقةً وقدماً ، وهم يا أمير المؤمنين منك مثل الذي علمنا ، ولكن كتب عليهم الشقاء ، ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين . فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة ، وأنفسنا تنصرك جذلة على من خالفك وتولى الأمر دونك . والله ما أحب أن لي ما في الأرض مما أقلت ، وما تحت السماء مما أظلت ،
وأني واليت عدواً لك ، أو عاديت ولياً لك .
فقال علي ( عليه السلام ) : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيك ( ( عليهما السلام ) ) ) .
--------------------------- 102 ---------------------------
وقال نصر / 101 : ودخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهاز وعدة ، وأكثر الناس أهل قوة ومن ليس بمضعف وليس به علة . فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإن أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النؤوم ، ولامن إذا أمكنه الفرص أجلها واستشار فيها ، ولا من يؤخرالحرب في اليوم إلى غد .
فقال زياد بن النضر :
لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيد بن قيس ، وقال ما يعرف ، فتوكل على الله وثق به ، واشخص بنا إلى هذا العدو راشداً معاناً ، فإن يرد الله بهم خيراً لا يدعوك رغبة عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي والقدم في الإسلام ، والقرابة من محمد ( ( عليهما السلام ) ) . وإلا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هيناً ، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس .
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال :
يا أمير المؤمنين إن القوم لو كانوا الله يريدون أو لله يعملون ، ما خالفونا . ولكن القوم إنما يقاتلون فراراً من الأسوة ، وحباً للأثرة ، وضناً بسلطانهم وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحن في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم ! ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية علياً وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد .
والله ما أظن أن يفعلوا ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المران ، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمة بين الفريقين ! ( وفي رواية ابن الأعثم : 2 / 542 ) : ( ثم قال : أيها الناس ! وكيف يبايع معاوية علياً وقد قتل أخاه وخاله وجده وعم أمه في يوم بدر ) .
ودخل أبوزبيب بن عوف على علي فقال :
يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلاً ، وأعظمنا في الخير نصيباً ، ولئن كنا في ضلالة إنك لأثقلنا ظهراً وأعظمنا وزراً : أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا
--------------------------- 103 ---------------------------
ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلم الله من طاعتك ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها . أليس الذي نحن عليه الحق المبين ، والذي عليه عدونا الغي والحوب الكبير ؟
فقال علي ( عليه السلام ) : شهدت أنك إن مضيت معنا ناصراً لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، فإنك ولي الله تسيح في رضوانه ، وتركض في طاعته : فأبشر أبازبيب !
فقال له عمار : أثبت أبازبيب ولاتشك في الأحزاب عدو الله ورسوله .
فقال أبوزبيب : ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة فيشهدان لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما . فخرج عمار وهو يقول :
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي * سيروا فخير الناس أتباع علي
هذا أوان طاب سل المشرفي * وقودنا الخيل وهز السمهري
وروى نصرعن عبد الله بن شريك قال : خرج حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، يظهران البراءة واللعن من أهل الشام ، فأرسل إليهما عليٌّ ( عليه السلام ) أن كفا عما يبلغني عنكما ، فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ألسنا محقين ؟ قال : بلى . قالا : أو ليسوا مبطلين ؟ قال : بلى . قالا : فلم منعتنا من شتمهم ؟ قال : كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين ، تشتمون وتتبرؤون ، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ، ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر . ولوقلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به . كان هذا أحب إليَّ وخيراً لكم .
فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك .
وقال عمرو بن الحمق : إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان يرفع ذكري به ، ولكن أجبتك لخصال خمس : أنك ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأول من آمن به ، وزوج
--------------------------- 104 ---------------------------
سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد ( ( عليهما السلام ) ) وأبوالذرية التي بقيت فينا من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأعظم رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد . فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي ، ونزح البحور الطوامي حتى يأتي عليَّ يومي في أمر أقوى به وليك وأوهن به عدوك ، ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحق على من حقك . فقال أمير المؤمنين على : اللهم نور قلبه بالتقى ، واهده إلى صراط مستقيم ، ليت أن في جندي مائة مثلك !
فقال حجر : إذا والله يا أمير المؤمنين صح جندك ، وقل فيهم من يغشك . ثم قال حجر : يا أمير المؤمنين نحن بنو الحرب وأهلها ، الذين نلقحها وننتجها ، قد ضارستنا وضارسناها ، ولنا أعوان ذو وصلاح ، وعشيرة ذات عدد ، ورأي مجرب وبأس محمود ، وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة ، فإن شرقت شرقنا ، وإن غربت غربنا ، وما أمرتنا به من أمر فعلناه . فقال علي ( عليه السلام ) : أكل قومك يرى مثل رأيك ؟ قال : ما رأيت منهم إلا حسناً ، وهذه يدي عنهم بالسمع والطاعة وبحسن الإجابة . فقال له عليٌ ( عليه السلام ) خيراً ) .
أقول : اللعنة قرار من الله بطرد الملعون من رحمته ، يعرفه النبي أو الوصي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولعن حجر وعمرو لمعاوية وأتباعه مشروع ، لكن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يحب التبكير فيه والعلن حتى تجري المقادير ، فلما ظهر انحرافهم وأخذ معاوية يلعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والحسن والحسين ومالك الأشتر في صلاته ، أجابه الإمام ( عليه السلام ) باللعن ، وأطلق لأصحابه لعن معاوية ولعن أصحابه خاصة عمرو العاص وأباالأعور السلمي .
وصول أهل البصرة إلى النخيلة
وروى نصر ، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر : أن علياً ( عليه السلام ) لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس ، وكان كتب له ولأهل البصرة :
أما بعد فأشخص إلى من قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكرهم بلائي عندهم ، وعفوي عنهم ، واستبقائي لهم ، ورغبهم في الجهاد ، وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل . فقام فيهم ابن عباس فقرأ عليهم كتاب عليٍّ فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، استعدوا للمسير إلى إمامكم ، وإنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين ، الذين لا يقرؤون القرآن ولا يعرفون
--------------------------- 105 ---------------------------
حكم الكتاب ولا يدينون دين الحق ، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر ، والصادع بالحق ، والقيم بالهدى ، والحاكم بحكم الكتاب ، الذي لا يرتشي في الحكم ، ولا يداهن الفجار ، ولا تأخذه في الله لومة لائم . فقام الأحنف بن قيس فقال : نعم ، والله لنجيبنك ، ولنخرجن معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الخير ، ونأمل من الله العظيم من الأجر .
وقام إليه خالد بن المعمر السدوسي فقال : سمعنا وأطعنا ، فمتى استنفرتنا نفرنا ، ومتى دعوتنا أجبنا .
وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي ، فقال :
وفق الله أمير المؤمنين ، وجمع له أمر المسلمين ، ولعن المحلين القاسطين ، الذين لا يقرؤون القرآن ، نحن والله عليهم حنقون ولهم في الله مفارقون . فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجلنا . وأجاب الناس إلى المسير ، ونشطوا وخفوا ، فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدؤلي ، وخرج حتى قدم على علي ومعه رؤوس الأخماس : خالد بن المعمر السدوسي على بكر بن وائل ، وعمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس ، وصبرة بن شيمان الأزدي على الأزد ، والأحنف بن قيس على تميم وضبة والرباب ، وشريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية . فقدموا على علي ( عليه السلام ) بالنخيلة .
موقف الإمام ( عليه السلام ) من الكارهين للحرب معه
وروى نصر موقف جاسوسين لمعاوية هما حنظلة بن الربيع وعبد الله بن المعتم ومعهما جماعة من غطفان وبني تميم ، فقد جاؤوا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له التميمي : يا أمير المؤمنين ، إنا قد مشينا إليك بنصيحة فاقبلها منا ، ورأينا لك رأياً فلا ترده علينا ، فإنا نظرنا لك ولمن معك . أقم وكاتب هذا الرجل ، ولا تعجل إلى قتال أهل الشام ، فإني والله ما أدري ولا تدري لمن تكون إذا التقيتم الغلبة ، وعلى من تكون الدبرة .
--------------------------- 106 ---------------------------
وقام ابن المعتم فتكلم ، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل ما تكلم به !
فحمد على الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد فإن الله وإرث العباد والبلاد ، ورب السماوات السبع والأرضين السبع وإليه ترجعون ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء . أما الدبرة فإنها على الضالين العاصين ظفروا أو ظفر بهم . وأيم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفاً ، ولا ينكروا منكراً !
فقام إليه معقل بن قيس اليربوعي ثم الرياحي فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء والله ما أتوك بنصح ، ولادخلوا عليك إلا بغش ، فاحذرهم فإنهم أدنى العدو . فقال له مالك بن حبيب : يا أمير المؤمنين ، إنه بلغني أن حنظلة هذا يكاتب معاوية ، فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف .
وقام إلى علي عياش بن ربيعة ، وقائد بن بكير العبسيان ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية ، فأحبسه أو أمكنا منه نحبسه حتى تنقضي غزاتك وتنصرف . فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم . فقال لهما علي : الله بيني وبينكم ، وإليه أكلكم ، وبه أستظهر عليكم ، إذهبوا حيث شئتم .
ثم بعث علي إلى حنظلة بن الربيع المعروف بحنظلة الكاتب ، وهو من الصحابة فقال : يا حنظلة أعليَّ أم لي ؟ قال : لا عليك ولا لك . قال : فما تريد ؟ قال : أشخص إلى الرها ، فإنه فرج من الفروج ، أصمد به حتى ينقضي هذا الأمر . فغضب من ذلك خيار بني عمرو بن تميم وهم رهطه ، فقال : إنكم والله لا تغُّروني من ديني ، دعوني فأنا أعلم منكم . فقالوا : والله لئن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك ، لأم ولده ولا ولدها ، ولئن أردت ذلك لنقتلنك !
فأعانه ناس من قومه فاخترطوا سيوفهم ، فقال : أجلوني حتى أنظر . فدخل منزله وأغلق بابه حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية ، وخرج من بعده إليه من قومه رجال كثير . ولحق ابن المعتم أيضاً حتى أتى معاوية ، وخرج معه أحد عشر رجلاً من قومه . وأما
--------------------------- 107 ---------------------------
حنظلة فخرج بثلاثة وعشرين رجلاً من قومه ، ولكنهما لم يقاتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعاً ، فقال حنظلة حين خرج إلى معاوية :
يسل غواة عند بابي سيوفها * ونادى مناد في الهجيم لأقبلا
سأترككم عوداً لأصعب فرقة * إذا قلتم كلا يقول لكم بلى
قال : فلما هرب حنظلة أمر على بداره فهدمت ، هدمها عريفهم بكر بن تميم ، وشبث بن ربعي ، فقال في ذلك :
أيا راكباً إما عرضت فبلغن * مغلغلةً عني سراةَ بني عمرو
فأوصيكم بالله والبر والتقى * ولا تنظروا في النائبات إلى بكر
ولا شبث ذي المنخرين كأنه * أزب جمال في ملاحية صفر
وقال أيضاً ، يحرض معاوية بن أبي سفيان :
أبلغ معاوية بن حرب خطة * ولكل سائلة تسيل قرار
لا نقبلن دنية تعطونها * في الأمر حتى تقتل الأنصار
وكما تبوء دماؤهم بدمائكم * وكما تهدم بالديار ديار
وترى نساؤهم يجلن حواسراً * ولهن من علق الدماء خوار
عن معبد قال : قام عليٌّ خطيباً على منبره ، فكنت تحت المنبر حين حرض الناس وأمرهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام . فبدأ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : سيروا إلى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار . فقام رجل من بني فزارة يقال له أربد فقال : أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك ، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم ! كلا ، ها الله إذاً لا نفعل .
فقام الأشتر فقال : من لهذا أيها الناس ؟ وهرب الفزاري واشتد الناس على أثره ، فلُحق بمكان من السوق تباع فيه البراذين ، فوطؤوه بأرجلهم وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم حتى قُتل ! فأتيَ علي فقيل له : يا أمير المؤمنين قتل الرجل . قال : ومن قتله ؟ قالوا : قتلته همدان وفيهم شَوْبةٌ من الناس . فقال : قتيل عمية ،
--------------------------- 108 ---------------------------
لا يدرى من قتله ، ديته من بيت مال المسلمين . وقال علاقة التيمي :
أعوذ بربي أن تكون منيتي * كما مات في سوق البراذين أربد
تعاوره همدان خفق نعالهم * إذا رفعت عنه يد وضعت يد !
قال : وقام الأشتر ، فحمد الله وأثنى عليه فقال : يا أمير المؤمنين ، لايهدنك ما رأيت ، ولايؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن . جميع من ترى من الناس شيعتك ، وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ، ولا يحبون بقاء بعدك ، فإن شئت فسر بنا إلى عدوك ، والله ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطي البقاء من أحبه ، وما يعيش بالآمال إلا شقي ، وإنا لعلى بينة من ربنا أن نفساً لن تموت حتى يأتي أجلها ، فكيف لا نقاتل قوماً هم كما وصف أمير المؤمنين ، وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين بالأمس فأسخطوا الله ، وأظلمت بأعمالهم الأرض ، وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير .
فقال علي ( عليه السلام ) : الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فله ما نوى ، وقد قضى ما عليه . ثم نزل فدخل منزله .
اعتزال أصحاب عبد الله بن مسعود
قال نصر بن مزاحم / 115 : « فأجاب علياً إلى السير والجهاد جلُّ الناس إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه ، وفيهم عبيدة السلماني وأصحابه ، فقالوا له : إنا نخرج معكم ولاننزل عسكركم ، ونعسكر على حدةٍ حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام ، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له ، أو بدا منه بغي كنا عليه . فقال على : مرحباً وأهلاً ، هذا هو الفقه في الدين والعلم بالسنة . من لم يرض بهذا فهو جائر خائن .
وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود ، فيهم ربيع بن خيثم وهم يومئذ أربع مائة رجل ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك ، ولاغناء بنا ولا بك ولا المسلمين عمن يقاتل العدو ، فولنا بعض الثغور نكون به ثم نقاتل عن أهله . فوجهه على على ثغر الري ، فكان أول لواء عقده بالكوفة لواء ربيع بن خيثم . قال : ودعا عليٌّ باهلة فقال : يا معشرباهلة ، أشهد الله أنكم تبغضوني
--------------------------- 109 ---------------------------
وأبغضكم ، فخذوا عطاءكم واخرجوا إلى الديلم . وكانوا كرهوا أن يخرجوا معه إلى صفين !
ترتيب الإمام ( عليه السلام ) جيشه في النخيلة
وأمَّر الأسباع من أهل الكوفة : سعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس ، ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش وكنانة وأسد . ومخنف بن سليم على الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة .
وحجر بن عدي الكندي على كندة وحضرموت وقضاعة ومهرة .
وزياد بن النضر على مذحج والأشعريين .
وسعيد بن قيس بن مرة الهمداني ، على همدان ومن معهم من حمير .
وعدي بن حاتم على طيئ ، ويجمعهم الدعوة مع مذحج وتختلف الرايتان : راية مذحج مع زياد بن النضر ، وراية طيئ مع عدي بن حاتم .
وأمَر الحارث الأعور ينادي في الناس : أن اخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة . فنادى : أيها الناس أخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة . وبعث علي إلى مالك بن حبيب اليربوعي صاحب شرطته ، فأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر . ودعا عقبة بن عمرو الأنصاري فاستخلفه على الكوفة ، وكان أصغر أصحاب العقبة السبعين . ثم خرج عليٌّ وخرج الناس معه .
نصر : عن عبد الله بن شريك : أن الناس لما توافوا بالنخيلة قام رجال ممن كان سير عثمان فتكلموا ، فقام جندب بن زهير ، والحارث الأعور ، ويزيد بن قيس الأرحبي فقال جندب : قد آن للذين أخرجوا من ديارهم .
نصر : عن ابن قطن : أن علياً ( عليه السلام ) حين أراد المسير إلى النخيلة دعا زياد بن النضر ، وشريح بن هانئ ، وكانا على مذحج والأشعريين . قال : يا زياد ، إتق الله في كل ممسى ومصبح ، وخف على نفسك الدنيا الغرور ، ولا تأمنها على حال من البلاء ، واعلم أنك إن لم تزع نفسك عن كثير مما يحب مخافة مكروهة ، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضر . فكن لنفسك مانعاً وازعاً من البغي والظلم
--------------------------- 110 ---------------------------
والعدوان ، فإني قد وليتك هذا الجند فلاتستطيلن عليهم وإن خيركم عند الله أتقاكم . وتعلم من عالمهم ، وعلم جاهلهم ، واحلم عن سفيههم ، فإنك إنما تدرك الخير بالحلم ، وكف الأذى والجهل .
فقال زياد : أوصيت يا أمير المؤمنين حافظاً لوصيتك ، مؤدباً بأدبك ، يرى الرشد في نفاذ أمرك ، والغي في تضييع عهدك . فأمرهما أن يأخذا في طريق واحد ولا يختلفا ، وبعثهما في اثني عشرألفاً على مقدمته شريح بن هانئ على طائفة من الجند ، وزياد على جماعة . فأخذ شريح يعتزل بمن معه من أصحابه على حدة ، ولا يقرب زياد بن النضر ، فكتب زياد إلى علي ( عليه السلام ) مع غلام له أو مولى يقال له شوذب : لعبد الله علي أمير المؤمنين من زياد بن النضر ، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو . أما بعد فإنك وليتني أمر الناس ، وإن شريحاً لا يرى لي عليه طاعةً ولا حقاً ، وذلك من فعله بي استخفاف بأمرك ، وترك لعهدك . والسلام .
وكتب شريح بن هانئ : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو .
أما بعد فإن زياد بن النضرحين أشركته في أمرك ووليته جنداً من جنودك ، تنكر واستكبر ومال به العجب والخيلاء والزهو إلى ما لا يرضاه الرب تبارك وتعالى من القول والفعل . فإن رأى أمير المؤمنين أن يعزله عنا ويبعث مكانه من يحب فليفعل ، فإنا له كارهون . والسلام .
فكتب إليهما على ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر وشريح بن هانئ : سلام عليكما ، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإني قد وليت مقدمتي زياد بن النضر وأمرته عليها ، وشريح على طائفة منها أمير ، فإن أنتما جمعكما بأس فزياد بن النضر على الناس ، وإن افترقتما فكل واحد منكما أميرالطائفة التي وليناه أمرها . واعلما أن مقدمة القوم عيونهم وعيون المقدمة طلائعهم ، فإذا أنتما خرجتما من بلادكما فلا تسأما من توجيه الطلائع ، ومن نقض الشعاب والشجر والخمر في كل جانب ، كي لايغتركما عدو ، أو يكون لكم كمين . ولا تسيرن الكتائب والقبائل من لدن الصباح إلى المساء إلا على تعبية . فإن دهمكم داهم
--------------------------- 111 ---------------------------
أو غشيكم مكروه كنتم قد تقدمتم في التعبية . وإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح الجبال ، أو أثناء الأنهار ، كي ما يكون ذلك لكم ردءً وتكون مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين . واجعلوا رقباءكم في صياصي الجبال ، وبأعالي الأشراف ، ومناكب الهضاب ، يرون لكم لئلا يأتيكم عدو من مكان مخافة أو أمن . وإياكم والتفرق ، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً ، وإذا رحلتم فارحلوا جميعاً ، وإذا غشيكم ليل فنزلتم فحفوا عسكركم بالرماح والأترسة ، ورماتكم يلون ترستكم ورماحكم . وما أقمتم فكذلك فافعلوا كي لا تصاب لكم غفلة ، ولا تلفى منكم غرة ، فما قوم حفوا عسكرهم برماحهم وترستهم من ليل أو نهار إلا كانوا كأنهم في حصون . واحرسا عسكركما بأنفسكما ، وإياكما أن تذوقا نوماً حتى تصبحا إلا غراراً أو مضمضة ، ثم ليكن ذلك شأنكما ودأبكما حتى تنتهيا إلى عدوكما . وليكن عندي كل يوم خبركما ورسول من قبلكما ، فإني ولا شئ إلا ما شاء الله ، حثيث السير في آثاركما .
عليكما في حربكما بالتؤدة ، وإياكم والعجلة ، إلا أن تمكنكم فرصة بعد الإعذار والحجة . وإياكما أن تقاتلا حتى أقدم عليكما ، إلا أن تبدآ أو يأتيكما أمري
إن شاء الله . والسلام .
وفي حديث عمر أيضاً : ثم قال : إن علياً ( عليه السلام ) كتب إلى أمراء الأجناد : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين ، أما بعد فإني أبرأ إليكم وإلى أهل الذمة من معرة الجيش ، إلا من جوعة إلى شبعة ، ومن فقر إلى غنى ، أو عمى إلى هدى ، فإن ذلك عليهم . فاعزلوا الناس عن الظلم والعدوان ، وخذوا على أيدي سفهائكم ، واحترسوا أن تعملوا أعمالاً لا يرضى الله بها عنا ، فيرد علينا وعليكم دعاءنا ، فإن الله تعالى يقول : قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا . فإن الله إذا مقت قوماً من السماء هلكوا في الأرض ، فلا تألوا أنفسكم خيراً ، ولا الجند حسن سيرة ، ولا الرعية معونة ، ولا دين الله قوة ، وأبلوا في سبيله ما استوجب عليكم ، فإن الله قد اصطنع عندنا وعندكم ما يجب علينا أن
--------------------------- 112 ---------------------------
نشكره بجهدنا وأن ننصره ما بلغت قوتنا . ولا قوة إلا بالله . وكتب أبوثروان .
قال : وفي كتاب عمر بن سعد أيضاً :
وكتب إلى جنوده : من عبد الله علي أمير المؤمنين . أما بعد فإن الله جعلكم في الحق جميعاً سواء ، أسودكم وأحمركم ، وجعلكم من الوالي وجعل الوالي منكم بمنزلة الوالد من الولد ، وبمنزلة الولد من الوالد الذي لايكفيهم منعه إياهم طلب عدوه والتهمة به ، ما سمعتم وأطعتم وقضيتم الذي عليكم . وإن حقكم عليه إنصافكم والتعديل بينكم والكف عن فيئكم . فإذا فعل ذلك معكم وجبت عليكم طاعته بما وافق الحق ، ونصرته على سيرته ، والدفع عن سلطان الله ، فإنكم وَزَعَة الله في الأرض ( تمنعون الناس من الظلم ) فكونوا له أعواناً ولدينه أنصاراً ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها . إن الله لا يحب المفسدين .
قبر يهودا بن يعقوب ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قال نصر : قال الأصبغ بن نباتة : ومرت جنازة على علي ( عليه السلام ) وهو بالنخيلة ،
قال : ما يقول الناس في هذا القبر ؟ وفي النخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم حوله ، فقال الحسن بن علي : يقولون هذا قبر هود النبي صلى الله عليه ، لما أن عصاه قومه جاء فمات هاهنا . قال : كذبوا ، لأنا أعلم به منهم ، هذا قبر يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، بكر يعقوب . ثم قال هاهنا أحد من مهرة ؟ قال : فأتى بشيخ كبير ، فقال : أين منزلك ؟ قال : على شاطئ البحر . قال : أين من الجبل الأحمر ؟ قال : أنا قريب منه . قال : فما يقول قومك فيه ؟ قال : يقولون : قبر ساحر . قال : كذبوا ، ذاك قبر هود ، وهذا قبر يهودا بن يعقوب بكره . ثم قال ( عليه السلام ) : يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفاً على غرة الشمس ، يدخلون الجنة بغير حساب .
واصل معاوية استعداده لحرب علي ( عليه السلام )
قال نصر : فلما بلغ معاوية بن أبي سفيان مكان علي ( عليه السلام ) بالنخيلة ومعسكره بها ومعاوية بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان وهو مخضب بالدم ، وحول المنبر
--------------------------- 113 ---------------------------
سبعون ألف شيخ يبكون حوله ، لاتجف دموعهم على عثمان ! خطب معاوية أهل الشام فقال : يا أهل الشام ، قد كنتم تكذبوني في علي ، وقد استبان لكم أمره ، والله ما قتل خليفتكم غيره ، وهو أمر بقتله وألب الناس عليه وآوى قتلته ، وهم جنده وأنصاره وأعوانه ، وقد خرج بهم قاصداً بلادكم ودياركم لإبادتكم .
يا أهل الشام ، الله الله في عثمان ، فأنا ولي عثمان وأحق من طلب بدمه ، وقد جعل الله لو لي المظلوم سلطاناً ، فانصروا خليفتكم المظلوم ، فقد صنع به القوم ما تعلمون ، قتلوه ظلماً وبغياً ، وقد أمرالله بقتال الفئة الباغية حتى تفيئ إلى أمر الله . ثم نزل . فأعطوه الطاعة ، وانقادوا له وجمع إليه أطرافه ، واستعمل على فلسطين ثلاثة رهط فجعلهم بإزاء أهل مصر ليغيروا عليهم من خلفهم ، وكتب إلى معتزلة أهل مصر ، وهم يومئذ يكاتبون معاوية ولا يطيقون مكاثرة أهل مصر ، إن تحرك قيس عامل علي على مصر أن يثبتوا له . وفيها معاوية بن خديج ، وحصين بن نمير .
وأمراء فلسطين الذين أمرهم معاوية عليها : حباب بن أسمر ، وسمير بن كعب بن أبي الحميري ، وهيلة بن سحمة . واستعمل على أهل حمص محول بن عمرو بن داعية . واستخلف على أهل دمشق عمار بن السعر . واستعمل على أهل قنسرين صيفي بن علية بن شامل .
خطبة علي ( عليه السلام ) لما أراد الحركة من النخيلة
قال نصر : عن ابن أبي الكنود قال : لما أراد على الشخوص من النخيلة قام في الناس لخمس مضين من شوال يوم الأربعاء فقال : الحمد لله غير مفقود النعم ، ولا مكافأ الإفضال ، وأشهد ألا إله إلا الله ونحن على ذلكم من الشاهدين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) .
أما بعد ذلكم فإني قد بعثت مقدماتي ، وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري ، فقد أردت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة منكم موطنين بأكناف دجلة ، فأنهضهم معكم إلى أعداء الله ، إن شاء الله ، وقد أمرت على المصر عقبة بن عمرو
--------------------------- 114 ---------------------------
الأنصاري ، ولم آلُكم ولا نفسي ، فإياكم والتخلف والتربص ، فإني قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي ، وأمرته ألا يترك متخلفاً إلا ألحقه بكم عاجلاً إن شاء الله . فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال : يا أمير المؤمنين ، والله لا يتخلف عنك إلا ظنين ، ولا يتربص بك إلا منافق . فأمر مالك بن حبيب أن يضرب أعناق المتخلفين . قال علي : قد أمرته بأمري ، وليس مقصراً في أمري إن شاء الله . وأراد قوم أن يتكلموا فدعا بدابته فجاءته ، فلما أراد أن يركب وضع رجله في الركاب وقال : بسم الله . فلما جلس على ظهرها قال : سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ . ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحيرة بعد اليقين ، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد . اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ولا يجمعهما غيرك ، لأن المستخلف لا يكون مستصحباً ، والمستصحب لا يكون مستخلفاً .
ثم خرج وأمامه الحر بن سهم بن طريف الربعي ربيعة تميم ، وهو يقول :
يا فرسي سيري وأمي الشاما * وقطعي الحزون والأعلاما
ونابذي من خالف الإماما * إني لأرجو إن لقينا العاما
جمع بني أمية الطعاما * أن نقتل العاصي والهماما
وأن نزيل من رجال هاما .
قال : وقال مالك بن حبيب وهو على شرطة علي ( عليه السلام ) وهو آخذ بعنان دابته ( عليه السلام ) : يا أمير المؤمنين ، أتخرج بالمسلمين فيصيبوا أجرالجهاد والقتال وتخلفني في حشر الرجال ؟ فقال له على : إنهم لن يصيبوا من الأجر شيئاً إلا كنت شريكهم فيه ، وأنت هاهنا أعظم غناء منك عنهم لو كنت معهم . فقال : سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين . فخرج علي ( عليه السلام ) حتى إذا جاز حد الكوفة صلى ركعتين . عن عبد الرحمن بن يزيد أن علياً ( عليه السلام ) صلى بين القنطرة والجسر ركعتين . حتى إذا قطع النهرأمرمناديه فنادى بالصلاة . قال : فتقدم فصلى ركعتين ، حتى إذا قضى الصلاة أقبل علينا فقال : يا أيها الناس ، ألا من كان مشيعاً أو مقيماً فليتم الصلاة فإنا قوم على سفر ، ومن صحبنا فلا يصم المفروض ، والصلاة ركعتان . ثم خرج حتى أتى دير أبي موسى ، وهو من
--------------------------- 115 ---------------------------
الكوفة على فرسخين ، فصلى بها العصر ، فلما انصرف من الصلاة قال : سبحان ذي الطول والنعم ، سبحان ذي القدرة والإفضال . أسأل الله الرضا بقضائه ، والعمل بطاعته ، والإنابة إلى أمره ، فإنه سميع الدعاء . ثم خرج حتى نزل على شاطئ نرس ، بين موضع حمام أبي بردة وحمام عمر ، فصلى بالناس المغرب
فلما انصرف قال :
الحمد لله الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، والحمد لله كلما وقب ليل وغسق ، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق . ثم أقام حتى صلى الغداة ، ثم شخص حتى بلغ قبة قبين ، فيها نخل طوال إلى جانب البيعة من وراء النهر ، فلما رآها قال : والنخل باسقات لها طلع نضيد . ثم أقحم دابته النهر فعبر إلى تلك البيعة فنزلها ، فمكث بها قدر الغداة .
عن ابن مخنف قال : إني لأنظر إلى أبي ، مخنف بن سليم وهو يسايرعلياً ببابل وهو يقول إن ببابل أرضاً قد خسف بها ، فحرك دابتك لعلنا أن نصلي العصرخارجاً منها . قال : فحرك دابته وحرك الناس دوابهم في أثره ، فلما جاز جسر الصراة ، نزل فصلى بالناس العصر .
عن عبد خير قال : كنت مع علي أسير في أرض بابل ، وحضرت الصلاة صلاة العصر ، قال : فجعلنا لا نأتي مكاناً إلا رأيناه أفيح من الآخر . قال : حتى أتينا على مكان أحسن ما رأينا وقد كادت الشمس أن تغيب ، فنزل عليٌّ ونزلت معه . قال : فدعا الله فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر . قال : فصلينا العصر ثم غابت الشمس ، ثم خرج حتى أتى دير كعب ، ثم خرج منها فبات بساباط ، فأتاه دهاقينها يعرضون عليه النزل والطعام ، فقال : لا ، ليس ذلك لنا عليكم . فلما أصبح وهو بمظلم ساباط قال : أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ . قال : وبلغ عمرو بن العاص مسيره فقال :
لا تحسبني يا علي غافلاً * لأوردن الكوفة القنابلا
- بجمعي العام وجمعي قابلا
--------------------------- 116 ---------------------------
فقال علي ( عليه السلام ) :
لأوردن العاصي بن العاصي * سبعين ألفاً عاقدي النواصي
مستحقبين حلق الدلاص * قد جنبوا الخيل مع القلاص - أسود غيل حين لا مناصُ
قال : وكتب ( عليه السلام ) علي إلى معاوية :
أصبحت مني يا ابن حرب جاهلاً * إن لم نرامِ منكم الكواهلا
بالحق والحق يزيل الباطلا * هذا لك العام وعام قابلا - *
--------------------------- 117 ---------------------------
الفصل الثاني والسبعون: رأس النفاق الأشعث بن قيس
كل فساد في خلافة علي وكل اضطراب أصله الأشعث !
1 . قال ابن أبي الحديد ( 2 / 280 ) : ( كل فساد كان في خلافة علي ( عليه السلام ) ، وكل اضطراب حدث ، فأصله الأشعث ) !
وقال الشيخ محمد عبده : كان الأشعث في أصحاب علي كعبد الله بن أبي سلول في أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، كلٌّ منهما رأس النفاق .
وقد اتفق الأشعث مع معاوية وأنقذه من الهزيمة في صفين ومنع الأشتر من تحقيق النصر ، ثم اشترك الأشعث مع ابن ملجم في اغتيال علي ( عليه السلام ) .
كما اشترك ابنه محمد في قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقامت بنته جعدة بِسُمِّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فجمعت أسرتهم اللؤم من أطرافه .
قال طه حسين ( علي وبنوه / 80 ) : « أسلم الأشعث أيام النبي ثم ارتد بعد وفاته ، وألب قومه حتى ورطهم في حرب المسلمين ، ثم أسلمهم إلى القتل وأسرع هو إلى المدينة تائباً » .
بل ارتد في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع الملوك لأربعة وأختهم ، ولعنهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وفي ذيل تاريخ الطبري / 44 : ( وكان اسم الأشعث : معديكرب ، وكان أبداً أشعث الرأس ، فسمي الأشعث ) .
وقال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ( 2 / 689 ) : ( قال عيينة : إن الأشعث بن قيس ارتد مرتين ، فغفروا له ذنبه وزوجه أبوبكرأخته ، ثم تلقفوه بأيديهم ) !
--------------------------- 118 ---------------------------
2 . كان الأشعث كافراً في فكره وأهدافه ، وهدفه الحقيقي إحياء ملك كندة على العرب ، وكان يؤجج الصراع بين علي ومعاوية ويعمل مرحلياً مع معاوية . ويدل على ذلك مواقفه في خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ويكفي منها قوله في لقب أمير المؤمنين : ( أمح هذا الاسم تَرَّحَهُ الله ) . ( أمالي الطوسي / 187 ) .
3 . عزل عليٌّ ( عليه السلام ) الأشعث عن رئاسة كندة وربيعة قبل سفره إلى صفين ، ونصب بدله حسان بن مخدوج . فكان قراراً هاماً في ترتيب وضع جيشه وجمهوره .
قال ابن العديم في تاريخ حلب ( 5 / 2238 ) : ( قرأت في كتاب صفين وقد سقط اسم مؤلفه ، وأظنه عن المدائني قال : لما أراد علي المسير إلى صفين بلغه عن الأشعث تثاقل عن المسير ، من غير أن يصرح وكانت له رئاسة ربيعة مع كندة ، فلما بلغ ذلك علياً ( عليه السلام ) بعث إليه فقال يا أشعث إني أترك عتابك استبقاء لما بيني وبينك ، ولست أريد أن أمشي بك القهقرى ، إنه قد بدا لي فيك رأي وستعلمه فانصرف الأشعث ، ودعا علي حسان بن مخدوج الذهلي وهو يومئذ سيد ربيعة نسكاً وفضلاً فجمع له راية كندة وربيعة ، وجعل رئاسة الأشعث له ، فتكلم في ذلك رجال من أهل اليمن ) .
قال بن الأعثم ( 3 / 68 ) : ( فغضب لذلك سادات كندة حتى كاد أن يقع بين كندة وربيعة شئ من حرب ، فقالت ربيعة لكندة : يا هؤلاء ! لاعليكم إن كان صاحبكم الأشعث بن قيس ملكاً في الجاهلية وسيداً في الإسلام ، فإن صاحبنا ليس بدونه وهو أهل لهذه الرئاسة . ثم وثب حسان بن مخدوج إلى الأشعث فقال له : يا أخي ! إن كان أمير المؤمنين عزلك عن الرئاسة فهذه راية قومي لك ، ولي راية قومك ، فقال الأشعث : معاذ الله أن أفعل ذلك ! ما كان لي فهو لك ، وما كان لك فهو لي .
قال : وبلغ معاوية أن علياً قد عزل الأشعث عن الرئاسة ، فدعا بشاعره كعب بن جعيل وقال : أحب أن يلقى إلى الأشعث بن قيس شيئاً من الشعر يهيجه على علي ، فلعله أن يفارقه ويصير إلينا ، فكتب إليه كعب بن جعيل :
من يصبح اليوم مثلوجاً بأسرته * فالله يعلم أني غير مثلوج
زالت عن الأشعث الكندي رئاسته * واستجمع الأمر حسان بن مخدوج
--------------------------- 119 ---------------------------
يا للرجال لعار ليس يغسله * ماء الفرات وكرب غير مفروج
إن ترض كندة حساناً بصاحبها * ترضى الدناة وما قحطان بالهوج
هذا لعمرك نقص ليس ينكره * أهل العراق وعار غير ممزوج
كان ابن قيس هماماً في أرومته * بدراً ينوء بملك غير مبعوج
ثم استقل بعار في ذوي يمن * والقوم أعداد يأجوج ومأجوج
إن الذين تولوا بالعراق لهم * لا يستطيعون طراً ذبح فروج
فلما انتهى هذا الشعر إلى أهل اليمن وثب شريح بن هانئ المذحجي وقال :
يا معشر اليمن ! إن معاوية يريد أن يفرق بينكم وبين إخوانكم . وربيعة لم يزالوا حلفاءكم في الجاهلية وإخوانكم في الإسلام ، فلا تلتفتوا إلى تحريض معاوية فإنه عدو الله وعدو رسوله ، ثم أنشأ يقول :
قد كمل الله للحيين نعمته * إذ قام بالأمر حسان بن مخدوج
من كان يطمع فينا أن يفرقنا * بعد الإخاء وود غيرمخدوج
فالنجم أقرب منه في تناوله * فيما أراد فلا يولع بتهييج
أمست ربيعة أولى بالذي حدثت * من كل حي بحق غير مخدوج
وكندة الخير ما زالت لنا ولهم * حتى يرى فتح يأجوج ومأجوج
قال : فلما سمع معاوية شعره أيس من الأشعث بن قيس ، ثم أمر أصحابه بالخروج إلى الحرب ) .
وقال نصر : دعا عليٌّ حسان بن مخدوج ، فجعل له تلك الرياسة ، فتكلم في ذلك أناس من أهل اليمن منهم الأشتر ، وعدي الطائي ، وزحر بن قيس ، وهانئ بن عروة ، فقاموا إلى علي فقالوا :
يا أمير المؤمنين ، إن رياسة الأشعث لا تصلح إلا لمثله ، وما حسان بن مخدوج مثل الأشعث ! فغضبت ربيعة فقال حريث بن جابر : يا هؤلاء رجل برجل ، وليس بصاحبنا عجز في شرفه وموضعه ، ونجدته وبأسه ، ولسنا ندفع فضل صاحبكم وشرفه . فقال النجاشي في ذلك :
--------------------------- 120 ---------------------------
رضينا بما يرضى عليٌّ لنا به * وإن كان فيما يأتِ جدعُ المناخرِ
وصي رسول الله من دون أهله * ووارثه بعد العموم الأكابر
رضي بابن مخدوج فقلنا الرضا به * رضاك وحسان الرضا للعشائر
وللأشعث الكندي في الناس فضله * توارثه من كابر بعد كابر
متوج آباء كرام أعزة * إذ الملك في أولاد عمرو بن عامر
فلولا أمير المؤمنين وحقه * علينا لأشجينا حريث بن جابر
فلا تطلبنا يا حريث فإننا * لقومك ردء في الأمور الغوامر
وما بابن مخدوج بن ذهل نقيصة * ولا قومنا في وائل بعوائر
وليس لنا إلا الرضا بابن حرة * أشم طويل الساعدين مهاجر
على أن في تلك النفوس حزازة * وصدعاً يؤتيه أكف الجوابر ) .
4 . كان عزل الأشعث عملية جراحية ضرورية برأي الإمام ( عليه السلام ) لأن الأشعث عدو يعمل ضده ( عليه السلام ) من داخل جيشه وأصحابه ، بمكر إبليس وخبثه ! وهو متواطئ مع معاوية ! والعجب من الأشتر وعدي وأمثالهما كيف لم ينتبهوا للأمر ، ونظروا فقط إلى كفاءة الأشعث ونفوذه الواسع على كندة ، وتخوفوا من عزله !
قال نصر : وغضب رجال اليمنية ، فأتاهم سعيد بن قيس الهمداني فقال : ما رأيت قوماً أبعد رأياً منكم ، أرأيتم إن عصيتم على علي هل لكم إلى عدوه وسيلة ؟ وهل في معاوية عوض منه أو هل لكم بالشام من بدله بالعراق ، أو تجد ربيعة ناصراً من مضر ؟ القول ما قال والرأي ما صنع . فتكلم حريث بن جابرفقال : يا هؤلاء لا تجزعوا ، فإنه إن كان الأشعث ملكاً في الجاهلية وسيداً في الإسلام ، فإن صاحبنا أهل هذه الرياسة وما هو أفضل منها . فقال حسان للأشعث : لك راية كندة ، ولي راية ربيعة . وإن حسان بن مخدوج مشى إلى الأشعث بن قيس برايته حتى ركزها في داره ، فقال الأشعث : إن هذه الراية عظمت على علي ، وهو والله أخف عليَّ من زف النعام ، ومعاذ الله أن يغيرني ذلك لكم . قال : فعرض عليه عليٌّ ( عليه السلام ) أن يعيدها عليه فأبى وقال : يا أمير المؤمنين ، إن يكن أولها شرفاً فإنه ليس آخرها بعار . فقال له علي ( عليه السلام ) : أنا أشركك فيه . فقال له
--------------------------- 121 ---------------------------
الأشعث : ذلك إليك ، فولاه على ميمنته ، وهي ميمنة أهل العراق .
أقول : كندة هي العائلة المالكة لكل العرب ، وعندهم أن من كان من أولاد حجر أو الحارث بن عمرو آكل المرار ، أهل لأن يكون ملكاً . وآكل المرار نصبه تُبَّع أبوكرب على اليمن لما قصد العراق . ( المحبر / 368 ) .
ولما ضعفت كندة في اليمن ألصق الأشعث نفسه بمن بقي من ملوكها ، وتسلق إلى الإمرة وصار رئيس كندة ، ورئيس ربيعة لتحالفهما ، ولما عزله أمير المؤمنين لم يعين بدله كندياً كحجر بن عدي مثلاً ، وعين حسان بن مخدوج رئيس ربيعة ، وبذلك ضرب رئاسة كندة من أساسها .
وقد يكون هدفه صدمة الكنديين ثم يعين حجراً رئيساً عليهم . وقد أراد ( عليه السلام ) أن يوليه رئاسة كندة ويعزل الأشعث ، وكلاهما من ولد الحارث بن عمرو آكل المرار ، فأبى حِجر أن يتولى الأمر والأشعث حيّ » . ( الأخبار الطوال / 224 ) .
وحجرٌ صحابيٌّ جليل ، كان كثير العبادة ، قال الحاكم في المستدرك ( 3 / 468 ) : « ذكر مناقب حجر بن عدي ، وهو راهب أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) » .
وكان فارساً قائداً في فتح العراق وإيران ، في معركة القادسية ، وفتح المدائن ومعركة جلولاء . وشارك في فتح الشام ، وهو الذي فتح مرج عذراء ، الذي حبسه فيه معاوية وقتله فيه ! ( المحبر / 292 والطبري : 3 / 135 ) .
وحجر أصيل في نسبه وشرفه ، وليس هجيناً كالأشعث الذي كان حائكاً يهودياً وأمه خمارة من كندة ، فألصق نفسه بهم ، كما سنوثقه .
ولم ينتنبه الأشتر ( رضي الله عنه ) إلى أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعزله الأشعث عن رئاسة كندة وربيعة حقق استقلال ربيعة عن كندة إلى آخر الدهر ، حتى لو لم تنجح عملية عزل الأشعث عن رئاسة كندة لشيطنته وتعصب الكنديين له !
5 . وصفوا الأشعث بأنه من ملوك حضرموت ، لكنه كان حائكاً وكان ملوك حضرموت أربعة لكل منهم وادٍ فيه قرى ، وجاء معهم وهو شاب وأسلموا ثم ارتدوا وارتد معهم ! وكانوا يعذبون المؤمنين ، وكانت أختهم العمردة تدوس
--------------------------- 122 ---------------------------
على رؤوس الساجدين . والعمردة : الطويلة .
وكانت أم الأشعث من بني وليعة ، وادعى أنه من ذرية آكل المرار الكندي المشهور ، فترك الحياكة وعمل للرئاسة وكان أشعث الشعر دائماً ، وكان جسيماً لأن علياً ( عليه السلام ) وصفه بالضيطر أي الرجل الضخم الفارغ . فهو من الذين قال الله :
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ .
واستطاع أن يتزوج بنت جمد ، أحد أمراء حضرموت الأربعة .
قال الطبراني في الكبير ( 1 / 236 ) : ( قال الأشعث : قلت للنبي : ولد لي من بنت جمد بن وليعة الكندي . وددت لو كان لنا به قصعة ثريد . فقال : أما إن الأولاد مبخلة مجبنة محزنة ) . وفي تاريخ دمشق ( 9 / 124 ) : ( قال رسول الله للأشعث بن قيس هل لك من بنت جمد من ولد ؟ قال : نعم لي منها غلام وددت أن لي به جفنة من طعام ، أطعمها من معي ) .
أي كان معدماً لا يملك ما يطعمه عند ولادة ابن له . وهذا يكذب ادعاءه الثروة وأنه فدى نفسه بثلاثة آلاف بعير . قال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى ، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك !
6 . في شرح النهج ( 12 / 239 ) : ( روى أبو الفرج في كتاب الأغاني عن الجاحظ قال : كان المغيرة بن شعبة والأشعث بن قيس وجرير يوماً متوافقين بالكناسة في نفر ، وطلع عليهم أعرابي فقال لهم المغيرة : دعوني أحركه ، قالوا : لا تفعل فإن للأعراب جواباً يُؤْثر ، قال : لا بد ، قالوا : فأنت أعلم ، فقال له : يا أعرابي أتعرف المغيرة بن شعبة ؟ قال : نعم أعرفه أعور زانياً ، فوجم ثم تجلد ، فقال : أتعرف الأشعث بن قيس ؟ قال : نعم ذاك رجل لا يعرى قومه ، قال : وكيف ذاك ؟ قال : لأنهم حاكة . قال : فهل تعرف جرير بن عبد الله ؟ قال : كيف لا أعرف رجلاً لولاه ما عرفت عشيرته ! فقالوا : قبحك الله فإنك شر جليس ! هل تحب أن يوقر لك بعيرك هذا مالاً وتموت أكرم العرب موتة ؟ قال : فمن يبلغه إذن أهلي ؟ فانصرفوا عنه فتركوه ) !
أقول : هذا يؤيد قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للأشعث : حائك بن حائك ! ويرد محاولة البعض تفسير الحائك في كلام علي ( عليه السلام ) بأنه يحوك الكلام وليس على الحقيقة .
--------------------------- 123 ---------------------------
7 . كان الأشعث يهودياً ألصق نفسه بعشيرة أمه كندة ، وكانت أمه خمارة ! قال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يا ابن الخمارة ( الإحتجاج : 2 / 282 ) . وكانت أخته مع العمردة . وكانت عمته يهودية . ففي سنن الدارمي ( 2 / 369 ) : ( ماتت عمة الأشعث بن قيس وهي يهودية ، فأتي عمر بن الخطاب فقال : أهل دينها يرثونها ) .
بل كان الأشعث نفسه يهودياً ، قال ابن نما في المناقب المزيدية ( 1 / 269 ) : ( وروي أن قيس بن معدي كرب أباالأشعث بن قيس كان يهودياً ) .
وقال محمد حميد الله في : الوثائق السياسية / 353 : ( فقال له الأشعث بن قيس الكندي ، وكان يهودي الأصل ) .
8 . كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعرض نفسه على قبائل العرب قبل الهجرة ، فعرض نفسه على كندة فرده بنو وليعة ! وبعد انتصاره قدم عليه بنو وليعة ملوك حضرموت : جمد ومخوس ومشرح وأبضعة ، ومعهم الأشعث فأسلموا . ثم ارتدوا قبل وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعلنوا فرحتهم بوفاته .
وفي المحبر / 187 ، وشرح النهج ( 1 / 295 ) : كان بحضرموت ست نسوة من كندة وحضرموت ، يتمنين موت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخضبن أيديهن بالحناء وضربن بالدفوف ، فخرج إليهن بغايا حضرموت ففعلن كفعلهن ، وكان اللواتي اجتمعن إلى الست النسوة نيفاً وعشرين امرأة ، فكن متفرقات في قرى حضرموت ، بتريم ومشطة والنجير وتنعة وشبوة وذمار ، منهن العمردة بنت معدي كرب ، وهنيدة بنت أبي شمر ، فهاتان من الأشراف . وممن تأشب إليهن التيحاء الحضرمية ، وهي أم سيف بن معديكرب ، وأم شراحبيل بنت عفير ، وهي جدة عبد الرحمن بن هارون من الأرحوب ، وحبرة بنت شريح من الأرحوب ، وفريضة جدة أبي الجليح من حضرموت وملكة بنت أماناة بن قيس بن الحارث بن شيبان بن العاتك من كندة ، وأسماء بنت يزيد بن قيس من بني وهب من كندة ، وملكة بنت قيس بن شراحيل ، كندية قتل أخوها يوم النجير ، وابنة الأودح بن أبي كرب كندية قتل أخوها يوم النجير ، وامرأة من تنعة شريفة ما سميت ، وهِرٌّ بنت يامين
--------------------------- 124 ---------------------------
اليهودية التي كانت يضرب بها المثل في الزنا فيقال : أزنى من هِرّ ! وكان لها أخ قين يقال له مورق . وأم معدان ) .
وروى عمر بن شبة ( تاريخ المدينة : 2 / 543 ) قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( ألا فلعن الله الملوك الأربعة : جمداً ومسرحاً ومخوساً وأبضعة ، وأختهم العمردة ، وفدوا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع الأشعث بن قيس فأسلموا ، ثم ارتدوا فقتلوا يوم النجير ، وكان لكل رجل منهم واد يملكه ، فسموا بذلك الملوك الأربعة ) .
وفي سيرة ابن هشام ( 4 / 1006 ) : ( قدم على رسول الله الأشعث في ثمانين راكباً من كندة ، فدخلوا على رسول الله مسجده ، وقد رجلوا جممهم وتكحلوا ، وعليهم جبب الحبرة ، وقد كففوها بالحرير ، فلما دخلوا على رسول الله قال : ألم تسلموا ؟ قالوا : بلى ، قال : فما بال هذا الحرير في أعناقكم ، قال : فشقوه منها ، فألقوه . ثم قال له الأشعث بن قيس : يا رسول الله نحو بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار ، قال : فتبسم رسول الله وقال : ناسِبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث ، وكان العباس وربيعة رجلين تاجرين وكانا إذا شاعا في بعض العرب ، فسئلا ممن هما ؟ قالا : نحن بنو آكل المرار يتعززان بذلك ، وذلك أن كندة كانوا ملوكاً . ثم قال لهم : لا ، بل نحن بنو النضر بن كنانة ، لانقفو أمنا ولاننتفي من أبينا .
فقال الأشعث بن قيس : هل فرغتم يا معشر كندة ؟ والله لا أسمع رجلاً يقولها إلا ضربته ثمانين . قال ابن هشام : الأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قبل النساء ، وآكل المرار : الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور مرتع بن معاوية بن كندي ، ويقال : كندة ، وإنما سمي آكل المرار لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم وكان الحارث غائباً فغنم وسبى ، وكان فيمن سبى أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني ، امرأة الحارث بن عمرو فقالت لعمرو في مسيره : لكأني برجل أدلم أسود ، كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبتك تعني الحارث ، فسمى آكل المرار والمرار شجر . ثم تبعه الحارث في بني بكر بن وائل فلحقه فقتله ، واستنقذ امرأته وما كان أصاب . فقال الحارث بن حلزة اليشكري لعمرو بن المنذر ،
--------------------------- 125 ---------------------------
وهو عمرو بن هند اللخمي :
وأقدناك رب غسان بالمنذر كرهاً إذ لا تكال الدماء
لأن الحارث الأعرج الغساني قتل المنذر أباه ، وهذا البيت في قصيدة له . ويقال : بل آكل المرار : حجر بن عمرو بن معاوية ، وإنما سمى آكل المرار ، لأنه أكل هو وأصحابه في تلك الغزوة شجراً يقال له المرار ) .
9 . وكان زياد بن لبيد البياضي والي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على حضرموت ، فقاتل بني وليعة المرتدين وهزمهم ، فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( لينتهين بني وليعة ، أوْ لأبعثن إليهم رجلاً كنفسي يقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ! قال عمر بن الخطاب : فما تمنيت الامارة إلا يومئذ ، وجعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول : هو هذا ، فأخذ بيد علي بن أبي طالب وقال : هو هذا ) . ( مجمع الزوائد : 7 / 110 ، ووثقه ، وشرح النهج : 1 / 294 )
وقاتل بنو وليعة المسلمين بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهزمهم زياد بن لبيد ولحق فَلُّهم بالأشعث فاستنصروه فقال : لا أنصركم حتى تملكوني عليكم ، فملكوه وتوجوه كما يتوج الملك من قحطان ! فخرج إلى زياد في جمع كثيف وكتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية وهو على صنعاء أن يسير بمن معه إلى زياد فلقوا الأشعث فهزموه ، ولجأ الأشعث إلى حصن النجير ، فحاصرهم المسلمون حتى ضعفوا ، ونزل الأشعث ليلاً إلى المهاجر وزياد ، فسألهما الأمان على نفسه ، حتى يقدما به على أبي بكر فيرى فيه رأيه ، على أن يفتح لهم الحصن ، ويسلم إليهم مَنْ فيه ) .
( شرح النهج : 1 / 295 والبلاذري : 1 / 120 ) .
10 . في كتاب الردة للواقدي / 76 : ( ارتد أهل حضرموت ، فخطب فيهم الأشعث وقال : ( فلتكن كلمتكم واحدة ، إن العرب لا تقر بطاعة بني تيم بن مرة ، وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلى غيرها ، ونحن له أحرى وأصلح من غيرنا ، لأنا الملوك وأبناء الملوك ، من قبل أن يكون على وجه الأرض قرشي ، ولا أبطحي ، ثم أنشأ الأشعث يقول :
لعمري لئن كانت قريش تتابعت * على بيعة بعد الرسول وسمحوا
--------------------------- 126 ---------------------------
بها لبني تيم بن مرة جهرة * وسموا عتيقاً عند ذاك وصرحوا
أميراً ونحوا عنه آل محمد * وكانوا بها أولى هناك وأصلح
وإن صلحت في تيم مرة إمرةٌ * ففي كندة الأملاك أحرى وأصلح
لأنا ملوك الناس من قبل أن * يرى على الأرض تيمي ولا متبطح
فمن مبلغٌ عني عتيقا بأنه * أنا الأشعث الكندي بذاك مصرح
إذا ما غضبنا مادت الأرض وانكفت * فإن رضينا الأرض لا تتزحزح
فأقبل إليه رجل ، من سادات القوم يقال له : الحارث بن معاوية ، فقال له : يا زياد ، إنك لتدعو إلى الطاعة لرجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد ، فقال له زياد بن لبيد : صدقت , فإنه لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد ، ولكن اخترناه لهذا الأمر فقال له الحارث : أخبرني فلم نحيتم عنها أهل بيته وهم أحق الناس بها ، لأن الله عز وجل يقول : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ! فقال له زياد بن لبيد : إن المهاجرين الأنصار أنظر لأنفسهم منك ، فقال له الحارث بن معاوية : لا والله ، ما أزلتموها عن أهلها إلا حسداً منكم لهم ، وما يستقر في قلبي أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خرج من الدنيا ولم ينصب للناس علماً يتبعونه فارحل عنا أيها الرجل ، فإنك تدعو إلى غير رضا ! ثم أنشأ الحارث يقول :
كان الرسول هو المطاع فقد مضى * صلى عليه الله لم يستخلف
هذا مقالك يا زياد فقد أرى * أن قد أتيت بقول سوء مخلف
ومقالنا أن النبي محمداً * صلى عليه الله غير مكلف
ترك الخلافة بعده لولاته * ودعا زياد لامرئ لم يعرف
إن كان لابن أبي قحافة إمرة * فلقد أتى في أمره بتعسف
أم كيف سلمت الخلافة * هاشم لعتيق تيم كيف ما لم تأنف
قال : فوثب عرفجة بن عبد الله الذهلي فقال : صدق والله الحارث بن معاوية أخرجوا هذا الرجل عنكم فما صاحبه بأهل للخلافة ، ولايستحقها بوجه من الوجوه ،
وما المهاجرون والأنصار بأنظر لهذه الأمة من نبيها . ثم أنشأ :
--------------------------- 127 ---------------------------
لعمري وما عمري علي بهين * لقد قال حقاً حارث بن معاوية
أيملك عبد ربه إن دهرنا * ليطرقنا في كل حين بداهيه
فمن مبلغ عنا عتيقاً رسالة * لبست لباس الظالمين علانيه
لحا الله من أعطاك طاعة بيعةٍ * مقراً ولا أبقى له الدهر باقيه
أتملكها دون القرابة ظالماً * لك الذبح ذرها إنما هي عارية
قال : ثم وثب رجل من كندة يقال له : عدي بن عوف فقال : يا قوم لا تسمعوا كلام عرفجة بن عبد الله ولا تطيعوا أمره ، فإنه يدعوكم إلى الكفر ويصدكم عن الحق ، إقبلوا من زياد بن لبيد ما يدعوكم إليه ، وارضوا بما رضي به المهاجرون والأنصار ، فإنهم أنظر لأنفسهم منكم ، ثم أنشأ يقول :
يا قوم إني ناصح لا ترجعوا * في الكفر واتبعوا مقال الناصح
لا ترجعوا عن دينكم في ردة * بغياً فإن البغي أمر فاضح
لا يأخذنكم لقول عزةٌ * حتى يخالفكم عدو كاشح
إني لأرهب بعد هذا إن تكن * حرب زبون للكباش تناطح
لا بل أخاف عليكم مثل الذي * لاقت ثمود قبل ذاك وصالح
قال : فوثب إليه نفر ، من بني عمه فضربوه حتى أدموه وشتموه أقبح شتم ثم وثبوا إلى زياد وأخرجوه من ديارهم وهموا بقتله ، قال : فجعل زياد لا يأتي قبيلة من قبائل كندة فيدعوهم إلى الطاعة إلا ردوا عليه ما يكره ، فلما رأى ذلك سار إلى المدينة ، إلى أبي بكر فخبره بما كان م ن القوم ، وأعلمه أن قبائل كندة قد عزمت على الإرتداد والعصيان .
فاغتم أبو بكر لذلك غماً شديداً ، ثم جمع جيشاً فضمهم إلى زياد بن لبيد ، وأمره بالمسير إلى القوم فسار زياد ، من المدينة في أربعة ألاف من المهاجرين والأنصار يريد حضرموت . واتصل الخبر بقبائل كندة ، فكأنهم ندموا على ما كان منهم ثم قال رجل من أبناء ملوكهم يقال له : أبضعة بن مالك : يا معشر كندة ، إنا قد أضرمنا على أنفسنا ناراً لا أظن أنها تطفأ أو تحرق منا بشراً كثيراً ، والرأي عندي
--------------------------- 128 ---------------------------
أن نتدارك ما فعلنا ونسكن هذه الثائرة التي ثارت ، ونكتب إلى أبي بكر ونعلمه بطاعتنا ، وأن نؤدي إليه زكاة أموالنا طائعين غير مكرهين ، وإنا قد رضينا به خليفةً وإماماً .
قال : فاتصل الخبر بزياد بن لبيد ومن معه من المسلمين بأن الأشعث بن قيس قد ندم على ما كان منه ، فجزوه خيراً . فأرسل الأشعث إلى زياد أن يعطيه الأمان ولأهل بيته ولعشرة من وجوه أصحابه فأجابه زياد ، إلى ذلك وكتب بينهم الكتاب ، فظن أهل الحصن أن الأشعث قد أخذ لهم الأمان بأجمعهم فسكتوا ولم يقولوا شيئاً ، واتصل الخبر بعكرمة فقال للذين يقاتلونه : يا هؤلاء ، على ماذا تقاتلون ؟ إن صاحبكم قد طلب الأمان ، وهذا كتاب زياد بن لبيد إلي يخبرني بذلك ورمى الكتاب إليهم ، فلما قرأوه قالوا : يا هذا ننصرف ، فلا حاجة لنا في قتالك بعد هذا . ثم انصرف القوم عن محاربة عكرمة ، وهم في ذلك يسبون الأشعث ويلعنونه !
ثم جمع زياد بن لبيد من بقي من بقايا ملوك كندة ، وهم ثمانون رجلاً ، فصفدهم في الحديد ، ووجه بهم إلى أبي بكر .
أقول : فقد فهم الكنديون وهم القبيلة الحاكمة في العرب أن قريشاً حسدت بني هاشم وعزلتهم ، وأخذت منهم الخلافة ، وأنه يستحيل أن يترك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمته بدون أن ينصب لها خليفة ! فكان موقفهم شيعياً لكنهم لم يكونوا شيعة ، ولم يتصلوا بعلي وبني هاشم ، فهزموا زياداً بالمنطق وطردوه من جنوب اليمن .
وقاد الأشعث المرتدين يريد الخلافة لأن كندة أولى من أبي بكر بن تيم بن مرة ، وغيره من قريش ! ولما جاء زياد بجيش ضَعُفَ الكنديون أمام قوات المسلمين التي أتت من المدينة وصنعاء ، فاشتبكوا معهم قليلاً ثم استسلموا !
وهنا برز دور الأشعث فنصب نفسه مفاوضاً عن كندة ، وأخذ يخطط لقطف الثمر ، فاقترح على لبيد أن يرسله إلى أبي بكر ، ووضع خطته لذلك ونجح فيها .
11 . بعثوه مقيداً إلى أبي بكر ، فاستعمل دهاءه لما عرف أن لأبي بكر أخت عمياء فقرر أن يخطبها ويصير صهره ، فيفتخر آل أبي بكر بأن صهرهم من ملوك كندة ، ويفتخر هو بأنه صهر خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
--------------------------- 129 ---------------------------
قال الطبري ( 2 / 548 ) : ( عن عبد الله بن أبي بكر أن الأشعث لما قُدم به على أبي بكر قال : ماذا تراني أصنع بك فإنك قد فعلت ما علمت ؟ قال : تمنُّ عليَّ يا خليفة رسول الله فتفكني من الحديد وتزوجني أختك ، فإني قد راجعت وأسلمت . فقال أبو بكر : قد فعلت . فزوجه أم فروة فكان بالمدينة ) .
وقال ابن الجوزي كانت عمياء ، وقيل كانت عوراء ، لكن المهم عند الأشعث مصاهرة الخليفة على أي امرأة ! وقد فرح بذلك وأقام وليمة واسعة في المدينة !
وفي شرح النهج ( 1 / 296 ) : ( وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة وكانت عمياء ، فولدت للأشعث محمداً وإسماعيل وإسحاق . وخرج الأشعث يوم البناء عليها إلى سوق المدينة ، فما مر بذات أربع إلا عقرها ، وقال للناس : هذه وليمة البناء ، وثمن كل عقيرة في مالي . فدفع أثمانها إلى أربابها ) .
واستطاع الأشعث يومها بدهائه أن يسكت عمر بن الخطاب !
فقد قال الواقدي في كتاب الردة / 97 : ( فوثب عمر بن الخطاب فقال : يا خليفة رسول الله هذا الأشعث بن قيس قد كان مسلماً وآمن بالنبي وقرأ القرآن وحجالبيت الحرام ، ثم إنه رجع عن دينه وغير وبدل ومنع الزكاة ، وقد قال النبي : من بدل دينه فاقتلوه ، وقد وسع الله عليك فيه فاقتله فدمه حلال . فقال الأشعث : يا خليفة رسول الله إني ماغيرت ولابدلت ولا شححت على مال ، ولكن عاملك زياداً جارعلى قومي فقتل منهم من لاذنب له فأنفت لذلك وانتصرت لقومي فقاتلته ، وقد كان مني ما قد كان فإني أفدي نفسي وهؤلاء الملوك وأطلق كل أسير في بلاد اليمن وأكون عوناً لك وناصراً ما بقيت ، على أنك تزوجني أم فروة بنت أبي قحافة فإني لك نعم الصهر ، فهذا خير مما يقول عمر بن الخطاب .
قال : فأطرق أبو بكر ثم رفع رأسه وقال : إني قد فعلت . قال : ثم أطلقه أبو بكر من حديده ، وأطلق من كان معه من ملوك كندة ، ثم أمره فجلس ، وزوجه أبو بكر أخته أم فروة بنت أبي قحافة وأحسن إليه غاية الإحسان ، وكان الأشعث
--------------------------- 130 ---------------------------
بن قيس عند أبي بكر بأفضل المنازل وأرفعها !
ويقال إن أم فروة بنت أبي قحافة ولدت من الأشعث محمد بن الأشعث ، وإسحاق بن الأشعث ، وإسماعيل ) .
وروى الطبري الشيعي في المسترشد / 247 ، أن عمر بن الخطاب شكى لأبي موسى والمغيرة بن شعبة ظلم أبي بكر له في السقيفة لأنه تعارف معه فقال له مد يدك نبايعك ، فمدها ولم يردها عليه ! قال : ( لما قدم عليه الأشعث بن قيس أسيراً فمنَّ عليه وزوجه أخته ، قلت للأشعث وهو بين يديه : أبعد إسلامك ارتددت كافراً ! فنظر إليَّ الأشعث نظراً حديداً علمت أنه يريد كلاماً ثم أمسك ، فلقيني بعد ذلك في سكة من سكك المدينة فقال : أنت صاحب الكلمة يومئذ يا ابن الخطاب ؟ فقلت : نعم ولك عندي شرمن ذلك ! فقال : بئس الجزاء هذا لي منك ! فقلت : وعلى ما تريد مني حسن الجزاء ؟ فقال : أما تأنف من اتباع هذا الرجل يعني أبا بكر ، وما حداني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك ، ولو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافاً ! فقلت : قد كان ذلك فما تأمرني الآن ؟ قال : هذا وقت صبر حتى يفرج الله ، ويأتي بمخرج ، فمضى ومضيت !
ولقي الأشعث الزبرقان بن بدر السعدي فذكر له ما جرى بيني وبينه من الكلام فنقل ذلك الزبرقان إلى أبي بكر فأرسل إلي فأتيته فذكر ذلك لي ثم قال : إنك لمتشوف إليها يا ابن الخطاب ؟ فقلت : وما يمنعني التشوف إلى ما كنت أحق به ممن غلبني عليه ! أما والله لتكفن أو لأقولن كلمة بالغة بي وبك في الناس ما بلغت ، وإن شئت لتستديمن ما أنت فيه عفواً ما أمكنك ذلك ، قال : إذاً أستديمه وهي صائرة إليك إلى أيام فما ظننته تأتي عليه جمعة بعد ذلك القول حتى يردها إلي ، فوالله ما ذكر لي منها حرفاً بعد ذلك . ولقد مد في أمدها عاضاً على نواجذه حتى كان عند يأسه منها وحضره الموت فكان ما رأيتما ، ثم قال : إحفظا ما قلت لكما وليكن منكما بحيث أمرتكما . قوما إذا شئتما على بركة الله وفي حفظه ، فنهضنا وما خرج ذلك الخبر من واحد منا حتى مات عمر !
فقد عرف الأشعث العلاقة بين عمر وأبي بكر فنافق لعمر فهو أدهى من إبليس !
وروى البلاذري ( 1 / 123 ) أن أبا بكر ندم على تزويجه الأشعث بأخته وقال :
--------------------------- 131 ---------------------------
( وددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس ضربت عنقه ، فإنه تخيل إلي أنه لا يرى شراً إلا سعى فيه وأعان عليه ) .
لكنه صار صهر الخليفة ومستشاره ، وأطلقت يده في إفساد المسلمين ، وأول مكسب له أنه صار رئيس كندة العام ! ولا نعرف السبب في ارتداده في حياة أبي بكر ، والتحاقه بسجاح المتنبئة ، ثم كيف عاد إلى الإسلام ، وقبله عمر وجعله والياً ! فقد قال اليعقوبي ( 2 / 128 ) : وكان الأشعث بن قيس مؤذنها ، أي سجاح ! ويحتمل بعيداً أن يكون أشعثاً آخر !
من مواقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من الأشعث
12 . لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) كلمات قاصعة في ذم الأشعث وتحقيره ، فقد أراد أن تبتعد عنه كندة واليمانيون وربيعة ، ليجعل رئاستهم لحجر بن عدي رضوان الله عليه ، لكن الأشعث كان داهية ، واستمر في إثارة العصبية اليمانية ، للسيطرة على كندة واليمانيين وربيعة ، وهم ثقل مهم في العرب !
وقد وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جريراً وأستاذه الأشعث بقوله : « أما هذا الأعور يعني الأشعث فإن الله لم يرفع شرفاً إلا حسده ، ولا أظهرفضلاً إلا عابه ،
وهو يُمني نفسه ويخدعها ، يخاف ويرجو ، فهو بينهما لا يثق بواحد منهما . وقد من الله عليه بأن جعله جباناً ، ولو كان شجاعاً لقتله الحق !
وأما هذا الأكثف عند الجاهلية ، يعني جرير بن عبد الله البجلي ، فهو يرى كل أحد دونه ، ويستصغر كل أحد ويحتقره ، قد ملئ ناراً ، وهو مع ذلك يطلب رئاسة ويروم إمارة ، وهذا الأعور يغويه ويطغيه . إن حدثه كذبه ، وإن قام دونه نكص عنه ، فهما كالشيطان إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ » . ( شرح النهج : 20 / 286 ) .
ومعنى الأكثف عند الجاهلية : الثقيل التصرف عندما تثور جاهليته . والرجل الكثيف : الثقيل الغليظ المعاشرة ، لشدة أنانيته .
--------------------------- 132 ---------------------------
13 . قال ابن مزاحم في كتاب صفين / 20 : ( لما بويع عليٌّ وكتب إلى العمال ، كتب إلى الأشعث بن قيس مع زياد بن مرحب الهمداني ، والأشعث على أذربيجان عامل لعثمان ، وقد كان عمرو بن عثمان تزوج ابنة الأشعث بن قيس قبل ذلك ، فكتب إليه على : ( أما بعد ، فلولا هنات كن فيك كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس ، ولعل أمرك يحمل بعضه بعضاً إن اتقيت الله . ثم إنه كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك ، وكان طلحة والزبير ممن بايعاني ثم نقضا بيعتي على غير حدث ، وأخرجا أم المؤمنين وسارا إلى البصرة ، فسرت إليهما فالتقينا ، فدعوتهم إلى أن يرجعوا فيما خرجوا منه فأبوا ، فأبلغت في الدعاء وأحسنت في البقية . وإن عملك ليس لك بطعمة ولكنه أمانة ، وفي يديك مال من مال الله ، وأنت من خزان الله عليه حتى تسلمه إلي ، ولعلي ألا أكون شر ولاتك لك إن استقمت . ولا قوة إلا بالله .
فلما قرأ الكتاب قام زياد بن مرحب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إن من سمع بأمر عثمان ليس كمن عاينه . إن الناس بايعوا علياً راضين به ، وإن طلحة والزبير نقضا بيعته على غير حدث ، ثم أذنا بحرب فأخرجا أم المؤمنين ، فسار إليهما فلم يقاتلهم وفي نفسه منهم حاجة ، فأورثه الله الأرض وجعل له عاقبة المتقين .
ثم قام الأشعث بن قيس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إن أمير المؤمنين عثمان ولاني أذربيجان فهلك وهي في يدي ، وقد بايع الناس علياً ، وطاعتنا له كطاعة من كان قبله . وقد كان من أمره وأمر طلحة والزبير ما قد بلغكم . وعليٌّ المأمون على ما غاب عنا وعنكم من ذلك الأمر .
فلما أتى منزله دعا أصحابه فقال : إن كتاب عليٍّ قد أوحشني ، وهو آخذي بمال أذربيجان وأنا لاحق بمعاوية ! فقال القوم : الموت خير لك من ذلك ! أتدع مصرك وجماعة قومك وتكون ذنَباً لأهل الشام ! فاستحيا فسار حتى قدم على علي . فقال السكوني له وقد خاف أن يلحق بمعاوية :
إني أعيذك بالذي هو مالك * بمعاذة الآباء والأجداد
مما يظن بك الرجال ، وإنما * ساموك خطة معشر أوغاد
--------------------------- 133 ---------------------------
إن آذربيجان التي مزقتها * ليست لجدك فاشنها ببلاد
كانت بلاد خليفة ولاكها * وقضاء ربك رائح أو غاد
فدع البلاد فليس فيها مطمع * ضربت عليك الأرض بالأسداد
فادفع بمالك دون نفسك إننا * فادوك بالأموال والأولاد
أنت الذي تثنى الخناصر دونه * وبكبش كندة يستهل الوادي
ومعصب بالتاج مفرق رأسه * ملك لعمرك راسخ الأوتاد
وأطع زيادا إنه لك ناصح * لا شك في قول النصيح زياد
وانظر علياً إنه لك جنة * ترشد ويهدك للسعادة هاد
ومما كُتب إلى الأشعث :
أبلغ الأشعث المعصب بالتاج * غلاماً حتى علاه القتير
يا ابن آل المرار من قبل الأم * وقيس أبوه غيث مطير
قد يصيب الضعيف ما أمر * الله ويخطئ المدرب النحرير
قد أتى قبلك الرسول جريراً * فتلقاه بالسرور جرير
وله الفضل في الجهاد وفي * الهجرة والدين كل ذاك كثير
إن يكن حظك الذي أنت فيه * فحقير من الحظوظ صغير
يا ابن ذي التاج والمبجل من * كندة ، ترضى بأن يقال أمير
أذربيجان حسرة فذرنها * وابغين الذي إليه تصير
واقبل اليوم ما يقول علي * ليس فيما يقوله تخيير
واقبل البيعة التي ليس للناس * سواها من أمرهم قطمير
عمرك اليوم قد تركت عليا * هل له في الذي كرهت نظير
ومما قيل على لسان الأشعث :
أتانا الرسول رسول عليٍّ * فسر بمقدمه المسلمونا
رسول الوصي وصي النبي * له الفضل والسبق في المؤمنينا
بما نصح الله والمصطفى * رسول الإله النبي الأمينا
يجاهد في الله لا ينثني * جميع الطغاة مع الجاحدينا
--------------------------- 134 ---------------------------
وزير النبي وذو صهره * وسيف المنية في الظالمينا
وكم بطل ماجد قد أذاق * منية حتف ، من الكافرينا
وكم فارس كان سال النزال * فآب إلى النار في الآئبينا
فذاك علي إمام الهدى * وغيث البرية والمقحمينا
وكان إذا ما دعا للنزال * كليث عرين يزين العرينا
أجاب السؤال بنصح ونصر * وخالص ود على العالمينا
فما زال ذلك من شأنه * ففاز وربى مع الفائزينا
وفي الإمامة والسياسة ( 1 / 84 ) : ( ذكروا أن جريراً كتب إلى الأشعث : أما بعد فإنه أتتني بيعة علي فقبلتها ولم أجد إلى دفعها سبيلاً ، وإني نظرت فيما غاب عني من أمر عثمان فلم أجده يلزمني ، وقد شهده المهاجرون والأنصار ، فكان أوثق أمرهم فيه الوقوف ، فاقبل بيعته ، فإنك لا تلتفت إلى خير منه . واعلم أن بيعة علي خير من مصارع أهل البصرة ، وقد تُحلب الناقة الضجور ، ويُجلس العود على البعير الدبر . فانظر لنفسك . والسلام ) .
أقول : تدل رسالة جرير البجلي إلى الأشعث على علاقة وطيدة بينهما ، وتشير إلى أنه يجمعهم تكبر الجاهلية وبغض علي ( عليه السلام ) ، فنصحه ببيعة علي ( عليه السلام ) لأنها خير من مصارع أهل البصرة ، أي طلحة والزبير ! وضرب له مثل الناقة الضجور والبعير الدبر ، يقصد أن الإنسان قد يتحمل على مضض ، فتحمل بيعة علي ( عليه السلام ) !
قال البلاذري ( 2 / 297 ) : ( فقدم الكوفة من حلوان ، فحاسبه على مالها ومال آذربيجان ، فغضب الأشعث وكاتب معاوية ) .
وقال البلاذري ( 2 / 159 ) : ( كتب ( علي ( عليه السلام ) ) إلى الأشعث : إنما غرك من نفسك إملاء الله لك ، فما زلت تأكل رزقه وتستمتع بنعمته وتذهب طيباتك في أيام حياتك ، فأقبل واحمل ما قبلك من الفئ ولا تجعل على نفسك سبيلاً ) .
14 . قال القاضي المغربي ( دعائم الإسلام : 1 / 396 ) : ( وكان أصاب مائة ألف درهم ، فأمره عليٌّ بإحضارها فدافعه وقال : يا أمير المؤمنين لم أصبها في عملك . قال : والله لئن أنت لم تحضرها بيت مال المسلمين ، لأضربنك بسيفي هذا أصاب منك ما أصاب ! فأحضرها
--------------------------- 135 ---------------------------
وأخذها منه وصيرها في بيت مال المسلمين ، وتتبع عمال عثمان ، فأخذ منهم كل ما أصابه قائماً في أيديهم ، وضمَّنهم ما أتلفوا )
15 . وكان الأشعث خبيثاً يطرح على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المسجد قضايا ليثير عليه الناس ! روى في الإحتجاج ( 1 / 280 ) عن الكاظم ( عليه السلام ) ، قال : ( خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطبة بالكوفة فلما كان في آخر كلامه قال : ألا وإني لأولى الناس بالناس ، وما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقام إليه أشعث بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلا وقلت : والله إني لأولى الناس بالناس فما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله ولما ولي تيم وعدي ألا ضربت بسيفك دون ظلامتك ؟
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا ابن الخمارة قد قلت قولاً فاسمع مني : والله ما منعني من ذلك إلا عهد أخي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبرَني وقال لي : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك وتنقض عهدي ، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى . فقلت يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان ذلك كذلك ؟ فقال : إن وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك واحقن دمك ، حتى تلحق بي مظلوماً .
فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه ، ثم آليت يميناً أني لا أرتدي إلا للصلاة ، حتى أجمع القرآن ففعلت ، ثم أخذته وجئت به فأعرضته عليهم قالوا : لا حاجة لنا به ، ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين ، ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة ، فأنشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط : سلمان ، وعمار والمقداد ، وأبو ذر ، وذهب من كنت أعتضد بهم على دين الله من أهل بيتي ، وبقيت بين حفيرين قريبي العهد بجاهلية : عقيل والعباس .
فقال له الأشعث : كذلك كان عثمان لما لم يجد أعواناً كف يده حتى قتل . فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا ابن الخمارة ليس كما قِست ، إن عثمان جلس في غير مجلسه وارتدى بغير ردائه ، صارع الحق فصرعه الحق ، والذي بعث محمداً بالحق لو
--------------------------- 136 ---------------------------
وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهط لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري . ثم قال : أيها الناس ، إن الأشعث لايزن عند الله جناح بعوضة ، وإنه أقل في دين الله من عفطة عنز ) !
16 . جاء الأشعث إلى صلاة الجمعة في مسجد الكوفة ، وأخذ يتخطى رقاب الناس ، حتى وصل إلى قرب المنبر فرأى الفرس حول المنبرفقال : ( يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحَمْراء على قربك ، يعني العجم ، فركض المنبر برجله حتى قال صعصعة بن صوحان : ما لنا وللأشعث ! ليقولن أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر !
فقال ( عليه السلام ) : من عذيري من هؤلاء الضياطرة ، يتمرغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار ، ويهجر قوماً للذكر ! أفتأمرني أن أطردهم ! ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين . أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : ليضربنكم على الدين عوداً ، كما ضربتموهم عليه بدءاً ) .
( شرح النهج : 20 / 284 ، ومسند أبي يعلى : 1 / 322 ، وكتاب الأم للشافعي : 7 / 176 ، وأمالي المحاملي / 200 ، والغارات للثقفي : 2 / 498 ، ونهج السعادة : 2 / 703 ، ولسان العرب : 4 / 549 ) . والضيطر والضيطار والضوطر والضوطرى : الرجل الضخم الذي لا غناء عنده . ( الصحاح ( 2 / 721 ) . والحديث صحيح عند الجميع ، وهو نص على نصرة الفرس للإمام المهدي ( عليه السلام ) وقتالهم معه من خالفه من العرب .
17 . وكان الأشعث سيئ الخلق عنيفاً ! فعن موسى بن أبي النعمان قال : جاء إلى علي ( عليه السلام ) يستأذن عليه فرده قنبر ، فأدمى الأشعث أنفه . فخرج عليٌّ وهو يقول : مالي ولك يا أشعث ! أما والله لو بعبد ثقيف تمرست لاقشعرت شعيراتك ! قيل يا أمير المؤمنين ومن غلام ثقيف ؟ قال : غلام يليهم لا يبقى أهل بيت من العرب إلا أدخلهم ذلاً . قيل : يا أمير المؤمنين كم يلي وكم يمكث ؟ قال : عشرين إن بلغها ) .
( مقاتل الطالبيين / 20 ) .
18 . وكان الأشعث مع خبثه وأذاه لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتزلف اليه بالهدايا ! قال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 218 ) : ( والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً ، وأجر في الأغلال مصفداً ، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، وغاصباً
--------------------------- 137 ---------------------------
لشئ من الحطام . وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ، ويطول في الثرى حلولها ! والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق ، حتى استماحني من بركم صاعاً ، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبرالألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم ، وعاودني مؤكداً وكرر علي القول مردداً ، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقي ، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها ، وكاد أن يحترق من ميسمها ، فقلت له ثكلتك الثواكل يا عقيل ، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه ! أتئن من الأذى ، ولا أئن من لظى !
وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ، ومعجونة شنئتها ، كأنما عُجنت بريق حيةٍ أو قَيْئها ! فقلت أصلةٌ أم زكاةٌ أم صدقة ، فذلك محرم علينا أهل البيت ؟ فقال : لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية . فقلت هبلتك الهبول ، أعن دين الله أتيتني لتخدعني ، أمختبطٌ أنت أم ذو جنة أم تهجر . والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ! ما لعليٍّ ولنعيمٍ يفنى ولذة لا تبقى . نعوذ بالله من سُبات العقل وقبح الزلل ، وبه نستعين ) .
الملفوفة في وعائها : طبق حلواء أهداه له الأشعث وتأنق فيه ، ليعينه والياً على منطقة . وكان الإمام ( عليه السلام ) يعرف غرضه فرد هديته مع أنه : ( قبل هدايا جماعة من أصحابه ، ودعاه بعض من كان يأنس إليه إلى حلواء عملها يوم نوروز فأكل وقال : لم عملت هذا ؟ فقال لأنه يوم نوروز ، فضحك وقال : نورزوا لنا في كل يوم إن استطعتم . ( شرح النهج : 11 / 128 وتاريخ بغداد : 13 / 327 ) .
ومعنى هبلتك الهبول : ثكلتك أمك . والهبول : الأم التي اعتادت ثكل الولد . والمختبط : المصروع . وذو الجنة : من به مس من الشيطان . والذي يهجر : الذي يهذي في مرض غير الصرع . وجُلب الشعيرة : قشرها .
وقال ابن ميثم في شرح النهج ( 4 / 84 ) : ( السعدان : نبت شوكي ذو حسك ،
--------------------------- 138 ---------------------------
لها ثلاث أرؤس محددة ، على أي وجه وقعت من الأرض كان لها رأسان قائمان . والمصفّد : الموثوق شُدَّ بغِلٍّ أو قيد ونحوهما . والقفول : الرجوع من السفر . والإملاق : الافتقار . والإستماحة : طلب المنح وهو العطاء . والعِظْلِم : نبت النيل يصبغ به . والدنف : شدة المرض . وسجَّرها : أوقدها وأحماها . وشنئتها : أبغضتها ) .
19 . استشهده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على حديث الغديرفلم يشهد فدعا عليه ! ( عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : خطبنا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إن قدام منبركم هذا أربعة رهط من أصحاب محمد ( ( عليهما السلام ) ) منهم أنس بن مالك ، والبراء بن عازب ، والأشعث بن قيس ، وخالد بن يزيد البجلي ، ثم أقبل على أنس فقال : يا أنس إن كنت سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ثم لم تشهد لي اليوم بالولاية ، فلا أماتك الله حتى يبتليك ببرص لا تغطيه العمامة !
وأما أنت يا أشعث فإن كنت سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ثم لم تشهد لي اليوم بالولاية ، فلا أماتك الله حتى يذهب بكريمتيك !
وأما أنت يا خالد بن يزيد فإن كنت سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، ثم لم تشهد لي اليوم بالولاية ، فلا أماتك الله إلا ميتة جاهلية !
وأما أنت يا براء بن عازب فإن كنت سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ثم لم تشهد لي اليوم بالولاية ، فلا أماتك الله إلا حيث هاجرت منه !
قال : جابر بن عبد الله الأنصاري : والله لقد رأيت أنس بن مالك وقد ابتلي ببرص يغطيه بالعمامة فما تستره ! ولقد رأيت الأشعث بن قيس وقد ذهبت كريمتاه وهو يقول : الحمد الله الذي جعل دعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علي بالعمى في الدنيا ، ولم يدع علي بالعذاب في الآخرة فأعذب ! وأما خالد بن يزيد فإنه مات فأراد أهله أن يدفنوه وحفر له في منزله فدفن ، فسمعت بذلك كندة فجاءت بالخيل والإبل فعقرتها على باب منزله ، فمات ميتة جاهلية ! وأما البراء بن عازب فإنه ولاه معاوية اليمن
--------------------------- 139 ---------------------------
فمات بها ، ومنها كان هاجر ! ) . ( الخصال / 219 ) .
20 . ثبت عندنا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعن الملوك الأربعة وأختهم العمردة ، لما ارتدوا والأشعث معهم . ففي الكافي ( 5 / 569 ) : ( عن سدير قال : قال لي أبو جعفر ( الباقر ) ( عليه السلام ) : يا سدير بلغني عن نساء أهل الكوفة جمال وحسن تبعل فابتغ لي امرأة ذات جمال في موضع ، فقلت : قد أصبتها جعلت فداك ، فلانة بنت فلان بن محمد بن الأشعث بن قيس . فقال لي : يا سدير إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعن قوماً فجرت اللعنة في أعقابهم إلى يوم القيامة ، وأنا أكره أن يصيب جسدي جسد أحد من أهل النار ) !
وفي رجال الكشي ( 2 / 712 ) : ( عن بعض أصحابنا أن رجلين من ولد الأشعث استأذنا على أبي عبد الله ( عليه السلام ) فلم يأذن لهما ، فقلت : إن لهما ميلاً ومودة لكم ، فقال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعن أقواماً ، فجرى اللعن فيهم وفي أعقابهم إلى يوم القيامة ) !
أقول : معنى اللعن : الطرد من رحمة الله تعالى ، والملعون على لسان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد يكون بشخصه فقط ، وقد يشمل كل ذريته ، فلا يولد منه إلا ملعون . ولعنةُ الأشعث كلعنة ( ( عليهما السلام ) ) الحكَم تشمل ولدهما .
قال البخاري في صحيحه ( 6 / 42 ) : ( كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً ! فقال : خذوه ! فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه : وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي . . فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذري ) .
وقال ابن حجر ( 8 / 442 ) : ( قال بعض الشراح : وقد اختصره فأفسده ! والذي في رواية الإسماعيلي فقال عبد الرحمن : سنَّةُ هرقلَ وقيصر ! فدخل بيت عائشة فلم يقدروا : أي امتنعوا من الدخول خلفه إعظاماً لعائشة . في رواية أبي يعلى : فقال مروان : أسكتْ ، ألستَ الذي قال الله فيه فذكر الآية ، فقالت عائشة : ولكن رسول الله لعن أبامروان ومروان في صلبه ) !
--------------------------- 140 ---------------------------
وفي الصحيح عندهم : فقالت عائشة : ( ولكن رسول الله لعن أبامروان ومروان في صلبه ، فمروان فَضَضٌ ( قطعة ) من لعنة الله عز وجل ) . ( الحاكم : 4 / 481 ، وصححه بشرط الشيخين ، والنسائي : 6 / 459 ، وفتح الباري : 8 / 443 ، وعمدة القاري : 19 / 169 ) .
21 . روي أن الأشعث زوج أخته قتيلة للنبي ( ( عليهما السلام ) ) ، وفي سير الذهبي ( 2 / 260 ) توفي النبي قبل أن تقدم عليه . ويقال : إنها ارتدت ) . وقال ابن حجر في الإصابة ( 8 / 292 ) : ( ومات قبل أن يخيرها ، وهذا موصول قوي الإسناد ) .
( فتوفي عنها قبل أن يدخل بها ، فارتدت عن الإسلام مع أخيها ) ( الطبري : 2 / 417 ) .
أقول : قتيلة هذه من مجموعة العمردة ، وقد عرضها الأشعث على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليتقرب به ، وقد يكون قبلها لأنه يعلم أنه زواج لا يتم . وأختها فاطمة بنت قيس الصحابية المحترمة عند البخاري ومسلم ! لكنها من نوع أختها وأخيها !
22 . ومع شدة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع الأشعث فقد كان يجامله كرئيس كندة ، وكما هو العرف زاره وعزاه بموت ابنه : ( قال : يا أشعث إن تحزن على ابنك فقد استحقت ذلك منك الرحم . وإن تصبر ففي الله من كل مصيبة خلف . يا أشعث إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور . وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور . ابنك سرك وهو بلاء وفتنة ، وحزنك وهو ثواب ورحمة ) . ( نهج البلاغة : 4 / 70 ) .
23 . وعرض الأشعث بنته جعدة زوجة للإمام الحسن فقبل أمير المؤمنين ، وقبل بها الحسن ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ففرح الأشعث وافتخر بأن صهره ابن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ويظهر أن الإمام الحسن ( عليه السلام ) كان زاهداً في جعدة ولم يأت بها بعد عقد الزواج ولم يذهب إلى بيت الأشعث ، حتى طلب منه ذلك الأشعث !
قال في تاريخ حلب ( 4 / 1916 ) : ( جاء الأشعث إلى الحسن فقال يا أبا محمد ألا تزور أهلك ؟ فلما أراد ذلك قال : لاتمشي والله إلا على أردية قومي فقامت له كندة سماطين وجعلت له أرديتها بسطاً من بابه إلى باب الأشعث ) .
فانظر إلى تملق الأشعث وأسلوب فخره الملوكي بمصاهرة الإمام الحسن ، يريد الافتخار بكندة على الإمام ( عليه السلام ) والافتخار به على كندة والعرب !
--------------------------- 141 ---------------------------
والإمام الحسن ( عليه السلام ) يعرف الأشعث جيداً ويعرف أن قتله بيد جعدة ، وقد صرح بذلك ، ولكن المعصومين ( عليهم السلام ) عندهم علم الباطن وعلم الظاهر ، وهم يعملون بالظاهر إلا أن يؤمروا .
24 . وأسوأ موقفين للأشعث : مكيدته في صفين ، وإنقاذه معاوية من هزيمة محققة برفع المصاحف ، فقد جمع أنصاره من اليمن وغيرها ، وهدد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالقتل إن لم يوقف الحرب ويسحب الأشتر من هجومه ، ثم فرض أبا موسى الأشعري ممثلاً لعلي ( عليه السلام ) ومفاوضاً . الخ .
والثاني : اشتراكه مع ابن ملجم في قتل علي ( عليه السلام ) ! كما يأتي في شهادته ( عليه السلام ) . ونكتفي هنا برواية ابن سعد في الطبقات ( 3 / 36 ) قال : ( وبات عبد الرحمن بن ملجم تلك الليلة التي عزم فيها أن يقتل علياً في صبيحتها يناجي الأشعث بن قيس الكندي في مسجده ، حتى كاد أن يطلع الفجر فقال له الأشعث : فضحكَ الصبح فقم ، فقام عبد الرحمن بن ملجم وشبيب بن بجرة فأخذا أسيافهما ثم جاءا حتى جلسا مقابل السدة التي يخرج منها علي ! قال الحسن بن علي : وأتيته سحراً فجلست إليه فقال : إني بت الليلة أوقظ أهلي ، فملكتني عيناي وأنا جالس ، فسنح لي رسول الله فقلت : يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأوَد واللدد ! فقال لي : أدع الله عليهم . فقلت : اللهم أبدلني بهم خيراً لي منهم ، وأبدلهم شراً لهم مني ! ودخل بن النباح المؤذن على ذلك فقال : الصلاة ، فأخذت بيده فقام يمشي وابن النباح بين يديه وأنا خلفه ، فلما خرج من الباب نادى : أيها الناس الصلاة الصلاة ، كذلك كان يفعل في كل يوم يخرج ومعه درته يوقظ الناس ، فاعترضه الرجلان فقال بعض من حضر ذلك : فرأيت بريق السيف وسمعت قائلاً يقول : لله الحكم يا علي لا لك ! ثم رأيت سيفاً ثانياً فضربا جميعاً . فأما سيف عبد الرحمن بن ملجم فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه ، وأما سيف شبيب فوقع في الطاق . وسمعت علياً يقول لا يفوتنكم الرجل ، وشد الناس عليهما من كل جانب ، فأما شبيب فأفلت وأخذ عبد الرحمن بن ملجم
--------------------------- 142 ---------------------------
فأدخل على عليٍّ ( عليه السلام ) فقال : أطيبوا طعامه وألينوا فراشه ، فإن أعش فأنا أولى بدمه عفواً أو قصاصاً . وإن أمت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين ) .
25 . وسماه علي ( عليه السلام ) : عُرْف النار ، وعُنْق النار . ففي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 99 )
قال الإمام الحسن ( عليه السلام ) : ( إن الأشعث بنى في داره مئذنة فكان يرقى إليها إذا سمع الأذان في أوقات الصلوات في مسجد جامع الكوفة فيصيح من على مئذنته : يا رجل إنك لكاذب ساحر ، وكان أبي ( عليه السلام ) يسميه : عنق النار ، فسئل عن ذلك فقال : إن الأشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه عنق من النار ممدودة من السماء فتحرقه ، فلا يدفن إلا وهو فحمة سوداء !
فلما توفي نظر ساير من حضر إلى النار وقد دخلت عليه كالعنق الممدود حتى أحرقته ، وهو يصيح ويدعو بالويل والثبور ) ! وسيأتي ذلك .
26 . أذل الله الأشعث بعد مشاركته في قتل علي ( عليه السلام ) فساءت علاقته بمعاوية ، وعاش بعده قليلاً ، أعمى مريضاً ، ولم يذهب إلى معاوية !
ففي شرح النهج ( 4 / 92 ) : ( فقال معاوية : فما الذي يمنع الأشعث أن يقدم علينا ، فيطلب ما قبلنا ؟ قال : إن الأشعث يكرم نفسه أن يكون رأساً في الحرب ، وذنباً في الطمع ) .
وروى الثقفي عن الهيثم أبي العريان وكان عثمانياً أن معاوية سأله : ( يا هيثم أهل العراق كانوا أنصح لعلي أم أهل الشام لي ؟ فقال : أهل العراق قبل أن يضربوا بالبلاء كانوا أنصح لصاحبهم من أهل الشام . قال : ولم ذلك ؟ قال : لأن القوم ناصحوا علياً على الدين ، وناصحك أهل الشام على الدنيا ، وأهل الدين أصبروهم أهل بصيرة وبصر ، وأهل الدنيا أهل بأس وطمع ، ثم والله ما لبث أهل العراق أن نبذوا الدين وراء ظهورهم ونظروا إلى الدنيا في يدك ، فما أصابها منهم إلا الذي لحق بك . قال معاوية : فما منع الأشعث بن قيس أن يقدم علينا ويطلب ما قبلنا ؟ قال : أكرم نفسه أن يكون رأساً في العار ، وذنباً في الطمع ) . ( الغارات : 2 / 545 ) .
والذي أقدره في إهمال معاوية له أنه نفذ خطته فيه في إيقاف الحرب ، ثم في قتل علي ( عليه السلام ) ، فلم يبق له فيه حاجة ، ومن جهة أخرى كان الأشعث يحتقر معاوية ويرى نفسه أحق
--------------------------- 143 ---------------------------
منه بالملك لأنه من ملوك كندة ، وقد صرح بذلك لما رتد في اليمن وحارب جيش أبي بكر . ثم اضطر للاستسلام لحكم أبي بكر .
27 . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إن الأشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه عنق من النار ممدودة من السماء فتحرقه ، فلا يدفن إلا وهو فحمة سوداء ! فلما توفي نظر ساير من حضر إلى النار وقد دخلت عليه كالعنق الممدود حتى أحرقته ، وهو يصيح ويدعو بالويل والثبور » ! ( مناقب آل أبي طالب : 2 / 99 )
وقال البلاذري ( 1 / 121 ) : ( مات بالكوفة وصلى عليه الحسن بن علي بعد صلحه معاوية . وكان الأشعث يكنى أبا محمد ، ويلقب عرف النار ) .
وقال النووي في المجموع ( 14 / 43 ) : ( نزل في الأشعث بن قيس قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاخَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلايَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلايُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . لأنه خاصم رجلاً في بئر ) .
وشهادة المفسرين بأنه سبب نزول هذه الآية ، تدل على أنه لادين له وأنه يقسم الأيمان الكاذبة ليأكل بها شيئاً من الدنيا !
28 . وروت المصادر ندم أبي بكر على أنه زوجه أخته ولم يقتله ، لأنه مصدر فتنة !
فقد روى الطبري ( 2 / 619 ) وابن عساكر ( 30 / 419 ) والمسعودي في مروج الذهب ( 2 / 302 ) والسيوطي في جامعه ( 24 / 359 ) وغيرهم ، أن أبا بكر قال في احتضاره : ( إني لا آسى على شئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن ، وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن . . فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة ( عليها السلام ) عن شئ وإن كانوا قد غلقوه على الحرب ( أي ندم على مهاجمة البيت ) وأما اللاتي تركتهن ، فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ، كنت ضربت عنقه ، فإنه يخيل إليَّ أنه لا يرى شراً إلا أعان عليه ) .
وفي رواية : لا يرى شراً إلا طار اليه . وفي البلاذري ( 1 / 123 ) إلا سعى فيه وأعان عليه .
29 . وكان أولاد الأشعث كأبيهم في الكفر والنفاق والخبث ، ويكفيك هذه الرواية في ابنه محمد بن أم فروة ! رواها الصدوق في أماليه / 221 ، قال :
--------------------------- 144 ---------------------------
( ثم أقبل رجل آخر من عسكر عمر بن سعد يقال له محمد بن الأشعث بن قيس الكندي فقال : يا حسين بن فاطمة أية حرمة لك من رسول الله ليست لغيرك ؟ ! فتلا الحسين ( عليه السلام ) هذه الآية : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . ثم قال : والله إن محمداً لمن آل إبراهيم ، وإن العترة الهادية لمن آل محمد ! مَنِ الرجل ؟ فقيل : محمد بن الأشعث بن قيس الكندي . فرفع الحسين ( عليه السلام ) رأسه إلى السماء فقال : اللهم أرِ محمد بن الأشعث ذلاً في هذا اليوم لا تعزه بعد هذا اليوم أبداً . فعرض له عارض فخرج من العسكر يتبرز ، فسلط الله عليه عقرباً فلدغته ، فمات بادي العورة ) !
أقول : ترى أن منطق محمد بن الأشعث وأصحابه جيش ابن سعد ، نفس منطق أبيه الأشعث ، وتلمس حقدهم على عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودينه !
هذا ، وستأتي نقاط من فعالية الأشعث ومكائده في فصول الكتاب .
- *
--------------------------- 145 ---------------------------
الفصل الثالث والسبعون: من رسائل الإمام ( عليه السلام ) إلى معاوية
رسائل الإمام ( عليه السلام ) إلى معاوية مادة غنية لسيرة الإمام ( عليه السلام )
1 . بَيَّنَ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هدفه من رسائله إلى معاوية فقال ( كتاب سليم / 310 ) : ( أما والله يا معاوية ، لقد كتبت إليك هذا الكتاب وإني لأعلم أنك لا تنتفع به ، وأنك ستفرح إذا أخبرتك أنك ستلي الأمر وابنك بعدك ، لأن الآخرة ليست من بالك ، وإنك بالآخرة لمن الكافرين . وستندم كما ندم من أسس هذا الأمر لك وحملك على رقابنا ، حين لم تنفعه الندامة .
ومما دعاني إلى الكتاب إليك بما كتبت به : أني أمرت كاتبي أن ينسخ ذلك لشيعتي ورؤوس أصحابي ، لعل الله أن ينفعهم بذلك ، أو يقرأه واحد ممن قبلك فيخرجه الله به وبنا من الضلالة إلى الهدى ، ومن ظلمك وظلم أصحابك وفتنتهم . وأحببت أن أحتج عليك ) .
فأجابه معاوية : ( هنيئاً لك يا أبا الحسن تملك الآخرة ، وهنيئاً لنا نملك الدنيا ) !
2 . ( من كتاب له إلى معاوية أول ما بويع له ( عليه السلام ) ذكره الواقدي في كتاب الجمل :
( من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان . أما بعد ، فقد علمت إعذاري فيكم وإعراضي عنكم حتى كان ما لا بد منه ولا دفع له ، والحديث طويل والكلام كثير ، وقد أدبر ما أدبر وأقبل ما أقبل ، فبايع من قبلك ، وأقبل إلي في وفد من أصحابك . والسلام ) .
( نهج البلاغة : 3 / 135 ) .
وقال في شرح النهج ( 18 / 68 ) : ( وقد علمت إعذاري فيكم : أي كوني ذا عذر لو لمتكم أو ذممتكم ، يعني في أيام عثمان . ثم قال : وإعراضي عنكم ، أي مع كوني ذا عذر لو فعلت ذلك فلم أفعله ، بل أعرضت عن إساءتكم إليَّ ، وضربت عنكم صفحاً ، حتى كان مالا بد منه : يعني
--------------------------- 146 ---------------------------
قتل عثمان ، وما جرى من الرجبة بالمدينة . ثم قاطعه الكلام مقاطعة وقال له : والحديث طويل والكلام كثير ، وقد أدبر ذلك الزمان ، وأقبل زمان آخر ، فبايع وأقدم .
فلم يبايع ولا قدم ، وكيف يبايع وعينه طامحة إلى الملك والرياسة منذ أمَّره عمر على الشام ، وكان عالي الهمة تواقاً إلى معالي الأمور ، وكيف يطيع علياً والمحرضون له على حربه عدد الحصا ! ولو لم يكن إلا الوليد بن عقبة لكفى وكيف يسمع قوله ( قول عقبة ) :
فوالله ما هند بأمك إن مضى * النهار ولم يثأر بعثمان ثائر
أيقتل عبد القوم سيد أهله * ولم تقتلوه ليت أمك عاقر !
ومن عجب أن بت بالشام وادعاً * قريراً وقد دارت عليه الدوائر !
أو يطيع علياً ويبايع له ويقدم عليه ويسلم نفسه إليه ، وهو نازل بالشام في وسط قحطان ، ودونه منهم حَرَّة لا ترام ، وهم أطوع له من نعله ! والأمر أمكنه الشروع فيه ! وتالله لوسمع هذا التحريض أجبن الناس وأضعفهم نفساً وأنقصهم همةً لحرَّكه وشحذ من عزمه ، فكيف معاوية وقد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام ) !
3 . وروى الطوسي في أماليه / 88 : ( لما بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بلغه أن معاوية قد توقف عن إظهار البيعة له ، وقال : إن أقرني على الشام وأعمالي التي ولانيها عثمان بايعته ، فجاء المغيرة إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : يا أمير المؤمنين ، إن معاوية من قد عرفت ، وقد ولاه الشام من قد كان قبلك ، فوله أنت كيما تتسق عرى الأُمور ثم اعزله إن بدا لك . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه ؟ قال : لا . قال : لا يسألني الله عز وجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً : وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ، لكن ابعث إليه وادعوه إلى ما في يدي من الحق ، فإن أجاب فرجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، وإن أبى حاكمته إلى الله . فولّى المغيرة وهو يقول : فحاكمه إذن ، وأنشأ يقول :
نصحتُ علياً في ابن حرب نصيحةً * فردَّ ، فما مني له الدهر ثانيهْ
ولم يقبل النصح الذي جئتُه به * وكانت له تلك النصيحة كافيهْ
وقالوا له ما أخلص النصح كله * فقلتُ له إن النصيحة غاليهْ .
--------------------------- 147 ---------------------------
فقام قيس بن سعد ( رحمه الله ) فقال : يا أمير المؤمنين ، إن المغيرة أشار عليك بأمر لم يرد الله ، فقدم فيه رجلاً وأخر فيه أخرى ، فإن كان لك الغلبة تقرب إليك بالنصيحة ، وإن كانت لمعاوية تقرب إليه بالمشورة ، ثم أنشأ يقول :
كادَ ومن أرسى ثبيراً مكانه * مغيرة أن يُقوي عليك معاويهْ
وكنت بحمد الله فينا موفقاً * وتلك التي آراكها غير كافيه
فسبحان من أعلى السماء مكانها * وأرضاً دحاها فاستقرت كما هيهْ )
أقول : تقدم ذلك في بيعته ( عليه السلام ) وتقدمت رواية الطبري ( 3 / 461 ) بأن المغيرة رجع عن رأيه ، وأن ابن عباس وافقه أول الأمر ثم رجع عن رأيه وقال للمغيرة كما في شرح النهج ( 6 / 301 ) : ( كان والله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أعلم بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأُمور ، من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنف عليه ، قال سبحانه : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .
وقال ابن كثير ( 8 / 137 ) : ( قال معاوية لجرير : إن ولاني عليٌّ الشام ومصر بايعته على أن لا يكون لأحد بعده عليَّ بيعة . فقال : أكتب إلى عليٍّ بما شئت وأنا أكتب معك . فلما بلغ علياً الكتاب قال : هذه خديعة ، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك : وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) .
4 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية : فاتق الله فيما لديك ، وانظر في حقه عليك ، وارجع إلى معرفة مالا تعذر بجهالته ، فإن للطاعة أعلاماً واضحة ، وسبلاً نيرة ، ومحجة نهجة ، وغاية مطلوبة ، يردها الأكياس ، ويخالفها الأنكاس . من نكب عنها جار عن الحق وخبط في التيه ، وغيرالله نعمته ، وأحل به نقمته . فنفسك نفسك فقد بين الله لك سبيلك . وحيث تناهت بك أمورك فقد أجريتَ إلى غاية خسر ومحلة كفر ، وإن نفسك قد أولجتك شراً وأقحمتك غياً ، وأوردتك المهالك وأوعرت عليك المسالك ) . ( نهج البلاغة : 3 / 36 ) .
5 . ( ومن كلام له ( عليه السلام ) إلى معاوية : وأرديت جيلاً من الناس كثيراً خدعتهم بغيِّك ، وألقيتهم في موج بحرك ، تغشاهم الظلمات وتتلاطم بهم الشبهات ،
--------------------------- 148 ---------------------------
فجازوا عن وجهتهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وتولوا على أدبارهم ، وعولوا على أحسابهم ، إلا من فاء من أهل البصائر ، فإنهم فارقوك بعد معرفتك ، وهربوا إلى الله من موازرتك ، إذ حملتهم على الصعب وعدلت بهم عن القصد . فاتق الله يا معاوية في نفسك ، وجاذب الشيطان قيادك ، فإن الدنيا منقطعة عنك والآخرة قريبة منك . والسلام ) .
( نهج البلاغة : 3 / 57 ) .
6 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إليه أيضاً : أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة ، ورسالة محبرة نمقتها بضلالك ، وأمضيتها بسوء رأيك ، وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده ، قد دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتبعه ، فهجر لاغطاً ، وضل خابطاً .
منه : لأنها بيعة واحدة لا يثنى فيها النظر ، ولايستأنف فيها الخيار . الخارج منها طاعن ، والمروي فيها مداهن ) . ( نهج البلاغة : 3 / 8 ) .
7 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية : أما بعد فإن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها ، وابتلى فيها أهلها ليعلم أيهم أحسن عملاً . ولسنا للدنيا خلقنا ، ولا بالسعي فيها أمرنا ، وإنما وضعنا فيها لنبتلى بها ، وقد ابتلاني الله بك وابتلاك بي ، فجعل أحدنا حجة على الآخر ، فعدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن فطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني ، وعصبته أنت وأهل الشام بي ، وألَّبَ عالمكم جاهلكم ، وقائمكم قاعدكم . فاتق الله في نفسك ، ونازع الشيطان قيادك واصرف إلى الآخرة وجهك ، فهي طريقنا وطريقك . واحذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة تمس الأصل وتقطع الدابر ، فإني أُولِي لك بالله أَلِيَّة غير فاجرة : لئن جمعتني وإياك جوامع الأقدار لا أزال بباحتك ، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ) . ( نهج البلاغة : 3 / 112 ) .
8 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إليه : أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلا فتحت له حرصاً عليها ولهجاً بها ، ولن يستغني صاحبها بما نال فيها عما لم يبلغه منها . ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، ونقض ما أبرم . ولو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 78 ) .
--------------------------- 149 ---------------------------
9 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية : فسبحان الله ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة والحيرة المتعبة ، مع تضييع الحقائق واطراح الوثائق التي هي لله طلبة ، وعلى عباده حجة . فأما إكثارك الحجاج في عثمان وقتلته فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك ، وخذلته حيث كان النصر له . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 62 ) .
10 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية : أما بعد فإني على التردد في جوابك والاستماع إلى كتابك ، لموهنُ رأيي ومخطِّئُ فراستي . وإنك إذ تحاولني الأمور وتراجعني السطور كالمستثقل النائم تكذبه أحلامه ، أو المتحير القائم يبهظه مقامه ، لا يدري أله ما يأتي أم عليه . ولست به ، غير أنه بك شبيه . وأقسم بالله إنه لولا بعض الإستبقاء لوصلت إليك مني قوارع تقرع العظم وتهلس اللحم . واعلم أن الشيطان قد ثبطك عن أن تراجع أحسن أمورك وتأذن لمقال نصيحتك ) .
( نهج البلاغة : 3 / 134 ) .
11 . « ومن كتاب له ( عليه السلام ) إليه : أما بعد ، فوالله ما قتل ابن عمك غيرك ، وإني لأرجو أن ألحقك به على مثل ذنبه ، وأعظم من خطيئته » . ( نهج البلاغة : 3 / 135 ) .
12 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إليه أيضاً : أما بعد فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأمور ، فقد سلكت مدارج أسلافك بادعائك الأباطيل ، وإقحامك غرور المين والأكاذيب ، وبانتحالك ما قد علا عنك ، وابتزازك لما اختزن دونك ، فراراً من الحق وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ، مما قد وعاه سمعك وملئ به صدرك ، فما ذا بعد الحق إلا الضلال المبين ، وبعد البيان إلا اللبس . فاحذر الشبهة واشتمالها على لبستها ، فإن الفتنة طالما أغدفت جلابيبها وأعشت الأبصار ظلمتها . وقد أتاني كتاب منك ذو أفانين من القول ضعفت قواها عن السلم ، وأساطير لم يحكها منك علم ولا حلم ، أصبحت منها كالخائض في الدهاس ، والخابط في الديماس ، وترقيت إلى مرقبة بعيدة المرام ، نازحة الأعلام تقصر دونها الأنوق ، ويحاذى بها العيوق ، وحاش لله أن تلي للمسلمين بعدي صدراً أو ورداً ، أو أجري لك على أحد منهم عقداً أو عهداً ، فمن الآن فتدارك
--------------------------- 150 ---------------------------
نفسك وانظر لها ، فإنك إن فرطت حتى ينهد إليك عباد الله ، أرتجت عليك الأمور ومنعت أمراً هو منك اليوم مقبول . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 122 ) .
13 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية : فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا العذب ، وأحلسونا الخوف ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته . مؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل . ومن أسلم من قريش خلوٌ مما نحن فيه ، بحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه ، فهو من القتل بمكان آمن .
وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا احمر البأس وأحجم الناس قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة . فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر ، وقتل حمزة يوم أحد ، وقتل جعفر يوم مؤتة . وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة ، ولكن آجالهم عجلت ومنيته أجلت .
فيا عجباً للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي ، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ! والحمد لله على كل حال . وأما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك فإني نظرت في هذا الأمر فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك ، لايكلفونك طلبهم في بر ولا بحر ولا جبل ولا سهل ، إلا أنه طلب يسوءك وجدانه ، وزور لايسرك لقيانه . والسلام لأهله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 9 ) .
14 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إليه أيضاً : وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها وخدعت بلذتها . دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها . وإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه مجن . فاقعس عن هذا الأمر ، وخذ أهبة الحساب ، وشمر لما قد نزل بك ، ولا تمكن الغواة من سمعك ، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك ، فإنك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه وبلغ فيك أمله ، وجرى منك مجرى الروح والدم .
ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية ، وولاة أمر الأمة ؟ بغير قدم سابق ولا شرف
--------------------------- 151 ---------------------------
باسق ، ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء . وأحذرك أن تكون متمادياً في غرة الأمنية ، مختلف العلانية والسريرة ، وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانباً واخرج إلي وأعف الفريقين من القتال ، لتعلم أينا المرين على قلبه ، والمغطى على بصره . فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخاً يوم بدر ، وذلك السيف معي ، وبذلك القلب ألقى عدوي ، ما استبدلت ديناً ، ولا استحدثت نبياً . وإني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ودخلتم فيه مكرهين !
وزعمت أنك جئت ثائراً بعثمان ، ولقد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك إن كنت طالباً ، فكأني قد رأيتك تضج من الحرب إذا عضتك ضجيج الجمال بالأثقال ، وكأني بجماعتك تدعوني ، جزعاً من الضرب المتتابع والقضاء الواقع ومصارع بعد مصارع ، إلى كتاب الله ، وهي كافرة جاحدة ، أو مبايعة حائدة ) .
( نهج البلاغة : 3 / 9 ) .
15 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية ، جواباً عن كتاب منه : فأما طلبك إليَّ الشام ، فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس . وأما قولك إن الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت ، ألا ومن أكله الحق فإلى الجنة ، ومن أكله الباطل فإلى النار .
وأما استواؤنا في الحرب والرجال ، فلست بأمضى على الشك مني على اليقين ، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة .
وأما قولك إنا بنو عبد مناف فكذلك نحن ، ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحق كالمبطل ، ولاالمؤمن كالمدغل . ولبئس الخلف خلف يتبع سلفاً هوى في نار جهنم . وفي أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز ، ونعشنا بها الذليل . ولما أدخل الله العرب في دينه أفواجاً وأسلمت له هذه الأمة طوعاً وكرهاً ، كنتم ممن دخل في الدين إما رغبة وإما رهبة ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم ، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم . فلاتجعلن للشيطان
--------------------------- 152 ---------------------------
فيك نصيباً ، ولاعلى نفسك سبيلاً ) . ( نهج البلاغة : 3 / 16 ) .
16 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إليه أيضاً : أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة ، ورسالة محبرة نمقتها بضلالك ، وأمضيتها بسوء رأيك ، وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده ، قد دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتبعه فهجر لاغطاً ، وضل خابطاً .
منه : لأنها بيعة واحدة لايثنى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار . الخارج منها طاعن ، والمروي فيها مداهن ) . ( نهج البلاغة : 3 / 8 ) .
17 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية جواباً : أما بعد فإنا كنا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة ، ففرق بيننا وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم ، واليوم أنا استقمنا وفتنتم . وما أسلم مسلمكم إلا كرهاً ، وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حزباً .
وذكرت أني قتلت طلحة والزبير ، وشردت بعائشة ، ونزلت بين المصرين ، وذلك أمر غبت عنه فلا عليك ولا العذر فيه إليك .
وذكرت أنك زائري في المهاجرين والأنصار وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك ، فإن كان فيك عجل فاسترفه ، فإني إن أزرك فذلك جدير أن يكون الله إنما بعثني للنقمة منك ، وإن تزرني فكما قال أخو بني أسد :
مستقبلين رياح الصيف تضربهم * بحاصب بين أغوار وجلمود
وعندي السيف الذي أعضضته بجدك وخالك وأخيك في مقام واحد . وإنك والله ما علمت لأغلف القلب المقارب العقل ، والأولى أن يقال لك إنك رقيت سلماً أطلعك مطلع سوء عليك لا لك ، لأنك نشدت غير ضالتك ، ورعيت غير سائمتك ، وطلبت أمراً لست من أهله ولا في معدنه ، فما أبعد قولك من فعلك . وقريب ما أشبهت من أعمام وأخوال حملتهم الشقاوة وتمني الباطل على الجحود بمحمد ( ( عليهما السلام ) ) ، فصرعوا مصارعهم حيث علمت ، لم يدفعوا عظيماً ، ولم يمنعوا حريماً ، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى ، ولم تماشها الهوينى .
وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس ، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله تعالى . وأما تلك التي تريد فإنها خدعة الصبي عن اللبن في أول
--------------------------- 153 ---------------------------
الفصال . والسلام لأهله ) .
18 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية : إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمروعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على أتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى . ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى ، فتجنَّ ما بدا لك . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 7 ) .
أقول : وهذه فقرة من خطبة ، وتمام النص رواه سليم بن قيس ( رحمه الله ) في كتابه / 291 ، قال : ( والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ، ضالاً كان أو مهتدياً ، مظلوماً كان أو ظالماً ، حلال الدم أو حرام الدم ، أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ، ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ، ولا يبدؤوا بشئ قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة ، يجمع أمرهم ، ويحكم بينهم ، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ، ويحفظ أطرافهم ، ويجبي فيئهم ، ويقيم حجهم وجمعتهم ، ويجبي صدقاتهم . ثم يحتكمون إليه في إمامهم المقتول ظلماً ، ويحاكمون قتلته إليه ليحكم بينهم بالحق : فإن كان إمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه ، وإن كان قتل ظالماً نظر كيف الحكم في ذلك .
هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه : أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ، ويتابعوه ويطيعوه . وإن كانت الخيرة إلى الله عز وجل وإلى رسوله ( ( عليهما السلام ) ) فإن الله قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته واتباعه . وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان ، بايعني المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا في ثلاثة أيام ، وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعقدوا إمامتهم ، وليَ ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والأنصار ، غير أنهم بايعوهم قبلي على
--------------------------- 154 ---------------------------
غير مشورة من العامة ، وإن بيعتي كانت بمشورة من العامة .
فإن كان الله جل اسمه قد جعل الاختيار إلى الأمة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم ، واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار الله ورسوله لهم ، وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدى ، وكان إماماً واجباً على الناس طاعته ونصرته ، فقد تشاوروا في واختاروني بإجماع منهم ، وإن كان الله عز وجل هو الذي يختار ،
له الخيرة فقد اختارني للأمة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي . ولو أن عثمان قتل على عهد أبي بكر وعمركان لمعاوية قتالهما والخروج عليهما للطلب ؟
قال أبو هريرة وأبو الدرداء : لا . قال علي ( عليه السلام ) : فكذلك أنا فإن قال معاوية : نعم ، فقولا : إذاً يجوز لكل من ظلم بمظلمة أو قتل له قتيل أن يشق عصى المسلمين ويفرق جماعتهم ويدعو إلى نفسه ! مع أن ولد عثمان أولى بطلب دم أبيهم من معاوية . قال : فسكت أبو الدرداء وأبو هريرة وقالا : لقد أنصفت من نفسك . قال علي ( عليه السلام ) : ولعمري لقد أنصفني معاوية إن تم على قوله وصدق ما أعطاني ، فهؤلاء بنو عثمان رجال قد أدركوا ليسوا بأطفال ولا مولى عليهم ، فليأتوا أجمع بينهم وبين قتلة أبيهم ، فإن عجزوا عن حجتهم فليشهدوا لمعاوية بأنه وليهم ووكيلهم وحربهم في خصومتهم . وليقعدوا هم وخصمائهم بين يدي مقعد الخصوم إلى الإمام والوالي الذي يقرون بحكمه وينفذون قضائه ، وأنظر في حجتهم وحجة خصمائهم . فإن كان أبوهم قتل ظالماً وكان حلال الدم أبطلت دمه ، وإن كان مظلوماً حرام الدم أقدتهم من قاتل أبيهم ، فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا عفوا ، وإن شاءوا قبلوا الدية . وهؤلاء قتلة عثمان في عسكري يقرون بقتله ويرضون بحكمي عليهم ولهم ، فليأتني ولد عثمان أو معاوية ، إن كان وليهم ووكيلهم ، فليخاصموا قتلته وليحاكموهم حتى أحكم بينهم وبينهم بكتاب الله وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) . وإن كان معاوية إنما يتجني ويطلب الأعاليل والأباطيل ، فليتجن ما بدا له فسوف يعين الله عليه .
قال أبو الدرداء وأبو هريرة : قد والله أنصفت من نفسك وزدت على النصفة ، وأزحت علته وقطعت حجته ، وجئت بحجة قوية صادقة ما عليها لوم ) .
--------------------------- 155 ---------------------------
فهي رسالة صريحة في أن الأمر لله تعالى ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) فهو بالنص وقد اختاراني ، ولو تنزلنا وفرضنا أن الأمر للأمة ، فأول ما يجب عليها عمله أن تختار إماماً ، وعلى هذا الفرض فقد بايعني الذين بايعوا من قبلي . فإمامتي بالنص وبالبيعة .
وقد حاول الوهابية أن يحتجوا بكلامه ( عليه السلام ) على أن الخلافة بالبيعة وليست بالنص ، وقد أجبنا في رسالة : مسائل جيش الصحابة في باكستان ، على سؤالهم : إذا كان إمامكم علي يقول إن بيعة الخلفاء الثلاثة مرضية لله ، فلماذا تعترضون ولا ترضون بها ؟ أجبنا بأن هذا الكلام مقتطع ، وتكملته في كتاب سليم كما تقدم .
وقلنا إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول لمعاوية إنك أطعت أبا بكر وعمر وعثمان واعترفت بخلافتهم بسبب بيعة المهاجرين والأنصار لهم ، ونفس هذا السبب موجود في بيعتي . فقوله ( عليه السلام ) : ( فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله
رضا ) لا يعطي الشرعية لمن بايعه المهاجرون والأنصار ، بل هو على التنزل !
ولو سلمنا أنه يعطي الشرعية فهي لمن أجمع المهاجرون والأنصار على بيعته وهم في وقتهم الأمة التي لا تجتمع على ضلال لأن فيهم أهل البيت ( عليهم السلام ) .
( قال السيد النقوي الهندي في خلاصة عبقات الأنوار ( 3 / 299 ) : ( إن ما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار كلهم حق ، لأن أهل البيت ( عليهم السلام ) من المهاجرين ، بل هم سادتهم بلا نزاع . وعلى هذا يكون التمسك بهكذا إجماع عين التمسك بالعترة المأمور به في حديث الثقلين ، وعين التمسك بالكتاب ، فلا تنافي ) .
19 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية جواباً ، وهو من محاسن الكتب : أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمداً ( ( عليهما السلام ) ) لدينه وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه ، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجباً ، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله عندنا ونعمته علينا في نبينا ، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو داعي مسدده إلى النضال ! وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم تلحقك ثلمته .
وما أنت والفاضل والمفضول ، والسائس والمسوس ، وما للطلقاء وأبناء
--------------------------- 156 ---------------------------
الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم . هيهات لقد حن قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها . ألا تربع أيها الإنسان على ظَلْعِك ، وتعرف قصور ذَرْعك ؟ وتتأخر حيث أخرك القدر ، فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر .
وإنك لذهَّاب في التيه ، روَّاغ عن القصد ! ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث أن قوماً استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل ، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء ، وخصه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه . أولا ترى أن قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم ، قيل الطيار في الجنة وذو الجناحين ، ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة ، تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين . فدع عنك من مالت به الرمية ، فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا . لم يمنعنا قديم عزنا ، ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك .
وأنى يكون ذلك كذلك ، ومنا النبي ومنكم المكذب ، ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ، ومنا سيد شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار ، ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب ، في كثير مما لنا وعليكم ، فإسلامنا قد سمع ، وجاهليتنا لا تدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله : وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وقوله تعالى : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِي الْمُؤْمِنِينَ . فنحن مرة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة . ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك ، فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك : وتلك شكاة ظاهر عنك عارها .
وقلتَ إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت وأن تفضح فافتضحت . وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً
--------------------------- 157 ---------------------------
ما لم يكن شاكاً في دينه ولامرتاباً بيقينه . وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ، ولكني أطلقت لك منها بقدر ماسنح من ذكرها .
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه ، فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله . أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه ، أمن استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه ، حتى أتى قدره عليه . كلا والله لقد علم الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لآخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلاً . وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً ، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فرب ملوم لاذنب له ، وقد يستفيد الظنة المتنصح . وما أردت إلا الآصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ .
وذكرت أنه ليس لي ولأصحابي إلا السيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار ! متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسيوف مخوفين : لَبِّثْ قليلاً يلحق الهيجا حمل . فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار ، والتابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطع قتامهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم ، قد صحبتهم ذرية بدرية ، وسيوف هاشمية ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك ، وما هي من الظالمين ببعيد ) ( نهج البلاغة : 3 / 30 ) .
20 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية بعد صفين : وإن البغي والزور يذيعان بالمرء في دينه ودنياه ، ويبديان خلله عند من يعيبه . وقد علمت أنك غير مدرك ما قضي فواته ، وقد رام أقوام أمراً بغير الحق فتأولوا على الله فأكذبهم . فاحذر يوماً يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله ، ويندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه .
وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ، ولست من أهله . ولسنا إياك أجبنا ، ولكنا أجبنا القرآن في حكمه . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 78 ) .
21 . قال الثقفي في الغارات ( 1 / 195 ) : ( إن علياً كتب إلى معاوية : من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية : إن الله تبارك وتعالى ذا الجلال والإكرام
--------------------------- 158 ---------------------------
خلق الخلق واختار خيرة من خلقه ، واصطفى صفوة من عباده ، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ . فأمَّر الأمر وشرع الدين وقسم القسم على ذلك ، وهو فاعله وجاعله ، وهو الخالق وهو المصطفى وهو المشرع ، وهو القاسم وهو الفاعل لما يشاء ، له الخلق وله الأمر وله الخيرة والمشية والإرادة ، والقدرة والملك والسلطان ، أرسل رسوله خيرته وصفوته ( ( عليهما السلام ) ) بالهدى ودين الحق ، وأنزل عليه كتابه فيه تبيان كل شئ من شرائع دينه ، فبينه لقوم يعلمون وفرض فيه الفرائض ، وقسم فيه سهاماً أحل بعضها لبعض وحرم بعضها لبعض ، بينها يا معاوية إن كنت تعلم الحجة ، وضرب أمثالاً لايعقلها إلا العالمون . فأنا سائلك عنها أو بعضها إن كنت تعلم ، واتخذ الحجة بأربعة أشياء على العالمين ، فما هي يا معاوية ولمن هي ؟ واعلم أنهن حجة لنا أهل البيت على من خالفنا ونازعنا وفارقنا وبغى علينا ، والمستعان الله ، عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون .
وكانت جملة تبليغه رسالة ربه فيما أمره وشرع وفرض وقسم جملة الدين ، يقول الله : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ، هي لنا أهل البيت ليست لكم ، ثم نهى عن المنازعة والفرقة ، وأمر بالتسليم والجماعة ، فكنتم أنتم القوم الذين أقررتم لله ولرسوله بذلك ، فأخبركم الله أن محمداً ( ( عليهما السلام ) ) لم يك أباأحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، وقال عز وجل : أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . فأنت وشركاؤك يا معاوية القوم الذين انقلبوا على أعقابهم وارتدوا ، ونقضوا الأمر والعهد فيما عاهدوا الله ، ونكثوا البيعة ولم يضروا الله شيئاً ، ألم تعلم يا معاوية أن الأئمة منا ليست منكم ، وقد أخبركم الله أن أولي الأمر مستنبطوا العلم وأخبركم أن الأمر كله الذي تختلفون فيه يرد إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر مستنبطي العلم . فمن أوفى بما عاهد عليه يجد الله موفياً بعهده يقول الله : وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ . وقال عز وجل : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيماً ، وقال للناس بعدهم : فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا . نحن آل إبراهيم المحسودون وأنت الحاسد لنا . خلق الله آدم بيده ، ونفخ فيه
--------------------------- 159 ---------------------------
من روحه ، وأسجد له الملائكة ، وعلمه الأسماء كلها ، واصطفاه على العالمين ، فحسده الشيطان فكان من الغاوين ، ونوحاً حسده قومه إذ قالوا : مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ . ذلك حسداً منهم لنوح أن يقروا له بالفضل وهو بشر ، ومن بعده حسدوا هودا إذ يقول قومه : مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ . قالوا : ذلك حسداً أن يفضل الله من يشاء ، ويختص برحمته من يشاء ، ومن قبل ذلك ابن آدم قابيل قتل هابيل حسداً فكان من الخاسرين . وطائفة من بني إسرائيل :
إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فلما بعث الله لهم طالوت ملكاً حسدوه وقالوا : أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ . وزعموا أنهم أحق بالملك منه ، كل ذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ، وعندنا تفسيره وعندنا تأويله ، وقد خاب من افترى . ونعرف فيكم شبهه وأمثاله : وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ . وكان نبينا صلوات الله عليه فلما جاءهم كفروا به حسداً من عند أنفسهم أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . حسداً من القوم على تفضيل بعضنا على بعض . ألا ونحن أهل البيت آل إبراهيم المحسودون ، حُسدنا كما حُسد آباؤنا من قبلنا سنة ومثلاً ، قال الله : وآل إبراهيم . . وآل لوط . . وآل عمران . . وآل يعقوب وآل موسى وآل هارون وآل داود . فنحن آل نبينا محمد ( ( عليهما السلام ) ) . ألم تعلم يا معاوية إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ، ونحن أولوا الأرحام قال الله تعالى : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، نحن أهل البيت اختارنا الله واصطفانا وجعل النبوة فينا ، والكتاب لنا ، والحكمة والعلم والإيمان ، وبيت الله ومسكن إسماعيل ومقام إبراهيم ، فالملك لنا ويلك يا معاوية ، ونحن أولى بإبراهيم ، ونحن آله وآل عمران وأولى بعمران ، وآل لوط ونحن أولى بلوط ، وآل يعقوب ونحن أولى بيعقوب ، وآل موسى وآل هارون وآل داود وأولى بهم ، وآل محمد وأولى به . ونحن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم
--------------------------- 160 ---------------------------
تطهيرا . ولكل نبي دعوة في خاصة نفسه وذريته وأهله ، ولكل نبي وصية في آله ، ألم تعلم أن إبراهيم أوصى بابنه يعقوب ، ويعقوب أوصى بنيه إذ حضره الموت ، وأن محمداً أوصى إلى آله سنة إبراهيم والنبيين اقتداء بهم كما أمره الله ، ليس لك منهم ولا منه سنة في النبيين ، وفي هذه الذرية التي بعضها من بعض . قال الله لإبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت : رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، فنحن الأمة المسلمة ، وقالا : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، فنحن أهل هذه الدعوة ورسول الله منا ونحن منه ، بعضنا من بعض وبعضنا أولى ببعض في الولاية والميراث ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم . وعلينا نزل الكتاب ، وفينا بعث الرسول ، وعلينا تليت الآيات ، ونحن المنتحلون للكتاب والشهداء عليه والدعاة إليه ، والقوام ، به فبأي حديث بعده يؤمنون !
أفغير الله يا معاوية تبتغي رباً ! أم غير كتابه كتاباً ! أم غير الكعبة بيت الله ومسكن إسماعيل ومقام أبينا إبراهيم تبغي قبلة ! أم غير ملته تبغي ديناً ! أم غير الله تبغي ملكاً ! فقد جعل الله ذلك فينا .
فقد أبديت عداوتك لنا وحسدك وبغضك ، ونقضك عهد الله ، وتحريفك آيات الله ، وتبديلك قول الله ، قال الله لإبراهيم : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ . أفترغب عن ملته ، وقد اصطفاه الله في الدنيا وهو في الآخرة من الصالحين ! أم غير الحكَم تبغي حكماً ! أم غير المستحفظ منا تبغي إماماً ! الإمامة لإبراهيم ( عليه السلام ) وذريته والمؤمنون تبع لهم لايرغبون عن ملته ، قال : فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّي ، أدعوك يا معاوية إلى الله ورسوله وكتابه وولي أمره الحكيم من آل إبراهيم ، والى الذي أقررت به كما زعمت ، إلى الله والوفاء بعهده وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم : سمعنا وأطعنا . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ . ولا تكونوا كالذين تفرقوا واخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ . وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ . فنحن الأمة الأربى فلا تكونوا
--------------------------- 161 ---------------------------
كالذين قالوا : قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ . اتبعنا واقتد بنا فإن ذلك لنا آل إبراهيم على العالمين مفترض ، فإن الأفئدة من المؤمنين والمسلمين تهوي إلينا ، وذلك دعوة المرء المسلم ، فهل تنقم منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا ، واقتدينا واتبعنا ملة إبراهيم صلوات الله عليه وعلى محمد وآله .
فكتب معاوية : من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب : قد انتهى إليَّ كتابك ، فأكثرت فيه ذكر إبراهيم وإسماعيل وآدم ونوح والنبيين ، وذكر محمد وقرابتكم منه ومنزلتكم وحقك ، ولم ترض بقرابتك من محمد حتى انتسبت إلى جميع النبيين ، ألا وإنما كان محمد رسولاً من الرسل إلى الناس كافة فبلغ رسالات ربه ، لا يملك شيئاً غيره ، ألا وإن الله ذكر قوماً جعلوا بينه وبين الجنة نسباً ، وقد خفت عليك أن تضارعهم ، ألا وإن الله أنزل في كتابه أنه لم يك يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولا ولي من الذل ، فأخبرنا ما فضل قرابتك ، وما فضل حقك ، وأين وجدت اسمك في كتاب الله ، وملكك وإمامتك وفضلك ؟
ألا وإنما نقتدي بمن كان قبلنا من الأئمة والخلفاء الذين اقتديت بهم ، فكنت كمن اختار ورضي . قتل خليفتنا أمير المؤمنين عثمان وقال الله : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ، فنحن أولى بعثمان وذريته ، وأنتم أخذتموه على رضا من أنفسكم جعلتموه خليفة وسمعتم له وأطعتم .
فأجابه علي ( عليه السلام ) : أما الذي عيرتني به يا معاوية من كتابي ، وكثرة ذكر آبائي إبراهيم وإسماعيل والنبيين ( عليهم السلام ) ، فإنه من أحب آباءه أكثر ذكرهم ، فذكرهم حب الله ورسوله ، وأنا أعيرك ببغضهم ، فإن بغضهم بغض الله ورسوله ، وأعيرك بحبك آباءك وكثرة ذكرهم ، فإن حبهم كفر .
وأما الذي أنكرت من نسبي من إبراهيم وإسماعيل وقرابتي من محمد ( ( عليهما السلام ) ) وفضلي وحقي وملكي وإمامتي ، فإنك لم تزل منكراً لذلك لم يؤمن به قلبك ، ألا وإنما نحن أهل البيت كذلك لا يحبنا كافر ، ولا يبغضنا مؤمن .
والذي أنكرت من قول الله عز وجل : فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
--------------------------- 162 ---------------------------
وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيماً . فأنكرت أن يكون فينا فقد قال الله : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، ونحن أولى به . والذي أنكرت من إمامة محمد ( ( عليهما السلام ) ) زعمت أنه كان رسولاً ولم يكن إماماً ، فإن إنكارك على جميع النبيين الأئمة ، ولكنا نشهد أنه كان رسولاً نبياً إماماً ( ( عليهما السلام ) ) ولسانك دليل على ما في قلبك ! وقال الله تعالى : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ . وَلَوْ نَشَاءُ لارَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ .
ألاوقد عرفناك قبل اليوم وعداوتك وحسدك وما في قلبك من المرض الذي أخرجه الله . والذي أنكرت من قرابتي وحقي ، فإن سهمنا وحقنا في كتاب الله قسمه لنا مع نبينا فقال : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى . وقال : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، أوليس وجدت سهمنا مع سهم الله ورسوله وسهمك مع الأبعدين لا سهم لك إن فارقته ؟ فقد أثبت الله سهمنا وأسقط سهمك بفراقك .
وأنكرت إمامتي وملكي ، فهل تجد في كتاب الله قوله لآل إبراهيم : وَاصْطَفَاهُم عَلى العَالمين ، فهو فضلنا على العالمين ، أو تزعم أنك لست من العالمين أو تزعم أنا لسنا من آل إبراهيم ؟ فإن أنكرت ذلك لنا فقد أنكرت محمداً ( ( عليهما السلام ) ) فهو منا ونحن منه ، فإن استطعت أن تفرق بيننا وبين إبراهيم صلوات الله عليه وإسماعيل ومحمد وآله في كتاب الله ، فافعل ) .
- *
--------------------------- 163 ---------------------------
الفصل الرابع والسبعون: مبعوثوا الإمام ( عليه السلام ) إلى معاوية
أرسل له الإمام ( عليه السلام ) جرير بن عبد الله البجلي
1 . أشهرمبعوثي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى معاوية جرير بن عبد الله البجلي : وهو من شخصيات الصحابة . شارك في فتح العراق وإيران ، وأرسله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى معاوية فبلغ رسالته ، ثم مال إلى معاوية فرفضته قبيلته ، وكانت مع علي ( عليه السلام ) فسكن في قرقيسيا قرب دير الزور بسوريا . وفي الإصابة ( 1 / 582 ) : ( مات سنة إحدى وقيل أربع وخمسين ) . وفي رجال الطوسي / 33 : ( أسلم في السنة التي قبض فيها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقيل إن طوله كان ستة أذرع ) .
2 . في كتاب صفين لنصر بن مزاحم / 31 : ( عن عامرالشعبي أن علياً ( عليه السلام ) حين قدم من البصرة نزع جريراً عن همدان ، فجاء حتى نزل الكوفة ، فأراد أن يبعث إلى معاوية رسولاً ، فقال له جرير : ابعثني إليه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر ، ويكون أميراً من أمرائك ، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك ، وجلهم قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت أن لايعصوني .
فقال له الأشتر : لا تبعثه ودعه ولا تصدقه ، فوالله إني لأظن هواه هواهم ، ونيته نيتهم ! فقال له علي ( عليه السلام ) : دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا .
فبعثه علي ( عليه السلام ) وقال له حين أراد أن يبعثه : إن حولي من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أهلالدين والرأي من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيك : من خير ذي يمن ( ؟ ) إئت معاوية بكتابي ، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون وإلا فانبذ إليه وأعلمه أني لا أرضى به أميراً ، وأن العامة لا ترضى به خليفة . فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية فدخل عليه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا معاوية فإنه قد اجتمع
--------------------------- 164 ---------------------------
لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين وأهل الحجاز وأهل اليمن وأهل مصر ،
وأهل العروض ( أي عُمان ) وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا أهل هذه الحصون التي أنت فيها ، ولو سال عليها سيل من أوديته غرقها ، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل .
ودفع إليه كتاب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) :
بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد ، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغايب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، إذا اجتمعوا على رجل فسموه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى ، ويصله جهنم وساءت مصيراً . وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، فكان نقضهما كردتهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإن أحب الأمور إليَّ فيك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء ، فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك . وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس وحاكم القوم إليَّ ، أحملك وإياهم على كتاب الله ، فأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن . ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان . واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشورى . وقد أرسلت إليك والى من قبلك جرير بن عبد الله ، وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايع ولا قوة إلا بالله .
فلما قرأ الكتاب قام جرير فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إن أمر عثمان أعيا من شهده ، فما ظنكم بمن غاب عنه ، وإن الناس بايعوا علياً غير واتر ولا موتور ، وكان طلحة والزبير ممن بايعه ثم نكثا بيعته على غير حدث . ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن ، ألا وإن العرب لا تحتمل السيف ، وقد كانت بالبصرة أمس ملحمة إن تشفَّع البلاء بمثلها فلا نبأ للناس . ولو ملكنا والله أمورنا لم نختر لها غيره ، ومن خالف
--------------------------- 165 ---------------------------
هذا استعتب . فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس ، فإن قلت : استعملني عثمان ثم لم يعزلني ، فإن هذا أمر لو جاز لم يقم لله دين ، وكان لكل امرئ ما في يده ، ولكن الله لم يجعل للآخر من الولاة حق الأول ، وجعل تلك أموراً موطأة وحقوقاً ينسخ بعضها بعضاً .
فقال معاوية : أنظر وتنظر ، وأستطلع رأي أهل الشام .
فلما فرغ جرير من خطبته أمر معاوية منادياً فنادى الصلاة جامعة ، فلما اجتمع الناس صعد المنبر وقال بعد كلام طويل : أيها الناس قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وأني خليفة عثمان بن عفان عليكم ، وأني لم أقم رجلاً منكم على خزاية قط ، وأني ولي عثمان وقد قتل مظلوماً والله يقول : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان ! فقام أهل الشام بأجمعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان وبايعوه على ذلك ، وأوثقوا له على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم أو يدركوا ثاره ، أو يفني الله أرواحهم ) !
( وذكر له في نهج السعادة ( 4 / 89 ) مصادر : والعقد الفريد : 3 / 106 / ط 2 ، والإمامة والسياسة : 1 / 93 وابن أبي الحديد في : 3 / 75 . وتاريخ دمشق : 56 / 974 و / 60 ) .
وما نسبته الرواية إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قوله : ( وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيك : من خير ذي يمن ) رواية عامية لم نروها نحن ، فقد رواها النسائي في فضائل الصحابة / 60 ، عن جرير نفسه ، فزعم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان كلما رآه تبسم له ، وبشر به المسلمين ، وقال له إنه فيه سيماء الملوك : ( عن جرير قال ما رآني رسول الله إلا تبسم في وجهي وقال : يدخل عليكم من هذا الباب من خير ذي يمن ، على وجهه مسحة مَلِك ) . وهو مردود لأنه قول جرير ولم يروه غيره !
3 . كان جرير نظرياً شيعياً تام التشيع ، فله تصريحات وأبيات في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبأنه وصي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخليفته على أمته . ولكنه كان يداهن أبا بكر وعمر وعثمان ، وعده الأشتر معهم ومنهم ! ويدل على رأي الأشتر أن
--------------------------- 166 ---------------------------
جريراً افترى كذبة في حديث الغدير لايغسلها ماء البحر !
قال كما في الطبراني الكبير ( 2 / 358 ) : ( شهدنا الموسم في حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حجة الوداع فبلغنا مكاناً يقال له غدير خم ، فنادى الصلاة جامعة ، فاجتمعنا المهاجرون والأنصار ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا فقال : أيها الناس بم تشهدون ؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله . قال : ثم مه ؟ قالوا : وأن محمداً عبده ورسوله . قال : فمن وليكم ؟ قالوا الله ورسوله مولانا . قال : من وليكم ، ثم ضرب بيده على عضد علي ( رضي الله عنه ) فأقامه فنزع عضده فأخذ بذراعيه ، فقال من يكن الله ورسوله مولياه فإن هذا مولاه . اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . اللهم من أحبه من الناس ، فكن له حبيباً ، ومن أبغضه فكن له مبغضاً . اللهم إني لا أجد أحداً أستودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين غيرك ، فاقض فيه بالحسنى ! قال بشر : قلت من هذين العبدين الصالحين ؟ قال : لا أدري ) . ومعناه أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استودع علياً ( عليه السلام ) عند أبي بكر وعمر لأنه يعرف أنهما سيحكمان بعده ! وهذا افتراء مفترع ، لم يخترعه أحد غير جرير !
جرير البجلي مقاول حرب في سبيل الله !
4 . ترجمنا لجرير في أول المجلد الثاني من : قراءة جديدة في الفتوحات الإسلامية . ونورد خلاصة منه : فهو جرير بن عبد الله بن جابر من بني زيد بن كهلان بن سبأ . وبجيلة جدتهم زوجة أنمار . ( سيرة ابن هشام : 1 / 49 ) .
وقد بالغ رواة السلطة في طوله فجعلوه ستة أذرع ورأسه يصل إلى سنام البعير ، ونعله ذراع . وكان يتباهى بأنه جميل ، وقال إن عمر رآه عارياً فشبهه بيوسف . وأمَّره على قبيلته بجيلة ، فشارك بهم في القادسية وبعدها . ( الإصابة : 1 / 583 ) .
5 . « قال جرير ( الإستيعاب : 1 / 237 ) : « أسلمت قبل موت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأربعين يوماً » . وزعم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشر به قبل مجيئه ودعا له بالبركة ولذريته ، ومسح بيده على رأسه ووجهه وصدره وبطنه ، حتى انحنى جرير حياء أن تدخل يد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تحت إزاره ! ( أوسط الطبراني : 6 / 179 ، ومسند أحمد : 4 / 360 ) .
--------------------------- 167 ---------------------------
وفي صحيح بخاري : 4 / 25 : « ما حجبني النبي منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم في وجهي . ودعا لي : اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً » .
وحذف البخاري كذبة جرير بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يتبسم له حتى في الصلاة ! ( مبسوط السرخسي : 1 / 77 ) وأنه ( ( عليهما السلام ) ) قال : « جرير منا أهل البيت ظهراً لبطن ، قالها ثلاثاً » . وأنه كان يقول له إلبس حلتك ليباهي به الوفود !
كما زعم جرير أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعثهً إلى المتنبئ العنسي ، وذي الكلاع اليهودي . والى صنم ذي الخلصة فخربه . ( الزوائد : 9 / 373 ، والبلاذري : 1 / 125 ، والبخاري : 4 / 23 ) .
وصار كذب جرير لتعظيم نفسه أحاديث بخارية صحيحة ، لأنه مع الخليفة !
6 . وتقدم في الأشعث وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لجرير وأستاذه الأشعث بقوله : « أما هذا الأعور يعني الأشعث ، فإن الله لم يرفع شرفاً إلا حسده . .
وأما هذا الأكثف عند الجاهلية ، يعنى جرير بن عبد الله البجلي ، فهو يرى كل أحد دونه ، ويستصغر كل أحد ويحتقره ، قد ملئ ناراً ، وهو مع ذلك يطلب رئاسة ويروم إمارة ، وهذا الأعور يغويه ويطغيه ، إن حدثه كذبه وإن قام دونه نكص عنه ، فهما كالشيطان إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ » . ( شرح النهج : 20 / 286 ) .
والأكثف عند الجاهلية : الثقيل التصرف عندما تثور جاهليته .
7 . دخل إلى العراق مع خالد بعد اليمامة ، وساعده في عقود الصلح وجباية الأموال في السنة الثانية عشرة للهجرة ، أما قبلها فلم يكن له دور إلا ادعاؤه بأن أبا بكر ( الكامل : 2 / 375 ) أمره أن يقاتل من ارتد عن الإسلام من قومه . ونشك في ذلك ، لأن بجيلة كانت متفرقة في القبائل .
وقالوا إن أبا بكر أمد به خالداً ( البلاذري : 2 / 296 ) فلقيه منصرفاً من اليمامة فكان معه في العراق ، وواقع صاحب المذار بأمره » .
والمذار : قرب ميسان ، ولم يكن فيه قوة فارسية ولا معركة . وقد أثبتنا صحة قول الواقدي إن خالداً لم يخض أي معركة في العراق ، وأن جربراً غارمعه على بني تغلب ،
--------------------------- 168 ---------------------------
وغدرا بهم وارتكبوا مجزرة ! « فأغاروا على الهذيل وهم نائمون من ثلاثة أوجه فقتلوهم وهم يصيحون : سبحانك اللهم رب محمد ! ( الطبري : 2 / 326 ) .
8 . كان جرير جندياً في جيش خالد بن سعيد بن العاص فاتح فلسطين فتركه !
ففي تاريخ الطبري : 2 / 568 : « كان جرير بن عبد الله ممن خرج مع خالد بن سعيد بن العاص إلى الشام ، فاستأذن خالداً إلى أبي بكر ليكلمه في قومه ليجمعهم ) .
9 . وبعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر قاول جرير عمر على « الجهاد بقومه !
قال البلاذري : 2 / 310 : « مكث عمر بن الخطاب سنة لا يذكر العراق ، وقدم جرير بن عبد الله من السراة في بجيلة ، فسأله أن يأتي العراق على أن يعطيه وقومه ربع ما غلبوا عليه . فأجابه عمر إلى ذلك » .
قال ابن الأعثم : 1 / 136 : « فسار جرير بن عبد الله من المدينة في سبع مائة رجل حتى صار إلى العراق فنزلها ، وبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني ، فكتب إليه : أما بعد يا جرير فإنا نحن الذين أقدمنا المهاجرين والأنصار من بلدهم وأقمنا نحن في نحر العدو نكابدهم ليلاً ونهاراً ، وإنما أنت مدد لنا ، فما انتظارك رحمك الله لا تصير إلينا ؟ فصر إلينا وكثِّرنا بأصحابك . . .
قال فكتب إليه جرير : أما بعد فقد ورد كتابك عليَّ فقرأته وفهمته ، فأما ما ذكرت أنك الذي أقدمت المهاجرين والأنصار إلى حرب العدو ، فصدقت وليتك لم تفعل ! وأما قولك : إن المهاجرين والأنصار لحقوا ببلدهم ، فإنه لما قتل أميرهم لحقوا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وأما ما ذكرت أنك أقمت في نحر العدو فإنك أقمت في بلدك ، وبلدك أحب إليك من غيره . وأما ما سألتني من المصير إليك ، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم يأمرني بذلك ، فكن أنت أميراً على قومك وأنا أمير على قومي . والسلام » . « وتنازع جرير والمثنى بن حارثة الإمارة ، فبعث عمر سعد بن مالك وكتب إليهما أن اسمعا له وأطيعا » . ( تاريخ خليفة / 87 ) .
ثم شارك جرير في المعركة ، ولا بد أنه قاول المثنى ، وأخذ منه امتيازاً !
--------------------------- 169 ---------------------------
10 . ثم شارك جرير في معركة البويب بقيادة المثنى ( رضي الله عنه ) : « فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسرثم أخرجهم في آثار القوم ، وخيول من المسلمين تغذُّ من كل فارس ، فانطلقوا في طلبهم حتى بلغوا السيب ، فأصابوا من البقر والسبي وسائرالغنائم شيئاً كثيراً فقسمه المثنى عليهم ، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس ، وبعث بثلاثة أرباعه مع عكرمة » . إلى عمر . ( الطبري : 2 / 652 ) .
11 . ورأى جرير القائد الفارسي مهران مقتولاً ، فأخذ سلبه ، وادعى أنه قتله ! في الأخبار الطوال / 114 : « اجتمع عظماء فارس إلى بوران ، فأمرت أن يتخير اثنا عشرألف رجل من أبطال الأساورة وولت عليهم مهران بن مهرويه الهمداني ) . « فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره ، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه . قال محمد بن إسحاق : حمل عليه المنذر بن حسان بن ضرار الضبي فطعنه واحتز رأسه جرير ، واختصما في سلبه فأخذ جرير السلاح وأخذ المنذر منطقته » . ( النهاية : 7 / 36 ) .
قال ابن الأعثم : 1 / 158 : « ولحق المنذر بن حسان فرسه فأخذه ، ثم رجع إلى مهران ليسلبه ، فإذا جرير بن عبد الله قد سبقه وأخذ سلبه ، فقال له المنذر : أبا عمرو ! أنا قتلت مهران وسلبه لي ولا حق لك فيه ! قال جرير : فادفع إليَّ المنطقة وخذ باقي السلب ، فقال المنذر بن حسان : إذاً لا أفعل لأني أنا طعنت مهران وأنا صرعته عن فرسه ، وأنا قطعت رجله » .
أقول : هذا يكشف شخصية جرير وتعصب السلطة له ، فلا هو حمل على مهران عندما تبارزا بل هرب منه ، ثم حمل عليه المثنى فهرب مهران وقتله آخر . ولما رآه جرير قتيلاً سارع إلى سرقة سلبه ! فقال أتباع السلطة إن جريراً قتله ! « عن الشعبي أن جرير بن عبد الله البجلي بارز مهران فقتله ، فقومت منطقته بثلاثين ألفاً » . ( نصب الراية : 4 / 302 ) .
12 . سكن جرير وقومه الكوفة ، وشارك في معركة القادسية وكان قائد الميمنة . قال الطبري : 3 / 79 : « وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ،
--------------------------- 170 ---------------------------
وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله البجلي ، وعلى ميسرتهم زهرة بن حوية التميمي ، وتخلف سعد لما به من الوجع » .
وكان دور جرير والبجليين مؤثراً في معركة القادسية ، لكن الرواة بالغوا فجعلوا بجيلة ربع الجيش مع أنهم ست مئة رجل ، والجيش نحو ثلاثين ألفاً !
13 . وارتكب عمر خطأ كبيراً ، فقسم أرض العراق على المقاتلين في القادسية ! وجعل لبجيلة سهمهم ، وربع الخمس ، وربع ما فتحوه من أرض العراق ! ( المجموع : 19 / 454 ، والبيهقي : 9 / 135 ) ثم أقنعه علي ( عليه السلام ) فرجع عن خطئه حتى لا تتكون في العراق طبقة إقطاعية « شرعية » وحولها جماهير فقيرة لا تملك شيئاً !
قال في فتح الباري ( 6 / 157 ) : « روى أبو عبيد عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد فشاور في ذلك فقال له علي : دعهم يكونوا مادة للمسلمين ، فتركهم » .
وفي سنن النسائي ( 9 / 134 ) : ( أراد أن يقسم أهل السواد بين المسلمين وأمر بهم أن يحصوا ، فوجدوا الرجل المسلم يصيبه ثلاثة من الفلاحين يعني العلوج فشاور أصحاب النبي في ذلك فقال علي ( رضي الله عنه ) : دعهم يكونون مادة للمسلمين ) !
« فقال : تقرها في أيديهم يعملونها فتكون لنا ولمن بعدنا ) . ( اليعقوبي : 2 / 151 ) .
وقد ذكرت المصادر أن عمر فاضطر أن يسحب الأراضي من جرير وقومه !
14 . وكان جرير قائداً فعالاً في معركة جلولاء ، بإمرة القائد هاشم المرقال ، قال ابن الأعثم في الفتوح : 1 / 210 : « وحمل جرير بن عبد الله من الميمنة ، وحجر بن عدي من الميسرة ، والمكشوح المرادي من الجناح ، وعمرو بن معد يكرب من القلب ، وصدقوهم الحملة لولوا مدبرين ، ووضع المسلمون فيهم السيف ، فقتل منهم من قتل ، وانهزم الباقون حتى صاروا إلى خانقين » .
وقال ابن الأعثم : 1 / 166 : « فكان أول من تقدم إلى الحرب من المسلمين جرير بن عبد الله الجبلي ، ثم حمل فقاتل فأحسن القتال ، وحمل على أثره علي بن جحش العجلي ، ثم حمل في أثره إبراهيم بن الحارثة الشيباني ، ثم تقدم عمرو بن معد يكرب الزبيدي . قال : فجعل القوم يقتتلون . قال : ثم حمل جرير بن عبد الله على جمع أهل جلولاء ،
--------------------------- 171 ---------------------------
فلم يزل يطاعن حتى انكسر رمحه وجرح جراحات ) . وبذلك كفَّر جرير عن هربه من مهران في القادسية .
15 . ثم أمره عمار أن يُمد أبا موسى الأشعري في محاصرة عاصمة الأهواز : « فكتب عمار إلى جرير يأمره باللحاق بأبي موسى » . ( الأخبار الطوال / 130 ) .
أقول : تحصن أهل تستر داخل المدينة ، وتحصن الهرمزان في قلعتها . ثم جاء فارسي ليلاً ودل المسلمين على طريق إلى المدينة فدخلوا واحتلوها ، واستسلم الهرمزان على أن يبعثوا به إلى عمر ، فأخذه عمار إلى المدينة مع الغنائم . والصحيح أنه أسلم على يد سلمان ، ولذلك صار ولاؤه لعلي ( عليه السلام ) .
وكان دور جرير في فتح تستر عادياً ضمن دور الكوفيين بقيادة والي الكوفة عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) .
16 . ثم أرسله أبو موسى إلى رامهرمز ، ليدعوهم إلى الإسلام ، فسباهم ! قال ابن الأعثم في الفتوح : 2 / 276 : « وفتح جرير بن عبد الله مدينة رام هرمز بالسيف قسراً ، فاحتوى على أموالها ونسائها وذريتها . قال : وكتب بعض أصحاب جرير إلى عمر بن الخطاب أبياتاً يذكر فعل جرير بأهل رام هرمز فحكم صلحاء معسكر أبي موسى بأن جريراً أخطأ أو تعمد ، فنهب وسبى بغير وجه شرعي ! وحكموا عليه فأرجع جنده شيئاً مما أخذوه وبعض الرجال والنساء اللائي لم يحملن ، وبقيت الحوامل حتى تضعن حملهن ! وهي صورة سيئة عما ارتكبه المسلمون في الفتوحات !
17 . ثم التحق بجيش المسلمين لمواجهة تجمع جيش الفرس في نهاوند ، فقد جمعوا مئة وخمسين ألفاً ليقصدوا المدينة المنورة ويستأصلوا دين العرب ! فكتب عمار والي الكوفة إلى عمر بخبرهم ، فخاف عمر وجمع الصحابة .
قال ابن الأعثم ( 2 / 291 ) : « فلما ورد الكتاب على عمر وقرأه ، وقعت عليه الرعدة والنفضة حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه ! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد ، وجعل ينادي : أين المهاجرون والأنصار ! ألافاجتمعوا رحمكم الله وأعينوني أعانكم الله » . فقال له علي ( عليه السلام ) : « فأقم بالمدينة ولاتبرحها
--------------------------- 172 ---------------------------
فإنه أهيب لك في عدوك وأرعب لقلوبهم ، فإنك متى غزوت الأعاجم بنفسك يقول بعضهم لبعض : إن ملك العرب قد غزانا بنفسه لقلة أتباعه وأنصاره ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وعلى المسلمين ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه وابعث من يكفيك هذا الأمر ) .
فأطلق يد علي ( عليه السلام ) في إدارة المعركة ، وكان لجرير وبجيلة دور محمود فيها .
18 . وعيَّنه عمر والياً على همدان ، وبقي عليها زمن عثمان ، وعزله علي ( عليه السلام ) ،
ويظهر أنه كان ينتقد عثمان ، فقد كان مع مالك الأشتر في الذين ذهبوا لشكاية والي عثمان على الكوفة ، وكانوا عائدين من العمرة ، فوجدوا أبا ذر قد توفي في الربذة ، فجهزوه ودفنوه . ( أنساب الأشراف : 5 / 545 ) .
قال اليعقوبي : 2 / 165 : « ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الكوفة مكان سعد وصلى بالناس الغداة وهو سكران أربع ركعات ، ثم تهوع في المحراب ، والتفت إلى من كان خلفه فقال : أزيدكم ! وأخذ الوليد أباسنان فضربه مائتي سوط ، فوثب عليه جرير بن عبد الله ، وعدي بن حاتم ، وحذيفة بن اليمان ، والأشعث بن قيس ، وكتبوا إلى عثمان مع رسلهم ، فعزله وولى سعيد بن العاص مكانه » .
لكن يظهر أن جريراً تقرب إلى عثمان واسترضاه ، وكان الأشتر ( رضي الله عنه ) يتهمه بأن عثمان اشترى منه دينه بولاية همدان . ( وقعة صفين / 60 ) .
19 . وكان جرير البجلي يشرب الخمر ، ويظهر من كلامه أنه كان مدمناً عليها ! فقد روى ابن حزم في المحلى : 7 / 488 : « عن عثمان بن قيس أنه خرج مع جرير بن عبد الله البجلي إلى حمام له بالعاقول ، فأكلوا معه ثم أوتوا بعسل وطلاء ، فقال : إشربوا العسل أنتم ، وشرب هو الطلاء وقال : إنه يستنكر منكم ولا يستنكر مني ! قال : وكانت رائحته توجد من هنالك » !
أقول : معناه أن جريراً كان عنده بستان فيه حمام ، فدعا اليه بعض الشخصيات وجاء لهم بعد الغداء بشراب عسل ، وجاء لنفسه بخمر ، وقال لهم : هذا يناسبني ولا يناسبكم ! وكانت رائحته قوية ، فوصلت إلى آخر المجلس !
--------------------------- 173 ---------------------------
20 . وكان جرير تلميذ الأشعث ، وأداته في الحسد والفتنة والتحريش ، وقد رووا كيف كذب على عمر فسقَّط شرحبيل بن السمط ، وذم عماراً .
قال عمر بن شبَّة في تاريخ المدينة ( 3 / 819 ) : « أوفد سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله إلى عمر ، فقال له الأشعث بن قيس : إن استطعت أن تنال من شرحبيل بن السمط عند عمر فافعل ) !
وفي مصنف ابن أبي شيبة : 8 / 9 ، أن جريراً وفد مع عمار إلى عمر : « فقال عمر : ألا تخبروني عن أميركم هذا أمجزٍ هو ؟ قالوا : لا والله ما هو بمجزٍ ولاعالم بالسياسة . فعزله وبعث المغيرة بن شعبة » . والطبري : 3 / 242 .
ولا بد أن عمر أراد مبرراً لعزل عمار ، فأوحى إلى جرير بأن يشهد ضده فشهد !
21 . ولما بايع المسلمون علياً ( عليه السلام ) دعا جرير المسلمين إلى بيعته ، ومدحه ووفد اليه ، قال في أعيان الشيعة ( 4 / 73 ) : « فخطبهم جرير فقال : أيها الناس ، هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو المأمون على الدين والدنيا ، وقد كان أمره وأمر عدوه ما نحمد الله عليه ، وقد بايعه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها . ألا وإن البقاء في الجماعة والفناء في الفرقة ، وعليٌّ حاملكم على الحق ما استقمتم فإن ملتم أقام ميلكم . فقال الناس : سمعاً وطاعةً رضينا . فكتب جرير وأب كتابه بالطاعة . . وقال جرير في ذلك :
نردَّ الكتاب بأرض العجم * أتانا كتاب عليٍّ فلم
ولما نُضام ولما نُلَم * ولم نعصِ ما فيه لمَّا أتى
نضيم العزيز ونحمي الذمم * ونحن ولاةٌ على ثغرها
بكأس المنايا ونشفي القرم * نساقيهم الموت عند اللقاء
وضرب سيوف تطير اللمم * طحناهم طحنةً بالقنا
ودين النبي مجلي الظلم * مضينا يقيناً على ديننا
وعدل البرية والمعتصم * أمين الإله وبرهانه
--------------------------- 174 ---------------------------
خليفتنا القائم المدَّعم * رسول المليك ومِن بعده
نجالد عنه غواة الأمم * علياً عنيت وصيَّ النبي
وبيتُ النبوة لا يهتضم * له الفضل والسبق والمكرمات
قال : ثم أقبل جرير سائراً من ثغر همذان حتى ورد على علي ( عليه السلام ) بالكوفة ، فبايعه ودخل فيما دخل فيه الناس من طاعة علي ( عليه السلام ) واللزوم لأمره » . وكتاب صفين لنصر / 7 ، والإمامة والسياسة : 1 / 82 ، وجمهرة خطب العرب : 1 / 308 .
22 . وكان جرير والأشعث بن قيس وابن حريث وبعض مترفي الكوفة ، يتنزهون ويشربون الخمر في بيت الأشعث بالخورنق ، وقد سخروا من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبايعوا ضباً بإمرة المؤمنين فكشفهم الإمام ( عليه السلام ) ! وسيأتي ذلك في معجزاته ( عليه السلام ) في طريقه إلى صفين . ( رجال الطوسي / 33 ) .
23 . وفي شرح النهج ( 4 / 75 ) : ( روى الحارث بن حصين أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دفع إلى جرير بن عبد الله نعلين من نعاله وقال : احتفظ بهما ، فإن ذهابهما ذهاب دينك ، فلما كان يوم الجمل ذهبت إحداهما ، فلما أرسله علي ( عليه السلام ) إلى معاوية ذهبت الأخرى ، ثم فارق علياً واعتزل الحرب ) .
24 . وفي شرح النهج ( 2 / 61 ) : ( لما نزل علي ( عليه السلام ) الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة ، كتب إلى معاوية كتاباً يدعوه إلى البيعة ، أرسل فيه جرير بن عبد الله البجلي فقدم عليه به الشام ، فقرأه واغتم بما فيه ، وذهبت به أفكاره كل مذهب وطاول جريراً بالجواب عن الكتاب ) .
وقال اليعقوبي ( 2 / 184 ) : ( فقال : أبلعني ريقي يا جرير ) .
25 . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في إرساله جريراً ( كتاب سليم / 292 ) : ( فلما قضى الله لي الحسنى سرتُ إلى الكوفة ، وقد اتسقت لي الوجوه كلها إلا الشام ، فأحببت أن أتخذ الحجة وأفضي العذر ، أخذت بقول الله تعالى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ، فبعثت جرير بن عبد الله إلى معاوية معذراً إليه ، متخذاً للحجة عليه ، فردَّ كتابي وجحد حقي ودفع بيعتي ، وبعث إليَّ أن ابعث إليَّ قتلة عثمان ، فبعثت
--------------------------- 175 ---------------------------
إليه ما أنت وقتلة عثمان ؟ أولاده أولى به ، فادخل أنت وهم في طاعتي ثم خاصم القوم لأحملكم وإياهم على كتاب الله ، وإلا فهذه خدعة الصبي عن رضاع الملي ! فلما يئس من هذا الأمر بعث إليَّ أن اجعل الشام لي حياتك ، فإن حدث بك حادث من الموت لم يكن لأحد عليَّ طاعة ، وإنما أراد بذلك أن يخلع طاعتي من عنقه فأبيتُ عليه ، فبعث إليَّ إن أهل الحجاز كانوا الحكام على أهل الشام ، فلما قتلوا عثمان صار أهل الشام الحكام على أهل الحجاز !
فبعثتُ إليه إن كنت صادقاً فسمِّ لي رجلاً من قريش الشام تحل له الخلافة ، ويُقبل في الشورى ، فإن لم تجده سميت لك من قريش الحجاز من يحل له الخلافة ، ويُقبل في الشورى .
ونظرت إلى أهل الشام فإذا هم بقية الأحزاب ، فراش نار ، وذباب طمع ، تجمَّع من كل أوب ، ممن ينبغي أن يؤدب ويحمل على السنة ، ليسوا مهاجرين ولا أنصار ، ولا تابعين بإحسان ، فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة فأبوا إلا فراقي وشقاقي ، ثم نهضوا في وجه المسلمين ينضحونهم بالنبل ويشجرونهم بالرماح ! فعند ذلك نهضت إليهم فلما عضتهم السلاح ووجدوا ألم الجراح ، رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ، فأنبأتكم أنهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن ، وإنما رفعوها مكيدة وخديعة فامضوا لقتالهم ، فقلتم إقبل منهم واكفف عنهم فإنهم إن أجابوا إلى ما في القرآن ، جامعونا على ما نحن عليه من الحق ، فقبلت منهم وكففت عنهم ، فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين حكمين ليحييا ما أحياه القرآن ، ويميتا ما أماته القرآن ، فاختلف رأيهما واختلف حكمهما ، فنبذا ما في الكتاب ، وخالفا ما في القرآن وكانا أهله .
ثم إن طائفة اعتزلت فتركناهم ما تركونا ، حتى إذا عاثوا في الأرض يفسدون ويقتلون ، وكان فيمن قتلوه أهل ميرة من بني أسد ، وخباباً وابنه وأم ولده ، والحارث بن مرة العبدي ، فبعثت إليهم داعياً فقلت ادفعوا إلينا قتلة إخواننا ، فقالوا : كلنا قتلتهم ، ثم شدت خيلهم ورجالهم ، فصرعهم الله مصارع الظالمين ) .
--------------------------- 176 ---------------------------
أقول : لم يأخذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بنصيحة الأشتر ، وأصر على إرسال جرير مع معرفته به لأنه صاحب معاوية ، وله نفوذ على قادة اليمانين في الشام وهم عمدة جيش معاوية ، وقد أراد إعطاءهم الفرصة ليتضح لهم أمره وأمر معاوية .
26 . وقد أجاد جريرأحياناً في إبلاغ الرسالة ، وتقدمت رواية اليعقوبي ( 2 / 184 ) : ( فقدم جرير على معاوية ، وهو جالس والناس حوله ، فدفع إليه كتاب علي فقرأه ثم قام جرير فقال : يا أهل الشأم ! إنه من لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير ، وقد كانت بالبصرة ملحمة لن يشفع البلاء بمثلها ، فلا بقاء للإسلام ، فاتقوا الله يا أهل الشام ، ورَوْا في علي ومعاوية خيراً ، فانظروا لأنفسكم ، ولا يكونن أحد أنظر لها منكم ) .
وفي شرح نهج ( 3 / 76 ) : ( قام جرير فخطب فقال . . فقال معاوية : أنظروتنظر .
قال نصر : فلما أمسى معاوية اغتم بما هو فيه وجنه الليل وعنده أهل بيته ، فقال :
تطاول ليلى واعترتني وساوسي * لات أتى بالترهات البسابس
أتاني والحوادث جمة * بتلك التي فيها اجتداع المعاطس
أكايده والسيف بيني وبينه * ولست لأثواب الدنئ بلابس
إن الشام أعطت طاعة يمنية * تواصفها أشياخها في المجالس
فإن يفعلوا أصدم علياً بجبهة ( بخَيْل ) * تفت عليه كل رطب ويابس
وإني لأرجو خير ما نال نائل * وما أنا من ملك العراق بايس
فاستحثه جرير بالبيعة فقال : يا جرير ، إنها ليست بخلسة وإنه أمرله ما بعده ، فأبلعني ريقي حتى أنظر ! ودعا ثقاته فأشار عليه أخوه بعمرو العاص ) .
وفي نهج البلاغة ( 3 / 8 ) : ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية : أما بعد فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل ، وخذه بالأمر الجزم ، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية فإن اختار الحرب فانبذ إليه ، وإن اختار السلم فخذ بيعته . والسلام ) .
27 . في نهج البلاغة ( 1 / 93 ) : ( ومن كلام له ( عليه السلام ) وقد أشارعليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية : إن استعدادي لحرب أهل
--------------------------- 177 ---------------------------
الشام وجريرعندهم إغلاق للشام وصرف لأهله عن خير إن أرادوه . ولكن قد وَقَّتُّ لجرير وقتاً لا يقيم بعده إلا مخدوعاً أو عاصياً . والرأي عندي مع الأناة فأرودوا ، ولا أكره لكم الإعداد .
ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه ، وقلبت ظهره وبطنه ، فلم أر لي إلا القتال أو الكفر ، إنه قد كان على الناس والٍ أحدث أحداثاً وأوجد للناس مقالاً ، فقالوا ثم نقموا فغيروا ) .
28 . وتأخر جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس ! ( شرح النهج : 3 / 87 ) : ( في حديث صالح بن صدقة قال : أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس وقال علي ( عليه السلام ) : قد وقت لجرير وقتاً لا يقيم بعده إلا مخدوعاً أو عاصياً ، وأبطأ على على حتى أيس منه . قال : وفي حديث محمد وصالح بن صدقة ، قالا : فكتب علي ( عليه السلام ) إلى جرير بعد ذلك : إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ، ثم خيره وخذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية ، فإن اختار الحرب فانبذ إليه ، وإن اختار السلم فخذه ببيعته . والسلام .
قال : فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب وقال له : يا معاوية ، إنه لا يطبع على قلب إلا بذنب ، ولا يشرح صدر إلا بتوبة ، ولا أظن قلبك إلا مطبوعاً عليه ، أراك قد وقفت بين الحق والباطل ، كأنك تنتظر شيئاً في يد غيرك ! فقال معاوية : ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله . فلما بايع معاوية أهل الشام قال : يا جرير إلحق بصاحبك وكتب إليه بالحرب : من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب . أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت برئ من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان ، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين ، وخذلت عنه الأنصار ، فأطاعك الجاهل ، وقوى بك الضعيف ، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك ، حتى تدفع إليهم قتله عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين ، ولعمري ليس حججك عليَّ كحججك على طلحة والزبير ، لأنهما بايعاك ولم أبايعك ، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة ،
--------------------------- 178 ---------------------------
لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام .
فأما شرفك في الإسلام ، وقرابتك من النبي وموضعك من قريش ، فلست أدفعه . ثم كتب في آخر الكتاب شعر كعب بن جعيل الذي أوله :
أرى الشام تكره أهل العراق * وأهل العراق لهم كارهونا
وكل لصاحبه مبغض * يرى كل ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم * ودناهم مثل ما يقرضونا
وقالوا علي إمام لنا * فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وقالوا نرى أن تدينوا لنا * فقلنا ألا لا نرى أن ندينا
ومن دون ذلك خرط القتاد * وطعن وضرب يقر العيونا
وكل يسر بما عنده * يرى غث ما في يديه سمينا
وما في علي لمستعتب * مقال سوى ضمه المحدثينا
فكتب إليه علي ( عليه السلام ) جواباً عن كتابه هذا :
من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر بن حرب : أما بعد فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه ، ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتبعه ، زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان ، ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين ، أوردت كما أوردوا ، وأصدرت كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على الضلال ، ولا ليضربهم بالعمى . وبعد ، فما أنت وعثمان ! إنما أنت رجل من بني أمية وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه ، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إليَّ . وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير ، وبين أهل الشام وأهل البصرة ، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواء ، لأنها بيعة شاملة لايستثنى فيها الخيار ، ولا يستأنف فيها النظر . وأما شرفي في الإسلام وقرابتي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وموضعي من قريش ، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته . قال : ثم دعا النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له : إن ابن جعيل شاعر أهل الشام ، وأنت شاعر أهل العراق فأجب الرجل . فقال : يا أمير المؤمنين ، أسمعني قوله ،
--------------------------- 179 ---------------------------
قال : إذن أسمعك شعر شاعر ، ثم أسمعه ، فقال النجاشي يجيبه :
دعا يا معاوي ما لن يكونا * فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم عليٌّ بأهل العراق * وأهل الحجاز فما تصنعونا !
على كل جرداء خيفانة * وأشعث نهد يسر العيونا
عليها فوارس مخشية * كأسد العرين حمين العرينا
يرون الطعان خلال العجاج * وضرب الفوارس في النقع دينا
هم هزموا الجمع جمع الزبير * وطلحة والمعشر الناكثينا
وآلوا يميناً على حلفة * لنهدي إلى الشام حرباً زبونا
تشيب النواهد قبل المشيب * وتلقى الحوامل منها الجنينا
فإن تكرهوا الملك ملك العراق * فقد رضى القوم ما تكرهونا
فقل للمضلل من وائل * ومن جعل الغث يوماً سمينا
جعلتم علياً وأشياعه * نظير ابن هند أما تستحونا !
إلى أفضل الناس بعد الرسول * وصنو الرسول من العالمينا
وصهر الرسول ومن مثله * إذا كان يوم يشيب القرونا ) !
29 . ولما أراد جرير أن يلتحق بمعاوية واجهته قبيلته ، وأجمعت على نصرة علي وحرب معاوية ، فاعتزل الطرفين ، واتخذ من توبيخ الأشتر مبرراً لذلك ! وعزلت بجيلة جريراً رغم ثروته من الفتوحات ورأَّست رفاعة بن شداد . وذكر نصر بن مزاحم في صفين / 205 ، أن رفاعة ( رضي الله عنه ) كان فقيهاً فارساً ، سيد قراء الكوفة وكان من كبار شيعة علي ( عليه السلام ) وشارك معه في حرب الجمل . وروى عنه النسائي وابن ماجة ووثقوه . وروى هو عن أستاذه الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي . ( تهذيب التهذيب : 3 / 243 ) .
وثبت رفاعة على التشيع بعد علي ( عليه السلام ) . ولما قبض معاوية على حجر بن عدي وأصحابه ، طلبه فهرب مع عمرو بن الحمق إلى الموصل . ثم كان من رؤساء التوابين . ثم خرج مع المختار للطلب بدم الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
( راجع : أنساب الأشراف : 5 / 272 ، و : 6 / 364 ، والفتوح لابن الأعثم : 2 / 462 ، والطبري : 4 / 523 ) .
--------------------------- 180 ---------------------------
ولم يكن من بجيلة مع معاوية أحد !
قال نصر / 229 : « وأمر ( علي ( عليه السلام ) ) كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام ، إلا قبيلة ليس منهم بالشام أحد مثل بجيلة لم يكن بالشام منهم إلا عدد يسيرفصرفهم إلى لخم » . جعلهم مقابلهم .
30 . وقال نصر بن مزاحم / 60 : « فلما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسيا ولحق به أناس من قسر من قومه ( بطن صغير من بجيلة ) ولم يشهد صفين من قسرغير تسعة عشر ! وخرج علي إلى دار جرير فشعث منها ، وحرق مجلسه ( دون بقية داره ) وخرج أبو زرعة بن عمر بن جرير فقال : أصلحك الله إن فيها أرضاً لغير جرير ، فخرج عليٌّ منها إلى دار ثوير بن عامر فحرقها وهدم منها مجلسه وكان ثوير قد لحق بجرير . وقال الأشتر فيما كان من تخويف جرير إياه :
لعمرُك يا جرير لَقولُ عَمْرٍ * وصاحبه معاويةُ الشآمي
وذي كلع وحوشبَ ذي ظليمٍ * أخفُّ عليَّ من زفِّ النعام
إذا اجتمعوا عليَّ فخلِّ عنهم * وعن بازٍ مخالبه دوام
فلستُ بخائف ما خوفوني * وكيف أخاف أحلامَ النيام
وهمُّهمُ الذين حاموا عليه * من الدنيا ، وهمي ما أمامي
فإن أسلم أعمُّهم بحربٍ * يشيبُ لهولها رأس الغلام
وإن أهلك فقد قدمتُ أمراً * أفوز بفلجةٍ يوم الخصام
وقد زأروا إليَّ وأوعدوني * ومن ذا مات من خوف الكلام »
أقول : أحرق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من بيت جرير وثوير غرفة مجلسهما فقط لأنها مركز الفساد والنفاق ! وكان المنافقون كالأشعث وجرير يتخذون في بيوتهم مراكز لجماعتهم فسماها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : المساجد الملعونة في الكوفة !
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « إن بالكوفة مساجد ملعونة ومساجد مباركة . وأما المساجد الملعونة فمسجد ثقيف ، ومسجد الأشعث ، ومسجد جرير ، ومسجد سماك ، ومسجد بالخمراء بُنِيَ على قبر فرعون من الفراعنة ) . ( الكافي : 3 / 490 ) .
--------------------------- 181 ---------------------------
والخمراء : باخمرى قرية قرب الكوفة ، فيها قبر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ) .
- *
وأرسل معاوية إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أبا مسلم الخولاني
قال البلاذري ( 2 / 276 ) : ( فأتى جريرمعاوية ، ودعاه إلى ما أمره علي بدعائه إليه ، فانتظر معاوية قدوم شرحبيل بن السمط الكندي عليه ، فقال له جرير : إني قد رأيتك توقفت بين الحق والباطل وقوف رجل ينتظر رأي غيره . وقدم شرحبيل فقال له معاوية : هذا جرير يدعونا إلى بيعة علي . فقام شرحبيل فقال : أنت عامل أمير المؤمنين عثمان ، وابن عمه وأولى الناس بالطلب بدمه وقتل من قتله . ولم ير جرير عند معاوية انقياداً له ، ولا مقاربة لذلك ، فانصرف يائساً منه .
وقام أبو مسلم الخولاني واسمه عبد الرحمان ويقال عبد الله بن مشكم إلى معاوية فقال له : على مَ تقاتل علياً وليس لك مثل سابقته وقرابته وهجرته ! فقال معاوية : ما أقاتله وأنا أدعي في الإسلام مثل الذي ذكرت أنه له ، ولكن ليدفع إلينا قتلة عثمان فنقتلهم به ، فإن فعل فلا قتال بيننا وبينه ، قال : فاكتب إليه كتاباً تسأله فيه أن يسلم إليك قتلة عثمان . فكتب إليه معاوية فيما ذكرالكلبي عن أبي مخنف ، عن أبي روق الهمداني :
بسم الله الرحمن الرحيم . من معاوية بن أبي سفيان ، إلى علي بن أبي طالب . أما بعد فإن الله اصطفى محمداً بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، ثم اجتبى له من المسلمين أعواناً أيده بهم فكانوا في المنازل عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، وكان أنصحهم لله ورسوله خليفته ، ثم خليفة خليفته ، ثم الخليفة الثالث المقتول ظلماً عثمان ، فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت ، عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، وقولك الهجر ، وتنفسك الصعداء ، وإبطائك عن الخلفاء ، في كل ذلك تقاد كما يقاد الجمل المخشوش ، ولم تكن لأحد منهم أشد حسداً منك لابن عمك ، وكان أحقهم أن لا تفعل به ذلك لقرابته وفضله ، فقطعت رحمه وقبحت حسنه وأظهرت له العداوة وبطنت له بالغش ، وألبت الناس عليه
--------------------------- 182 ---------------------------
حتى ضربت آباط الإبل إليه من كلّ وجه ، وقيدت اليه الخيل من كل أفق ، وشهر عليه السلاح في حرم رسول الله فقتل معك في المحلة وأنت تسمع الهائعة لا تدرأ عنه بقول ولا فعل ! ولعمري يا ابن أبي طالب لو قمت في حقه مقاماً واحداً تنهى الناس فيه عنه ، وتقبح لهم ما ابتهلوا منه ، ما عدل بك من قبلنا من الناس أحداً ، ولمحى ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة له والبغي عليه . وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ظنيناً : إيواؤك قتلته ، فهم عضدك ويدك وأنصارك ، وقد بلغني أنك تتنصل من دم عثمان وتتبرأ منه ، فإن كنت صادقاً فادفع إلينا قتلته كي نقتلهم به ، ثم نحن أسرع الناس إليك ، وإلا فليس بيننا وبينك إلا السيف ، ووالذي لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله . والسلام .
فدفع الكتاب إلى أبي مسلم الخولاني وأمره أن يسير به إلى علي ، فصار به إلى الكوفة فأوصله إلى علي واجتمع الناس في المسجد ، وقرئ عليهم فقالوا : كلنا قتلة عثمان وكلنا كان منكراً لعمله ، ولم يجبه علي إلى ما أراد ، فجعل أبو مسلم يقول : الآن طاب الضراب . وكتب علي ( عليه السلام ) إليه في جواب كتابه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى معاوية بن أبي سفيان . أما بعد فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمداً وما أكرمه الله به من الهدى والوحي ، فالحمدلله الذي صدق له الوعد ، ومكَّن له في البلاد ، وأظهره على الدين كله ، وقمع به أهل العداوة والشنآن من قومه الذين كذبوه وشنعوا له وظاهروا عليه ، وعلى إخراج أصحابه ، وقلَّبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم له كارهون ، فكان أشد الناس عليه الأدنى فالأدنى من قومه ، إلا قليلاً ممن عصم الله .
وذكرت أن الله جلّ ثناؤه وتباركت أسماؤه اختار له من المؤمنين أعواناً أيده بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم خليفته وخليفة خليفته من بعده .
وذكرت أن ابن عفان كان في الفضل ثالثاً لهما ، فإن يكن عثمان محسناً فسيلقى رباً شكوراً يضاعف الحسنات ويجزي بها ، وإن يكن مسيئاً فسيلقى رباً غفوراً رحيماً ،
--------------------------- 183 ---------------------------
لايتعاظمه ذنب أن يغفره ، وإني لأرجو إذا أعطى الله المؤمنين على قدر أعمالهم أن يكون قسمنا أوفر قسم أهل بيت من المسلمين .
إن الله بعث محمداً ( ( عليهما السلام ) ) فدعا إلى الإيمان بالله والتوحيد له ، فكنا أهل البيت أول من آمن وأناب ، فمكثنا وما يعبد الله في ربع سكن من أرباع العرب أحد غيرنا ، فبغانا قومنا الغوائل وهموا بنا الهموم ، وألحقوا بنا الوشائط ، واضطرونا إلى شعب ضيق ، ووضعوا علينا فيه المراصد ، ومنعونا من الطعام والماء العذب ، وكتبوا بينهم كتاباً أن لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا ، أو ندفع إليهم نبينا فيقتلوه ، أو يمثلوا به ! وعزم الله لنا على منعه والذب عنه ، وسائر من أسلم من قريش أخلياء مما نحن فيه منهم ، من حليف ممنوع وذي عشيرة لا تبغيه كما بغانا قومنا ، فهم من التلف بمكان نجوة وأمن . فمكثنا بذلك ما شاء الله ، ثم أذن الله لرسوله في الهجرة وأمره بقتال المشركين ، فكان إذا حضر البأس ودعيث نزال قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه ، فقتل عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر يوم مؤتة ، وتعرض من لو شئت ان أسميه سميته لمثل ما تعرضوا له من الشهادة ، لكن آجالهم حضرت ومنيته أخرت .
وذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي لهم ، فأما الحسد فمعاذ الله أن أكون أسررته أو أعلنته ، وأما الإبطاء عنهم فما أعتذر إلى الناس منه ، ولقد أتاني أبوك حين قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبايع الناس أبا بكر ، فقال : أنت أحق الناس بهذا الأمر فأبسط يدك أبايعك ! قد علمت ذلك من قول أبيك ، فكنتُ الَّذي أبيتُ ذلك مخافة الفرقة لقرب عهد الناس بالكفر والجاهلية ، فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك ، وإلا تفعل فسيغني الله عنك . وذكرت عثمان وتأليبي الناس عليه فإن عثمان صنع ما رأيت ، فركب الناس منه ما قد علمت ، وأنا من ذلك بمعزل ، إلا أن تتجنى فتجنَّ ما بدا لك . وذكرت قتلته بزعمك وسألتني دفعهم إليك ، وما أعرف له قاتلاً بعينه ، وقد ضربت الأمر أنفه وعينيه فلم أره يسعني دفع من قبلي ممن اتهمته وأظننته ، إليك ، ولئن لم تنزع عن غيك
--------------------------- 184 ---------------------------
وشقائك لتعرفن الذين تزعم أنهم قتلوه طالبين لك لايكلفونك طلبهم في سهل ولا جبل . والسلام ) .
وأنفذ عليّ الكتاب إلى معاوية مع أبي مسلم الخولاني . وقال بعض الرواة : أن أبا هريرة الدوسي كان مع أبي مسلم ) .
والخولاني من خاصة معاوية : ( كانت أم حبية بنت أبي سفيان زوج النبي بعثت بقميص عثمان إلى معاوية ، فأخذه أبو مسلم الخولاني من معاوية ، فكان يطوف به في الشام في الأجناد ويحرض الناس على قتلة عثمان . وكان كعب بن عجرة الأنصاري أيضاً ممن بالغ في الحث على الطلب بدم عثمان ) . ( البلاذري : 2 / 291 ) .
- *
وأرسل معاوية إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أبا هريرة وأباالدرداء
روى سُليم بن قيس في كتابه / 288 : ( أن معاوية دعا أباالدرداء ونحن مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بصفين ودعا أبا هريرة فقال لهما : انطلقا إلى علي فاقرآه مني السلام وقولا له : والله إني لأعلم أنك أولى الناس بالخلافة وأحق بها مني ، لأنك من المهاجرين الأولين وأنا من الطلقاء ، وليس لي مثل سابقتك في الإسلام وقرابتك من رسول الله ، وعلمك بكتاب الله وسنة نبيه .
ولقد بايعك المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا فيك ثلاثة أيام ، ثم أتوك فبايعوك طائعين غير مكرهين ، وكان أول من بايعك طلحة والزبير ، ثم نكثا بيعتك وظلماك وطلبا ما ليس لهما . وأنا ابن عم عثمان والطالب بدمه ، وبلغني أنك تعتذر من قتل عثمان وتتبرأ من دمه ، وتزعم أنه قتل وأنت قاعد في بيتك ، وأنك قلت حين قتل واسترجعت : اللهم لم أرض ولم أمالئ ، وقلت يوم الجمل حين نادوا يا لثارات عثمان ، حين ثار من حول الجمل قلت : كب قتلة عثمان اليوم لوجوههم إلى النار ، أنحن قتلناه ؟ وإنما قتله هما وصاحبتهما وأمروا بقتله وأنا قاعد في بيتي .
وأنا ابن عم عثمان ووليه والطالب بدمه ، فإن كان الأمر كما قلت فأمكنا من قتلة عثمان وادفعهم إلينا نقتلهم بابن عمنا ، ونبايعك ونسلم إليك الأمر . هذه واحدة .
--------------------------- 185 ---------------------------
وأما الثانية فقد أنبأتني عيوني وأتتني الكتب من أولياء عثمان ، ممن هو معك يقاتل وتحسب أنه على رأيك وراض بأمرك وهواه معنا وقلبه عندنا وجسده معك ، أنك تظهر ولاية أبي بكر وعمر وتترحم عليهما ، وتكف عن عثمان ولا تذكره ولا تترحم عليه ولا تلعنه .
وبلغني عنك أنك إذا خلوت ببطانتك الخبيثة وشيعتك وخاصتك الضالة المغيرة الكاذبة ، تبرأت عندهم من أبي بكر وعمر وعثمان ولعنتهم ، وادعيت أنك خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أمته ووصيه فيهم ، وأن الله فرض على المؤمنين طاعتك وأمر بولايتك في كتابه وسنة نبيه ، وأن الله أمرمحمداً أن يقوم بذلك في أمته ، وأنه أنزل عليه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فجمع أمته بغدير خم فبلغ ما أمر به فيك عن الله ، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب ، وأخبرهم أنك أولى بهم من أنفسهم ، وأنك منه بمنزلة هارون من موسى .
وبلغني عنك أنك لاتخطب الناس خطبة إلا قلت قبل أن تنزل عن منبرك : والله إني لأولى الناس بالناس ، وما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله .
لئن كان ما بلغني عنك من ذلك حقاً ، فلظلم أبي بكر وعمر إياك أعظم من ظلم عثمان ! لقد قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونحن شهود ، فانطلق عمر وبايع أبا بكر وما استأمرك ولا شاورك ، ولقد خاصم الرجلان بحقك وحجتك وقرابتك من رسول الله ، ولو سلما لك وبايعاك لكان عثمان أسرع الناس إلى ذلك لقرابتك منه وحقك عليه ، لأنه ابن عمك وابن عمتك .
ثم عمد أبو بكر فردها إلى عمر عند موته ، ما شاورك ولا استأمرك حين استخلفه وبايع له ، ثم جعلك عمر في الشورى بين ستة منكم ، وأخرج منها جميع المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فوليتم ابن عوف أمركم في اليوم الثالث حين رأيتم الناس قد اجتمعوا واخترطوا سيوفهم ، وحلفوا بالله لئن غابت الشمس ولم تختاروا أحدكم ليضربن أعناقكم ، ولينفذن فيكم أمر عمر ووصيته !
--------------------------- 186 ---------------------------
فوليتم أمركم ابن عوف ، فبايع عثمان ، فبايعتموه .
ثم حوصر عثمان فاستنصركم فلم تنصروه ، ودعاكم فلم تجيبوه ، وبيعته في أعناقكم وأنتم يا معاشر المهاجرين والأنصار حضور شهود ، فخليتم عن أهل مصر حتى قتلوه ، وأعانهم طوائف منكم على قتله ، وخذله عامتكم ، فصرتم في أمره بين قاتل وآمر وخاذل .
ثم بايعك الناس وأنت أحق بهذا الأمر مني ، فأمْكِنِّي من قتلة عثمان حتى أقتلهم وأسلم الأمر لك ، وأبايعك أنا وجميع من قبلي من أهل الشام !
فلما قرأ علي ( عليه السلام ) كتاب معاوية وأبلغه أبو الدرداء وأبو هريرة رسالته ومقالته ، قال علي ( عليه السلام ) لأبي الدرداء : قد أبلغتماني ما أرسلكما به معاوية ، فاسمعا مني ثم أبلغاه عني كما أبلغتماني عنه وقولا له : إن عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين :
إما إمام هدى حرام الدم واجب النصرة ، لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه ،
أو إمام ضلالة حلال الدم ، لا تحل ولايته ولا نصرته . فلا يخلو من إحدى الخصلتين ، والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ، ضالاً كان أو مهتدياً ، مظلوماً كان أو ظالماً ، حلال الدم أو حرام الدم ، أن لايعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ، ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدؤوا بشئ ، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة ، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ، ويحفظ أطرافهم ، ويجبي فيئهم ، ويقيم حجهم وجمعتهم ، ويجبي صدقاتهم . ثم يحتكمون إليه في إمامهم المقتول ظلماً ، ويحاكمون قتلته إليه ليحكم بينهم بالحق : فإن كان إمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه ، وإن كان قتل ظالماً نظر كيف الحكم في ذلك . هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه : أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم ، إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه .
وإن كانت الخيرة إلى الله عز وجل وإلى رسوله ( ( عليهما السلام ) ) فإن الله قد كفاهم النظرفي ذلك والاختيار ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته واتباعه .
وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان ، بايعني المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا فيَّ
--------------------------- 187 ---------------------------
ثلاثة أيام ، وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعقدوا إمامتهم ، وليَ ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والأنصار ، غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة ، وإن بيعتي كانت بمشورة من العامة . فإن كان الله جل اسمه قد جعل الاختيار إلى الأمة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم ، واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) لهم ، وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدى ، وكان إماماً واجباً على الناس طاعته ونصرته ، فقد تشاوروا فيَّ واختاروني بإجماع منهم ، وإن كان الله عز وجل هو الذي يختار ، وله الخيرة فقد اختارني للأمة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ، فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي .
ولو أن عثمان قتل على عهد أبي بكر وعمر ، كان لمعاوية قتالهما والخروج عليهما للطلب بدمه ؟ قال أبو هريرة وأبو الدرداء : لا . قال علي ( عليه السلام ) : فكذلك أنا . فإن قال معاوية : نعم ، فقولا : إذاً يجوز لكل من ظلم بمظلمة أو قتل له قتيل أن يشق عصى المسلمين ويفرق جماعتهم ويدعو إلى نفسه ، مع أن ولد عثمان أولى بطلب دم أبيهم من معاوية . قال : فسكت أبو الدرداء وأبو هريرة وقالا : لقد أنصفت من نفسك .
قال علي ( عليه السلام ) : ولعمري لقد أنصفني معاوية إن تم على قوله وصدق ما أعطاني فهؤلاء بنو عثمان رجال قد أدركوا ليسوا بأطفال ولا مولى عليهم ، فليأتوا أجمع بينهم وبين قتلة أبيهم ، فإن عجزوا عن حجتهم فليشهدوا لمعاوية بأنه وليهم ووكيلهم في خصومتهم ، وليقعدوا هم وخصماؤهم بين يديَّ مقعد الخصوم إلى الإمام والوالي ، الذي يقرون بحكمه وينفذون قضاءه ، وأنظر في حجتهم وحجة خصمائهم ، فإن كان أبوهم قتل ظالماً وكان حلال الدم أبطلت دمه ، وإن كان مظلوماً حرام الدم أقدتهم من قاتل أبيهم ، فإن شاءوا قتلوه ، وإن شاءوا عفوا ، وإن شاءوا قبلوا الدية .
وهؤلاء قتلة عثمان في عسكري يقرون بقتله ، ويرضون بحكمي عليهم ولهم ، فليأتني ولد عثمان أو معاوية ، إن كان وليهم ووكيلهم ، فليخاصموا قتلته ،
--------------------------- 188 ---------------------------
وليحاكموهم حتى أحكم بينهم وبينهم بكتاب الله وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) .
وإن كان معاوية إنما يتجني ويطلب الأعاليل والأباطيل ، فليتجن ما بدا له فسوف يعين الله عليه .
قال أبو الدرداء وأبو هريرة : قد والله أنصفت من نفسك وزدت على النصفة ، وأزحت علته وقطعت حجته ، وجئت بحجة قوية صادقة ما عليها لوم . ثم خرج أبو هريرة وأبو الدرداء ، فإذا نحو من عشرين ألف رجل مقنعين بالحديد فقالوا : نحن قتلة عثمان ، ونحن مقرون راضون بحكم علي ( عليه السلام ) علينا ولنا ، فليأتنا أولياء عثمان فليحاكمونا إلى أمير المؤمنين في دم أبيهم ، فإن وجب علينا القود أو الدية ، اصطبرنا لحكمه وسلمنا .
فقالا : قد أنصفتم ، ولا يحل لعلي ( عليه السلام ) دفعكم ولا قتلكم حتى يحاكموكم إليه فيحكم بينكم وبين صاحبكم بكتاب الله وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) .
فانطلق أبو الدرداء وأبو هريرة حتى قدما على معاوية فأخبراه بما قال علي ( عليه السلام )
وما قال قتلة عثمان ، فقال لهما معاوية : فما رد عليكما في ترحمه على أبي بكر وعمر وكفه عن الترحم على عثمان وبراءته منه في السر ، وما يدعي من استخلاف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
إياه ، وأنه لم يزل مظلوماً منذ قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قالا : بلى ، قد ترحم على أبي بكر وعمر وعثمان عندنا ونحن نسمع . ثم قال لنا فيما يقول : إن كان الله جعل الخيار إلى الأمة ، فكانوا هم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم ، وكان اختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خيراً لهم وأرشد من اختيار الله واختيار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقد اختاروني وبايعوني فبيعتي بيعة هدى ، وأنا إمام واجب على الناس طاعتي ونصرتي ، لأنهم قد تشاوروا في واختاروني ، وإن كان اختيار الله واختيار رسول الله خيراً لهم وأرشد من اختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها ، فقد اختارني الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) للأمة واستخلفاني عليهم وأمراهم بنصرتي وطاعتي في كتاب الله المنزل على لسان نبيه المرسل ، وذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي !
ثم صعد ( عليه السلام ) المنبر في عسكره وجمع الناس ومن بحضرته من النواحي والمهاجرين والأنصار ، ثم حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا معاشر الناس ، إن مناقبي أكثر من أن
--------------------------- 189 ---------------------------
تحصى أو تعد ، ما أنزل الله في كتابه من ذلك ، وما قال فيَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكتفي بها عن جميع مناقبي وفضلي .
أتعلمون أن الله فضل في كتابه الناطق ، السابق إلى الإسلام في غير آية من كتابه على المسبوق وإنه لم يسبقني إلى الله ورسوله أحد من الأمة ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : أنشدكم الله ، سئل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن قوله : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ؟ فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنزلها الله في الأنبياء وأوصيائهم ، وأنا أفضل أنبياء الله ، وأخي ووصيي علي بن أبي طالب أفضل الأوصياء ؟ فقام نحو من سبعين بدرياً جلهم من الأنصار وبقيتهم من المهاجرين ، منهم أبو الهيثم بن التيهان ، وخالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري ، ومن المهاجرين عمار بن ياسر وغيره ، فقالوا : نشهد أنا قد سمعنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك !
قال : أنشدكم الله في قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ، وقوله : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، ثم قال : وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ، فقال الناس : يا رسول الله ، أخاص لبعض المؤمنين أم عام لجميعهم ؟ فأمر الله عز وجل رسوله أن يعلمهم فيمن نزلت الآيات وأن يفسر لهم من الولاية ما فسر لهم من صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجهم . فنصبني بغدير خم وقال : إن الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري وظننت أن الناس مكذبوني ، فأوعدني لأبلغنها أو يعذبني . قم يا علي ، ثم نادى بالصلاة جامعة ، فصلى بهم الظهر ثم قال :
أيها الناس ، إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأولى بهم من أنفسهم . ألا من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ، فقام إليه سلمان الفارسي فقال : يا رسول الله ولاؤه كماذا ؟ فقال : ولاؤه كولايتي ، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ، وأنزل الله تبارك وتعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً . فقال سلمان الفارسي : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآيات في
--------------------------- 190 ---------------------------
علي خاصة ؟ فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : بل فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة . ثم قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا سلمان ، إشهد أنت ومن حضرك بذلك وليبلغ الشاهد الغائب ، فقال سلمان الفارسي : يا رسول الله بينهم لنا ، فقال : عليٌّ أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي ، وأحد عشر إماماً من ولده . أولهم ابني الحسن ثم الحسين ثم تسعة من ولد الحسين ، واحداً بعد واحد . القرآن معهم وهم مع القرآن ، لا يفارقونه حتى يردوا علي الحوض ؟
فقام اثنا عشر رجلاً من البدريين فقالوا : نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله كما قلت سواء ، لم تزد فيه ولم تنقص حرفاً ، وأشهدنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على ذلك . وقال بقية السبعين : قد سمعنا ذلك ولم نحفظ كله ، وهؤلاء الإثنا عشر خيارنا وأفضلنا . فقال ( عليه السلام ) : صدقتم ليس كل الناس يحفظ ، بعضهم أحفظ من بعض .
فقام من الاثني عشر أربعة : أبو الهيثم بن التيهان وأبو أيوب الأنصاري وعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين رحمهم الله ، فقالوا : نشهد أنا قد سمعنا قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحفظناه أنه قال يومئذ وهو قائم وعلي قائم إلى جنبه ، ثم قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أيها الناس ، إن الله أمرني أن أنصب لكم إماماً ووصياً يكون وصي نبيكم فيكم وخليفتي في أمتي وفي أهل بيتي من بعدي والذي فرض الله على المؤمنين في كتابه طاعته ، وأمركم فيه بولايته ، فراجعت ربي خشية طعن أهل النفاق وتكذيبهم ، فأوعدني لأبلغها أو ليعذبني ! ثم قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
أيها الناس ، إن الله جل اسمه أمركم في كتابه بالصلاة وقد بينتها لكم وسننتها ، والزكاة والصوم والحج فبينتها وفسرتها لكم ، وأمركم في كتابه بالولاية وإني أشهدكم أيها الناس أنها خاصة لعلي بن أبي طالب والأوصياء من ولدي وولد أخي ووصيي ، علي أولهم ثم الحسن ثم الحسين ثم تسعة من ولد الحسين ابني ، لا يفارقون الكتاب ولا يفارقهم حتى يردوا علي الحوض . يا أيها الناس ، إني قد أعلمتكم مفزعكم وإمامكم بعدي ، ودليلكم وهاديكم وهو أخي علي بن أبي طالب ، وهو فيكم بمنزلتي فيكم ، فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم ، فإن عنده جميع ما علمني الله ،
--------------------------- 191 ---------------------------
وأمرني الله أن أعلمه إياه وأعلمكم أنه عنده ، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصيائه بعده ، ولا تعلموهم ولاتتقدموهم ، ولاتتخلفوا عنهم ، فإنهم مع الحق والحق معهم لا يزايلوه ولا يزايلهم .
فلما حدث أبو الدرداء وأبو هريرة معاوية بكل ذلك ، وبما رد عليه الناس ، وَجَمَ من ذلك وقال : يا أباالدرداء ويا أبا هريرة ، لئن كان ما تحدثاني عنه حقاً لقد هلك المهاجرون والأنصار ، غيره وغير أهل بيته وشيعته . ثم كتب معاوية إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
لئن كان ما قلت وادعيت واستشهدت عليه أصحابك حقاً ، لقد هلك أبو بكر وعمر وعثمان وجميع المهاجرين والأنصار غيرك وغير أهل بيتك وشيعتك ! وقد بلغني ترحمك عليهم واستغفارك لهم ، وإنه لعلى وجهين ما لهما ثالث : إما تقية ، إن أنت تبرأت منهم خفت أن يتفرق عنك أهل عسكرك الذين تقاتلني بهم ، أو أن الذي ادعيت باطل وكذب .
وقد بلغني وجاءني بذلك بعض من تثق به من خاصتك بأنك تقول لشيعتك الضالة وبطانتك بطانة السوء : إني قد سميت ثلاثة بنين لي أبا بكر وعمر وعثمان ، فإذا سمعتموني أترحم على أحد من أئمة الضلالة ، فإني أعني بذلك بنيَّ ! والدليل على صدق ما أتوني به ورَقَوْه إلي أنا قد رأيناك بأعيننا ، فلا نحتاج أن نسأل من ذلك غيرنا ، رأيتك حملت امرأتك فاطمة على حمار وأخذت بيد ابنيك الحسن والحسين إذ بويع أبو بكر ، فلم تدع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة إلا دعوتهم واستنصرتهم عليه ، فلم تجد منهم إنساناً غير أربعة : سلمان وأبا ذر والمقداد والزبير ، ولعمري لو كنت محقاً لأجابوك وساعدوك ونصروك ، ولكن ادعيت باطلاً وما لا يقرون به . وسمعتك أذناي وأنت تقول لأبي سفيان حين قال لك : غلبت يا ابن أبي طالب على سلطان ابن عمك ، ومن غلبك عليه أذل أحياء قريش تيم وعدي ، ودعاك إلى أن ينصرك فقلت : لو وجدت أعواناً أربعين رجلاً من المهاجرين والأنصار من أهل السابقة لناهضت هذا الرجل ،
--------------------------- 192 ---------------------------
فلما لم تجد غير أربعة رهط ، بايعت مكرهاً !
قال : فكتب إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمان الرحيم ، أما بعد ، فقد قرأت كتابك فكثرتعجبي مما خطت فيه يدك ، وأطنبت فيه من كلامك ! ومن البلاء العظيم والخطب الجليل على هذه الأمة أن يكون مثلك يتكلم أو ينظر في عامة أمرهم أو خاصته ، وأنت من تعلم وابن من تعلم ، وأنا من قد علمت وابن من قد علمت ، وسأجيبك فيما قد كتبت بجواب لا أظنك تعقله أنت ولا وزيرك ابن النابغة عمرو ، الموافق لك كما وافق شن طبقة ، فإنه هو الذي أمرك بهذا الكتاب وزينه لك ، وحضركما فيه إبليس ومردة أصحابه . والله لقد أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعرفني أنه رأى على منبره اثني عشر رجلاً ، أئمة ضلال من قريش يصعدون منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وينزلون على صورة القرود ، يردون أمته على أدبارهم عن الصراط المستقيم . قد خبرني بأسمائهم رجلاً رجلاً ، وكم يملك كل واحد منهم واحد بعد واحد . عشرة منهم من بني أمية ، ورجلان من حيين مختلفين من قريش ، عليهما مثل أوزار الأمة جميعاً إلى يوم القيامة ، ومثل جميع عذابهم ! فليس من دم يهراق في غير حقه ، ولا فرج يغشى حراماً ، ولا حكم بغير حق ، إلا كان عليهما وزره !
وسمعته يقول : إن بني أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلاً جعلوا كتاب الله دخلاً وعباد الله خَوَلاً ومال الله دِوَلاً . وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أخي إنك لست كمثلي ، إن الله أمرني أن أصدع بالحق ، وأخبرني أنه يعصمني من الناس ، وأمرني أن أجاهد ولو بنفسي فقال : فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاتُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ . وقال : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ . فكنت أنا وأنت المجاهدين . وقد مكثت بمكة ما مكثت لم أؤمر بقتال ، ثم أمرني الله بالقتال ، لأنه لا يُعرف الدين إلا بي ، ولا الشرائع ولا السنن والأحكام والحدود والحلال والحرام .
وإن الناس يَدَعون بعدي ما آمرهم الله به ، وما أمرتهم فيك من ولايتك ، وما أظهرت من حجتك ، متعمدين غير جاهلين ، ولا اشتبه عليهم فيه ، ولا سيما لما أتوك قبل مخالفة ما أنزل الله فيك ، فإن وجدت أعواناً عليهم فجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً
--------------------------- 193 ---------------------------
فاكفف يدك واحقن دمك ، فإنك إن نابذتهم قتلوك . وإن تبعوك وأطاعوك فاحملهم على الحق وإلا فدع ، وإن استجابوا لك ونابذوك فنابذهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك واحقن دمك . واعلم أنك إن دعوتهم لم يستجيبوا لك ، فلا تدعن أن تجعل الحجة عليهم . إنك يا أخي لست مثلي ، إني قد أقمت حجتك ، وأظهرت لهم ما أنزل الله فيك فإن سكت عنهم لم تأثم ، وإن حكمت ودعوت لم تأثم ، غير أني أحب أن تدعوهم . وإن لم يستجيبوا لك ولم يقبلوا منك وتظاهر عليك ظلمة قريش ، فإني أخاف عليك إن ناهضت القوم ونابذتهم وجاهدتم من غيرأن يكون معك فئة أعوان تقوي بهم أن يقتلوك ، فيطفأ نور الله ولا يعبد الله في الأرض ، والتقية من دين الله ولا دين لمن لا تقية له .
وإن الله قد قضى الفرقة والاختلاف بين هذه الأمة ، ولو شاء لجمعهم على الهدى ولم يختلف اثنان منهم ولا من خلقه ، ولم يُتنازع في شئ من أمره ، ولم يَجحد المفضول ذا الفضل فضله . ولو شاء عجل منهم النقمة ، وكان منه التغيير حتى يكذب الظالم ويعلم الحق أين مصيره .
والله جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة دار الثواب والعقاب : ليَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . فقلت : شكراً لله على نعمائه ، وصبراً على بلائه وتسليماً ورضى بقضائه .
ثم قال ( ( عليهما السلام ) ) : يا أخي ، أبشر فإن حياتك وموتك معي ، وأنت أخي وأنت وصيي ، وأنت وزيري وأنت وارثي ، وأنت تقاتل على سنتي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة ، إذ استضعفه أهله وتظاهروا عليه وكادوا أن يقتلوه . فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنها ضغائن في صدور قوم ، أحقاد بدر وترات أحد .
وإن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه : إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم بهم ، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم . فافعل أنت كذلك ، إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك
--------------------------- 194 ---------------------------
واحقن دمك ، فإنك إن نابذتهم قتلوك . واعلم أنك إن لم تكف يدك وتحقن دمك إذا لم تجد أعواناً ، أتخوف عليك أن يرجع الناس إلى عبادة الأصنام والجحود بأني رسول الله فاستظهرالحجة عليهم ، وادعهم ليهلك الناصبون لك والباغون عليك ، ويسلم العامة والخاصة . فإذا وجدت يوماً أعواناً على إقامة الكتاب والسنة فقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فإنما يهلك من الأمة من نصب نفسه لك ، أو لأحد من أوصيائك بالعداوة ، وعادى وجحد ودان بخلاف ما أنتم عليه .
ولعمري يا معاوية ، لو ترحمت عليك وعلى طلحة والزبير ، ما كان ترحمي عليكم واستغفاري لكم ليحق باطلاً ، بل يجعل الله ترحمي عليكم واستغفاري لكم لعنةً وعذاباً ! وما أنت وطلحة والزبير بأحقر جرماً ، ولا أصغر ذنباً وأهون بدعة وضلالة ، ممن استنالك ولصاحبك الذي تطلب بدمه ، ووطآ لكم ظلمنا أهل البيت ، وحملاكم على رقابنا ، فإن الله يقول : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ للَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذَا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ! فنحن الناس ونحن المحسودون . قال الله عز وجل : فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيماً . فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا . فالملك العظيم أن جعل الله فيهم أئمة من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله ، والكتاب والحكمة النبوة . فلمَ تقرون بذلك في آل إبراهيم ، وتنكرونه في آل محمد !
يا معاوية : فإن تكفر بها أنت وصاحبكومن قبلك من طغاة الشام واليمن والأعراب أعراب ربيعة ومضرجفاة الأمة : فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ . يا معاوية : إن القرآن حق ونور ، وهدى ورحمة ، وشفاء للمؤمنين ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى .
ىا معاوىة ، إن الله جل جلاله لم يدع صنفاً من أصناف الضلالة والدعاة إلى النار إلا وقد رد عليهم ، واحتج عليهم في القرآن ، ونهى فيه عن اتباعهم ، وأنزل فيهم قرآناً قاطعاً ناطقاً عليهم قد علمه من علمه وجهله من جهله .
--------------------------- 195 ---------------------------
وإني سمعت من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : ليس من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن وما منه حرف إلا وإن له تأويل ، وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ، الراسخون نحن آل محمد . وأمر الله سائر الأمة أن يقولوا : آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ، وأن يسلموا لنا ويردوا علمه إلينا وقد قال الله : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، هم الذين يسألون عنه ويطلبونه .
لعمري لو أن الناس حين قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سلموا لنا واتبعونا وقلدونا أمورهم ، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولما طمعت فيها أنت يا معاوية ، فما فاتهم منا أكثر مما فاتنا منهم . ولقد أنزل الله فيَّ وفيك خاصة آية من القرآن تتلوها أنت ونظراؤك على ظاهرها ، ولا تعلمون تأويلها وباطنها ، وهي في سورة الحاقة : فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ . إلى قوله : وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ . إلى آخر الآية ، وذلك أنه يدعى بكل إمام ضلالة وإمام هدى ، ومع كل واحد منهما أصحابه الذين بايعوه ، فيدعى بي ويدعى بك !
يا معاوية ، وأنت صاحب السلسلة الذي يقول : يَا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ . وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ . . إلى آخر القصص . والله لقد سمعت ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقوله فيك ! وكذلك كل إمام ضلالة كان قبلك ويكون بعدك ، له مثل ذلك من خزي الله وعذابه . ونزل فيكم قول الله عز وجل : وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً للَّنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ . وذلك حين رأى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اثني عشر إماماً من أئمة الضلالة على منبره يردون الناس على أدبارهم القهقرى ، رجلان من حيين مختلفين من قريش ، وعشرة من بني أمية ، أول العشرة صاحبك الذي تطلب بدمه ، وأنت وابنك وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص ، أولهم مروان ، وقد لعنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطرده وما ولد ، حين استمع لنساء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
يا معاوية ، إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، ولم يرض لنا الدنيا ثواباً .
يا معاوية ، إن نبي الله زكريا ( عليه السلام ) نشر بالمنشار ، ويحيى ( عليه السلام ) ذبح وقتله قومه وهو
--------------------------- 196 ---------------------------
يدعوهم إلى الله عز وجل ، وذلك لهوان الدنيا على الله . إن أولياء الشيطان قديماً حاربوا أولياء الرحمن ، قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِحَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَامُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .
يا معاوية ، إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد أخبرني أن أمته سيخضبون لحيتي من دم رأسي ، وإني مستشهد ، وستلي الأمة من بعدي ، وأنك ستقتل ابني الحسن غدراً بالسم ، وأن ابنك يزيد لعنه الله سيقتل ابني الحسين ، يلي ذلك منه ابن الزانية . وأن الأمة سيليها من بعدك سبعة من ولد أبي العاص وولد مروان بن الحكم ، وخمسة من ولده تكملة اثني عشر إماماً ، قد رآهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يتواثبون على منبره تواثب القردة ، يردون أمته عن دين الله على أدبارهم القهقرى ، وأنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة ، وأن الله سيخرج الخلافة منهم برايات سود تقبل من الشرق ، يذلهم الله بهم ويقتلهم تحت كل حجر . وإن رجلاً من ولدك مشوم ملعون ، جلف جاف منكوس القلب ، فظ غليظ ، قد نزع الله من قلبه الرأفة والرحمة ، أخواله من كلب ، كأني أنظر إليه ولو شئت لسميته ووصفته وابن كم هو ، فيبعث جيشاً إلى المدينة فيدخلونها فيسرفون فيها في القتل والفواحش ، ويهرب منه رجل من ولدي زكي نقي ، الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً . وإني لأعرف اسمه وابن كم هو يومئذ وعلامته ، وهو من ولد ابني الحسين الذي يقتله ابنك يزيد ، وهو الثائر بدم أبيه ، فيهرب إلى مكة ويقتل صاحب ذلك الجيش رجلاً من ولدي زكياً برياً عند أحجار الزيت ، ثم يسير ذلك الجيش إلى مكة ، وإني لأعلم اسم أميرهم وعدتهم وأسماءهم وسمات خيولهم ، فإذا دخلوا البيداء واستوت بهم الأرض خسف الله بهم . قال الله عز وجل : وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ . قال من تحت أقدامكم ، فلا يبقى من ذلك الجيش أحد غير رجل واحد يقلب الله وجهه من قبل قفاه . ويبعث الله للمهدي أقواماً يجتمعون من أطراف الأرض قزع كقزع الخريف . والله إني لأعرف أسماءهم واسم أميرهم ومناخ ركابهم ، فيدخل المهدي الكعبة ويبكي ويتضرع ، قال الله عز وجل : أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ . هذا لنا خاصة أهل البيت ) .
--------------------------- 197 ---------------------------
أقول : إن نور هذا الحديث ظاهر عليه ، مهما قلنا في سنده ، ومضامينه عالية ، وحججه ناصعة ، ولا يمكن أن يصدر مثل هذا الكلام إلا من معدن النبوة .
- *
وأرسل إلى معاوية ضمرة بن يزيد وعمرو بن زرارة النخعي
قال البلاذري ( 2 / 293 ) : ( إن علياً كتب إلى معاوية يدعوه إلى بيعته وحقن دماء المسلمين ، وبعث بكتابه مع ضمرة بن يزيد وعمرو بن زرارة النخعي فقال معاوية : إن دفع إلي قتلة ابن عمي وأقرني على عملي بايعته ، وإلا فاني لا أترك قتلة ابن عمي وأكون سَوَقَة ، هذا ما لا يكون ولا أقار عليه ) .
وفي جمهرة الأمثال ( 2 / 159 ) : ( كتب إلى معاوية مع ضمرة بن يزيد الضمري وعمرو بن زرارة النخعي ، يريده على البيعة فقال لهما معاوية : إن علياً آوى قتلة ابن عمي وشرك في دمه فإن دفع إلي قتلته وأقرني على عملي بايعته . وكتب بذلك إليه فقال علي : يشرط علي معاوية الشروط في البيعة ويسألني قتلة عثمان ، والله ما قتلته ولا مالأت على قتله . ويسألني أن أدفع إليه قتلة عثمان وما معاوية والطلب بدم عثمان ، وإنما هو رجل من بني أمية وبنو عثمان أحق بالطلب بدم أبيهم ، فإن زعم أنه أقوى على ذلك منهم فليبايعني وليتحاكم إلي ، فقال الوليد بن عقبة :
ألا أبلغ معاوية بن صخر * فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى * تهدر في دمشق ولا تريم
يمنيك الإمارة كل ركب * بأنقاض العراق لها رسيم
فإنك والكتاب إلى علي * كدابغة وقد حلم الأديم
لك الخيرات فاحملنا عليهم * فخير الطالب الترة الغشوم
وقومك بالمدينة قد أصيبوا * لهم صرعى كأنهم الهشيم
فلو كنت القتيل وكان حياً * لشمر لا ألف ولا سؤوم
فتمثل معاوية قول أوس بن حجر :
ومستعجب مما يرى من أناتنا * ولو زبنته الحرب لم يترمرم
--------------------------- 198 ---------------------------
أقول : ذكروا أن عمرو بن زرارة الأنصاري صحابي ، وأنه أول من أعلن خلع عثمان ودعا إلى بيعة علي ( عليه السلام ) . ( الإصابة : 4 / 520 ) .
وأرسل علي ( عليه السلام ) إلى معاوية خفاف بن عبد الله الطائي
في شرح النهج ( 3 / 110 ، ووقعة صفين / 68 ) : ( قام عدي بن حاتم الطائي إلى علي ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين إن عندي رجلاً لايوازى به رجل ، وهو يريد أن يزورابن عمة حابس بن سعد الطائي بالشام ، فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسرأهل الشام ، فقال علي ( عليه السلام ) : نعم ، فأمره عدي بذلك وكان اسم الرجل خفاف بن عبد الله ، فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام ، وحابس سيد طئ بها ، فحدث خفاف حابساً أنه شهد عثمان بالمدينة وسار مع علي إلى الكوفة ، وكان لخفاف لسان وهيئة وشعر ، فغدا حابس بخفاف إلى معاوية فقال : إن هذا ابن عم لي ، قدم الكوفة مع علي وشهد عثمان بالمدينة وهو ثقة .
فقال له معاوية : هات حدثنا عن عثمان ، فقال : نعم حصره المكشوح وحكم فيه حكيم ووليه عمار ، وتجرد في أمره ثلاثة نفر : عدي بن حاتم ، والأشتر النخعي ، وعمرو بن الحمق ، وجد في أمره رجلان طلحة والزبير ، وأبرأ الناس منه علي . قال : ثم مه ، قال : ثم تهافت الناس على عليٍّ بالبيعة تهافت الفراش ، حتى ضاعت النعل وسقط الرداء ، ووطئ الشيخ . ولم يذكر عثمان ولم يُذكر له ، ثم تهيأ للمسير وخف معه المهاجرون والأنصار .
وكره القتال معه ثلاثة نفر : سعد بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، فلم يستكره أحداً ، واستغنى بمن خف معه عمن ثقل . ثم سار حتى أتى جبل طئ ، فأتته منا جماعة كان ضارباً بهم الناس ، حتى إذا كان ببعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة ، فسرح رجالاً إلى الكوفة يدعونهم فأجابوا دعوته ، فسار إلى البصرة ، فإذا هي في كفه .
ثم قدم الكوفة فحمل إليه الصبي ودبت إليه العجوز ، وخرجت إليه العروس ، فرحاً به وشوقاً إليه ، وتركته وليس له همة إلا الشام . فذعر معاوية من قوله ، وقال
--------------------------- 199 ---------------------------
حابس : أيها الأمير لقد أسمعني شعراً غير به حالي في عثمان ، وعظم به علياً عندي . فقال معاوية : أسمعنيه ياخفاف فأنشده :
قلت والليل ساقط الأكناف * ولجنبي عن الفراش تجاف
أرقب النجم مائلاً ومتى * الغمض بعين طويلة التذراف
ليت شعري وإنني لسؤول * هل لي اليوم بالمدينة شاف
من صحاب النبي إذ عظم الخط * ب وفيهم من البرية كاف
أحلال دم الإمام بذنب * أم حرام بسنة الوقاف
قال لي القوم لا سبيل إلى ما * تطلب اليوم قلت حسب خفاف
عند قوم ليسوا بأوعية * العلم ولا أهل صحة وعفاف
قلت لما سمعت قولا دعوني * إن قلبي من القلوب الضعاف
قد مضى ما مضى ومر به * الدهر كما مر ذاهب الأسلاف
إنني والذي يحج له الناس * على لحق البطون العجاف
تتبارى مثل القسي من النبع * بشعث مثل الرصاف نحاف
أرهب اليوم إن أتاك عليٌّ * صيحة مثل صيحة الأحقاف
إنه الليث عادياً وشجاع * مطرق نافث بسم زعاف
فارس الخيل كل يوم نزال * ونزال الفتى من الإنصاف
واضع السيف فوق عاتقه الأيمن * يذرى به شؤون القحاف
لا يرى القتل في الخلاف عليه * ألف ألف كانوا من الإسراف
سوم الخيل ثم قال لقوم * تابعوه إلى الطعان خفاف
ةاستعدوا لحرب طاغية * الشام فلبوه كالبنين اللطاف
ثم قالوا أنت الجناح لك الريش * القدامى ونحن منه الخوافي
أنت وال وأنت والدنا * البر ونحن الغداة كالأضياف
وقرى الضيف في الديار قليل * قد تركنا العراق للإتحاف
وهم ما هم إذا نشب البأس * ذووا الفضل والأمور الكوافي
وانظر اليوم قبل نادية القوم * بسلم أردت أم بخلاف
--------------------------- 200 ---------------------------
إن هذا رأي الشفيق على الشام * ولولاه ما خشيت مشاف
فانكسر معاوية وقال : يا حابس ، إني لا أظن هذا إلا عيناً لعلي ، أخرجه عنك لا يفسد أهل الشام . ثم بعث إليه بعد فقال : يا خفاف أخبرني عن أمور الناس ، فأعاد عليه ، فعجب معاوية من عقله وحسن وصفه للأمور ) .
وأرسل معاوية إلى علي ( عليه السلام ) رجلاً من بني عبس
قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 77 ) : ( ثم إن معاوية انتخب رجلاً من عبس وكان له لسان ، فكتب معاوية إلى علي كتاباً عنوانه : من معاوية إلى علي ، وداخله : بسم الله الرحمن الرحيم . لا غير .
فلما قدم الرسول دفع الكتاب إلى علي ، فعرف علي ما فيه وأن معاوية محارب له ، وأنه لا يجيبه إلى شئ مما يريد ، وقام رسول معاوية خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : هل ها هنا أحد من أبناء قيس عيلان ، وبني عبس وذبيان ؟ قالوا : نعم هم حولك ، قال : فاسمعوا ما أقول لكم ، يا معشر قيس ، إني أحلف بالله لقد خلفت بالشام خمسين ألف شيخ خاضبين لحاهم من دموع أعينهم تحت قميص عثمان ، رافعيه على الرماح مخضوباً بدمائه ، قد أعطوا الله عهداً أن لا يغمدوا سيوفهم ، ولايغمضوا جفونهم ، حتى يقتلوا قتلة عثمان ، يوصى به الميت الحي ، ويرثه الحي من الميت ، حتى والله نشأ عليه الصبي وهاجر عليه الأعرابي ، وترك القوم تعس الشيطان ، وقالوا : تعساً لقتلة عثمان ، وأحلف بالله ليأتينكم من خضرالخيل اثنا عشرألفاً ، فانظروا كم الشهب وغيرها ؟
فقال له علي : ما يريدون بذلك ؟ قال : يريدون بذلك والله خبط رقبتك . فقال علي : تربت يداك وكذب فوك ، أما والله لو أن رسولاً قتل لقتلتك .
فقام الصلت بن زفر فقال : بئس وافد أهل الشام أنت ورائد أهل العراق ، ونعم العون لعلي ، وبئس العون لمعاوية ، يا أخا عبس أتخوف المهاجرين والأنصار بخضر الخيل ، وغضب الرجال ! أما والله ما نخاف غضب رجالك ولاخضرخيلك ، فأما بكاء أهل الشام على قميص عثمان ، فوالله ما هو بقميص يوسف ولا بحزن يعقوب ،
--------------------------- 201 ---------------------------
ولئن بكوا عليه بالشام ، لقد خذلوه بالحجاز ، وأما قتالهم علياً ، فإن الله يصنع في ذلك ما أحب . قال : وإن العبسي أقام بالعراق عند علي ، حتى اتهمه معاوية ، ولقيه المهاجرون والأنصار فأشربوه حب علي ، وحدثوه عن فضائله ، حتى شك في أمره ) .
وأرسل علي ( عليه السلام ) الطرماح بن عدي الطائي إلى معاوية
1 . قال المفيد في الإختصاص / 138 : ( كتب معاوية بن أبي سفيان إلى علي صلوات الله عليه : بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد يا علي لأضربنك بشهاب قاطع لا يدكنه الريح ، ولايطفئه الماء . إذا اهتز وقع وإذا وقع نقب ، والسلام .
فلما قرأ علي ( عليه السلام ) كتابه دعا بدواة وقرطاس ، ثم كتب : بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد يا معاوية فقد كذبت ، أنا علي بن أبي طالب ، وأنا أبو الحسن والحسين ، قاتل جدك وعمك وخالك وأخيك ، وأنا الذي أفنيت قومك في يوم بدر ويوم فتح ويوم أحد ، وذلك السيف بيدي ، تحمله ساعدي بجرأة قلبي ، كما خلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكف الوصي ، لم أستبدل بالله رباً وبمحمد ( ( عليهما السلام ) ) نبياً ، وبالسيف بدلاً . والسلام على من اتبع الهدى .
ثم طوى الكتاب ودعا الطرماح بن عدي الطائي وكان رجلاً مفوهاً طوالاً فقال له : خذ كتابي هذا فانطلق به إلى معاوية ، ورد جوابه ، فأخذ الطرماح الكتاب ودعا بعمامة فلبسها فوق قلنسوته ، ثم ركب جملاً بازلاً فتيقاً مشرفاً عالياً في الهواء ، فسار حتى نزل مدينة دمشق ، فسأل عن قواد معاوية ، فقيل له : من تريد منهم ؟ فقال : أريد جرولاً وجهضماً وصلادة وقلادة وسوادة وصاعقة وأباالمنايا وأباالحتوف وأباالأعور السلمي وعمرو بن العاص ، وشمر بن ذي الجوشن ، والهدى بن الأشعث الكندي ، فقيل إنهم يجتمعون عند باب الخضراء ، فنزل وعقل بعيره وتركهم حتى اجتمعوا ركب إليهم ، فلما بصروا به قاموا إليه يهزؤون به ، فقال واحد منهم : يا أعرابي أعندك خبر من السماء ؟ قال : نعم جبرئيل في السماء ، وملك الموت في الهواء ، وعلي في القضاء ! فقالوا له : يا أعرابي
--------------------------- 202 ---------------------------
من أين أقبلت ؟ قال : من عند التقي النقي إلى المنافق الردي ، قالوا له : يا أعرابي فما تنزل إلى الأرض حتى نشاورك ؟ قال : والله ما في مشاورتكم بركة ولا مثلي يشاور أمثالكم ، قالوا : يا أعرابي فإنا نكتب إلى يزيد بخبرك وكان يزيد يومئذ ولي عهدهم ، فكتبوا إليه : أما بعد يا يزيد فقد قدم علينا من عند علي بن أبي طالب أعرابي له لسان يقول فما يمل ، ويكثر فما يكل والسلام .
فلما قرأ يزيد الكتاب أمر أن يهول عليه ، وأن يقام له سماطان بالباب بأيديهم أعمدة الحديد فلما توسطهم الطرماح قال : من هؤلاء كأنهم زبانية مالك ، في ضيق المسالك ، عند تلك الهوالك ؟ قالوا : أسكت هؤلاء أعدوا ليزيد ، فلم يلبث أن خرج يزيد ، فلما نظر إليه قال : السلام عليك يا أعرابي ، قال : الله السلام المؤمن المهيمن على ولد أمير المؤمنين ، قال : إن أمير المؤمنين يقرؤ عليك السلام . قال : سلامه معي من الكوفة . قال : إنه يعرض عليك الحوائج ، قال : أما أول حاجتي إليه فنزع روحه من بين جنبيه ، وأن يقوم من مجلسه حتى يجلسه فيه من هو أحق به وأولى !
قال له : يا أعرابي فإنا ندخل عليه ، فما فيك حيلة . قال : السلام عليك أيها الملك ، قال : وما منعك أن تقول : يا أمير المؤمنين ؟ قال : نحن المؤمنون فمن أمرك علينا ؟ فقال : ناولني كتابك ، قال : إني لأكره أن أطأ بساطك ، قال فناوله وزيري ، قال : خان الوزير وظلم الأمير ، قال : فناوله غلامي ، قال : غلام سوء اشتراه مولاه من غير حل واستخدمه في غير طاعة الله ، قال : فما الحيلة يا أعرابي ؟ قال : ما يحتال مؤمن مثلي لمنافق مثلك قم صاغراً فخذه ، فقام معاوية صاغراً فتناوله ثم فصه وقرأ ، ثم قال : يا أعرابي كيف خلفت علياً ؟ قال : خلفته والله جلداً ، حرياً ، ضابطاً ، كريماً ، شجاعاً ، جواداً ، لم يلق جيشاً إلا هزمه ولا قرناً إلا أرداه ، ولا قصراً إلا هدمه . قال : فكيف خلفت الحسن والحسين ؟ قال : خلفتهما صحيحين ، فصيحين ، كريمين ، شجاعين ، جوادين ، شابين ، طريين مصلحان للدنيا والآخرة . قال : فكيف خلفت أصحاب علي ؟ قال : خلفتهم وعلي ( عليه السلام ) بينهم كالبدر وهم كالنجوم ، إن أمرهم ابتدروا وإن نهاهم ارتدعوا .
فقال له : يا أعرابي ما أظن بباب علي أحداً أعلم منك ، قال : ويلك استغفر ربك وصم
--------------------------- 203 ---------------------------
سنة كفارة لما قلت ، كيف لو رأيت الفصحاء الأدباء النطقاء ، ووقعت في بحر علومهم لغرقت يا شقي . قال : الويل لأمك ! قال : بل طوبى لها ولدت مؤمناً يغمز منافقاً مثلك ، قال له : يا أعرابي هل لك في جائزة ؟ قال : أرى استنقاص روحك ، فكيف لا أرى استنقاص مالك ، فأمر له بمائة ألف درهم ، قال : أزيدك يا أعرابي ؟ قال أسد يداً سد أبداً ، فأمر له بمائة ألف أخرى ، فقال ثلِّثها فإن الله فرد ، ثم ثلثها ، فقال : الآن ما تقول ؟ فقال : أحمد الله وأذمك ، قال : ولم ويلك ؟ قال : لأنه لم يكن لك ولأبيك ميراثاً ، إنما هو من بيت مال المسلمين أعطيتنيه .
ثم أقبل معاوية على كاتبه فقال : أكتب للأعرابي جواباً ، فلا طاقة لنا به . فكتب : أما بعد يا علي فلأوجهن إليك بأربعين حملاً من خردل ، مع كل خردلة ألف مقاتل يشربون الدجلة ، ويستقون الفرات !
فلما نظر الطرماح إلى ما كتب به الكاتب أقبل على معاوية فقال له : سوءة لك يا معاوية ، فلا أدري أيكما أقل حياء أنت أم كاتبك ؟ ويلك لو جمعت الجن والإنس وأهل الزبور والفرقان كانوا لا يقولون بما قلت ، قال : ما كتبه عن أمري ، قال : إن لم يكن كتبه عن أمرك فقد استضعفك في سلطانك وإن كان كتبه بأمرك فقد استحييت لك من الكذب ، أمن أيهما تعتذر ومن أيهما تعتبر ؟ أما إن لعلي ديكاً أشتر جيد العنصر ، يلتقط الخردل لجيشه وجيوشه ، فيجمعه في حوصلته . قال : ومن ذلك يا أعرابي ؟ قال : ذلك مالك بن الحارث الأشتر ، ثم أخذ الكتاب والجائزة وانطلق به إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، فأقبل معاوية على أصحابه فقال : نرى لو وجهتكم بأجمعكم في كل ما وجه به صاحبه ما كنتم تؤدون عني عشر عشير ما أدى هذا عن صاحبه ) !
2 . هذه الرواية غير مقبولة عندي ، فالصنعة فيها ظاهرة ، والتكلف ، ولم يكن يزيد ولي عهد أبيه يومها ، وكان صغيراً عن استقبال الرسل ، ولا كان معاوية يسمى أمير المؤمنين قبل التحكيم . لكن فائدة الرواية أنها تدل على جَوِّ الحِجَاج ، الذي كان سائداً بين أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومعاوية ، وبين أهل العراق وأهل الشام ،
--------------------------- 204 ---------------------------
وعن افتخار أهل العراق بالأشتر ( رضي الله عنه ) .
3 . معنى الطِّرِمَّاح : الطويل : ( طَرْمَحَ الرجل بناءه : إذا رفعه ) ( العين : 3 / 335 ) .
والمقصود به الطرماح بن عدي بن حاتم الطائي ، من أصحاب أمير المؤمنين والحسين صلوات الله عليهما ، ووصفه علماؤنا بالجلالة والنبل ، ويبدو أنه ابن عدي بن حاتم آخر . ( الفصول المهمة : 2 / 814 ) .
4 . اشتهر في مصادرسيرة الحسين ( عليه السلام ) أن الطرماح دلهم على طريق كربلاء ،
قال البلاذري ( 3 / 172 ) : ( حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات وكان بها هجائن النعمان ترعى هنالك ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرساً لنافع بن هلال يقال له الكامل ، ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي على فرسه . وأقبل إليهم الحر بن يزيد فقال إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك وأنا حابسهم أو رادهم فقال له الحسين : لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي ، إنما هؤلاء أنصاري وأعواني وقد كنت أعطيتني أن لا تعرض لي بشئ حتى يأتيك كتاب من ابن زياد ، فقال : أجل لكن لم يأتوا معك قال : هم أصحابي وهم بمنزلة من جاء معي فإن أتممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك ، فكف عنهم الحر .
ثم قال لهم الحسين : أخبروني خبر الناس وراءكم ؟ فقال له مجمع بن عبد الله العائذي ، وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه : أما الأشراف فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم ليستمال ودهم وتستنزل نصائحهم ، فهم عليك إلباً واحداً ! وما كتبوا إليك إلا ليجعلوك سوقاً ومكسباً !
وأما سائر الناس فأفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك ! وكان الطرماح بن عدي دليل هؤلاء النفر فأخذ بهم على الغريين ، ثم طعن بهم في الجوف وخرج بهم على البيضة إلى عذيب الهجانات ، وكان يقول وهو يسير :
يا ناقتي لا تذعري من زجري * وشمري قبل طلوع الفجر
بخير ركبان وخير سفري * حتى تجلى بكريم النجر
--------------------------- 205 ---------------------------
أتى به الله بخير أمري * ثمت أبقاه بقاء الدهر
فدنا الطرماح بن عدي من الحسين ( عليه السلام ) فقال له : والله إني لأنظر فما أرى معك كبير أحد ، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازمين لك مع الحر لكان ذلك بلاءا ، فكيف وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة بيوم ظهر الكوفة مملوءً رجالاً ، فسألت عنهم فقيل : عرضوا ليوجهوا إلى الحسين ! فنشدتك الله إن قدرت أن لا تتقدم إليهم شبراً إلا فعلت .
وعرض عليه أن ينزله أجأ أو سلمى ، أحد جبلي طيئ ، فجزَّاه الحسين خيراً ، ثم ودعه ومضى إلى أهله ، ثم أقبل يريده فبلغه مقتله فانصرف ) .
أقول : قول العائذي للإمام ( عليه السلام ) : ( وما كتبوا إليك إلا ليجعلوك سوقاً ومكسباً ) ! بليغ الدلالة يدل على أن هلاك معاوية فتح سوقاً للمنافقين في الكوفة ، فكتبوا للحسين ( عليه السلام ) ليساوموا السلطة ويقولوا لهم أعطونا ما يرضينا لنكف عن دعوة الحسين إلى الكوفة ، وإلا واصلنا دعوته . فرسائلهم له سوق ومكسب للدنيا !
وفيهم استثناء من الأتقياء المخلصين ، لكنهم قلة .
5 . الرواية المشهورة أن الطرماح كان دليلاً لخمسة من أنصار الحسين ( عليه السلام ) : عمرو بن خالد الصيداوي ، ومجمع بن عبد الله العائذي ، وابنه ، وجنادة بن الحارث السلماني ، وغلام لنافع بن هلال الجملي ، فأراد الحر منعهم فمنعه الحسين ( عليه السلام ) والتحقوا به ( أعيان الشيعة : 1 / 597 ) .
وأن الطرماح كان تسوق لقومه ، فاستجاز الحسين ( عليه السلام ) أن يوصل ما اشتراه إلى في منازل طيئ ويرجع لنصرته ، ولما رجع وجده قد استشهد .
لكن الميرزا النوري روى في خاتمة المستدرك : 8 / 90 ، عن نسخة مقتل أبي مخنف قول الطرماح : ( كنت في القتلى وقد وقع فيَّ جراحات ، ولو حلفت لكنت صادقاً : أني كنت غير نائم إذْ أقبل عشرون فارساً وعليهم ثياب بيض يفوح منها المسك والعنبر فقلت في نفسي : هذا عُبيدُ الله بن زياد قد أقبل يريد جثّة الحسين ( عليه السلام ) ليمثل بها . فجاؤوا حتى صاروا قريباً منه ، فتقدم رجل إلى جثة
--------------------------- 206 ---------------------------
الحسين ( عليه السلام ) وأجلسه قريباً منه ، فأومى بيده إلى الكوفة وإذا بالرأس قد أقبل . . الخبر . فإنْ أخْرجناه من عصابة الشهداء فلا ينبغي عدم عده من الممدوحين لهذه الأخبار وإن كانت ضعيفة ، ولذا قال في الوجيزة : ممدوح ) . وقد ردوا هذه الرواية لكنها تتوقف على التدقيق في نسخ مقتل أبي مخنف .
6 . يوجد طرماح آخر ، هو الشاعر الطرماح بن حكيم بن نفير ، وهو أيضاً طائي ،
وجدُّه قيس بن جحدر صحابي مشهور ( الإستيعاب : 3 / 1284 ) . وكان ناصبياً خارجياً ، وكان مع ذلك صديقاً للكميت ، رغم أنهما تهاجيا !
قال الزمخشري في ربيع الأبرار ( 1 / 369 ) : ( لم يرالناس أعجب حالاً من الكميت والطرماح ، كان الكميت عدنانياً عصبياً وشيعياً من الغالية ، ومتعصباً لأهل الكوفة . والطرماح قحطانياً عصبياً وخارجياً من الصفرية ومتعصباً لأهل الشام . وبينهما من الخالصة والمخالصة ما لم يكن بين نفسين قط ، لم يكن بينهما صرم ولا جفوة ! وقيل لهما علام تصادقتما ؟ قالا : على بغض العامة !
ونحوه تزوُّجُ السيد الحميري ببنت الفجاءة ( رئيس الخوارج ) واتفاقهما عمرهما ) !
رسائل الإمام ( عليه السلام ) إلى معاوية أيام حرب صفين وبعدها
مضافاً إلى الرسل والمبعوثين قبل صفين ، فقد واصل الإمام ( عليه السلام ) رسائله ورسله إلى معاوية ، وكذا معاوية ، في أيام حرب صفين ، وبعدها .
- *
--------------------------- 207 ---------------------------
الفصل الخامس والسبعون: عمرو العاص كبير وزراء معاوية ، وأهم قادة جيشه
عمرو العاص . . لا نبلٌ ولا شجاعة !
1 . كان عمرو العاص أكبر سناً من معاوية بنحو أربعين سنة ، فقد عاش تسعاً وتسعين سنة ( الإصابة : 6 / 120 ) ومات سنة 43 هجرية ، فيكون عمره عند هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نحو الستين ، وكان معاوية يومها في العشرينات ( الإصابة : 4 / 540 ) . وكانت لهما حفلات لهو . قال الصحابي أبو برزة : « كنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سفر , فسمع رجلين في غرفة في ربوة يتغنيان ، وأحدهما يجيب الآخر ، وهو يقول :
تركت حوارياً تلوح عظامه * زوى الحربُ عنه أن يُجنَّ فيُقبرا
فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنظروا من هما ؟ قال : فقالوا : عمرو ومعاوية . فقال ( ( عليهما السلام ) ) : الّلهم اركسهما ركساً ، ودُعَّهما إلى النار دعّاً » . رواه أبو يعلى : 13 / 429 ، والطبراني الكبير : 11 / 38 ، والأوسط : 7 / 133 ، وابن أبي شيبة : 7 / 508 ، وجزء الشعر للمقدسي / 95 . وصححوه . ومعنى البيت : أن مشركي قريش يفتخرون بأنهم تركوا بعيراً في أحُد ظاهرةً عظامه ، شغلت الحرب ذويه أن يدفنوه ! يقصدون به حمزة ( رضي الله عنه ) . والرَّكْسُ : قلبُ الشئ على رأْسه وردُّ أوله على آخره . والدَّعُّ : الدفع بدون احترام . وهذا الدعاء من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مستجاب لا محالة !
2 . أرسلت قريش عمرواً مرتين إلى النجاشي ، ليرد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة فرجع خائباً ! وكان هو ومن سموه أباه مبغضين لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ففي سيرة ابن هشام : 2 / 265 ، وأسباب النزول للواحدي / 307 : « كان العاص بن وائل السهمي إذا ذُكر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : دعوه فإنما هو رجل أبتر لاعقب له ، لوهلك انقطع ذكره واسترحتم منه ، فأنزل الله تعالى في
--------------------------- 208 ---------------------------
ذلك : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . ما هو خيرلك من الدنيا وما هو فيها ، والكوثر : العظيم من الأمر . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ : العاص بن وائل » .
وفي إمتاع الأسماع : 5 / 333 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : لما مات القاسم بن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) « قال عمرو حين رأى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إني لأشنؤه ، فقال العاص : لاجرم لقد أصبح أبتراً ، وأنزل الله تعالى : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ » .
ومعنى الكوثر : كوثر الذرية من فاطمة ( عليها السلام ) ، وحوض الكوثر في المحشر ، ونهر الكوثر في الجنة . فقد استعملت الكلمة في عدة معان ، وهذا من بلاغة القرآن .
وفي الاحتجاج ( 1 / 411 ) قال له الإمام الحسن ( عليه السلام ) : « قمتَ خطيباً وقلتَ : أنا شانئ محمد . ولسنا نلومك على بغضنا ، ولا نعاتبك على حبنا ، وأنت عدو لبني هاشم في الجاهلية والإسلام ، وقد هجوت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسبعين بيتاً فقال : اللهم إني لا أحسن الشعر ولا ينبغي لي أن أقوله ، فالعن عمرواً بكل بيت ألف لعنة » !
أقول : معنى أن العاص أبتر أنه ليس له ولد ، ومعنى قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فالعن عمرواً بكل بيت ألف لعنة ! أنه ركبته سبعون ألف لعنة ، فأي خير يرجى منه ! فعندما يقول بعضهم : سيدنا عمرو بن العاص ( رضي الله عنه ) ، يعني أن سيده صاحب السبعين ألف لعنة ! ولا يمكن لأهل الأرض أن يرفعوا عنه لعنة واحدة !
أما إذا أخذنا برواية ابن أبي الحديد عن الإمام الحسن ( عليه السلام ) فيتضاعف الأمر ، قال له ( شرح النهج : 6 / 291 ) : ( إنك هجوت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسبعين بيتاً من الشعر فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي ، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة ، فعليك إذاً من الله مالا يحصى من اللعن ) !
3 . اسم أم عمرو النابغة ، وهي أمَةٌ لبني عنزة ، كانت في مكة صاحبة راية ، وقال المؤرخون إنها اختارت العاص أباً لعمرو من بين خمسة رجال ادعوه !
قال الزمخشري في ربيع الأبرار ( 4 / 275 ) : « كانت النابغة أمةً رجل من عنزة ، فسبيت فاشتراها عبد الله بن جدعان فكانت بَغِيّاً ، ووقع عليها أبو لهب ، وأمية بن خلف ، وهشام بن المغيرة ، وأبو سفيان بن حرب ، والعاص بن وائل في طهر واحد ، فولدت
--------------------------- 209 ---------------------------
عمراً ، فادعاه كلهم فحُكِّمَتْ فيه أمه فقالت : هو للعاص لأن العاص كان ينفق عليها ، وقالوا : كان أشبه بأبي سفيان » .
ووصفوا عمرواً بأنه قصير ، يخضب لحيته بالسواد . ( الحاكم : 3 / 452 ) .
« ناتئ الجبهة ، واسع الفم ، عظيم اللحية » . ( فتوح مصرللقرشي / 133 ) .
وقال له الإمام الحسن ( عليه السلام ) ( الإحتجاج : 1 / 411 ) : « وكانت أمك تمشي إلى عبد قيس تطلب البغية ، تأتيهم في دورهم ورحالهم ، وبطون أوديتهم ) فهذا نبوغها !
4 . وكان عمرو يكذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قال : « بعثني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على جيش فيه أبو بكر وعمر فظننت أنه إنما بعثني لكرامتي عليه ، فلما قدمت قلت : يا رسول الله ، أي الناس أحب إليك ؟ فقال : عايشة . قلت : من الرجال ؟ قال : أبوها . وهذا عليٌّ يطعن على أبي بكر وعمر وعثمان ، وقد سمعت رسول الله يقول : إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه ، وقال في عثمان : إن الملائكة لتستحي من عثمان . يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ولاتحدثهما بذلك فيهلكا ! ( مصباح البلاغة : 4 / 27 ) .
قال علي ( عليه السلام ) : ( العجب من طغاة أهل الشام يقبلون قول عمرو ويصدقونه ، وقد بلغ من حديثه وكذبه وقلة ورعه أن يكذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد لعنه سبعين لعنة تترى على عقبه إلى يوم القيامة ! ما لقيتُ من هذه الأمة من كُذابها ومنافقيها ! اللهم العن عمرواً ، والعن معاوية بصدهما عن سبيلك واستخفافهما بنبيك ( ( عليهما السلام ) ) وكذبهما عليه وعليَّ » . ( كتاب سليم / 279 ) .
وفي شرح النهج : 4 / 63 : « إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي ( عليه السلام ) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جُعْلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه . منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير . وأما عمرو بن العاص ، فروى عنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم قال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح
--------------------------- 210 ---------------------------
المؤمنين ! وأما أبو هريرة فروى أن علياً خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأسخطه ، فخطب على المنبر وقال : لاها الله ! لا تجتمع ابنة وليُّ الله وابنة عدو الله أبي جهل » .
ومعناه أن عمرو العاص كان محترفاً للكذب ، وكان يُسوق كذبه بالفجور !
5 . وقد افترى عمرو العاص هذا الحديث ، ليرد به حديث : من كنت مولاه فعلي مولاه ويزعم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعلن براءته من آل أبي طالب ! وقد تلقفه منه مبغضوا علي ( عليه السلام ) ودونوه في صحاحهم ! فروى البخاري ( 7 / 73 ) : ( سمعت النبي جهاراً غير سر يقول : إن آل أبي ( . . . قال عمر : وفي كتاب محمد بن جعفر بياض ) ليسوا بأوليائي ، إنما وليي الله وصالح المؤمنين ) .
وزعم ابن القيم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقصد آل أبيه ( زاد المعاد : 5 / 158 ) لكن ابن حجر قال
( فتح الباري : 10 / 352 ) : إن أصل نص البخاري : آل أبي طالب ) !
ثم قال ( استشكل بعض الناس في صحة هذا الحديث لما نسب إلى بعض رواته من النصب وهو الانحراف عن علي وآل بيته . . . وأما عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين علي ما كان ، فحاشاه أن يُتَّهم ) !
فعمرو العاص عندهم صادق مقدس ولم يلعنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سبعين ألف لعنة ! وهذا من نبوغ علماء السلطة في مدح ابن النابغة !
ولهذا استبشر النواصب بحديثه واعتبروه ناسخاً لقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وحديث : الثقلين ، وعشرات الأحاديث في حق عترته ( ( عليهما السلام ) ) .
قال ابن تيمية في منهاجه ( 7 / 76 ) : ( كما ثبت في الصحيح أنه قال : إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء وإنما وليي الله وصالح المؤمنين ! فبيَّنَ أن أولياءه صالح المؤمنين ، وكذلك في حديث آخر : إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا ) . وكرره في فتاويه : 10 / 543 ، وتفسيره : 2 / 48 ، ومجموع الفتاوى : 11 / 164 ، و : 27 / 435 , و : 28 / 227 ، و 543 ، وجامع الرسائل / 510 والفتاوى الكبرى : 4 / 353 ! وتلميذه : ابن قيم في جلاء الأفهام / 226 ، وابن رجب / 347 . والمهم عندهم أن يثبتوا أن علياً ( عليه السلام ) ليس ولي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل الصحابة !
--------------------------- 211 ---------------------------
6 . وبنوا على حديث عمرو العاص ، وكذبوا على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه حذر من فتنة من تحت قدم رجل من أهل بيته ، وأنه ليس من أوليائه ! يقصدون علياً ( عليه السلام ) !
روى أحمد في مسنده ( 2 / 133 ) عن عبد الله بن عمر : ( كنا عند رسول الله قعوداً فذكر الفتن فأكثر ذكرها . . ثم فتنة السراء دخلها أو دُخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي ، يزعم أنه مني وليس مني ، إنما وليي المتقون ) .
وأبو داود : 2 / 299 ، والحاكم : 4 / 466 وصححه ، وحلية الأولياء : 5 / 158 ، ومسند الشاميين : 3 / 401 ، وابن أبي حاتم : 2 / 417 والدر المنثور : 6 / 56 . ومعالم السنن : 4 / 336 ، عن أبي داود ، وابن حماد : 1 / 57 ، و 2 / 526 .
وغرضهم أن حرب علي ( عليه السلام ) للخارجين عليه فتنة ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تبرأ من علي بسببها ! والواجب عليه أن يسكت حتى يأخذوا البلاد وينتصروا عليه !
أما أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية ، فالخروج عليهم هو الفتنة ! ومرتكبه باغ يشق عصا المسلمين ، ويجب عليهم أن يقاتلوه ! أما قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن علياً يقاتل بعده على تأويل القرآن ، فقد كان يهجر ! أعاذنا الله من ضلالهم .
7 . كان عمرو في الثمانيات وكان معاوية يشعر بالحاجة إلى مكائده فطلب حضوره من فلسطين ، رغم أنه كان شريكاً في التحريض على عثمان ! وفاوضه معاوية وعقد معه اتفاقية على إعطائه مصرطعمةً له ! وجعله وزيره ومستشاره الخاص ، وكانت كثير من جرائم معاوية بآراء عمرو ! وأعظم مكائده في التاريخ الإسلامي ، رفع المصاحف في صفين لما شارف علي ( عليه السلام ) على النصر ومعاوية على الهزيمة !
قال البلاذري : 2 / 285 : أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص وكان مقيماً في فلسطين : فلما أتاه الكتاب دعا ابنيه عبد الله ومحمداً فاستشارهما ، فقال له عبد الله : أيها الشيخ إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبض وهو عنك راض ، ومات أبو بكر وعمر وهما عنك راضيان ، فإياك أن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها من معاوية ، فتكبَّ كبّاً في النار . ثم قال لمحمد : ما ترى ؟ فقال : بادر هذا الأمر ، تكن فيه رأساً قبل أن تكون ذنَباً .
فلما أصبح عمرو دعا مولاه وردان فقال : إرحل بنا يا وردان فرحل . ثم قال :
--------------------------- 212 ---------------------------
حطَّ ، فحط . ففعل ذلك مراراً فقال له وردان : أنا أخبرك بما في نفسك ! اعترضت الدنيا والآخرة في قلبك فلست تدري أيتهما تختار ! قال : لله درك ما أخطأت ، فما الرأي ؟ قال : تقيم في منزلك فإن ظهر أهل الدين عشت في دينهم ، وإن ظهر أهل الدنيا لم يُستغن عنك !
فقال عمرو : إرحل يا وردان على عزم . ( وقال اليعقوبي : إن ابنه عبد الله لما سمع شعر أبيه ليلاً ، قال : بَالَ الشيخ على عقبيه وباع دينه بدنياه ) !
ثم قدم على معاوية فذاكره أمره ، فقال : أما عليٌّ فلا تسوي العرب بينك وبينه في شئ من الأشياء ، وإن له في الحرب لَحَظَّاً ما هو لأحد من قريش . قال : صدقت ، وإنما نقاتله على ما في أيدينا ونلزمه دم عثمان . فقال عمرو : وإن أحق الناس أن لا يذكر عثمان لأنا وأنت ، أما أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين ، وأما أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي فسار إليه ! فقال معاوية : دع ذا وهات فبايعني . قال : لا لعمر الله لا أعطيك ديني حتى آخذ من دنياك ! فقال معاوية : سل . قال : مصر تطعمني إياها . فغضب مروان بن الحكم وقال : ما لي لا أستشار ؟ فقال معاوية : أسكت فما يستشار إلا لك ( أي لمصلحة بني أمية ) فقام عمرو مغضباً فقال له معاوية : يا أبا عبد الله أقسمت عليك أن تبيت الليلة عندنا ) .
قال نصر في صفين / 33 ، والدينوري في الأخبار الطوال / 156 : ( قال عمرو : والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير ، مالك هجرته ولاسابقته ، ولا صحبته ولا جهاده ، ولا فقهه وعلمه . . والله إن له مع ذلك حداً وجداً ، وحظاً وحظوة ، وبلاء من الله حسناً ، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر ؟ قال : حكمك . قال : مصر طُعمة . قال : فتلكأ عليه معاوية . قال نصر : وفي حديث غير عمر قال : قال له معاوية : يا أبا عبد الله ، إني أكره أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا . قال : دعني عنك . قال معاوية : إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت . قال عمرو : لا لعمر الله ما مثلي يخدع ، لأنَا أكيس من ذلك . قال له معاوية : أُدْنُ مني برأسك أسارُّك . قال فدنا منه عمرو يسارُّه ، فعض معاوية أذنه !
--------------------------- 213 ---------------------------
وقال : هذه خدعة ، هل ترى في بيتك أحداً غيري وغيرك ؟ فأنشأ عمرو يقول :
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل * بذلك دنياً فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة * أخذت بها شيخاً يضر وينفع
وما الدين والدنيا سواءٌ وإنني * لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع
ولكني أغضى الجفون وإنني * لأخدع نفسي والمخادع يخدع
وأعطيك أمراً فيه للملك قوة * وإني به إن زلت النعل أضرع
وتمنعني مصراً وليست برغبة * وإني بذا الممنوع قدماً لمولع
قال : أبا عبد الله ، ألم تعلم أن مصراً مثل العراق ؟ قال : بلى ، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك ، وإنما تكون لك إذا غلبت علياً على العراق وقد كان أهلها بعثوا بطاعتهم إلى علي . قال : فدخل عتبة بن أبي سفيان فقال : أما ترضى أن نشتري عمراً بمصر إن هي صفت لك . فليتك لا تغلب على الشام . فقال معاوية : يا عتبة ، بت عندنا الليلة . قال : فلما جن على عتبة الليل رفع صوته ليسمع معاوية ، وقال :
أيها المانع سيفاً لم يهز * إنما ملتَ على خز وقز
إنما أنت خروفٌ ماثل * بين ضرعين وصوفٌ لم يُجز
أعط عمراً إن عمراً تارك * دينه اليوم لدنيا لم تُحز
يا لك الخير فخذ من دره * شخبه الأولى وأبعد ما غرز
واسحب الذيل وبادر فوقها * وانتهزها إن عمراً ينتهز
أعطه مصراً وزده مثلها * إنما مصر لمن عَز وبَز
واترك الحرص عليها ضلة * واشبب النار لمقرور يُكز
إن مصراً لعلي أو لنا * يُغلب اليوم عليها من عجز
فلما سمع معاوية قول عتبة أرسل إلى عمرو وأعطاها إياه . قال : فقال له عمرو : ولي الله عليك بذلك شاهد ؟ قال له معاوية : نعم لك الله عليَّ بذلك لئن فتح الله علينا الكوفة . قال عمرو : والله على ما نقول وكيل .
قال : فخرج عمرو ومن عنده فقال له ابناه : ما صنعت ؟ قال : أعطانا مصر
--------------------------- 214 ---------------------------
طعمة . قالا : وما مصر في ملك العرب ؟ قال : لا أشبع الله بطونكما إن لم تشبعكما مصر . قال : فأعطاها إياه وكتب له كتاباً ، وكتب معاوية : على أن لا ينقض شرط طاعة ، وكتب عمرو : على ألا تنقض طاعة شرطاً . وكايد كل واحد منهما صاحبه ) . ( أي بيعته مشروطة بمصر . ويقول معاوية غير مشروطة ) .
وكان مع عمرو ابن عم له فتى شاب ، وكان داهياً حليماً ، فلما جاء عمرو بالكتاب مسروراً عجب الفتى وقال : ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش ؟ أعطيت دينك ومنيت دنيا غيرك . أترى أهل مصر وهم قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية وعلي حي ؟ وتراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب ؟ فقال عمرو : يا ابن الأخ ، إن الأمر لله دون علي ومعاوية . فقال الفتى في ذلك شعراً :
ألا يا هند أخت بني زياد * دُهي عمرو بداهية البلاد
رمى عمرو بأعور عبشمي * بعيد القعر مخشيَّ الكياد
له خدع يحار العقل فيها * مزخرفة صوائد للفؤاد
فشرَّط في الكتاب عليه حرفاً * يناديه بخدعته المنادي
وأثبت مثله عمرو عليه * كلا المرأين حية بطن واد
ألا يا عمرو ما أحرزت مصراً * وما ملت الغداة إلى الرشاد
وبعت الدين بالدنيا خساراً * فأنت بذاك من شر العباد
فلو كنت الغداة أخذت مصراً * ولكن دونها خرط القتاد
وفدت إلى معاوية بن حرب * فكنت بها كوافد قوم عاد
وأعطيت الذي أعطيت منه * بطرسٍ فيه نَضْحٌ من مداد
ألم تعرف أباحسن علياً * وما نالت يداه من الأعادي
عدلت به معاوية بن حرب * فيا بُعد البياض من السواد
ويا بُعد الأصابع من سهيل * ويا بعد الصلاح من الفساد
أتأمن أن تراه على خِدَبٍّ * يحثُّ الخيل بالأسَل الحداد
ينادي بالنزال وأنت منه * بعيد فانظرن من ذا تعادي
فقال عمرو : يا ابن أخي ، لو كنت مع علي وسعني بيتي ، ولكني الآن مع معاوية .
--------------------------- 215 ---------------------------
فقال له الفتى : إنك إن لم ترد معاوية لم يردك ، ولكنك تريد دنياه وهو يريد دينك . وبلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي فحدثه بأمر عمرو ومعاوية . قال : فسرَّذلك علي وقربه . قال : وغضب مروان وقال : ما بالي لا أشترى كما اشتري عمرو ؟ قال : فقال له معاوية : إنما تبتاع الرجال لك . قال : فلما بلغ علياً ما صنعه معاوية وعمرو ، قال :
يا عجباً لقد سمعت منكرا * كذباً على الله يُشيب الشَّعَرا
يسترقُ السمع ويغشي البصرا * ما كان يرضى أحمد لو خبرا
أن يقرنوا وصيه والأبترا * شاني الرسول واللعين الأخزرا
كلاهما في جنده قد عسكرا * قد باع هذا دينه فأفجرا
من ذا بدنيا بيعه قد خسرا * بملك مصر أن أصاب الظفرا
إني إذا الموت دنا وحضرا * شمرت ثوبي ودعوت قنبرا
قدم لوائي لا تؤخر حذرا * لن يدفع الحذار ما قد قدرا
لما رأيت الموت موتاً أحمرا * عبأت همدان وعبوا حميرا
حي يمان يعظمون الخطرا * قرن إذا ناطح قرناً كسرا
قل لابن حرب لا تدب الخمرا * أرود قليلاً أبدِ منك الضجرا
لا تحسبني يا ابن حرب غمرا * وسل بنا بدراً معاً وخيبرا
كانت قريش يوم بدر جزرا * إذ وردوا الأمر فذموا الصدرا
لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا * أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
- رأت قريش نجم ليل ظهرا ) .
8 . ثم نقض معاوية اتفاقه مع عمرو ! قال ابن سعد في الطبقات ( 4 / 258 ) :
« لما صار الأمر في يدي معاوية استكثرطُعْمَةَ مصرلعمرو ما عاش ، ورأى عمروأن الأمر كله قد صلح به وبتدبيره وعنائه وسعيه فيه ، وظن أن معاوية سيزيده الشام مع مصر فلم يفعل معاوية ، فتنكر عمرو لمعاوية فاختلفا وتغالطا ، وتميز الناس وظنوا أنه لا يجتمع أمرهما ، فدخل بينهما معاوية بن حديج فأصلح أمرهما ، وكتب بينهما كتاباً وشرط فيه شروطاً لمعاوية وعمرو خاصة وللناس
--------------------------- 216 ---------------------------
عليه ، وأن لعمرو ولاية مصر سبع سنين ، وعلى أن على عمرو السمع والطاعة لمعاوية ، وتواثقا وتعاهدا على ذلك وأشهدا عليهما به شهوداً . ثم مضى عمرو بن العاص على مصر والياً عليها وذلك في آخر سنة تسع وثلاثين ، فوالله ما مكث بها إلا سنتين أو ثلاثاً حتى مات !
وتاريخ دمشق : 46 / 174 ، وتاريخ اليعقوبي : 2 / 185 ، ومروج الذهب : 2 / 354 ، وتاريخ أبي الفدا / 184 . والراوي يشير إلى أن معاوية دس السم لعمرو !
9 . في أول اتفاقه مع معاوية سكن عمرو الشام وباشرعمله ، فنصح معاوية بإيقاف الفتوحات فأوقفها ، وبعث إلى قيصربهدايا واتفق معه على جزية سنوية يدفعها معاوية وهي مئة ألف دينار ذهباً !
وقال ابن أعثم إنه اتفق مع هرقل على أن يساعده إذا انهزم في صفين !
قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 377 ) : « وامتنع المسلمون عن الغزو في البحر والبرلشغلهم بالحروب ، وقد كان معاوية صالح ملك الروم على مال يحمله اليه لشغله بعلي ( عليه السلام ) . وصححه أحمد : 4 / 111 ، وابن كثير : 2 / 333 .
وقال ابن أعثم ( 2 / 539 ) : « فنادى عليٌّ ( عليه السلام ) في الناس فجمعهم ثم خطبهم خطبة بليغة وقال : أيها الناس ، إن معاوية بن أبي سفيان قد وادع ملك الروم ، وسار إلى صفين في أهل الشام عازماً على حربكم ، فإن غلبتموهم استعانوا عليكم بالروم » .
10 . وفي المقابل لم يوقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الفتوحات رغم أن أعداءه شغلوه بثلاثة حروب داخلية ، ففتح ولاته ( عليه السلام ) مناطق كثيرة من خراسان والهند وإفريقيا . وأرسل ابن أخته جعدة بن هبيرة لإكمال فتح خراسان . وأرسل من لم يرغب المشاركة في صفين إلى مناطق من فارس والقفقاز . وأرسل جيشاً من البحرين لفتح مناطق في الهند . كما أرسل تهديداً لهرقل .
وقال اليعقوبي في تاريخه ( 2 / 183 ) : « ولما فرغ من حرب أصحاب الجمل ، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان » .
وفي شرح النهج ( 18 / 308 ) : « وهو ابن أخت علي بن أبي طالب ، أمه أم هاني بنت
--------------------------- 217 ---------------------------
أبي طالب ، وابنه عبد الله بن جعدة بن هبيرة ، هو الذي فتح القندهار وكثيراً من خراسان ، فقال فيه الشاعر :
ولا خراسانُ حتى ينفخ الصور * لولا ابن جعدةَ لم تُفتح قهندركم
وفي معجم البلدان : 4 / 419 ، وصحاح الجوهري : 1 / 433 : قهندز بالزاي ، ومعناها الحصن ، ويظهر أن جعدة ( رضي الله عنه ) فتح بقية خراسان وأفغانستان .
قال الطبري ( 4 / 46 ) : « فانتهى إلى أبرشهروقد كفروا وامتنعوا فقدم على علي فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصرأهل نيسابورحتى صالحوه وصالحه أهل مرو ، وأصاب جاريتين من أبناء الملوك نزلتا بأمان ، فبعث بهما إلى علي فعرض عليهما الإسلام وأن يزوجهما ، قالتا : زوجنا ابنيك فأبى ، فقال له بعض الدهاقين : إدفعهما إليَّ فإنه كرامة تكرمني بها ، فدفعهما إليه فكانتا عنده يفرش لهما الديباج ويطعمهما في آنية الذهب ، ثم رجعتا إلى خراسان » .
وقال ابن خياط / 143 ، في حوادث سنة 36 : « وفيها ندب الحارث بن مرة العبدي الناس ( أهل البحرين ) إلى غزو الهند ، فجاوز مكران إلى بلاد قندابيل ووغل في جبال الفيقان . . . » .
وفي فتوح البلدان للبلاذري ( 3 / 531 ) : « فلما كان آخر سنة ثمان وثلاثين وأول سنة تسع وثلاثين في خلافة علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، توجه إلى ذلك الثغرالحارث بن مرة العبدي متطوعاً بإذن علي ( عليه السلام ) ، فظفر وأصاب مغنماً وسبياً ، وقسم في يوم واحد ألف رأس » .
11 . كان عمرو حريصاً على احتلال مصر لتكون له طعمة ، فغزاها بجيش معاوية وقتل واليها محمد بن أبي بكر ، فلعنته عائشة ، وكان عمرو لايحترمها ، فقد قال لها بعد هزيمتها في حرب الجمل : « لوددت أنك قُتِلْتِ يوم الجمل . قالت : ولمَ لا أباً لك ! قال : كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ونجعلك أكبرالتشنيع على علي بن أبي طالب » ! ( شرح النهج : 6 / 322 ) .
وعندما جاءها خبر قتل أخيها محمد وإحراق جثته ، بكت عليه ولعنت معاوية
--------------------------- 218 ---------------------------
وعمرو بن العاص ! ثم استرضاها معاوية بالمال فسكتت . ثم ساءت علاقتها به لما أراد أخذ البيعة ليزيد لأنها أرادتها لأخيها عبد الرحمن !
قال الثقفي في الغارات : 1 / 285 : « لما أتاها نعي محمد بن أبي بكر وما صُنع به كظمت حزنها ، وقامت إلى مسجدها حتى تشخَّبَتْ دماً » .
وفي رواية تشخَّب ثدياها دماً ، وقد يفسر ذلك إن صح بارتفاع ضغط الجسم من الحزن ! لكن الذي رفع ضغط عائشة أن ضُرَّتها أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان فرحت بقتل محمد أخ عائشة ، واحتفلت به بطريقة أمها هند آكلة الأكباد ! « لما قتل ووصل خبره إلى المدينة مع مولاه سالم ومعه قميصه ، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء ! فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي بكبش فَشُوِيَ ، وبعثت به إلى عائشة وقالت : هكذا قد شُوِيَ أخوك ! فحلفت عائشة لا تأكل شواءً أبداً ، فما أكلت شواءً بعد مقتل محمد سنة 38 حتى لحقت بالله سنة 57 ، وما عثرت قط إلا قالت : تَعِسَ معاوية بن أبي سفيان وعمرو ومعاوية بن حديج » . وقالت عن حبيبة : بنت العاهرة !
وفي الكامل لابن الأثير ( 3 / 357 ) : « وقنتت في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو ، وأخذت عيال محمد إليها » . ( والغارات : 1 / 287 ، و : 2 / 757 وأنساب الأشراف : 2 / 403 ، وحياة الحيوان للدميري : 1 / 404 ) .
12 . كان العاص من الزنادقة وسماه الله الأبتر فلا يكون عمرو ابنه . قال المؤرخ ابن حبيب في المنمق / 388 ، إن زنادقة قريش . . تعلموا الزندقة ( الإلحاد ) من نصارى الحيرة : « وهم : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، وصخر بن حرب ، وعقبة بن أبي معيط » .
وكان العاص أحد المستهزئين الخمسة وهم الأشد عداوةً للنبي ( ( عليهما السلام ) ) ، فكانوا يعملون لقتله ( ( عليهما السلام ) ) ويطالبون أبا طالب أن يدفعه إليهم ليقتلوه ، ثم حددوا له وقتاً ليتراجع عن نبوته وإلا قتلوه جهاراً ! فأنزل الله قوله : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . وقتلهم الله خمستهم في يوم واحد ، كل واحد بقتلة ، وكان كل منهم يقول : قتلني رب محمد !
--------------------------- 219 ---------------------------
13 . نص المؤرخون على أن أبا بكر أرسل إلى بلاد الشام أربعة ، وأمَّر كل واحد منهم على جيشه ، وأمَّر عليهم إن اجتمعوا أبا عبيدة بن الجراح . فكان الجيش الأول بقيادة يزيد بن أبي سفيان ، إلى البلقاء في الأردن ، وكان أول من خرج . والثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة إلى الأردن ، وقصد في طريقه بُصرى في شرق سوريا . والثالث بقيادة أبي عبيدة إلى الجابية قرب دمشق . والرابع بقيادة عمرو بن العاص إلى فلسطين ، وكان آخر الجيوش .
أما خالد بن سعيد بن العاص ، فعينه أبوبكرالقائد العام لجيوش الشام ، ثم أصرَّ عمرعلى أبي بكر فعزله وهو في الطريق ، فسلم الجيش ليزيد بن أبي سفيان ، وذهب مع شرحبيل وكان شرحبيل يعامله كقائده .
قال في الطبقات : 4 / 98 : « لما عزل أبوبكرخالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة ، وكان أحد الأمراء فقال : أنظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثلما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه لو خرج والياً عليك ، وقد عرفت مكانه من الإسلام ، وأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) توفي وهو له وال ، وقد كنتُ وليتُه ثم رأيت عزله ، وعسى أن يكون ذلك خيراً له في دينه ، ما أغبط أحداً بالأمارة ! وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك على ابن عمه ، فإذا نزل بك أمرتحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ، وليكن خالد بن سعيد ثالثاً ، فإنك واجد عندهم نصحاً وخيراً . وإياك واستبداد الرأي عنهم ، أو تطوي عنهم بعض الخبر .
وتدل نصوص المعارك في فلسطين والشام على دورخالد بن سعيد المميز ، وأنه لم يكن لعمرو العاص وخالد بن الوليد أي دور في القتال ، فلم يسجل لهما ضربة بسيف ولا طعنةَ برمح ، لكنهم مع ذلك جعلوا المعركة مرة لهذا ، ومرة لذاك !
قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 1 / 64 ) : « وكان بأجنادين أمراء أربعة : أبو عبيدة ابن الجراح ، وعمرو بن العاص ، ويزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة كلٌّ على جنده . وقيل إن عمرو بن العاص كان عليهم يومئذ .
--------------------------- 220 ---------------------------
لاحظ « قيلَ » وهو قول ابنه ( تاريخ دمشق : 2 / 102 ) لكن لو صح فهو قائد شكلي كما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
14 . واشتهر عمرو بأنه جبانٌ يحتمي بسوءته ! ففي الغارات ( 2 / 513 ) : « بلغ علياً ( عليه السلام )
أنه ينتقصه فقال : أما وشرالقول الكذب ، إنه ليقول فيكذب ، وينقض العهد ويقطع الإلّ . فإذا كان عند البأس فزاجر وآمر ، ما لم تأخذ السيوف مآخذها من الهام ، فإذا كان ذلك فأكبر مكيدته أن يُمَرْقط ، ويمنح استه ، قبحه الله وتَرَّحه » .
وفي شرح النهج ( 6 / 317 ) : « قال معاوية يوماً لعمرو بن العاص : يا أبا عبد الله لا أراك إلاويغلبني الضحك ! قال : بماذا ؟ قال : أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفين ، فأزريت نفسك فرقاً من شبا سنانه وكشفت سوأتك له ! فقال عمرو : أنا منك أشد ضحكاً ، إني لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سحرك ، وربا لسانك في فمك ، وغصصت بريقك ، وبدا منك ما أكره ذكره لك ! فقال : خض بنا الهزل إلى الجد : إن الجبن والفرار من عليٍّ لا عارَ على أحد فيهما » ! وسيأتي أن الإمام ( عليه السلام ) طرد عمرواً من جلسة التفاوض على التحكيم في صفين ، ليطهر مجلسه منه !
15 . وضخموا دور عمرو في الفتوحات واخترعوا له بطولات ! وكان مختبئاً في معارك الردة ، في معركة بزاخة مع طليحة ، واليمامة مع مسيلمة ، ومعارك البحرين وعمان مع المرتدين ، وكذا في فتح العراق وفارس .
ونسبوا دور شرحبيل وخالد بن سعيد وغيرهم إلى عمرو العاص وابن الوليد ! قال الحموي في معجم البلدان : 2 / 127 : « فتحت طبرية على يد شرحبيل بن حسنة في سنة 13 صلحاً على أنصاف منازلهم وكنائسهم ، وقيل إنه حاصرها أياماً ، ثم صالح أهلها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ، إلا ما جلوا عنه وخلوه ، واستثنى لمسجد المسلمين موضعاً . ثم نقضوا في خلافة عمر ، واجتمع إليهم قوم من شواذ الروم ، فسير أبو عبيدة إليهم عمرو بن العاص في أربعة آلاف وفتحها على مثل صلح شرحبيل . وفتحَ ( شرحبيل ) جميع مدن الأردن على مثل هذا الصلح ، بغير قتال . . . جرش . . وهو من فتوح شرحبيل بن حسنة في أيام عمر » . واليعقوبي : 2 / 141 .
--------------------------- 221 ---------------------------
16 . اخترع عمرو لنفسه بطولات في المكر والحيلة ، وقصصاً كاذبة عن دهائه ، كقصة ذهابه متنكراً إلى الأرطبون ، الذي جعله قائد جيش الروم في معركة أجنادين . ففي الطبري : 2 / 101 : « وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غوراً وأنكاها فعلاً ، وقد كان وضع بالرملة جنداً عظيماً ، وبإيلياء جنداً عظيماً ، وكتب عمرو إلى عمر بالخبر ، فلما جاءه كتاب عمرو قال : قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب ، فانظروا عم تتفرج ! فذهب عمرو إلى الأرطبون كأنه رسول من عمرو ، فاكتشفه أرطبون من فصاحته أنه هو عمرو قائد جيوش المسلمين فأراد أن يقتله ، لكن عمرواً تخلص منه وقال له نحن عشرة قادة فصحاء أرسلنا عمر بن الخطاب مشاورين لولي الله عمرو العاص فأرسل معي شخصاً لآتيك بهم ، فأرسل معه شخصاً فتخلص منه ونجا ! « وعلم الرومي بأنه قد خدعه فقال : خدعني الرجل ، هذا أدهى الخلق ، فبلغت عمر فقال : غلبه عمرو ، لله عمرو » !
ثم صار الأرطبون صديقاً له وكان يعلم المغيبات ! فأخبره أن فاتح بيت المقدس عمر : « قال : صاحبها رجل اسمه عمرثلاثة أحرف فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر ، وكتب إلى عمر يستمده ويقول : إني أعالج حرباً كؤداً صدوماً وبلاداً ادُّخِرَتْ لك ، فرأيك . ولما كتب عمرو إلى عمرو بذلك فنادى في الناس ، ثم خرج فيهم حتى نزل بالجابية » . ( الطبري : 3 / 103 ) .
ثم ذكرت الأسطورة أن الأرطبون هذا ذهب إلى مصر ، فكان في بلبيس يحرك المقوقس أن يقاتل المسلمين ولايصالحهم ، ويعدهم بنصرة الروم لهم لكن عمرواً قاتلهم وانتصر عليهم ، وهرب الأرطبون ! ( الطبري : 3 / 198 ) .
قال الدكتور حسن إبراهيم حسن في : تاريخ عمرو / 76 : « ذكر بطلر / 215 ، أن لفظ أرطبون الذي يطلقه العرب على هذا القائد خطأ والصحيح أريطيون » . فترى هذا الدكتور يقبل أساطير عمرو ، ولم يكن في الروم قائد عام اسمه أرطبون ، بل كان القائد أخ هرقل لأبيه وأمه ، وابنه ولي عهده ، وآخرون ليس فيهم أرطبون . أما الواقدي فلم يعجبه الأرطبون فجعله المقوقس ملك مصر ! وروى قصته ( 2 / 56 ) شبيهاً بأرطبون
--------------------------- 222 ---------------------------
الطبري وذكر أن عمرواً ذهب اليه متنكراً ! قال : « فلما سمعوا كلام عمرو وفصاحته وجوابه الحاضرقالوا بالقبطية للملك : إن هذا العربي فصيح اللسان جرئ الجنان ، ولا شك أنه المقدم على قومه وصاحب الجيش ، فلو قبضت عليه لانهزم أصحابه عنا ) .
ثم ذكر أن عمرواً وعدهم أن يأتي بعشرة ، وتخلص منهم ! ( فأقبل يحدثهم بما وقع له معهم ، وبما قالوه وبما قاله وردان ، فحمدوا الله على سلامته » .
17 . واخترع عمرو عن نفسه أسطورة العروس أرمانوسة بنت الملك المقوقس !
قال الواقدي ( 2 / 43 ) إنه غزا موكب الملكة أرمانوسة بنت الملك المقوقس ، وكانوا يزفونها إلى زوجها ابن هرقل ، ويحرسها عشرة آلاف مقاتل ، فغنمها عمرو ، ومن معها وما معها ، ثم تفضل وأرجعها إلى أبيها ، فأسلمت !
يريد عمرو بهذه الأسطورة أن يثبت أنه مؤمنٌ ونبيل وشجاع ، فقد أخذ بنت المقوقس ثم أطلقها ، ليشكر المقوقس ويردَّ اليه احترامه للنبي ( ( عليهما السلام ) ) وهديته له !
18 . ونسبوا إلى عمرو العاص قصة اليمامة التي باضت على خيمته لإثبات رأفته قال الحموي في معجم البلدان ( 4 / 263 ) : « وذكر يزيد بن أبي حبيب أن عدد الجيش الذين شهدوا فتح الحصن خمسة عشرألفاً وخمس مائة ، فلما حاز عمرو ومن معه ما كان في الحصن ، أجمع على المسير إلى الإسكندرية فسار إليها في ربيع الأول سنة 20 ، وأمر بفسطاطه أن يقوض فإذا بيمامة قد باضت في أعلاه فقال : لقد تحرمت بجوارنا ، أقروا الفسطاط حتى تنقف ( تخرج من البيضة ) وتطير فراخها ، فأقر فسطاطه ووكل به من يحفظه أن لاتهاج ومضى إلى الإسكندرية وأقام عليها ستة أشهر حتى فتحها الله عليه » .
والصحيح أنه لم المصريين دعوا المسلمين ليحكموا مصر ! بعد انسحاب الروم من مصر وسحبهم جيشهم منها ومن فلسطين وسوريا إلى القسطنطينة ، فقرر الأقباط أن يصالحوا المسلمين ، وتحملوا لذلك غضب هرقل .
وقد استقبل المقوقس ملك مصرعمرواً ودخل في ثلاثة آلاف ، ووقَّع معه عهد الصلح على أن يدفع عن كل مصري دينارين في السنة ، وتم ذلك بدون ضربة سيف ولاسوط ، وحكم المسلمون مصر بدل الروم ، وأتوا إليها للسكنى . وقد وثقنا ذلك في
--------------------------- 223 ---------------------------
كتاب : مصر وأهل البيت .
19 . أحرق ابن أبي وقاص كتب الفرس ، وأحرق عمرو مكتبة الإسكندرية وكل ذلك بأمر عمر ، وقد رواه المؤرخون وافتخر به علماء الوهابية !
قال ابن خلدون في تاريخه : 1 / 480 : « ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتباً كثيرة ، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين ، فكتب إليه عمرأن اطرحوها في الماء ، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه ، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله ! فطرحوها في الماء أو في النار ، وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا » .
وقد ألف الشيخ ناصر بن حمد الفهد ، وهو من علماء الوهابية ، كتاباً للدفاع عن فعل عمر سماه : إقامة البرهان على وجوب كسر الأوثان . وألف الشيخ سفر الحوالي الوهابي كتاباً باسم : ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي وزعم في ( 2 / 41 ) أن قوله تعالى : مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضًِ . يدل على وجوب إحراق هذه الكتب ! لكن الآية لا علاقة له بالموضوع !
قال الحوالي : « فهذه الآية نسفت كل النظريات والفلسفات المخالفة للوحي ، الكوني منها والإنساني وعلى هذا المنهج سار عمر بن الخطاب نفسه . وعلى هذا ثبتت الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة في كل العصور ، فقد تعرضت كتب الفلسفة والمنطق للحرق والمصادرة في عصور متعاقبة » .
فالخلافة القرشية تمسكت بفتوى عمر وقامت بحرقها ومعاقبة الذين يدرسونها . أما مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) فأمربالمحافظة علىها ورد الأفكارالمخالفة فيها .
20 . من جبروت عمرو العاص أنه نذر أن يهدم سورالإسكندرية فهدمه !
وهو نذر غير شرعي ، في كل مذاهب المسلمين !
قال في فتوح مصر ( 1 / 190 ) : « كان على الإسكندرية سور فحلف عمرو بن العاص لئن أظهره الله عليهم ليهدمن سورها ، حتى تكون مثل بيت الزانية تؤتى من كل مكان » . والكلاعي : 4 / 49 ، والمواعظ : 1 / 210 .
--------------------------- 224 ---------------------------
21 . وخان عمرو العاص في خراج مصر ، فخوَّنه عمر ، وصادر نصف أمواله !
ففي فتوح مصر / 173 : « لما فتح عمرو بن العاص مصر ، صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط ، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ، ليس فيهم امرأة ولاصبي ولاشيخ على دينارين دينارين فأحصوا ذلك فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف » . وفي معجم البلدان ( 4 / 263 ) : « وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعترضون في شئ منها ، وكان عدد القبط يومئذ أكثر من ستة آلاف ألف نفس ، والمسلمون خمسة عشر ألفاً » .
وفي شرح النهج ( 1 / 174 ) : بلغ عمرأنه قد صار له مال عظيم من ناطق وصامت ، فكتب إليه : « أما بعد ، فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك ولا كان لك مال قبل أن أستعملك ، فأنى لك هذا ! ولقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك ، ولكني قلدتك رجاء غنائك .
فكتب إليه عمرو : قدمنا بلاداً رخيصة الأسعار كثيرة الغزو ، فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها ، إن لنا أحساباً إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك . فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإني لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شئ ، ولكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال ولن تعدموا عذراً ، وإنما تأكلون النار وتتعجلون العار !
وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة ، فسلم إليه شطر مالك .
فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاماً ودعاه فلم يأكل ، وقال له نح عني طعامك وأحضر لي مالك فأحضره فأخذ شطره . فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال : لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر ، والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه ، وعلى عنقه حزمة حطب ، والعاص بن وائل في مزررات الديباج . فقال محمد : صدقت فاكتم عليَّ . قال : أفعل » .
وفي أنساب الأشراف ( 1 / 258 ) : « قال عمرو : إن زماناً عاملنا فيه ابن حنتمة هذه المعاملة لزمان سوء . قال : أنشدك الله أن لاتخبر عمر بقولي . فقال : لا أذكر شيئاً مما جرى بيننا وعمر حي » .
--------------------------- 225 ---------------------------
22 . نقض عمرو صلحه مع أهل مصر وزعم أن بعضهم استنصر بالروم ! فهاجم عمرو قرى الإسكندرية ومدينتها ، ونهبها وسباها وهدم سورها !
والصحيح أنه هو نقض عهد الصلح ، ليرفع مبلغ الصلح المتفق عليه ! وكان لا يخبرأهل الإسكندرية بقدر ما يريد منهم حتى يأتي الموسم فيعلن مقرراته لهذه السنة ، فلما سأله رئيس الأقباط في إخنا عن مقدار الجزية في تلك السنة لم يخبره وقال كلمة سيئة : إنما أنتم خزانة لنا ، نأخذ منها حسب حاجتنا ورغبتنا !
فغضب رئيس إخنا ، فزعموا أنه استنصر بالروم ، فقتلهم عمرو جميعاً !
قال في شرح النهج ( 6 / 320 ) : « فنقم عليه عثمان ، ولم يصح عنده نقضهم العهد فأمر برد الذي سبوا من القرى إلى مواضعهم ، وعزل عمراً عن مصر » .
قال ابن العماد في شذرات الذهب : 1 / 36 : « فأمر برد السبي وعزله ، فاعتزل عمرو في ناحية فلسطين ، وكان ذلك بدء المخالفة » .
والمرجح عندي أن عمرواً عندما أحس أن عثمان سيعزله عن مصر ، وضع هذه المكيدة فادعى أن هرقل أرسل جيشاً إلى قرى الإسكندرية ، فهاجمها ونهبها ) .
ولما عزله عثمان وولى أخاه ابن سرح غضب عمرو !
قال الطبري ( 3 / 392 ) : « قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يطعن على عثمان ، فأرسل إليه يوماً عثمان خالياً به فقال : يا ابن النابغة ! ما أسرع ما قَمِلَ جِرْبَانُ جُبَّتِك ، إنما عهدك بالعمل عام أول ، أتطعن عليَّ وتأتيني بوجه وتذهب عني بآخر ، والله لولا أكلةٍ ( تريدها ) ما فعلت ذلك ! قال فقال عمرو : إن كثيراً مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل ، فاتق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك . قد رأيت العاص بن وائل ورأيت أباك عفان ، فوالله للعاص كان أشرف من أبيك ! قال : فانكسرعثمان وقال : مالنا ولذكر الجاهلية . قال : وخرج عمرو ودخل مروان فقال يا أمير المؤمنين وقد بلغت مبلغاً يذكر عمرو بن العاص أباك ؟ فقال عثمان : دع هذا عنك . من ذكر آباء الرجال ذكروا أباه . قال : فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه ، يأتي علياً مرة فيؤلبه على عثمان ، ويأتي الزبير مرة فيؤلبه
--------------------------- 226 ---------------------------
على عثمان ، ويأتي طلحة مرة فيؤلبه على عثمان ، ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان ! فلما كان حصرعثمان الحصر الأول خرج من المدينة حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها السبع ، فنزل في قصرله يقال له العجلان وهو يقول : العجب ما يأتينا عن ابن عفان ! قال فبينا هو جالس في قصره ذلك ومعه ابناه محمد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي ، إذ مر بهم راكب فناداه عمرو : من أين قدم الرجل ؟ فقال : من المدينة . قال : ما فعل الرجل يعني عثمان ؟ قال : تركته محصوراً شديد الحصار . قال عمرو : أنا أبو عبد الله ، قد يضرط العير والمكواة في النار ! فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مر به راكب آخر فناداه عمرو : ما فعل الرجل يعني عثمان ؟ قال : قتل . قال : أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها ، إن كنت لأحرِّض عليه حتى الراعي في غنمه في رأس الجبل ! فقال له سلامة بن روح : يا معشر قريش إنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه فما حملكم على ذلك ؟ فقال : أردنا أن نخرج الحق من خاصرة الباطل ، وأن يكون الناس في الحق شرعاً سواء .
وكانت عند عمرو أخت عثمان لأمه ، أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، ففارقها حين عزله » . وقد غفر له معاوية كل ذلك لأنه وافقه في بغض علي ( عليه السلام ) !
23 . جمع عمرو العاص ثروة طائلة ، وكان جشعاً لجمع المال حتى جاءه الموت ! ففي معجم البلدان ( 5 / 386 ) : « الوَهَط . . عَرَشَ عمرو بن العاص بالوهط ألف ألف عود كرم ، على ألف ألف خشبة ، ابتاع كل خشبة بدرهم ، فحج سليمان بن عبد الملك فمر بالوهط فقال : أحب أن أنظر إليه ، فلما رآه قال : هذا أكرم مال وأحسنه ، ما رأيت لأحد مثله لولا أن هذه الحرة ( بورة ) في وسطه فقيل له : ليست بحرة ولكنها مسطاح الزبيب ، وكان زبيبه جمع في وسطه ، فلما رآه من البعد ظنه حرة سوداء » .
وفي التراتيب الإدارية ( 2 / 402 ) : « من أغنياء الصحابة عمرو بن العاص خرج ابن عساكر أن عمراً كان يلقح كروم الوهط بستان له بالطائف بألف الف خشبة كل خشبة بدرهم . فالكرم الذي يحتاج إلى خشب بألف ألف ، كم تكون غلته . وكانت له دور كثيرة بمصر ، ودور بدمشق » .
--------------------------- 227 ---------------------------
وفي مستدرك الحاكم ( 3 / 452 ) : « لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال : كيلوا مالي ، فكالوه فوجدوه اثنين وخمسين مُداً ، فقال من يأخذه بما فيه ! يا ليته كان بعراً ! قال : وكان المد ستة عشر أوقية ، الأوقية منه مكوكان » .
24 . وكان موقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من عمرو العاص شديداً ، متناسباً مع شدة نفاقه ، فلم يسمه إلا ابن النابغة ، يُعيره بأمه وسلوكها السيئ ، ويبدو أنه ثبت عنده أنه ليس ابن العاص ، لأن العاص أبتر بنص القرآن !
وقال الإمام ( عليه السلام ) في إحدى خطبه : « قد بدت الرغوة عن الصريح ، وقد بان الصبح لذي عينين ، إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ، وأولي الجفاء ،
ومن أسلم كرهاً ، وكان لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنفَ الإسلام كله حرباً . أعداءُ الله والسنة والقرآن ، وأهلُ البدع والإحداث ، ومن كانت بوائقه تتقى ، وكان على الإسلام وأهله مخوفاً ، وأكَلَة الرشا ، وعبدة الدنيا ! لقد أنهيَ إليَّ أن ابن النابغة لم يبايع حتى أعطاه ثمناً وشرط أن يؤتيه أَتِيَّةً ، هي أعظم ما في يده من سلطانه . ألاصفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا ، وخزيت أمانة هذا المشترى نصرة فاسق غادر ، بأموال المسلمين » . ( الغارات : 1 / 316 ) .
وقال ( عليه السلام ) كما في شرح النهج ( 20 / 326 ) : « كنت في أيام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كجزء من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينظر إلي كما ينظر إلى الكواكب في أفق السماء ، ثم غض الدهرمني فقُرِنَ بي فلانٌ وفلان ، ثم قُرِنْتُ بخمسة أمثلهم عثمان ، فقلت : واذفراه ! ثم لم يرض الدهر لي بذلك حتى أرذلني ، فجعلني نظيراً لابن هند وابن النابغة ! لقد استنت الفصال حتى القرعى » !
ومعنى واذِفْرَاهْ : فاحت رائحةٌ كريهة . واستنَّت الفصال حتى القرعى : أي تسابقت الإبل حتى المريضة بالقرع . وهو مثل : « يضرب لمن يتشبه بمن هو فوقه » . ( فتح الباري : 6 / 4 ) « يضرب للذي يتكلم مع الذي لا ينبغي له أن يتكلم بين يديه لجلالة قدره ، والقرعى : جمع قريع كمريض ومرضى ، وهو الذي به قرع بالتحريك ، وهو بثر أبيض يطلع في الفصال » . ( حياة الحيوان : 2 / 304 ) .
--------------------------- 228 ---------------------------
وقال ( عليه السلام ) في كتابه إلى معاوية : « وسأجيبك فيما قد كتبت بجواب ، لا أظنك تعقله أنت ولاوزيرك ابن النا بغة عمرو ، الموافق لك كما وافق شنٌّ طَبَقَة ، فإنه هو الذي أمرك بهذا الكتاب وزينه لك ، وحضركما فيه إبليس ومردة أصحابه . والله لقد أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعرفني أنه رأى على منبره اثني عشر رجلاً أئمة ضلال من قريش . . وتقدم ذلك في رسالته ( عليه السلام ) إلى معاوية » . ( كتاب سُلَيْم / 302 ) .
ولما غزا عمرو مصروقاتل محمد بن أبي بكر ، خطب علي ( عليه السلام ) مستنهضاً المسلمين لمساعدة المصريين فقال : « أما بعد فهذا صريخ محمد بن أبي بكروإخوانكم من أهل مصر ، وقد سار إليهم ابن النابغة عدو الله وعدوكم ، فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت ، أشد اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم ، فكأنكم بهم قد بدؤوكم وإخوانكم بالغزو ، فاعجلوا إليهم بالمواساة والنصر . عباد الله إن مصر أعظم من الشام خيراً ، وخير أهلاً ، فلا تُغلبوا على مصر ، فإن بقاء مصر في أيديكم
عزٌّ لكم ، وكبتٌ لعدوكم » . ( الغارات : 1 / 290 ) .
وروى الإسكافي في المعيار والموازنة / 103 ، جواب علي ( عليه السلام ) إلى عمرو : « من علي بن أبي طالب إلى عمرو بن العاصي . أما بعد ، فإن الذي أعجبك مما تلويت من الدنيا ، ووثقت به منها منفلت منك ، فلاتطمئن إلى الدنيا فإنها غرارة ، ولو اعتبرت بما مضى حذرت ما بقي ، وانتفعت منها بما وعظت به ، ولكن أتبعت هواك وآثرته ، ولولا ذلك لم تؤثر على ما دعوناك إليه » .
25 . وأشد مواقف الإمام ( عليه السلام ) من عمرو في صفين ، يوم كتبوا عهد التحكيم .
رواه الطوسي في أماليه / 187 : « لما وقع الاتفاق على كتْب القضية بين أمير المؤمنين وبين معاوية بن أبي سفيان ، حضرعمرو بن العاص في رجال من أهل الشام ، وعبد الله بن عباس في رجال من أهل العراق ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للكاتب : أكتب هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان . فقال عمرو بن العاص : أكتب اسمه واسم أبيه ، ولا تسمه بإمرة المؤمنين ، فإنما هو أمير هؤلاء وليس بأميرنا . فقال الأحنف بن قيس : لاتمح هذا الاسم فإني أتخوف إن محوته لا يرجع
--------------------------- 229 ---------------------------
إليك أبداً . فامتنع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من محوه فتراجع الخطاب فيه ملياً من النهار ، فقال الأشعث بن قيس : أمح هذا الاسم ترَّحه الله ! فقال أمير المؤمنين : الله أكبر سُنَّةٌ بسنة ومَثَلٌ بمثل ، والله إني لكاتب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الحديبية وقد أملى عليَّ : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو . فقال له سهيل :
أمح رسول الله فإنا لا نقر لك بذلك ولا نشهد لك به ، أكتب اسمك واسم أبيك ، فامتنعت من محوه فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أمحه يا علي وستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض ! ( وفي رواية : وأنت مضطهد )
فقال عمرو بن العاص : سبحان الله ومثل هذا يشبه بذلك ، ونحن مؤمنون وأولئك كانوا كفاراً ! فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمسلمين عدواً ، وهل تُشبه إلا أمك التي دفعت بك ؟ فقال عمرو : لا جرم لا يجمع بيني وبينك مجلس أبداً . فقال ( عليه السلام ) : والله إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك ، ومن أشباهك ! ثم كتب الكتاب وانصرف الناس » .
وفي الإيضاح / 235 ، أن معاوية كان يلعن في قنوته علياً ( عليه السلام ) وأصحابه على المنابر . وأن علياً كان يلعن معاوية في قنوته ، وعمرو بن العاص ، وأباالأعور السلمي ، وأبا موسى الأشعري ) .
26 . وللإمام الحسن ( عليه السلام ) مواقف في مناظراته لعمرو ، بعد صلحه مع معاوية
منها قوله له ( الإحتجاج : 1 / 411 ) : « وأما أنت يا عمرو بن العاص الشاني اللعين الأبتر ، فإنما أول أمرك أن أمك بَغِيَّة ، وأنك ولدت على فراش مشترك ، فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة ، وعثمان بن الحرث ، والنضر بن الحرث بن كلدة ، والعاص بن وايل ، كلهم يزعم أنك ابنه ، فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسباً ، وأعظمهم بغية . ثم قمت خطيباً وقلت : أنا شانئ محمد ، وقال العاص بن وايل : إن محمداً رجل أبتر لا ولد له ، فلو قد مات انقطع ذكره . فأنزل الله تبارك وتعالى : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ . وكانت أمك تمشي إلى عبد قيس تطلب البغية ، تأتيهم في دورهم ورجالهم وبطون أوديتهم ، ثم كنت
--------------------------- 230 ---------------------------
في كل مشهد يشهده رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من عدوه أشدهم له عداوة ، وأشدهم له تكذيباً .
ثم كنت في أصحاب السفينة الذين أتوا النجاشي في المهجرالخارج إلى الحبشة والإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وسايرالمهاجرين إلى النجاشي ، فحاق المكر السئ بك ، وجعل جدك الأسفل ، وأبطل أمنيتك وخيب سعيك ، وأكذب أحدوثتك : وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا .
وأما قولك في عثمان ، فأنت يا قليل الحياء والدين ، ألهبت عليه ناراً ، ثم هربت إلى فلسطين تتربص به الدوائر ، فلما أتاك خبرقتله حبست نفسك على معاوية ، فبعته دينك يا خبيث بدنيا غيرك ، ولسنا نلومك على بغضنا ، ولانعاتبك على حبنا ، وأنت عدو لبني هاشم في الجاهلية والإسلام ، وقد هجوت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسبعين بيتاً من شعر ، فقال رسول الله : اللهم إني لا أحسن الشعر ، ولا ينبغي لي أن أقوله فالعن عمرواً بكل بيت ألف لعنة !
ثم أنت يا عمرو المؤثر دنياك على دينك . أهديتَ إلى النجاشي الهدايا ، ورحلت إليه رحلتك الثانية ، ولم تنهك الأولى عن الثانية ، كل ذلك ترجع مغلوباً حسيراً تريد بذلك هلاك جعفر وأصحابه ، فلما أخطأك ما رجوت وأملت ، أحلت على صاحبك عمارة بن الوليد » . فطمع بزوجته ودبر قتله !
27 . ونقل الرواة عن عمرو حالات اعترافٍ بأنه ومعاوية على الباطل ، منها :
« قال عمرو بن العاص : أعجب الأشياء أن المبطل يغلب المحق ! يُعَرِّض بعلي ومعاوية ! فقال معاوية : بل أعجب الأشياء أن يعطى الإنسان ما لا يستحق ! يعرض بعمرو الذي أخذ مصرطُعمة » ( الدكتور حسن إبراهيم / 270 ) .
ورووا له أشعاراً يذكر فيها فضله على معاوية ، وأنه جعله خليفة ، وجعل باطله حقاً ، وحق علي ( عليه السلام ) باطلاً !
ويأتي قوله لمعاوية لما عزله عن مصر ( العقد النضيد / 122 ) : ( فكرت في أصغر بذلي عندك فوجدته يعلو الأيادي التي ذكرتها ! فقال معاوية : وكيف ذلك ؟ قال : لأنّي طمست لك الشمس بالطين نهاراً ، والقمر بالعهن المنفوش ليلاً ، وأبطلت حقاً وحققتُ باطلاً ،
--------------------------- 231 ---------------------------
حتى سحرتُ أعين الناظرين وآذان السامعين ، في إخفاء أودك وإطفاء نورغيرك ، فهل رأيت حقاً كان أحق من عليٍّ ! وهل رأيت باطلاً أبطل منك ! فكيف تمن عليَّ بإحسانك إلي ! وأنا فرشت لك الخلافة ) !
28 . أشهر زوجات عمرو العاص بنت أبي معيط الخمَّار ، أخت عثمان من أمه . ( الطبقات : 8 / 230 ) وكان له ولدان محمد وعبد الله ، وكان عبد الله يكتب حديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنهوه لأنها أحاديث تفضح قريشاً !
قال : « كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا : أتكتب كل شئ تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا ! فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال : أكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق » .
( سنن أبي داود : 2 / 176 ) . لكن عبد الله أطاع أباه وقريشاً ولم يكتب الحديث ، ثم أُغرم بكعب وثقافة اليهود ، وأخذ حمل بعيرين من كتبهم فجعلها أحاديث نبوية !
قال ابن حجر في فتح الباري ( 1 / 167 ) : « إنه قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب ، فكان ينظر فيها ، ويحدث منها » !
وقال عنه الشيخ الأزهري محمود أبو رية في : شيخ المضيرة أبو هريرة / 124 : « فتجنب كثير من أئمة التابعين الأخذ عنه ، وكان يقال له : لا تحدثنا من الزاملتين » .
ومعناه : أنه كان ينسب ما فيهما إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه قال : حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج ! قال ابن تيمية في فتاواه : ( 13 / 366 ) : « قال ( صلى الله عليه وآله ) : بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولاحرج . رواه البخاري . ولهذا كان عبد الله قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما ، بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك » . أي فهم ابن عمرو أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أذن أن تجعل الإسرائيليات أحاديث له تنسب اليه !
لكن مقصود النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : حدثوا عن انحرافهم ما شئتم فهو صحيح !
ورووا أن عبد الله ندم على قتاله علياً ( عليه السلام ) : « كان يقول : ما لي ولصفين !
--------------------------- 232 ---------------------------
مالي ولقتال المسلمين ! والله لوددت أني متُّ قبل هذا بعشر سنين : ولوددت أني لم أحضر شيئاً منها وأستغفرالله عز وجل عن ذلك » . ( الإستيعاب : 3 / 958 )
لكن ذلك لا ينفعه ، لأنه لم يتب من كذبه على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ولا من اتباعه معاوية ، ثم يزيد ، ولا تاب من بذخه وترفه الفاحش !
وقد وصف الذهبي في سيره ( 3 / 93 ) صورته المضحكة فقال : ( حج زمن معاوية في عصابة من القراء ، فحدثنا أن عبد الله في أسفل مكة فعمدنا إليه ، فإذا نحن بثقل عظيم يرتحلون ثلاث مئة راحلة ، منها مئة راحلة ومئتا زاملة وكنا نُحدث أنه أشد الناس تواضعاً ! فقلنا : ما هذا ! قالوا : لإخوانه يحملهم عليها ولمن ينزل عليه ، فعجبنا ! فقالوا : إنه رجل غني . ودلونا عليه أنه في المسجد الحرام ، فأتيناه فإذا هو رجل قصير أرمص ، بين بردين وعمامة ، قد علق نعليه في شماله ) . ( والزاملة : المحملة . والراحلة : احتياط للحمل ) . فتأمل في زهده وأثقال سفره ، ونعله في رقبته أو يده ، ورمَصه أي موق عينيه ، وهو أشد من العمش ! فهذا مصدر يتلقى منه الدين أئمة المذاهب وعلماؤها !
29 . « جزع عمرو العاص عند الموت جزعاً شديداً فلما رأى ذلك ابنه عبد الله قال : يا أبا عبد الله ما هذا الجزع وقد كان رسول الله يدنيك ويستعملك ؟ قال : أي بنيَّ قد كان ذلك وسأخبرك : إني والله ما أدري أحباً ذلك كان ، أم تألفاً يتألفني ! ولكن أشهد على رجلين أنه قد فارق الدنيا وهو يحبهما : ابن سمية وابن أم عبد » « أحمد : 4 / 200 ، وصححه في الزائد : 9 / 353 ) .
ومعناه أنه يعرف أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يحسبه من المؤلَّفة قلوبهم ، وليس من المؤمنين !
وفي الإستيعاب لابن عبد البر ( 3 / 1190 ) عن الشافعي قال : « دخل ابن عباس على عمرو بن العاص في مرضه فسلَّم عليه وقال : كيف أصبحت يا أبا عبد الله ؟ قال : أصلحت من دنياي قليلاً وأفسدت من ديني كثيراً ! فلو كان الَّذي أصلحت هو الَّذي أفسدت والَّذي أفسدت هو الَّذي أصلحت ، لفُزت ! ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت ، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت ! فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض ، لاأرقى بيدين ولا أهبط برجلين » !
وهكذا اعترف بعد فوات الأوان بأنه أفسد دينه ! ولو كانت معاصيه شخصية
--------------------------- 233 ---------------------------
هان الأمر ، لكنها جرائم دموية كتبت تاريخ المسلمين وعقيدتهم إلى يومنا هذا !
وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 187 ، والحاكم : 3 / 454 : « فلما نزل به قال له ابنه عبد الله بن عمرو : يا أبت إنك كنت تقول : عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه ، كيف لايصفه ! فصف لنا الموت وعقلك معك . فقال : يا بني الموت أجلُّ من أن يوصف ، ولكني سأصف لك منه شيئاً : أجدني كأن على عنقي جبال رضوى ! وأجدني كأن في جوفي شوك السلاء ، وأجدني كأن نَفَسي يخرج من ثقب إبرة » ! وتوفي سنة اثنتين وأربعين بمصر ، وقال ابن حجر الإصابة ( 4 / 540 ) عاش تسعين سنة . وروى أنه عاش ستاً وتسعين سنة !
فهذا إمام للمسلمين ، ومصدر يتلقى عنه الدين أئمة المذاهب وعلماؤها ! - *
أنواع قادة جيش معاوية
قادة جيش معاوية نوعان : نوع عندهم جنودهم وأتباعهم ، وهم اليمانيون الثلاثة : شرحبيل بن السمط الكندي ، وذو الكلاع الحميري ، وحوشب ذو ظليم الحميري . أما بقية قادته فقليلمنهم رؤساء قبائل صغيرة عند أحدهم عدد من المقاتلين ، وأكثرهم قادة مهنيون ، يعين معاوية الواحد منهم على جيش جمعه من قبائل الشام والأردن وفلسطين .
وأشهر هؤلاء المهنيين : أبوالأعور السلمي واسمه سفيان بن عمرو . وبُسْر بن أرطاة القرشي . وحسان بن بَحْدل الكلبي ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب ، ومسلم بن عُقبة المري ، وحبيب بن مسلمة الفِهري ، والضحاك بن قيس الفهري ، وزُفَر بن الحارث ، ومَسلمة بن مخلَّد ، وعشرات من القادة الصغار .
--------------------------- 234 ---------------------------
كانت رئاسة اليمانيين العامة لشرحبيل بن السمط
1 . كان اليمانيون عمدة جيش معاوية ، وقد جاؤوا من اليمن لفتح الشام ، أو اختاروا السكن فيها بعد الفتح . كما أن عمدة جيش أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من اليمانيين . وهذا يدلك على أن اليمانيين هم عمدة القوة المقاتلة من العرب !
وكان قادة اليمانيين في بلاد الشام ثلاثة : ذوالكلاع وحوشب وهما من حمير وشرحبيل وكان كندياً ، فهو أعرق منهما ، لأن كندة بيت ملك العرب كلها حتى قبائل العراق ، ومن كندة اتصل الملك إلى حمير . وكانوا ثلاثتهم شجعاناً ، ضو الكلاع ثم حوشب ، قتلا في صفين ، وشرحبيل لم يقتل .
2 . وكان السمط أبوشرحبيل فارساً شجاعاً ، فشارك في معركة اليرموك وسكن حمص فكان رئيس كندة . وشارك ابنه شرحبيل في القادسية وسكن الكوفة فكان رئيس كندة . وجاء الأشعث بن قيس إلى الكوفة فظهرالعداء بينه وبين شرحبيل ، وأخذ الأشعث يحرك عمر ضده حتى أمره عمر بالسكن في الشام ، فسكن مع أبيه ، ثم صار رئيس كندة وحمير بعده .
قال البلاذري ( 1 / 163 ) : ( أبلى السمط بن الأسود الكندي بالشام وفي يوم اليرموك . وكان ابنه شرحبيل بن السمط بالكوفة مقاوماً للأشعث بن قيس الكندي في الرياسة ) .
وكان أشرف بيت في ملوك كندة بني آكل المرار ، وهو جد امرئ القيس الشاعر ،
فهو ابن حجر بن الحارث بن عمرو ابن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث ابن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة . ( تاريخ دمشق : 9 / 222 ) .
وكان شرحبيل من هذا الفرع ، قال العوتبي في أنساب العرب ( 1 / 153 ) : ( ومنهم شرحبيل بن السمط بن حمر بن النعمان بن عمرو بن عرفجة بن امرئ القيس بن نجاب بن معاوية بن ذهل بن معاوية الأكرمين بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور مرتع بن معاوية بن كندة ، أدرك الإسلام وأدرك القادسية ، وهو الذي قسم منازل حمص بين أهلها حين افتتحوها ، وكان من أشراف أهل الشام ، وإياه أطاع أهل الشام في زمان معاوية ،
--------------------------- 235 ---------------------------
وهو بيت كندة اليوم بحمص ) . فشرحبيل معرق في نسبه الملوكي ، وهو يعتقد أن الأشعث يهودي حائك ألصق نفسه بكندة ، لأنه أمه كندية . . كما تقدم في ترجمته .
لكنه كان شيطاناً يعمل لكسب الكنديين وتسقيط شرحبيل ، وقد احتال على أبي بكر وتزوج أخته العمياء فصار صهر الخليفة ! وجمع عزاب كندة وزوجهم !
قال العَوْتَبِي في أنساب العرب ( 1 / 153 ) : ( جمع عزاب كندة وحضرموت والنخع فبلغوا ثلاثة آلاف فزوجهم ، وأبان كل كريمة منهم بكفوها ، وساق عنهم المهور وأغناهم من ماله ) ! وكانت علاقته بعمر جيدة ، فاستطاع أن يزيح شرحبيل من الكوفة ، فأرسله عمر إلى الشام ، وخلصت رئاسة كندة للأشعث على أساس أنه من عائلة ملوكها ، وصهر خليفة المسلمين !
3 . كانت الرئاسة العامة على اليمانيين في الشام لشرحبيل بن السمط ، وكان ذوالكلاع وذو ظليم أذكى منه ، فقد سادا في حمير وكندة مع وجوده وكانا يحفظان له مقامه كرئيس كندة العام . فلما أرسل علي ( عليه السلام ) جريراً إلى معاوية ، شاور عمروالعاص فقال له : ( رأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي ، وهو عدو لجرير المرسل إليك ، فأرسل إليه ووطن له ثقاتك فليفشوا في الناس أن علياً قتل عثمان ، وليكونوا أهل الرضا عند شرحبيل ، فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب ، وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشئ أبداً ) . ( نصر / 44 ) .
فكتب معاوية إلى شرحبيل ( نصر / 45 ) : ( إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بأمر فظيع ، فأقدم . فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه ، فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وكان أفقه أهل الشام فقال : يا شرحبيل بن السمط ، إن الله لم يزل يزيدك خيراً مذ هاجرت إلى اليوم ، وإنه قد ألقي إلينا قتل عثمان ، وأن علياً قتل عثمان ، فإن يك قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار وهم الحكام على الناس ، وإن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه ؟ لا تهلك نفسك وقومك . فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير ، فسر إلى علي فبايعه على شامك وقومك . فأبى شرحبيل إلا
--------------------------- 236 ---------------------------
أن يسير إلى معاوية ، فبعث إليه عياض الثمالي وكان ناسكاً :
يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ * بود على ما تريد من الأمر
ويا شرح إن الشام شامك ما بها * سواك فدع قول المضلل من فهر
فإن ابن حرب ناصب لك خدعة * تكون علينا مثل راغية البكر
فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا * هنيئاً له والحرب قاصمة الظهر
فلا تبغين حرب العراق فإنها * تحرم أطهار النساء من الذعر
وإن علياً خير من وطأ الحصى * من الهاشميين المداريك للوتر
له في رقاب الناس عهد وذمة * كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر
فبايع ولا ترجع على العقب كافراً * أعيذك بالله العزيز من الكفر
ولا تسمعن قول الطغام فإنما * يريدون أن يلقوك في لجة البحر
وماذا عليهم أن تطاعن دونهم * علياً بأطراف المثقفة السمر
فإن غلبوا كانوا علينا أئمة * وكنا بحمد الله من ولد الظهر
وإن غلبوا لم يصل بالحرب غيرنا * وكان على حربنا آخر الدهر
يهون على عليا لؤي بن غالب * دماء بني قحطان في ملكهم تجري
فدع عنك عثمان بن عفان إننا * لك الخير لا ندري وإنك لا تدري
على أي حال كان مصرع جنبه * فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو ) .
( وفي رواية : فلما سمع شرحبيل هذا الشعركأنه وقع بقلبه . ثم أقبل على ابن غنم فقال : إني سمعت ما قلت . وقد أحببت أن أسمع كلام معاوية ) .
4 . قال نصر بن مزاحم / 46 : ( لما قدم شرحبيل على معاوية تلقاه الناس فأعظموه ، ودخل على معاوية فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا شرحبيل ، إن جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة علي ، وعلي خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان ، وقد حبست نفسي عليك ، وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا .
فقال شرحبيل : أخرج فانظر . فخرج فلقيه هؤلاء النفرالموطؤون له ، فكلهم يخبره بأن علياً قتل عثمان بن عفان ، فخرج مغضباً إلى معاوية فقال : يا معاوية ، أبى الناس إلا أن علياً قتل عثمان ، ووالله لئن بايعت له لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك . قال
--------------------------- 237 ---------------------------
معاوية : ما كنت لأخالف عليكم وما أنا إلا رجل من أهل الشام ! قال : فرُدَّ هذا الرجل ( رسول علي ( عليه السلام ) ) إلى صاحبه إذاً . قال : فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق ، وأن الشام كله مع شرحبيل ) .
أقول : كان شرحبيل يفكر كملك كندة فهو مسكون بالمنطق القبلي والمعادلة السياسية الدنيوية ، وقد فكر أنه لو اتخذ موقفاً مع علي ( عليه السلام ) فلامكان له مع الأشعث وجرير ، ولو وقف مع معاوية لكان صاحب الكلمة في الشام ، لذلك لم يقبل نصيحة صديقه فقيه الشام عبد الرحمن بن غنم الأزدي ، ومال إلى معاوية وبرر موقفه بأن الناس يشهدون بأن علياً قتل عثمان وعلى معاوية أن يأخذ بثأره !
وسيأتي أن قناعته اهتزت مع ذي الكلاع وكاد ينقلب معه على معاوية بعد مناظرة عمرو العاص مع عمار ( رضي الله عنه ) ، لكنه ذا الكلاع قتل قبل إعلان موقفه ففرح بذلك معاوية ، ولعله قتله ، وكان فرح عمرو العاص أكثر !
5 . بالغ شرحبيل في تأليب أهل الشام ضد علي ( عليه السلام ) قال ابن الأعثم ( 2 / 523 ) :
( ثم سار شرحبيل حتى دخل حمص ، ثم نادى في أهلها فجمعهم ثم قام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أهل حمص إعلموا أن علياً قتل عثمان بن عفان وفرق الجماعة ، وواقع بقتل البصرة وقعة لها ما بعدها ، وقد هزم الجميع وغلب على الأرض حتى لم يبق له إلا الشام ، وقد وضع سيفه على عاتقه وعزم على أن يخوض إليكم غمار الموت حتى يأتيكم فينزل بكم ما أنزله بغيركم . ألا وإني لا أجد أحداً هو أقوى على حربه من معاوية ، فخفوا معه وجاهدوا عدو الله ،
فإن اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ . قال : فأجابه أهل حمص بأجمعهم إلى ذلك . قال : وجعل شرحبيل لا يأتي مدينة من مدائن الشام إلا دعاهم إلى نصر معاوية وحرضهم على قتال علي بن أبي طالب ، حتى اجتمع إليه خلق كثير ، فأقبل بهم إلى معاوية ، فبايعوه على أنهم يقاتلون بين يديه ويموتون تحت ركابه . قال : فوثب رجل من أهل السكاسك وكان مجتهداً فاضلاً وكان شاعراً واسمه الأسود بن عرفجة ، فوقف بين يدي معاوية وأنشأ وجعل يقول أبياتاً من الشعر
--------------------------- 238 ---------------------------
مطلعها :
كانت الشام قبل شرح وبيل * لعلي ظهراً له حدباء
غير أنا نحب أباالسبطين * إذ كان سيد الأوصياء
شهد الفتح والنضير وبدراً * وحنيناً وأحد يوم البلاء
وله يوم خيبر راية النصر * وقد فَلَّ شوكة الأعداء
وله في قريظة الخطر الأعظم * إذ قل جد أهل اللواء
فاحذر اليوم صولة الأسد الور * د إذا جاء في رحى الهيجاء
قال : فقطع عليه معاوية كلامه ثم قال : من هذا الأسد الورد ؟ فقال : هذا والله علي بن أبي طالب ، أخو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وابن عمه ، وزوج ابنته ، وأبوسبطيه ، الذي قتل جدك وعم أمك وأخاك وخالك يوم بدر ! فأنت تطالبه في الإسلام بما فعل في قومك الكفرة الفجرة .
فقال معاوية : خذوه ! فوثب إليه غلامان من غلمان معاوية ، وقام إليه شرحبيل فقال : كف عنه يا معاوية ، فإنه رجل من سادات قومه ، فلا تؤذيه فأنقض والله ما في عنقي من بيعتك .
قال معاوية : فإني قد وهبته لك . قال : فهرب الرجل إلى مصر ، ثم كتب إلى علي ( رضي الله عنه ) أبياتاً من الشعر مطلعها :
ألا أبلغ أباحسن علياً * فكفى بالذي تهوى طويله
[ أعد مآثراً عظمت وطالت * وأخرى منك أذكرها جميله
فسر بها معاوية بن صخر * وأيقن أنها ليست قليله
وقال لشرحبيل منك هذا * فقال المرء من أعلى قبيله
وأهل الشام يستمعون قولي * أجوز بالقلوب لها فضيلة
فكاشرني وكنت من أجرى * كذئب السوء في الشاة الأكيله
أريهم ما أحب ويزلقوني * بأبصار على البغضا دليله
فأمست بعد سابقة بمصر * وكانت من مقالته جليله
فأيقن أنني منها برئ * وأني منه منقطع الوسيلة
--------------------------- 239 ---------------------------
فلا تفرح معاوية بن حرب * فإن الشام عزتها ذليله ]
قال : وأقبل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي ( رضي الله عنه ) فقال : يا أمير المؤمنين ! إن شرحبيل رجل عمي القلب ، وقد سار في مدائن الشام فاستنفرهم إلى حربنا ، فأذن لي أن أكتب إليه كتاباً فلعلي أشككه فيما هو فيه فقال علي : أكتب ما أحببت . فكتب إليه سعد بن قيس :
أما بعد يا شرحبيل : فإن أهلك من أرض اليمن غير أنك هاجرت إلى الكوفة وانتقلت إلى الشام فكنت بها ما شاء الله ، حتى إذا قتل عثمان وبايع الناس علياً عبى لك معاوية رجالاً لا يعرفون الحلال ولا ينكرون الحرام ، فاختدعوك وشهدوا عندك أن علياً قتل عثمان ، ولو نظرت بعقلك لعلمت أن ذلك باطل وزور ، ولو كان على ما شهدوا عندك أن علياً قتل عثمان لما بايعه المهاجرون والأنصار ! وهم واضعون أسيافهم على عواتقهم ، يقاتلون معه من خالفه من أهل البصرة وغيرهم من الناس ، فلا تكن رأس الخطيئة ومفتاح البلية ، فإني ما زلت لك ناصحاً وعليك مشفقاً , والسلام .
قال : فلما انتهى الكتاب إلى شرحبيل أخذه فأتى به معاوية فأقرأه إياه ، فقال معاوية : لا عليك ، هو سيد في همدان وأنت سيد في كندة ، فأجبه على كتابه . قال : فكتب إليه شرحبيل : أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه أني هاجرت إلى الكوفة وانتقلت إلى الشام ، ولعمري ما العراق لي بدار ولا الشام علي بعار ، وإنما أنا رجل من أهل اليمن ، وأما قولي بأن علياً قتل عثمان ، فإني أخذت ذلك عن الثقات من أهل الرضا ، ولا يقال للشاهد : من أين قلت ؟ فأما المهاجرون والأنصار ، فلهم ما في أيديهم من بيعة علي ، ولنا ما في أيدينا من بيعة معاوية . والسلام ) .
أقول : يظهر أن شرحبيل انفعالي غضوب ، يدل عليه تهديده لمعاوية بنقض بيعته إن قتل الشاعر . وقول سعد بن قيس إنه عمي القلب ، أي غضوب إذا أحب شيئاً فقلبه أعمى لا يرى غيره !
--------------------------- 240 ---------------------------
6 . ومع موقفه المتطرف مع معاوية ، كان شرحبيل يعمل لحل القضية مع علي ( عليه السلام ) حلاً سلمياً ، فقد روى ابن الأعثم ( 3 / 168 ) أنه جاء إلى علي ( عليه السلام ) في صفين قبل بدء المعركة في وفد ، ليكلموه في تجنب الحرب . قال : ( وجه إلى علي بجماعة من قريش وغيرهم من أهل الشام يكلمونه ، منهم عمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وحبيب بن مسلمة ، والضحاك بن قيس وجماعة من عرب الشام ، فأقبلوا حتى وقفوا قريباً من عسكر علي ( رضي الله عنه ) . ثم بعثوا إليه يسألونه أن يأذن لهم في كلامه ، فقال علي ( رضي الله عنه ) ما أمنعهم من ذلك . قال : فأقبلوا حتى دخلوا العسكر ، ثم صاروا إلى علي وهو في خيمته ، فسلموا فرد عليهم السلام ، ومجلسه يومئذ غاص بالمهاجرين والأنصار ، فقال : تكلموا بما أحببتم ! فقال عمرو بن العاص : بل أنت فتكلم يا أبا الحسن ! فإنك أول من آمن بربنا وبقي حقك العظيم على الناس ، وأنت أول من صدق بنبينا محمد ، وصلى إلى قبلتنا ، ووحد الله قبلنا .
فقال علي : إن أول كلامي أن أثني على الله ربي أحسن الثناء طول الحياة وبعد الممات ، وأحمده على طول العافية وحسن البلاء ، وفي كل حال من شدة ورخاء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بعثه الله رحمة للعالمين وخاتماً للنبيين ، فأدى عن الله ما أمره ، وعبد ربه حتى أتاه اليقين ، فصلى الله عليه وسلم كثيراً .
ثم إن الله تبارك وتعالى قد ابتلانا أيتها الأمة بما ترون ، والمستعان بالله ولا قوة إلا بالله ، وبعد فالله يعلم أني كنت كارهاً أن أتولى شيئاً من أمور أمة محمد ( ( عليهما السلام ) ) ولكن قوماً أنكروا على عثمان فاجتمعوا على قتله ، فقتلوه وأنا جالس في منزلي لا آمر ولا ناهٍ ، وإنما قتلوه وتذاكروا عني بالبيعة فكرهت ذلك ، ثم إن توكلت على الله وأحببت أن يكون بقية عمري في صلاح أمور الأمة ، فبايعت القوم على العمل بكتاب الله وسنة نبيه محمد ( ( عليهما السلام ) ) .
ثم إن جماعة ممن بايعني غدر بي ونكث بيعتي ، فقد حكم الله بيني وبين بعضهم ، والله للباقين بالمرصاد ، ألا ، وإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبي الله ، فإن تجيبوا إلى ذلك فالرشد أصبتم وللخير وفقتم ، وإن تأبوا ذلك لم تروا من الله إلا بعداً . والسلام .
قال : فلما فرغ علي من كلامه تكلم عمرو بن العاص ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
--------------------------- 241 ---------------------------
أما بعد فإن عثمان ( رضي الله عنه ) وجعل ما أصابه كفارة لذنوبه ، قد كان أفضل أصحاب محمد حسباً ونسباً وقدماً وصهراً ، فالله حسيب قاتله وخاذله ، وأيم الله إننا لنعلم أن علياً ومن معه من المهاجرين والأنصار قد كانت لهم سوابق قديمة عظيمة وفضل لا يجهل ، وقد رأينا رأياً نسأل الله تعالى فيه التوفيق لما يحب ويرضى ، ولعل الله تبارك وتعالى يحقن دماءنا ويصلح ذات البين ، وهؤلاء أشرافنا من أهل الشام قد اجتمعوا لذلك ، وكذلك أشراف أهل العراق مجتمعون يا أبا الحسن وأنتم يا معشر من حضر . قال فقال علي : تكلموا بما تريدون حتى ننظر ما الذي تطلبون .
قال فتكلم شرحبيل بن السمط فقال : أما بعد فيا معشر أهل العراق ! إن الله تبارك وتعالى قد جعل بيننا حقوقاً عظاماً من الأرحام الماسة ، والأنساب القربية ، والأصهار الشابكة ، وقد علمنا يا أبا الحسن أن لك سابقة مع رسول الله وصهراً وقرابة وفقهاً في الدين وبأساً وتجربة وشرفاً قديماً . والله يعلم وإنك لتعلم أنا قد اقتتلنا لحمية الجاهلية بالسيوف الهندية لأنها جارات القرب وحصون الحومات ، وأنها بيضة الروم ، وأما حرماتكم فإنها بيضة فارس ، وقد رأينا أن تنصرف عنا يا أبا الحسن أنت ومن معك ، فنخلي بينكم وبين عراقكم وحجازكم وتخلونا بيننا وبين شامنا ونحقن دماء المسلمين . والله يعلم أنني قد أتيت بغاية النصيحة ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب .
فقال علي ( رضي الله عنه ) : والله لقد نظرت في هذا الأمر ، فضربت ظهره وبطنه ، وأنفه وعينه حتى لقد منعني النوم ، فما وجدته يسعني إلا قتالكم أو الكفر بما جاء به محمد ( ( عليهما السلام ) ) ، وأيم الله لوددت أنني فديت حقن دماء المسلمين بمهجتي ، ولكن قولوا لصاحبكم هذا يخرج إلى هذه الصحراء ، ثم أدعو الله ويدعو هو أيضاً أن يقتل المحق منا المبطل ، ثم إني أبارزة فأينا قتل صاحبه ملتم معه بأجمعكم .
فوالله لا يقاتل مع معاوية أحد إلا أكبه الله غداً في نار جهنم ! قال : فالتفت الشامي إلى أصحابه فقال : ما يقعدكم ! إنهضوا فلا والله ما عند هذا الرجل إلا السيف . قال : فوثب أهل الشام وهم يقولون : هلكت العرب ورب محمد .
--------------------------- 242 ---------------------------
ثم رجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك ، فعلم معاوية أن علياً لا يجيبه إلى شئ مما يريد ) .
أقول : لا يبعد أن يكون هذا الوفد إلى علي ( عليه السلام ) بطلب شرحبيل ، وأنه استثير بقوله ( عليه السلام ) : فوالله لا يقاتل مع معاوية أحد إلا أكبه الله غداً في نار جهنم !
فطلب من الوفد الرجوع . كما استثير بقول جرير ( وأما قولك إن علياً قتل عثمان فوالله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنك ملت إلى الدنيا ، وشئ كان في نفسك زمن سعد بن أبي وقاص ) !
هذا ويظهر أن ابن حوشب أخذ هذه المناشدة من شرحبيل ، وناشدها لعلي ( عليه السلام ) في أواخر الحرب . فقد روى ابن عبد البر في الإستيعاب ( 1 / 411 ) : ( عن عبد الواحد الدمشقي قال : نادى حوشب الحميري علياً يوم صفين فقال : انصرف عنا يا بن أبي طالب ، فإنا ننشدك الله في دمائنا ودمك ، ونخلي بينك وبين عراقك ، وتخلي بيننا وبين شامنا ، وتحقن دماء المسلمين . فقال علي ( عليه السلام ) : هيهات يا بن أم ظليم ، والله لو علمت أن المداهنة تسعني في دين الله لفعلت ولكان أهون علي في المؤنة ، ولكن الله لم يرض من أهل القرآن بالسكوت والإدهان إذا كان الله يعصى وهم يطيقون الدفاع والجهاد حتى يظهر أمر الله ) .
وروى نصر / 474 ، نحوه قرب ليلة الهرير : ( قال : وخرج رجل من أهل الشام ينادي بين الصفين : يا أبا الحسن يا علي أبرز إلي . قال : فخرج إليه علي حتى إذا اختلف أعناق دابتيهما بين الصفين فقال : يا علي ، إن لك قدماً في الإسلام وهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء وتأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك ؟ فقال له على : وما ذاك ؟ قال : ترجع إلى عراقك فنخلي بينك وبين العراق ، ونرجع إلى شامنا فتخلي بيننا وبين شامنا . فقال له علي ( عليه السلام ) : لقد عرفت إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة . ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينيه ، فلم أجد إلا القتال ، أو الكفر بما أنزل الله على محمد ( ( عليهما السلام ) ) . إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون على من معالجة الأغلال في جهنم . فرجع الشامي وهو يسترجع ) .
وروى نحوه ابن الأعثم ( 3 / 157 ) وأبو نعيم في الحلية ( 1 / 85 ) وابن عساكر في تاريخ دمشق ( 37 / 291 ) وابن الأثير في أسد الغابة ( 2 / 92 ) .
--------------------------- 243 ---------------------------
7 . ومن غرائب الأمور أن جرير البجلي نصح شرحبيل باتباع علي ( عليه السلام ) !
قال له ( ابن الأعثم : 2 / 520 ) : ( وأما قولك إن صاحبي قتل عثمان بن عفان ، فوالله ما في يديك شئ من ذلك إلا القذف من مكان بعيد ، والله سائلك عن ذلك يوم القيامة ! ولكنك يا شرحبيل ملت إلى الدنيا كما مال غيرك ، وشئ كان في نفسك عليَّ ، وستعلم عن قريب أن العاقبة للمتقين .
قال : فخرج شرحبيل من عند جرير مغضباً حتى دخل على معاوية فقال لمعاوية : إننا قد علمنا أنك عامل أمير المؤمنين عثمان بن عفان ووليه وابن عمه ، فإن كنت رجلاً تجاهد علياً حتى تدرك بثأر عثمان وإلا عزلناك واستعملنا على أنفسنا سواك ممن نريد . . الخ . ! ثم أرسل معاوية إلى جرير أن الحق بصاحبك فأخبره بالذي سمعت من مقالة أهل الشام ) .
ثم ذكر أن جريراً رجع إلى علي ( عليه السلام ) بعدما بقي في الشام أربعة أشهر !
8 . شارك شرحبيل في معارك صفين ، لكنه كان يتحفظ ويحفظ نفسه .
وكان حاكم حمص من قبل معاوية لمدة عشرين سنة . وعاش بعد صفين سنتين ، وهلك سنة أربعين للهجرة . ( تاريخ دمشق : 22 / 463 ) . ولم يثبت عند المؤرخين أنه رأى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهو تابعي وليس صحابياً .
من منطق جنود شرحبيل تعرف منطقه !
قال ابن الأعثم ( 3 / 132 ) : ( أقبل إلى معاوية رجل من أجلاء أهل الشام حتى وقف بين يديه فقال : يا معاوية إنه قتل منا في هذا اليوم سبع مئة رجل ولم يقتل من أصحاب علي إلا أقل من ذلك ! وأنت الذي تفعل بنا ذلك ، لأنك تولي علينا من لا يقاتل معنا مثل عمرو بن العاص ، وبسر بن أرطاة ، وعبد الرحمن بن خالد ، وعتبة بن أبي سفيان ، وكل واحد من هؤلاء إنما يقاتل ساعة ثم يخرج من الغبار ! فإن وليت علينا رجلاً مثلنا حتى نقاتل معه فذاك ، وإلا فلا حاجة لنا فيك . والسلام .
--------------------------- 244 ---------------------------
قال : ثم ولى مغضباً ، وأنشأ يقول :
معاوي إما تدعنا لعظيمة * فنحن لها إن لم نحام على الحقب
فول علينا من يحوط ذمارنا * من الحميريين الملوك على العرب
أفي كل يوم لا يزال يقودنا * إلى الموت فجفاج إذا الحرب اقترب
يحامي علينا ساعة ثم يمتري * بساقية خراج الغبار من الكرب
لعمرو وبسر والجبان ابن خالد * وعتبة الفرار في حومة اللهب
قال : فدعاه معاوية فترضاه وقال : يا أخا حمير ! فإني لا أولي عليكم إلا من
تحبون بعد هذا اليوم ، وأنزل الأمر حيث تريدون .
قال : فلما كان من غد وثب معاوية فعبأ أصحابه ثم قال : يا أهل الشام ! دعوا ما مضى ، إني أريد منكم اليوم أن تجدوا في حربكم وتقدموا عزمكم وتفرغوا مجهودكم ، وسلوني حوائجكم . قال : فوثب عك والأشعريون فقالوا : يا معاوية ! إننا قد قاتلنا معك علي بن أبي طالب ، ثم إن قلوبنا لتميل إليه لأننا لا نشك في حقه ولا نشك في باطلك ، غير أننا قوم من أهل الشام فلم تحب أن تخرج أيدينا من طاعتك ، وقد علمت أنه ليس لنا ضياع ولا قرى ، إنما نحن أصحاب إبل وغنم ، فنريد منك الفرض والقطائع والعقارات ، وإلا والله قلبنا أعنة الخيل إلى غيرك !
فقال معاوية : نعم والله وكرامة لكم ، فهاتوا ما الذي تريدون ؟ قالت عك : أما نحن فإننا نريد الفرض والعطاء . وقال الأشعريون : نريد منك أن تقطعنا حوران والتثنية فتكون لنا ولعقبنا من بعدنا . فقال معاوية : فإني قد فعلت ذلك وكرامة لكم .
قال : وبلغ أصحاب علي ذلك فلم يبق خلق من أهل العراق ممن كان في قلبه مرض أو شك إلا وطمع في معاوية وشخص ببصره نحوه ، أو همَّ أن يصير إليه ، حتى فشا ذلك في الناس . قال : فوثب المنذر بن حفصة الهمذاني إلى علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين : إن عكاً والأشعريين قد طلبوا من معاوية الفرض والعطاء والعقارات من حوران والثنية وغير ذلك ، قد باعوا الدين بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى ، ونحن قد رضينا بالآخرة من الدنيا ، وبالعراق من الشام وبك من معاوية ، والله إننا لنعلم أن
--------------------------- 245 ---------------------------
آخرتنا لأشرف من دنياهم ، وإن عراقنا لخير من شامهم ، وأن إمامنا لأهدى من إمامهم ، فعليك بالصبر واحملنا على الموت ، فها نحن بين يديك وتحت ركابك ، ثم أنشأ يقول :
ليس منا من لم يكن لك في الله * ولياً يا ذا الولا والوصية
قد بذلنا النفوس في طاعة الله * لكيما تنال داراً عليه
حبذ القتل في السبيل فلا بد * لنا من ورود حوض المنيه
حسبنا منك ما يبلغنا اليوم * إلى مثله ورب البنية
قال : فأدناه علي منه وقبل بين عينية ، وقال : أبشروا ، فإني أرجو من الله أن
تكونوا ممن يجاور محمداً ( ( عليهما السلام ) ) غداً في جنة النعيم ) .
- *
ترجمة ذي الكلاع الحميري ومقتله
1 . كان ذوالكلاع بن ناكور ، وحوشب ذو ظليم ، أهم قائدين عند معاوية ،
فهما فارسان شجاعان ، ورئيسا قبيلة حمير التي منها ومن كندة ملوك اليمن . وكان ينزلان حمص ، وقد بالغ الرواة في عدد جنودهما فقال بعضهم إن ذا الكلاع كان تحت إمرته ستون ألف مقاتل ، وكان ذو ظليم رئيساً معه وكانا متفقين . لكني أقدر جنودهما بنحو العشرة آلاف ، وذكرت الرواية أن أربعة آلاف بايعوه على الموت ، وكانوا معه في معارك صفين .
2 . قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 2 / 469 ) : ( ذوالكلاع ، اسمه أيفع بن ناكور ، أظنه من حمير ، يكنى أباشرحبيل . كان رئيساً في قومه مطاعاً متبوعاً أسلم فكتب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في التعاون على الأسود ومسيلمة . .
وكان ذوالكلاع القائم بأمر معاوية في حرب صفين ، وقُتل قبل انقضاء الحرب ، ففرح معاوية بموته ، وذلك أنه بلغه أن ذا الكلاع ثبت عنده أن علياً برئ من دم عثمان وأن معاوية لبَّس عليهم ذلك ، فأراد التشتيت على معاوية ، فعاجلته منيته بصفين سنة سبع وثلاثين !
--------------------------- 246 ---------------------------
ولما قتل ذوالكلاع أرسل ابنه إلى الأشعث يرغب إليه في جثة أبيه ليأذن له في أخذها ، وكان في الميسرة ، فقال له الأشعث : إني أخاف أن يتهمنى أمير المؤمنين ، ولكن عليك بسعد بن قيس فإنه في الميمنة ، وكانوا قد منعوا أهل الشام تلك الأيام أن يدخلوا عسكر علي ، لئلا يفسدوا عليهم .
فأتى ابن ذي الكلاع معاوية فاستأذنه في دخول عسكرهم إلى سعد بن قيس فأذن له ، فلما ولَّى قال معاوية : لأنا أفرح بموت ذي الكلاع مني بمصر لو فتحتها ، وذلك أنه كان يخالفه ، وكان مطاعاً في قومه .
فأتى ابنُ ذي الكلاع سعدَ بن قيس فأذن له في أبيه ، فأتاه فوجده قد رُبط برجله طنب فسطاط ، فأتى أصحاب الفسطاط فسلَّم عليهم وقال : أتأذنون في طنب من أطناب فسطاطكم ، قالوا : نعم ومعذرة إليك ، ولولا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترون . فنزل إليه وقد انتفخ وكان عظيماً جسيماً وكان مع ابن ذي الكلاع أسود له فلم يستطيعا رفعه ، فقال ابنه : هل من معاون ؟ فخرج إليه رجل من أصحاب علي يدعى الخندف فقالوا : تنحوا . فقال ابن ذي الكلاع : ومن يرفعه ؟ قال : يرفعه الَّذي قتله ! فاحتمله حتى رمى به على ظهر البغل ، ثم شده بالحبل ، وانطلقا به إلى عسكرهم ) .
أقول : قال عن الأشعث : وكان في الميسرة ، يعني أن علياً ( عليه السلام ) عزله عن الميمنة بعد هزيمته الخيانية . بل منعه هو وغيره أن يدخلوا إلى الميمنة !
3 . وفي الأخبار الطوال / 179 : ( وخرج ذوالكلاع في يوم من تلك الأيام في كتيبة من أهل الشام من عك ولخم ، فخرج إليه عبد الله بن عباس في ربيعة فالتقوا ، ونادى رجل من مذحج العراق : يا آل مذحج خذموا ، فاعترضت مذحج عكاً يضربون سوقهم بالسيوف فيبركون .
فنادى ذوالكلاع : يا آل عك بروكاً كبروك الإبل ! وحمل رجل من بكر بن وائل يسمى خندفاً على ذي الكلاع فضربه بالسيف على عاتقه فقد الدرع وفرى عاتقه فخر ميتاً ، فلما قتل ذوالكلاع تمحكت عك ، وصبروا لعض السيوف ، فلم يزالوا كذلك حتى أمسوا ) .
--------------------------- 247 ---------------------------
4 . وقال نصر / 239 : ( عن صعصعة بن صوحان العبدي قال : سمعت زامل بن عمرو الجذامي يقول : طلب معاوية إلى ذي الكلاع أن يخطب الناس ويحرضهم على قتال عليٍّ ومن معه من أهل العراق ، فكان مما قال :
ثم كان مما قضى الله أن ضم بيننا وبين أهل ديننا بصفين ، وإنا لنعلم أن فيهم قوماً كانت لهم مع رسول الله صلى الله عليه سابقة ذات شأن وخطر ، ولكني ضربت الأمر ظهراً وبطناً فلم أر يسعني أن يهذر دم عثمان صهر رسول الله نبينا ، الذي جهز جيش العسرة ، وألحق في مسجد رسول الله بيتاً وبنى سقاية ، وبايع له نبي الله صلى الله عليه بيده اليمنى على اليسرى ، واختصه رسول الله بكريمتيه : أم كلثوم ورقية ابنتي رسول الله .
فإن كان أذنب ذنباً فقد أذنب من هو خير منه ، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . وقتل موسى نفساً ثم استغفر الله فغفر له ، ولم يَعْرَ أحد من الذنوب ) !
ومعناه أن إعلام الخلفاء بنى في أذهانهم مكانة خيالية لعثمان ، وأن عثمان مغفور ذنبه ، وهو غيرمعصوم مثل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وموسى ( عليه السلام ) ! فيجب قتل الألوف بدمه ! وهذا منطق معاوية والسلطة القرشية !
5 . ذكر الرواة أن ذا الكلاع لما خرج السهم أن تكون حمير مقابل ربيعة ، استصغر ربيعة ، فحلف الخندف الحنفي أن يقتله !
قال نصر / 227 : ( فجاء بحمير فجعلهم بإزاء ربيعة على قرعة أقرعها ، فقال ذوالكلاع : بإستك من سهم لم تبغ الضراب ! كأنه أَنِفَ من أن تكون حمير بإزاء ربيعة ، فبلغ ذلك الخندف الحنفي ، فحلف بالله لئن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه ) . فأعانه الله عليه ، وقتله . وروي أن علياً قتل رجلاً اسمه ذوالكلاع ، فإن صحت الرواية ، فهو شخص آخر غير المشهور .
وروى نصر / 297 : ( عن زيد بن بدر ، أن زياد بن خصفة أتى عبد القيس يوم صفين وقد عبيت قبائل حمير مع ذي الكلاع ، وفيهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب
--------------------------- 248 ---------------------------
لبكر بن وائل ، فقاتلوا قتالاً شديداً خافوا فيه الهلاك ، فقال زياد لعبد القيس : لابكر بعد اليوم ، إن ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة ، فانهضوا لهم وإلا هلكوا ! فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء ، فشدت إزاء الميسرة ، فعظم القتال فقتل ذوالكلاع الحميري قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف ، وتضعضعت أركان حمير ، وثبتت بعد ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر .
وبعث عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقال : إن لي إليك حاجة فالقني ، فلقيه الحسن فقال له عبيد الله : إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً ، وقد شنؤوه ، فهل لك أن تخلفه ونوليك هذا الأمر ؟ قال : كلا والله لا يكون ذلك . ثم قال له الحسن : لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك ! أما إن الشيطان قد زين لك وخدعك ، حتى أخرجك مخلقاً بالخلوق ، تُري نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً !
قال : فوالله ما كان إلا كيومه أو كالغد وكان القتال ، فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء وهي الخضرية كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر ، ونظر الحسن فإذا هو برجل متوسد رجل قتيل قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله ، فقال الحسن لمن معه : أنظروا من هذا ، فإذا هو برجل من همدان ، فإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، قد قتله وبات عليه حتى أصبح ، ثم سلبه ! فسأل الرجل من هو ؟ فقال : رجل من همدان ، وإنه قتله . وحِزْنا القوم حتى اضطررناهم إلى معسكرهم ) .
ملاحظات
تدل نصوص متعددة على أن معاوية استعمل الحيل المختلفة ، لما كان جرير في الشام ، لإقناع ذي كلاع بأن علياً ( عليه السلام ) قتل عثمان ، حتى اقتنع ذوالكلاع وقرر أن يدخل الحرب إلى جانب معاوية لأخذ ثأر عثمان !
ثم اكتشف ذوالكلاع الحقيقة من رسائل ابن عمه أبي نوح الكلاعي وغيرها . ولذلك رتب في صفين مناظرة عمار ( رضي الله عنه ) وعمرو العاص ، ورأى أن عماراً أفحمه فتيقن بأن
--------------------------- 249 ---------------------------
معاوية غشه ، وثبت له أنه الفئة الباغية .
لكنه أبطأ في اتخاذ قراره ، وواصل القتال فقتل قبل أن يثور على معاوية ، ففرح بذلك معاوية كما نص عليه المؤرخون .
قال ابن الأثير في أسد الغابة ( 2 / 143 ) : ( فلما قتل ذوالكلاع وقتل عمار قال معاوية : لو كان ذوالكلاع حياً لمال بنصف الناس إلى علي ، وقيل إنما أراد الخلاف على معاوية لأنه صح عنده أن علياً برئ من دم عثمان ) .
قال نصر بن مزاحم / 341 : ( فأصيب عمار مع علي ، وأصيب ذوالكلاع مع معاوية ، فقال عمرو : والله يا معاوية ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً . والله لو بقي ذوالكلاع حتى يقتل عمار ، لمال بعامة قومه إلى علي ، ولأفسد علينا جندنا ) . ومعناه أن ذا الكلاع أبصرالحق ، لكنه واصل نصرته للباطل فلم يتوفق للتوبة ، ثم لم تنعكس قناعته الجديدة على أولاده ، فقتل أحدهم في صفين ، وبقي ابنه شرحبيل وعبد الرحمن مع معاوية ، وكان شرحبيل مع ابن زياد ضد الإمام الحسين ( عليه السلام ) ! وأما حوشب ذي ظليم ، فهو يشبه ذا الكلاع وكان يطيعه .
- *
ترجمة حوشب ذي ظليم ومقتله
1 . قال ابن حجر في الإصابة ( 2 / 185 ) : ( حوشب ذو ظليم هو بن طخية وقيل بن طخمة ، ويقال بن الساعي بن عتبان بن ظلم بن ذي أستار . .
روى سيف في الفتوح قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع وذي ظليم ، وهاجر حوشب بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشهد اليرموك .
ونزل حوشب الشام ، وشهد صفين مع معاوية ، واتفقوا على أنه قتل بصفين . فروى يعقوب بن سفيان وإبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين والبيهقي في الدلائل وغيرهم بإسناد صحيح عن أبي وائل قال : رأى عمرو بن شرحبيل أنه أدخل الجنة فإذا قباب مضروبة فقلت : لمن هذه ؟ قالوا : لذي الكلاع وحوشب . قلت : فأين عمار ؟ قال : أمامك . قلت : وكيف وقد قتل بعضهم بعضاً ؟ ! قال :
--------------------------- 250 ---------------------------
إنهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة ) .
أقول : هذا المنام ليس حديثاً نبوياً ، بل منام من خيال من رآه ابن شرحبيل ، ويدل على أنه كان كأبيه شاكاً في أنه على الحق ، لكن منامه يعجبه وأمثاله الذين يتبنون مقولة : القاتل والمقتول في الجنة ! وتجدهم يكررون منام ابن حوشب فرحين به ، ليرفعوا صفة الفئة الباغية والدعاة إلى النار ، عن أحبائهم !
2 . قال ابن الأعثم في الفتوح ( 3 / 121 ) : ( خرج ذو الظليم قائلاً :
أهل العراق ناسبوا وانتسبوا * نحن اليمانيون منا حوشب
أنا الظليم أين أين المهرب * فينا الصفيح والقنا المغلب
والخيل أمثال الوشيح شذب * إن العراق خيلها مذبذب
قي قتل عثمان وكل مذنب * هذا علي فيكم محبب
قال : فخرج إليه سليمان بن صرد الخزاعي وهو يقول :
يا لك يوماً كاسفاً عصبصبا * يا لك يوماً لا يواري كوكبا
يا أيها الحي الذي تذبذبا * لسنا نخاف ذا الظليم حوشبا
لأن فينا بطلاً مجربا * ابن بديل كالهزبر مغضبا
أمسى علي عندنا محببا * نفديه بالأم ولا نبقي أبا
قال : ثم حمل عليه سليمان فطعنه في بطنه طعنة أنفذ السنان من ظهره ، فسقط حوشب قتيلاً . ودخل على معاوية من قتل حوشب مصيبة عظيمة ) .
3 . وفي مناقب ابن شهرآشوب ( 2 / 354 ) : ( فحملت الأنصار حملة رجل واحد وقتلوا ذا الكلاع وذا الظليم وساروا إليهم ، وكاد يؤخذ معاوية ، فقال الأنصار :
معاوي ما أفلت إلا بجرعة * من الموت حتى تحسب الشمس كوكبا
فإن تفرحوا بابن البديل وهاشم * فإنا قتلنا ذا الكلاع وحوشبا
- *
--------------------------- 251 ---------------------------
ترجمة أبي الأعور السلمي
1 . قال ابن حجر في الإصابة ( 4 / 529 ) اسمه : عمرو بن سفيان بن عبد شمس ، بن سعد ، بن قائف ، بن الأوقص ، بن مرة بن هلال ، بن فالج بن ذكوان ، بن ثعلبة ، بن سليم ، فهو من بني سُليم ، وأمه من قريش من بني سهم . قال بن معين : صحابي ، وقال أبو حاتم : لا صحبة له ولم يذكره البخاري في الصحابة . وقال ابن عبد البر : هو حليف أبي سفيان وشهد حنيناً مع هوازن وهو مشرك ، وكانت له مواقف بصفين مع معاوية . وقال أبو سعيد بن يونس : إنه قدم مصر مع مروان سنة خمس وستين ) .
أقول : كان مقاتلاً ضد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حنين ، قيمون عمره عشرين أو خمساً وعشرين ، ويكون في صفين بعد ثلاين سنة من حنين ن في نحو السبعين .
وقال في إمتاع الأسماع ( 1 / 162 ) : قتل أبوه سفيان بن عبد شمس أباجابر بن عبد الله الأنصاري ( رضي الله عنه ) في أحُد وكان شيخاً كبيراً ، فكان أول قتيل من المسلمين ، فصلى عليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل الهزيمة ) .
2 . ذكر المؤرخون أن أباالأعور كان حامل الكتاب إلى والي مصر بأن يقتل محمد بن أبي بكر ومن معه ، ولم يذكر التاريخ له مبارزة وانتصاراً ، وذكر ابن الأعثم ( 3 / 18 ) أنه جاء يوم معركة الماء يرتجز : ( فحمل عليه الأشعث فطعنه طعنة كادت أن تأتي على نفسه ، فولى عنه أبوالأعور جريحاً ) .
3 . وكان يخاف من الأشتر ، فقد كان على مقدمة معاوية قرب صفين وجاءه الأشتر فخنس منه ، قال ابن الأعثم ( 2 / 566 ) : ( فلما نظر أبوالأعور إلى جند أهل العراق قد وافوا صاح بأصحابه : احملوا على هؤلاء الكلاب !
قال : فحمل القوم بعضهم على بعض فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وجعل الأشتر يقول لأصحابه : ويلكم ! أروني أباالأعور هذا الذي بدأنا به معاوية حتى أنظر إليه ، فقالوا : هو الواقف على التل صاحب الفرس الأشقر ، فقال الأشتر لرجل
--------------------------- 252 ---------------------------
من أصحابه يقال له سنان بن مالك النخعي : إذهب إلى أبي الأعور فادعه إلى المبارزة ! قال : فأقبل الفتى حتى وقف قريباً من عسكر أهل الشام ثم قال : إني رسول ولا تؤذوني ، فقال له أهل الشام : أنت آمن فهلم وقل ما أحببت . قال : فجاء الفتى إلى أبي الأعور فقال : إن الأشتر يدعوك إلى مبارزته ، قال : فسكت أبوالأعور ساعة ثم قال : إن جهل الأشتر وسوء رأيه هو الذي حمله على ما فعل بعثمان بن عفان ، أنه قبح محاسنه وأظهر عداوته ، ثم سار إليه في داره وقراره حتى قتله ، انصرف عني فلا حاجة لي في مبارزته ، فقال سنان : إنك قد تكلمت فاسمع الجواب ! فقال : لا حاجة لي في جوابك ، انصرف من حيث جئت .
قال : فرجع سنان إلى الأشتر فأخبره بذلك ، فتبسم الأشتر وقال : إنه نظر لنفسه ، ولو بارزني لبريت يديه ، ولكن احملوا عليهم !
قال : فحملت أهل العراق على أهل الشام واقتتلوا قتالاً عظيماً يوم ذلك إلى الليل ، فلما كان وجه السحر انهزم أبوالأعور في أصحابه ، حتى سار إلى معاوية فأخبره بما كان من أمره ، فقال معاوية : فكيف رأيت حرب القوم ؟ فقال : يا معاوية لا تسأل عن شئ فإن الخطر عظيم ) .
4 . كان معاوية يعبئ أصحابه بضغائن بدر وأحد والأحزاب وحنين .
ففي مناقب الخوارمي / 234 : ( اجتمع عند معاوية الملأ من قومه ، فذكروا شجاعة علي وشجاعة الأشتر فقال عتبة بن أبي سفيان : إن كان الأشتر شجاعاً لكن علياً لانظيرله في شجاعته وصولته وقوته . قال معاوية : ما منا أحد إلا وقد قتل علي أباه أو أخاه أو ولده ، قتل يوم بدر أباك يا وليد ، وقتل عمك يا أباالأعور يوم أحد ، وقتل يا ابن طلحة الطلحات أباك يوم الجمل ، فإذا اجتمعتم عليه أدركتم ثاركم منه ، وشفيتم صدوركم ، فضحك الوليد بن عقبة بن أبي معيط من قوله وأنشأ يقول :
يقول لكم معاوية بن حرب * أما فيكم لواتركم طلوب
يشد على أبي حسن علي * بأسمر لا تهجنه الكعوب
فيهتك مجمع اللبات منه * ونقع القوم مطرد يثوب
--------------------------- 253 ---------------------------
فقلت له أتلعب بابن هند * كأنك وسطنا رجل غريب
أتأمرنا بحية بطن واد * إذا نهشت فليس لها طبيب
وبُسْر مثلها لاقى جهاداً * فأخطأ نفسه الأجل القريب
سوى عمرو وقته خصيتاه * نجا ولقلبه منها وجيب
كأن القوم لما عاينوه * خلال النقع ليس لها قلوب
وقد نادى معاوية بن حرب * فاسمعه ولكن لا يجيب )
وروي أن علياً حمل عليه وقال : خذها يا ابن النابغة ، فسقط عن فرسه وأبدى عورته ، فقال له على : يا ابن النابغة أنت طليق دبرك أيام عمرك ) !
5 . قال الخوارزمي في المناقب / 220 : ( فأرسل الأشتر إلى أبي الأعور : أن أبرز إلي فبرز إليه لكثرة ما دعاه الأشتر إليه وعليه درع مذهب وبيضة عادية ، فتقهقرا ليحمل كل واحد منهما على صاحبه وعمرو ينظر إليهما ، فحمل الأشتر عليه فضربه على بيضته فقطع أنف البيضة ووقع السيف في وجنته فدمي وجهه ، وهرب أبوالأعور ، وحمل الأشعث وانهزم عسكر أبي الأعور وعمرو بن العاص ) .
6 . روى البلاذري ( 2 / 351 ) أن معاوية كان يلعن في صلاته : علياً والأشتر ، وقيس بن سعد والحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وابن عباس ، وعبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهم . وأن علياً ( عليه السلام ) كان يقول في قنوته في صلاة الصبح : اللهم العن معاوية ، وعمراً ، وأباالأعور ، وحبيب بن مسلمة ، وعبد الرحمان بن خالد بن الوليد ، والضحاك بن قيس ، والوليد بن عقبة ) .
7 . روى ابن عساكر ( 62 / 432 ) أن معاوية عزل عمروالعاص عن مصر وأرسل إليها أباالأعور ، فاحتال عليه عمرو وأخذ كتاب معاوية وأخفاه فقال : أين كتابي ؟ فقال له عمرو : أليس إنما جئتنا زائراً لنحسن إليك ونكرمك ونبرك ؟ قال : إستعملني أمير المؤمنين وعزلك ! قال مهلاً لا تظهرن هذا منك ، إنه قبيح ! نحن نصلك ونحسن جائزتك ! وبلغ معاوية الخبر فاستضحك ، وأقر عمرواً على مصر ) . ثم عزله وأرجعه فمات أو قتله معاوية !
--------------------------- 254 ---------------------------
8 . وذكر المؤرخون أن أباالأعور السلمي ، كان مبعوث مروان بكتاب عثمان السري إلى ابن أبي سرح في مصر ، بأن يقتل محمد بن أبي بكر ومن معه ! فعثر عليه المصريون في الطريق ورجعوا إلى عثمان غاضبين !
- *
ترجمة بُسْر بن أبي أرطاة
1 . قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 1 / 157 ) ملخصاً : ( بُسْر بن أبي أرطاة القرشي ، واسم أبي أرطاة عمير من بني عامر بن لؤي بن غالب بن فهر ، لم يسمع من النبي لأن رسول الله قبض وهو صغير . هذا قول الواقدي وابن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم . وقالوا : خرف في آخره عمره . وأما أهل الشام فيقولون : إنه سمع من النبي . وكان يحيى بن معين يقول : لا تصح له صحبة وكان يقول فيه : رجل سوء ، لأمور عظام ركبها في الإسلام من ذبحه ابني عبيد الله بن العباس وهما صغيران بين يدي أمهما ، فأنشأت :
ها من أحس بنيي اللذين هما * سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
ها من أحس بنيي اللذين هما * مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
ها من أحس بنيي اللذين هما * كالدرتين تشظى عنهما الصدف
نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا * من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مرهَّفةً * مشحوذة وكذاك الأمر مقترف
من دل والهة حرى وثاكلة * على صبيين ضلا إذ غدا السلف
ثم وسوست فكانت تقف في الموسم تنشد هذا الشعر ، وتهيم على وجهها !
وجه معاوية بسر بن أرطاة الفهري لقتل شيعة علي فسار حتى أتى المدينة ،
وعامل المدينة يومئذ لعلي بن أبي طالب أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله ، ففر أبو أيوب ولحق بعلي ، ودخل بسر المدينة فصعد منبرها ، فقال : يا أهل المدينة والله لولا ما عهد إلى معاوية ما تركت فيها محتلماً إلا قتلته . ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية وأرسل إلى بني سلمة فقال : ما لكم عندي أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله فأخبر جابر ، فانطلق حتى جاء إلى أم سلمة زوج النبي فقال لها : ما ذا ترين ؟
--------------------------- 255 ---------------------------
فإني خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة . فقالت : أرى أن تبايع ، وقد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع . فأتى جابر بسراً فبايعه لمعاوية ، وهدم بسر دوراً بالمدينة ثم مضى إلى اليمن وعامل اليمن لعلي عبيد الله بن العباس ، فلما بلغه أمر بسر فر إلى الكوفة حتى أتى علياً ، فأتى بسر ولقي ثقل عبيد الله بن العباس وفيه ابنان صغيران لعبيد الله بن العباس ، فقتلهما .
وكان بسر بن أرطاة من الأبطال الطَّغاة ، وكان مع معاوية بصفين ، فأمره أن يلقى علياً في القتال وقال له : سمعتك تتمنى لقاءه فلوأظفرك الله به وصرعته حصلت على دنياً وآخرة ، ولم يزل به يشجعه ويمنيه حتى رآه فقصده في الحرب فالتقيا فطعنه علي فصرعه ، فانكشف له فكف عنه ، كما عرض له فيما ذكروا مع عمرو بن العاص ) .
ومعنى انكشف له : أنه رمى بنفسه عن فرسه وسجد على الأرض وكشف دبره ! فقد تعلم ذلك من عمرو العاص ، الذي كان يعرف أن علياً ( عليه السلام ) لا ينظر إلى العورات ، فأعرض علي ( عليه السلام ) عن عمرو وقال له : يا ابن النابغة ، أنت طليق دبرك أيام عمرك ! ونادى بسراً : يا بسر ، معاوية كان أحق بهذا منك ! فرجع بسر إلى معاوية فقال له معاوية : إرفع طرفك قد أدال الله عمراً منك ) .
2 . وكان بسر معروفاً بالجبن ، ويدل على جبنه وحشيته وكثرة تقتيله في غارته . قال ابن الأعثم في الفتوح ( 3 / 132 ) : ( وأقبل إلى معاوية رجل من أجلاء أهل الشام حتى وقف بين يديه فقال : يا معاوية إنه قتل منا في هذا اليوم سبع مئة رجل ، ولم يقتل من أصحاب علي إلا أقل من ذلك ، وأنت الذي تفعل بنا ذلك ! لأنك تولي علينا من لا يقاتل معنا ، مثل عمرو بن العاص ، وبسر بن أرطاة ، وعبد الرحمن بن خالد ، وعتبة بن أبي سفيان ، وكل واحد من هؤلاء إنما يقاتل ساعة ثم يخرج من الغبار ) !
3 . كانت غارة بسر بن أرطاة على المدينة ومكة واليمن أفظع غارات معاوية ، وأكثرها فتكاً وتخريباً ونهباً وحرقاً وتقتيلاً ، فقد بلغ قتلاها ثلاثون ألفاً !
--------------------------- 256 ---------------------------
قال اليعقوبي ( 2 / 197 ) : ( وجه معاوية بُسر بن أبي أرطاة العامري في ثلاثة آلاف رجل ، فقال له : سر حتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها ، وأخف من مررت به ، وانهب مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا ، وأوهم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم ، وأنه لا براءة لهم عندك ولا عذر ، وسرحتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد ، وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة ، واجعلهم شرادات .
ثم امض حتى تأتي صنعاء ، فإن لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم . فخرج بسر ، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية !
وهدم دوراً بالمدينة ، ثم مضى حتى أتى مكة ، ثم مضى حتى أتى اليمن ، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس عامل علي وبلغ علياً الخبر ، فقام خطيباً فقال : أيها الناس إن أول نقصكم ذهاب أولي النهي والرأي منكم الذين يحدثون فيصدقون ويقولون فيفعلون ، وإني قد دعوتكم عوداً وبدأً ، وسراً وجهراً ، وليلاً ونهاراً ، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً ، ما ينفعكم الموعظة ولا الدعاء إلى الهدى والحكمة ، أما والله إني لعالم بما يصلحكم ، ولكن في ذلك فسادي ! أمهلوني قليلاً ، فوالله لقد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم ويعذبه الله بكم ، إن من ذل الإسلام وهلاك الدين أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجيبون ، وأدعوكم وأنتم لاتصلحون فتراعون ! هذا بسر قد صار إلى اليمن وقبلها إلى مكة والمدينة ! فقام جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أمير المؤمنين ! لاعدمنا الله قربك ، ولا أرانا فراقك ، فنعم الأدب أدبك ، ونعم الإمام والله أنت ، أنا لهؤلاء القوم فسرحني إليهم ! قال : تجهز فإنك ما علمتك رجل في الشدة والرخاء المبارك الميمون النقيبة ، ثم قام وهب بن مسعود الخثعمي فقال : أنا أنتدب يا أمير المؤمنين . قال : إنتدب بارك الله عليك .
فخرج جارية في ألفين ووهب ابن مسعود في ألفين وأمرهما علي أن يطلبا بُسراً حيث كان حتى يلحقاه ، فإذا اجتمعا فرأس الناس جارية ، فخرج جارية من البصرة ووهب من الكوفة حتى التقيا بأرض الحجاز ، ونفذ بسر من الطائف حتى قدم اليمن وقد تنحى عبيد الله بن عباس عن اليمن ، واستخلف بها عبد الله بن عبد المدان الحارثي ،
--------------------------- 257 ---------------------------
فأتاه بسرفقتله وقتل ابنه مالك بن عبد الله ، وقد كان عبيد الله خلف ابنيه عبد الرحمن وقثم عند جويرية ابنة قارظ الكنانية وهي أمهما ، وخلف معها رجلاً من كنانة ، فلما انتهى بسر إليها دعا ابني عبيد الله ليقتلهما ، فقام الكناني فانتضى سيفه وقال : والله لأقتلن دونهما فألاقي عذراً لي عند الله والناس ، فضارب بسيفه حتى قتل ! وخرجت نسوة من بني كنانة فقلن : يا بسر ! هذا الرجال يقتلون فما بال الولدان ! والله ما كانت الجاهلية تقتلهم ، والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء !
فقال بسر : والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف ! وقدم الطفلين فذبحهما بيده بخنجر ! فقالت أمهما ترثيهما . . . ثم جمع بسر أهل نجران فقال : يا إخوان النصارى ! أما والذي لا إله غيره لئن بلغني عنكم أمرأكرهه لأكثرن قتلاكم . ثم سار نحو جيشان وهم شيعة لعلي فقاتلهم فهزمهم وقتل فيهم قتلاً ذريعاً ، ثم رجع إلى صنعاء .
وسار جارية بن قدامة السعدي حتى أتى نجران وطلب بسراً ، فهرب منه في الأرض ولم يقم له ، وقتل من أصحابه خلقاً ، وأتبعهم بقتل وأسر حتى بلغ مكة ، ومر بسر حتى دخل الحجاز لايلوي على شئ ، فأخذ جارية بن قدامة أهل مكة بالبيعة فقالوا : قد هلك عليٌّ فلمن نبايع ؟ قال : لمن بايع له أصحاب عليٍّ بعده .
حدثني أبو خالد الوالبي قال : قرأت عهد علي لجارية بن قدامة : أوصيك يا جارية بتقوى الله فإنها جموع الخير ، وسر على عون الله فالق عدوك الذي وجهتك له ولا تقاتل إلا من قاتلك ، ولا تجهز على جريح ، ولا تسخرن دابة وإن مشيت ومشى أصحابك ! ولا تستأثر على أهل المياه بمياههم ، ولا تشربن إلا فضلهم عن طيب نفوسهم ، ولا تشتمن مسلماً ولا مسلمة فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه ، ولا تظلمن معاهداً ولا معاهدة ، واذكر الله ولا تفتر ليلاً ولا نهاراً ، واحملوا رجالتكم وتواسوا في ذات أيديكم ، واجدد السير وأجل العدو من حيث كان ، واقتله مقبلاً واردده بغيظه صاغراً ، واسفك الدم في الحق
--------------------------- 258 ---------------------------
واحقنه في الحق ، ومن تاب فاقبل توبته . وأخبارك في كل حين بكل حال ، والصدق الصدق فلا رأي لكذوب . قال : وحدث أبو الكنود أن جارية مر في طلب بسر فما كان يلتفت إلى مدينة ولا يعرج على شئ حتى انتهى إلى اليمن ونجران ، فقتل من قتل . وهرب منه بسر ، وحرَّق تحريقاً فسمي محرقاً ) .
4 . ( وقيل لمالك بن أنس : كان معاوية حليماً ، فقال : وكيف يكون حليماً من أرسل بسر بن أرطاة ما بينه وبين اليمن لا يسمع بأحد عنده خبر يخاف منه إلا قتله ! ما كان بحليم ولا مبارك ) ! ( شرح الأخبار للقاضي النعمان : 2 / 169 ) .
5 . ذكر المؤرخون أن أبا هريرة ساعد بسراً على ظلم أهل المدينة فنصبه والياً عليها لمعاوية ! ولما قدم جارية بن قدامة هرب منه أبو هريرة !
قال الطبري ( 4 / 107 ) : ( وهرب بُسر وأصحابه منه واتبعهم حتى بلغ مكة . . ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بهم فهرب منه ، فقال جارية : والله لو أخذت أباسنَّوْر لضربت عنقه ، ثم قال لأهل المدينة : بايعوا الحسن بن علي فبايعوه ، وأقام يومه ثم خرج منصرفاً إلى الكوفة ، وعاد أبو هريرة فصلى بهم ) ! . ( ومثله ابن كثير في النهاية : 7 / 357 ) .
6 . جعل معاوية فعل بسر فعل الله تعالى ! قال الثقفي في الغارات ( 2 / 639 ) : ( فقدم على معاوية فقال : يا أمير المؤمنين أحمد الله ، فإني سرت في هذا الجيش أقتل عدوك ذاهباً وراجعاً ، لم ينكب رجل منهم نكبة !
فقال معاوية : اللهُ فعل ذلك لا أنت ! وكان الذي قتل بسر في وجهه ذاهباً وراجعاً ثلاثين ألفاً ، وحرَّق قوماً بالنار ) !
7 . روى المفيد في الأمالي / 306 : ( اجتمع عبيد الله بن العباس من بعد وبسر بن أرطاة عند معاوية ، فقال معاوية لعبيد الله : أتعرف هذا الشيخ قاتل الصبيين ؟ فقال بسر : نعم أنا قاتلهما ، فمه ؟ فقال عبيد الله : لو أن لي سيفاً ! قال بسر : فهاك سيفي وأومأ بيده إلى سيفه ، فزبره معاوية وانتهره وقال : أف لك من شيخ ما أحمقك ! تعمد إلى رجل قد
--------------------------- 259 ---------------------------
قتلت ابنيه ، تعطيه سيفك ! كأنك لا تعرف أكباد بني هاشم . والله لو دفعته إليه لبدأ بك وثنى بي . فقال عبيد الله : بل والله كنت أبدأ بك ، ثم أثني به ) !
8 . ذكرالثقفي أن علياً ( عليه السلام ) دعا على بسر بن أرطاة فقال : ( اللهم إن بسراً باع دينه بدنياه وانتهك محارمك ، وكانت طاعة مخلوق فاجر آثرَ عنده مما عندك ! اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله !
اللهم العن معاوية وعمراً وبسراً ! أما يخاف هؤلاء المعاد ! فاختلط بسر بعد ذلك فكان يهذي ويدعو بالسيف ، فاتخذ له سيف من خشب ، فإذا دعا بالسيف أعطي السيف الخشب فيضرب به حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق طلبه فيدفع إليه ، فيصنع به مثل ذلك ! حتى مات ، لارحمه الله ) !
9 . وكان أبو هريرة متحمساً لمعاوية ، فتقرب اليه بمساعدة بسر بن أرطاة على أهل المدينة ، ثم أخذ يتقرب اليه بالطعن بعلي ( عليه السلام ) والافتراء عليه !
قال الأعمش : ( لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة ، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثى على ركبتيه ثم ضرب صلعته مراراً وقال : يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار ! والله لقد سمعت رسول الله يقول : إن لكل نبي حرماً ، وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها ! فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة ) . ( شرح النهج : 4 / 67 ) .
وكان أبو هريرة يجلس بالعشيات بباب كندة ويجلس الناس إليه ، فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه فقال : يا أبا هريرة أنشدك الله أسمعتَ رسول الله يقول لعلي بن أبي طالب : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ؟ فقال : اللهم نعم . فقال : أنا منك برئ ، فأشهد بالله لقد واليت عدوه وعاديت وليه ! فحصبه الناس بالحصباء ) ! ( مصنف ابن أبي شيبة : 7 / 499 ) .
ولم يحفظ أكثر الرواة والمؤلفين الأمانة في هذا الحديث ، فحذفوا كلام هذا الشاب ! كما في
--------------------------- 260 ---------------------------
مجمع الزوائد : 9 / 105 ، وأبي يعلى : 11 / 307 ، وابن سعد : 2 / 110 ، وتاريخ دمشق : 42 / 232 والنهاية : 5 / 232 . وقد استوفاه الأميني ( رحمه الله ) في المناشدة بحديث الغدير / 82 ، والسيد الميلاني في نفحات الأزهار : 7 / 53
والسيد الطباطبائي في طرق حديث من كنت مولاه / 81 ، والأنصاري في المسانيد : 2 / 493 )
وروى في الغارات ( 2 / 636 ) خطبته ( عليه السلام ) : ( أيها الناس ! ألا إن بُسراً قد أطلع اليمن ، وهذا عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران ( والياه على اليمن ) قدما عليَّ هاربين ! ولا أرى هؤلاء القوم إلا ظاهرين عليكم لاجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، وطاعتهم لإمامهم ومعصيتكم لإمامكم ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم إياي ! إني وليت فلاناً فخان وغدر واحتمل فيئ المسلمين إلى معاوية ، ووليت فلاناً فخان وغدر وفعل مثله ، فصرت لا أئتمنكم على علاقة سوط ، وإن ندبتكم إلى عدوكم في الصيف قلتم : أمهلنا ينسلخ الحر عنا ، وإن ندبتكم في الشتاء قلتم : أمهلنا ينسلخ القَرُّ عنا ، اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم من هوخير لي منهم ، وأبدلهم بي من هو شر لهم مني ، اللهم مث قلوبهم ميث الملح في الماء ، ثم نزل ) !
- *
--------------------------- 261 ---------------------------
الفصل السادس والسبعون: معجزات الإمام الست في طريقه إلى صفين
المسافة والطريق الذي سلكه أمير المؤمنين ( عليه السلام )
1 . تبلغ المسافة من الكوفة إلى دمشق 777 كيلو متراً . والمسافة من الكوفة إلى الرقة 478 كيلومتراً . ( جدول المسافات في شبكة النت ) .
ومعناه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قصد بجيشه دمشق مركز معاوية ، وقطع أكثر المسافة بينها وبين الكوفة ، وجعل المعرطة مع معاوية في صفين داخل سوريا .
وقد سلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى صفين : طريق الكوفة إلى كربلاء ، ثم إلى المدائن ، ثم إلى الرمادي أو الأنبار ، ثم هيت ، ثم حديثة ، ثم عانات ، ثم البو كمال ، ثم الميادين أو الرحبة ، ويقابلها في غربي الفرات قرقيسيا ، ثم مراط ، ثم زلبية ، ثم الرقة ، ومنها عَبَرالإمام ( عليه السلام ) الفرات إلى صفين في الضفة الأخرى . فأرض صفين متصلة بالرقة ، وهي وادي صفين وجبل صفين ، وهي قريبة نسبياً من حلب ، يفصلها عنها : بالِس ومَسْكَنَةُ حلب .
2 . كانت الحيرة قبل الإسلام مهداً للنصرانية ، وقد وصل بعض الباحثين المعاصرين إلى أن النجف وحدها كان فيها أكثر من ثلاثين ديراً وكنيسة :
http : / / www . ankawa . com / forum / index . php ? topic = 565802 . 0 ; wap 2
ونلاحظ في نصوص صفين وجود أديرة عديدة في طريق الشام ، كالذي بين هيت وحديثة ، والذي عند الرقة ، وفيهما راهبان من ذرية شمعون ، وهذا يدل على عراقة المسيحية في العراق ، وتأثير شمعون الصفا ( عليه السلام ) فيها .
--------------------------- 262 ---------------------------
3 . في مراصد الاطلاع ( 2 / 853 ) : ( صندوداء : قرية كانت في غربي الفرات ،
فوق الأنبار ، خربت ، وبها مشهد لعلي بن أبي طالب ) .
وفي الخرائج ( 2 / 864 ) : ( وصندوداء : بلدة في الطريق ما بين الشام والعراق ) . راجع معجم البلدان ( 3 / 425 ) ووقعة صفين / 528 .
وفي معجم البلدان ( 1 / 493 ) : ( البليخ ، الخاء معجمة : اسم نهر بالرقة يجتمع فيه الماء من عيون ، وأعظم تلك العيون عين يقال لها الذهبانية في أرض حران ، فيجري نحو خمسة أميال ثم يسير إلى موضع قد بنى عليه مسلمة بن عبد الملك حصناً ، يكون أسفله قدر جريب وارتفاعه في الهواء أكثر من خمسين ذراعاً ، وأجرى ماء تلك العيون تحته ، فإذا خرج من تحت الحصن يسمى بليخا ، ويتشعب من ذلك الموضع أنهار تسقي بساتين وقرى ثم تصب في الفرات تحت الرقة بميل ، قال ابن دريد : لا أحسب البليخ عربياً ) .
4 . في معجم البلدان ( 3 / 414 ) : ( صِفِّين : بكسرتين وتشديد الفاء . . وهو موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس ، وكانت وقعة صفين بين علي ومعاوية في سنة 37 ، في غرة صفر ) .
5 . وقال ابن حوقل في كتابه : صورة الأرض ( 1 / 34 ) : ( بَرِّيَّة خَسَّاف : فيما بين الرقة وبالس عن يسار الذاهب إلى الشام ، وصفين أرض من هذه البادية بقرب الفرات ، ما بين الرقة وبالس ، وهو الموضع الذي كان به حرب علي ومعاوية . ورأيت هذا الموضع فرأيت عجباً ! وذلك أنا كنا سائرين من تحته في الفرات وهو ربوة عظيمة ، فعددنا عليها ثمانية قبور أو تسعة ، ومن فوقها ربوة أعلى منها ، فعددنا عليها بضعة عشر قبراً ظاهرة بيِّنة لمن يتأملها ، ولم تختلف جماعة كنت فيهم في عدد قبور الموضعين ، ثم صعدنا المكان الذي عددنا فيه هذه القبور ، فلم نر فيه ولا لقبر واحد أثراً ) !
وقال ابن حوقل أيضاً ( 1 / 226 ) : ( وفي غربي الفرات بين الرقة وبالس أرض صفين ، وبها قبر عمار بن ياسر وأكثر أصحاب علي ( عليه السلام ) . وصفين أرض على الفرات مطلة من شرف عالي السَّمْك ، ويرى من كان بالفرات منه عجباً ، وذلك أنه يرى قبوراً في موضعين أحدهما أعلى من الآخر ، ويَعُدُّ في أحد الموضعين دون العشرة قبور ، وفي
--------------------------- 263 ---------------------------
الآخر نحو عشرين قبراً ، ويصعد إلى المكان فلا يرى لذلك أثراً ، ولا يحس منه خبراً ! وإني لأستقبح أن أحكي هذه الحكاية ولكن بلغتني فكذبتها ، ثم رأيتها فلزمني حكايتها تصديقاً لمن تقدم بالحكاية اليَّ وإن عَرَّضت نفسي للتهم ! على أن أكثر من قتل من أصحاب علي هناك معروفة قبورهم ، وخبرني من رأى هنالك بيتاً ، ينسب أنه كان بيت مال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
وحَرَّان مدينة تلي الرقة في الكبر ، وهي مدينة الصابئين وبها سدنتهم ، ولهم بها طربال كالطربال ( علم مبني ) الذي بمدينة بلخ ، عليه مصلى الصابئين ، يعظمونه وينسبونه إلى إبراهيم ( عليه السلام ) ) .
أقول : يقصد ابن حوقل أن أرض صفين مرتفعة ونهر الفرات منخفض كثيراً عندها ، والراكب في سفينة في الفرات ينظراليها فوقه فيرى عليها قبوراً في موضعين أحدهما أعلى من الآخر ، في ربوة نحو عشرة قبور ، وفي الثانية أكثر ، لكنه إذا صعد إليها لا يجد أثراً لأي قبر ! ويؤكد ابن حوقل وهو عالم موثوق أن ذلك حقيقة ، وأنه لم يصدقه حتى رآه بعينه ! واعتبره معجزة وأن الله تعالى يخفي قبور الشهداء من أصحاب علي ( عليه السلام ) ليحفظها من الإهانة والتخريب من أعدائه .
أما اليوم فقد رأينا قبر عمار بن ياسر وأويس القرني ( رضي الله عنه ) ، ولم نلاحظ المعجزة المذكورة . وقد قام الوهابيون بتفجير مسجده ، ولو كان لبني أمية لأبقوه !
- *
المعجزة الأولى : إخباره ( عليه السلام ) عن كربلاء
1 - قال نصر : قال هرثمة بن سليم : غزونا مع علي بن أبي طالب غزوة صفين ، فلما نزلنا بكربلا صلى بنا صلاة ، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ثم قال : واهاً لك أيتها التربة ، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب . فلما رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته وهي جرداء بنت سمير ، وكانت شيعة لعلي ، فقال لها زوجها هرثمة : ألا أعجبك من صديقك أبي الحسن ؟ لما نزلنا كربلا رفع إليه من تربتها فشمها وقال : واهاً لك يا تربة ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير
--------------------------- 264 ---------------------------
حساب ، وما علمه بالغيب ؟ فقالت : دعنا منك أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين لم يقل إلا حقاً . فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن علي وأصحابه ، قال : كنت فيهم في الخيل التي بعث إليهم ، فلما انتهيت إلى القوم وحسين وأصحابه ، عرفت المنزل الذي نزل بنا عليٌّ فيه والبقعة التي رفع إليه من ترابها ، والقول الذي قاله ، فكرهت مسيري فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل ، فقال الحسين : معنا أنت أو علينا ؟ فقلت : يا ابن رسول الله لامعك ولا عليك . تركت أهلي وولدي أخاف عليهم من ابن زياد . فقال الحسين : فول هرباً حتى لا ترى لنا مقتلاً ، فوالذي نفس محمد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلا أدخله الله النار . قال : فأقبلت في الأرض هارباً حتى خفى علي مقتله ) .
ورواه في أمالي الصدوق / 199 ، بتفاوت يسير ، عن جرداء بنت سمين ، عن زوجها هرثمة . راجع أيضاً : كامل الزيارات : 108 / 3 ، وشرح الأخبار : 3 / 141 ، ومناقب محمد بن سليمان : 2 / 26 ، وشرح الأخبار : 3 / 141 ، والبحار : 44 : 255 ، 257 ، 284 .
وقال نصر : قال سعيد بن وهب : ( بعثني مخنف بن سليم إلى علي فأتيته بكربلاء : فوجدته يشير بيده ويقول : ها هنا ، ها هنا ! فقال له رجل : وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : ثقل لآل محمد ينزل هاهنا ، فويل لهم منكم وويل لكم منهم . فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين ؟ قال : ويل لهم منكم : تقتلونهم ، وويل لكم منهم : يدخلكم الله بقتلهم إلى النار .
عن الحسن بن كثير عن أبيه : أن علياً أتى كربلاء فوقف بها فقيل يا أمير المؤمنين هذه كربلاء . قال : ذات كرب وبلاء . ثم أومأ بيده إلى مكان فقال : هاهنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم ، وأومأ بيده إلى موضع آخر فقال : هاهنا مهراق دمائهم !
2 - وقد روت عامة المصادر أنه ( عليه السلام ) مرَّ بكربلاء في ذهابه إلى صفين أو إيابه .
ففي مسند أحمد ( 1 / 85 ) : ( عن عبد الله بن نجي عن أبيه ، إنه سار مع علي كرم الله وجهه وكان صاحب مطهرته ، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى علي : إصبر أبا عبد الله ! إصبر أبا عبد الله بشط الفرات !
قلت : وماذا ؟ قال : دخلت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذات يوم وعيناه تفيضان قلت : يا نبي الله
--------------------------- 265 ---------------------------
أغضبك أحد ، ما شأن عينيك تفيضان ؟ قال : بل قام عندي جبريل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات ! قال فقال : هل لك أن أشمك من تربته ؟ قال قلت : نعم . فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا ) !
وروى ابن أبي شيبة ( 15 / 98 ) : ( عن أبي هرثمة قال : بَعَرت شاة له فقال لجارية له : يا جرداء لقد أذكرني في هذا البعر حديثاً سمعته من أمير المؤمنين وكنت معه كربلاء ، فمر بشجرة تحتها بعر غزلان ، فأخذ منه قبضة فشمها ثم قال : يحشرون من هذا الظهر سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ) . وقال في الزوائد ( 9 / 191 ) : رواه الطبراني ، ورجاله ثقات .
وروى ابن أبي شيبة أيضاً ( 5 / 97 ) : ( عن هانئ بن هانئ ، عن علي كرم الله وجهه قال : ليقتلن الحسين قتلاً ، وإني لأعرف تربة الأرض التي بها يقتل ، يقتل قريباً من النهرين ، وليقتلن الحسين ظلماً ) . ووثقه في الزوائد ( 9 / 190 ) .
ووثق أيضاً ما رواه الطبراني في المعجم الكبير ( 3 / 110 ) : ( عن علي قال : ليقتلن الحسين ، وإني لأعرف التربة التي يقتل فيها ، قريباً من النهرين ) .
3 - وروته مصادرناً مفصلاً ، كما في إرشاد المفيد ( 1 / 332 ) : ( عن جويرية بن مسهرالعبدي قال : لما توجهنا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى صفين فبلغنا طفوف كربلاء وقف ( عليه السلام ) ناحية من العسكر ، ثم نظر يميناً وشمالاً واستعبر ، ثم قال : هذا والله مناخ ركابهم وموضع منيتهم !
فقيل له : يا أمير المؤمنين ما هذا الموضع ؟ قال : هذا كربلاء ، يقتل فيه قوم يدخلون الجنة بغير حساب ! ثم سار . فكان الناس لا يعرفون تأويل ما قال حتى كان من أمر أبي عبد الله الحسين بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأصحابه بالطف ما كان ، فعرف حينئذ من سمع مقاله مصداق الخبر فيما أنبأهم به ( عليه السلام ) ) .
وفي كامل الزيارات / 453 ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال : ( مرَّأمير المؤمنين ( عليه السلام ) بكربلاء في أناس من أصحابه ، فلما مر بها اغرورقت عيناه بالبكاء ، ثم قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملقى رحالهم ، وهنا تهرق دماؤهم ، طوبى لك من تربة ،
--------------------------- 266 ---------------------------
عليك تهرق دماء الأحبة ) . وقرب الإسناد / 26 ، وخصائص الأئمة / 47 .
4 - وروى ابن مردويه الأصفهاني في مناقب علي وما نزل فيه من القرآن / 208 :
( عن ابن عباس ، قال : كنت مع علي بن أبي طالب في خروجه إلى صفين ، فلما نزل بنينوى وهو شط الفرات قال بأعلى صوته : يا ابن عباس أتعرف هذا الموضع ؟ قلت : نعم . قال : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي . قال : فبكى طويلاً حتى اخْضَلَّت لحيته وسالت الدموع على صدره وبكينا معه وهو يقول : أوه أوه ! مالي ولآل أبي سفيان ؟ مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر ! صبراً أبا عبد الله ، فقد لقيَ أبوك مثل الذي تلقى منهم . ثم دعا بماء فتوضأ وضوء الصلاة فصلى ما شاء الله أن يصلي . ثم ذكر نحو كلامه الأول ، إلا أنه نعس عند انقضاء صلاته ساعة ، ثم انتبه فقال : يا ابن عباس ؟ فقلت : ها أنا ذا . قال : ألا أُحدثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي ؟ قلت : نامت عيناك ورأيت خيراً .
قال : رأيت كأني برجال بيض قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض قد تقلدوا سيوفهم وهي بيض تلمع ، وقد خطوا حول هذه الأرض خطة ، ثم رأيت كأن هذه النخيل وقد ضربت بأغصانها الأرض ، وهي تضطرب بدم عبيط ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي وبضعتي قد غرق فيه ، يستغيث فلا يغاث ، وكأن الرجال البيض الذين نزلوا من السماء ينادونه ويقولون : صبراً آل الرسول فإنكم تُقتلون على أيدي شرار الناس ، وهذه الجنة يا أبا عبد الله إليك مشتاقة . ثم يعزونني ويقولون : يا أبا الحسن ، أبشر فقد أقرالله به عينك يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين . ثم انتبهت هكذا !
والذي نفسي بيده ، لقد حدثني الصادق المصدَّق أبو القاسم ( ( عليهما السلام ) ) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا . وهذه أرض كرب وبلاء يدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً كلهم من ولدي وولد فاطمة ( عليها السلام ) ، وإنها لفي السماوات معروفة ، تذكر أرض كرب وبلاء كما تذكر بقعة الحرمين ، وبقعة بيت المقدس . ثم قال : يا بن عباس ، أطلب لي حولنا بعرالظباء ، فوالله ما كَذبت ولا كُذبت ولا كَذَبني قط ، وهي مصفرة ، لونها لون الزعفران . قال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة فناديته : يا أمير المؤمنين قد
--------------------------- 267 ---------------------------
أصبتها على الصفة التي وصفتها . فقال علي : صدق الله وصدق رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ثم قام يهرول إلينا فحملها وشمها ، فقال : هي هي بعينها ، أتعلم يا ابن عباس ما هذه الأباعر ؟ هذه قد شمها عيسى بن مريم وقال : هذا الطيب لمكان حشيشها ، وتكلم بكل ما قدمناه إلى أن قال : اللهم فابقها أبداً حتى يشمها أبوه فتكون له عزاء . قال : فبقيت إلى يوم الناس هذا !
ثم قال علي ( عليه السلام ) : اللهم يا رب عيسى بن مريم لاتبارك في قتلته ، والحامل عليه والمعين عليه والخاذل له . ثم بكى طويلاً فبكينا معه حتى سقط لوجهه مغشياً عليه ، ثم أفاق وأخذ البعر وصره في ردائه ، وأمرني أن أصرها كذلك . ثم قال : إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً فاعلم أن أبا عبد الله قد قُتل بها ودفن . قال ابن عباس : لقد كنت أحفظها ولا أحلها من طرف كمي ، فبينا أنا في البيت نائم وقد خلا عشرالمحرم إذ انتبهت فإذا تسيل دماً فجلست وأنا باكٍ فقلت : قُتل الحسين ، وذلك عند الفجر ، فرأيت المدينة كأنها ضباب ، ثم طلعت الشمس وكأنها منكسفة ، وكأن على الجدران دماً فسمعت صوتاً يقول وأنا باك :
إصبروا آل الرسول * قُتل الفرخ البجول
نزل الروح الأمين * ببكاء وعويل
ثم بكى وبكيت ، ثم حَدثت الذين كانوا مع الحسين فقالوا : لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة . فكنا نرى أنه الخضر ( عليه السلام ) ) .
- *
المعجزة الثانية : ثمانية إمامهم الضب !
سار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من الكوفة يوم الأحد ، وأعلن للناس أن موعدهم في المدائن يوم الجمعة ، فتأخر عنهم الأشعث وأصدقاؤه المترفون ، وقالوا نحن على خيولنا ، نتأخر أياماً ثم نصل في الموعد ! فخرجوا للصيد وشرب الخمر في منتزه الكوفة ، ونزلوا في قصرالخورنق ، وكان اشتراه الأشعث .
روى في الخرائج ( 2 / 747 ) ومناقب آل أبي طالب ( 2 / 97 ) : « بإسناده عن الأصبغ
--------------------------- 268 ---------------------------
قال : أمرنا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالمسيرمن الكوفة إلى المداين ، فسرنا يوم الأحد وتخلف عنا عمرو بن حريث ، والأشعث بن قيس ، وجرير بن عبد الله البجلي ، مع خمسة نفر فخرجوا إلى مكان بالحيرة يقال له الخورنق والسدير وقالوا : إذا كان يوم الجمعة لحقنا علياً قبل أن يُجَمِّعَ الناس فصلينا معه .
فبينا هم جلوس وهم يتغدون إذ خرج عليهم ضب فاصطادوه ، فأخذه عمرو بن حريث فبسط كفه فقال : بايعوا هذا أمير المؤمنين ! فبايعه الثمانية ثم أفلتوه وارتحلوا ، وقالوا : إن علي بن أبي طالب يزعم أنه يعلم الغيب ، فقد خلعناه وبايعنا مكانه ضباً ! فقدموا المداين يوم الجمعة فدخلوا المسجد وأمير المؤمنين يخطب على المنبر فقال : يا أيها الناس ، إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسرَّ فيما أسرَّ إليَّ من العلم حديثاً فيه ألف باب ، وكل باب يفتح منه ألف باب ، وإني سمعت الله يقول : يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ . وإني أقسم بالله قسماً حقاً ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر من عسكري هذا يدعون أنهم أصحابي لحقوا بنا آنفاً ، إمامهم ضبٌّ اصطادوه في طريقهم وبايعوه ، ولو شئت أن أسميهم لفعلت ! فتغيرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ، وكان عمرو بن حريث ينتفض كما تنتفض السعفة ، جبناً وفرقاً » !
ورواه الصفار في بصائر الدرجات / 326 ، في الصحيح وفيه : ( فصادوه فأخذه عمرو بن حريث ، فبسط كفاً فقال : بايعوه هذا أمير المؤمنين ! فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم . فلما دخلوا نظر إليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا أيها الناس إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسر إليَّ ألف حديث في كل حديث ألف باب لكل باب مفتاح ، وإني سمعت الله يقول : يوم ندعو كل أناس بإمامهم ، وإني أقسم لكم بالله ليبعثن ثمانية نفر إمامهم الضب ، ولو شئت أن أسميهم فعلت ! قال : فلو رأيت عمرو بن حريث ينتقض كما تنتقض السعفة ،
حياء وفرقاً ) .
وفي الهداية الكبرى / 134 : ( وخرج القوم إلى الخندق وذهبوا ومعهم سُفرة وبسطوا في الموضع وجلسوا يشربون الخمر ، فمر بهم ضبٌّ فأمروا غلمانهم فصادوه لهم وأتوهم به ، فخلعوا أمير المؤمنين وبايعوا الضب وبسطوا يده ، وقالوا له : أنت والله إمامنا ما
--------------------------- 269 ---------------------------
بيعتنا لك ولعلي بن أبي طالب إلا واحدة ، وإنك لأحب إلينا منه ) ! والنجاشي / 71 ، والوافي للصفدي : 1 / 59 ، والنهاية : 5 / 91 .
( وفي رواية أن الإمام الباقر ( عليه السلام ) وصف عيني أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : فنظر اليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعينيه تينك العظيمتين ) ! ( الخصال : 2 / 240 )
- *
ملاحظات على الحديث
1 . في الدر النظيم / 313 ، أن قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هذا كان يوم جاء الحارث بن النعمان الفهري بعد غدير خم معترضاً فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن ذلك بأمر الله تعالى ، فقال : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . فرماه الله بحجر فقتله ، فقال أحد أصحابه وقد رأى ضباً : والله لولاية هذا الضب علينا أجود من ولاية علي بن أبي طالب ! فقال إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
إنه يأتي يوم القيامة قوم وإمامهم ضب ) !
وقال الصادق ( عليه السلام ) ( المناقب : 2 / 242 ) قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما إن جبرئيل نزل علي وأخبرني أنه يؤتى يوم القيامة بقوم إمامهم ضب ، فانظروا أن لا تكونوا أولئك ، فإن الله تعالى يقول : يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) .
2 . يظهرأن الصيغة المتقدمة لحديث الألف باب من العلم ، من أدقِّ الصيغ فالموضوعات التي علمه إياها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألف حديث ، وفي كل حديث منها ألف باب ، ولكل باب ألف مفتاح ! وكلها أسرارٌ لا يمكن للإنسان العادي أن يستوعبها ! فهذا المستوى من القدرة على الإستيعاب والتحمل ، لا يتحقق إلا في أناس نادرين يصير أحدهم أهلاً لأن يصطفيه الله تعالى ، فيطوِّر قدراته العقلية والنفسية ، ويضع في شخصيته جنبة ملائكية يتلقى بها هذه العلوم ! وعندما يعطيه هذه العلوم يجعل معه ملائكة يحفظونها ليعيش حياته الطبيعية بالعلم الظاهري ، ويستعمل طرفاً من العلم اللدني في وقته المناسب ! وهذا هو معنى
--------------------------- 270 ---------------------------
قوله تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً .
3 . يظهر بذلك مقام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن ما أعطاه ربه عز وجل فوق تصور أذهاننا وإدراك عقولنا ! فقد استطاع أن يلقن تلك العلوم لعلي ( عليه السلام ) في جلسة واحدة ، لم تزد على ساعة أو ساعتين ، فقد روى المسلمون أن هذا الحديث كان في مرض وفاته ( ( عليهما السلام ) )
وأنه دعا علياً وناجاه بمفرده طويلاً ، وكان المسلمون ينتظرونه ! وهذا مقام يشبه مقام جبرئيل ( عليه السلام ) في تلقينه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
4 . يظهر من نصوص الألف باب أن جزءً منها علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب فهي إذن أعظم من ذلك . ويظهر أن هذه المعجزة التي أظهرها في ابن حريث وأصحابه ، إحدى ثمرات الألف باب ، وأن باستطاعته ( عليه السلام ) وهو يخطب على منبرالمدائن أن يوجه نفسه الشريفة لمعرفة حال عمرو بن حريث وحزبه ، الذين وصلوا لتوهم ، فيريه الله تعالى سبب تأخرهم ، ومشهدهم عندما أخذ ابن حريث يد الضب وأعلن خلع علي ( عليه السلام ) وبيعة الضب بدله فبايعوه كلهم سخرية بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبالدين ! ثم يريه الله تعالى إياهم في المحشر ، يوم يدعون وإمامهم الضب الذي بايعوه !
5 . يظهر أن تأثير هذه المعجزة كان بليغاً في إفحام المنافقين وخشوع المؤمنين !
ولكن المنافقين كانوا مع ذلك يتمادون في عنادهم ! وهذه سنة الله تعالى ، فقد واجهت قريش معجزات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالقول إنها سحر ، وإن بني عبد المطلب سَحَرَة ! وكذلك واجه أبناؤهم وأتباعهم كالأشعث وابن حريث عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فكان الأشعث بن قيس يقول لمعاوية إن علياً ساحر كذاب ! وقد ذكرنا في ترجمته أنه في احتضاره جاءه عنق النار وأحرقه !
- *
--------------------------- 271 ---------------------------
المعجزة الثالثة : كلمته جمجمة كسرى
قال نصر : ثم مضى نحو ساباط حتى انتهى إلى مدينة بَهْرَ سِير ( أكبر مدن المدائن ) وإذا رجل من أصحابه يقال له حر بن سهم بن طريف من بني ربيعة بن مالك ، ينظر إلى آثار كسرى ، وهو يتمثل قول ابن يعفر التميمي :
جرت الرياح على مكان ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد
فقال علي ( عليه السلام ) : أفلا قلت : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ . إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين ، إن هؤلاء لم يشكروا النعمة فسلبوا دنياهم بالمعصية . إياكم وكفر النعم لا تحل بكم النقم . ثم قال : إنزلوا بهذه النجوة .
وروى عن حبة العرني قال : أمر علي بن أبي طالب الحارث الأعور فصاح في أهل المدائن : من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين صلاة العصر . فوافوه في تلك الساعة فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإني قد تعجبت من تخلفكم عن دعوتكم ، وانقطاعكم عن أهل مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها ، والهالك أكثر سكانها لا معروفاً تأمرون به ، ولا منكراً تنهون عنه . قالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا كنا ننتظر أمرك ورأيك ، مرنا بما أحببت .
فسار وخلف عليهم عدي بن حاتم ، فأقام عليهم ثلاثاً ثم خرج في ثمان مائة ، وخلف ابنه يزيد فلحقه في أربع مائة رجل منهم ، ثم لحق علياً ( عليه السلام ) .
وجاء عليٌّ حتى مر بالأنبار فاستقبله بنو خُشْنَوِشْك دهاقنتها . قال سليمان : خش : طيب . نوشك : راض . يعني بني الطيب الراضي ، بالفارسية . فلما استقبلوه نزلوا ثم جاؤوا يشتدون معه قال : ما هذه الدواب التي معكم ؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم ؟ قالوا : أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء . وأما هذه البراذين فهدية لك . وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاماً ، وهيأنا لدوابكم علفاً كثيراً . قال : أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الأمراء فوالله
--------------------------- 272 ---------------------------
ما ينفع هذا الأمراء ، وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم ، فلا تعودوا له .
وأما دوابكم هذه فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم . وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فإنا نكره أن نأكل من أموالكم شيئاً إلا بثمن . قالوا : يا أمير المؤمنين ، نحن نقومه ثم نقبل ثمنه . قال : إذا لا تقومونه قيمته ، نحن نكتفي بما دونه . قالوا : يا أمير المؤمنين فإن لنا من العرب موالي ومعارف فتمنعنا أن نهدي لهم وتمنعهم أن يقبلوا منا ؟ قال : كل العرب لكم موال ، وليس ينبغي لأحد من المسلمين أن يقبل هديتكم . وإن غصبكم أحد فأعلمونا . قالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا نحب أن تقبل هديتنا وكرامتنا . قال لهم : ويحكم ، نحن أغنى منكم . فتركهم ثم سار .
أقول : لم يذكر نصر بن مزاحم قصة جمجمة كسرى ، وقد ذكرنا أن جماعة ألَّهوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأنهم رأوا بعض معجزاته ( عليه السلام ) فضاقت عقولهم عن تفسيرها فزعموا أنه إله ! وكان أول ظهورهم الزط في البصرة ، ثم بعض الفرس في ساباط المدائن ، ثم جماعة عبد الله بن سبأ .
روى الحسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات / 10 : ( عن عمار الساباطي قال : قدم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المدائن فنزل بإيوان كسرى وكان معه دلف ابن منجم كسرى ، فلما ظل الزوال فقال لدلف : قم معي ، وكان معه جماعة من أهل ساباط ، فما زال يطوف في مساكن كسرى ويقول لدلف : كان لكسرى هذا المكان لكذا وكذا ، فيقول : هو والله كذلك . فما زال على ذلك حتى طاف المواضع بجميع من كانوا معه ، ودلف يقول يا مولاي كأنك وضعت الأشياء في هذه الأمكنة ! ثم نظر ( عليه السلام ) إلى جمجمة نخرة فقال لبعض أصحابه : خذ هذه الجمجمة وكانت مطروحة ، وجاء ( عليه السلام ) إلى الإيوان وجلس فيه ودعا بطست وصب فيه ماء ، وقال له : دع هذه الجمجمة في الطست ، ثم قال ( عليه السلام ) : أقسمت عليك يا جمجمة أخبريني من أنا ومن أنت ؟ فنطقت الجمجمة بلسان فصيح فقالت : أما أنت فأمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام المتقين في الظاهر والباطن ، وأعظم من أن توصف . وأما أنا فعبد الله وابن أمة الله كسرى أنوشيروان ! فانصرف القوم الذين كانوا معه من أهل ساباط إلى أهاليهم وأخبروهم بما كان ، وبما سمعوه
--------------------------- 273 ---------------------------
من الجمجمة ، فاضطربوا واختلفوا في معنى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وحضروه وقال بعضهم : قد أفسد هؤلاء قلوبنا بما أخبروا عنك ! وقال بعضهم فيه ( عليه السلام ) مثلما قال النصارى في المسيح ، ومثل ما قال عبد الله بن سبأ وأصحابه ! فأحضرهم وقال : ما حملكم على ما قلتم ؟ قالوا : سمعنا كلام الجمجمة النخرة ، ومخاطبتها إياك ، ولا يجوز ذلك إلا لله تعالى فمن ذلك قلنا ما قلنا ! فقال ( عليه السلام ) إرجعوا عن كلامكم وتوبوا إلى الله ، فقالوا : ما كنا نرجع عن قولنا فاصنع ما أنت صانع ! فأمر ( عليه السلام ) أن تضرم لهم النار فحرقهم ، فلما احترقوا قال إسحقوهم وذرُّوهم في الريح فسحقوهم وذروهم في الريح ، فلما كان اليوم الثالث من إحراقهم دخل إليه أهل الساباط وقالوا : الله الله في دين محمد ! إن الذين أحرقتهم بالنار قد رجعوا إلى منازلهم بأحسن ما كانوا ! فقال ( عليه السلام ) : أليس قد أحرقتموهم بالنار وسحقتموهم وذريتموهم في الريح قالوا : بلى . قال : أحرقتهم والله أحياهم فانصرف أهل الساباط متحيرين ) !
ورواه شاذان بن جبرئيل في الفضائل / 70 ، وفيه : ( فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : كيف حالك ؟ فقال يا أمير المؤمنين إني كنت ملكاً عادلاً شفيقاً على الرعايا رحيماً لا أرضي بظلم ، ولكن كنت على دين المجوس وقد ولد محمد ( ( عليهما السلام ) ) في زمان ملكي فسقط من شرفات قصري ثلاث وعشرون شرفة ليلة ولد ، فهممت أن أؤمن به من كثرة ما سمعت من الزيادة من أنواع شرفه وفضله ومرتبته وعزه في السماوات والأرض ، ومن شرف أهل بيته ، ولكني تغافلت عن ذلك وتشاغلت عنه في الملك ، فيالها من نعمة ومنزلة ذهبت مني حيث لم أؤمن به ، فأنا محروم من الجنة لعدم إيماني به ، ولكني مع هذا الكفر خلصني الله تعالى من عذاب النار ببركة عدلي وإنصافي بين الرعية ، فأنا في النار والنار محرمة علي ، فواحسرتاه لو آمنت به ، لكنت معك يا سيد أهل بيت محمد ويا أمير المؤمنين ! قال : فبكى الناس وانصرف القوم الذين كانوا معه من أهل ساباط إلى أهلهم ، وأخبروهم بما كان وبما جرى من الجمجمة ، فاضطربوا واختلفوا في معنى أمير المؤمنين ( عليه السلام )
--------------------------- 274 ---------------------------
فقال المخلصون منهم إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عبد الله ووليه ووصي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ،
وقال بعضهم : بل هو النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وقال بعضهم : بل هو الرب ، وهم مثل عبد الله بن سبأ وأصحابه ، وقالوا : لولا أنه الرب وإلا كيف يحيي الموتى !
قال : فسمع بذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فضاق صدره وأحضرهم وقال : يا قوم غلب عليكم الشيطان ، إن أنا إلا عبد الله أنعم علي بإمامته وولايته ووصيته رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، فارجعوا عن الكفر فأنا عبد الله وابن عبده ، ومحمد خير مني وهو أيضاً عبد الله ،
وإن نحن إلا بشر مثلكم .
فخرج بعضهم من الكفر ، وبقس قوم على الكفر فألح عليهم أمير المؤمنين بالرجوع فما رجعوا ، فأحرقهم بالنار وتفرق منهم قوم في البلاد وقالوا : لولا أن فيه من الربوبية وإلا فما كان أحرقنا بالنار ! فنعوذ بالله من الخذلان ) .
أقول : يدلك وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لكسرى وقصره وإيوانه ، على علمه الرباني ( عليه السلام )
بما كان عليه كسرى ، والذي هو أعظم القياصرة والأكاسرة على الإطلاق . وكانت عاصمته مدينة بهرسير في المدائن وقصره وإيوانه فيها مضرب المثل ، ولا يزال أثر إيوانه إلى اليوم ، وقد رأيته وارتفاع سقفه اثنان وخمسون متراً وطوله ستون متراً ، وتبعد المدائن عن بغداد نحو ستين كيلو متراً !
ومن الواضح أن فقرة مدح كسرى وأنه آمن بالإسلام ، ووصف نجاته لعدله ، من إضافات راوي الحديث . وكذلك قول الراوي إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أحرق الذين ألهوه بالنار ، فقد ذكرنا في الفصل الستين ، أنه دخن عليهم فتاب بعضهم فأطلقهم ، وأخرج من لم يتوبوا ، وقتلهم .
كما كلمته جمجمة الجلندي في بابل
روى ابن حمزة في الثاقب / 227 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( لما صلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صلاة الظهر بأرض بابل ، التفت إلى جمجمة ملقاة وكلمها وقال : أيتها الجمجمة مَن أنت ؟ فقالت : أنا فلان بن فلان ملك بلد فلان . قال علي :
أنا أمير المؤمنين ، فقُصَّ عليَّ الخبر وما كنت ، وما كان في عمرك فأقبلت الجمجمة
--------------------------- 275 ---------------------------
وقصت خبرها ، وما كان في عصرها من خير وشر .
قال مصنف هذا الكتاب : إن مسجد الجمجمة معروف بأرض بابل ، وقد بنيَ مسجدٌ على الموضع الذي كلمته جمجمة فيه ، وهو إلى اليوم باق معروف ، يزوره أكثر من يمر به من الحجاج وغيرهم ) .
وقال الشاعر ابن مكي ( نهج الإيمان لابن جبر / 646 ) :
رددتَ الكف جهراً بعد قطع * كرد العين من بعد الذهاب
وجمجمة الجلندي وهي عظم * رميمٌ جاوبتك عن الخطاب
وقال القمي في منتهى الآمال ( ترجمة الميلاني : 1 / 181 ) : ( عُمِّر مسجد رد الشمس وبني بناء جيداً بيد المخلصين لأهل البيت بقربه من الحلة ، بخلاف مسجد الجمجمة الذي ترك لعدم المرور عليه فهجر ومحي اسمه ، مع أن جمعاً من علمائنا كابن شهرآشوب والقطب الراوندي وابن حمزة الطوسي وغيرهم ذكروا هذا المسجد في ذكر معاجز أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وقد ذهب شيخنا العلامة النوري طاب ثراه إلى الحلة في أواخر عمره لاستكشاف أمر هذا المسجد ، فذهب إلى قرية الجمجمة بقرب الحلة والتي فيها قبر عمران بن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فوجد ذلك المسجد بمشقة في بستان بآخر القرية من جانبها الشرقي ، ونقل كهول القرية عن كهولها أنهم أدركوا قبة ذلك المسجد ، ومن المسلمات عندهم أن كل من يأخذ من أحجار قواعد هذا المسجد لبناء بيته أو بئره ، فإنه لا بد من خرابهما ، فلذا لم يجرؤ أحد على أخذ شيء منه ، وبعدما رفعوا التراب وجدوا أساس المسجد لكن لم يتصد أحد لتعميره لحد الآن ، نرجو من المتمكنين الحريصين على ترويج الدين وتشييد مبانيه ، أن يتحركوا وتثور الحمية في عروقهم فيعمروا هذا البيت الخرب ، ويشيدوا مصلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ويحيوا معجزة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كي تفتخر الشيعة
وتقر عيونها ) .
- *
--------------------------- 276 ---------------------------
وكلمته جمجمة أخرى في النهروان
في نوادر المعجزات للطبري الشيعي / 23 : ( عن حبة العرني قال : كنت مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد أراد حرب معاوية ، فنظرنا إلى جمجمة في جانب الفرات قد أتت عليها الأزمنة ، فوقف عليها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ودعاها ، فأجابته بالتلبية وتدحرجت بين يديه ، وتكلمت بلسان فصيح ثم أمرها بالرجوع فرجعت إلى مكانها كما كانت . وفى رواية أخرى : أنه ( عليه السلام ) وقف على جمجمة نخرة في النهروان فقال لها : من أنت ؟ فقالت : أنا فلان بن فلان .
وقال في مدينة المعاجز ( 1 / 228 ) : ( الشيخ البرسي : قال : روى أبورواحة الأنصاري عن المغربي قال : لما فرغ يعني أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من حرب النهروان أبصرنا جمجمة نخرة بالية فقال : هاتوها ، فحركها بسوطه وقال : أخبريني من أنت فقيرة أم غنية ، شقية أم سعيدة ، ملك أم رعية ؟
فقالت بلسان فصيح : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، أنا كنت ظالماً ، فأنا برويز بن هرمز ملك الملوك ، ملكت مشارقها ومغاربها ، وسهلها وجبلها ، وبرها وبحرها ،
أنا الذي أخذت ألف مدينة في الدنيا ، وقتلت ألف ملك من ملوكها . يا أمير المؤمنين أنا الذي بنيت خمسين مدينة ، وفضضت خمس مائة جارية بكر ، واشتريت ألف عبد تركي وألف أرمني وألف رومي وألف زنجي ، وتزوجت بسبعين من بنات الملوك ، وما ملك في الأرض إلا غلبته وظلمت أهله ، فلما جاءني ملك الموت قال لي : ياظالم ، يا طاغي ، خالفت الحق ، فتزلزلت أعضائي وارتعدت فرائصي ، وعرض علي أهل حبسي فإذا هم سبعون ألف من أولاد الملوك قد شقوا من حبسي ، فلما رفع ملك الموت روحي سكن أهل الأرض من ظلمي ، فأنا معذب في النار أبد الآبدين ، فوكل الله بي سبعين ألف ألف من الزبانية في يد كل واحد منهم مرزبة من نارلو ضربت على جبال أهل الأرض لأحرقت الجبال فتدكدكت وكلما ضربني الملك بواحدة من تلك المرازب اشتعلت بي النار وأحترق ، فيحييني الله تعالى ، ويعذبني بظلمي على عباده أبد الآبدين ، وكذلك وكل الله تعالى بعدد كل شعرة في بدني حيةً تلسعني ، وعقرباً تلدغني وكل
--------------------------- 277 ---------------------------
ذلك أحس به كالحي في دنياه فتقول لي الحيات والعقارب : هذا جزاء ظلمك على عباده ، ثم سكتت الجمجمة ، فبكى جميع عسكر أمير المؤمنين وضربوا على رؤوسهم ، وقالوا : يا أمير المؤمنين جهلنا حقك بعد ما أعلمنا رسول الله ، وإنما خسرنا حقنا ونصيبنا فيك ، وإلا أنت ما ينقص منك شئ ، فاجعلنا في حل مما فرطنا فيك ورضينا بغيرك على مقامك وشرفك فإنا نادمون .
فأمر بتغطية الجمجمة ، فعند ذلك وقف ماء النهر من الجري ، وصعد على وجه الماء كل سمك وحيوان كان في النهر ، فتكلم كل واحد منهم مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ودعا له وشهد بإمامته . وفي ذلك يقول بعضهم :
سلامي على زمزم والصفا * سلامي على سدرة المنتهى
لقد كلمتك لدى النهروان * نهاراً جماجم أهل الثرى
وقد بدرت لك حيتانها * تناديك مذعنة بالولا ) .
وفي علل الشرائع ( 2 / 351 ) : ( العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صلاة العصر في حياة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى فاتته ، والعلة التي من أجلها تركها بعد وفاته حتى ردت عليه الشمس ، مرتين :
( عن حنان قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ما العلة في ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صلاة العصر وهو يجب له أن يجمع بين الظهر والعصر فأخرها ؟ قال : إنه لما صلى الظهر التفت إلى جمجمة ملقاة فكلمها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال أيتها الجمجمة من أين أنت ؟ فقالت : أنا فلان ابن فلان ملك بلاد آل فلان .
قال لها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقصي على الخبر وما كنت وما كان عصرك ؟ فأقبلت الجمجمة تقص من خبرها وما كان في عصرها من خير وشر ، فاشتغل بها حتى غابت الشمس ، فكلمها بثلاثة أحرف من الإنجيل لئلا يفقه العرب كلامه ، فلما فرغ من حكاية الجمجمة قال للشمس : إرجعي قالت : لا أرجع وقد أَفِلْت ! فدعا الله عز وجل فبعث إليها سبعين ألف ملك بسبعين ألف سلسلة حديد ، فجعلوها في رقبتها وسحبوها على وجهها ، حتى عادت بيضاء نقية ، حتى صلى
--------------------------- 278 ---------------------------
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم هوت كهويِّ الكوكب ، فهذه العلة في تأخير العصر ) .
أقول : ثبت رد الشمس لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبعده ، كما ثبت أن الجمجمة كلمته ( عليه السلام ) . لكن فقرات مدح كسرى من إضافة الراوي .
وهذه الرواية لا تصح عندنا لضعف سندها وضعف متنها ، وقد أخذ الراوي جر الشمس بسلاسل ، من رواية العامة التي تقول إن الملائكة يجرونها ويجلدونها إن لم تطع ( مسند أحمد : 1 / 256 ) !
ورواه في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 161 ) عن معرفة الفضائل وعلل الشرائع ، عن حنان بن سدير ، وقال : وقالت الغلاة : نادى علي الجمجمة ثم قال : يا جلندي بن كراكرأين الشريعة ؟ فقال ههنا . فبنى هناك مسجداً وسمي مسجد الجمجمة . وجلندي ملك الحبشة صاحب الفيل . قال شاعرهم :
من كلم الأموات في يوم * الفرات من القبور
إذ قال هل في مائكم * عبر لملتمس العبور
قالوا له أنت العليم * بكنه تصرف الأمور
فعلام تسال أعظماً * رمماً على مر الدهور
أنت الذي أنوار قدسك * قد تمكن في الصدور
أنت الذي نصب النبي * لقومه يوم الغدير
أنت الصراط المستقيم * وأنت نور فوق نور ) .
أقول : الصحيح أن تكليم الجمجمة له ( عليه السلام ) ثابت ، وكذلك رد الشمس له ( عليه السلام )
في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبعده . ولعل الرواة والغلاة أضافوا له إضافات .
- *
المعجزة الرابعة : كشف عين راحوما بين حديثة وهيت
تقع صندوداء بين حديثة وهيت ، وفيها مشهد لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وأما عين راحوما التي كشفها وسقى منها جيشه ، فتقع بعد صندوداء قبل هيت باتجاه صفين ، وقربها دير راهب من ذرية شمعون الصفا ( عليه السلام ) .
--------------------------- 279 ---------------------------
قال ابن الأعثم في الفتوح ( 2 / 553 ) : ( وأقام علي بالأنبار يومين ، فلما كان في اليوم الثالث سار بالناس في برية ملساء وعطش الناس واحتاجوا إلى الماء ، قال : وإذا براهب في صومعته ، فدنا منه علي وصاح به فأشرف عليه ، فقال له علي : هل تعلم بالقرب منك ماء نشرب منه ؟ فقال : ما أعلم ذلك ، وإن الماء ليحمل إلينا من قريب من فرسخين . قال : فتركه علي وأقبل إلى موضع من الأرض فطاف به ، ثم أشار إلى مكان منه فقال : إحفروا هاهنا ، فحفروا قليلاً وإذا هم بصخرة صفراء كأنما طليت بالذهب ، وإذا هي على سبيل الرحى لاينتقلها إلا مائة رجل ، فقال علي : إقلبوها فالماء من تحتها ، فاجتمع الناس عليها فلم يقدروا على قلبها ، قال : فنزل علي عن فرسه ، ثم دنا من الصخرة وحرك شفتيه بشئ لم يسمع ، ثم دنا من الصخرة وقال : باسم الله ثم حركها ورفعها فدحاها ناحية ، قال : فإذا بعين من الماء لم تَر الناس أعذب منها ولا أصفى ولا أبرد ، فنادى في الناس أن هلموا إلى الماء قال : فورد الناس فنزلوا وشربوا وسقوا ما معهم من الظهر ، وملؤوا أسقيتهم ، وحملوا من الماء ما أرادوا ، ثم حمل على الصخرة وهو يحرك شفتيه بمثل كلامه الأول حتى رد الصخرة إلى موضعها .
ثم سار حتى نزل في الماء الذي أرادوا وإذا ماؤه متغير ، فقال علي لأصحابه : أفيكم من يعرف مكان الماء الذي كنتم عليه ؟ فقالوا : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : فانطلقوا إليه فطلبوا مكان الصخرة فلم يقدروا عليه ، فانطلقوا إلى الراهب فصاحوا به : يا راهب ! فأشرف عليهم فقالوا : أين هذا الماء الذي هو بالقرب من ديرك ؟ فقال الراهب : إنه ما بقربي شئ من الماء ، فقالوا : بلى ! قد شربنا منه نحن وصاحبنا ، وهو الذي استخرج لنا الماء وقد شربنا منه . فقال الراهب : والله ما بني هذا الدير إلا بذلك الماء ، وإن لي في هذه الصومعة منذ كذا سنة ما علمت بمكان هذا الماء ، وإنها عين يقال لها عين راحوما ، مااستخرجها إلا نبي أو وصي نبي ، ولقد شرب منها سبعون نبياً وسبعون وصياً ! قال : فرجعوا إلى علي فأخبروه بذلك ، فسكت ولم يقل شيئاً ! ثم سار من منزله ذلك حتى نزل بمدينة هيت ، ورحل منها حتى
--------------------------- 280 ---------------------------
نزل بموضع يقال له الأقطار فبنى هنالك مسجداً والمسجد ثابت إلى يومنا هذا .
ثم إنه عبر الفرات وشق البلاد حتى خرج إلى بلاد الجزيرة ، ثم سار يريد الرقة حتى نزل بموضع يقال له البليخ ، فنزل على شاطئ نهر البليخ ) .
وقد رواها نصر باختصار ، قال : ( عطش الناس واحتاجوا إلى الماء ، فانطلق بنا علي حتى أتى بنا على صخرة ضرس من الأرض ، كأنها ربضة عنز ، فأمرنا فاقتلعناها فخرج لنا ماء ، فشرب الناس منه وارتووا . قال : ثم أمرنا فأكفأناها عليه . قال : وسار الناس حتى إذا مضينا قليلاً قال علي ( عليه السلام ) : منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه ؟ قالوا : نعم يا أمير المؤمنين . قال : فانطلقوا إليه . قال : فانطلق منا رجال ركباناً ومشاة ، فاقتصصنا الطريق إليه حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنه فيه فطلبناها فلم نقدر على شئ ، حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى ديرقريب منا فسألناهم : أين الماء الذي هو عندكم ؟ قالوا : ما قربنا ماء . قالوا : بلى ، إنا شربنا منه . قالوا : أنتم شربتم منه ؟ قلنا : نعم : قال صاحب الدير : ما بنى هذا الدير إلا بذلك الماء ، وما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي ) !
ورواها الصدوق ( قدس سره ) في أماليه / 250 ، بسند صحيح ، قال : ( حدثنا محمد بن علي
ماجيلويه ( رحمه الله ) قال : حدثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، قال : حدثني أبو الصلت عبد السلام بن صالح ، قال : حدثني محمد بن يوسف الفريابي ، عن سفيان ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن حبيب بن الجهم ، قال : لما رحل بنا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى بلاد صفين ، نزل بقرية يقال لها صندوداء ، ثم أمرنا فعبرنا عنها ثم عرَّسَ بنا في أرض بلقع ، فقام إليه مالك بن الحارث الأشتر فقال : يا أمير المؤمنين ، أتنزل الناس على غير ماء ! فقال : يا مالك إن الله عز وجل سيسقينا في هذا المكان ماء أعذب من الشهد ، وألين من الزبد الزلال ، وأبرد من الثلج ، وأصفى من الياقوت ! فتعجبنا ولاعجب من قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ثم أقبل يجر رداءه وبيده سيفه حتى وقف على أرض بلقع فقال : يا مالك ، إحتفر أنت وأصحابك ، فقال مالك : إحتفرنا فإذا نحن بصخرة سوداء عظيمة فيها حلقة تبرق كاللجين ، فقال لنا : روموها ، فرمناها بأجمعنا ونحن مائة رجل فلم نستطع أن نزيلها عن موضعها ،
--------------------------- 281 ---------------------------
فدنا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رافعاً يده إلى السماء يدعو وهو يقول : طاب طاب مريا عالم طيبوا ثابوثه شمثيا كوبا حاحانو ثاتو ديثابر حوثا ، آمين آمين رب العالمين ،
رب موسى وهارون . ثم اجتذبها فرماها عن العين أربعين ذراعاً !
قال مالك بن الحارث الأشتر : فظهر لنا ماء أعذب من الشهد ، وأبرد من الثلج ، وأصفى من الياقوت ، فشربنا وسقينا ، ثم رد الصخرة وأمرنا أن نحثو عليها التراب ثم ارتحل ، فما سرنا إلا غير بعيد ، قال : من منكم يعرف موضع العين ؟ فقلنا : كلنا يا أمير المؤمنين ، فرجعنا فطلبنا العين فخفي مكانها علينا أشد خفاء ، فظننا أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد رهقه العطش فأومأنا بأطرافنا ، فإذا نحن بصومعة راهب فدنونا منها ، فإذا نحن براهب قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقلنا : يا راهب ، عندك ماء نسقي منه صاحبنا . قال : عندي ماء قد استعذبته منذ يومين ، فأنزل إلينا ماء مُرّاً خشناً فقلنا : هذا قد استعذبته منذ يومين ! فكيف لو شربت من الماء الذي سقانا منه صاحبنا ؟ وحدثناه بالأمرفقال : صاحبكم هذا نبي ؟ قلنا : لا ، ولكنه وصي نبي . فنزل إلينا بعد وحشته منا وقال : إنطلقوا بي إلى صاحبكم فانطلقنا به فلما بصر به أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قال : شمعون ! قال الراهب : نعم شمعون ، هذا اسم سمتني به أمي ، ما اطلع عليه أحد إلا الله تبارك وتعالى ثم أنت فكيف عرفته ، فأتمَّ حتى أتمه لك ؟ قال : وما تشاء يا شمعون ؟ قال : هذه العين واسمها ؟ قال : هذه عين راحوما وهي من الجنة ، شرب منها ثلاث مائة وثلاثة عشر وصياً ، وأنا آخر الوصيين شربت منه .
قال الراهب : هكذا وجدت في جميع كتب الإنجيل ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأنك وصي محمد ( ( عليهما السلام ) ) ! ثم رحل أمير المؤمنين والراهب يقدمه ، حتى نزل صفين ، ونزل معه بعابدين ، والتقى الصفان ، فكان أول من أصابته الشهادة الراهب ، فنزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعيناه تهملان ، وهو يقول : المرء مع من أحب ، الراهب معنا يوم القيامة ، ورفيقي في الجنة ) ! وفي رواية مختصر البصائر / 119 : ( ثم قال علي ( عليه السلام ) : والله لو أن رجلاً منا قام على جسرثم عُرضت
--------------------------- 282 ---------------------------
عليه هذه الأمة لحدثهم بأسمائهم وأنسابهم ) . ورواه ابن حمزة في الثاقب / 258 . ورواه النيسابوري في روضة الواعظين / 114 ، بنحوه ، والراوندي في الخرائج ( 2 / 864 ) بنحوه ، وفيه : ( فلم نستطع أن نزيلها ، فقال علي ( عليه السلام ) : اللهم إني أسألك أن تمدني بحسن المعونة ، وتكلم بكلام حسبناه سريانياً ، ثم أخذها فرمى بها ) .
واستفاضت رواية عين راحوما فقال ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 122 ) : ( أهل السير عن حبيب بن الجهم ، وأبي سعيد التميمي ، والنطنزي في الخصايص ، والأعثم في الفتوح ، والطبري في كتاب الولاية ، بإسناد له عن محمد بن القاسم الهمداني ، وأبوعبد الله البرقي ، عن شيوخه عن جماعة من أصحاب علي أنه نزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالعسكرعند وقعة صفين عند قرية صندودياء فقال مالك الأشتر : ينزل الناس على غيرماء ؟ الحديث . . بنحوه . وقال : ( وفي رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثنا أبو محمد الشيباني ، حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي سعيد التميمي قال : فسرنا فعطشنا فقال بعض القوم : لو رجعنا فشربنا ، قال فرجع أناس وكنت فيمن رجع قال : فالتمسنا فلم نقدر على شئ ) .
ورواه الطبرسي في إعلام الورى ( 1 / 346 ) بتفاوت يسير ، وقال : ( والخبر بذلك مشهور بين الخاص والعام . . لحق أصحابه عطش ، فأخذوا يميناً وشمالاً يطلبون الماء فلم يجدوه ، فعدل بهم أمير المؤمنين عن الجادة وسار قليلاً ، فلاح لهم دير فسار بهم نحوه وأمر من نادى ساكنه بالاطلاع إليهم ، فنادوه فاطلع فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هل قرب قائمك ماء ؟ فقال : هيهات ، بينكم وبين الماء فرسخان ، وما بالقرب مني شئ من الماء ! فلوى عنق بغلته نحو القبلة وأشار بهم إلى مكان يقرب من الديرفقال : اكشفوا الأرض في هذا المكان ، فكشفوه بالمساحي فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، هاهنا صخرة لا تعمل فيها المساحي ، فقال ( عليه السلام ) : إن هذه الصخرة على الماء ، فاجتهدوا في قلعها ، فاجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً واستصعبت عليهم ، فلوى ( عليه السلام ) رجله عن سرجه حتى صار إلى الأرض ، وحسر ذراعيه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحركها ، ثم قلعها بيده ودحا بها أذرعاً
--------------------------- 283 ---------------------------
كثيرة ، فلما زالت عن مكانها ظَهَرَ لهم بياض الماء ، فتبادروا إليه فشربوا منه ، فكان أعذب ماء وأبرده وأصفاه ، فقال لهم : تزودوا وارتووا ففعلوا ذلك .
ثم جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت ، وأمر أن يعفى أثرها بالتراب ، والراهب ينظر من فوق ديره ، فلما علم ما جرى نادى : يا معشر الناس أنزلوني أنزلوني ، فأنزلوه فوقف بين يدي أمير المؤمنين فقال له : أنت نبي مرسل ؟ قال : لا ، قال : فملك مقرب ؟ قال : لا ، قال : فمن أنت ؟ قال : أنا وصي رسول الله محمد بن عبد الله ( ( عليهما السلام ) ) خاتم النبيين . قال : أبسط يدك أسلم لله على يدك ، فبسط ( عليه السلام ) يده وقال له : إشهد الشهادتين فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، وأشهد أنك وصي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأحق الناس بالأمر من بعده .
وقال : يا أمير المؤمنين إن هذا الدير بني على طلب قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها ، وقد مضى عالم كثير قبلي ولم يدركوا ذلك ، وقد رزقنيه الله عز وجل ، إنا نجد في كتاب من كتبنا مآثر عن علمائنا أن في هذا الصقع عيناً عليها صخرة ، لا يعرف مكانها إلا نبي أو وصي نبي ، وإنه لا بد من ولي لله يدعو إلى الحق ، آيته معرفة مكان هذه الصخرة وقدرته على قلعها ، وإني لما رأيتك قد بلغت ذلك تحققت ما كنا ننتظره وبلغت الأمنية منه ، فأنا اليوم مسلمٌ على يدك ومؤمنٌ بحقك ، ومولاك ! فلما سمع بذلك أمير المؤمنين بكى حتى اخضلت لحيته من الدموع وقال :
الحمد لله الذي كنت في كتبه مذكوراً ، الحمد لله الذي لم أك عنده منسياً . ثم دعا الناس وقال : إسمعوا ما يقوله أخوكم المسلم ، فسمع الناس مقالته وشكروا الله على ذلك ، وساروا والراهب بين يديه حتى لقي أهل الشام ، فكان الراهب في جملة من استشهد معه ، فتولى الصلاة عليه ودفنه ، وأكثر من الاستغفار له ، وكان إذا ذكره يقول : ذاك مولاي ) .
أقول : يظهر لك بهذا أن هذه الرواية هي المشهورة بين السنة والشيعة ، لأن السيد الحميري ( رحمه الله ) ، أخذ بعض ألفاظها في قصيدته ، وأرخ لهذه المعجزة .
قال الشريف الرضي ( رحمه الله ) في : خصائص الأئمة / 50 : ( روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام )
--------------------------- 284 ---------------------------
لما أقبل من صفين ، مرَّ في زهاء سبعين رجلاً [ سبع مئة ] بأرض ليس فيها ماء ، فقالوا له : يا أمير المؤمنين ليس هاهنا ماء ونحن نخاف العطش ، قالوا : فمررنا براهب في ذلك الموضع فسألناه هل بقربك ماء ؟ فقال : ما من ماء دون الفرات ، فقلنا يا أمير المؤمنين العطش وليس قربنا ماء ، فقال : إن الله تعالى سيسقيكم ، فقام يمشي حتى وقف في مكان ودعا بمساح ، وأمر بذلك المكان فكنس فأجلى عن صخرة ، فلما انجلى عنها قال ( عليه السلام ) : إقلبوها فرُمْنَاها بكل مَرام فلم نستطعها ، فلما أعيتنا دنا منها فأخذ بجانبها فدحا بها فكأنها كُرَة ، فرمى بها فانجلت عن ماء لم ير أشد بياضاً ولا أصفى ولا أعذب منه ، فتنادى الناس الماء ، فاغترفوا وسقوا وشربوا وحملوا ، ثم أخذ ( عليه السلام ) الصخرة فردها مكانها . ثم تحمل الناس فسار غير بعيد ، فقال : أيكم يعرف مكان هذه العين ؟ فقالوا : كلنا يعرف مكانها ، قال : فانطلقوا حتى تنظروا ، فانطلق من شاء الله منا فدرنا حتى أعيينا فلم نقدر على شئ ، فأتينا الراهب فقلنا له : ويحك ألست زعمت أنه ليس قبلك ماء ، ولقد استثرنا هاهنا ماءً ، فشربنا واحتملنا ! قال : فوالله ما استثارها إلا نبي أو وصي نبي ! قلنا : فإن فينا وصي نبينا ( ( عليهما السلام ) ) !
قال : فانطلقوا إليه فقولوا له : ماذا قال له النبي حين حضره الموت ؟ قال : فأتيناه فقلنا له إن هذا الراهب قال : كذا ، وكذا ، قال : فقولوا له إن خبرناك لتنزلن ولتسلمن ، فقلنا له فقال : نعم ، فأتينا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقلنا قد حلف ليسلمن ، قال : فانطلقوا فأخبروه أن آخر ما قال النبي : الصلاة الصلاة ، إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان واضعاً رأسه في حجري فلم يزل يقول : الصلاة الصلاة ، حتى قبض . قال : فقلنا له ذلك ، فأسلم .
وفي ذلك يقول السيد الحميري من قصيدته البائية المعروفة بالمذهبة :
ولقد سرى فيما يسير بليلةٍ * بعد العشاء مغامراً في موكبِ
حتى أتى متبتلاً في قائمٍ * ألقى قواعدَه بقاعٍ مُجدبِ
فدنا فصاحَ به فأشرف ماثلاً * كالنسر فوق شظيةٍ من مَرقب
هل قربَ قائمك الذي بُوِّأته * ماءٌ يصابُ فقال ما من مشرب
إلا بغاية فرسخين ومن لنا * بالماء بين نقا وقي سلسب
--------------------------- 285 ---------------------------
فثنى الأعنة نحو وَعْثٍ فاجتلى * بيضاء تبرق كاللجين المذهب
قال : اقلبوها إنكم إن تفعلوا * تَرْوُوا ولا تروون إن لم تُقلب
فاعصوصبوا في قلعها فتمنعتْ * منهم تمنعَ صعبةٍ لم تُركب
حتى إذا أعيتهم أهوى لها * كفٌّ متى تَرد المغالبَ تَغلب
فكأنها كرةٌ بكفِّ حَزَوَّرٍ * عَبْلِ الذراع دحا بها في مَلعب
فسقاهمُ من تحتها متسلسلاً * عذباً يزيد على الألذِّ الأعذب
حتى إذا شربوا جميعاً ردَّها * ومضى فخِلْتَ مكانها لم يُقْرَب
ذاك ابن فاطمةِ الوصيُّ ومن يقلْ * في فضله وفعاله لا يَكذب ) .
قال الشريف المرتضى ( رحمه الله ) في رسائله ( 4 / 84 ) :
حتى أتى متبتلاً في قائمٍ * ألقى قواعدَه بقاعٍ مجُدبِ )
أراد بالمتبتل الراهب ، من البتل وهو القطع ، ومثله البت والبلت . وإنما سمي الراهب متبتلاً لقطعه نفسه عن الناس وعن اللذات . ومنه امرأة متبتلة : كل جزء منها يقوم بنفسه في الحسن . والعذراء البتول : التي انقطعت عن الأزواج . وصدقة بتلة على هذا المعنى . وإذا انفردت الفيلة واستغنت عن أمهاتها فهي البتول وأمها مبتل . وتبرت الشئ مثل بتلته وبتكته أيضاً : قطعته .
وأما القائم فهو صومعة الراهب . والقاع : الأرض الحرة الطين التي لاحزونة فيها ولا انهباط ، والجمع : القيعان ، وقاعة الدار : ساحتها . والقواعد : جمع قاعدة وهي أساس الجدار وكل ما يبنى . ويجدب : مأخوذ من الجدب الذي هو ضد الخصب . والجدب : العيب ، يقال جدبه يجدبه فهو جادب إذا عابه . قال ذو الرمة :
فيا لك من خَدٍّ أسيلٍ ومنطقٍ * رخيمٍ ومن خُلقٍ تعلل جادبه
وهذه قصة مشهورة ، قد جاءت الرواية بها ، فإن أبا عبد الله البرقي روى عن شيوخه عمن خبرهم قال : خرجنا مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نريد صفين ، فمررنا بكربلا فقال ( عليه السلام ) : أتدرون أين نحن ؟ ها هنا مصرع الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه . ثم سرنا يسيراً فانتهينا إلى راهب في صومعة ، وقد انقطع الناس من العطش ، فشكوا ذلك إلى
--------------------------- 286 ---------------------------
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وذلك لأنه أخذ بنا على طريق البر وترك الفرات عياناً ، فدنا من الراهب فهتف به فأشرف من صومعته ، فقال : يا راهب هل قرب صومعتك من ماء ؟ قال : لا . فسار قليلاً حتى نزل بموضع فيه رمل ، فأمر الناس فنزلوا ، فأمرهم أن يبحثوا في ذلك الرمل فأصابوا تحت ذلك الرمل صخرة بيضاء ، فاقتلعها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيده ونحاها ، فإذا تحتها ماء أرقُّ من الزلال وأعذب من كل ماء ، فشرب الناس وارتووا وحملوا منه ، ورد الصخرة والرمل كما كان . قال : فسِرْنا قليلاً وقد علم كل واحد من الناس مكان العين ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بحقي عليكم إلارجعتم إلى موضع العين ، فنظرتم هل تقفون عليها ؟ فرجع الناس يقفون الأثر إلى موضع الرمل ، فبحثوا ذلك الرمل فلم يصيبوا العين فقالوا : يا أمير المؤمنين لا والله ما أصبناها ، ولا ندري أين هي ! قال : فأقبل الراهب فقال : أشهد يا أمير المؤمنين أن أبي أخبرني عن جدي وكان من حواريي عيسى ( عليه السلام ) أنه قال : إن تحت هذا الرمل عيناً من ماء أبرد من الثلج وأعذب من كل ماء عذب ، وإنه لا يقع عليها إلا نبي أو وصي نبي ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً ( ( عليهما السلام ) ) عبده ورسوله ، وأنك وصي رسول الله وخليفته والمؤدي عنه . وقد رأيت أن أصحبك في سفرك فيصيبني ما أصابك من خير وشر . فقال له خيراً ودعا له بالخير ، وقال : يا راهب إلزمني وكن قريباً مني ففعل . فلما كانت ليلة الهرير والتقى الجمعان واضطرب الناس فيما بينهم ، قُتل الراهب فلما أصبح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال لأصحابه : إنهضوا بنا فادفنوا قتلاكم وأقبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يطلب الراهب حتى وجده فصلى عليه ودفنه بيده في لحده ، ثم قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله لكأني أنظر إليه وإلى زوجته وإلى منزلته ودرجته التي أكرمه الله بها ! وليس لأحد أن ينكر هذا الخبر من حيث كان خارقاً للعادة ولاحقاً بالمعجزات ، لأنا قد بينا في مواضع من كتبنا ، وفي كتاب الشافي في الإمامة خاصة ، أن المعجزات يجب ظهورها على أيدي الأئمة ( عليهم السلام ) ، وتكلمنا على شُبه من امتنع من ذلك ) .
أقول : في رواية الشريف المرتضى ( رحمه الله ) فروق عن غيرها ، ونحن نرجح روايته لجلالة راويها ودقته ، ولأن عنده مصادر لم تصل الينا . ومن فروق روايته : أن الحادثة كانت في سفر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى صفين ، وأن الأرض فوق الصخرة كانت رملية ، فقد ظهرت
--------------------------- 287 ---------------------------
الصخرة بسهولة ، وأسلم الراهب على يد الإمام ( عليه السلام ) وذهب معه واستشهد في صفين . وقوله عن جده : وكان من حواريي عيسى ( عليه السلام ) ، يقصد أنه هو من ذرية شمعون الصفا ، وصي عيسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . . الخ .
مشهد علي ( عليه السلام ) في صندوديا
تقدم قول ابن الأعثم : ( ثم سار من منزله ذلك حتى نزل بمدينة هيت ، ورحل منها حتى نزل بموضع يقال له الأقطار [ الأنطار ] فبنى هنالك مسجداً ، والمسجد ثابت إلى يومنا هذا ) . ولم أجد معنى مناسباً هنا للأقطار أو الأنطار ، ولا عرفت السبب في بناء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسجداً في ذلك المكان .
وقوله ما زال موجوداً إلى عصره وقد توفي سنة 314 ، يدل على تعاهد المسلمين لذلك المسجد ، مع أنه في طريق بري من العراق إلى الشام قلما يسلك . والظاهر أنه المسجد المعروف بمشهد علي ( عليه السلام ) بصندوديا أو صندوداء .
وعدَّ ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 45 ) مجموعة مساجد ومشاهد لعلي ( عليه السلام ) تدل على أن المسلمين اتخذوا مكان صلاته مسجداً ، وكذا المكان إلي اتخذه هو مسجداً ، قال : ( ومنازله كلها لما توجه إلى البصرة ، مساجد : النخيلة ، وزواطة ، والشرط ، ومذار ، ومطاراة ، وزكية ، وعند مشهد عزيرفوق البصرة على أربع فراسخ ، وعند قلعة البصرة ، وأيلة ، وبلجان ، والمحرزي ، وعبادان ، ودقلة ، وقرية عبد الله ، وكرخ زادو . ومن طريق العراق : في المداين ، وبغداد ، والأنبار ، وتحت الحديثة ، وعند الجب ، وصندوديا ، وعانة ، وبين الرحبة وعانة ، وفي الرحبة ، وزيلبيا ، ويلنج ، ورقة ، وصفين ) .
أقول : كان مشهد علي ( عليه السلام ) في صندوديا مزاراً إلى القرن السابع ، وقد زاره اثنان من خلفاء بني العباس : الخليفة المقتفي ، ثم الناصر ، زاره مع والدته .
قال أسامة بن مرشد المتوفى 584 ، في كتابه : الاعتبار / 176 : ( حدثني الأجل شهاب الدين أبو الفتح المظفر بن أسعد بن مسعود بن نجتكين بن سبكتكين ، مولى معز الدولة بن بويه بالموصل في ثامن عشر شهر رمضان سنة خمس وستين
--------------------------- 288 ---------------------------
وخمس مأة قال : زار المقتفي بأمر الله أمير المؤمنين ( رحمه الله ) مسجد صندوديا بظاهرالأنبار على الفرات الغربي ومعه الوزير وأنا حاضر ، فدخل المسجد وهو يعرف بمسجد أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه ، إلى أن قال : فجعل قيم المسجد يدعو للوزير ( البويهي الشيعي ) : ويحك ! أدع لأمير المؤمنين ، فقال له المقتفي : سله عما ينفع ، قل له : ما كان في المرض الذي كان في وجهه ، فإني رأيته في أيام مولانا المستظهر وبه مرض في وجهه ، وكان في وجهه سلعة ( جلدة ) قد غطت أكثر وجهه ، فإذا أراد الأكل سدها بمنديل حتى يصل الطعام إلى فمه ! إلى أن قال : ضاق صدري فنمت الليلة في المسجد فرأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عنه ، فشكوت إليه مابي فأعرض عني ، ثم راجعته وشكوت إليه فقال : أنت ممن يريد العاجلة ، ثم استيقظت والسلعة مطروحة إلى جانبي وقد زال ما كان بي . فقال المقتفي ( رحمه الله ) : صدق !
ثم قال لي : تحدث معه وأبصر ما يلتمسه واكتب به توقيعاً وأحضره لأعلم عليه . فتحدث معه فقال : أنا صاحب عائلة وبنات ، وأريد في كل شهر ثلاثة دنانير ، فكتب عنه مطالعة وعنونها : الخادم قيم مسجد علي ، فوقع عليها بما طلب وقال : لي إمض ثبتها في الديوان ، فمضيت ولم أقرأ منها سوى يوقع له بذلك . وكان الرسم أن يكتب لصاحب المطالعة توقيع ويؤخذ منه ما فيه خط أمير المؤمنين ، فلما فتحها الكاتب لينقلها وجد تحت قيم مسجد علي ، بخط المقتفي أمير المؤمنين . ولو كان طلب أكثر من ذلك لوقع له به ) .
وقال الأيوبي المتوفى سنة 617 ، في كتابه : مضمار الحقائق ( 1 / 177 ) : ( وفي هذه السنة 580 سألت أم الخليفة ( الناصر ) أن يؤذن لها في زيارة مشهد سرمن رأى على ساكنه السلام ، ومشهد صندوديا ، فتقدم الخليفة إلى المخزن المعمور ، أن يعمل لها ما تحتاج من الإقامة ، وتقدم إلى ابن يونس الوكيل بباب الحجرة الشريفة أن يكون على عزم السفر ، وأن يتسلم جميع ما عمل للسفر وأن يتقدم إلى جميع العسكر والمماليك أن يكونوا في الخدمة ، وأن ينادي في جميع العسكر أن الخليفة في الصحبة للزيارة ، فأخرجت الخيم والمضارب والنوتيات ، وخرج الخليفة وأمه إلى الزيارة ،
--------------------------- 289 ---------------------------
وكان يركب ويتصيد والعسكر في خدمته وهو غير متظاهر . وكان الخليفة قد تقدم إلى أستاذ الدار أن يعمر مشهد سر من رأى ، وأن يشيده وينفذ إليه فرشاً وبسطاً وجميع ما يحتاج إليه ، وكذلك فعل بمشهد صندوديا ، وأن يعطى جميع المجاورين بهذين المشهدين ثلاثة ألاف دينار ، وأعطى مشهد موسى بن جعفر على ساكنه السلام ألف دينار لعمارته ، وخمس مائة دينار تُفرق على ساكنيه ) . هذا ، وقد عَدَّ علي بن أبي بكر الهروي المتوفى 611 ، في كتابه ( الإشارات إلى معرفة الزيارات ) ثلاثاً وأربعين مسجداً ومشهداً ، منسوباً إلى علي ( عليه السلام )
في العراق والحجاز وسوريا : http : / / ahmad . kateban . com / entry 2060 . html
- *
المعجزة الخامسة : مع راهب دير نهر البليخ في قرقيسيا
1 . قال ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 92 ) : ( إبراهيم النخعي عن علقمة بن عباس في خبر ، أنه أتيَ براهب قرقيسيا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلما رآه قال : مرحباً ببحيراء الأصغر ، أين كتاب شمعون الصفا ؟ قال : وما يدرك يا أمير المؤمنين ! قال : إن عندنا علم جميع الأشياء ، وعلم جميع تفسير المعاني ، فأخرج الكتاب وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) واقف فقال : أمسك الكتاب معك ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم : قضى فيما قضى وسطَّر فيما كتب ، أنه باعث في الأميين رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على سبيل الله ، لافظٌّ ولا غليظ ، وذكر من صفاته واختلاف أمته بعده إلى أن قال : ثم يظهر رجل من أمته بشاطئ الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحق ، وذكر من سيرته ، ثم قال : ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن نصرته عبادة والقتل معه شهادة .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسياً . الحمد لله الذي ذكر عبده في كتب الأبرار . فقتل الرجل في صفين . .
--------------------------- 290 ---------------------------
2 . أمالي أبي الفضل الشيباني ، وأعلام النبوة ، عن الماوردي ، والفتوح عن الأعثم ،
في خبر طويل أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لما نزل ببليخ من جانب الفرات نزل إليه شمعون بن يوحنا ، وقرأ عليه كتاباً من إملاء المسيح ( عليه السلام ) وذكر بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصفته ، ثم قال : فإذا توفاه الله اختلفت أمته ، ثم اجتمعت لذلك ما شاء الله ، ثم اختلفت على عهد ثالثهم فقتل قتلاً ، ثم يصير أمرهم إلى وصي نبيهم فيبغون عليه وتسل السيوف من أغمادها ، وذكر من سيرته وزهده ، ثم قال : فإن طاعته لله طاعة ، ثم قال : ولقد عرفتك ونزلت إليك ، فسجد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وسمع منه يقول : شكراً للمنعم شكراً عشراً ، ثم قال : الحمد لله الذي لم يخمل ذكري ولم يجعلني عنده منسياً ، فأصيب الراهب ليلة الهرير ) .
3 . قال الموفق الخوارزمي في المناقب ( 1 / 241 ) : ( ورويَ عن حبة العرني قال : لما نزل علي ( عليه السلام ) بمكان يقال له البليخ على جانب الفرات ، نزل راهب من صومعته فقال لعلي : إن عندنا كتاباً توارثناه من آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم أعرضه عليك ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : نعم فما هو ؟ قال الراهب : بسم الله الرحمن الرحيم . الذي قضى فيما قضى وسطَّر فيما كتب ، أنه باعثٌ في الأميين رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على سبيل الله ، لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشز ، ألسنتهم بالتهليل والتكبير ، وينصره الله على كل من ناواه .
فإذا توفاه الله اختلفت أمته ، ثم اجتمعت فلبثت بذلك ما شاء ، ثم يمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقضي بالحق ولايوكس الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظمأ ، يخاف الله في السر وينصح له في العلانية ، لا يخاف في الله لومة لائم .
فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضوان والجنة ، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة . فأنا مصاحبك لا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك .
قال : فبكى عليٌّ ( عليه السلام ) وقال : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسياً ، الحمد لله الذي
--------------------------- 291 ---------------------------
ذكرني عنده في كتب الأبرار . فمضى الراهب معه ، وكان فيما ذكر يتغدى مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ويتعشى حتى أصيب بصفين . فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أطلبوه فلما وجده صلى عليه ودفنه وقال : هذا منا أهل البيت ، واستغفر له مراراً ) .
ورواه العقد النضيد / 85 ، ونحوه محمد بن سليمان في المناقب ( 1 / 144 ) عن نصر بن مزاحم . والمعيار والموازنة / 134 ، وشرح النهج ( 3 / 205 ) وشرح الأخبار ( 2 / 367 ) .
4 . وفي كتاب سليم بن قيس / 252 : ( أبان ، عن سليم قال : أقبلنا من صفين مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فنزل العسكر قريباً من دير نصراني ، فخرج إلينا من الدير شيخ كبير جميل حسن الوجه حسن الهيئة والسمت ، ومعه كتاب في يده حتى أتى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فسلم عليه بالخلافة . فقال له علي ( عليه السلام ) : مرحباً يا [ ابن ] أخي شمعون بن حمون ، كيف حالك رحمك الله ؟ فقال : بخير يا أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووصي رسول رب العالمين ، إني من نسل رجل من حواري أخيك عيسى بن مريم ( عليه السلام ) وأنا من نسل شمعون بن يوحنا وصي عيسى بن مريم ( عليهم السلام ) ، وكان من أفضل حواري عيسى بن مريم الاثني عشر وأحبهم إليه وآثرهم عنده ، وإليه أوصى عيسى بن مريم ( عليه السلام ) وإليه دفع كتبه وعلمه وحكمته ، فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين بملته ، فلم يكفروا ولم يبدلوا ولم يغيروا . وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم وخط أبينا بيده ، وفيها كل شئ يفعل الناس من بعده ملك ملك ، وكم يملك وما يكون في زمان كل ملك منهم ، حتى يبعث الله رجلاً من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ، من أرض تدعى تهامة ، من قرية يقال لها مكة ، يقال له أحمد ، الأنجل العينين المقرون الحاجبين ، صاحب الناقة والحمار والقضيب والتاج ، يعني العمامة . له اثنا عشر إسماً .
ثم ذكر مبعثه ومولده وهجرته ومن يقاتله ، ومن ينصره ومن يعاديه ، وكم يعيش ، وما تلقى أمته من بعده من الفرقة والاختلاف . وفيه تسمية كل إمام هدى وإمام ضلالة ، إلى أن ينزل الله عيسى بن مريم ( عليه السلام ) من السماء . فذكر
--------------------------- 292 ---------------------------
في الكتاب ثلاثة عشر رجلاً من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله ، هم خيرمن خلق الله وأحب من خلق الله إلى الله ، وأن الله ولي من والاهم وعدو من عاداهم ، من أطاعهم اهتدى ومن عصاهم ضل ، طاعتهم لله طاعة ومعصيتهم لله معصية . مكتوبة فيه أسماؤهم وأنسابهم ونعتهم ، وكم يعيش كل رجل منهم واحداً بعد واحد ، وكم رجل منهم يستسر بدينه ويكتمه من قومه ، ومن يظهر منهم ومن يملك وينقاد له الناس ، حتى ينزل الله عيسى بن مريم ( عليه السلام ) على آخرهم فيصلي عيسى خلفه ويقول : إنكم أئمة لا ينبغي لأحد أن يتقدمكم ، فيتقدم فيصلي بالناس وعيسى خلفه في الصف الأول . أولهم أفضلهم ، وآخرهم له مثل أجورهم وأجور من أطاعهم واهتدى بهداهم ) .
5 . ورواه النعماني في الغيبة / 74 ، عن سليم ، وفيه : ( باسمه جرى القلم في اللوح المحفوظ : محمد رسول الله ، وبصاحب اللواء يوم الحشرالأكبر أخيه ووصيه ووزيره وخليفته في أمته ، ومن أحب خلق الله إلى الله بعده : علي ابن عمه لأمه وأبيه ، وولي كل مؤمن بعده ، ثم أحد عشر رجلاً من ولد محمد وولده ، أولهم يسمى باسم ابني هارون شبر وشبير ، وتسعة من ولد أصغرهما واحد بعد واحد ، آخرهم الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه ) .
أقول : في العقد النضيد : هذا منا أهل البيت واستغفر له مِراراً . وهذا الراهب غير راهب دير راحوما . وهو من ذرية شمعون الصفا ( عليه السلام ) أيضاً ، وبعض الرواة خلطوا بينهما . كما اختلط الأمر على الرواة هل كان ذلك في ذهابه ( عليه السلام ) إلى صفين أو في رجوعه منها . والظاهر أنها في ذهابه .
6 . في معجم البلدان ( 1 / 493 ) : ( البليخ : اسم نهر بالرقة يجتمع فيه الماء من عيون ، وأعظم تلك العيون عين يقال لها الذهبانية في أرض حران ، فيجري نحو خمسة أميال ثم يسير إلى موضع قد بنى عليه مسلمة بن عبد الملك حصناً ، يكون أسفله قدر جريب وارتفاعه في الهواء أكثر من خمسين ذراعاً ، وأجرى ماء تلك العيون تحته ، فإذا خرج من تحت الحصن يسمى بليخا ، ويتشعب من ذلك الموضع أنهار تسقي بساتين وقرى ، ثم تصب في الفرات تحت الرقة بميل ، قال ابن دريد : لا أحسب البليخ عربياً ) .
- *
--------------------------- 293 ---------------------------
السادسة : خروج شمعو ن الصفا من قبره للسلام على علي ( عليه السلام )
1 . حدثت هذه المعجزة العجيبة لما نزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بجيشه في صفين ، فظهر له شمعون الصفا ( عليه السلام ) من الجبل وكلمه ، ثم رجع إلى قبره ! وقد رواها المحدث الصفار ( قدس سره ) في بصائر الدرجات / 300 ، قال : ( حدثني الحسن بن علي بن عبد الله ، عن علي بن حسان ، عن عمه عبد الرحمن بن كثير الهاشمي مولى محمد بن علي ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالناس يريد صفين حتى عبر الفرات فكان قريباً من الجبل بصفين ، إذ حضرت صلاة المغرب ، فأمعن بعيداً ثم توضأ وأذن ، فلما فرغ من الأذان انفلق الجبل عن هامة بيضاء ، بلحية بيضاء ، ووجه أبيض ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، مرحباً بوصي خاتم النبيين ، وقائد الغر المحجلين ، والأعز المأثور ، والفاضل والفايق بثواب الصديقين ، وسيد الوصيين ! قال له : وعليك السلام يا أخي شمعون بن حمَوُّن ، وصي عيسى بن مريم روح القدس ، كيف حالك ؟ قال : بخير يرحمك الله ، أنا منتظر روح الله ينزل . فلا أعلم أحداً أعظم في الله بلاءً ، ولا أحسن غداً ثواباً ، ولا أرفع مكاناً منك ! إصبر يا أخي على ما أنت عليه حتى تلقى الحبيب غداً ، فقد رأيت أصحابك بالأمس أقواماً لقوا ما لاقوا من بني إسرائيل ، نشروهم بالمناشير ، وحملوهم على الخشب ! فلو تعلم هذه الوجوه الغريرة الشائهة ( أعداؤك ) ما أعد الله لهم من عذاب ربك وسوء نكاله لأقصروا . ولو تعلم هذه الوجوه المضيئة ( أنصارك ) ماذا لهم من الثواب في طاعتك ، لتمنت أنها قُرضت بالمقاريض . والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . والتأم الجبل !
وخرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى عسكره ، فسأله عمار بن ياسر وابن عباس ومالك الأشتر وهاشم بن عتبه بن أبي وقاص وأبو أيوب الأنصاري وقيس بن سعد الأنصاري وعمرو بن الحمق الخزاعي وعبادة بن صامت وأبو الهيثم بن التيهان ، عن الرجل ، فأخبرهم أنه شمعون بن حمون وصي عيسى بن مريم . وسمعوا كلامهما فازدادوا بصيرةً . فقال له عبادة بن الصامت وأبو أيوب : لاهَلِعَ قلبك
--------------------------- 294 ---------------------------
يا أمير المؤمنين ، بأمهاتنا وآبائنا نفديك . يا أمير المؤمنين ، فوالله لننصرنك كما نصرنا أخاك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا يتخلف عنك من المهاجرين والأنصار إلا شقي ! فقال لهما معروفاً وذكرهما بخير ) .
2 . ورواها المفيد في أماليه / 104 ، بسند آخر عن قيس مولى علي بن أبي طالب قال : ( حدثني أبو الحسن علي بن بلال المهلبي قال : حدثنا علي بن عبد الله بن أسد الإصفهاني قال : حدثنا إبراهيم بن محمد الثقفي قال : حدثنا إسماعيل بن يسار قال : حدثنا عبد الله بن ملح ، عن عبد الوهاب بن إبراهيم الأزدي ، عن أبي صادق ، عن مزاحم بن عبد الوارث ، عن محمد بن زكريا ، عن شعيب بن واقد المزني ، عن محمد بن سهل مولى سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس ، عن أبيه ، عن قيس مولى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : إن علياً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان قريباً من الجبل بصفين ، فحضرت صلاة المغرب فأمعن بعيداً ، ثم أذن ، فلما فرغ من أذانه إذا رجل مقبل [ من ] نحو الجبل ، أبيض الرأس واللحية والوجه ، فقال . . مثله . ثم غاب من موضعه ! فقام عمار بن ياسر . . الخ . ورواها بنحوه ابن حمزة في الثاقب / 225 ، وابن سليمان في المناقب ( 1 / 172 ) وابن ميثم في شرح مئة كلمة / 254 ، والقطب الراوندي في الخرائج ( 2 / 743 ) .
ملاحظات
1 . قد يقال : هذه النصوص تدل على ظهور شمعون الصفا ، وقد يقال إن روحه التي ظهرت ، فما هو الدليل على أن جسده دفن هناك ؟
والجواب : أن النصوص ظاهرة في أن قبره ( عليه السلام ) هناك ، كقوله في رواية البصائر : ( انفلق الجبل عن هامة بيضاء بلحية بيضاء ووجه أبيض . . قال : بخير يرحمك الله ، أنا منتظر روح الله ينزل ) .
وقوله في رواية ابن سليمان : 1 / 172 ، وأمالي المفيد / 105 : ( إذا هو برجل مقبل من نحو الجبل أبيض الرأس واللحية والوجه . . ثم غاب من موضعه ) .
وقوله في رواية البصائر / 301 : ( انفلق الجبل عن هامة بيضاء بلحية بيضاء ووجه
--------------------------- 295 ---------------------------
أبيض . . والسلام عليك يا أمير المؤمنين . . والتأم الجبل ) .
وفي الخرائج ( 2 / 744 ) والإيقاظ / 178 : ( ثم التأم الجبل عليه ) . وفي رواية ابن ميثم : ( فتحدثا ملياً ثم ودعه شمعون ، والتأم الجبل ) . وفي رواية المفيد : ( هذا شمعون وصي عيسى ( عليه السلام ) ، بعثه الله يُصَبِّرُني على قتال أعدائه ) .
فهي تعابير تدل على أن قبره هناك ، وأنه ينتظر أن يبعث من قبره عندما ينزل عيسى المسيح ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ولو كان الذي حضر روح شمعون الصفا ( عليه السلام ) دون جسده ، لما قالت الرواية انفلق الجبل والتأم الجبل ، فانشقاق الأرض عنه ثم التئامها عليه يعني أنه خرج من قبره ليكلم علياً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم عاد اليه .
2 . هذه النصوص الصحيحة أقوى سند علمي نملكه ، لتعيين مكان قبر شمعون الصفا ( عليه السلام ) ، وهي أقوى من النص اليتيم الغربي الذي يقول إن قبره في روما ، ومن الشائعات التي تقول إنه في جبل عامل في شمع .
وقد وثقنا ذلك في كتابنا شمعون الصفا ، وذكرنا أن البابوية قامت بحفريات تحت كنيسة القديس بطرس في روما ، لمدة عشر سنين فلم تجد أي عظم ! ولا أي أثر لجسد ، ولو أنها قامت بحفريات في صفين عند أول الجبل لوجدت بدنه الشريف سالماً ، فذلك أولى من حفرها في روما تحت كنيسة بطرس ! على أنه عندنا لاىجوز .
- *
--------------------------- 296 ---------------------------
الفصل السابع والسبعون: المعركة على ماء الفرات وما بعدها إلى صفر !
ثلاث معارك في شهر ذي الحجة
وقعت بين أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومعاوية ثلاث معارك في ذي الحجة ، ثم كانت المهادنة في محرم الحرام ، ثم بدأت معارك صفين في أول شهر صفر سنة 37 .
وكانت المعركة الأولى بين مقدمة جيش معاوية بقيادة أبي الأعور السلمي ، ومقدمة جيش الإمام ( عليه السلام ) بقيادة الأشتر ، وكانت قصيرة ، انهزم فيها أبوالأعور .
وكانت المعركة الثانية على الماء ، واستمرت أياماً ، وانتصرفيها جيش الإمام ( عليه السلام ) وسيطروا على ساحل الفرات ، ثم سمحوا لجيش معاوية بالإستقاء منه .
وكانت الثالثة لاسترجاع مكانهم بعد حيلة معاوية بأنه سيفجر النهر عليهم فخافوا ولم يطيعوا الإمام ( عليه السلام ) وغيروا مكانهم ، فاحتله معاوية ، ثم استرجعوه !
معركة المقدمتين وهروب أبي الأعور من الأشتر
ذكر نصر / 153 : أن علياً ( عليه السلام ) أرسل خالد بن قطن وزياد بن النضر ، في اثني عشر ألفاً نحومعاوية ، فذهبوا ليعبروا من عانات فمنعهم أهلها فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت ، ثم لحقوا علياً بقرية دون قرقيسيا فقال ( عليه السلام ) متعجباً : مقدمتي تأتي من ورائي ! ثم قبل عذرهما ، وأرسلهما أمامه .
ثم أرسلا له أنهم واجهوا مقدمة معاوية يقودها أبوالأعور عند سورالروم فأرسل إلى الأشتر : يا مالِ ، إن زياداً وشريحاً أرسلا إليَّ يعلماني أنهما لقيا أباالأعور ، فنبأني الرسول أنه
--------------------------- 297 ---------------------------
تركهم متواقفين ، فالنجاء إلى أصحابك النجاء . فإذا أتيتهم فأنت عليهم ، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدؤوك حتى تلقاهم وتسمع منهم ، ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة . واجعل على ميمنتك زياداً ، وعلى ميسرتك شريحاً ، وقف بين أصحابك وسطاً ، ولاتدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس ، حتى أقدم عليك ، فإني حثيث السير إليك ، إن شاء الله .
وكتب إليهما : أما بعد ، فإني قد أمَّرت عليكما مالكاً فاسمعا له وأطيعا أمره ، فإنه ممن لا يخاف رهقه ولاسقاطه ، ولا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم ، ولا الإسراع إلى ما البطء عنه أمثل . وقد أمرته بمثل الذي أمرتكما : ألا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم ، إن شاء الله .
فخرج الأشتر حتى قدم على القوم فاتبع ما أمره به علي ( عليه السلام ) ، وكف عن القتال . فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبوالأعور السلمي فثبتوا له ، واضطربوا ساعة ، ثم إن أهل الشام انصرفوا .
ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسن عدتها وعددها ، وخرج إليهم أبوالأعور السلمي فاقتتلوا يومهم ذلك ، تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال ، فصبر القوم بعضهم لبعض ، ثم انصرفوا .
وبكر عليهم الأشتر فقتل منهم عبد الله بن المنذر التنوخي ، قتله ظبيان بن عمارة التميمي ، وما هو يومئذ إلا فتى حديث السن ، وإن كان الشامي لفارس أهل الشام ! وأخذ الأشتر يقول : ويحكم ، أروني أباالأعور !
ثم إن أباالأعور دعا الناس فرجعوا نحوه ، فوقف على تل من وراء المكان الذي كان فيه أول مرة ، وجاء الأشتر حتى صف أصحابه في المكان الذي كان فيه أبوالأعور أول مرة ، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي : انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى المبارزة ، فقال : إلى مبارزتي أو مبارزتك ؟ فقال : إلى مبارزتي ، فقال الأشتر : أوَلو أمرتك بمبارزته فعلتَ ؟ قال : نعم ، والذي لا إله إلا هو
--------------------------- 298 ---------------------------
لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي فعلته حتى أضربه بالسيف . فقال : يا ابن أخي أطال الله بقاءك ، وقد والله ازددت فيك رغبة . لا ، ما أمرتك بمبارزته ، إنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي ، لأنه لا يبارز إن كان ذلك من شأنه إلا ذوي الأسنان والكفاءة والشرف ، وأنت بحمد الله من أهل الكفاءة والشرف ، ولكنك حديث السن ، وليس يبارز الأحداث ، فاذهب فادعه إلى مبارزتي . فأتاهم فقال : آمنوني فإني رسول ، فأمنوه حتى انتهى إلى أبي الأعور قال فقلت له : إن الأشتر يدعوك إلى مبارزته ، فسكت عني طويلاً ثم قال : إن خفة الأشتر وسوء رأيه هو الذي دعاه إلى إجلاء عمال عثمان من العراق ، وافترائه عليه ، يقبح محاسنه ويجهل حقه ، ويظهر عداوته . ومن خفة الأشتر وسوء رأيه أنه سار إلى عثمان في داره وقراره ، فقتله فيمن قتله فأصبح مبتغى بدمه . لا حاجة لي في مبارزته !
قال قلت له : قد تكلمت فاستمع مني حتى أخبرك . فقال : لا حاجة لي في جوابك ولا الاستماع منك ، إذهب عني ! وصاح بي أصحابه ، فانصرفت عنه ! ولو سمع مني لأخبرته بعذر صاحبي وحجته . فرجعت إلى الأشتر فأخبرته أنه قد أبى المبارزة ، فقال : لنفسه نظر .
قال : فتواقفنا حتى حجز بيننا وبينهم الليل وبتنا متحارسين ، فلما أن أصبحنا نظرنا فإذا هم قد انصرفوا . قال : وصبحنا على غدوة فسار نحو معاوية ، فإذا أبوالأعور السلمي قد سبق إلى سهولة الأرض وشريعة الماء ، مكان أفيح ، وكان على مقدمة معاوية ) .
أقول : معناه أن أباالأعور انسحب من المعركة لما خاف من الأشتر ، ورجعوا باتجاه الشام ونزلوا في مكان مناسب ، فوصل جيش معاوية ونزل هناك أيضاً ، ويبدو أن نزولهم في ذلك المكان كان طبيعياً ، وليس عن تخطيط .
قال نصر / 157 : ( فأتى الأشتر صاحب مقدمة معاوية وقد سبقه إلى المعسكر على الماء ، وكان الأشتر في أربعة آلاف من متبصري أهل العراق ، فأزالوا أباالأعور عن معسكره ، وأقبل معاوية في جميع الفيلق بقضه وقضيضه ، فلما رأى ذلك الأشتر انحاز إلى علي ( عليه السلام ) ، وغلب معاوية على الماء وحال بين أهل العراق وبينه ،
--------------------------- 299 ---------------------------
وأقبل علي ( عليه السلام ) حتى إذا أراد المعسكر ، إذا القوم قد حالوا بينه وبين الماء ) .
لا يقال : لماذا انسحب الأشتر وترك المكان المناسب لأبي الأعور . فالصحيح أنه جاء لمواجهة مقدمة معاوية واشتبك معها فهرب منه أبوالأعور ، فجاء جيش معاوية الكبير ، ولم يؤمر الأشتر بمواجهته ، فرجع إلى علي ( عليه السلام ) فأخذ جيش معاوية المكان المناسب ، وأحكم قبضته عليه ، ومنع الماء عن جيش الإمام ( عليه السلام ) !
لماذا استطاع معاوية أن يمنع ماء الفرات عن جيش علي ( عليه السلام ) ؟
1 . ينبع الفرات من تركيا ويجري في سوريا بين جبال وسهول ، ثم يدخل إلى العراق فيقطعه من شماله إلى جنوبه ، ويصب في الخليج .
وتقع قرية صفين غربي الفرات عند مكان يسمى سور الروم ، شرقي بالس أو مسكنة ، وتقابلها قلعة جعبر ، فبينها وبين الرقة جعبر ودامان .
وقرب صفين جبل وأمامها سهل ، وقد غمرتها اليوم مياه بحيرة الأسد ، وبقي جبلها ويسمى جبل بنات أبي هريرة ، وهو تلال فيها قبورقتلى صفين .
قال ابن العديم في تاريخ حلب ( 1 / 280 ) : ( عن كعب أنه رأى صفين والحجارة التي على الطريق فقال : لقد وجدت نعتها في الكتاب أن بني إسرائيل اقتتلوا فيها تسع مرات حتى تفانوا ، وأن العرب ستقتتل فيها العاشرة حتى يتفانوا ، ويتقاذفوا بالحجارة التي تقاذفت بها بنو إسرائيل !
فاقتتل فيها أهل الشام مع معاوية ، وأهل العراق مع علي حتى تفانوا ، وتقاذفوا بتلك الحجارة ! سئل كعب الذماري : من أين كان كعب يعلم ملحمة صفين ؟ قال : أما ملحمة صفين فإنها في كتاب الله ( أي في موروثات اليهود ) إني حابس الأميين حيث حبست بني إسرائيل . قال : وكانت قبل صفين تسع ملاحم كانت صفين العاشرة .
وقال ابن العديم عن صفين : هي قرية كبيرة عامرة على مكان مرتفع ، على شط الفرات والفرات في سفحها ، وفيها مشهد لأمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) وقيل بأنه موضع فسطاطه . وموضع الوقعة من غربيه في الأرض السهلة .
--------------------------- 300 ---------------------------
وقَتْلَى علي في أرض قِبْلي المشهد وشرقيُّهُ ، وقتلى معاوية من غربي المشهد ، وجثثهم في تلال من التراب والحجارة .
كانوا لكثرة القتلى يحفرون حفائر ويطرحون القتلى فيها ويهيلون التراب عليهم ، ويرفعونه عن وجه الأرض ، فصارت لطول الزمان كالتلال .
وفي حديث محمد بن إسحاق قال : أقبل معاوية حتى نزل صفين ، والصفين مدينة عتيقة من مدائن الأعاجم في أرض قنسرين على شاطئ الفرات ، فيما بين منبج والرقة ، على نجفة مشرفة الجذل ، وبين النجفة وبين الفرات غيضة آسنة ذات ماء آجن ، لايُقدر على الفرات إلا من شرائع الغيضة ، فمن قدر على الشريعة استقى ، ومن لم يقدر على الشريعة استقى من الجرف بالدلاء ، ماء آجناً غليظاً لا يشرب إلا بالشن ) .
وقال ابن قتيبة في الأخبار الطوال / 167 : ( وهي قرية خراب من بناء الروم ، منها إلى الفرات غلوةٌ ، وعلى شط الفرات مما يليها غيضة ملتفة ، فيها نزور طولها نحو من فرسخين ، وليس في ذينك الفرسخين طريق إلى الفرات إلا طريق واحد مفروش بالحجارة ، وسائر ذلك خَلافٌ وغَرْب ( شجر ) ملتف لا يسلك ، وجميع الغيضة نُزُورٌ ووحل ، إلا ذلك الطريق الذي يأخذ من القرية إلى الفرات . وأمر معاوية أباالأعور أن يقف في عشرة آلاف من أهل الشام على طريق الشريعة فيمنع من أراد السلوك إلى الماء من أهل العراق .
وأقبل علي حتى وافى المكان ، فصادف أهل الشام قد احتووا على القرية والطريق ، فأمر الناس فنزلوا بالقرب من عسكر معاوية وانطلق السقاؤون والغلمان إلى طريق الماء ، فحال أبوالأعور بينهم وبينه ، وأُخبر علي بذلك فقال لصعصعة بن صوحان : إيت معاوية . .
وظل أهل العراق يومهم ذلك وليلتهم بلا ماء ، إلا من كان ينصرف من الغلمان إلى طرف الغيضة ، فيمشي مقدار فرسخين فيستقي ، فغمَّ علياً أمر الناس غماً شديداً ، وضاق بما أصابهم من العطش ذرعاً ، فأتاه الأشعث بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين ، أيمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا سيوفنا ؟ وَلِّنِي الزحف إليه فوالله لا أرجع أو
--------------------------- 301 ---------------------------
أموت ومُرِ الأشترفلينضم إلي في خيله ، فقال له علي : إيت في ذلك ما رأيت . فلما أصبح زاحف أباالأعور ، فاقتتلوا وصدقهم الأشتر والأشعث حتى نفيا أباالأعوروأصحابه عن الشريعة ) .
وقال نصر / 157 : ( إن رجلاً من أهل الشام قال لمعاوية : إمنعهم من الماء ، فقال معاوية : الرأي ما تقول ولكن عمرواً لايدعني . قال عمرو : خَلِّ بينهم وبين الماء فإن علياً لم يكن ليظمأ وأنت ريان ، وفي يده أعنة الخيل وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت ، وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ، ومعه أهل العراق وأهل الحجاز ، وقد سمعته أنا وأنت وهو يقول : لو استمكنت من أربعين رجلاً فذكر أمراً ، يعني لو أن معي أربعين رجلاً يوم فتش البيت ، يعني بيت فاطمة ) !
يقصد عمرو أن علياً ( عليه السلام ) قال لما هاجموا بيت فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهددوهم بالإحراق إن لم يبايعوا أبا بكر : لو أن معي أربعون لقاتلهم ، فكيف به الآن ومعه ألوف !
وذكر نصر : أن أهل الشام فرحوا بالغلبة فقال معاوية : يا أهل الشام هذا أول الظفر ، لاسقاني الله ولاسقا أبا سفيان إن شربوا منه أبداً حتى يقتلوا بأجمعهم !
أرسل علي ( عليه السلام ) صعصعة وشبث بن ربعي لمعالجة قضية الماء
في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 351 ) : ( فأنفذ علي ( عليه السلام ) شبث بن ربعي وصعصعة بن صوحان ، فقالا في ذلك لطفاً وعنفاً ، فقالوا : أنتم قتلتم عثمان عطشاً ) !
وقال الطبري ( 3 / 568 ) : ( فدعا صعصعة بن صوحان فقال له : إئت معاوية وقل له : إنا سرنا مسيرنا هذا إليكم ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم وإنك قدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا بالقتال ، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك .
وهذه أخرى قد فعلتموها : قد حلتم بين الناس وبين الماء ، والناس غير منتهين أو يشربوا ، فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ، ويكفوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم ، وفيما قدمنا له وقدمتم له ، وإن كان أعجب إليك أن نترك ما جئنا له ونترك الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب ، فعلنا .
--------------------------- 302 ---------------------------
فقال معاوية لأصحابه : ما ترون ؟ فقال الوليد بن عقبة : إمنعهم الماء كما منعوه عثمان ، حصروه أربعين صباحاً يمنعونه برد الماء ولين الطعام ، أقتلهم عطشاً قتلهم الله عطشاً !
فقال له عمرو : خل بينهم وبين الماء ، فإن القوم لن يعطشوا وأنت ريان ، ولكن بغير الماء فانظرما بينك وبينهم . فأعاد الوليد بن عقبة مقالته .
وقال ابن أبي سرح : إمنعهم الماء إلى الليل فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، ولو قد رجعوا كان رجوعهم فلَّاً ! إمنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة !
فقال صعصعة : إنما يمنعه الله عز وجل يوم القيامة الكفرة الفسقة وشَرَبَة الخمر ، ضَرْبَك وضرب هذا الفاسق يعني الوليد بن عقبة ! قال : فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه ، فقال معاوية : كفوا عن الرجل فإنه رسول ) !
وقد ذكرنا أن الذي منع عثمان الماء طلحة ، وأن علياً ( عليه السلام ) أدخل اليه الماء بالقوة .
وقال نصر / 160 : قال عبد الله بن الأحمر : ( لما رجع الينا صعصعة فحدثنا بما قال معاوية وما رد عليه ، قال : لما أردت الانصراف من عنده قلت : ما ترد عليَّ ؟ قال : سيأتيكم رأيي ! قال : فوالله ما راعنا إلا تسوية الرجال والخيل والصفوف ! فأرسل إلى أبي الأعور : إمنعهم الماء ، فازدلفنا والله إليهم ، فارتمينا واطَّعنا بالرماح ، واضطربنا بالسيوف فطال ذلك بيننا وبينهم ، فصار الماء في أيدينا فقلنا : والله لا نسقيهم !
فأرسل إلينا علي ( عليه السلام ) : خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم ، وخلوا بينهم وبين الماء ، فإن الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم !
قال نصر / 193 : ( خطب علي يوم الماء فقال : أما بعد فإن القوم قد بدؤوكم بالظلم ، وفاتحوكم بالبغي واستقبلوكم بالعدوان ، وقد استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء ، فأقروا على مذلة وتأخير محلة ، أو روُّوا السيوف من الدماء تُرووا من الماء ، فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين . ألا وإن معاوية قاد لُمَّةً من الغواة وعَمَّس عليهم الخبر ، حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية ) .
--------------------------- 303 ---------------------------
ثم أرسل الإمام ( عليه السلام ) آخرين إلى معاوية لمعالجة قضية الماء
روى الخوارزمي في المناقب / 203 ، خبرأشخاص أرسلهم الإمام ( عليه السلام )
إلى معاوية يحتجون عليه ، فبقي مصراًعلى منعهم الماء ، وكان علي ( عليه السلام )
وأصحابه يشربون من ماء آسن حتى فشا فيهم السقم !
وكان جواب معاوية : إنك أغريت بعثمان المهاجرين والأنصار ، وخذلت عنه الأنصار حتى قتل ، فكتب له علي ( عليه السلام ) جوابه وأرسله مع الأصبغ بن نباتة ، فقال الأصبغ : دخلت على معاوية وهو جالس على نطع من الأدم متكياً على وسادتين خضراوين ، فلما قرأ الكتاب قال : إن علياً لا يدفع إلينا قتلة عثمان ، فقلت له : يا معاوية لاتعتل بدم عثمان ، فإنك تطلب الملك والسلطان ، ولو كنت أردت نصرته حياً لنصرته ، ولكنك تربصت به لتجعل ذلك سبباً إلى وصولك إلى الملك !
فغضب من كلامي فأردت أن يزيد غضبه فقلت لأبي هريرة : يا صاحب رسول الله إني أحلفك بالله الذي لا إله إلا هو إلا أخبرتني أشهدت غدير خم ؟ قال : بلى شهدته ، قلت : فما سمعته يقول في علي ؟ قال : سمعته يقول : من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه !
قلت له : فإذاً أنت واليت عدوه وعاديت وليه ، فتنفس أبو هريرة الصعداء وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ! فتغير معاوية وقال : كفَّ عن كلامك ، فلا تستطيع أن تخدع أهل الشام بالكلام عن طلب دم عثمان ، فإنه قتل مظلوماً في حرم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعند صاحبك قتلة عثمان ، أغراهم به حتى قتلوه ، وما كان عثمان ليهدر دمه ! وغضب وصاح عليَّ وقال : ليت شعري أجئت رسولاً أم مشنعاً ! فانصرفت .
فأرسل علي إلى معاوية عبد الله بن بديل الخزاعي وهو الذي فتح أصبهان في أيام عمر ، وقال له يقول علي : لو كنت سبقتك إلى الماء لما منعتكه ، وإن منعك الماء محرم عليك فدع أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليشربوا ويسقوا حتى ننظر إلى ما يؤول أمرنا ، فإن القتال شديد ، فلا نبدأ في الشهر الحرام .
--------------------------- 304 ---------------------------
فأصر معاوية وقال : قل له يدفع إلي قتلة عثمان أقتلهم ، فقال له عبد الله : أتظن يا معاوية أن علياً عجز عن أخذ الماء ، ولكنه يحتج عليك !
وانصرف عبد الله بن بديل الخزاعي إلى علي ( عليه السلام ) وأخبره بخبره . .
ثم بعث الإمام ( عليه السلام ) جماعة من الأنصاروغيرهم إلى معاوية ليحتجوا عليه فأتوه وكلموه وبالغوا في ذلك وقالوا : يا معاوية جُدْ به تفضلاً قبل أن نأخذه قهراً . فقال : غداً يأتيكم رسولي بما يبدو لي ، فأصبح القوم ، وقد تقدم جيش معاوية للقتال !
وفي مروج الذهب ( 2 / 274 ) : ( خرج علي يدورفي عسكره بالليل فسمع قائلاً :
أيمنعنا القوم ماء الفرات * وفينا عليٌّ وفينا الهدى
وفينا الصلاة وفينا الصيام * وفينا المناجون تحت الدجى
وبات عليٌّ وجيشه في البر ليلتهم عطاشاً ، قد حيل بينهم وبين الماء . . الخ .
ثم ذكر المسعودي أن علياً ( عليه السلام ) سيَّرالأشعث بأربعة آلاف والأشتر بأربعة آلاف من الخيل والرجَّالة ، وسار وراء الأشتر بباقي الجيش ، ومضى الأشعث فما رَدَّ وجهه أحد حتى هجم على عسكر معاوية ، فأزال أباالأعور عن الشريعة ، وغَرَّقَ منهم بشراً وخيلًا ، وأورد خيله الفرات ) .
وقال نصر / 193 : ( ثم غاداهم عليٌّ ( عليه السلام ) القتال ، وعلى رايته يومئذ هاشم بن عتبة المرقال ، قال : ومعه الحَدَل ، التي يقول فيها الأشتر :
إنا إذا ما احتسبنا الوغى * أدرنا الرحى بصنوف الحدل
وضرباً لهاماتهم بالسيوف * وطعناً لهم بالقنا والأسل
عرانين من مذحج وسطها * يخوضون أغمارها بالهبل
ووائل تسعر نيرانها * ينادونهم أمرنا قد كمل
أبو حسن صوت خيشومها * بأسيافه كل حام بطل
على الحق فينا له منهج * على واضح القصد لا بالميل
والحدَل : نوع من الأقواس المائلة واحدها حَدْلاء . ( الصحاح : 4 / 1668 ) .
وقال المسعودي ( مروج الذهب : 2 / 275 ) : ( إن الأشعث كان يقدم رمحه ثم يحث أصحابه ،
--------------------------- 305 ---------------------------
فبلغ ذلك علياً فقال : هذا اليوم نصرنا فيه بالحمية ) !
وقال نصر / 192 : ( فلما غلب علي ( عليه السلام ) على الماء فطرد عنه أهل الشام ، بعث إلى معاوية : إنا لانكافيك بصنعك ، هَلُمَّ إلى الماء ، فنحن وأنتم فيه سواء . فأخذ كل واحد منهما بالشريعة مما يليه ، وقال علي ( عليه السلام ) لأصحابه : أيها الناس ، إن الخطب أعظم من منع الماء . وقال معاوية : لله در عمرو ، ما عصيته في أمر قط إلا أخطأت الرأي فيه ) .
لكن عمرو العاص كان متضامناً مع معاوية ، وقاتل معه على الماء بكل طاقته ! ولما غلب علي ( عليه السلام ) على الماء اختلف مع معاوية ، فقال له ( نصر / 185 ) :
أمرتك أمراً فسخفته * وخالفني ابن أبي سرحه
وأغمضت في الرأي إغماضة * ولم تر في الحرب كالفسحه
فكيف رأيت كباش العراق * ألم ينطحوا جمعنا نطحه
فإن ينطحونا غداً مثلها * نكن كالزبيري أو طلحة
أظن لها اليوم ما بعدها * وميعاد ما بيننا صبحه
وإن أخروها لما بعدها * فقد قدموا الخبط والنفحة
وقد شرب القوم ماء الفرات * وقلدك الأشتر الفضحه ) !
اعترض رجل همْداني على فعل معاوية فأراد قتله !
قال نصر / 163 : ( وتباشرأهل الشام فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني يقال له المعري بن الأقبل وكان ناسكاً ، وكان صديقاً مواخياً لعمرو بن العاص ، فقال : يا معاوية سبحان الله ، ألأن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه تمنعونهم عنه ؟ أما والله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه . أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعونهم الفرات فينزلوا على فرضة أخرى فيجازوكم بما صنعتم ؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له . هذا والله أول الجور ! لقد شجعت الجبان ، وبصرت المرتاب ، وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك ! فأغلظ له معاوية وقال لعمرو : إكفني صديقك . فأتاه عمرو
--------------------------- 306 ---------------------------
فأغلظ ، فقال الهمداني :
لعمرو أبي معاوية بن حرب * وعمرو ما لدائهما دواء
سوى طعن يحار العقل فيه * وضرب حين يختلط الدماء
فلست بتابع دين ابن هند * طوال الدهر ما أرسى حراء
لقد ذهب العتاب فلا عتاب * وقد ذهب الولاء فلا ولاء
وقولي في حوادث كل أمري * على عمرو وصاحبه العفاء
ألا لله درك يا ابن هند * لقد برح الخفاء فلا خفاء
أتحمون الفرات على رجال * وفي أيديهم الأسل الظماء
وفي الأعناق أسياف حداد * كأن القوم عندهم نساء
فترجو أن يجاوركم علي * بلا ماء وللأحزاب ماء
دعاهم دعوة فأجاب قوم * كجرب الإبل خالطها الهناء
قال : ثم سار الهمداني في سواد الليل فلحق بعلي . قال : ومكث أصحاب علي ( عليه السلام )
يوماً وليلة بغير ماء ، واغتم عليٌّ بما فيه أهل العراق ) .
وقال ابن الأعثم ( 3 / 6 ) : ( فأمر معاوية بقتل هذا الرجل ، فوثب قوم من بني عمه فاستوهبوه منه فوهبه لهم ، فلما كان الليل هرب إلى علي بن أبي طالب فصارمعه ) .
بطولة مالك الأشتر ( رضي الله عنه ) في معركة الماء
أطال الرواة في أخبار معركة الماء ، ورواية الشعر فيها ، وأعطوا أكثر بطولتها للأشعث بن قيس ، وبعضهم أعطاها للأشتر ، وهاشم المرقال .
قال الخوارزمي في المناقب / 219 ، رويَ أن الأشتر كان يخطب ويقول : أثبتوا في مواضعكم وأقيموا صفوفكم ، فلما كتب الكتائب ورتب الصفوف أقبل علينا بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ثم قال : أما بعد فقد كان سابقاً في علم الله اجتماعنا في هذه البقعة من الأرض لآجال اقتربت وأمور تصرفت وآمال تصرمت ، يسوسنا سيد الأوصياء ويرأسنا ابن عم خيرالأنبياء ، إمامنا المؤيد بنصرالله من السماء وسيف من سيوف الله . ورئيسهم ابن آكلة الأكباد يسوقهم إلى النار والشقاء ، ونحن
--------------------------- 307 ---------------------------
نرجو الثواب وهم ينتظرون العقاب ، فإذا حمى الوطيس وجبن الرئيس ، وثار القتال وطال العتاب والملام ، والتقت حلقتا البطان وتقصف المران ، وجالت الخيل بالأبطال وبلغت النفوس الآجال ، فلا أستمع إلا غماغم الفرسان وهماهم الشجعان ، فإن الله ولينا وعلي إمامنا ، والنصرلواؤنا .
أيها الناس ، غضوا الأبصار وعضوا على النواجذ والأضراس ، فإنها أشد لشؤون الرأس ، واستقبلوا القوم بهامكم ، وخذوا قوائم سيوفكم بأيمانكم واطعنوا الشرسوف الأيسرفإنه مقتل ، وشدوا شدة قوم موتورين بدينهم ودماء إخوانهم ، حنقين على عدوهم ، قد وطنوا على الموت أنفسهم ، لئلا تسبقوا بثار ، ولا تلحقوا في الآخرة بنار . واعلموا أن الفرار من الزحف مسبة ، وفيه الخزي والمذمة إلى يوم القيامة ، والوقوف محمدة ، والحمد أفضل من الذم . أعاننا الله وإياكم على طاعته واتباع مرضاته ، ونَصْر أوليائه وقَهْر أعدائه ، إنه خير معين ) .
وقال نصر / 172 : ( طال بيننا وبين أهل الشام القتال ، فما أنسى قول عبد الله بن عوف بن الأحمر يوم الفرات ، وكان من فرسان علي ( عليه السلام ) :
خلوا لنا عن الفرات الجاري * أو اثبتوا للجحفل الجرار
لكل قرم مستميت شاري * مطاعنٍ برمحه كرار
ضراب هاماتِ العدى مغوار
قال : ثم إن الأشتر دعا الحارث بن همام النخعي فأعطاه لواءه ثم قال : يا حارث لولا أني أعلم أنك تصبرعند الموت لأخذت لوائي منك ولم أَحْبُكَ بكرامتي . قال : والله لأسرنك اليوم أو لأموتن ، فتقدم باللواء وهو يقول :
يا أشتر الخير ويا خير النخع * وصاحب النصر إذا عم الفزع
وكاشف الأمر إذا الأمر وقع * ما أنت في الحرب العوان بالجذع
قد جزع القوم وعموا بالجزع * وجرعوا الغيظ وغصوا بالجرع
إن تسقنا الماء فما هي بالبدع * أو نعطش اليوم فجند مقتطع
- ما شئت خذ منها وما شئت فدع
--------------------------- 308 ---------------------------
فقال الأشتر : أدن مني يا حارث ، فدنا منه فقبل رأسه . ثم قام الأشتر يحرض أصحابه يومئذ ويقول : فدتكم نفسي ، شدوا شدة المحرج الراجي الفرج ، فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها ، وإذا عضتكم السيوف فليعض الرجل نواجذه فإنه أشد لشؤون الرأس ، ثم استقبلوا القوم بهاماتكم .
قال : وكان الأشتر يومئذ على فرس له محذوف أدهم كأنه حَلَك الغراب .
وروى نصرعن صعصعة قال : قَتل الأشتر في تلك المعركة سبعة ، وقتل الأشعث فيها خمسة ، ولكن أهل الشام لم يثبتوا . فكان الذين قتلهم الأشتر : صالح بن فيروز العكي ، ومالك بن أدهم السلماني ، ورياح بن عتيك الغساني ، والأجلح بن منصور الكندي وكان فارس أهل الشام ، وإبراهيم بن وضاح الجمحي ، وزامل بن عبيد الحزامي ، ومحمد بن روضة الجمحي . فأول قتيل قتل الأشتر ذلك اليوم بيده من أهل الشام رجل يقال له صالح بن فيروز ، وكان مشهوراً بشدة البأس ، فقال وارتجز على الأشتر :
يا صاحب الطرف الحصان الأدهم * أقدم إذا شئت علينا أقدم
أنا ابن ذي العز وذي التكرم * سيد عِكٍّ كل عِك فاعلم
فبرز إليه الأشتر وهو يقول :
آليت لا أرجع حتى أضربا * بسيفي المصقول ضرباً معجبا
أنا ابن خير مذحج مركبا * من خيرها نفساً وأماً وأبا
ثم شد عليه بالرمح فقتله وفلق ظهره ثم رجع إلى مكانه . ثم خرج إليه فارس آخر يقال له مالك بن أدهم السلماني ، وكان من فرسان أهل الشام ، وهو يقول :
إني منحت مالكاً سنانيا * أجيبه بالرمح إذ دعانيا - لفارس أمنحه طعانيا
ثم شد على الأشتر فلما رهقه التوى الأشتر على الفرس مار السنان فأخطأه ، ثم استوى على فرسه وشد عليه بالرمح وهو يقول :
خانك رمح لم يكن خوانا * وكان قدماً يقتل الفرسانا
لويته لخير ذي قحطانا * لفارس يخترم الأقرانا - أشهلُ لا وغلاً ولا جبانا . فقتله .
--------------------------- 309 ---------------------------
ثم خرج فارس آخر يقال له رياح بن عتيك ، وهو يقول :
إني زعيم مالك بضرب * بذي غرارين جميع القلب - عبل الذراعين شديد الصلب
فخرج إليه الأشتر وهو يقول :
رويد لا تجزع من جلادي * جلاد شخص جامع الفؤاد
يجيب في الروع دعا المنادي * يشد بالسيف على الأعادي .
فشد عليه فقتله . ثم خرج إليه فارس يقال له إبراهيم بن الوضاح وهو يقول :
هل لك يا أشتر في برازي * براز ذي غشم وذي اعتزاز - مقاوم لقرنه لزاز
فخرج إليه الأشتر وهو يقول :
نعم نعم أطلبه شهيدا * معي حسام يقصم الحديدا - يترك هامات العدى حصيدا . فقتله .
ثم خرج إليه فارس آخر يقال له زامل بن عتيك الحزامي ، وكان من أصحاب الألوية ، فشد عليه وهو يقول :
يا صاحب السيف الخضيب المرسب * وصاحب الجوشن ذاك المذهب
هل لك في طعن غلام ٍمحرب * يحمل رمحاً مستقيمَ الثعلب - ليس بحيادٍ ولا مُغَلَّب .
فطعن الأشتر في موضع الجوشن فصرعه عن فرسه ولم يصب مقتلاً ، وشد عليه الأشتر راجلاً فكسف قوائم الفرس بالسيف ، وهو يقول :
لا بد من قتلي أو من قتلكا * قتلت منكم خمسة من قبلكا - وكلهم كانوا حماةً مثلكا
ثم ضربه بالسيف وهما راجلان ، فقتله . ثم خرج إليه فارس يقال له الأجلح وكان من أعلام العرب وفرسانها ، وكان على فرس يقال له لاحق ، فلما استقبله الأشتر كره لقاءه واستحيا أن يرجع ، فخرج إليه وهو يقول :
--------------------------- 310 ---------------------------
أقدم باللاحق لا تهلل * على صملٍ ظاهر التسلل
كأنما يقشم مُرَّ الحنظل * إن سمته خسفاً أبى لم يقبل
وإن دعاه القرن لم يعول * يمشي إليه بحسام مفصل
مشياً رويداً غيرما مستعجل * يخترم الآخر بعد الأول
فشد عليه الأشتر وهو يقول :
بليت بالأشتر ذاك المذحجي * بفارس في حلق مدجج
كالليث ليث الغابة المهيج * إذا دعاه القرن لم يعرِّج
فضربه الأشتر فقتله . ثم خرج إليه محمد بن روضة ، وهو يضرب في أهل العراق ضرباً منكراً ويقول :
يا ساكني الكوفة يا أهل الفتن * يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن
ورث صدري قتله طول الحزن * أضربكم ولا أرى أباحسن
فشد عليه الأشتر وهو يقول :
لا يبعد الله سوى عثمانا * وأنزل الله بكمُ هوانا
ولا يسلي عنكم الأحزانا * مخالف قد خالف الرحمانا - نصرتموه عابداً شيطانا .
ثم ضربه فقتله .
وقالت أخت الأجلح بن منصور الكندي حين أتاها مصابه ، واسمها حبلة :
ألا فابكي أخا ثقة * فقد والله أبكينا
لقتل الماجد القمقام * لا مثل له فينا
أتانا اليوم مقتله * فقد جزت نواصينا
كريم ماجد الجدين * يشفي من أعادينا
وممن قاد جيشهم * عليٌّ والمضلونا
شفانا الله من أهل * العراق فقد أبادونا
أما يخشون ربهم * ولم يرعوا له دينا
--------------------------- 311 ---------------------------
قال جابر : بلغني أنها ماتت حزناً على أخيها ! وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين بلغه مرثيتها أخاها : أما إنهن ليس بملكهن ما رأيتم من الجزع ، أما إنهم قد أضروا بنسائهم فتركوهن أيامى خزايا بائسات ، من قبل ابن آكلة الأكباد . اللهم حمله آثامهم وأوزارهم وأثقالاً مع أثقالهم ، اللهم لا تعف عنه ) .
قال نصر / 168 : ( سمعت بكر بن تغلب السدوسي يقول : والله لكأني أسمع الأشتر وهو يحمل على عمرو بن العاص يوم الفرات ، وهو يقول :
ويحك يا ابن العاصي * تنح في القواصي * واهرب إلى الصياصي
اليوم في عراص * نأخذ بالنواصي * لا نحذر التناصي - نحن ذوي الخماص * لا نقرب المعاصي
- في الأدرع الدلاص * في الموضع المصاص
فأجابه عمرو بن العاص :
ويحك يا ابن الحارث * أنت الكذوب الحانث
أنت الغرير الناكث * أعدَّ مال الوارث
وفي القبور ماكث
عن بكر بن تغلب قال : حدثني من سمع الأشتر يوم الفرات ، وقد كان له يومئذ غناء عظيم من أهل العراق ، وهو يقول :
اليوم يوم الحفاظ * بين الكماة الغلاظ * نحفزها والمظاظ
قال : وقد قتل لَقْوَة من آل ذي لقوة ، وكان يومئذ فارس أهل الأردن ، وقتل رجالاً من آل ذي يزن ) . ونحفزها والمظاظ : أي : نثير المعركة ونلح عليها .
وقال الخوارزمي في المناقب / 215 : ( قال أبوهاني السدوسي : كنت مع الأشتر وقد تبين فيه العطش فقلت لرجل من بني عمي : إن الأميرعطشان ، فقال : عندي إداوة ماء لنفسي أوثره على نفسي ، فتقدم إلى الأشتر فعرض عليه الماء فقال :
لا أشرب حتى يشرب الناس ! ودنا أصحاب أبي الأعور يرشقون بالنبل والأشتر ينادي : يا معاشرالناس صبراً ، ثم حمل على أصحاب أبي الأعور وبدد الرماة ) .
--------------------------- 312 ---------------------------
وذكر الخوارزمي في المناقب / 219 ، أن معاوية أرسل عمرو العاص مدداً لأبي الأعور في معركة الماء ، فقال الأشتر : جاءهم مدد ولكن يا أصحابي أبشروا فإنا على الحق والباطل زاهق . وكان عمرو لبس فوق درعه خفتاناً أحمر ( رداء فارسي خفيف ) فقال له الأشتر : ويلك يا ابن العاصي ، أهرب إلى الصياصي ، ثم حمل الأشتر عليه فاتقاه بالحجفة وانهزم عمرو ، وزعق أصحاب أبي الأعور ! فأرسل الأشتر إلى أبي الأعور : أن أبرز إلي فبرز إليه لكثرة ما دعاه الأشتر إليه وعليه درع مذهب وبيضة عادية ، فحمل الأشتر عليه فضربه على بيضته فقطع أنف البيضة ، ووقع السيف في وجنته فدمي وجهه ، وهرب أبوالأعور ) !
دور الأشعث بن قيس في معركة الماء
قال نصر / 165 : ( مضى ( علي ( عليه السلام ) ) إلى راية كندة ، فإذا مناد ينادي إلى جنب منزل الأشعث وهو يقول :
لئن لم يجل الأشعث اليوم كربة * من الموت فيها للنفوس تعنت
فنشرب من ماء الفرات بسيفه * فهبنا أناساً قبل كانوا فموتوا
فإن أنت لم تجمع لنا اليوم أمرنا * وتلق التي فيها عليك التشتت
فمن ذا الذي تثنى الخناصر باسمه * سواك ومن هذا إليه التلفت
وهل من بقاء بعد يوم وليلة * نظل عطاشاً والعدو يصوت
هلموا إلى ماء الفرات ودونه * صدور العوالي والصفيح المشتت
وأنت امرؤ من عصبة يمنية * وكل امرئ من غصنه حين ينبت
فلما سمع الأشعث قول الرجل أتى علياً من ليلته فقال : يا أمير المؤمنين أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ، ومعنا السيوف ؟ خل عنا وعن القوم فوالله لا نرجع حتى نرده أو نموت . ومُرِالأشتر فليعل بخيله فيقف حيث تأمره . فقال : ذاك إليكم . فرجع الأشعث فنادى في الناس : من كان يريد الماء أو الموت فميعاده الصبح فإني ناهض إلى الماء . فأتاه من ليلته اثنا عشر ألف رجل ، وشد عليه سلاحه وهو يقول :
--------------------------- 313 ---------------------------
ميعادنا اليوم بياض الصبح * هل يصلح الزاد بغير ملح
لا لا ، ولا أمر بغير نصح * دبوا إلى القوم بطعن سمح
مثل العزالي بطعان نفح * لا صلح للقوم وأين صلحي
- حسبي من الإقحام قاب رمح
فلما أصبح دب في الناس وسيوفهم على عواتقهم ، وجعل يلقي رمحه ويقول : بأبي أنتم وأمي ، تقدموا قاب رمحي هذا . فلم يزل ذلك دأبه حتى خالط القوم وحسر عن رأسه ونادى : أنا الأشعث بن قيس ، خلوا عن الماء . فنادى أبوالأعور السلمي : أما والله لا ، حتى تأخذنا وإياكم السيوف . فقال : قد والله أظنها دنت منا . وكان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره علي فبعث إليه الأشعث أن أقحم الخيل . فأقحمها حتى وضع سنابكها في الفرات ، وأخذت القوم السيوف ، فولوا مدبرين .
وقال نصر / 167 : ( نادى الأشعث عمرو بن العاص قال : ويحك يا ابن العاص ، خل بيننا وبين الماء ، فوالله لئن لم تفعل لتأخذنا وإياكم السيوف . فقال عمرو : والله لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف وإياكم ، فيعلم ربنا أينا اليوم أصبر . فترجل الأشعث والأشتر وذوو البصائر من أصحاب على وترجل معهما اثنا عشر ألفاً ، فحملوا على عمرو ومن معه من أهل الشام فأزالوهم عن الماء ، حتى غمست خيل على سنابكها في الماء .
ثم إن علياً ( عليه السلام ) عسكر هناك . وقبل ذاك قال شاعر أهل العراق :
ألا يتقون الله أن يمنعوننا * الفرات وقد يروي الفرات الثعالب
وقد وعدونا الأحمرين فلم نجد * لهم أحمراً إلا قراع الكتائب
إذا خفقت راياتنا طحنت لها * رحى تطحن الأرحاء والموت طالب
فنعطى إله الناس عهداً نفي به * لصهر رسول الله حتى نضارب
وكان بلغ أهل الشام أن علياً جعل للناس إن فتحت الشام أن يقسم بينهم البر والذهب وهما الأحمران وأن يعطيهم خمس مائة كما أعطاهم بالبصرة ) .
--------------------------- 314 ---------------------------
وقال نصر / 169 : ( سمعت الأشعث بن قيس يقول يوم حال عمرو بن العاص بيننا وبين الفرات : ويحك يا عمرو ، والله إن كنت لأظن لك رأياً فإذا أنت لاعقل لك ، أترانا نخليك والماء ، تربت يداك وفمك ، أما علمت أنا معشر عرب ، ثكلتك أمك وهبلتك ، لقد رمت أمر عظيماً .
فقال له عمرو : أما والله لتعلمن اليوم أنا سنفي بالعهد ، ونقيم على العقد ، ونلقاك بصبر وجد . فناداه الأشتر : والله لقد نزلنا هذه الفرضة يا ابن العاص ، والناس تريد القتال ، على البصائر والدين ، وما قتالنا سائر اليوم إلا حمية . ثم كبر الأشعث
وكبر الأشتر ، ثم حملا فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام ) .
قال نصر / 171 : ( حدثني من سمع الأشعث يوم الفرات وقد كان له غناء عظيم ، وقتل رجالاً من أهل الشام بيده وهو يقول : والله إن كنت لكارهاً قتال أهل الصلاة ،
ولكن معي من هو أقدم مني في الإسلام وأعلم بالكتاب والسنة وهو الذي يسخى بنفسه . وتقدم شرحبيل وهو يرتجز :
أنا شرحبيل أنا ابن السمط * مبين الفعل بهذا الشط
بالطعن سمحا بقناة الخط * أطلب ثارات قتيل القبط
جمعت قومي باشتراط الشرط * على ابن هند وأنا الموطي
حتى أناخوا بالمحامي الخط * جند يمان ليس هم بخلط
فأجابه الأشعث بن قيس :
إني أنا الأشعث وابن قيس * فارس هيجاء قبيل دوس
لست بشكاك ولا ممسوس * كندة رمحي وعليٌّ قوسي
ثم حمل عليه الأشعث وطعنه طعنة كفأه عن فرسه ، فأفلت وهو لما به . فعيره أبوالأعور السلمي وقال : يا شرحبيل ! طعنك الأشعث بن قيس ! فقال : نعم والله يا أباالأعور ! طعنني الأشعث وهو سيد في قومه وأنا سيد في قومي ، فإن كنت صادقاً فأخرج إليه وانتصب له لنرى ما ينزل بك من صولته ، فخرج أبوالأعور وجعل يرتجز :
أنا أبوالأعور واسمي عمرو * أحمي حماي والمحامي حر
--------------------------- 315 ---------------------------
أضرب قدماً لا أولي الدبر * سيفٌ حسامٌ وطعاني مر
قال : فبدر إليه الأشعث فطعنه طعنة كادت أن تأتي على نفسه ، فولى عنه أبوالأعور جريحاً ) .
وقال نصر / 180 : ( وكان لواء الأشعث مع معاوية بن الحارث ، فقال له الأشعث : لله أنت ! ليس النخع بخير من كندة ، قدم لواءك فإن الحظ لمن سبق . فتقدم صاحب اللواء ، وهو يقول :
أنعطش اليوم وفينا الأشعث * والأشعث الخير كليث يعبث
فأبشروا فإنكم لن تلبثوا * أن تشربوا الماء فسبوا وارفثوا - من لا يرده والرجال تلهث
وقال ابن الأعثم ( 3 / 11 ) : ( قال الأشعث لصاحب لوائه : لله درك ودر أبيك ! إن أعش فلك عندي رضاك ، وإن أمت فلك عقار من عقاري بحضرموت ) .
وقال نصر / 172 : ( وكان الأشعث له يوم الفرات غناء عظيم وقتل رجالاً من أهل الشام بيده وهو يقول : والله إن كنت لكارهاً قتال أهل الصلاة ، ولكن معي من هو أقدم مني في الإسلام ، وأعلم بالكتاب والسنة ، وهو الذي يسخى بنفسه ) .
وقال نصر / 169 : ( فلقيَ عمرو بن العاص بعد ذلك الأشعث بن قيس فقال : أي أخا كندة ، أما والله لقد أبصرت صواب قولك يوم الماء ، ولكني كنت مقهوراً على ذلك الرأي ، فكايدتك بالتهدد ، والحرب خدعة ) .
حيلة معاوية بعد معركة الماء
أسوأ مخالفتين لمالك الأشتر ( رضي الله عنه ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : مخالفته لما عزل الأشعث عن رئاسة كندة . والثانية : أنه انطلت عليه حيلة معاوية فوافق الأشعث وخالفا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأجبراه على تغيير مكان الجيش ، ثم انكشفت لهما الحيلة !
قال نصر / 190 : ( وأقاموا على ذلك ثلاثة أيام ، ودخل معاوية إلى منزله فأخذ سهماً فكتب عليه : من عبد الله الناصح ، فإني أخبركم أن معاوية يريد أن
--------------------------- 316 ---------------------------
يفجرعليكم الفرات فيغرقكم ، فخذوا حذركم . ثم رمى معاوية بالسهم في عسكر علي ( عليه السلام ) فوقع السهم في يد رجل من أهل الكوفة فقرأه ثم أقرأه صاحبه ، فلما قرأه وأقرأه الناس أقرأه من أقبل وأدبر ، قالوا : هذا أخر ناصح كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية . فلم يزل السهم يقرأ ويرتفع حتى رفع إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد بعث معاوية مائتي رجل من الفعلة إلى عاقول من النهر ، بأيديهم المرور والزبل يحفرون فيها بحيال عسكر علي فقال ( عليه السلام ) : ويحكم إن الذي يعالج معاوية لا يستقيم له ولا يقوم عليه ، وإنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم ، فالهوا عن ذلك ودعوه !
فقالوا له : لا ندعهم والله يحفرون الساعة ! فقال علي ( عليه السلام ) : يا أهل العراق لا تكونوا ضَعْفَى ، ويحكم لاتغلبوني على رأيي ! فقالوا : والله لنرتحلن فإن شئت فارتحل وإن شئت فأقم ! فارتحلوا وصعدوا بعسكرهم ملياً ، وارتحل على في أخريات الناس وهو يقول :
فلو أني أُطعت عصمت قومي * إلى ركن اليمامة أو شمام
ولكني متى أبرمتُ أمراً * منيتُ بخُلْف آراء الطِّغام
قال : وارتحل معاوية حتى نزل معسكر علي الذي كان فيه ، فدعا علي ( عليه السلام ) الأشتر فقال : ألم تغلبني على رأيي أنت والأشعث ، فدونكما !
فقال الأشعث : أنا أكفيك يا أمير المؤمنين سأداوي ما أفسدتُ اليوم من ذلك ، فجمع كندة فقال لهم : يا معشركندة ، لاتفضحوني اليوم ولا تخزوني فإني إنما أقارع بكم أهل الشام ، فخرجوا معه رجالة يمشون ، وبيده رمح له يلقيه على الأرض ويقول : إمشوا قيد رمحي هذا فيمشون ، فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه ، ويمشون معه رجالة حتى لقي معاوية وسط بني سليم واقفاً على الماء ، وقد جاء أداني عسكره فاقتتلوا قتالاً شديداً على الماء ساعة وانتهى أوائل أهل العراق فنزلوا ، وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق فحمل على معاوية والأشعث يحارب في ناحية أخرى ، فانحاز معاوية في بني سليم ، فرد وجوه إبله قدر ثلاثة فراسخ ، ثم نزل ووضع أهل الشام أثقالهم ، والأشعث يهدر ويقول : أرضيتك يا أمير المؤمنين ! ثم تمثل بقول طرفة بن العبد
( الشعراء الستة الجاهليين للحجاج / 72 ) :
--------------------------- 317 ---------------------------
ففداءٌ لبني قيس عليَّ * ما أصاب الناس من سَرٍّ وضُر
كنت فيكم كالمغطى رأسه * فانجلى اليوم قناعي وخمر
ولقد كنت عليكم عاتباً * فعقبتم بذنوب غير مر
سادراً أحسب غيي راشداً * فتناهيت وقد صابت بقَرِّ
وقال الأشتر : يا أمير المؤمنين قد غلب الله لك على الماء ، فقال ( عليه السلام ) : أنتما كما قال :
تلاقين قيساً وأشياعه * فيوقد للحرب ناراً فناراً
أخو الحرب إن لقحت بازلاً * سما للعلا وأجلَّ الخطارا ) .
- *
التزم الطرفان باحترام شهر محرم
قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 275 ) : ( ولما كان أول يوم من ذي الحجة بعد نزول عليّ على هذا الموضع بيومين ، بعث إلى معاوية يدعوه إلى اتحاد الكلمة والدخول في جماعة المسلمين ، وطالت المراسلة بينهما ، فاتفقوا على الموادعة إلى آخرالمحرم من سنة سبع وثلاثين .
ولما كان في اليوم الآخر من المحرم قبل غروب الشمس ، بعث عليٌّ إلى
أهل الشام : إني قد احتججت عليكم بكتاب الله ، ودعوتكم اليه ، وإني قد نبذت إليكم على سَوَاء ، إن الله لا يهدي كيد الخائنين .
فلم يردوا عليه جوابا إلا : السيف بيننا وبينك ، أو يهلك الأعجز منا » .
وكثر المبعوثون في محرم بين الإمام ( عليه السلام ) ومعاوية
قال الطبري ( 4 / 2 ) : ( ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ، فكان في أول شهرمحرم منها موادعة الحرب ، واختلفت الرسل رجاء الصلح ، فبعث عليٌّ عدي بن حاتم ، ويزيد بن قيس الأرحبي ، وشبث بن ربعي ، وزياد بن خصفة ، إلى معاوية ، فلما دخلوا حمد الله عدي بن حاتم ثم قال : أما بعد فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا ويحقن به الدماء ، ويأمن به السبل ويصلح به
--------------------------- 318 ---------------------------
ذات البين ، إن ابن عمك سيد المسلمين ، أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام أثراً ، وقد استجمع له الناس وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا ، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك ، فانته يا معاوية لا يصيبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل .
فقال معاوية : كأنك إنما جئت متهدداً ، ولم تأت مصلحاً ! هيهات يا عدي كلا والله إني لابن حرب ، ما يقعقع لي بالشنان ، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان ، وإنك لمن قتلته . فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة ، وتنازعا جواباً واحداً : أتيناك فيما يصلحنا وإياك ، فأقبلت تضرب لنا الأمثال ، دع مالا ينتفع به من القول والفعل وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه .
وتكلم يزيد بن قيس فقال : إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك ، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك ، ونحن على ذلك لم تدع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة ، وأنك راجع به إلى الألفة والجماعة .
إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله ، ولا أظنه يخفى عليك أن أهل الدين والفضل لن يعدلوا بعلي ولن يميلوا بينك وبينه ، فاتق الله يا معاوية ، ولا تخالف علياً ، فإنا والله ما رأينا رجلاً قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ، ولا أجمع لخصال الخير كلها ، منه .
فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة ، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي ، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها ، إن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا وقتلتنا . وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد ذلك عليه ، أرأيتم قتلة صاحبنا ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم ، فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به . ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة .
فقال له شبث : أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمار تقتله ؟ فقال معاوية وما يمنعني من ذلك ، والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان ، ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان ! فقال له شبث : وإله الأرض وإله السماء ، ما عدلت معتدلاً ! لا والذي لا إله إلا هو لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقوام ،
--------------------------- 319 ---------------------------
وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها !
فقال له معاوية : إنه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق !
وتفرق القوم عن معاوية ! فلما انصرفوا بعث معاوية إلى زياد بن خصفة فخلا به ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد يا أخا ربيعة فإن علياً قطع أرحامنا وآوى قتلة صاحبنا ، وإني أسألك النصر عليه بأسرتك وعشيرتك ، ثم لك عهد الله عز وجل وميثاقه أن أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت .
قال زياد بن خصفة : فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله عز وجل وأثنيت عليه ثم قلت : أما بعد فإني على بينة من ربي وبما أنعم عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا للَّمُجْرِمِينَ .
ثم قمت فقال معاوية لعمرو بن العاص وكان إلى جنبه جالساً : يكلم رجل منا رجلاً منهم ، فلا يجيب إلى خير ! مالهم عضبهم الله بشر ، ما قلوبهم إلا كقلب رجل واحد ) !
وروى نصر / 186 : ( فأتوه فدخلوا عليه ، فحمد أبو عمرة بن محصن الله وأثنى عليه وقال : يا معاوية ، إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة ، وإن الله عز وجل مجازيك بعملك ، ومحاسبك بما قدمت يداك ، وإني أنشدك بالله أن تفرق جماعة هذه الأمة ، وأن تسفك دماءها بينها .
فقطع معاوية عليه الكلام ، فقال : هلا أوصيت صاحبك ؟ فقال : سبحان الله إن صاحبي ليس مثلك ، إن صاحبي أحق البرية في هذا الأمر في الفضل والدين والسابقة والإسلام ، والقرابة من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال معاوية : فتقول ماذا ؟ قال : أدعوك إلى تقوى ربك وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق ، فإنه أسلم لك في دينك ، وخير لك في عاقبة أمرك . قال : ويُطَلُّ دم عثمان ؟ لاوالرحمن لا أفعل ذلك أبداً .
قال : فذهب سعيد يتكلم ، فبدره شبث فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا معاوية ، قد فهمت ما رددت على ابن محصن ، إنه لا يخفى علينا ما قرب وما تطلب ، إنك لا تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم ، إلا أن قلت لهم : قتل إمامكم مظلوماً فهلموا نطلب بدمه ، فاستجاب لك سفهاء
--------------------------- 320 ---------------------------
طغام رذال ، وقد علمنا أنك قد أبطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب . ورب مبتغ أمراً وطالبه يحول الله دونه ، وربما أوتي المتمني أمنيته وربما لم يؤتها .
ووالله مالك في واحدة منها خير ، والله لئن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالاً ، ولئن أصبت ما تتمناه لاتصيبه حتى تستحق صِلِيَّ النار ! فاتق الله يا معاوية ، ودع ما أنت عليه ، ولا تنازع الأمر أهله .
قال : فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفة حلمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ، ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به . ولقد كذبت ولويت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت وذكرت ! انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف ! قال : وغضب فخرج القوم وشبث يقول : أفعلينا تهول بالسيف أما والله لنعجلنه إليك !
فأتوا علياً ( عليه السلام ) فأخبروه بالذي كان من قوله ) !
من مبعوثي معاوية إلى علي ( عليه السلام ) في صفين
قال نصر / 201 : ( إن معاوية بعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ، ومعن بن يزيد بن الأخنس السلمي ، فدخلوا على علي ( عليه السلام ) وأنا عنده ، فحمد الله حبيب بن مسلمة وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهدياً ، يعمل بكتاب الله ، وينيب إلى أمر الله ، فاستثقلتم حياته ، واستبطأتم وفاته ، فعدوتم عليه فقتلتموه ، فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به . فإن قلت إنك لم تقتله فاعتزل أمر الناس فيكون أمرهم هذا شورى بينهم ، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم .
فقال له علي ( عليه السلام ) : وما أنت لا أم لك والولاية والعزل والدخول في هذا الأمر ! أسكت فإنك لست هناك ، ولا بأهل لذاك .
فقام حبيب بن مسلمة فقال : أما والله لتريني حيث تكره !
فقال له عليٌ : وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك ! إذهب فصوب وصعد ما بدا لك ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت .
فقال شرحبيل بن السمط : إن كلمتك فلعمري ما كلامي إياك إلا كنحو من كلام
--------------------------- 321 ---------------------------
صاحبيَّ قبلي ، فهل لي عندك جواب غير الجواب الذي أجبته به ؟ فقال علي : عندي جواب غير الذي أجبته به ، لك ولصاحبك .
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الله بعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنقذ به من الضلالة ، ونعش به من الهلكة ، وجمع به بعد الفرقة ، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه ، ثم استخلف الناس أبا بكر ، ثم استخلف أبو بكر عمر ، وأحسنا السيرة وعدلا في الأمة ، وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا ونحن آل الرسول وأحق بالأمر ، فغفرنا ذلك لهما ، ثم وليَ أمر الناس عثمان ، فعمل بأشياء عابها الناس عليه فسار إليه ناس فقتلوه ، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم فقالوا لي : بايع ، فأبيت عليهم فقالوا لي : بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك ، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس ، فبايعتهم ، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني ، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام ، طليق ابن طليق ، وحزب من الأحزاب ، لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدواً هو وأبوه ، حتى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين ، فعجباً لكم ولإجلابكم معه ، وانقيادكم له ، وتدعون أهل بيت نبيكم ( ( عليهما السلام ) ) الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ، ولا أن تعدلوا بهم أحداً من الناس . إني أدعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيكم ( ( عليهما السلام ) ) وإماتة الباطل ، وإحياء معالم الدين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لنا ولكل مؤمن ومؤمنة ، ومسلم ومسلمة .
فقال له شرحبيل ومعن بن يزيد : أتشهد أن عثمان قتل مظلوماً ؟ فقال لهما :
إني لا أقول ذلك . قالا : فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوماً فنحن براء منه .
ثم قاما فانصرفا . فقال ( عليه السلام ) : إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ . وَمَا أَنْتَ بِهَادِى الْعُمْىِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ !
ثم أقبل على أصحابه فقال : لا يكون هؤلاء بأولى في الجد في ضلالتهم منكم في حقكم وطاعة إمامكم ! ثم مكث الناس حتى دنا انسلاخ المحرم ) .
--------------------------- 322 ---------------------------
وجاء عبيد الله بن عمر رسولاً من معاوية إلى علي ( عليه السلام )
قال نصر / 186 : ( مكث عليٌّ ( عليه السلام ) يومين لا يرسل إلى معاوية ، ولا يأتيه من قبل معاوية أحد ، وجاء عبيد الله بن عمر فدخل على علي ( عليه السلام ) في عسكره فقال : أنت قاتل الهرمزان ، وقد كان أبوك فرض له في الديوان ، وأدخله في الإسلام ؟ فقال له ابن عمر : الحمد لله الذي جعلك تطلبني بدم الهرمزان وأطلبك بدم عثمان . فقال له علي : لا عليك سيجمعني وإياك الحرب غداً !
وأرسل علي ( عليه السلام ) مبعوثىن إلى معاوىة
ثم إن علياً دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وشبث بن ربعي التميمي فقال : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عز وجل وإلى الطاعة والجماعة ، وإلى اتباع أمر الله تعالى .
فقال له شبث : ألا نطمعه في سلطان توليه إياه ومنزلة تكون به له أثرة عندك إن هو بايعك ؟ قال علي : إئتوه الآن فالقوه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه ) .
وأرسل معاوية القراء البسطاء وفداً إلى علي ( عليه السلام )
قال نصر / 188 : ( وخرج قراء أهل العراق وقراء أهل الشام ، فعسكروا ناحية صفين في ثلاثين ألفاً ، وعسكر عليٌّ على الماء ، وعسكر معاوية فوق ذلك ، ومشت القراء فيما بين معاوية وعلي ، فيهم عبيدة السلماني ، وعلقمة بن قيس النخعي ، وعبد الله بن عتبة ، وعامر بن عبد القيس ، وقد كان في بعض تلك السواحل . قال : فانصرفوا من عسكر علي فدخلوا على معاوية فقالوا : يا معاوية ما الذي تطلب ؟ قال : أطلب بدم عثمان . قالوا : ممن تطلب بدم عثمان . قال : من علي ! قالوا : وعلي قتله ؟ قال : نعم هو قتله وآوى قاتليه . فانصرفوا من عنده فدخلوا على علي فقالوا : إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان . قال : اللهم لكذب فيما قال ، لم أقتله . فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال لهم معاوية : إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالأ . فرجعوا إلى علي فقالوا : إن معاوية يزعم أنك إن لم تكن فتلت بيدك فقد أمرت ومالأت على قتل عثمان . فقال : اللهم كذب فيما قال . فرجعوا
--------------------------- 323 ---------------------------
إلى معاوية فقالوا : إن علياً يزعم أنه لم يفعل . فقال معاوية : إن كان صادقاً فليمكنا من قتلة عثمان ، فإنهم في عسكره وجنده وأصحابه وعضده . فرجعوا إلى علي فقالوا : إن معاوية يقول لك إن كنت صادقاً فادفع إلينا قتلة عثمان أو أمكنا منهم .
قال لهم عليٌّ : تأول القوم عليه القرآن ووقعت الفرقة وقتلوه في سلطانه وليس على ضربهم قود . فخصم عليٌّ معاوية . فقال معاوية : إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ، ولا ممن هاهنا معنا .
فقال علي : إنما الناس تبع المهاجرين والأنصار ، وهم شهود المسلمين في البلاد على ولايتهم وأمر دينهم ، فرضوا بي وبايعوني ، ولست أستحل أن أدع معاوية يحكم على الأمة ، ويركبهم ويشق عصاهم .
فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك فقال : ليس كما يقول ، فما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار ، لم يدخلوا في هذا الأمر فيؤامروه !
فانصرفوا إلى علي فقالوا له ذلك وأخبروه ، فقال علي : ويحكم هذا للبدريين دون الصحابة ، ليس في الأرض بدري إلا قد بايعني وهو معي ، أو قد أقام ورضي ، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم !
فتراسلوا ثلاثة أشهر ، ربيعاً الآخر وجماديين فيفزعون الفزعة فيما بين ذلك ، فيزحف بعضهم إلى بعض ، وتحجز القراء بينهم . ففزعوا في ثلاثة أشهرخمسة وثمانين فزعة ، كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض ، ويحجز القراء بينهم ،
ولا يكون بينهم قتال .
أقول : هذه الفقرة الأخيرة عن وقت الحرب ومدتها ، من كذب الرواة وخطئهم في التواريخ ، فلا يصح أن يكون ذلك في ربيع لأن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تحرك من الكوفة لخمس من شوال ، ووصل إلى صفين في ذي الحجة ، وانتظروا انقضاء محرم من السنة التالية ، وكانت المعركة أول صفر سنة 37 ومدتها نحو أسبوعين .
وقد يقال جاء القراء قبل صفين ، لكن قوله إن عامر بن عبد القيس كان في بعض تلك السواحل ، يدل على أن مجيئهم كان في صفين .
--------------------------- 324 ---------------------------
وتدلك الرواية على سذاجة القراء وضعف وعيهم الإسلامي ، بل وعيهم العام !
وقالوا أرسل معاوية أباأمامة وأباهريرة وأباالدرداء
قال نصر / 190 : ( وخرج أبو أمامة الباهلي ، وأبو الدرداء ، فدخلا على معاوية وكانا معه فقالا : يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل ، فوالله لهوأقدم منك سلماً وأحق بهذا الأمر منك ، وأقرب من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعلام تقاتله ؟ فقال : أقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته ، فقولوا له فليقدنا من قتلته ، فأنا أول من بايعه من أهل الشام . فانطلقوا إلى علي فأخبروه بقوله فقال : هم الذين ترون فخرج عشرون ألفاً أو أكثر مسربلين في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، فقالوا : كلنا قتله فإن شاءوا فليروموا ذلك منا .
فرجع أبو أمامة وأبو الدرداء ، فلم يشهدا شيئاً من القتال .
أقول : لا يصح قولهم عن أبي أمامة الباهلي ( رضي الله عنه ) ، لأنه كان ضد معاوية ! وقد ترجمنا له في : قراءة جديدة في الفتوحات الإسلامية ( 1 / 328 ) وقلنا إنه صحابي جليل وقائد ميداني شجاع ، طمس رواة الخلافة دوره لأنه شيعي ، وهو من قادة فتح فلسطين والشام والعراق . قال في الإستيعاب ( 4 / 1602 ) : « اسمه صُدَيُّ بنُ عجلان . . سكن أبو أمامة الباهلي مصر ، ثم انتقل منها إلى حمص فسكنها ومات بها ، وكان من المكثرين في الرواية عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأكثرحديثه عند الشاميين . توفي سنة إحدى وثمانين ، وهو آخر من مات بالشام من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قول بعضهم » .
وقال ابن قتيبة في المعارف / 309 : « أبو أمامة الباهلي شهد مع علي صفين ، ونزل بالشام ، وهو ممن يعد فيمن تأخر موته من الصحابة » .
وفي تاريخ دمشق : 24 / 56 : عاش أكثر من مئة سنة . وروى ابن سليمان ( 1 / 545 ) أنه : « دخل على معاوية فألطفه وأدناه ، ثم دعا بغداء فجعل يطعم أباأمامة بيده ، ثم أوسع رأسه ولحيته طيباً بيده ، ثم أمر له ببدرة دنانير فأتي بها فدفعها إليه ، ثم قال : يا أباأمامة سألتك بالله ، أنا خيرأم علي بن أبي طالب ! فقال أبو أمامة : والله لا كذبت ، ولو بغيرالله سألتني لصدقت ، فكيف وسألتني بالله ! عليٌّ والله خير منك وأكرم وأقدم هجرة ، وأقرب من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قرابة وأشد في المشركين نكاية ، وأعظم على المسلمين منة ،
--------------------------- 325 ---------------------------
وأعظم غَنَاءً عن الأمة منك ! يا معاوية أتدري ويلك مَن علي ابن عم رسول الله وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين ، وأبو الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وابن أخي حمزة سيد الشهداء ، وأخو جعفر ذي الجناحين الطيار مع الملائكة في الجنة ، فأين تقع أنت من هذا ! يا معاوية ، أوَظننت أني سأخيِّرُك على علي بإلطافك وإطعامك ومالك ، فأدخل إليك مؤمناً وأخرج عنك كافراً ! بئس ماسوَّلت لك نفسك يا معاوية ! ثم نفض ثوبه وخرج من عنده . قال : فأتبعه معاوية بالمال فقال : والله لا أرزأ منه ديناراً أبداً » .
وروى المفيد في أماليه / 90 : « عن ابن حوشب قال : سمعت أباأمامة يقول : والله لايمنعني مكان معاوية أن أقول الحق في علي : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : عليٌّ أفضلكم ، وفي الدين أفقهكم ، وبسنتي أبصركم ، ولكتاب الله أقرؤكم . اللهم إني أحب علياً فأحبَّه ، اللهم إني أحب علياً فأحبه » .
وروى عنه الحاكم في شواهد التنزيل ( 2 / 203 ) : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله خلق الأنبياء من أشجار شتى وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة ، فأنا أصلها وعلي فرعها ، والحسن والحسين ثمارها ، وأشياعنا أوراقها ، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا ، ومن زاغ هوى .
ولو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام حتى يصير كالشن البالي ، ثم لم يدرك محبتنا أكبه الله على منخريه في النار » .
وأحاديث أبي أمامة في فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) ووجوب اتباعهم كثيرة ، أهملها رواة السلطة كما أهملوا جهاده في فتوح بلاد الشام وفلسطين ومصر .
وقد أفلت بعضها لأنه لم يفهمه الرواة والحمد لله ، كحديث لعن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من استبدل بأهل بيته غيرهم وتولى غير مواليه ! وهذه اللعنة عقوبة تتناسب مع شهدة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على الأمة ، وقد جاءت بصيغة قرار من الله تعالى بلعن أولئك ، وطردهم من الرحمة الإلهية . قال الترمذي ( 3 / 293 ) : « عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله يقول في خطبته عام حجة الوداع . . . ومن ادعى إلى غير أبيه ، أو انتمى
--------------------------- 326 ---------------------------
إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة » .
وفي سيرة ابن هشام ( 4 / 1024 ) : « ومن ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً » . والبخاري
في صحيحه : 2 / 221 ، و 4 / 67 وأحمد : 4 / 187 و 239 ، والدارمي : 2 / 244 و 344 .
ومقصوده ( ( عليهما السلام ) ) : أبوته المعنوية للأمة ، وولايته وأهل بيته ( عليهم السلام ) . وقد فسرته بذلك أحاديث . ( بحار الأنوار : 37 / 123 ، وبشارة الإسلام ، والعمدة / 344 ) . وليس مقصوده ( ( عليهما السلام ) )
أبُوَّة النسب ولا ولاء المالك لعبده ، لأن من ادعى أنه ابنٌ لرجل غير أبيه أو عبدٌ لمالك غير سيده ، لا يكفر ، بل هو عاص وتقبل توبته ، بينما هذا كافرٌ لاتقبل توبته بحال !
وقد استوفينا ترجمة أبي أمامة في قراءة في الفتوحات ، وأوردنا أحاديث صريحة له في فريضة اتباع أئمة العترة ( عليهم السلام ) . ولعلهم ذكروا أنه كان مع معاوية ، لأن عشيرته باهلة كانت مع معاوية وكانت تبغض علياً ( عليه السلام ) .
أبو الدرداء رجل ضعيف كأبي هريرة
كان أبو الدرداء وأبو ذر وغيرهما من الصحابة ، ينكرون على معاوية أنه يتصرف في بيت المال على أنه ملك له ، ويأكل الربا ويستعمل أواني الذهب ، ويشرب الخمر ، ويلبس الحرير ، ويتاجر بالخمر والذهب .
روى الحاكم ( 3 / 355 ) : ( أن عبادة بن الصامت أنكر على معاوية أشياء ، ثم قال له :
لا أساكنك بأرض ! فرحل إلى المدينة ) !
وقال النووي ( 10 / 30 ) : ( قال له أبو الدرداء سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا فقال له معاوية : ما أرى بهذا بأساً ! فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية ! أخبره عن رسول الله ويخبرني عن رأيه ! لاأساكنك بأرض أنت بها )
وفي الإستيعاب ( 2 / 808 ) : ( فأغلظ له معاوية في القول ) أي لم يقبل منه وزجره ! لأن معاوية لا يعتقد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما يعتقده المسلمون و : مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى !
وقد ذكرت عامة المصادر أن أباالدرداء وأبا ذر وعبادة بن الصامت شكوا معاوية إلى عمر ثم إلى عثمان ، فلم يقبلا شكايتهم !
--------------------------- 327 ---------------------------
ومع ذلك ساكن أبو الدرداء معاوية ورضي أن يكون قاضياً عنده ! وكان يستعمله في أغراضه فبعثه ليخطب ليزيد أرينب بنت إسحاق بعد أن طلقها من زوجها ! ولهذا يقولون إن أباالدرداء عالم فريد ، وعابد ما عليه من مزيد !
قال الذهبي في سيره ( 2 / 335 ) : ( أبو الدرداء : عويمر بن زيد بن قيس . الإمام القدوة ، قاضي دمشق . حكيم هذه الأمة . وسيد القراء بدمشق ) .
وقال في تذكرة الحفاظ ( 1 / 25 ) : ( قال ابن أبي مليكة : سمعت يزيد بن معاوية يقول : إن أباالدرداء من الفقهاء العلماء ، الذين يشفون من الداء ) .
وقد عظمه الأمويون وجعلوا له الخدم والحشم ! ففي سير الذهبي ( 2 / 347 ) : ( رأيت أباالدرداء دخل مسجد النبي ومعه من الأتباع مثل السلطان : فمن سائل عن فريضة ، ومن سائل عن حساب ، وسائل عن حديث ) .
وكان معاوية أحياناً يذله ويحجبه عن الدخول عليه ! ففي عيون الأخبار ( 1 / 154 ) : ( حجب معاوية أباالدرداء ولم يأذن له فقال : من يَغش سُدد السلطان يُقم ويُقعد ، ومن صادف باباً عنه مغلقاً وجد إلى جانبه باب الله مفتوحاً ، إن دعا أجيب وإذا سأل أعطي ) ! يسلي بذلك يسلي نفسه عن المذلة !
ثم استعمله مع أبي هريرة وأرسلهما إلى علي ( عليه السلام ) ، ليأتوه بقتلة عثمان !
وتقدم ذلك في رسائله ( عليه السلام ) وفي الرسل بينه وبين معاوية .
وقال ابن الأعثم ( 3 / 61 ) : ( أقبل أبو هريرة وأبو الدرداء حتى دخلا على معاوية فقالا له : يا معاوية ! علام تقاتل علي بن أبي طالب وهو أحق بهذا الأمر منك لسابقته في الدين وفضيلته في الإسلام ، وهو رجل من المهاجرين الأولين السابقين ، وأنت رجل طليق وكان أبوك من الأحزاب ؟ فقال معاوية : إني لست أزعم أني أحق بهذا الأمر منه ، وإني لأعلم أن علياً لكما وصفتما ، ولكني أقاتله حتى يدفع إليَّ قتلة عثمان . . الخ . قال : فبقي أبو هريرة وأبو الدرداء متحيرين .
قال : فخرج أبو هريرة وأبو الدرداء من عسكر علي وهما يقولان : هذا الأمر لا يتم أبداً ، قال : وإذا بصائح يصيح بهما من ورائهما وهو يقول :
--------------------------- 328 ---------------------------
أيها الطالبان ثأر ابن عفا * ن وللقتل والقصاص رجال
إن تكونا أمرتما بدم القا * تل فالناس كلهم قتال
بل هم غامس بكف وأرض * عير شك ومذنب جدال
ذلك الحق ما أقول وللح * ق ضياء وغير ذاك ضلال
قال : ثم أقبل أبو هريرة وأبو الدرداء إلى معاوية فأخبراه بما سمعا من عسكر علي ،
ثم انصرفا إلى حمص ، وبها يومئذ عبد الرحمن بن غنم الأشعري صاحب معاذ بن جبل ، وهو الذي فقَّه أهل الشام بعد معاذ بن جبل فأخبراه بالقصة ، فقال لهما عبد الرحمن : العجب لكما ! تأتيان علياً وتطلبان منه قتلة عثمان وقد علمنا أن المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة حضوراً يوم قتل عثمان فما نصروه ولا دافعوا عنه ، وأنتما تعلمان أن من رضي بعلي خير ممن كرهه ، وأن من بايعه خير ممن لم يبايعه . ثم إنكما صرتما رسولين لرجل من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة ولاالشورى ، فسوءةٌ لكما ولما جئتما به !
ثم أنشأ سعيد بن الحارث الأزدي يقول :
لهف نفسي وللأمور بناء * لابن هند مزين الفحشاء
خدع الدوسي المغفل بالل * ه ودارت على أبي الدرداء
مشيا يسحبان جهلاً إلى الخد * عة أذيال سوءة سواء
مشيا للسراب في البلد الق * - فر غروراً والحية الصماء
قال شورى يريدها من علي * من أسميه من ذويِّ السخاء
أي شورى تريد بعد رضى النا * س علياً وبيعة الخلفاء
لم يقولوا بقتل قاتل عثما * ن ولا تسفك الدما بالدماء
فرأى غير ما رآه ابن هند * ليس والقول في الهوى بسواء
أسواءٌ مهاجرٌ وطليق * ليس في الدين بيعة الطلقاء ) .
أقول : يكفي هذا النص لتعرف أن أباالدرداء وأباهريرة كانا آلةً لمعاوية ، يستعملهما لأغراضه ، لأنهما يتقربان اليه طلباً لدنياه !
--------------------------- 329 ---------------------------
إعلان علي ( عليه السلام ) انتهاء الشهر الحرام وبداية الحرب
قال في الأخبارالطوال / 171 : ( فلما انسلخ المحرم بعث علي منادياً فنادى في عسكر معاوية عند غروب الشمس : إنا أمسكنا لتنصرم الأشهر الحرم وقد تصرمت ، وإنا ننبذ إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . فبات الفريقان يُكّتِّبون الكتائب وقد أوقدوا النيران في العسكرين ، فلما أصبحوا تزاحفوا ) .
وقال نصر / 202 : ( فلما انسلخ المحرم واستقبل صفر ، وذلك في سنة سبع وثلاثين ، بعث على نفراً من أصحابه حتى إذا كانوا من عسكرمعاوية حيث يسمعونهم الصوت ، قام مرثد بن الحارث الجشمي فنادى عند غروب الشمس : يا أهل الشام ، إن أمير المؤمنين وأصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقولون لكم : إنا والله ما كففنا عنكم شكاً في أمركم ولا بقياً عليكم ، وإنما كففنا عنكم لخروج المحرم ثم انسلخ . وإنا قد نبذنا إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين .
يا أهل الشام ، ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد استدمتكم واستأنيت بكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه ، واحتججت عليكم بكتاب الله ودعوتكم إليه فلم تتناهوا عن طغيان ، ولم تجيبوا إلى حق .
فتحاجز الناس وثاروا إلى أمرائهم . وخرج معاوية وعمرو يُكَتِّبَان الكتائب ويعبيان العساكر ، وأوقدوا النيران ، وجاءوا بالشموع . وبات عليٌّ ليلته كلها يعبي الناس ويُكتب الكتائب ويدور في الناس يحرضهم .
قال جندب الأزدي : إن علياً ( عليه السلام ) كان يأمرنا في كل موطن لقينا فيه معه عدواً فيقول : لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم ، فأنتم بحمد الله عز وجل على حجة وترككم إياهم حتى يبدؤكم حجة أخرى لكم .
فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل . فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً إلا بإذن ، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم ، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم
--------------------------- 330 ---------------------------
وصلحاءكم فإنهن ضعاف القوى والأنفس .
قال أبو صادق الحضرمي : سمعت علياً يحرض الناس في ثلاثة مواطن : يحرض الناس يوم صفين ، ويوم الجمل ، ويوم النهر ، يقول : عباد الله اتقوا الله وغضوا الأبصار واخفضوا الأصوات ، وأقلوا الكلام ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمناضلة والمبالدة والمعانقة والمكادمة والملازمة . إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . اللهم ألهمهم الصبر ، وأنزل عليهم النصر ، وأعظم لهم الأجر ) .
- *
--------------------------- 331 ---------------------------
الفصل الثامن والسبعون: معارك حرب صفين
عدد الجيشين وعدد القتلى
في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 363 ) : ( قال قتادة : قتلى يوم صفين ستون ألفاً . وقال ابن سيرين : سبعون ألفاً . وهو المذكور في أنساب الأشراف ، وضعوا على كل قتيل قصبة ، ثم عدوا القصب ) . ومثله الذهبي في العبر ( 1 / 38 ) .
وفي تاريخ خليفة / 146 : ( عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال : شهدنا مع علي ، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ، ثم رفعت المصاحف ودعوا إلى الصلح ، وافترقوا على سبعين ألف قتيل ، خمسة وأربعين ألفاً من أهل الشام ، وخمسة وعشرين ألفاً من أهل العراق ، ويقال : على ستين ألفاً ) .
وقال ابن الأعثم ( 2 / 110 ) : ( استشهد من أصحاب علي ( عليه السلام ) خمسة وعشرون ألفاً ، وقتل من أصحاب معاوية نحو خمسين ألفاً ، وسبب هذه الكثرة أن قادة جيش معاوية كان همهم نجاة أنفسهم ، فإذا حمي الوطيس فرُّوا وتركوا جنودهم ، فتكثر فيهم القتلى ) !
وقال ابن حاتم في الدر النظيم / 368 : ( ذكر عن يحيى بن معين أن عدة من قتل من أهل الشام وأهل العراق في مائة يوم وعشرة أيام ، مائة ألف وعشرة آلاف . من أهل الشام تسعون ألفاً ، ومن أهل العراق عشرون ألفاً .
ويحيى يذهب إلى أن عدد أهل الشام ممن حضرالحرب بصفين مائة وخمسون ألف مقاتل دون الخدم والأتباع ، وأهل العراق مائة وعشرون ألف مقاتل دون الخدم والأتباع ،
والله أعلم ) .
--------------------------- 332 ---------------------------
وقال المسعودي في المروج ( 2 / 392 ) : ( وقد تنوزع في مقدار من قتل من أهل الشام والعراق بصفين ، وذكر رأي ابن معين ثم قال : ونحن نذهب إلى أن عدد من حضر الحرب من أهل الشام بصفين أكثر مما قيل في هذا الباب ، وهو خمسون ومائة ألف مقاتل ، سوى الخدم والأتباع ، وعلى هذا يجب أن يكون مقدارالقوم جميعاً من قاتل منهم ومن لم يقاتل من الخدم وغيرهم ، ثلاث مائة ألف بل أكثر من ذلك ، لأن أقل من فيهم معه واحد يخدمه ، وفيهم من معه الخمسة والعشرة من الخدم والأتباع وأكثر . وأهل العراق كانوا في عشرين ومائة ألف مقاتل ، دون الأتباع والخدم .
وأما الهيثم بن عدي الطائي ، وغيره مثل الشرقي بن القطامي ، وأبي مخنف لوط بن يحيى ، فذكروا ما قدمنا وهو أن جملة من قتل من الفريقين جميعاً سبعون ألفاً ، من أهل الشام خمسة وأربعون الفاً ، ومن أهل العراق خمسة وعشرون الفاً ، فيهم خمسة وعشرون بَدْرياً . وإن العدَّ كان يقع بالتقصي والإحصاء للقتلى في كل وقعة ، وتحصيل هذا يتفاوت لأن في قتلى الفريقين من يُعْرَف ومن لا يعرف ، وفيهم من غرق وفيهم من قتل في البر ، فأكلته السباع فلم يدركهم الإحصاء ، وغيرذلك مما يعتور ما وصفنا ) .
وقال المسعودي ( 3 / 144 ) : ( وقتل بصفين سبعون ألفاً ، من أصحاب علي منهم خمسة وعشرون ألفاً ، منهم خمسة وعشرون بدرياً من الصحابة ، منهم عمار بن ياسر العنسي ، وكان حليفاً لبني مخزوم ، وقتل من أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفاً . وقيل في عدة من قتل بينهما دون ذلك وأكثر .
وكان المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام ، والوقائع بينهم تسعون وقعة . وبين وقعة صفين والتقاء الحكمين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص بدومة الجندل في شهر رمضان سنة وخمسة أشهروأربعة وعشرون يوماً ، وبين التقائهما وخروج على إلى الخوارج بالنهروان ، سنة وشهران ) .
أقول : المرجح عندي قول ابن معين والمسعودي في عدد القتلى ، لأن التحشيد طال ، وأصرَّ الطرفان على القتال ، وكل منهما يأمل الغلبة على الطرف الآخر .
لكن قولهم إن مدة المعركة 110 أيام ، لا يصح ، وكذا قولهم إن الحرب استمرت
--------------------------- 333 ---------------------------
في آخرها ثلاثة أيام بلياليها ، بل كانت من بعد ظهر الخميس إلى ظهر الجمعة .
كما أن الظاهر أن المسعودي أخطأ بسنة ، في تاريخ التحكيم والنهروان .
من شهد صفين مع علي ( عليه السلام ) من الصحابة رضياللهعنهم
قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 352 ) : ( وكان من شهد صفين مع علي من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلاً ، منهم سبعة عشر من المهاجرين ، وسبعون من الأنصار ، وشهد معه من الأنصار ممن بايع تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تسع مائة . وكان جميع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمان مائة ) .
وقال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ( 1 / 81 ) : ( وكان علي قد سار إلى صفين في تسعين الفاً ومعاوية في مائة وعشرين ألفاً ، فقتل من أهل العراق خمسة وعشرين الفاً منهم عمار بن ياسروهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت ، وقتل أويس القرني في آخرين ، وقتل من أهل بدر خمسة وعشرون .
وذكر الزبير بن بكار قال : شهد صفين مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من أهل بدر سبعة وثمانون رجلاً ، منهم سبعة عشر رجلاً من المهاجرين ، وسبعون من الأنصار ، وأما من باقي الصحابة فكان معه ألف وثمان مائة منهم تسعون رجلاً بايعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تحت الشجرة بيعة الرضوان . وقتل من أهل الشام سبعون ألفاً ) .
وقال الطوسي في الفهرس / 175 : ( عبيد الله بن أبي رافع ( رضي الله عنه ) ، كاتب أمير المؤمنين ( عليه السلام )
له كتاب : قضايا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وله كتاب تسمية من شهد مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الجمل وصفين والنهروان من الصحابة رضياللهعنهم ، رويناه بالإسناد عن الدوري ، عن أبي الحسين زيد بن محمد الكوفي ، عن أحمد بن موسى بن إسحاق ، قال : حدثنا صفوان بن مرد ، عن علي بن هاشم بن البريد ، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن عون بن عبيد الله ، عن أبيه ، وكان كاتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ) . ويظهرأن الكتاب كان موجوداً ، وقد ذكروا أن ابن حجر نقل عنه كثيراً . راجع الإصابة ( 4 / 326 ) .
كما ألف المؤرخ ابن السائب الكلبي : ( كتاب : من شهد صفين مع علي ( عليه السلام )
--------------------------- 334 ---------------------------
من الصحابة ، كتاب من شهد صفين مع علي ( عليه السلام ) من الأنصار ، كتاب من شهد صفين مع علي ( عليه السلام ) من البدريين ) . ( الذريعة : 22 / 229 ) .
كان عامة الأنصار مع علي ( عليه السلام ) وعامة قريش مع معاوية
كانت عامة الأنصار مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعامة قريش مع معاوية ، وكان مع معاوية شخصان من الأنصار فقط : مسلم بن مخلد ، وبشير بن النعمان ! قال له قيس بن سعد بن عبادة : ( أنظر هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك مسلمة بن مخلد ، والله ما أنتما بدريين ، ولا عقبيين ، ولا لكما في الإسلام سابقة ) . ( ابن الأعثم : 3 / 167 ) .
وكان مع علي ( عليه السلام ) من قريش خمسة من عيونهم ، فقد روى الكشي ( 1 / 281 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قريش خمسة نفر ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية . فأما الخمسة فمحمد بن أبي بكر رحمة الله عليه ، أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس . وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال . وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاله وهو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان : إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك . فقال له جعدة : لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك . ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، والخامس سِلْفُ أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة ، وهو صهر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبو الربيع ) .
وقد أحصى ابن حبيب في المحبر / 293 ، كل من شهد صفين مع معاوية من الصحابة فكانوا خمسة عشر : عمرو بن العاص وابنه عبد الله ، وزمل بن خشاف بن خديج العذري . وبُسر بن أبي أرطاة أحد بني عامر . وحبيب بن مسلمة الفهري . وصحار بن عباس العبدي ، وعقبة بن عامر الجهني . وخارجة ، والصمة بن قيس ، والحكم بن عمرو الغفاري ، وسمرة بن جندب الفزاري ، والمغيرة بن شعبة الثقفي ، ومعاوية بن خديج الكندي . والضحاك بن قيس الفهري ، وعدي بن عميرة بن فروة .
أقول : أبرزهم عمرو العاصي وستعرفه ، وقد حكموا بفسق بُسر بن أرطاة لإسرافه في القتل . ومثله مسلم بن عقبة الذي استباح المدينة ، وسموه مسرف بن عقبة ، وفات
ابن حبيب ذكره ، وهو صحابي !
--------------------------- 335 ---------------------------
مكابرة النواصب وابن تيمية
زعم ابن تيمية في منهاج السنة ( 6 / 236 ) بأن الصحابة لم يحضروا الجمل ولا صفين إلا أفراد ! وتشبث بقول ابن سيرين : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله عشرة آلاف ، فما حضرها منهم مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين .
ثم قال ابن تيمية : وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض ، ومحمد بن سيرين أورع الناس في منطقه ، ومراسيله من أصح المراسيل . وقال عبد الله : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا منصور بن عبد الرحمن قال : قال الشعبي :
لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله غير علي وعمار وطلحة والزبير ، فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب ) .
ثم ذكر ابن تيمية أنه لم يشهد صفين إلا خزيمة بن ثابت ، وأيده الخلال في كتابه ( السنة : 2 / 465 ) ومحمد بن عبد الوهاب في مسائله ( 1 / 169 ) .
ورد عليهم الذهبي بقوله : ( قلت : سبحان الله ، أما شهدها علي ! أما شهدها عمار ) . ( ميزان الإعتدال : 1 / 47 ) . لكنهم يناقضون أنفسهم عند ترجمتهم لصحابي فيقولون : قتل في حرب الجمل ، أو في صفين ، ولايستحون من التناقض ، لأن المهم عندهم الطعن في علي ( عليه السلام ) ، وتبرير فعل من حاربه .
مكابرة ثانية للنواصب وابن تيمية
ضاق النواصب ذرعاً بالحديث المتواتر الذي رواه البخاري في عمار ، وأنه تقتله الفئة الباغية : يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار !
فقال ابن بطال في شرح البخاري ( 2 / 98 ) : ( وقوله : يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، إنما يصح ذلك في الخوارج الذين بعث إليهم على عماراً ليدعوهم إلى الجماعة ، وليس يصح في أحد من الصحابة ، لأنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل ، لأنهم أصحاب رسول الله الذين أثنى الله عليهم وشهد لهم بالفضل ) !
--------------------------- 336 ---------------------------
ثم فسر ابن بطال ( 5 / 27 ) دعوتهم لعمار إلى النار بأن مشركي قريش دعوه إلى النار ، وفسر دعوته إياهم إلى الجنة بأنه دعا المشركين في مكة إلى الجنة وزعم أن المضارع يستعمل بمعنى الماضي ، فيدعوهم هنا بمعنى دعاهم !
وتبع ابن بطال في التحريف عامة شراح البخاري وغيرهم ! ومن لم يتابعه قال إنهم دعوه باجتهادهم إلى الجنة ، وإن كانوا مخطئين ، فلهم أجر واحد !
قال في عمدة القاري ( 4 / 209 ) : ( والجواب الصحيح في هذا أنهم كانوا مجتهدين ظانين أنهم يدعونه إلى الجنة ، وإن كان في نفس الأمر خلاف ذلك ، فلا لوم عليهم في اتباع ظنونهم ، فإن قلت : المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر ، فكيف الأمر هاهنا . قلت : الذي قلنا جواب إقناعي فلا يليق أن يُذكر في حق الصحابة خلاف ذلك ، لأن الله تعالى أثنى عليهم وشهد لهم بالفضل ، بقوله : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، قال المفسرون : هم أصحاب محمد ) . فهم عنده أعلى من المجتهد المخطئ ، أي معصومون !
مكابرة ثالثة للنواصب وابن تيمية
فقد روى الحاكم ( 3 / 122 ) وابن حبان والنسائي وغيرهم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ( إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر ، قال أبو بكر : أنا هو ؟ قال : لا . قال عمر : أنا هو ؟ قال : لا ، ولكن خاصف النعل يعني علياً ، فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه ، كأنه قد كان سمعه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) . وصححه بشرط الشيخين .
فكذَّب ابن تيمية هذا الحديث ، وكَذِب على علي ( عليه السلام ) جهاراً بأنه قال : ليس عندي نص وإنما هو رأيي واجتهادي ! وزعم أن علياً ندم ! ( منهاج السنة : 6 / 333 ) .
وزعم أن قتاله كان قتال فتنة بتأويل ، ليس واجباً ولا مستحباً . ولهذا كان من قعد عنه أفضل ممن قاتل معه ! ( منهاج السنة : 7 / 57 ، و 1 / 526 ) .
كما كذب ابن تيمية على علي ( عليه السلام ) جهاراً فقال بلا مصدر ( منهاج السنة : 6 / 209 ) : ( وكان يقول ليالي صفين : لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد بن مالك ، إن كان براً إن أجره لعظيم ، وإن كان إثماً إن خطره ليسير . وكان يقول : يا حسن يا حسن ما ظن
--------------------------- 337 ---------------------------
أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا ، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة ! ولما رجع من صفين تغير كلامه وكان يقول : لا تكرهوا إمارة معاوية ، فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تتطاير عن كواهلها . وقد روي هذا عن علي ( رضي الله عنه ) من وجهين أو ثلاثة . ولم يذكر مصدراً ولا سنداً ! ! وقال : وتواترت الآثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر ، ورؤيته اختلاف الناس وتفرقهم ، وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل ) ! ( وانظر منهاج السنة : 8 / 143 ) .
أقول : هكذا فعل به الهوى والمرض ، فألصق خيالاته بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ! ليثبت أنه أخطأ وندم ، وأن معاوية ليس إمام الفئة الباغية التي تدعو إلى النار !
مكابرة رابعة للنواصب وابن تيمية
وقد أظهر ابن تيمية بغضه لعلي ( عليه السلام ) وتجاهر بأنه ناصبي ، فحكم على علي بأنه غير عادل ، وأنه قاتل للدنيا والإمرة ، وقتل الناس ظلماً .
قال في منهاج سنته ( 4 / 389 و 2 / 202 ) : ( وأما الرافضي فإذا قدح في معاوية ( رضي الله عنه ) بأنه كان باغياً ظالماً قال له الناصبي : وعلي أيضاً كان باغياً ظالماً لما قاتل المسلمين على إمارته ، وبدأهم بالقتال وصال عليهم ، وسفك دماء الأمة بغير فائدة لهم لا في دينهم ولا في دنياهم ! علي إنما قاتل الناس على طاعته لا على طاعة الله !
قاتل الناس على إمارته وصال عليهم ، وهذا حال فرعون ، والله تعالى يقول :
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ للَّمُتَّقِينَ ) .
ولهذا حكم قضاة المذاهب على ابن تيمية بأنه ناصبي ، لأن المسلمين أجمعوا على أن مبغض علي ( عليه السلام ) ناصبي منافق ، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار !
ولئن سألته : أليس قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنه يقاتل على تأويل القرآن بعده ، وصححوا حديثه بشرط الشيخين ، فأين قتاله هذا ؟ لأجاب برد الحديث الصحيح !
ولو أفحمته بقبول علماء المذاهب له لقال : لو صح الحديث لطبقناه على قتاله الخوارج ، دون الجمل وصفين . وهو تحكمٌ كيفي ! وىكفي لتكذيب كلامه مواقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ورسائله إلى معاوية .
--------------------------- 338 ---------------------------
قيادات الجيشين وتنظيمهما
قال نصر / 204 : ( إن علياً ( عليه السلام ) ومعاوية عقدا الأولوية ، وأمَّرا الأمراء ، وكتَّبا الكتائب ، واستعمل عليٌّ على الخيل عمار بن ياسر ، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، ودفع اللواء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري ، وجعل على الميمنة الأشعث بن قيس ، وعلى الميسرة عبد الله بن العباس ، وجعل على رجالة الميمنة سليمان بن صرد الخزاعي ، وجعل على رجالة الميسرة الحارث بن مرة العبدي ، وجعل القلب مضر الكوفة والبصرة ، وجعل الميمنة اليمن ، وجعل الميسرة ربيعة .
وعقد ألوية القبائل ، فأعطاها قوماً منهم بأعيانهم جعلهم رؤساءهم وأمراءهم ، وجعل على قريش وأسد وكنانة عبد الله بن عباس . وعلى كندة حجر بن عدي . وعلى بكر البصرة حضين بن المنذر . وعلى تميم البصرة الأحنف بن قيس . وعلى خزاعة عمرو بن الحمق . وعلى بكر الكوفة نعيم بن هبيرة . وعلى سعد ورباب البصرة جارية بن قدامة السعدي . وعلى بجيلة رفاعة بن شداد . وعلى ذهل الكوفة يزيد بن رويم الشيباني . وعلى عمرو وحنظلة البصرة أعين بن ضبيعة . وعلى قضاعة وطيئ عدي بن حاتم . وعلى لهازم الكوفة عبد الله بن حجل العجلي . وعلى تميم الكوفة عمير بن عطارد . وعلى الأزد واليمن جندب بن زهير . وعلى ذهل البصرة خالد بن المعمر السدوسي . وعلى عمرو وحنظلة الكوفة شبث بن ربعي . وعلى همدان سعيد بن قيس . وعلى لهازم البصرة حريث بن جابر الحنفي . وعلى سعد ورباب الكوفة الطفيل أباصريمة . وعلى مذحج الأشتر بن الحارث النخعي . وعلى عبد القيس الكوفة صعصعة بن صوحان . وعلى قيس الكوفة عبد الله بن الطفيل البكائي . وعلى عبد القيس البصرة عمرو بن حنظلة . وعلى قريش البصرة الحارث بن نوفل الهاشمي . وعلى قيس البصرة قبيصة بن شداد الهلالي . وعلى اللفيف من القواصي القاسم بن حنظلة الجهني .
واستعمل معاوية على الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب . وعلى الرجالة مسلم بن عقبة المري . وعلى الميمنة عبد الله بن عمرو بن العاص . وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة القهري . وأعطى اللواء عبد الرحمن بن خالد بن الوليد . وعلى أهل دمشق وهم القلب
--------------------------- 339 ---------------------------
الضحاك بن قيس القهري . وعلى أهل حمص وهم الميمنة ذا الكلاع الحميري . وعلى أهل قنسرين وهم في الميمنة أيضاً زفر بن الحارث . وعلى أهل الأردن وهم الميسرة سفيان بن عمرو الأعور السلمي . وعلى أهل فلسطين وهم في الميسرة أيضاً مسلمة بن مخلد . وعلى رجالة أهل حمص حوشباً ذا ظليم . وعلى رجالة قيس طريف بن حابس الألهاني . وعلى رجالة أهل الأردن عبد الرحمن بن قيس القيني . وعلى رجالة أهل فلسطين الحارث بن خالد الأزدي . وعلى رجالة قيس دمشق همام بن قبيصة . وعلى قيس وإياد حمص بلال بن أبي هبيرة الأزدي وحاتم بن المعتمر الباهلي . وعلى رجالة الميمنة حابس بن سعد الطائي . وعلى قضاعة دمشق حسان بن بحدل الكلبي . وعلى قضاعة الأردن حبيش بن دلجة القيني . وعلى كنانة فلسطين شريكاً الكناني . وعلى مذحج الأردن المخارق بن الحارث الزبيدي . وعلى لخم وجذام فلسطين ناتل بن قيس الجذامي . وعلى همدان الأردن حمزة بن مالك الهمداني . وعلى خثعم اليمن حمل بن عبد الله الخثعمي . وعلى غسان الأردن يزيد بن الحارث . وعلى جميع القواصي القعقاع بن أبرهة الكلاعي ، وأصيب في المبارزة أول يوم ) .
وسيأتي أن الأشعث انهزم بالميمنة لمصلحة معاوية ، فتدارك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الأمر ، وعزل الأشعث ، وجعل الأشتر بدله .
مدة حرب صفين وعدد وقعاتها
خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من الكوفة قاصداً صفين في الرابع من شوال سنة ست وثلاثين ( وقعة صفين / 131 ) ووصل إلى صفين في الثامن والعشرين من ذي القعدة ( مروج الذهب : 2 / 377 ) . فأمضى في الطريق أربعاً وخمسين يوماً ، قطع فيها 733 كيلو متراً ، وقطع معاوية من دمشق إلى صفين 433 كيلو متراً .
وتحتاج المسافة التي قطعها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالجيش الذي معه ، إلى عشرين يوماً بمعدل أربعين كيلو متراً لكل يوم ، لكنه كان يتأخر في بعض البلدان يومين أو أياماً ، وأكثر ما تأخر في المدائن .
--------------------------- 340 ---------------------------
أما عدد الوقائع والمعارك في صفين فقال المسعودي ( 3 / 144 ) : ( كان المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام ، والوقائع بينهم تسعون وقعة ) .
وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 353 ) : ( وقد جرى بين العسكرين أربعون وقعة يغلبها أهل العراق . أولها يوم الأربعاء بين الأشتر وحبيب بن مسلمة . والثانية بين المرقال وأبي الأعور السلمي . والثالثة بين عمار وعمرو بن العاص . والرابعة بين ابن الحنفية وعبيد الله بن عمر . والخامسة بين عبد الله بن العباس والوليد بن عقبة . والسادسة بين سعد بن قيس وذي الكلاع . . إلى تمام الأربعين وقعة ، آخرها ليلة الهرير ) .
ولا يستقيم قولهم إن إقامة الجيشين في صفين مئة وعشرة أيام ، وعدد الوقائع تسعين ، إلا إذا قصدوا من أول حركة مقدمة الجيش التي أرسلها الإمام ( عليه السلام ) .
والظاهر أن الحرب استمرت اثني عشر يوماً فقط غير معركة الماء .
فقد بدأت يوم الأربعاء أول شهر صفر سنة 37 ، إلى ليلة الهرير ليلة الجمعة الثاني عشر من صفر ، وفي صبيحتها رفع معاوية المصاحف ، داعياً إلى التحكيم ! ثم كانت المداولات أربعة أيام ، ثم كتبت اتفاقية التحكيم في السابع عشر من صفر .
أما المعركة على الماء فكانت يوماً واحداً .
أحداث سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من بيعته إلى صفين
نذكر فيما يلي شريطاً لأحداث سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من أول خلافته حسب ما ذكره أكثر المؤرخين : فقد كانت بيعته ( عليه السلام ) بالخلافة يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة 35 ، وكان الزمن صيفاً في شهر حزيران . ( اليعقوبي : 2 / 176 ) .
وذلك بعد مقتل عثمان بستة أيام ، حيث قتل ثامن عشر ذي الحجة سنة 35 بعد أن حاصره الصحابة والتابعون في دار الخلافة نحو شهرين . ( الطبري : 3 / 411 ) .
وبعد خمسة أشهر من بيعته ( عليه السلام ) أشعلوا ضده حرب الجمل في البصرة ، وكانت سبعة أيام ، أولها يوم الخميس العاشر من جمادى الآخرة سنة 36 . ( التنبيه والإشراف للمسعودي / 255 ) .
وبعد معركة الجمل نقل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) العاصمة إلى الكوفة ، فوصل إليها يوم
--------------------------- 341 ---------------------------
الاثنين 12 رجب سنة 36 ، واستقر بها شهوراً .
ثم توجه إلى صفين في رابع شوال فوصلها في أواخر ذي القعدة .
وفي ذي الحجة كانت مناوشات وقتال بين مقدمات الجيشين ، ثم كانت معركة الماء الكبيرة . وبعدها ، تعمد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تأخيرالقتال لإتمام الحجة على
أهل الشام ، وتوعية أصحابه ورفع مستواهم ، حتى ضجرجيش الإمام وشَكَوْا له طول المقام وعدم إذنه لهم ببدء الحرب .
قال في شرح النهج ( 4 / 13 ) : ( لما ملك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الماء بصفين ثم سمح لأهل الشام بالمشاركة فيه والمساهمة رجاء أن يعطفوا إليه ، واستمالة لقلوبهم وإظهاراً للمَعْدلة وحسن السيرة فيهم ، مكث أياماً لا يرسل إلى معاوية ، ولا يأتيه من عند معاوية أحد ، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال ، وقالوا : يا أمير المؤمنين خلفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة ، وجئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطناً ! إئذن لنا في القتال فإن الناس قد قالوا ! قال لهم ( عليه السلام ) : ما قالوا ؟ فقال منهم قائل : إن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهيةً للموت ، وإن من الناس من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام ! فقال : ومتى كنتُ كارها للحرب قط ! إن من العجب حبي لها غلاماً ويفعاً ، وكراهيتي لها شيخاً بعد نفاد العمر وقرب الوقت ! وأما شكِّي في القوم ، فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة ! والله لقد ضربت هذا الأمر ظهراً وبطناً ، فما وجدت يسعني إلا القتال أو أن أعصي الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، ولكني أستأني بالقوم عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لي يوم خيبر : لأن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس ) .
ويؤيد ذلك أن الروايات التي ذكرت قتالاً في ذي الحجة لم تذكر غير القتال على الماء ،
وقد استغرقت أحداث الماء بضعة أيام ، وحربه يوماً واحدة .
وأصل مقولة أن ذا الحجة كان كله قتالاً ، قول نصر / 196 : ( فاقتتل الناس
ذا الحجة كله ، فلما مضى ذو الحجة تداعى الناس أن يكف بعضهم عن بعض إلى
--------------------------- 342 ---------------------------
أن ينقضي المحرم فكف الناس بعضهم عن بعض ) .
لكنه يقصد أن الحرب كانت بعض أيام ذي الحجة إلى تمام الشهر ، وكانت الهدنة في محرم ، وبدأت الحرب في يوم الأربعاء في أول يوم من صفر سنة 37 .
بعد الحملات المفردة كانت حملة شاملة
1 . قال الطبري ( 4 / 9 ) : ( فلما كان اليوم الخامس خرج عبد الله بن عباس والوليد بن عقبة فاقتتلوا قتالاً شديداً ، ودنا ابن عباس من الوليد بن عقبة فأخذ الوليد يسب بني عبد المطلب ، وأخذ يقول : يا ابن عباس قطعتم أرحامكم وقتلتم إمامكم ، فكيف رأيتم الله صنع بكم ، لم تعطوا ما طلبتم ولم تدركوا ما أملتم ، والله إن شاء الله مهلككم وناصرعليكم . فأرسل إليه ابن عباس : أن أبرز لي ، فأبى . وقاتل ابن عباس يومئذ قتالاً شديداً .
ثم خرج قيس بن سعد الأنصاري وابن ذي الكلاع الحميري ، فاقتلوا قتالاً شديداً ثم انصرفا ، وذلك اليوم السادس .
ثم خرج الأشتر ، وحبيب بن مسلمة اليوم السابع فاقتتلا قتالاً شديداً ، ثم انصرفا عند الظهر وكل غير غالب ، وذلك يوم الثلاثاء .
قال أبو مخنف : إن علياً ( عليه السلام ) قال : حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا . فقام في الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العصرفقال :
الحمد لله الذي لا يُبرم ما نقض ، وما أبرم لاينقضه الناقضون . لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه ، ولا تنازعت الأمة في شئ من أمره ، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله . وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار فلفَّت بيننا في هذا المكان ، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع ، فلو شاء عجل النقمة وكان منه التغيير ، حتى يكذب الله الظالم ويعلم الحق أين مصيره . ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار ، لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى .
ألا إنكم لاقوا القوم غداً فأطيلوا الليلة القيام وأكثروا تلاوة القرآن ، وسلوا الله عز وجل النصر والصبر ، وألقوهم بالجد والحزم ، وكونوا صادقين . ثم انصرف .
فعبأ الناس ليلته كلها حتى إذا أصبح زحف بالناس ، وخرج إليه معاوية في
--------------------------- 343 ---------------------------
أهل الشام فأخذ عليٌّ يقول : من هذه القبيلة ومن هذه القبيلة ، فنسبت له قبائل أهل الشام حتى إذا عرفهم ورأى مراكزهم قال للأزد : أكفوني الأزد ، وقال لخثعم أكفوني خثعم . وأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام ، إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى تكون بالشام ليس منهم بالعراق واحد ، مثل بجيلة لم يكن منهم بالشام إلا عدد قليل فصرفهم إلى لخم . ثم تناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً نهارهم كله ، ثم انصرفوا عند المساء وكل غيرغالب ) .
أقول : هدف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من جعل كل قبيلة مقابل أقاربها الشاميين أن تقل القتلى . لأن هذا القتال كقتال بني إسرائيل لعُبَّاد العجل في قوله تعالى :
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ !
ثم قال الطبري : حتى إذا كان غداة الخميس صلى عليٌّ بغلس ، فزحف إليهم فقال : اللهم رب السقف المرفوع المحفوظ المكفوف ، الذي جعلته مغيضاً لليل والنهار ، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ، ومنازل النجوم ، وجعلت سكانه سبطاً من الملائكة لا يسأمون العبادة . ورب هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام والهوام والأنعام ، وما لا يحصى مما لا يرى ومما يرى من خلقك العظيم . ورب الفلك التي تجري في البحر يما ينفع الناس ، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض . ورب البحر المسجور المحيط بالعالم ، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً وللخلق متاعاً . إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي وسددنا للحق ، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة ، واعصم بقية أصحابي من الفتنة .
وكان على ميمنته عبد الله بن بديل ، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس وقراء أهل العراق ، مع ثلاثة نفر مع عمار بن ياسر ، ومع قيس بن سعد ومع عبد الله بن بديل الخزاعي ، والناس على راياتهم ومراكزهم .
وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة ، فلم يزل يحوزه ويكشف خيله من الميسرة حتى اضطرهم إلى قبة معاوية عند الظهر ،
--------------------------- 344 ---------------------------
ثم إن الذين تبايعوا على الموت أقبلوا إلى معاوية ، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة . وقام ابن بديل في أصحابه فقال : ألا إن معاوية ادعى ما ليس أهله ، ونازع هذا الأمر ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، قد زين لهم الضلالة ، وزادهم رجساً إلى رجسهم ، وأنتم على نور من ربكم وبرهان مبين ، فقاتلوا الطغاة الجفاة ولا تخشوهم ، وقد قاتلناهم مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مرة وهذه ثانية ، والله ما هم في هذه بأتقى ولا أزكى ولا أرشد . فقاتل قتالاً شديداً هو وأصحابه .
ثم قال الطبري : إن علياً حَرَّضَ الناس يوم صفين فقال : إن الله عز وجل قد دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، وتشفي بكم على الخير : الإيمان بالله عز وجل وبرسوله ( ( عليهما السلام ) ) والجهاد في سبيل الله تعالى ذكره ، وجعل ثوابه مغفرة الذنب ، ومساكن طيبة في جنات عدن ، ثم أخبركم أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ، فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص ، وقدموا الدارع وأخروا الحاسر ، وعضوا على الأضراس ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام ، والتووا في أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة ، وغضوا الأبصار ، فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب ، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار .
راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم ، فإن المانع للذمار والصابر عند نزول الحقائق هم أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم ويكنفونها ، يضربون حفافيها خلفها وأمامها ، ولايضعونها .
أجزأ امرؤٌ وَقَذَ قرنه وحكَّم الله وآسى أخاه بنفسه ، ولم يكل قرنه إلى أخيه ، فيكسب بذلك لائمة ويأتي به دناءة ، وأنى لا يكون هذا هكذا وهذا يقاتل اثنين ، وهذا ممسك بيده يدخل قرنه على أخيه هارباً منه ، أو قائماً ينظر إليه ! من يفعل هذا يمقته الله عز وجل ، فلاتعرَّضوا لمقت الله سبحانه فإنما مردكم إلى الله .
قال الله عز من قائل لقوم : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَعُّونَ إِلا قَلِيلاً . وأيم الله لئن سلمتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة . استعينوا بالصدق والصبر ، فإنه بعد الصبر ينزل الله النصر ) .
--------------------------- 345 ---------------------------
2 . وقال البلاذري ( 2 / 305 ) : ( فلما كان اليوم الثامن عبأ عليٌّ الناس على ما كان رتبهم عليه ، وعبأ معاوية أهل الشام واقتتلوا قتالاً شديداً ، وجعل علي يقول لكل قبيلة من أهل الكوفة : أكفوني قبيلتكم من أهل الشام .
ثم غدوا يوم الخميس فاقتتلوا أبرح قتال ، وانتهت الهزيمة إلى علي فقاتل مع الحسن والحسين ، وقتل زياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وانهزمت ميمنة علي ، ثم ثابوا فأهمت أهل الشام أنفسهم وكثر القتل والجراح فيهم ، وركب معاوية فرسه وجعل ينشد شعر ابن أطنابة الأنصاري ، وأمه الأطنابة بنت شهاب من بلقين :
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي .
3 . وقال الدينوري في الأخبار الطوال / 179 ملخصاً : ( كان أهل العراق وأهل الشام أيام صفين إذا انصرفوا من الحرب يدخل كل فريق منهم في الفريق الآخر فلا يعرض أحد لصاحبه ، وكانوا يطلبون قتلاهم ، فيخرجونهم من المعركة ويدفنونهم . قالوا : وإن علياً ( رضي الله عنه ) أشاع أنه يخرج إلى أهل الشام بجميع الناس ، فيقاتلهم حتى يحكم الله بينه وبينهم ، ففزع الناس لذلك فزعاً شديداً وقالوا : إنما كنا إلى اليوم تخرج الكتيبة إلى مثلها ، فيقتتلون بين الجمعين ، فإن التقينا بجميع الفيلقين فهو فناء العرب !
وقام عليٌّ في الناس خطيباً فقال : ألا إنكم ملاقوا القوم غدا بجميع الناس فأطيلوا الليلة القيام ، وأكثروا تلاوة القرآن ، وسلوا الله الصبر والعفو ، وألقوهم بالجد . فقال كعب بن جعيل :
أصبحت الأمة في أمر عجب * والملك مجموع غداً لمن غلب
أقول قولاً صادقاً غير كذب * أن غدا تهلك أعلام العرب
واجتمع أهل الشام إلى معاوية فعرضهم فنادى مناديه : أين الجند المقدم ؟ فخرج أهل حمص تحت راياتهم وعليهم أبوالأعور السلمي . ثم نادى : أين أهل الأردن ؟ فخرجوا تحت راياتهم وعليهم زفر بن الحارث الكلابي .
--------------------------- 346 ---------------------------
ثم نادى : أين جند الأمير ؟ فجاء أهل دمشق تحت راياتهم وعليهم الضحاك بن قيس فأطافوا بمعاوية ، فعقد لعمرو بن العاص على جميع الناس ، وساروا حتى وقفوا بإزاء أهل العراق . وقعد معاوية على منبر ينظر منه فوق رابية إلى الفريقين إذا اقتتلوا ، وأقبلت عك الشام ، وقد عصبوا أنفسهم بالعمائم ، وطرحوا بين أيديهم حجراً ، وقالوا : لا نولي الدبرأو يولي معنا هذا الحجر [ الحكر ] فصفهم عمرو خمسة صفوف ووقف أمامهم يرتجز :
يا أيها الجيش الصليب الإيمان * قوموا قياماً فاستعينوا الرحمن
إني أتاني خبر فأبكان * إن علياً قتل ابن عفان
ردوا علينا شيخنا كما كان
وأنشأ رجل من أهل الشام يقول :
تبكي الكتيبة يوم جر حديدها * يوم الوغى جزعاً على عثمانا
يسلون حق الله لا يعدونه * وسألتم لعلي السلطانا
فأتوا ببينة بما تسلونه * هذا البيان ، فأحضروا البرهانا
ولما أصبح علي ( رضي الله عنه ) غلس بصلاة الفجر ، ثم أمرأصحابه فخرجوا تحت راياتهم ، ثم جعل يدور على رايات أهل الشام ، فيقول : من هؤلاء ؟ فيسمون له ، حتى إذا عرفهم وعرف مراكزهم ، قال لأزد الكوفة : أكفوني أزد الشام ، وقال لخثعم : أكفوني خثعم ، فأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام ، ثم أمرهم أن يحملوا من كل ناحية حملة رجل واحد فحملوا ، وحمل علي ( رضي الله عنه ) على الجمع الذي كان فيه معاوية في أهل الحجاز من قريش والأنصار وغيرهم ، وكانوا زهاء اثني عشر ألف فارس وعليٌّ أمامهم ، وكبروا وكبرالناس تكبيرة ارتجت لها الأرض ، فانتقضت صفوف أهل الشام ، واختلفت راياتهم ، وانتهوا إلى معاوية وهو جالس على منبره معه عمرو العاص ينظران إلى الناس فدعا بفرس ليركبه .
ثم إن أهل الشام تداعوا بعد جولتهم وثابوا ، ورجعوا على أهل العراق ، وصبر القوم بعضهم لبعض إلى أن حجز بينهم الليل ، فقتل في ذلك اليوم أناس كثير من أعلام
--------------------------- 347 ---------------------------
العرب وأشرافهم ، فلما أصبحوا دخل الناس بعضهم في بعض ، يستخرجون قتلاهم ، فيدفنونهم يومهم ذلك كله ) .
- *
انهزم الأشعث بميمنة جيش علي ( عليه السلام ) لمصلحة معاوية
1 . كان الأشعث رأس المنافقين في أصحاب علي ( عليه السلام ) لكنه كان مأموراً بتحمله !
بأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لقاعدة : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيراً ، وقاعدة : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ .
فكما أن هداية النبي والوصي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ضرورة ، فإضلال أعدائهما المجرمين ضرورة !
وقد نص المؤرخون على اتصال الأشعث بمعاوية منذ عزله علي ( عليه السلام ) عن ولاية حلوان . وكان ينسق معه العمل ضد علي ( عليه السلام ) ، ولم يخالفه إلا في معركة الماء .
قال البلاذري ( 2 / 297 ) : ( فحاسبه على مالها ومال آذربيجان فغضب الأشعث وكاتَبَ معاوية ) . وقال البلاذري ( 2 / 383 ) : ( كاتب وجوه من معه مثل الأشعث بن قيس وغيره ، ووعدهم ومنَّاهم وبذل لهم حتى مالوا إليه . . فكان معاوية يقول : لقد حاربت علياً بعد صفين بغير جيش ولا عناء ) .
وقد جعلنا الفصل الثاني والسبعين لترجمة الأشعث ، رأس النفاق في أصحاب علي ( عليه السلام ) ، وشريك ابن ملجم في قتله ، وقد عزله الإمام ( عليه السلام ) عن رئاسة كندة ،
لكنه بقي صاحب نفوذ واسع على اليمانيين ، فجعله قائد ميمنة جيشه ، حتى ظهرت منه الخيانة وأوقع هزيمة بجيش علي ( عليه السلام ) لمصلحة معاوية ، فاستدركها علي ( عليه السلام ) وعزله ، وأعطى قيادة الميمنة للأشتر ( رضي الله عنه ) ، كما نص ابن كثير في النهاية ( 7 / 301 ) . ولم تقع في جيش علي ( عليه السلام ) هزيمة غيرها ، ولا بد أن الأشعث اتفق مع معاوية على الهزيمة لعلها تعم جيش علي ( عليه السلام ) وينتصرمعاوية !
--------------------------- 348 ---------------------------
2 . قال نصر / 204 : ( دفع اللواء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وجعل على الميمنة الأشعث بن قيس ، وعلى الميسرة عبد الله بن العباس ) .
فهذا ترتيب جيش الإمام ( عليه السلام ) قبل انهزام الأشعث وخيانته !
قال ابن قتيبة في الأخبار الطوال / 182 : ( وحمل الفريقان بعضهم على بعض ،
وحمل حبيب بن مسلمة وكان على ميسرة معاوية ، على ميمنة علي فانكشفوا
( أي انهزموا ) وجالوا جولة ، ونظر علي إلى ذلك فقال لسهل بن حنيف : إنهض فيمن معك من أهل الحجاز حتى تعين أهل الميمنة ، فمضى سهل فيمن كان معه من أهل الحجاز نحو الميمنة ، فاستقبلهم جموع أهل الشام ، فكشفوه ومن معه حتى انتهوا إلى علي وهو في القلب ، فجال القلب وفيه عليٌّ جولة فلم يبق مع عليٍّ إلا أهل الحفاظ والنجدة ، فحث فرسه نحو ميسرته ، وهم وقوف يقاتلون من بإزائهم من أهل الشام ، وكانوا ربيعة .
قال زيد بن وهب : فإني لأنظر إلى علي ، وهو يمر نحو ربيعة ومعه بنوه الحسن والحسين ومحمد ، وإن النبل ليمر بين أذنيه وعاتقه وبنوه يقونه بأنفسهم ، فلما دنا علي من الميسرة وفيها الأشتر ، وقد وقفوا في وجوه أهل الشام يجالدونهم ، فناداه علي وقال : إيتِ هؤلاء المنهزمين فقل : أين فراركم من الموت الذي لم تعجزوه ، إلى الحياة التي لا تبقى لكم .
فدفع الأشتر فرسه فعارض المنهزمين فناداهم : أيها الناس ، إليَّ إليَّ ، أنا مالك بن الحارث فلم يلتفتوا إليه فظن أنه بالأشتر أعرف ، فقال : أيها الناس أنا الأشتر ! فثابوا إليه فزحف بهم نحو ميسرة أهل الشام ، فقاتل بهم قتالاً شديداً حتى انكشف أهل الشام ، وعادوا إلى مواقفهم الأولى .
ورتَّبَ الأشتر ميمنة عليٍّ والقلب مراتبهما قبل الجولة ، فلما عادوا إلى مواقفهم جعل على يسير في الصفوف ويؤنبهم على ما كان من جولتهم ، وذلك ما بين صلاة العصر والمغرب .
قال : ثم إن أهل الشام حملوا على تميم وكانوا في الميمنة فكشفوهم ، فناداهم زحر بن نهشل : يا بني تميم ، إلى أين ؟ قالوا : ألا ترى إلى ما قد غشينا !
--------------------------- 349 ---------------------------
فقال : ويحكم أفراراً واعتذاراً ! إن لم تقاتلوا على الدين ، فقاتلوا على الأحساب . احملوا معي فحمل وحملوا فقاتل حتى قتل وهوأمامهم ، وحمل الناس جميعاً بعضهم على بعض ، واقتتلوا حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف ثم تكادموا بالأفواه وتحاثوا بالتراب ، ثم تنادوا من كل جانب : يا معشر العرب من للنساء والأولاد ، الله الله في الحرمات . وإن علياً لينغمس في القوم فيضرب بسيفه حتى ينثني ، ثم يخرج متخضباً بالدم حتى يُسَوَّى له سيفه ثم يرجع فينغمس فيهم ، وربيعة لا تترك جهداً في القتال معه والصبر .
وغابت الشمس وقربوا من معاوية فقال لعمرو : ما ترى ؟ قال : أن تخلي سرادقك ، فنزل معاوية عن المنبر الذي كان يكون عليه وأخلى السرادق ، وأقبلت ربيعة وأمامها علي حتى غَشُوا السرادق فقطعوه ثم انصرفوا ، وبات علي تلك الليلة في ربيعة ) .
3 . وقال الطبري ( 4 / 13 ) ونصر / 251 : ( لما انهزمت ميمنة أهل العراق أقبل عليٌّ يركض نحو الميسرة ، يستثيب الناس ويستوقفهم ، ويأمرهم بالرجوع نحو الفزع ، حتى مر بالأشتر فقال له . . إلى أن قال : فقال الأشتر : أيها الناس ، غضوا الأبصار وعضوا على النواجذ ، واستقبلوا القوم بهامكم ، ثم شدوا شدة قوم موتورين بآبائهم وأبنائهم وإخوانهم ، حنقاً على عدوهم ، وقد وطنوا على الموت أنفسهم ، كي لايسبقوا بثأر .
إن هؤلاء والله لن يقارعوكم إلا عن دينكم ، ليطفئوا السنة ويحيوا البدعة ، ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة . فطيبوا عباد الله نفساً بدمائكم دون دينكم ، فإن الفرار فيه سلب العز ، والغلبة على الفيئ ، وذل المحيا والممات ، وعار الدنيا والآخرة ، وسخط الله وأليم عقابه .
ثم قال : أيها الناس ، أخلصوا إليَّ مذحجاً ، فاجتمعت إليه مذحج فقال لهم : عضضتم بصم الجندل ! والله ما أرضيتم اليوم ربكم ، ولا نصحتم له في عدوه ، فكيف بذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات ، وفتيان الصباح ، وفرسان الطراد
--------------------------- 350 ---------------------------
وحتوف الأقران ومذحج الطعان ، الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطل دماؤهم ، ولا يعرفون في موطن من المواطن بخسف ، وأنتم أحدُّ أهل مصركم ، وأعدُّ حي في قومكم !
وما تفعلوا في في هذا اليوم فإنه مأثور بعد اليوم ، فاتقوا مأثور الحديث في غد ، واصدقوا عدوكم اللقاء ، فإن الله مع الصابرين .
والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء ، وأشار بيده إلى أهل الشام ، رجل على مثل جناح بعوضة من دين الله ، والله ما أحسنتم اليوم القراع . أٌجْلوا سواد وجهي يرجع في وجهي دمي . عليكم بهذا السواد الأعظم ، فإن الله لو فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع السيل مقدمه .
قالوا : خذ بنا حيث أحببت ! فصمد بهم نحو عظمهم مما نحو الميمنة ، وأخذ يزحف إليهم الأشتر ويردهم ، ويستقبله شباب من همدان وكانوا ثماني مائة مقاتل يومئذ وقد انهزموا آخر الناس ، وكانوا قد صبروا في ميمنة علي حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل ، وقتل منهم أحد عشر رئيساً ، كلما قتل منهم رجل أخذ الراية آخر . فكان أولهم كريب بن شريح ، وشرحبيل بن شريح ، ومرثد بن شريح ، وهبيرة بن شريح ، ثم يريم بن شريح ، ثم شمر بن شريح ، قتل هؤلاء الإخوة الستة جميعاً ! ثم أخذ الراية سفيان بن زيد ، ثم عبد بن زياد ، ثم كرب بن زيد ، فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة جميعاً ! ثم أخذ الراية عمير بن بشر ، والحارث بن بشر ، فقتلا .
ثم أخذ الراية وهب بن كريب أبوالقلوص ، فأراد أن يستقبل فقال له رجل من قومه : انصرف يرحمك الله بهذه الراية ترحها الله من راية ، فقد قتل أشراف قومك حولها ، فلا تقتل نفسك ولا من بقي ممن معك ! فانصرفوا وهم يقولون : ليت لنا عديداً من العرب يحالفوننا ، ثم نستقدم نحن وهم ، فلا ننصرف حتى نقتل أو نظهر . فمروا بالأشتر وهم يقولون هذا القول فقال لهم الأشتر : إليَّ ، أنا أحالفكم وأعاقدكم على أن لا نرجع أبداً حتى نظهر أو نهلك . فوقفوا معه على هذه النية والعزيمة ، وزحف الأشتر نحو الميمنة ، وثاب إليه أناس تراجعوا من أهل البصيرة والحياء والوفاء ، فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها ، ولا لجمع إلا حازه ورده .
--------------------------- 351 ---------------------------
عن الحر بن الصياح النخعي : أن الأشتر كان يومئذ يقاتل على فرس له ، في يده صفيحة يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء منصباً ، فإذا رفعها كاد يغشي البصر شعاعها ، ويضرب بسيفه قدماً وهو يقول : الغمرات ثم ينجلينا ! قال : فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر مقنع في الحديد فلم يعرفه فدنا منه وقال له : جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين خيراً ، فعرفه الأشتر فقال : يا ابن جمهان أمثلك يتخلف اليوم عن مثل موطني هذا الذي أنا فيه ؟ فتأمله ابن جمهان فعرفه ، وكان الأشتر من أعظم الرجال وأطوله ، إلا أن في لحمه خفة قليلة قال : جعلت فدك ، لا والله ما علمت مكانك حتى الساعة ، ولا أفارقك حتى أموت !
عن زيد بن وهب : أن علياً لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها ومصافها وكشف من بإزائها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم ، أقبل حتى انتهى إليهم فقال : إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم ، يحوزكم الجفاة الطغام وأعراب أهل الشام ، وأنتم لهاميم العرب ، والسنام الأعظم ، وعمار الليل بتلاوة القرآن ، وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون . فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد انحيازكم ، وجب عليكم ما وجب على المُولي يوم الزحف دبره ، وكنتم فيما أرى من الهالكين !
ولقد هون عليَّ بعض وجدي ، وشفى بعض أحاح نفسي أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم ، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم ، تحوزونهم بالسيوف ليركب أولهم آخرهم ، كالإبل المطردة الهيم . فالآن فاصبروا ، أنزلت عليكم السكينة ، وثبتكم الله باليقين . وليعلم المنهزم أنه مسخط لربه وموبق نفسه ، وفي الفرار موجدة الله عليه ، والذل اللازم ، والعار الباقي ، واعتصار الفيئ من يده ، وفساد العيش ، وإن الفار لا يزيد الفرار في عمره ، ولا يرضي ربه . فموت الرجل محقاً قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها والإقرار عليها ) .
وفي جواهر المطالب للباعوني الشافعي ( 1 / 326 ) أن خطبته هذه ( عليه السلام ) كانت وهو راكب على بغلة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 352 ---------------------------
4 . وقال الخوارزمي في المناقب / 229 : ( ورويَ أن في اليوم العاشرمن حروب صفين اقتتل الناس قتالاً شديداً حتى عانق الرجال الرجال ، وانهزم طائفة من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأمير المؤمنين واقف ينظر إليهم وركض الأشتر في آثارهم يستردهم ويقول أما تستحيون ؟ تدعون أمير المؤمنين وسيد المسلمين ! وأقبل أمير المؤمنين ومعه الحسن والحسين ومحمد ابنه ومحمد بن أبي بكر وعبد الله بن جعفر حتى صار إلى رايات ربيعة والنبل يقع عليه ، فقال له ابنه محمد : يا أبه لو بادرت إلى هذه الرايات فإن فيها بقية وهذا النبل كما ترى ؟ فقال : يا بني إن لأبيك يوماً لن يعدوه ، ثم صاح بصوت عالٍ جهير كغير المكترث بما فيه الناس : لمن هذه الرايات ؟ قالوا : رايات ربيعة ، قال : بل هي رايات الله عصم الله أهلها وثبت أقدامهم وكانت في ميسرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فجلس إليهم فثاروا إليه وقالوا هذا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد صار إلينا والله لئن أصيب فينا إنه لعار الأبد ! ثم قال للحصين بن المنذر وهو شاب : يا فتى ألا تدنى رأيتك هذه ذراعاً ، فقال أدنيها والله عشرة أذرع فأدنيتها فقال لي : حسبك مكانك ، ثم أنشأ الحصين بن المنذر يقول :
لمن راية حمراء يحقق ظلها * إذا قيل قدمها حصين تقدما
ويقحمها في الصف حتى يزيرها * حمام المنايا تقطر الموت والدما
تراه إذا ما كان يوم عظيمة * أبى فيه إلا عزة وتكرما
جزى الله قوماً صابروا في لقائهم * لدى البأس خيراً ما أعف وأحرما
وأكرم صبرا حين يدعى إلى الوغى * إذا كان أصوات الرجال تغمغما
ربيعة أعني أنهم أهل نجدة * وبأس إذا لاقوا خميساً عرمرما
ونادت جذام آل مذحج ويحكم * جزى الله شراً أينا كان أظلما
أما تتقون الله في حرماتكم * وما قرب الرحمان منها وعظما
أذقنا ابن هند طعننا وضرابنا * بأسيافنا حتى تولى وأحجما
وانصرف الناس مع الأشتر وهم يعتذرون ، واقتتلوا واشتجر القتال فطحطحوا أهل الشام ، إلى أن حجز بينهم الليل ) .
--------------------------- 353 ---------------------------
استبسل عبد الله بن بديل وحمل على معاوية لقتله !
1 . قال نصر / 196 : ( وأقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدماً ، حتى أزال معاوية عن موقفه وجعل ينادى : يا ثارات عثمان ! وإنما يعني أخاً له قد قتل ، وظن معاوية وأصحابه أنه يعنص عثمان بن عفان ، وتراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيراً ، وأشفق على نفسه ! وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ، ويحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق ، فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو مائة إنسان من القراء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجج ابن بديل في الناس وصمم على قتل معاوية وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى إليه ، ومع معاوية عبد الله بن عامر ( بن كريزالأموي ) واقفاً فنادى معاوية في الناس : ويلكم ! الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح ! فرضخه الناس بالصخر والحجارة حتى أثخنوه فسقط ، فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه .
وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ، فأما عبد الله بن عامر
( بن كريز الأموي ) فألقى عمامته على وجهه وترحم عليه ، وكان له أخاً صديقاً من قبل ، فقال معاوية : إكشف عن وجهه ، فقال : لا والله لا يمثل به وفيَّ روح !
فقال معاوية : إكشف عن وجهه فإنا لانمثل به قد وهبناه لك ، فكشف ابن عامر عن وجهه فقال معاوية : هذا كبش القوم ورب الكعبة . اللهم أظفرني بالأشتر النخعي ! والله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
كليث هزبر كان يحمي ذماره * رمته المنايا قصدها فتقطنرا
ثم قال : إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلاً عن رجالها ، لفعلت ) .
2 . وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 358 ) : ( وأخذها عبد الله بن بديل مرتجزاً :
أضربكم ولا أرى معاوية * الأبرج العين العظيم الحاوية
هوت به في النار أم هاوية * جاوره فيها كلاب عاوية
--------------------------- 354 ---------------------------
فهجموا عليه فقتلوه ، فأخذها عمرو بن الحمق قائلاً :
جزى الله فينا عصبة أي عصبة * حسانَ وجوه صُرِّعوا حول هاشم
وقاتل أشد قتال ، فخرج ذو الظليم قائلاً :
أهل العراق ناسبوا وانتسبوا * أنا اليماني واسمي حوشب
من ذي الظليم أين أين المهرب
فبرز إليه سلمان بن صرد الخزاعي قائلاً :
يا أيها الحي الذي تذبذبا * لسنا نخاف ذا الظليم حوشبا
فحملت الأنصار حملة رجل واحد ، وقتلوا ذا الكلاع وذا الظليم ، وساروا إليهم وكاد يؤخذ معاوية ، فقال الأنصار :
معاوي ما أفلتَّ إلا بجرعة * من الموت حتى تحسب الشمس كوكبا
فان تفرحوا بابن البديل وهاشم * فإنا قتلنا ذا الكلاع وحوشبا ) .
3 . وقال ابن قتيبة في الأخبار الطوال / 175 : ( وخرج في يوم آخر عبد الله بن بديل الخزاعي ، وكان من أفاضل أصحاب علي في خيل من أهل العراق ، فخرج إليه أبوالأعور السلمي في مثل ذلك من أهل الشام ، فاقتتلوا هوياً من النهار ، فترك عبد الله أصحابه يعتركون في مجالهم وضرب فرسه حتى أحماه ، ثم أرسله على أهل الشام فشق جموعهم ، لايدنو منه أحد إلا ضربه بالسيف حتى انتهى إلى الرابية التي كان معاوية عليها ، فقام أصحاب معاوية دونه فقال معاوية : ويحكم إن الحديد لم يؤذن له في هذا ، فعليكم بالحجارة فرثَّ بالصخر حتى مات ، فأقبل معاوية حتى وقف عليه ، فقال : هذا كبش القوم . . إلى آخر كلام معاوية .
وقال الخوارزمي في المناقب / 226 : ( وضرب عبد الله بن بديل الخزاعي وهو من فرسان علي ( عليه السلام ) المشهورين المذكورين بسيفه في ذلك اليوم ، حتى قتل أحد عشر رجلاً ، وكان يمسح سيفه على عرف فرسه وهو يقول :
لاتحبطن يا إلهي أجرى * وعجلن يا رب لابن صخر
نار لظى لا يشترك في أمري * إن ينج مني ينقصم من ظهري
- ويا لها من غصة في صدري ) .
--------------------------- 355 ---------------------------
4 . قال الطبري ( 4 / 15 ) : ( زحف الأشتر نحو الميمنة وثاب إليه ناس تراجعوا من أهل الصبروالحياء والوفاء فأخذ لايصمد لكتيبة إلا كشفها . وانتهى إلى عبد الله بن بديل وهو في عصبة من القراء بين المائتين والثلاث مائة ، وقد لصقوا بالأرض كأنهم جُثاً فكشف عنهم أهل الشام ، فأبصروا إخوانهم قد دنوا منهم فقالوا : ما فعل أمير المؤمنين ؟ قالوا : حيٌّ صالح في الميسرة ، يقاتل الناس أمامه ، فقالوا : الحمد لله ، قد كنا ظننا أن قد هلك وهلكتم .
وقال عبد الله بن بديل لأصحابه : إستقدموا بنا ، فأرسل الأشتر إليه أن لا تفعل ، أثبت مع الناس فقاتل فإنه خير لهم وأبقى لك ولأصحابك ، فأبى ، فمضى كما هو نحو معاوية وحوله كأمثال الجبال ، وفي يده سيفان وقد خرج فهو أمام أصحابه ، فأخذ كلما دنا منه رجل ضربه فقتله حتى قتل سبعة
( وفي رواية أحد عشر ) ودنا من معاوية فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به وبطائفة من أصحابه ، فقاتل حتى قتل وقتل ناس من أصحابه ، ورجعت طائفة قد خرجوا منهزمين . فبعث الأشتر بن جمهان الجعفي فحمل على أهل الشام الذين يتبعون من نجا من أصحاب ابن بديل حتى نفسوا عنهم ، وانتهوا إلى الأشتر فقال لهم : ألم يكن رأيي لكم خير من رأيكم لأنفسكم ، ألم آمركم أن تثبتوا مع الناس ! ثم ذكر قول معاوية المتقدم .
5 . وقال الأعثم ( 3 / 174 ) والمناقب ( 2 / 363 ) : ( وبرز عدي بن حاتم وهو يقول :
أبعد عمار وبعد هاشم * وابن بديل فارس الملاحم
ترجو البقا من بعد يا ابن حاتم * فقد عضضنا أمس بالأباهم
فاليوم لايقرع سن نادم * لا بد أن نحمى حمى المحارم
ليس أمرؤٌ من يومه بسالم . * فما زال يقاتل حتى فقئت عينه .
6 . وقد شارك ابن بديل في حرب الجمل مع علي ( عليه السلام ) ، وكان ابنه أول شهيد .
قال المفيد في كتاب الجمل / 182 : ( ثم رُمِيَ ابن عبد الله بن بديل فقتل ، فحمله أبوه عبد الله ومعه عبد الله بن العباس حتى وضعناه بين يدي أمير المؤمنين فقال :
--------------------------- 356 ---------------------------
عبد الله بن بديل : حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلوننا رجلاً رجلاً ، قد والله أعذرت إن كنت تريد الإعذار .
قال محمد بن الحنفية : فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : رايتَك يا بني قدمها ، وبعث في الميمنة والميسرة ، ودعا بدرع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
7 . قال ابن حجر ( 13 / 48 ) : ( أخرج ابن أبي شيبة بسند جيد ( المصنف : 8 / 719 ) قال :
انتهى عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي إلى عائشة يوم الجمل وهي في الهودج فقال : يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلت : ما تأمريني ؟ فقلتِ : إلزم علياً ؟ فسكتَتْ ! فقال : أعقروا الجمل فعقروه ، فنزلت أنا وأخوها محمد فاحتملنا هودجها فوضعناه بين يدي علي ، فأمر بها فأدخلت منزل عبد الله بن بديل ، قال جعفر بن أبي المغيرة : وكانت عمتي عند عبد الله بن بديل ، فحدثتني عمتي أن عائشة قالت لها : أدخليني قالت : فأدخلتها وأتيتها بطشت وإبريق وأجفت عليها الباب ، قالت : فاطلعت عليها من خلل الباب وهي تعالج شيئاً في رأسها ، ما أدري شجة
أو رمية ) .
وهذا يدل على أنها نزلت أولاً في بيته بالبصرة ، ثم انتقلت إلى بيت ابن خلف .
8 . وكان ابن بديل قائداً في جيش علي ( عليه السلام ) فكتب اليه : ( وإياك ومواقعة أحد من خيل العدو حتى أتقدم عليك ، وأذكِ العيون نحوهم ، وليكن مع عيونك من السلاح ما يباشرون به القتال ، ولتكن عيونك الشجعان من جندك ، فإن الجبان لا يأتيك بصحة الأمر ، وانته إلى أمري ومن قبلك بإذن الله . والسلام ) .
وهذا يدل على شجاعته وإقدامه ، فكتب له ( عليه السلام ) بالأناة والتثبت .
9 . عبد الله بن بديل معرقٌ في الوفاء للنبي ( ( عليهما السلام ) ) لأن خزاعة بزعامة أبيه ورقاء حلفاء عبد المطلب في حلف المطيبين ، مقابل حلف بني عبد الدار المسمى : لعقة الدم ! وكانت خزاعة تسمى عيبة النصح لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال اليعقوبي ( 1 / 248 ) : ( ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر ، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا ، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال
--------------------------- 357 ---------------------------
عبد المطلب ، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم فقالوا : إمنعونا من بني عبد مناف ، فتطيب بنو عبد مناف وأسد وزهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر ، فسموا حلف المطيبين . فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا : من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا ! فأدخلت أيديها بنو سهم وبنو عبد الدار
وبنو جمح وبنو عدي وبنو مخزوم ، فسموا اللعقة . وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا ، ولا يسلم بعضهم بعضاً . وقالت اللعقة : قد اعتدنا لكل قبيلةٍ قبيلة ) !
وقد أمضى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هذا الحلف ، وأنجد خزاعة لما غدرت بها قريش بعد الحديبية ، فجاء اليه عمرو بن سالم الخزاعي ، فوقف عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو
في المسجد بين أصحابه ، وقال ( سيرة ابن هشام : 4 / 855 ) :
يا رب إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا * ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفاً وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجرى مزبدا * إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا * وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست ادعوا أحدا * وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا سجدا
فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نصرت يا عمرو بن سالم ) . - *
--------------------------- 358 ---------------------------
الفصل التاسع والسبعون: ذروة معارك صفين وليلة الهرير
المعركة المتصلة يوم الخميس وليلة الجمعة ويومها !
1 . قال البلاذري ( 2 / 318 ) : ( قال الواقدي في إسناده : كان القتال الشديد بصفين ثلاثة أيام ولياليهن ، آخرهن ليلة الهرير ) . ومثله ابن سعد ( 3 / 261 ) .
أقول : سميت ليلة الهرير لارتفاع أصوات المقاتلين وهرَّهم على بعضهم . وفي كلام الواقدي والبلاذري وابن سعد ومن تبعهم ، مسامحة ، لأن المعركة كانت من ضحى الخميس إلى ليلة الجمعة إلى يوم الجمعة إلى الظهر تقريباً ، فهي يومان أولهما أكثر النهار ، وثانيهما نصف نهار ، بينهما ليلة الجمعة !
قال الطبري ( 4 / 33 ) : ( فاقتتل الناس تلك الليلة كلها حتى الصباح ، وهي ليلة الهرير ، حتى تقصفت الرماح ونفد النبل ، وصار الناس إلى السيوف . وأخذ عليٌّ يسير فيما بين الميمنة والميسرة ، ويأمر كل كتيبة من القراء أن تقدم على التي تليها ، فلم يزل يفعل ذلك بالناس ويقوم بهم حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره . والأشتر في ميمنة الناس ، وابن عباس في الميسرة ، وعليٌّ في القلب ، والناس يقتتلون من كل جانب وذلك يوم الجمعة .
وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة ويقاتل فيها ، وكان قد تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى ! وأخذ يقول لأصحابه : إزحفوا قيد هذا الرمح ، وهو يزحف بهم نحو أهل الشام ، فإذا فعلوا قال : إزحفوا فادَ هذا القوس ) .
2 . وروى نصر / 479 : ( عن أبي جعفرالباقر ( عليه السلام ) قال : فلما أن كان اليوم الأعظم قال أصحاب معاوية ، والله ما نحن لنبرح اليوم العرصة حتى يفتح الله لنا أو نموت . فبادروا
--------------------------- 359 ---------------------------
القتال غدوةً في يوم من أيام الشعرى طويل شديد الحر ، فتراموا حتى فنيت النبل ، ثم تطاعنوا حتى تقصفت رماحهم ثم نزل القوم عن خيولهم فمشى بعضهم إلى بعض بالسيوف حتى كسرت جفونها ، وقامت الفرسان في الركب ، ثم اضطربوا بالسيوف وبعمد الحديد ، فلم يسمع السامع إلا تغمغم القوم ، وصليل الحديد في الهام ، وتكادم الأفواه ! وكسفت الشمس ، وثار القتام ، وضلت الألوية والرايات ، ومرت مواقيت أربع صلوات لم يسجد لله فيهن إلا تكبيراً ، ونادت المشيخة في تلك الغمرات : يا معشر العرب ، الله الله في الحرمات من النساء والبنات ! قال جابر : فبكى أبو جعفر وهو يحدثنا بهذا الحديث .
قال : وأقبل الأشتر على فرس كميت محذوف ، قد وضع مغفره على قربوس السرج وهو يقول : إصبروا يا معشرالمؤمنين ، فقد حميَ الوطيس ! ورجعت الشمس من الكسوف ، واشتد القتال ، وأخذت السُّباع ( مجموعات القبائل ) بعضها بعضاً ، فهم كما قال الشاعر :
مضت واستأخر القرعاء عنها * وخلى بينهم إلا الوريع
قال : يقول واحد لصاحبه في تلك الحال : أي رجل هذا لو كانت له نية . فيقول له صاحبه : وأي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك وهبلتك ! إن رجلاً فيما قد ترى قد سبح في الدماء وما أضجرته الحرب ، وقد غلت هام الكماة الحر ، وبلغت القلوب الحناجر ، وهو كما تراه جذعاً يقول هذه المقالة ! اللهم لا تبقنا بعد هذا ) !
وفي تفسير العياشي ( 1 / 272 ) : ( وإذا كان الخوف أشد من ذلك مثل المضاربة والمناوشة والمعانقة وتلاحم القتال ، فإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليلة صفين وهي ليلة الهرير ، لم يكن صلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء عند وقت كل صلاة إلا بالتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء ، فكانت تلك صلاتهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة ) .
3 . قال ابن الأعثم ( 3 / 180 ) : ( قامت الفرسان في الركب فاصطفقوا بالسيوف وارتفع الرَّهْج وثار القَتام ، وتضعضعت الرايات وحُطّت الألوية ، وغابت
--------------------------- 360 ---------------------------
الشمس وذهبت مواقيت الصلاة ، حتى ما كان في الفريقين أحد يُصلّي ذلك اليوم ولا سجد لله سجدة ، ولا كانت الصلاة إلاّ بالتكبير والإيماء نحو القبلة . قال : وهجم عليهم الليل واشتدت الحرب ، وهذه ليلة الهرير ، فجعل بعضهم يهرُّ على بعض ويعتنق بعضهم بعضاً ويكدم بعضهم بعضاً . قال : وجعل علي ( رضي الله عنه ) يقف ساعة بعد ساعة ، ويرفع رأسه إلى السماء وهو يقول : اللهم إليك نُقِلت الأقدام ، وإليك أفضت القلوب ، ورُفعت الأيدي ، ومُدّت الأعناق ، وطُلبت الحوائج ، وشخصت الأبصار . اللهمّ افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ . ثمّ إنّه حمل في سواد الليل ، وحملت الناس معه ، فكلما قتل بيده رجلاً من أهل الشام كبر تكبيرة حتى أُحصي له كذا كذا تكبيرة .
قال أبو محمد ( ابن الأعثم ) : أُحصي له خمس مائة تكبيرة وثلاث وعشرون تكبيرة ، في كل تكبيرة له قتيل . قال : وكان إذا علا قَدَّ ، وإذا وسط قَطّ ) .
وقال الخوارزمي في مناقبه / 244 : ( وكانت عك أشجع أهل الشام وأصبرهم على القتال وأشدهم على أهل العراق ، وكانوا يلزمون الأرض ويشدون أنفسهم بعضهم ببعض . وربيعة وهمدان ومذحج أشجع أهل العراق وأصبرهم على حرالقتال وأطوعهم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأشدهم على معاوية وقومه ، وقد لقي هو وقومه منهم كل بلاء .
ثم حمل رئيس عك وحمل محمد بن الحنفية والعباس بن ربيعة الهاشمي وعبد الله بن جعفر ، وارتفع الغبار وثار القتام ، وجرت الدماء واختلط القوم ، ولم يعرف أحد صاحبه ، وقتل الأشتر من عك خلقاً كثيراً .
وفقد أهل العراق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وساءت الظنون وقالوا لعله قتل فعلى البكاء والنحيب ، ونهاهم الحسن عن ذلك وقال : إن علمت الأعداء ذلك منكم اجترؤوا عليكم ، وإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخبرني بأن قتله يكون بالكوفة . وكانوا على ذلك إذ أتاهم شيخ يبكى وقال : قتل أمير المؤمنين ، وقد رأيته صريعاً بين القتلى ، فكثر البكاء فقال الحسن ( عليه السلام ) : يا قوم هذا الشيخ يكذب فلا تصدقوه وإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : يقتلني رجل من مراد في كوفتكم هذه . وكان الأشتر يطلب أمير المؤمنين ( عليه السلام )
--------------------------- 361 ---------------------------
في ذلك اليوم راية راية ، وقال لغلامه هاشم : أنظر هل رجع إلى موقفه وأنا أطلبه في العسكر ، فإن بشرتني برجوعه فلك كذا وكذا ، وكان علي ( عليه السلام ) حينئذ مع سعيد بن قيس الهمداني وهمدان فوارسه الخواص فوجده الأشتر عنده ، فرآه علي ( عليه السلام ) متغيراً باكياً ، فقال له : ما خبرك أفَقَدْتَ ابنك إبراهيم ، أم أصابك غير ذلك ؟ فقال الأشتر :
كل شئ سوى الإمام صغير * وهلاك الأمير أمر كبير
قد رضينا وقد أصيب لنا اليوم * رجال هم الحماة الصقور
من رأى غرة الوصي علي * إنه في دجى الحنادس نور ) .
4 . وقال ابن حاتم في الدر النظيم / 361 : ( ثم خرج علي ( عليه السلام ) ومعاوية يوم الخميس واقتتل القوم إلى الضحى ، وبرز أمام الناس عبيد الله بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف معلمين فناداه علي ( عليه السلام ) : ويحك يا ابن عمرعلامَ تقاتلني ؟ قال : أطلب بدم عثمان . فقال علي ( عليه السلام ) : تطلب بدم عثمان والله تُطلب بدم الهرمزان . ثم إن علياً ( عليه السلام ) أمرالأشتر بالخروج فخرج وهو يقول :
إني أنا الأشتر معروف السير * إني أنا الأفعى العراقي الذكر
لست من الحي ربيع أو مضر * لكنني من مذحج البيض الغرر
فانصرف عبيد الله ولم يبارزه . وقال عمار : إني لأرى وجوه قوم لا يزالون يضاربوننا ! والله لو هزمونا حتى يبلغونا سعفات هجر لكنا على الحق . وتقدم عمار رحمة الله عليه وقاتل ثم رجع إلى موضعه فاستسقى فجاءته امرأة من مصافهم من بني شيبان بعس فيه لبن فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، اليوم ألقى الأحبة تحت الأسنة ، صدق الصادق ، وبذلك خبرالناطق ، هذا اليوم الذي وعدت به ! ثم قال : أيها الناس هل من رايح إلى الله تحت العوالي ؟ فتقدم وهو يقول :
نحن ضربناكم على تنزيله * فاليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله *
--------------------------- 362 ---------------------------
فاشتبكت عليه الأسنة ، وقتله أبوالعادية العاملي وابن حوى السكسكي ، واختلفا في سلبه وارتفعا إلى عبيد الله بن عمرو بن العاص فقال : قوموا عني سمعت رسول الله يقول : أولعت قريش بعمار ، مالهم ولعمار ! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، عمار جلدة ما بين عيني ، تقتله الفئة الباغية ، لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة .
وخرج هاشم المرقال ، وحمل ذوالكلاع ، ومع هاشم جماعة من أسلم قد آلوا أن لا يرجعوا أو يفتحوا ، أو يقتلوا واجتلد الناس ، وقتل هاشم وذو الكلاع جميعاً ، فتناول ابن المرقال اللواء وحمل وهو يقول :
يا هاشم بن عتبة بن مالك * أعزز بشيخ من قريش هالك
تخبطه الخيلات بالسنابك * أبشر بحور العين في الأرائك
- والروح والريحان عند ذلك
فوقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على مصرع هاشم ومن صرع حوله ، فقال :
جزى الله خيراً عصبة أسلمية * صباح الوجوه صرعوا حول هاشم
يزيد وعبد الله بشر بن معبد * وسفيان وابنا هاشم ذي المكارم
وعروة لا يبعد ثناه وذكره * إذا سل للبيض الخفاف الصوارم
واستشهد في هذا اليوم صفوان وسعد ابنا حذيفة بن اليمان ، وكان حذيفة عليلاً بالكوفة قبل دخول علي إليها ، ومات قبل أن يراه خليفة .
واستشهد عبد الله بن الحارث أخوالأشتر ، واستشهد عبد الله وعبد الرحمن ابنا بديل بن ورقاء الخزاعي في خلق من خزاعة ، وكان في ميسرة علي ( عليه السلام ) . ولما رأى معاوية القتل في أهل الشام وكلب أهل العراق عليهم تجهم النعمان بن جبلة التنوخي ، وكان صاحب راية قومه من تنوخ ، وقال له : لقد هممت أن أولي قومك غيرك من هو خير منك مقدماً وأنصح جيباً . فقال : إنا لو كنا نغدوا إلى جيش مصنوع لكان في قطع الرجال بعض الأناة فكيف ونحن ندعوهم إلى سيوف قاطعة وردينية شارعة ، وقوم ذوي بصائر نافعة ، فوالله لقد نصحتك على نفسي ، وقد بذلنا لك أمراً لا بد من إتمامه . وصمد للقتال .
--------------------------- 363 ---------------------------
ثم نظر علي ( عليه السلام ) إلى غسان على مصافهم ، فنادى أين أهل الصبر وطلاب الأجر ؟ ثم دعا ابنه محمد بن الحنفية فدفع إليه الراية ، ثم قال له إمش بها فإذا شرعت في صدورهم فأمسك حتى يأتيك رأيي ، ففعل .
وأتاه علي ( عليه السلام ) ومعه الحسن والحسين وشيوخ بدر وغيرهم ، قد كردسهم على غسان ، وعادت الحرب كما كانت ، فاختلط الناس وأجنهم الليل ، وكان الفارس يعتنق الفارس فيقعان إلى الأرض جميعاً ، وكانت ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير ، وأصبح القوم على قتالهم ، فكُسفت الشمس وارتفع القتام ، وتقطعت الألوية ، ولم يعرفوا أوقات الصلاة ) .
5 . وقال المفيد في تفسيره / 492 : ( إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد دعا بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى قتال الناكثين بالبصرة ، والقاسطين بالشام ، والمارقين بالنهروان ، واستنفر الكافة إلى قتالهم وحربهم وجهادهم ، حتى ينقادوا بذلك إلى دين الله تعالى الذي فارقوه ، ويخرجوا به عن الضلال الذي اكتسبوه ، وقد علم كل من سمع الأخبار ما كان من شدة أصحاب الجمل ، وصبرهم عند اللقاء ، حتى قتل بين الفريقين على قول المقل عشرة آلاف إنسان .
وتقرر عند أهل العلم أنه لم تُرَ حربٌ في جاهلية ولا إسلام ، أصعب ولا أشد من حرب صفين ، ولا سيما ما جرى من ذلك ليلة الهرير ، حتى فات أهل الشام فيها الصلاة ، وصلَّى أهل العراق بالتكبير والتهليل والتسبيح ، بدلاً من الركوع والسجود والقراءة ، لما كانوا عليه من الاضطرار بتواصل اللقاء في القتال ، حتى كلَّت السيوف بينهم لكثرة الضراب وفنيَ النبل ، وتكسرت الرماح بالطعان ، ولجأ كل امرئ منهم عند عدم سلاحه ، إلى قتال صاحبه بيده وفمه ، حتى هلك جمهورهم بما وصفناه ! وانكشفت الحرب بينهم عن قتل نيف وعشرين ألف إنسان على قول المقل أيضاً ، وضعف هذا العدد أو قريب من الضعف
على قول آخرين ) !
وقد بينا أن عدد القتلى يفوق السبعين ألفاً ، نحو خمسهم من جيش علي ( عليه السلام ) !
--------------------------- 364 ---------------------------
6 . وفي المناقب ( 2 / 363 ) : ( كان أصحاب علي يضربون الطبول من أربع جوانب عسكر معاوية ويقولون : علي المنصور ، وهو يرفع رأسه إلى السماء ساعة بعد ساعة ويقول : اللهم إليك نُقلت الأقدام ، واليك أفضت القلوب ، ورُفعت الأيدي ومدت الأعناق ، وطُلبت الحوائج وشخصت الأبصار . اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خيرالفاتحين ، وينشد :
الليل داج والكباش تنتطح * نطاح أسد ما أراها تصطلح
أسد عرين في اللقاء قد مرح * منها قيام وفريق منبطح - فمن نجا برأسه فقد ربح
وكان يحمل عليهم مرة بعد مرة ويدخل في غمارهم ويقول : الله الله في الحرم والذرية . فكانوا يقاتلون أصحابهم بالجهل ( بدون معرفة الخصم ) فلما أصبح كان قتلى عسكره أربعة آلاف رجل ، وقتلى عسكر معاوية اثنين وثلاثين ألف رجل ، فصاحوا يا معاوية هلكت العرب ، فاستغاث هو بعمرو ، فأمره برفع المصاحف ) .
7 . وقال العلامة الحلي في كشف اليقين / 158 : ( وفي ليلة الهرير باشر الحرب بنفسه خاصة ، وكان كلما قتل قتيلاً كبَّرَ ، فعُدَّ تكبيره فبلغ خمس مائة وثلاثاً وعشرين تكبيرة ، وعُدَّ قتلى الفريقين في صبيحة تلك الليلة ، فبلغت ستة وثلاثين ألف قتيل . واستظهرحينئذ أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وزحف مالك الأشتر حتى ألجأهم إلى معسكرهم . فلما رأى عمرو بن العاص الحال قال لمعاوية : نرفع المصاحف وندعوهم إلى كتاب الله . فقال معاوية : أصبتَ ، ورفعوها فرجع القراء عن القتال ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنها خديعة عمرو العاص . ليسوا من رجال القرآن ! فلم يقبلوا وقالوا : لا بد أن تردَّ الأشتر وإلا قتلناك أو سلمناك إليهم ! فأنفذ يطلب الأشتر فقال : قد أشرفت على الفتح وليس وقت طلبي ! فعرَّفه اختلال أصحابه وأنه إن لم يرجع قتلوه أو سلموه إلى معاوية ! فرجع وعنَّف القراء وضرب وجه دوابهم فلم يرجعوا ، فوضعت الحرب أوزارها ) !
أقول : يبدو أن العلامة قبل أرقام القتلى ليلة الهرير ، لكنها مبالغ فيها .
--------------------------- 365 ---------------------------
8 . وقال ابن حجر في فتح الباري ( 11 / 104 ) : ( وقتل بين الفريقين تلك الليلة عدة آلاف وأصبحوا وقد أشرف عليٌّ وأصحابه على النصر ، فرفع معاوية وأصحابه المصاحف ، فكان ما كان من الاتفاق على التحكيم ) .
9 . وقال ابن كثير في النهاية ( 7 / 301 ) : ( وتوجه النصرلأهل العراق على أهل الشام ، وذلك أن الأشتر النخعي صارت إليه إمرة الميمنة ، فجعل بمن فيها على أهل الشام وتبعه عليٌّ فتنقضت غالب صفوفهم وكادوا ينهزمون ، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا : هذا بيننا وبينكم قد فنيَ الناس فمن للثغور ؟ ومن لجهاد المشركين والكفار ) .
10 . وقال الآلوسي صاحب التفسير في كتابه : الأجوبة العراقية / 38 : ( وجرى ما تشيب منه الرؤوس ويستهون له حرب البسوس ، وليلة الهريرأمرها شهير ، وآل الأمر إلى التحكيم ، وحدث من ذلك ما أوجب ترك القتال مع معاوية والاشتغال بأمر الخوارج ، وذلك تقدير العزيز العليم .
وأهل السنة إلا من شذ يقولون إن علياً كرم الله تعالى وجهه في كل ذلك على الحق لم يفترق عنه قيد شبر ، وإن مقاتليه في الوقعتين مخطئون باغون وليسوا كافرين خلافاً للشيعة ، ولا فاسقين خلافاً للعَمْرين أصحاب عمرو بن عبيد من المعتزلة ، ولمن شذ من أهل السنة ، ولا أن أحد الفريقين من علي كرم الله وجهه ومقاتليه لابعينه فاسق ، خلافاً للواصلية ، أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي . أما أن الحق مع علي كرم الله وجهه فغني عن البيان . وأما كون المقاتل باغياً فلأن الخروج على الإمام الحق بغي ، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، وقد قتله عسكر معاوية . وقوله حين أخبر بذلك : قتله من أخرجه ، مما لا يلتفت إليه ، وإلا لصح أن يقال إن رسول الله قاتل حمزة وأضرابه ممن قتل معه ، عليه الصلاة والسلام ) .
11 . وقال الدينوري في الأخبار الطوال / 186 : ( وأقبل عدي بن حاتم يطلب علياً في موضعه الذي خلفه فيه فلم يجده ، فسأل عنه فدُل عليه ، فأقبل إليه فقال :
--------------------------- 366 ---------------------------
يا أمير المؤمنين ، أما إذ كنت حياً فالأمر أَمَم ( سهل ) واعلم أني ما مشيت إليك إلا على أشلاء القتلى ، وما أبقى هذا اليوم لنا ولا لهم عميداً ) !
فقال له : ( يا أمير المؤمنين ، ألا نقوم حتى نموت ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : أُدْنُه ، فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه فقال : ويحك ، إن عامة من معي يعصيني ، وإن معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه ) ! ( صفين / 279 ) .
12 . وقال اليعقوبي ( 2 / 188 ) : ( وزحف أصحاب عليٍّ وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً حتى لصقوا به ، فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ، فقال له عمرو بن العاص : إلى أين ؟ قال : قد نزل ما ترى ، فما عندك ؟ قال : لم يبق إلا حيلة واحدة أن ترفع المصاحف فتدعوهم إلى ما فيها ، فتستكفَهم وتكسر من حدهم وتَفُتَّ في أعضادهم . قال معاوية : فشأنك ! فرفعوا المصاحف ودعوهم إلى التحكم بما فيما ، وقالوا : ندعوكم إلى كتاب الله ! فقال علي : إنها مكيدة وليسوا بأصحاب قرآن ! فاعترض الأشعث بن قيس الكندي ، وقد كان معاوية استماله وكتب إليه ودعاه إلى نفسه فقال : قد دعا القوم إلى الحق ! فقال علي : إنهم إنما كادوكم وأرادوا صرفكم عنهم ! فقال الأشعث : والله لئن لم تجبهم انصرفت عنك ! ومالت اليمانية مع الأشعث فقال الأشعث : والله لتجيبنهم إلى ما دعوا إليه أو لندفعنك إليهم برُمَّتك !
فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاماً عظيماً حتى كاد أن يكون الحرب بينهم ، وحتى خاف عليٌ ( عليه السلام ) أن يفترق عنه أصحابه !
فلما رأى ما هو فيه أجابهم إلى الحكومة ! وقال عليٌّ : أرى أن أوجه بعبد الله بن عباس . فقال الأشعث : إن معاوية يوجه بعمرو بن العاص ولا يحكم فينا مضريان ! ولكن توجه أبا موسى الأشعري فإنه لم يدخل في شئ من الحرب . وقال علي : إن أبا موسى عدوٌّ وقد خذَّل الناس عني بالكوفة ، ونهاهم أن يخرجوا معي ! قالوا : لا نرضى بغيره ) ! - *
--------------------------- 367 ---------------------------
الفصل الثمانون: مكيدة الأشعث وعمرو العاص برفع المصاحف لإنقاذ معاوية
خطبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوم الجمعة صبيحة ليلة الهرير
قال في الأخبار الطوال / 188 : ( ثم إن علياً قام من صبيحة ليلة الهرير في الناس خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنه قد بلغ بكم وبعدوكم الأمر إلى ما ترون ، ولم يبق من القوم إلا آخر نفس ، فتأهبوا رحمكم الله لمناجزة عدوكم غداً ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين .
وبلغ ذلك معاوية فقال لعمرو : ما ترى ، فإنما هو يومنا هذا وليلتنا هذه ! فقال عمرو : إني قد أعددت بحيلتي أمراً أخرته إلى هذا اليوم ، فإن قبلوه اختلفوا وإن ردوه تفرقوا ! قال معاوية : وما هو ؟ قال عمرو : تدعوهم إلى كتاب الله حكماً بينك وبينهم فإنك بالغ به حاجتك . فعلم معاوية أن الأمر كما قال ) .
أقول : الصحيح أن خطة رفع المصاحف كانت قبل ليلة الهرير بالاتفاق مع الأشعث ، وأنهم جاؤوا بالمصاحف ليلة الجمعة قبيل الفجر وتواصلوا يوم الجمعة . فلا يصح قولهم إن خطبة الإمام صبيحة ليلة الهرير بلغت معاوية فقرر رفع المصاحف . إلا أن تكون الخطبة يوم الأربعاء أو الخميس .
--------------------------- 368 ---------------------------
رفع المصاحف مكيدة مشتركة من الأشعث وعمرو العاص
المعروف أن مبتكر فكرة رفع المصاحف عمرو العاص ، لكن مصادر صفين تنص على أنها كانت معروفة ، دعا إليها الطرفان في مراسلاتهما ، وفي مناسبات مختلفة . ثم كانت معروفة لأن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) استعملها في حرب الجمل .
والذي حدث بعد ليلة الهرير تحويل هذه الفكرة إلى مبادرة عملية . ومن المؤكد أن الأشعث تبنى المبادرة قبل ليلة الهرير بأيام ! فقد تخلف مع أنصاره عن الحملة ليلة الهرير ، وخطب فيهم مطالباً بوقف الحرب ، فقام من الطرف الآخر عمرو العاص ومعاوية ، ورفعوا المصاحف على الرماح ليلة الهرير عند الفجر !
قد تقول : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نسب المكيدة إلى عمرو . فقد روي عنه ( عليه السلام ) أنه قال : ( إنها فعلة عمرو ) . ( كشف الغمة : 1 / 255 ) وقال : ( إنها خديعة عمرو العاص ) . ( كشف اليقين / 158 ) . وقال الأشتر : ( إنها من مشورة ابن النابغة ) . ( صفين / 491 ) .
وهذا صحيح ، لكن الإمام ( عليه السلام ) تحاشى يومها تسمية الأشعث والتأكيد على دوره في المكيدة ، لنفوذه على اليمانيين وغيرهم من جيشه ( عليه السلام ) !
وطبيعي أن عمل الأشعث يحتاج إلى تحضير مع معاوية وعمرو ، وتمهيد مع رؤساء كندة واليمانيين ، وقد ساعده في ذلك مسعر بن فدكي ، وزيد بن الحصين ، وأكثر رؤساء كندة . ويكفي أن تقرأ ما قاله صعصعة ( رضي الله عنه ) :
قال نصر / 480 : ( قال صعصعة بن صوحان : قام الأشعث بن قيس الكندي ليلة الهرير في أصحابه من كندة فقال : الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأستنصره وأستغفره ، وأستخيره وأستهديه ، وأستشيره وأستشهد به ، فإنه من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه . ثم قال : قد رأيتم يا معشرالمسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي ( يعني أمس ) وما قد فنيَ فيه من العرب ، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط . ألا فليبلغ الشاهد الغائب أنا إن نحن تواقفنا ( تحاربنا ) غداً إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات .
--------------------------- 369 ---------------------------
أمَا والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحتف ، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غداً إذا فنينا ! اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلَ . وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، والرأي يخطئ ويصيب ، وإذا قضى الله أمراً أمضاه ، أحب العباد أو كرهوا .
أقول قولي هذا وأستغفرالله العظيم لي ولكم . من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم ! الله الله في البقية .
قال صعصعة : فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فقال : أصاب ورب الكعبة . . أربطوا المصاحف على أطراف القنا . فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلدوها الخيل ، والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه ، ورفع مصحف دمشق الأعظم تحمله عشرة رجال على رؤوس الرماح ، ونادوا : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم .
وأقبل أبوالأعور السلمي على برذون أبيض وقد وضع المصحف على رأسه ينادي : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم .
وأقبل عدي بن حاتم فقال : يا أمير المؤمنين إن كان أهل الباطل لايقومون بأهل الحق فإنه لم يصب عصبة منا إلا وقد أصيب مثلها منهم ، وكل مقروح ، ولكنا أمثل بقية منهم . وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلا ما تحب ، فناجز القوم ) .
أقول : هذا النص والعديد من الشواهد من الأحداث ، تدل على أن الأشعث كان يعمل بخبث ودهاء مع معاوية وعمرو ، لكسر علي ( عليه السلام ) وهزيمته ! وقد خصصنا الفصل الثاني والسبعين لترجمته ، وبينا أنه يهودي ألصق نفسه بكندة !
كانت بداية رفع المصاحف ضحى الجمعة
قال البلاذري ( 2 / 323 ) : ( ولما كان صبيحة ليلة الهرير وهي ليلة الجمعة لإثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين ، اقتتلوا إلى ارتفاع الضحى ثم إن عمرو بن العاص أشار برفع المصاحف حين خاف أن ينقلع أهل الشام ، ورأى صبر أهل العراق وظهورهم ، فرفعوها بالرماح ونادوا : هذا كتاب الله
--------------------------- 370 ---------------------------
بيننا وبينكم ! من لثغور الشام بعد أهل الشام ؟ ومن لثغور العراق بعد أهل العراق ؟
فقال علي : والله ما هم بأصحاب قرآن ، ولكنهم جعلوها مكيدة وخدعة ، بلغهم ما فعلت من رفع المصحف لأهل الجمل ففعلوا مثله ، ولم يريدوا ما أردت فلا تنظروا إلى فعلهم ، وامضوا على تقيتكم ( أي تقواكم ) ونياتكم . فمال كثير من أصحاب علي إلى ما دعوا إليه ، وحرموا القتال واختلفوا ) .
أجبر الأشعث وعملاء معاوية علياً ( عليه السلام ) على وقف الحرب !
1 . قال نصر بن مزاحم / 478 : ( عن تميم بن حذيم قال : لما أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام صف أهل الشام وسط الفيلق ، من حيال موقف معاوية ، فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت على أطراف الرماح ! وهي عظام مصاحف العسكر ، وقد شدوا ثلاثة أرماح جميعاً وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة رهط ، إستقبلوا علياً بمأة مصحف ، ووضعوا في كل مجنبة مأتي مصحف .
ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي ، وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ، ثم نادوا : يا معشر العرب الله الله في نسائكم وبناتكم ، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم ! الله الله في دينكم ! هذا كتاب الله بيننا وبينكم . فقال عليٌّ : اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم ، إنك أنت الحكم الحق المبين ) .
وقال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 390 ) : ( ورفع في عسكر معاوية نحو من خمس مائة مصحف ، وفي ذلك يقول النجاشي بن الحارث :
فأصبح أهل الشام قد رفعوا القَنا * عليها كتاب الله خير قُرانِ
ونادوا علياً يا ابن عم محمد * أما تتقي أن يهلِكَ الثقلانِ ؟
فلما رأى كثير من أهل العراق ذلك قالوا : نجيب إلى كتاب الله ونُنيب اليه . وأحب القوم الموادعة . وقيل لعلي : قد أعطاك معاوية الحق ودعاك إلى كتاب الله فاقبل منه ، وكان أشدهم في ذلك اليوم الأشعث بن قيس ، فقال علي : أيها الناس ، إنه لم يزل
--------------------------- 371 ---------------------------
من أمركم ما أحب حتى قرحتكم الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وإني كنت بالأمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً ، وقد أحببتم البقاء ! فقالوا له : إنه ما يسعنا أن نُدْعَى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله . فقال : ويحكم إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم الكتاب ، فقد عصوا الله فيما أمرهم به ، ونبذوا كتابه ، فامضوا على حقكم وقصدكم ، وخذوا في قتال عدوكم ، فإن معاوية وابن العاص وابن أبي مُعَيْط وحبيب بن مسلمة وابن النابغة وعدداً غير هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأنا أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ورجالاً ، فهم شرأطفال ورجال . وجرى له مع القوم خطب طويل قد أتينا ببعضه ، وتهددوه أن يُصنع به
ما صُنع بعثمان ) .
2 . قال الدينوري في الأخبار الطوال / 188 و 190 : ( فقال علي ( رضي الله عنه ) : ما الكتاب تريدون ، ولكن المكر تحاولون . فقال الأشعث : يا أمير المؤمنين نحن لك اليوم على ما كنا عليه لك أمس ، غير أن الرأي ما رأيتُ من أجابه القوم إلى كتاب الله . فأما عدي بن حاتم وعمرو بن الحمق ، فلم يهويا ذلك ولم يشيروا على علي به ) .
وقال نصر / 482 : ( وأقبل عدي بن حاتم فقال : يا أمير المؤمنين ، إن كان أهل الباطل لايقومون بأهل الحق فإنه لم يصب عصبة منا إلا وقد أصيب مثلها منهم ، وكل مقروح ولكنا أمثل بقية منهم . وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلا ما تحب ، فناجز القوم .
فقام الأشتر النخعي فقال : يا أمير المؤمنين ، إن معاوية لا خلف له من رجاله ، ولك بحمد الله الخلف ، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا بصرك ، فاقرع الحديد بالحديد ، واستعن بالله الحميد .
ثم قام عمرو بن الحمق فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا والله ما أجبناك ولا نصرناك عصبية على الباطل ولا أجبنا إلا الله عز وجل ، ولا طلبنا إلا الحق ، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوت إليه لاستشرى فيه اللجاج وطالت فيه النجوى ، وقد بلغ الحق مقطعه ، وليس لنا معك رأي .
--------------------------- 372 ---------------------------
فقام الأشعث بن قيس مغضباً فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس ، وليس آخر أمرنا كأوله ، وما من القوم أحد أحنى على أهل العراق ولا أوتر لأهل الشام مني ، فأجب القوم إلى كتاب الله ، فإنك أحق به منهم . وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال . فقال علي ( عليه السلام ) : إن هذا أمر ينظر فيه ) !
3 . في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 364 ) : ( فقال مسعر بن فدكي وزيد بن حصين الطائي والأشعث بن قيس الكندي : أجب القوم إلى كتاب الله ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ويحكم والله إنهم ما رفعوا المصاحف إلا خديعة ومكيدة حين علوتموهم . وقال خالد بن معمر السدوسي : يا أمير المؤمنين أحب الأمور الينا ما كفينا مؤنته . فقصد إليه عشرون ألف رجل يقولون : يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت وإلا دفعناك برمتك إلى القوم ، أو نفعل بك ما فعلنا بعثمان !
فقال : فاحفظوا عني مقالتي فإني آمركم بالقتال ، فإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم ! قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتينك فبعث يزيد بن هاني السبيعي يدعوه . فقال الأشتر : إني قد رجوت أن يفتح الله لا تعجلني وشدد في القتال . فقالوا : حرضته في الحرب ، فابعث إليه بعزيمتك ليأتيك ، وإلا والله اعتزلناك قال : يا يزيد عد إليه وقل له : أقبل الينا فإن الفتنة قد وقعت ! فأقبل الأشتر يقول لأهل العراق : يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وعلموا أنكم لهم قاهرون ، رفعوا لكم المصاحف خديعة ومكراً ؟ فقالوا : قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله . فقال : أمهلوني ساعة وأحسست بالفتح وأيقنت بالظفر قالوا : لا . قال : أمهلوني عدوة فرسي ! قالوا : إنا لسنا نطيعك ولا لصاحبك ونحن نرى المصاحف على رؤس الرماح ندعى إليها . فقال : خدعتم والله فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ) .
4 . قال الطبري ( 4 / 34 ) : « عن جندب الأزدي أن علياً قال : عباد الله إمضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم ، ويحكم إنهم ما رفعوها ثم لايرفعونها ولا يعلمون بما فيها ، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدةً . فقالوا له : مايسعنا أن ندعى إلى كتاب الله عز وجل فنأبى أن نقبله . فقال لهم : فإني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم هذا
--------------------------- 373 ---------------------------
الكتاب ، فإنهم قد عصوا الله عز وجل فيما أمرهم ، ونسوا عهده ونبذوا كتابه .
فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك : يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذ دعيت إليه ، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم ، أو نفعل كما فعلنا بابن عفان !
إنهم دعونا أن نعمل بما في كتاب الله عز وجل فقبلناه ، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك ! قال : فاحفظوا عنب نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي . أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم » !
وقال ( عليه السلام ) ( صفين / 489 ) : ( إنها كلمة حق يراد بها باطل . إنهم والله ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها ، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة . أعيروني سواعد كم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا . فجاءه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح ، سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودت جباههم من السجود ، يتقدمهم مسعر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه باسمه لابإمرة المؤمنين : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه ، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم . فقال لهم : ويحكم ، أنا أول من دعا إلى كتاب الله وأول من أجاب إليه ، وليس يحل لي ولايسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون .
قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتيك . وقد كان الأشتر صبيحة ليل الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله ) !
5 . وقال الطبري ( 4 / 40 ) : قال علي : ( لقد فعلتم فعلةً ضَعْضَعَتْ قوة ، وأسقطت مِنَّة ، وأوهنت وأورثت وهناً وذلة ، ولمَّا كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح ،
--------------------------- 374 ---------------------------
واستحرَّ بهم القتل ووجدوا ألم الجراح ، رفعوا المصاحف ودعوكم إلى ما فيها ليفتؤوكم عنهم ، ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم ، ويتربصوا ريب المنون خديعة ومكيدة ، فأعطيتموهم ما سألوا ، وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجوزوا ! وأيم الله ما أظنكم بعدها توافقون رشداً ، ولا تصيبون باب حزم ) !
6 . وقال ابن العديم ( تاريخ حلب : 4 / 1914 ) ( أن الأشعث لما طغى غضب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهدده : ( دخل الأشعث بن قيس على علي في شئ فتهدده بالموت ، فقال علي : بالموت تهددني ما أبالي سقط علي أو سقطت عليه هاتوا له جامعة وقيداً ! قال : ثم أومأ إلى أصحابه فطلبوا إليه فيه . قال فتركه . قال سفيان : فحدثني ابن جعفر بن محمد عن أبيه قال : فسمعوا لصوت رجليه حفيفاً ! قال عليٌّ : فَرَقناه ففرِق ) .
أقول : معنى قوله : طلبوا اليه فيه ، أي ترجوه أن لا يقيد الأشعث . وقد كان بإمكانه ( عليه السلام ) أن يعتقل الأشعث ، أو أن يحمل مع الأشتر ، وكانت له خيارات أخرى لكن لكل خيار تداعيات ، فاختار أقربها إلى هدفه ، واستعمل الليونة !
ثم استأسد الأشعث وتياره وهددو علياً ( عليه السلام ) وأجبروه !
1 . قال في الأخبار الطوال / 190 : ( ولما أجاب علي قالوا له : فابعث إلى الأشتر ليمسك عن الحرب ويأتيك . وكان يقاتل في ناحية الميمنة ، فقال علي ليزيد بن هانئ : انطلق إلى الأشتر فمره أن يدع ما هو فيه ويقبل ، فأتاه فأبلغه فقال : إرجع إلى أمير المؤمنين فقل له إن الحرب قد اشتجرت بيني وبين أهل الناحية ، فليس يجوز أن انصرف . فانصرف يزيد إلى علي فأخبره بذلك وعلت الأصوات من ناحية الأشتر وثار النقع ، فقال القوم لعلي : والله ما نحسبك أمرته إلا بالقتال . فقال : كيف أمرته بذلك ولم أسارَّه سراً ! ثم قال ليزيد : عد إلى الأشتر فقل له أقبل ، فإن الفتنة قد وقعت ! فأتاه فأخبره بذلك فقال الأشتر : أَلِرَفع هذا المصاحف ؟ قال : نعم . قال : أما والله لقد ظننت بها حين رفعت ، أنها ستوقع اختلافاً وفرقة . فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم ، فقال : يا أهل الوهن والذل ،
أحين علوتم القوم تنكلون لرفع هذه المصاحف ؟ فقال : يا أصحاب الجباة السود كنا نظن أن صلاتكم عبادة وشوق إلى الجنة ، فنراكم قد فررتم إلى الدنيا ، فقبحاً لكم !
--------------------------- 375 ---------------------------
فسبوه وسبهم ، وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب هو وجوه دوابهم بسوطه ) .
2 . قال الطبري ( 4 / 36 ) : ( قال الأشتر : إنها مشورة ابن العاهرة ! ألا ترى ما صنع الله لنا ، أينبغي أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم ! قال يزيد بن هانئ : فقلت له أتحب أنك ظفرت هاهنا وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه أو يُسْلَم ! قال : لا والله ، سبحان الله ! قال : فإنهم قد قالوا لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك كما قتلنا ابن عفان ! فأقبل حتى انتهى إليهم فقال : يا أهل العراق يا أهل الذل والوهن ! حين علوتم القوم ظهراً وظنوا أنكم لهم قاهرون ، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها . . أمهلوني عَدْوَ الفرس ، فإني قد طمعت في النصر ! قالوا : إذاً ندخل معك في خطيئتك ! قال فحدثوني عنكم وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم : متى كنتم محقين أحين كنتم تقاتلون وخياركم يقتلون ، فأنتم الآن إذ أمسكتم عن القتال مبطلون ، أم الآن أنتم محقون ، فقتلاكم الذين لاتنكرون فضلهم فكانوا خيراً منكم ، في النار إذاً ! قالوا : دعنا منك يا أشتر ، قاتلناهم في الله عز وجل ، وندع قتالهم لله ، إنا لسنا مطيعيك ولا مطيعي صاحبك فاجتنبنا !
فقال : خدعتم والله فانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ! يا أصحاب الجباه السود ! كنا نظن صلواتكم زهادةً في الدنيا وشوقاً إلى لقاء الله عز وجل ، ألا قبحاً يا أشباه النيب الجلالة ! وما أنتم برائين بعدها عزاً أبداً ! فأبعدوا كما بعد القوم الظالمون ! فسبوه فسبهم ، فضربوا وجه دابته بسياطهم ، وأقبل يضرب بسوطه وجوه دوابهم ! وصاح بهم علي فكفُّوا ، وقال للناس : قد قبلنا أن يُجعل القرآن بيننا وبينهم حكماً ) !
وقال اليعقوبي ( 2 / 188 ) : ( فقال علي : إنهم إنما كادوكم وأرادوا صرفكم عنهم . فقال الأشعث : والله لئن لم تجبهم انصرفت عنك ! ومالت اليمانية مع الأشعث فقال الأشعث : والله لتجيبنهم إلى ما دعوا إليه ، أو لندفعنك إليهم برُمَّتك ! فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاماً عظيماً ، حتى كاد أن يكون الحرب بينهم ، وحتى خاف عليٌ أن يفترق عنه أصحابه ! فلما رأى ما هو فيه أجابهم إلى الحكومة ) !
--------------------------- 376 ---------------------------
لماذا قبل الإمام ( عليه السلام ) بتحكيم حكمين
كان رفع المصاحف خطة متفقاً عليها بين الأشعث ومعاوية ، وقد تفاجأ بها أصحاب الإمام ( عليه السلام ) المخلصين كعدي والأشتر وابن الحمق ، لكن الإمام لم يتفاجأ بها ، بل أجاب الأشعث بأنه مشروع نقوم بدراسته !
وسبب ليونة موقفه أن المكيدة كانت قوية حيث حشدوا لها جمهور اليمنيين المؤيدين للأشعث ، واستغلوا شكاية الناس من الخسائر ، وتعبهم من الحرب . وأن هدفه ( عليه السلام ) من القتال على تأويل القرآن هو تثبيت الخط النبوي في الأمة ولو نظرياً ، وقد تحقق ذلك ، واتضحت معالم العهد النبوي الذي يريده ، واتضح أن معاوية لا هدف له إلا التسلط والحكم !
ولو أصر ( عليه السلام ) على الحرب لظهر ضعف أنصاره ، وأضرذلك بما تحقق من أهدافه .
برز الأشعث قوة هائلة فكان مهندس الخلافة الأموية
1 . وكان ذلك شبيهاً بما حدث للنبي ( ( عليهما السلام ) ) لما برز عمر قوة هائلة في مواجهته ، فمنعه من كتابة عهده ، وكان مهندس الخلافة القرشية .
فقد أراد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتب لأمته كتاباً ، فرفض عمر وأنصاره أن يكتب لهم شيئاً ، وقالوا إن النبي يهجر ، حسبنا كتاب الله ، لا تقربوا له قرطاساً ، والقول ما قاله عمر ! فغضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطردهم . وقد رواه البخاري .
يومها ظهر عمر قوة هائلة مقابل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فرفض مبادرته وأخذ زمام المبادرة فكان مهندس الخلافة القرشية .
وهذا ما حدث تماماً في صفين لما أشرف الأشتر على النصر ، ووصل إلى معسكر معاوية ، وتحضر معاوية للفرار ، فرفع المصاحف داعياً إلى تحكيم القرآن ، وبرز الأشعث قوة هائلة يحيط به عشرون ألفاً ، وخاطب أمير المؤمنين باسمه بدون إمرة المؤمنين ، وقال : ( يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت ، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم ، أو نفعل بك ما فعلنا بعثمان ) !
--------------------------- 377 ---------------------------
فأجبروا الإمام ( عليه السلام ) على إيقاف الحرب وتحكيم رجلين ، فكان ذلك كرزية يوم الخميس مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وكان الأشعث مهندس الخلافة الأموية !
2 . قال علي ( عليه السلام ) : ( ويحكم والله إنهم ما رفعوا المصاحف إلا خديعة ومكيدة حين علوتموهم . . . لقد كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً ! وكنت أمس ناهياً فأصبحت اليوم منهياً ! وقد أحببتم البقاء ، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ) ! ( نهج البلاغة : 2 / 186 ) .
لقد صادر الأشعث القيادة من علي ( عليه السلام ) كما صادرها عمر من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأدارالأشعث مشاورات الخلافة ، كما أدراها عمر !
وقال علي ( عليه السلام ) : ( يا ابن عباس ما أصنع ! إنما أوتى من أصحابي ، قد شَعَفَت نيتهم وكَلُّوا في الحرب . هذا الأشعث يقول : لا يكون فيها مضريان أبداً حتى يكون أحدهما يمانٍ - يقصد الحكمين ) ! ( تاريخ دمشق : 32 / 94 ) .
3 . لقد أنقذ الأشعث معاوية من الهزيمة ، وأوقعها بعلي ( عليه السلام ) وثبَّت معاوية كخليفة على قدم المساواة مع علي ( عليه السلام ) ! لأن ملك معاوية برأي الأشعث أقرب إلى هدفه في إعادة ملك كندة ! ولما كتبوا الاتفاقية وطلبوا محو لقب أمير المؤمنين لعلي ( عليه السلام ) قال الأشعث : أمح هذا الاسم تَرَّحَهُ الله . فقال أمير المؤمنين : الله أكبر سنة بسنة ومَثَل بمثل ) . وروى لهم حديث صلح الحديبية !
4 . ولما أرادوا تعيين الحكمين ، قال عليٌّ ( عليه السلام ) : أرى أن أوجه بعبد الله بن عباس . فقال الأشعث : إن معاوية يوجه بعمرو بن العاص ولا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة ! ولكن توجه أبا موسى الأشعري ، فإنه لم يدخل في شئ من الحرب . قال علي : إن أبا موسى عدوٌّ ، وقد خذَّل الناس عني بالكوفة ، ونهاهم أن يخرجوا معي ! قالوا : لا نرضى بغيره ) !
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( نصر / 500 ) : ( إنه لا يصلح للقرشي إلا مثله ، فعليكم بعبد الله بن عباس فارموه به ، فإن عمراً لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله ، ولا يحل عقدة إلا عقدها ، ولا يبرم أمراً إلا نقضه ، ولا ينقض أمراً إلا أبرمه .
--------------------------- 378 ---------------------------
فقال الأشعث : لا والله لا يحكم فيها مضريان حتى تقوم الساعة ، ولكن أجعله رجلاً من أهل اليمن إذ جعلوا رجلاً من مضر . فقال علي : إني أخاف أن يخدع يمنيكم ، فإن عمراً ليس من الله في شئ إذا كان له في أمر هوى ! فقال الأشعث : والله لأن يحكما ببعض ما نكره ، وأحدهما من أهل اليمن ، أحب إلينا من أن يكون ما نحب في حكمهما
وهما مضريان ) .
فقد فرض عليه الأشعث من يفاوض باسمه ، وكانت النتيجة أن عمر العاص خدع أبا موسى فاتفقا على أن يخلعا علياً ومعاوية ، وصعد أبو موسى المنبر وخلع علياً كما يخلع خاتمه من يده ، ثم صعد عمرو فثبت صاحبه !
5 . كان علي ( عليه السلام ) يعلم ماذا يعني إيقاف الحرب والقبول بأبي موسى ممثلاً له في التحكيم ، لكنه سكت أمام موجة المنقلبين عليه ، كما سكت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمام موجة المنقلبين عليه ، وتركهم يعملون ما يريدون ! فقد أخبره النبي بحرب صفين وتفاصيلها ، وبأنهم سيجبرونه على إيقافها وتحكيم حكمين وبمكائد معاوية وعمرو والأشعث !
قال ( عليه السلام ) ( كتاب سليم / 215 ) : « أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما الأمة صانعة بي بعده فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت !
فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إلي إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك ، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً » .
6 . وغاية ما استطاع أن يفعله علي ( عليه السلام ) أنه سجل مخالفته لتحكيم حكمين ومخالفته لاختيار أبي موسى ، ومخالفته لتسمية معاوية ومن معه في الاتفاقية مؤمنين أو مسلمين !
قال نصر في صفين / 509 : ( حدثني أبو إسحاق الشيباني قال : قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة ، في صحيفة صفراء عليها خاتمان ، خاتم من أسفلها وخاتم من أعلاها . في خاتم عليٍّ : محمد رسول الله وفي خاتم معاوية : محمد رسول الله . فقيل لعلي
--------------------------- 379 ---------------------------
حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام : أتقر أنهم مؤمنون مسلمون ؟ فقال علي : ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ، ولكن يكتب معاوية ما شاء ، ويقر بما شاء لنفسه وأصحابه ، ويسمي نفسه وأصحابه ما شاء .
فكتبوا : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان . قاضي علي بن أبي طالب على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين : إنا ننزل عند حكم الله وكتابه ، وألا يجمع بيننا إلا إياه ، وأن كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته : نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن . فما وجد الحكمان في كتاب الله بيننا وبينكم فإنهما يتبعانه ، وما لم يجداه في كتاب الله أخذا بالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة . . الخ . ) .
استمرت المداولات أربعة أيام
كانت ليلة الهرير ليلة الجمعة الثاني عشرمن شهر صفر . ( البلاذري : 2 / 323 ) . وفي صبيحتها رفعوا المصاحف فاشتدت المداولة بين علي ( عليه السلام ) وأصحابه . وفي اليوم الثاني أجبروه أن يسحب الأشتر من المعركة بعد أن أشرف على النصر ! ثم ذهب الأشعث إلى معاوية ، ثم راسل معاوية علياً ( عليه السلام ) ، ثم كان التداول في تعيين الحكمين .
وقال الطبري كان الاجتماع يوم الأربعاء السابع عشر من صفر ، فاجتمعوا بين الصفين ، وحضرعلي ( عليه السلام ) ومعاوية ومعاونوهما ، وكتبوا وثيقة التحكيم .
طلب الأشعث أن يذهب إلى معاوية فأذن له علي ( عليه السلام )
قال الطبري ( 4 / 37 ) : ( فجاء الأشعث بن قيس إلى علي فقال له : ما أرى الناس إلا قد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ،
فإن شئت أتيتُ معاوية فسألته ما يريد ، فنظرتَ ما يسأل !
--------------------------- 380 ---------------------------
قال : إئته إن شئت فسله ! فأتاه فقال يا معاوية لأي شئ رفعتم هذه المصاحف ؟ قال لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله عز وجل به في كتابه ، تبعثون منكم رجلاً ترضون به ونبعث منا رجلاً ، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لايَعْدوانه ، ثم نتبع ما اتفقا عليه !
فقال له الأشعث بن قيس : هذا الحق ، فانصرف إلى علي فأخبره بالذي قال معاوية فقال الناس فإنا قد رضينا وقبلنا . فقال أهل الشام : فإنا قد اخترنا عمرو بن العاص ، فقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج بعد : فإنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري .
قال علي : فإنكم قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن ! إني لا أرى أن أولي أبا موسى ! فقال الأشعث وزيد بن حصين الطائي ومسعر بن فدكي : لا نرضى إلا به فإنه ما كان يحذرنا وقعنا فيه .
قال علي : فإنه ليس لي بثقة قد فارقني وخذل الناس عني ، ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس نوليه ذلك .
قالوا : ما نبالي أنت كنت أم ابن عباس ، لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء ، ليس إلى واحد منكم بأدنى منه إلى الآخر !
فقال علي : فإني أجعل الأشتر ، قال أبومحنف حدثني أبو جناب الكلبي أن الأشعث قال : وهل سعَّر الأرض غيرالأشتر ! قال أبومحنف إن الأشعث قال : وهل نحن إلا في حكم الأشتر ! قال علي : وما حكمه ؟ قال : حكمه أن يضرب بعضنا بعضاً بالسيوف حتى يكون ما أردت وما أراد ! قال : فقد أبيتم إلا أبا موسى ؟ قالوا : نعم ، قال : فاصنعوا ما أردتم ) !
رسائل تلك الأيام بين علي ( عليه السلام ) ومعاوية
قال في الأخبار الطوال / 191 : ( وإن معاوية قام في أهل الشام فقال : أيها الناس ، إن الحرب قد طالت بيننا وبين هؤلاء القوم ، وإن كل واحد منا يظن أنه على الحق وصاحبه على الباطل ، وإنا قد دعوناهم إلى كتاب الله والحكم به ، فإن قبلوه ، وإلا كنا قد أعذرنا إليهم .
--------------------------- 381 ---------------------------
ثم كتب إلى علي : ( أن أول من يحاسب على هذا القتال أنا وأنت ، وأنا أدعوك إلى حقن هذه الدماء ، وألفة الدين واطراح الضغائن ، وأن يحكم بيني وبينك حكمان ، أحدهما من قبلي والآخر من قبلك ، ما يجدانه مكتوباً مبيناً في القرآن يحكمان به ، فأرض بحكم القرآن إن كنت من أهله ) .
فكتب إليه علي : ( دعوت إلى حكم القرآن ، وإني لأعلم أنك ليس حكمه تحاول ، وقد أجبنا القرآن إلى حكمه لا إياك ، ومن لم يرض بحكم القرآن فقد ضل ضلالاً بعيدا ) .
وكتب إلى عمرو بن العاص : أما بعد ، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلا انفتح له بذلك حرص يزيده فيها رغبة ، ولن يستغني صاحبها بما نال منها عما لم ينله ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، فلا تحبط عملك بمجاراة معاوية على باطله ، وإن لم تنته لم تضر بذلك إلا نفسك ، والسلام .
فأجابه عمرو : أما بعد ، فإن الذي فيه صلاحنا وألفة ما بيننا ، الإنابة إلى الحق ، وقد جعلنا القرآن حكماً بيننا وبينك لنرضى بحكمه ، ويعذرنا الناس عند المناجزة ، والسلام .
فكتب إليه علي : أما بعد ، فإن الذي أعجبك مما نازعتك نفسك إليه من طلب الدنيا منقلب عنك ، فلا تطمئن إليها فإنها غرارة ، ولواعتبرت بما مضى انتفعت بما بقي ، والسلام .
فكتب إليه عمرو : أما بعد ، فقد أنصف من جعل القرآن حكماً ، فاصبر يا أبا الحسن ، فإنا غير منيليك إلا ما أنا لك القرآن ، والسلام ) .
لاحظ قول ابن النابغة لعلي ( عليه السلام ) إنا لا نعطيك إلا ما أعطاك القرآن ! فقد نصب نفسه معطياً ، ونصب نفسه مفسراً للقرآن وولياً عليه ، وهو من هو ! !
أصروا على اختيار أبي موسى رغم رفض علي ( عليه السلام )
قال في الأخبار الطوال / 193 : ( فاجتمع قراء أهل العراق وقراء أهل الشام ، فقعدوا بين الصفين ، ومعهم المصحف يتدارسونه . . فقال لهم علي : لست أثق
--------------------------- 382 ---------------------------
برأي أبي موسى ، ولا بحزمه ، ولكن أجعل ذلك لعبد الله بن عباس . قالوا : والله ما نفرق بينك وبين ابن عباس ، وكأنك تريد أن تكون أنت الحاكم ! بل اجعله رجلاً هو منك ومن معاوية سواء ، ليس إلى أحد منكما بأدنى منه إلى الآخر . قال علي : فلم ترضون لأهل الشام بابن العاص ! قالوا : أولئك أعلم ، إنما علينا أنفسنا . قال : فإني أجعل ذلك إلى الأشتر . قال الأشعث : وهل سَعَّر هذه الحرب إلا الأشتر . . ! قال : فقد أبيتم إلا أن تجعلوا أبا موسى . قالوا : نعم . قال : فاصنعوا ما أحببتم .
قالوا : فأرسلوا رسولاً إلى أبي موسى ، وقد كان اعتزل الحرب ، وأقام بعرض من أعراض الشام ، فدخل عليه مولى له ، فقال : قد اصطلح الناس ، قال : الحمد لله رب العالمين . قال : وقد جعلوك حكماً . قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . فأقبل أبو موسى حتى دخل عسكر علي فولوه الأمر ، ورضوا به فقبله .
فقال الأحنف بن قيس لعلي : إنك قد مُنيت بحجر الأرض ، وداهية العرب ،
وقد عجمت أبا موسى ، فوجدته كليل الشفرة ، قريب القعر ، وإنه لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل يدنو من صاحبه حتى يكون في كفه ، ويبعد منه حتى يكون مكان النجم ، فإن شئت أن تجعلني حكما فافعل ، وإلا فثانياً أو ثالثاً ، فإن قلت : إني لست من أصحاب رسول الله ، فابعث رجلاً من صحابته ، واجعلني وزيراً له ومشيراً .
فقال علي : إن القوم قد أبوا أن يرضوا بغير أبي موسى ، والله بالغ أمره . قالوا : فقال أيمن بن خريم الأسدي من أهل الشام ، وكان معتزلاً للقوم :
لو كان للقوم رأي يهتدون به * بعد القضاء رموكم بابن عباس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن * لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس
قالوا : وقد كان معاوية جعل لأيمن بن خريم ناحية من فلسطين على أن يبايعه ، فأبى ، وقال :
ولست بقاتل رجلاً يصلي * على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلى إثمي * معاذ الله من سفه وطيش
أأقتل مسلماً في غير حق * فليس بنافعي ما عشت عيشي
--------------------------- 383 ---------------------------
وقال العلامة الحلي في كشف اليقين / 158 : ( فعين معاوية عمرو بن العاص ، وعيَّن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عبد الله بن العباس فلم يوافقوا ! قال : فأبوالأسود ، فأبوا ! واختاروا أبا موسى الأشعري فقال ( عليه السلام ) : أبو موسى مستضعف وهواه مع غيرنا . فقالوا : لا بد منه ، وحكَّموه ! فخدع عمرو بن العاص أبا موسى وحمله على خلع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأنه يخلع معاوية ، وأمره بالتقدم حيث هو أكبرسناً ففعل أبو موسى ذلك ، ثم قال : يا عمرو قم فافعل كذلك . فقام وأقرها في معاوية ، فشتمه أبو موسى ، وتلاعنا ) !
الاجتماع بين الصفين لكتابة وثيقة التحكيم
قال الدينوري في الأخبار الطوال / 194 : ( فكتبوا : هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه ، قضية عليٍّ على أهل العراق شاهدهم وغائبهم ، وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم ، أنا تراضينا أن نقف عند حكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ، ونميت ما أمات ، على ذلك تقاضيا وبه تراضيا ، وإن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظراً وحاكماً ، ورضي معاوية وشيعته بعمرو بن العاص ناظراً وحاكماً ، على أن علياً ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ، وذمته وذمة رسوله أن يتخذا القرآن إماماً ، ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً ، وما لم يجدا في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله الجامعة ، لا يتعمدان لها خلافاً .
وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية ، عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه ، وليس لهما أن ينقضا ذلك ، ولا يخالفاه إلى غيره ، وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما ما لم يعدوا الحق ، رضي به راض أو سخطه ساخط ، وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما هو في كتاب الله ، فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة ، فلشيعته وأصحابه أن يختاروا مكانه
--------------------------- 384 ---------------------------
رجلاً من أهل المعدلة والصلاح ، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق ، وإن مات أحد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدد في هذه القضية فلشيعته أن يولوا مكانه رجلاًيرضون عدله . وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ، ورفع السلاح ، وقد وجبت القضية على ما سمينا في هذا الكتاب من موقع الشرط على الأميرين والحكمين والفريقين ، والله أقرب شهيد ، وكفى به شهيداً .
فإن خالفا وتعديا فالأمة بريئة من حكمهما ، ولا عهد لهما ولا ذمة ، والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأولادهم إلى انقضاء الأجل ، والسلاح موضوعة والسبل آمنة ، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر ، وللحكمين أن ينزلا منزلاً متوسطاً عدلاً بين أهل العراق وأهل الشام ، ولا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن تراض منهما ، والأجل إلى انقضاء شهر رمضان ، فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة عجلاها ، وإن رأيا تأخيرها إلى آخر الأجل أخراها . فإن هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل ، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب ، وعلى الأمة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر ، وهم جميعاً يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحاداً أو ظلماً أو خلافاً .
شهد على ما في هذا الكتاب : الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، والأشعث بن قيس ، والأشتر بن الحارث ، وسعيد بن قيس ، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب ، وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري ، وعبد الله بن خباب بن الأرت ، وسهل بن حنيف ، وأبو بشر بن عمر الأنصاري ، وعوف بن الحارث بن عبد المطلب ، ويزيد بن عبد الله الأسلمي ، وعقبة بن عامر الجهني ، ورافع بن خديج الأنصاري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، والنعمان بن العجلان الأنصاري ، وحجر بن عدي الكندي ، ويزيد بن حجية النكري ، ومالك بن كعب الهمداني ، وربيعة بن شرحبيل ، والحارث بن مالك ، وحجر بن يزيد ، وعلبة بن حجية .
ومن أهل الشام : حبيب بن مسلمة الفهري ، وأبوالأعور السلمي ، وبسر بن أرطأة القرشي ، ومعاوية بن خديج الكندي ، والمخارق بن الحارث ، ومسلم بن عمرو السكسكي ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وحمزة بن مالك ،
--------------------------- 385 ---------------------------
وسبيع ابن يزيد الحضرمي ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعلقمة بن يزيد الكلبي ، وخالد بن الحصين السكسكي ، وعلقمة بن يزيد الحضرمي ، ويزيد بن أبجر العبسي ، ومسروق بن جبلة العكي ، وبسر بن يزيد الحميري ، وعبد الله بن عامر القرشي ، وعتبة بن أبي سفيان ، ومحمد بن أبي سفيان ، ومحمد بن عمرو بن العاص ، وعمار بن الأحوص الكلبي ، ومسعدة بن عمرو العتبي ، والصباح بن جلهمة الحميري ، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع ، وثمامة بن حوشب ، وعلقمة بن حكم .
وكتب يوم الأربعاء ، لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر ، سنة سبع وثلاثين ) .
أدقُّ روايات اتفاقية صفين نص بن الأعثم
قال ابن الأعثم ( 4 / 201 ) : ( ثم وضع الناس السلاح والتقوا في النصف بين العسكرين ودعوا بالكاتب ، فجاء عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله وهو كاتب علي ، واجتمع الناس من أهل العراق وأهل الشام .
فقال علي ( رضي الله عنه ) لكاتبه : أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تقاضي عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان .
فقال معاوية : فإن كنت أمير المؤمنين كما زعمت فعلامَ أقاتلك ؟ فقال علي ( رضي الله عنه ) : الله أكبر ! كنت مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في يوم الحديبية حين صده المشركون عن مكة ، ثم اتفق أمره وأمرهم على الصلح بعد ذلك فدعاني لأكتب فقلت : ما أكتب يا رسول الله ؟ فقال : أكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله وأهل مكة ، فقال أبوهذا أبو سفيان بن حرب : يا محمد ! إني لو أقررت أنك رسول الله لما قاتلتك ، ولكن أكتب لنا صحيفتك باسمك واسم أبيك ، فكتبت ذلك بأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا علي ! إن لك يوماً مثل هذا ، أنا أكتبها للآباء وتكتبها للأبناء ، وإني الآن أكتبه لمعاوية كما كتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبي سفيان !
قال فقال عمرو بن العاص : يا سبحان الله ! ونقاس نحن إلى الكفار ونحن مؤمنون ! فصاح به علي صيحة وقال : يا ابن النابغة ! متى لم تكن للمشركين ولياً وللمؤمنين عدواً ، ولم تكن في الضلالة رأساً وفي الإسلام ذنباً ، أوَلست ممن قاتل
--------------------------- 386 ---------------------------
محمداً وفتن أمته من بعده ؟ أو لست الأبتر ابن الأبتر عدو الله وعدو رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ،
قم من هاهنا يا عدو الله ، فليس هذا بموضع يحضره مثلك ! قال : فوثب عمرو ساكتاً لا ينطق بشئ حتى قعد ناحية .
قال : فقال عبد الله بن خباب وكان من الفرسان الأبطال وكان له فضل ، فقال : يا أمير المؤمنين ! إنك أمرتنا يوم الجمل بأمورمختلفة كانت عندنا أمراً واحداً ، فقبلناها منك بالتسليم منا لأمرك ، وهذه من تلك الأمور ، ونحن اليوم أصحابك أمس ، وأراك كارهاً لهذه القضية ، وأيم الله ما المكثر المنكر بأعلم من المقتر المقل ، وقد كانت الحرب أخذت بأنفاس هؤلاء القوم فلم يبق منهم إلا رجاء ضعيف وصبر مستكره ، فاستغاثوا بالمصاحف وفزعوا إليها من حر أسنتنا وحد سيوفنا فأجبتهم إلى ما دعوك إليه ، فأنت أولنا إيماناً وآخرنا عهداً بنبينا محمد ( ( عليهما السلام ) ) وإلا فهذه سيوفنا في رقابنا ، ورماحنا في أكفنا وقلوبنا في أجوافنا ، وقد أعطيناك تبعتنا غير مستكرهين ، والأمر إليك . والسلام .
ثم وثب صعصعة بن صوحان العبدي فقال : يا أمير المؤمنين ! إنه قد شرحت الطاعة قلوبنا ونفدت في جهاد عدونا بصائرنا ، وأنت الوالي المطاع ، ونحن الرعية الأتباع ، وأنت أعلمنا بربنا ، وخيرنا في ديننا ، وأعظمنا حقاً فينا ، وسيدنا بعد نبينا ، وأقربنا منه قرابة ، فصلى الله عليه ورضي عنك ، فانفذ لرأيك نتبعه ، وإن أبيت هذه القضية فلا ضيم عليك ولا خذل ، ولو عصاك الناس كلهم لأطعناك ، فإن أجبت إلى ما دعيت إليه فنحن لك على السمع والطاعة إلى ما أمرت ، فاستخر الله واعزم على ما عزم عليه رأيك . والسلام . قال فسُرَّ علي بقوله ، وأثنى عليه خيراً .
ثم تكلم المنذر بن الجارود العبدي فقال : يا أمير المؤمنين ! إننا قد سمعنا مقال معاوية وعمرو بن العاص ، غير أنه إذا جاء أمر لا يدفع فامتثل الأمر فيه الرضا ، وقد كنا نرى أن ما زادنا من هؤلاء القوم نفعهم وما نفعنا ضرهم . وإن في ذلك أمرين تعجيل هوى أو تأخير مساءة ، إلى أن ترى غير ذلك ، فإن رأيته ففينا من البقية ما تفل له الحد وترد به الكلب ، وليس لنا معك إصدار ولا إيراد . والسلام .
قال : ثم وثب الحارث بن مرة فقال : يا أمير المؤمنين ! إننا منا من يقول ما لا يفعل ،
--------------------------- 387 ---------------------------
ومنا من يهوى ما لا يستطيع ، وليس ينفعك إلا من فعل واستطاع ، وقد والله ذهب الفاعل وضعف المستطيع ، ولسنا نحرك من شئ إن كنت قاتلت معاوية لله وقاتلك للدنيا ، فقد والله بلغ أهل الدين من الدنيا حاجتهم ، وإن كانوا بلغوا منا دون ما بلغنا منهم . فإن كنت كرهت هذه القضية وأردت قتالهم ، فمن مضى بمن مضى ومن بقي بمن بقي . والسلام .
قال : فجعل كل إنسان يتكلم بما يحضره من الكلام ، حتى قام شريك الأعور الهمداني والأحنف بن قيس وحارثة بن قدامة السعدي ، فتكلموا وحرضوا ، وخاف معاوية أن ينتقض عليه الأمر ، غير أنه ينظر إلى وجوه القوم فيعرفهم بأعيانهم وهو في ذلك حنق عليهم ، حتى قام عبد الله بن سوار ، وهو الذي قتل عبيد الله بن عمر فسكن القوم وقال : أسكنوا حتى أتكلم مع أمير المؤمنين بما أريد ، ثم أقبل على علي فقال : يا أمير المؤمنين ! والله إننا لنعلم أنك ما أوردت ولا أصدرت إلا ومعك من الله عز وجل برهان وحجة ، ونحن ممن يأمر ولا يؤمر عليه ، فإن كنت عزمت لم تفل ، وإن كنت لم تعزم فالمشورة لله رضا ، وليس أول أمر كآخره ، لأنه قد نكدر صفونا وقل جدنا ، وذهب أهل البصيرة والصبر منا ، وبقي أهل الشك والعلل ، وفينا أئمة جور ، ورجال هدى وهم قليل ، والأمر إليك .
قال : فوثب الأشتر مغضباً ثم قال : يا ابن سوار ! ما هذا الكلام الضعيف والرأي السخيف ؟ أسكن ودعني أكلم أمير المؤمنين ، إن معاوية لا خلف له من رجاله ، ولك عند الله الخلف ، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نظرك وقد بلغ الحق مقطعه ، وليس لنا معك رأي ، فإن أجبت إلى هذه القضية فأنت الإمام الرشيد والبطل المجيد ، وإن أبيت ذلك فاقرع الحديد على الحديد ، واستعن بالله العزيز الحميد .
قال : فقال له علي ( رضي الله عنه ) : أجلس ! فقد قضيت ما عليك .
قال : وعجب القوم من كلام الأشتر ، ومن إيجازه .
قال : ومعاوية وعمرو بن العاص ومن معهما من قريش وغيرهم من
--------------------------- 388 ---------------------------
أهل الشام سكوت ، ما فيهم أحد يتكلم عن معاوية ، ولا ينطق بشئ .
فقال علي ( رضي الله عنه ) لكاتبه : أكتب : هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان . فقال أبوالأعور السلمي : نبدأ بمعاوية ثم علي ، فقال له الأشتر : لا ولا كرامة لك ولا لمعاوية ، بل نبدأ بعلي قبل معاوية ، ونقدمه عليه وعلى غيره ، لأنه أسبق الناس إيماناً وهجرة وأدنى إلى الغلبة . فقال معاوية : يا أشتر ! قدم من شئت وأخر من شئت .
قال : فكتب الكاتب . بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، وأهل الحجاز وأهل العراق من شيعة علي وأهل الشام من شيعة معاوية ، أنهم ينزلون على حكم كتاب الله وأن كتاب الله بين علي ومعاوية من فاتحته إلى خاتمته ، وأن يحيوا ما أحيا القرآن ويميتوا ما أمات القرآن ، والحكمان عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص ، وأن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قد أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بما أنزل الله في كتابه ، فإن لم يجدا في كتاب الله فبالسنة الجماعة غير المتفرقة ، وأن عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص قد أمنا من الجندين جميعاً على دمائهما وأموالهما وأن الأمة لهما أنصار على ما تقاضيا عليه ، والعهد والميثاق على الفريقين جميعاً أن يرضوا بما في هذه الصحيفة ، وأن يرجع أهل العراق إلى عراقهم وأهل الشام إلى شامهم ، وأن يكون المجتمع للحكم بدومة الجندل ، والمدة بين علي ومعاوية سنة كاملة . والسلام .
قال : وكتب أهل العراق بهذا كتاباً لأهل الشام بخط عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي ، وكتب أهل الشام بهذا كتاباً لأهل العراق بخط عمار بن عباد الكلبي كاتب معاوية ، وشهد شهود أهل العراق على أهل الشام ، وشهود أهل الشام على أهل العراق ) . ( وكان الكتاب في صفر ، والأجل في شهر رمضان لثمانية أشهر يلتقي الحكمان ) . ( نصر / 521 ) .
تهديد قادة من أصحاب علي ( عليه السلام ) لمعاوية
قال ابن الأعثم ( 4 / 207 ) : ( فلما فرغ من الكتابين وختما وثب الأشتر النخعي وعدي بن حاتم الطائي وعمرو بن الحمق الخزاعي وشريح بن هانىء المذحجي وزحر بن قيس الجعفي والأحنف بن قيس التميمي ومن أشبههم من فرسان علي فقالوا :
--------------------------- 389 ---------------------------
يا معاوية ! إياك أن تظن بنا ميل الحق ، فإننا اليوم على ما كنا بالأمس ، غيرأنكم استغثتم بالمصاحف ودعوتمونا إلى كتاب الله عز وجل فأجبناكم إلى ذلك ، فإن حكم الحاكمان بالحق . وإلا فنحن راجعون إلى حربنا أو لا يبقى منا ومنكم واحد .
فقال معاوية : افعلوا ما أحببتم . قال : ونادى معاوية في أهل الشام أن يرجعوا إلى شامهم ، ونادى علي في أهل العراق بالرحيل إلى العراق ) .
ملاحظات
1 . نلاحظ في قول الأشعث عن لقب أمير المؤمنين : أمحُ هذا الاسم ترَّحهُ الله !
( أمالي الطوسي / 187 ) أنه كافر بألقاب خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه يعمل لبسط ملكية كندة ، كما قدمنا !
2 . كما نلاحظ أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جاهر برأيه في عمرو العاص ، وأعلن أنه عدو لله
ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) وابن حرام ، وطرده من الجلسة .
وحاشا علياً ( عليه السلام ) من الغضب الشخصي كغضبنا ، بل أراد تنبيه الأمة ، لتحذر من هذه النوعية التي خدعتها وأمسكت بمقدراتها ، كما نبه الله تعالى الأمة بإعلانه أن الوليد بن المغيرة أبا خالد ، ابن حرام ، فقال : وَلاتُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ للَّخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ .
3 . ونلاحظ أن معاوية سكت على كلام القادة من أصحاب علي ( عليه السلام ) ، وتحمل تهديدهم بصدر واسع ، وهذا من دهائه لأنه يعرف أن ذلك كلام وليس فعلاً ، والمهم عنده أن الاتفاقية تمت ، وبدأ مفعول وقف القتال ، وجاءته الخلافة !
يا علي ستعطيها وأنت مضطهد !
1 . قال البلاذري ( 2 / 337 ) : ( عن علقمة بن قيس قال : قلت لعلي : أتُقاضي معاوية على أن يَحْكمَ حكمان ! فقال : ما أصنع ؟ أنا مضطهد ! ) .
2 . وفي تاريخ دمشق ( 32 / 94 ) عن ابن عباس : ( قلت لعلي يوم الحكمين : لاتحكِّم الأشعري . قال : يا ابن عباس ما أصنع ! إنما أوتى من أصحابي ،
--------------------------- 390 ---------------------------
قد شَعَفَت نيتهم وكَلُّوا في الحرب . هذا الأشعث يقول : لا يكون فيها مضريان أبداً حتى يكون أحدهما يمان ! قال ابن عباس : فعذرته وعرفت أنه مضطهد وأن أصحابه لا نية لهم في الحرب ) .
3 . وروى الذهبي في تاريخه ( 2 / 391 ) : ( فقال رسول الله : أكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو . فجعل علي يتلكأ ويأبى إلا أن يكتب : محمد رسول الله . فقال رسول الله : أكتب ، فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد ، فكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ) .
ورواه البيهقي في دلائل النبوة ( 4 / 147 ) والسيوطي في الخصائص ( 1 / 408 ) وغيرهم كثير ، وقال الشعراوي في تفسىره ( 8 / 4689 ) : ( ويتحقق ذلك بعد حياة النبي ، وخلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، ثم تجئ الخلافة لعلي ، ويحدث فيها ما حدث ويتحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ) !
4 . ومن مصادرنا ، في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 366 ) : ( روى محمد بن إسحاق عن بريدة بن سفيان عن محمد بن كعب : أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لعلي ( عليه السلام ) : فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد ) .
5 . وفي تفسير القمي ( 2 / 313 ) : « ثم قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة ، فوالذي بعثني بالحق نبياً لتجيبن أبناءهم إلى مثلها ، وأنت مضيض مضطهد ) !
6 . وفي كامل الزيارات / 444 من حديث : ( قال لي جبرئيل : يا محمد إن أخاك مضطهد بعدك ، مغلوب على أمتك ، متعوب من أعدائك ، ثم مقتول بعدك يقتله أشر الخلق والخليقة وأشقى البرية ، نظير عاقر الناقة ، ببلد تكون إليه هجرته ، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده ) .
7 . وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 365 ) : ( قال الأعمش : حدثني من رأى علياً يوم صفين يصفق بيديه ويقول : يا عجباً أعصى ويطاع معاوية ؟ وقال : قد أبيتم إلا أبا موسى ؟ قالوا : نعم . قال : فاصنعوا ما بدا لكم . اللهم إني أبرأ إليك من صنيعهم ) !
--------------------------- 391 ---------------------------
أقول : العجب كل العجب من أعداء علي ( عليه السلام ) سمعوا هذه الآية النبوية ،
ولم يستيقظوا ، ولم يؤمنوا بأن خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حق كنبوة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
رفض الأشتر أن يشهد على الاتفاقية
وروى الطبري ( 4 / 39 و 42 و 84 ) ونصر في صفين / 511 و 521 : ( لما كتبت الصحيفة دُعِيَ لها الأشتر فقال : لاصحبتني يميني ، ولا نفعتني بعدها الشمال ، إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة ! أوَلست على بينة من ربي ، ويقين من ضلالة عدوي ! أو لستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور !
فقال له الأشعث بن قيس : إنك والله ما رأيت ظفراً ولا خوراً ، هلم فأشهد على نفسك ، وأقرر بما كتب في هذه الصحيفة فإنه لا رغبة بك عن الناس .
قال : بلى والله ، إن بي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة . ولقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ، ما أنت بخير منهم عندي ولا أحرم دماً ! فقال عمار بن ربيعة : فنظرت إلى الأشعث كأنما قُصع على أنفه الحمم . ( أي كأنما فُرِك أنفه بالفحم ) !
ثم قال الأشتر : ولكن قد رضيت بما صنع علي أمير المؤمنين ، ودخلت فيما دخل فيه ، وخرجت مما خرج منه ، فإنه لا يدخل إلا في هدى وصواب !
وقيل لعلي لما كتبت الصحيفة : إن الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ، ولا يرى إلا قتال القوم ! فقال علي : بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت ، وقد رضيت ورضيتم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ، ولا التبديل بعد الإقرار إلا أن يعصى الله ويتعدى ما في كتابه . وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك ، وليس أتخوفه على ذلك . وليت فيكم مثله اثنين بل ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوي مثل رأيه ، إذن لخفَّت عليَّ مؤونتكم ، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم . وقد نهيتكم عما أتيتم فعصيتموني ، وكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت * غويتُ وإن تُرشد غزيةُ أُرشد ) .
--------------------------- 392 ---------------------------
لم تكتمل فرحة الأشعث بالإتفاقية
قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 393 ) : ( ومرَّ الأشعث بالصحيفة يقرؤها على الناس فرحاً مسروراً ، حتى انتهى إلى مجلس لبني تميم فيه جماعة من زعمائهم ، منهم عروة ابن أذَية التميمي ، وهو أخو بلال الخارجي ، فقرأها عليهم ، فجرى بين الأشعث وبين أناس منهم خطب طويل ، وإن الأشعث كان بدء هذا الأمر والمانع لهم من قتال عدوهم حتى يفيئوا إلى أمرالله ، وقال له عروة بن أذَية : أتحكِّمون في دين الله وأمرِه ونهيه الرجال ! لاحكم إلا لله ! فكان أول من قالها وحكَّم بها ، وشد بسيفه عَلَى الأشعث فصم فرسه عن الضربة ، فوقعت في عجز الفرس ونجا الأشعث ، وكادت العصبية أن تقع بين النزارية واليمانية ، لولا اختلاف كلمتهم في الديانة والتحكيم !
وفي فعل عروة ابن أذية بالأشعث ، يقول رجل من بني تميم في أبيات :
عُرْو يا عرو كلُّ فتنة قوم * سلفت إنما تكون فَتِيَّه
ثم تَنْمِي ويعظم الخطب فيها * فاحذرنْ غِبَّ ما أتيت عُرَيَّه
أعَلَى الأشعث المعصب بالتا * ج حملتَ السلاح يا ابن أذيه
إنها فتنة كفتنة ذي العجل * أيا عروة العَصَا والعصيَّة
فانظر اليوم ما يقول عليّ * واتَّبِعه فذاك خيرُ البرية
ظهور الخوارج في صفين !
1 . قال ابن الأعثم ( 4 / 205 ) : ( فلما كتب الكتابان جميعاً وختموا ، وثب رجل من أصحاب علي من ربيعة من بني يشكر ، واستوى على فرسه ثم قال : أسقوني ماء فسقي ، فلما شرب وروي
--------------------------- 393 ---------------------------
جعل يرتجز ويقول :
أشرب من مائكم علِي * قد كان رأيي نصرة الوصِي
والفارس الشهم مع النبِي * حتى رضى بأمره الدنِي
- في ذاك منه فرقة الولِي
ثم حمل على أصحاب علي فقاتلهم ساعة ووقف وقال : أسقوني ماء ! فسقي ، فلما روي جعل يرتجز ويقول :
أشرب من مائكم معاوية * وكلكم مأواه نار حاميه
وأمكم تهوي بكم في الهاوية * أرجو من الله جناناً عاليه - فيها ظلال وقطوف دانيه
ثم حمل ، فكان مرة يحمل على أصحاب معاوية ، ومرة يحمل على أصحاب علي وهو ينادي بأعلى صوته : ألا إني قد خلعت علياً ومعاوية وبرئت من حكمهما ، ولا حكم إلا لله ولو كره المشركون !
ثم حمل على أصحاب علي فقاتل حتى قتل . قال : وكان هذا اليشكري أول من شرى ( شرى نفسه لله ) فأنشأ النجاشي شاعر علي يقول في ذلك :
ما كان أغنى اليشكري عن التي * أقاد بها جمراً من النار حاميا
غداة ينادي والفوارس جمة * خلعت علياً مرة ومعاويا
ويطعن في أهل العراق برمحه * وتلك التي جرت عليه الدواهيا
ويثني على أهل الشآم حتى كأنهم * بنات طيور الماء أبصرن بازيا
إذا شد نادى الحكم لله وحده * وفي الحكم أن تجنى عليه العواليا
فما زال هذا دابه في نهاره * إلى أن رأيت الليل أسود داجيا
رأى شبهة فيها لقوم ضلالة * ودلاه أصحاب الغرور الأمانيا
فضل ضلالاً لم ير الناس مثله * وأصبح يهوي في جهم ثاويا ) .
ورواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 115 ) وفيه : ( فلما كتب الكتابان أقبل رجل من بني يشكر على فرس له أبلق ، حتى وقف بين الصفين فقال : يا علي ، أكفر بعد إسلام ، ونقض بعد توكيد ، وردة بعد معرفة ؟ أنا من صحيفتيكما برئ وممن أقر بها ! ثم حمل على أصحاب معاوية فطعن فيهم ، حتى إذا عطش أتى عسكر علي فاستسقى فسقي . ثم حمل على عسكر علي فطعن فيهم ، حتى إذا عطش أتى عسكر معاوية فاستسقى فسقي . . . ) !
--------------------------- 394 ---------------------------
2 . وروى نصر / 517 و 514 و 518 ، أن فئة من جيش علي ( عليه السلام ) ندموا بعد إمضاء الاتفاقية ، قال : ( فنادت الخوارج أيضاً في كل ناحية : لا حكم إلا الله ، لا نرضى بأن نحكم الرجال في دين الله ، قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا معنا في حكمنا عليهم ، وقد كانت منا خطيئة وزلة حين رضينا بالحكمين ، وقد تبنا إلى ربنا ورجعنا عن ذلك ، فارجع كما رجعنا وإلا فنحن منك براء . فقال علي ( عليه السلام ) : ويحكم أبعد الرضا والعهد والميثاق أرجع ! أوَليس الله يقول : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الإيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ . قال : فبرئوا من علي وشهدوا عليه بالشرك ، وبرئ علي ( عليه السلام ) منهم ) !
3 . وقال نصر / 512 ، ملخصاً : ( خرج الأشعث بذلك الكتاب يقرؤه على الناس ويعرضه عليهم ، ومر به على صفوف أهل الشام وراياتهم فرضوا بذلك ، ثم مر به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم حتى مر برايات عنزة ، وكان مع علي من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف ، فلما مر بهم الأشعث فقرأه عليهم قال فَتَيان منهم : لاحكم إلا لله . ثم حملا على أهل الشام بسيوفهما فقاتلا حتى قتلا على باب رواق معاوية ، وهما أول من حكَّم ، وإسماهما معدان وجعد ، أخوان . ثم مر بها على مراد فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :
ما لعلي في الدماء قد حكم * لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم
ثم مر على رايات بني راسب فقرأها عليهم فقالوا : لاحكم إلا لله ، لا نرضى ولا نحكم الرجال في دين الله . ثم مر على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم : لا حكم إلا لله ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين . فقال رجل منهم لآخر : أما هذا فقد طعن طعنة نافذة .
وخرج عروة بن أدية أخو مرداس بن أدية التميمي فقال : أتحكمون الرجال في أمر الله ، لا حكم إلا لله ، فأين قتلانا يا أشعث ! ثم شد بسيفه ليضرب به الأشعث ، فأخطأه وضرب به عجز دابته ضربة خفيفة . . .
وانطلق الأشعث إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، قد عرضت الحكومة على صفوف
--------------------------- 395 ---------------------------
أهل الشام وأهل العراق ، فقالوا جميعاً : قد رضينا ، حتى مررت برايات بني راسب ونبذ من الناس سواهم ، فقالوا : لا نرضى ، لاحكم إلا لله . فلنحمل بأهل العراق وأهل الشام عليهم فنقتلهم !
فقال علي ( عليه السلام ) : هل هي غير راية أو رايتين ونبذ من الناس ؟ قال : بلى . قال : دعهم . قال : فظن علي أنهم قليلون لا يعبأ بهم . فما راعه إلا نداء الناس من كل جهة وفي كل ناحية : لاحكم إلا لله ، الحكم لله يا علي لا لك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله ! إن الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم . وقد كانت منا زَلَّةٌ حين رضينا بالحكمين فرجعنا وتبنا ، فارجع أنت يا علي كما رجعنا ، وتب إلى الله كما تبنا ، وإلا برئنا منك . فقال علي ( عليه السلام ) : ويحكم ، أبعد الرضا والعهد نرجع ! أوَليس الله تعالى قال : أَوْفُوا بالعُقُود . وقال : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الإيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْجَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ . فأبى علي أن يرجع ، وأبت الخوارج إلا تضليل التحكيم والطعن فيه .
وقام خطيب أهل الشام حمل بن مالك بين الصفين فقال : أنشدكم الله يا أهل العراق إلا أخبرتمونا لم فارقتمونا ؟ قالوا : فارقناكم لأن الله عز وجل أحل البراءة ممن حكم بغير ما أنزل الله ، فتوليتم الحاكم بغير ما أنزل الله ، وقد أحل عداوته وأحل دمه إن لم يرجع إلى التوبة ويبوء بالدين . فعاديناكم لأنكم عطلتم أحكام الله واتبعتم هواكم بغير هدى من الله .
قال الشامي حمل بن مالك : قتلتم أخانا وخليفتنا ونحن غيب عنه ، بعد أن استتبتموه فتاب ، فإن قتله لو كان عن ملأ من الناس ومشورة كما كانت إمرته ، لم يحل لنا الطلب بدمه . وقد رضينا أن تعرضوا ذنوبه على كتاب الله أولها وآخرها ، فإن أحل الكتاب دمه برئنا منه وممن تولاه ومن يطلب دمه . وإن كان كتاب الله يمنع دمه ويحرمه تبتم إلى الله ربكم ، وأعطيتم الحق من أنفسكم في سفك دم بغير حله بعقل أو قود . ونحن قوم نقرأ
--------------------------- 396 ---------------------------
القرآن وليس يخفى علينا منه شئ ، فأفهمونا الأمر الذي استحللتم عليه دماءنا ؟
قالوا : نعم ، قبلنا من عثمان بن عفان حين دعيَ إلى الله والتوبة من بغيه وظلمه ، وقد كان منا عنه كف حين أعطانا أنه تائب حتى جرى علينا حكمه بعد تعريفه ذنوبه ، فلما لم يتم التوبة وخالف بفعله عن توبته ، قلنا اعتزلنا ونولي أمرالمؤمنين رجلاً يكفيك ويكفينا ، فإنه لا يحل لنا أن نولي أمر المؤمنين رجلاً نتهمه في دمائنا وأموالنا ، فأبى ذلك وأصر ، فلما أن رأينا ذلك منه قتلناه . ومن تولاه بعد قتلنا إياه هم أهل بغي ، أمرالله أن يقاتلوا حتى يفيئوا من بغيهم إلى أمر الله . فقبل أمير المؤمنين مناصفتهم في المنازعة عند الحكمين بأن يحكما بكتاب الله ورد المحق والمبطل إلى أمره ) .
أقول : هذا الكلام في الحجة على قتال أهل الشام ، أو على محاصرة عثمان وقتله ، لا ينسجم مع مذهبنا . فمذهبنا أن الخلافة لعلي ( عليه السلام ) بالنص ، ثم على مبناهم بالبيعة ، فتجب طاعته ، والخارجون عليه عند الجميع بغاة يجب قتالهم .
مضافاً إلى أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الثابت لعلي ( عليه السلام ) أن يقاتل بعده على تأويل القرآن ، فهو أمر لا تطبيق له إلا قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، فقتالهم بأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
4 . قال في شرح النهج ( 5 / 80 ) ملخصاً : ( عروة بن أدية أحد بني ربيعة بن حنظلة ، حضر حرب النهروان ونجا فيها ، وأخذه زياد بن أبيه فسأله عن أبي بكر وعمر فقال خيراً ، فقال له فما تقول في عثمان وفي أبي تراب ؟ فتولى عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر ، وتولى علياً إلى أن حكَّم ثم شهد عليه بالكفر . ثم سأله عن معاوية فسبه ، فأمرفضربت عنقه ) .
5 . في نهاية الأرب للنويري ( 20 / 285 ) : ( في سنة ثمان وخمسين اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج ، فقتل منهم جماعة كثيرة ، منهم عروة بن أدية ، فأخذ وأتى به إلى ابن زياد فقطع يديه ورجليه وقتله وقتل ابنته ) .
6 . وروى الدينوري في الأخبار الطوال / 196 ، قصة عروة بن أدية مع الأشعث ثم قال : وقام محرز بن خنيس بن ضليع إلى علي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل ، فوالله إني لخائف أن يورثك ذلاً ؟ قال علي : أبعد أن كتبناه
--------------------------- 397 ---------------------------
ننقضه ! هذا لا يجوز ) .
7 . وروى البلاذري ( 5 / 387 ) أن ابن زياد قطع يدي عروة ورجليه وسأله : كيف ترى ؟ قال : أفسدت دنياي وأفسدت عليك آخرتك ، ثم بعث برأسه إلى ابنته فجاءت ورأت جثته مطروحة فقال لها : أنت على دينه ؟ قالت : وكيف لا أكون على دينه وما رأيت قطَّ خيراً منه ! فأمر بها فقتلت مع أبيها ) .
8 . قال البلاذري ( 2 / 336 ) : ( ويقال : إن أول من حكَّمَ يزيد بن عاصم المحاربي . وكان سيف عروة أول سيف شهر في التحكيم ) .
ظواهر ندم في جيش علي ( عليه السلام ) على إيقاف الحرب والتحكيم
قال نصر / 519 : ( عن عون بن أبي جحيفة قال : أتى سليمان بن صرد علياً أمير المؤمنين بعد الصحيفة ، ووجهه مضروب بالسيف ، فلما نظر إليه علي قال : فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً . فأنت ممن ينتظر وممن لم يبدل . فقال : يا أمير المؤمنين ، أما لو وجدت أعواناً ما كتبت هذه الصحيفة أبداً . أما والله لقد مشيت في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأول ، فما وجدت أحداً عنده خير إلا قليلاً .
وقام إلى علي محرز بن جريش بن ضليع فقال : يا أمير المؤمنين ، ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل ، فوالله إني لأخاف أن يورث ذلاً . فقال على : أبعد أن كتبناه ننقضه إن هذا لا يحل !
عن أبي الوداك قال : لما تداعى الناس إلى الصلح بعد رفع المصاحف قال علي : إنما فعلت ما فعلت لما بدا فيكم الخور والفشل وهما الضعف . فجمع سعيد بن قيس قومه ثم جاء في رجراجة من همدان كأنها ركن حصير يعني جبلاً باليمن ، فيهم عبد الرحمن غلام له ذؤابة ، فقال سعيد : ها أنذا وقومي لا نرادك ولا نرد عليك ، فمرنا بما شئت . قال ( عليه السلام ) : أما لو كان هذا قبل رفع المصاحف لأزلتهم عن عسكرهم أو تنفرد سالفتي قبل ذلك ، ولكن انصرفوا راشدين ، فلعمري ما كنت لأعرض قبيلة واحدة للناس .
--------------------------- 398 ---------------------------
عن الشعبي ، أن علياً قال يوم صفين حين أقر الناس بالصلح : إن هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق ، ولا ليجيبوا إلى كلمة السواء حتى يرموا بالمناسرتتبعها العساكر ، وحتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب ، وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس ، وحتى يدعوا الخيل في نواحي أرضهم وبأحناء مساربهم ومسارحهم ، وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج ، وحتى يلقاهم قوم صُدَّقٌ صُبَّر ، لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جداً في طاعة الله ،
وحرصاً على لقاء الله .
ولقد كنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضياً على أمض الألم ، وجداً على جهاد العدو ، والاستقلال بمبارزة الأقران . ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون ، فمرة لنا من عدونا ، ومرة لعدونا منا . فلما رآنا الله صُبَّراً صُدَّقاً ، أنزل الله بعدونا الكبت ، وأنزل علينا النصر .
ولعمري لو كنا نأتي مثل الذين أتيتم ، ما قام الدين ولا عز الإسلام . وأيم الله لتحلبنها دماً ، فاحفظوا ما أقول لكم ) !
- *
--------------------------- 399 ---------------------------
الفصل الحادي والثمانون: من شهداء ليلة الهرير
شهادة عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
1 . كان عمار من شيعة علي ( عليه السلام ) وكان من قادة جيشه في حرب الجمل ، وله في صفين أخبار ، وكان قائد رَجَّالة أهل الكوفة . ( صفين / 208 ) .
وهو أحد الأركان الأربعة من أصحاب علي ( عليه السلام ) : المقداد ، وسلمان ، وحذيفة ، .
لكن عماراً أقلهم درجة .
فقد روى الكشي ( 1 / 38 ) بسند صحيح عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك إلى علي ( عليه السلام ) فقالوا له : أنت والله أمير المؤمنين وأنت والله أحق الناس وأولاهم بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هلمَّ يدك نبايعك فوالله لنموتن قدامك ! فقال علي : إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليَّ مُحَلِّقين ، فحلق عليٌّ وحلق سلمان وحلق مقداد وحلق أبو ذر ، ولم يحلق غيرهم ) .
وفي الإختصاص / 6 : ( وجاءه عمار بن ياسربعد الظهر فضرب يده على صدره ثم قال له : أما آن لك أن تستيقظ من نومة الغفلة ! إرجعوا فلا حاجة لي فيكم ، أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس ، فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد ، إرجعوا فلا حاجة لي فيكم ) .
وروى الكشي ( 1 / 51 ) : ( عن أبي بكر الحضرمي عن الباقر ( عليه السلام ) قال قلت : فعمار ؟ قال : قد كان جاض جيضة ثم رجع ، ثم قال : إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شئ فالمقداد ) .
ومع ذلك فعمار من خاصة شيعة علي ( عليه السلام ) .
وروى الكشي ( 1 / 126 ) أن حمران بن أعين سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( ما تقول في عمار ؟ قال : رحم الله عماراً ثلاثاً ، قاتل مع أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله وقتل شهيداً . قال قلت في
--------------------------- 400 ---------------------------
نفسي : ما تكون منزلة أعظم من هذه المنزلة ! فالتفت إلي فقال : لعلك تقول مثل الثلاثة هيهات ! قال قلت : وما علمه أنه يقتل في ذلك اليوم ؟ قال : إنه لما رأى الحرب لا تزداد إلا شدة والقتل لا يزداد إلا كثرة ، ترك الصف وجاء إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين هو هو ؟ قال : إرجع إلى صفك ، فقال له ذلك ثلاث مرات ، كل ذلك يقول له إرجع إلى صفك ، فلما أن كان في الثالثة قال له : نعم . فرجع إلى صفه وهو يقول : اليوم ألقى الأحبة ، محمداً وحزبه ) .
2 . كتبنا في جواهر التاريخ ( 2 / 288 ) : ( من الأحاديث المتواترة عند المسلمين أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدح عمار بن ياسر ، وأخبر أنه ستقتله الفئة الباغية .
فقد روى البخاري ( 1 / 122 ) قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وَيْحُ عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار . وروى في ( 115 و : 3 / 207 ) عن أبي سعيد قال : كنا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة وكان عمار ينقل لِبْنتين لبنتين ، فمر به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومسح عن رأسه الغبار وقال : ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار . وقال في كشف الخفاء ( 2 / 346 ) : ( متفق عليه عن أبي سعيد ، ولفظ البخاري : يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار ) .
وقال المغربي في شرح الأخبار ( 1 / 410 ) : ( إن الله قد ملأ قلب عمار وسمعه وبصره إيماناً ، لا يعرض عليه أمرٌ حق إلا قبله ، ولا أمرٌ باطل إلا رده ، تقتله الفئة الباغية . آخر زاده من الدنيا ضِيَاحٌ من لبن ، وقاتلاه وسالباه في النار ) .
واشتهر هذا الحديث بين المسلمين ، وكان عمرو العاص يرويه قبل صفين ، فقال له
ذوالكلاع أحد قادة جيش معاوية : هذا عمار مع علي ! فقال : سيكون معنا ! ثم استطاع
ذوالكلاع أن يجمع بين عمرو وعمار ، فكانت بينهما المناظرة المشهورة .
ولما استشهد عمار مع علي ( عليه السلام ) أُفحم معاوية ! قال أحمد ( 4 / 199 ) : ( فقام عمرو بن العاص فزعاً يُرَجِّع حتى دخل على معاوية فقال له معاوية : ما شأنك ؟ قال : قتل عمار ! فقال معاوية : قد قتل عمار ، فماذا ؟ قال عمرو : سمعت رسول الله يقول : تقتله الفئة الباغية ! فقال له معاوية : دَحَضْتَ في بولك أَوَ نَحْنُ قتلناه ؟ إنما قتله عليٌّ وأصحابُه جاؤوا به
--------------------------- 401 ---------------------------
حتى ألقوه بين رماحنا ) !
وفي مجمع الزوائد ( 7 / 244 ) : ( عن عبد الله بن عمرو أن رجلين أتيا عمرو بن العاص يختصمان في دم عمار وسلبه فقال : خليا عنه فإني سمعت رسول الله يقول : إن قاتل عمار وسالبه في النار ! فقيل لعمرو : فإنك هو ذا تقاتله ! قال : إنما قال قاتله وسالبه ! ورجال أحمد ثقات ) .
وقال الجصاص في أحكام القرآن ( 3 / 531 ) : ( وهذا خبرمقبول من طريق التواتر حتى إن معاوية لم يقدر على جحده لما قال له عبد الله بن عمر ، فقال : إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسنتنا ) .
وقال المناوي في فيض القدير ( 6 / 474 ) : ( قال القرطبي : وهذا الحديث من أثبت الأحاديث وأصحها ، ولما لم يقدر معاوية على إنكاره قال إنما قتله من أخرجه ! فأجابه عليٌّ بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذنْ قتل حمزة حين أخرجه !
قال ابن دحية : وهذا من علي إلزام مفحم لا جواب عنه ، وحجة لا اعتراض عليها . وقال الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتاب الإمامة : أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي ، منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين ، أن علياً مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو مصيب في أهل الجمل ، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له ، لكن لا يكفَّرون ببغيهم ) . ( راجع في فضل عمار وتحريف معاوية : مسند أحمد : 2 / 164 و 206 ، و : 3 / 22 ، و 91 ، و : 4 / 197 ، و : 6 / 289 ، والحاكم : 2 / 149 ، و 155 ، و : 3 / 386 ، والزوائد : 7 / 244 ، و 247 . ومصنف عبد الرزاق : 11 / 240 , وابن أبي شيبة : 8 / 723 ، وسنن النسائي : 5 / 155 ، و 157 ، وخصائص أمير المؤمنين للنسائي / 132 بعدة أحاديث ، وأبي يعلى : 11 / 403 ، و : 12 / 455 ، و : 13 / 123 ، و 331 ، وابن حبان : 15 / 553 ، وأوسط الطبراني : 6 / 249 ، و : 8 / 44 ، وكبير الطبراني : 19 / 330 ، وشرح نهج البلاغة : 20 / 334 ، ومن مصادرنا : شرح الأخبار : 1 / 408 ، وأمالي الصدوق 489 ) .
وفي مقتل الشهيد عثمان للمالقي / 224 : ( قال ابن عقيل في كتاب الإرشاد :
إن الباغية هي الطالبة بدم عثمان . وحكاه عن أحمد ) .
--------------------------- 402 ---------------------------
وفي الإحتجاج ( 1 / 266 ) قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( لما قتل عمار بن ياسر ارتعدت فرائص خلق كثير وقالوا : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : عمار تقتله الفئة الباغية ، فدخل عمرو على معاوية فقال . . . فاتصل ذلك بعلي ( عليه السلام ) قال : فإذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هو الذي قتل حمزة لمَّا ألقاه بين رماح المشركين ) !
وقال الحافظ ابن عقيل في النصائح الكافية لمن يتولى معاوية / 39 : ( حاول معاوية التملص من هذا الحديث بالاحتيال ، لكيلا ينتقض عليه أحد من أصحابه ، حيث لم يقدر على إنكاره فقال : إنما قتله من أخرجه ) !
3 . وقال الخوارزمي / 233 : ( رويَ أن الحرث بن ياقور أخا ذي الكلاع برز إلى عمار فضربه عمار فصرعه ، وكان يقتل كل من بزر إليه ، وينشد :
نحن ضربناكم على تنزيله * فاليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله *
واستسقى عمار فأتيَ بلبن في قدح ، فلما رآه كبَّر ثم شربه وقال : إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لي : آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن ، وتقتلك الفئة الباغية ، وهذا آخر أيامي من الدنيا !
ثم حمل وأحاط به أهل الشام ، واعترضه أبوالعادية الفزاري وابن جوني السكسكي ، فأما أبوالعادية فطعنه ، وأما ابن جوني فاحتز رأسه . وكان ذوالكلاع وتحت أمره ستون ألفاً من الفرسان ، يقول لعمرو بن العاص : ويحك أنحن الفئة الباغية ؟ وكان في شك من ذلك ، فيقول عمرو : إنه سيرجع إلينا ، واتفق أنه أصيب ذوالكلاع يوم أصيب عمار ، فقال عمرو : لو بقي ذوالكلاع لمال بعامة قومه ولأفسد علينا جندنا . فلما رأى ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص قال لأبيه : أشهد لسمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لعمار : تقتلك الفئة الباغية ، فقال عمرو لمعاوية : ألا تسمع إلى ما يقول ابن أخيك ، وأخبره بالحديث فقال معاوية : أنحن قتلنا عماراً ، إنما قتله من جاء به فألقاه تحت رماحنا !
وفرح بقتل عمار أهل الشام وقال معاوية : قتلنا عبد الله بن بديل وهاشم بن عتبة وعمار بن ياسر ، فاسترجع النعمان بن بشير وقال : والله إن كنا نعبد اللات والعزى
--------------------------- 403 ---------------------------
وعمار يعبد الله ، ولقد عذبه المشركون بالرمضاء وغيرها من ألوان العذاب ، وكان يوحد الله ويصبر على ذلك . وقال رسول الله : صبراً يا آل ياسر موعدكم الجنة . وقال : إن عماراً يدعو الناس إلى الجنة ويدعونه إلى النار . وقال ابن جوني : أنا قتلت عماراً ، فقال له عمرو : ماذا قال حين ضربته ؟ قال :
اليوم ألقى الأحبه * محمداً وحزبه
فقال : صدقت أنت صاحبه . والله ماظفرت يداك ، ولقد أسخطت ربك ) .
وفي مصنف ابن أبي شيبة ( 8 / 723 ) : ( أتاه رجلان يختصمان في رأس عمار ، كل واحد منهما يقول : أنا قتلته ، قال عبد الله بن عمرو : ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه ، فإني سمعت رسول الله يقول : تقتله الفئة الباغية !
فقال معاوية : ألا تغني عنا مجنونك يا عمرو [ قال ] : فما بالك معنا ! قال :
إني معكم ولست أقاتل ، إن أبي شكاني إلى رسول الله فقال رسول الله : أطع أباك ما دام حياً ولا تعصه ، فأنا معكم ، ولست أقاتل ) .
4 . وقال الإمام الهادي ( عليه السلام ) مخاطباً جده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في زيارة الغدير : « ولك سابقة الجهاد على تصديق التنزيل ، ولك فضيلة الجهاد على تحقيق التأويل ، وعدوك عدو الله جاحد لرسول الله ، يدعو باطلاً ويحكم جائراً ، ويتأمر غاصباً ، ويدعو حزبه إلى النار . وعمار يجاهد وينادي بين الصفين : الرواح الرواح إلى الجنة . ولما استسقى فسقي اللبن كبَّر وقال : قال لي رسول الله : آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن وتقتلك الفئة الباغية ، فاعترضه أبوالعادية الفزاري فقتله ، فعلى أبي العادية لعنة الله ولعنة ملائكته ورسله أجمعين » . ( المزار لابن المشهدي / 277 ) .
قال الصدوق في كمال الدين / 531 : « وكيف يُصدق ( ( عليهما السلام ) ) فيما أخبر به في أمر عمار بن ياسرأنه تقتله الفئة الباغية ، وفي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه تخضب لحيته من دم رأسه وفي الحسن بن علي ( عليه السلام ) أنه مقتول بالسم ، وفي الحسين بن علي ( عليه السلام )
أنه مقتول بالسيف ؟ ولا يصدق فيما أخبر به من أمر القائم ( عليه السلام ) ووقوع الغيبة به والتعيين له باسمه ونسبه !
--------------------------- 404 ---------------------------
بل هو ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صادق في جميع أقواله ، مصيبٌ في جميع أحواله ، ولا يصح إيمان عبد حتى لا يجد في نفسه حرجاً مما قضى ، ويسلم له في جميع الأمور تسليماً » .
5 . وفي كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر / 120 ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار ، عن أبيه ، عن جده عمار قال : ( كنت مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بعض غزواته وقتل علي ( عليه السلام ) أصحاب الألوية وفرق جمعهم ، وقتل عمرواً بن عبد الله الجمجمي ، وقتل شيبة بن نافع ، أتيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقلت له : يا رسول الله ، صلى الله عليك ، إن علياً قد جاهد في الله حق جهاده . فقال : لأنه مني وأنا منه ، وهو وارث علمي وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، والخليفة بعدي ، ولولاه لم يعرف المؤمن المحض . حربه حربي وحربي حرب الله ، وسلمه سلمي وسلمي سلم الله ، ألا إنه أبوسبطيَّ . والأئمة من صلبه يخرج الله تعالى منه الأئمة الراشدين ، ومنهم مهديُّ هذه الأمة . فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما هذا المهدي ؟ قال : يا عمار إن الله تبارك وتعالى عهد إليَّ أنه يخرج من صلب الحسين تسعة والتاسع من ولده يغيب عنهم ، وذلك قوله عز وجل : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ، يكون له غيبة طويلة يرجع عنها قوم ويثبت عليها آخرون ، فإذا كان في آخر الزمان يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً ، ويقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، وهو سميي وأشبه الناس بي .
يا عمار ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه ، فإنه مع الحق والحق معه . يا عمار إنك ستقاتل بعدي مع علي صنفين : الناكثين والقاسطين ، ثم تقتلك الفئة الباغية . قلت : يا رسول الله أليس ذلك على رضا الله ورضاك ؟ قال : نعم على رضا الله ورضاي ، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه . فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : يا أخا رسول الله ، أتأذن لي في القتال ؟ قال : مهلاً رحمك الله ، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله فأعاد عليه ثالثاً ، فبكى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : إنه اليوم الذي وصفه لي رسول الله فنزل أمير المؤمنين عن بغلته وعانق عماراً وودعه ، ثم قال : يا أبا اليقظان جزاك الله عن نبيك خيراً ، فنعم الأخ كنت ونعم الصاحب كنت ! ثم بكى ( عليه السلام ) وبكى عمار ثم قال : والله يا أمير المؤمنين
--------------------------- 405 ---------------------------
ما تبعتك إلا ببصيرة فإني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول يوم خيبر : يا عمار ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذاك فاتبع علياً وحزبه فإنه مع الحق والحق معه ، وستقاتل الناكثين والقاسطين ، فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء ، فلقد أديت وأبلغت ونصحت .
ثم ركب وركب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم برز إلى القتال ثم دعا بشربة من ماء ، فقيل له : ما معنا ماء ، فقام إليه رجل من الأنصار فأسقاه شربة من لبن ، فشربه ثم قال : هكذا عهد إليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من لبن .
ثم حمل على القوم فقتل ثمانية عشر نفساً ، فخرج إليه رجلان من أهل الشام فطعناه وقتل ( رحمه الله ) . فلما كان في الليل طاف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في القتلى ، فوجد عماراً ملقى بين القتلى ، فجعل رأسه على فخذه ثم بكى ( عليه السلام ) وأنشأ يقول :
ألا أيها الموت الذي لست تاركي * أرحني فقد أفنيت كلَّ خليل
أراك بصيراً بالذين أحبهم * كأنك تمضي نحوهم بدليل ) .
هذا ، وسنذكر في فصل بطولة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حملته بعد قتل عمار حتى وصل إلى معاوية ، وطلب منه أن يبارزه ، فنكص عنه !
ملاحظات
1 . قول الرواة عن ذي الكلاع : ( أصيب ذوالكلاع يوم أصيب عمار ، فقال عمرو : لو بقي ذوالكلاع لمال بعامة قومه ولأفسد علينا جندنا ) يوجب الشك في أن معاوية وعمراً قتلا ذا الكلاع !
2 . قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 381 ) عن عمار : ( فقتله أبوالعادية العاملي وابن جَوْن السكسكي ، واختلفا في سَلَبه )
وفي رواية نصر / 340 : أبوالعادية الفزاري . وفي ذيل المذيل للطبري / 16 : ( أبوغادية المزني ) بالغين . وقال ابن العديم في تاريخ حلب ( 10 / 4548 ) : ( أبو الغادية المري ، وقيل الفزاري ، شهد صفين مع معاوية بن أبي سفيان ، وقيل إنه هو الذي قتل عمار بن ياسر ، وقد سبق في باب العين المهملة ذكر أبي عادية الجهني ، وأنه طعن عماراً وقتله غِرَّة ) .
--------------------------- 406 ---------------------------
والصحيح أنه فزاري لشهادة الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) ، فقد قال في زيارة الغدير : ( اعترضه أبوالعادية الفزاري فقتله ، فعلى أبي العادية لعنة الله ولعنة ملائكته ورسله أجمعين » . ( المزار لابن المشهدي / 277 ) .
وهذا يبعد كونه عاملياً ، لأن فزارة قبيلة نجدية وبنو عاملة في بر الشام ، وقد نسب إليهم جبل عامل . واشتهر منهم عدي بن الرقاع العاملي المتوفى سنة 95 ، وكان شاعر بني أمية مع الأسف ، وقد تهاجى مع جرير . ( الأعلام : 4 / 221 ) .
والنتيجة أن لقب العاملي في اسم أبي الغادية تصحيف ، ويحتمل بعيداً أن يكون أبو الغادية فزارياً سكن عاملة ، فنسب إليها .
مناظرة عمار مع عمرو العاص في صفين
كان اليمانيون في صدر الإسلام أكبر قوة مقاتلة في الأمة ، فهم أصحاب الدور الأكبر في فتوح العراق وإيران وبلاد الشام .
وكانوا قسمين ، فبعضهم مع معاوية ، وأكثرهم مع علي ( عليه السلام ) . فمعه الأنصار ، ومذحج والنخع وبطلهم مالك الأشتر ، ومعه كندة رغم خيانة رئيسها الأشعث بن قيس ، ومعه بجيلة رغم خيانة رئيسها جرير ، وكان عدة قبائل يمنية منقسمة ، قسماً مع معاوية وقسماً مع علي ( عليه السلام ) .
وكانت أكبر قوة لمعاوية يمانية حمص برئاسة ذي الكلاع الحميري وحوشب ذي ظليم ، وبالغ الرواة فقالوا إن قوات ذي الكلاع كانت ستين ألفاً ، وكان له ابن عم مع علي ( عليه السلام ) يسمى أبانوح وبينهما مراسلة ، فتأثر ذوالكلاع بكلام أبي نوح وحديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعمار بأنه مع الحق وتقتله الفئة الباغية ، فرتبا مناظرة بين عمار وعمرو !
ونورد حديثها برواية ابن الأعثم ( 3 / 71 ) ونصر بن مزاحم / 333 قال أبو نوح : ( كنت في صفين في خيل علي ( عليه السلام ) وهو واقف بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أفناء قحطان ، وإذا أنا برجل من أهل الشام يقول : من دل على الحميري أبي نوح ؟ فقلنا : هذا الحميري فأيهم تريد ؟ قال : أريد الكلاعي أبانوح . قال قلت : قد وجدته فمن أنت ؟ قال : أنا ذوالكلاع سِرْ إليَّ . فقلت له : معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة .
--------------------------- 407 ---------------------------
قال ذوالكلاع : بلى فسرفلك ذمة الله وذمة رسوله وذمة ذي الكلاع ، حتى ترجع إلى خيلك ، فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه . فسر دون خيلك حتى أسير إليك . فسار أبو نوح وسار ذوالكلاع حتى التقيا ، فقال
ذوالكلاع : إنما دعوتك أحدثك حديثاً حدثناه عمرو بن العاص قديماً في إمارة عمر بن الخطاب . قال أبو نوح : وما هو ؟ قال ذوالكلاع : حدثنا عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه قال : يلتقي أهل الشام وأهل العراق ،
وفي إحدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر .
قال أبو نوح : لعمر الله إنه لفينا . قال : أجادُّ هو في قتالنا ؟ قال أبو نوح : نعم ورب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني ، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي !
قال ذوالكلاع : ويلك علامَ تتمنى ذلك منا ! والله ما قطعتك فيما بيني وبينك ، وإن رحمك لقريبة ، وما يسرني أن أقتلك .
قال أبو نوح : إن الله قطع بالإسلام أرحاماً قريبة ، ووصل به أرحاماً متباعدة ، وإني لقاتلك أنت وأصحابك ، ونحن على الحق وأنتم على الباطل ، مقيمون مع أئمة الكفر ورؤوس الأحزاب .
فقال له ذوالكلاع : فهل تستطيع أن تأتي معي في صف أهل الشام ، فأنا جار لك من ذلك ألا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعه ، ولا تحبس عن جندك ، وإنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص ، لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين ، ويضع الحرب والسلاح .
فقال أبو نوح : إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك . فقال له ذوالكلاع :
أنا لك بما قلت زعيم . فقال أبو نوح : اللهم إنك ترى ما أعطاني ذوالكلاع وأنت تعلم ما في نفسي ، فاعصمني واختر لي وانصرني وادفع عني .
وفي رواية ابن الأعثم : وأقبل أبو نوح حتى وقف بين الجمعين ، وخرج ذوالكلاع حتى وقف قبالته ، فقال أبو نوح : يا ذا الكلاع ، إنه ليس في هذين الجمعين أحد أولى
--------------------------- 408 ---------------------------
بنصيحتك مني ، إن معاوية بن أبي سفيان أخطأ وأخطأتم معه في خصال كثيرة . لخطأة واحدة أنه من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة فأخطأ بادعائه إياها وأخطأتم باتباعه .
وأخطأ في الطلب بدم عثمان وأخطأتم معه ، لأن غيره أولى بطلب دم عثمان منه . وأخطأ أنه رمى علياً بدم عثمان وأخطأتم بتصديقكم إياه ونصركم له ، وهذا أمرقد شهدناه وغبتم عنه . فاتق الله ويحك يا ذا الكلاع ، فإن عثمان بن عفان أتيح له قوم فقتلوه بدعوى ادعوا عليه ، والله الحاكم في ذلك يوم القيامة ، وقد بايعت الناس علياً برضاء منه ومنهم ، لأنه لم يك للناس بد من إمام يقوم بأمرهم ، وليس لأهل الشام مع المهاجرين والأنصارأمر . فإن قلت إن علياً ليس بخير من معاوية ولا بأحق منه بهذا الأمرفهات رجلاً من قريش ممن ترضى دينه حتى يعدل بينهم في شئ من الدين والشرف ، والسابقة في الإسلام .
فقال له ذوالكلاع : إنني قد سمعت كلامك أبانوح ولم يخف علي منه شئ ، ولكن هل فيكم عمار بن ياسر ؟ فقال أبو نوح : نعم هو فينا . قال : فهل يتهيأ لك أن تجمع بينه وبين عمرو بن العاص فيتكلمان وأنا أسمع ؟ فقال أبو نوح : نعم . ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس ، وعبد الله بن عمرو يحرض الناس على الحرب ، فلما وقفا على القوم قال ذوالكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله ، هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق ، يخبرك عن عمار بن ياسرلا يكذبك ؟ قال عمرو : ومن هو ؟ قال : ابن عمي هذا وهو من أهل الكوفة . فقال عمرو : إني لأرى عليك سيما أبي تراب . قال أبو نوح : عليَّ سيما محمد صلى الله عليه وأصحابه وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون ! فقام أبوالأعور فسل سيفه ثم قال : لا أرى هذا الكذاب اللئيم يشاتمنا بين أظهرنا ، وعليه سيما أبي تراب !
فقال ذوالكلاع : أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأخطمن أنفك بالسيف ! ابن عمي وجاري عقدت له بذمتي ، وجئت به إليكما ليخبركما عما تماريتم فيه ! قال له عمرو بن العاص : أذكرك بالله يا أبانوح إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا ، أفيكم عمار بن ياسر ؟ فقال له أبو نوح : ما أنا بمخبرك عنه حتى تخبرني لم تسألني عنه ، فإنا معنا من أصحاب
--------------------------- 409 ---------------------------
رسول الله صلى الله عليه عدة غيره ، وكلهم جاد على قتالكم . قال عمرو : سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : إن عماراً تقتله الفئة الباغية ، وإنه ليس ينبغي لعمار أن يفارق الحق ولن تأكل النار منه شيئاً . فقال أبو نوح : لا إله إلا الله والله أكبر ، والله إنه لفينا . فقال عمرو : والله إنه لجاد على قتالنا ؟ قال : نعم والله الذي لا إله إلا هو ، ولقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر عليهم ، ولقد حدثني أمس أن لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق وأنهم على باطل ، ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار .
فقال له عمرو : فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه ؟ قال : نعم . فلما أراد أن يبلغه أصحابه ركب عمرو بن العاص وابناه وعتبة بن أبي سفيان ، وذو الكلاع وأبوالأعور السلمي وحوشب والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فانطلقوا حتى أتوا خيولهم . وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع حتى انتهيا إلى أصحابه ، فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعداً مع أصحاب له ، منهم ابنا بديل وهاشم والأشتر وجارية بن المثني وخالد بن المعمر وعبد الله بن حجل وعبد الله بن العباس ، فقال أبو نوح : إنه دعاني ذوالكلاع وهو ذو رحم فقال : أخبرني عن عمار بن ياسر أفيكم هو ؟ قلت : لم تسأل ؟ قال : أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه يقول : يلتقي أهل الشام وأهل العراق وعمار في أهل الحق يقتله الفئة الباغية . فقلت :
إن عماراً فينا . فسألني : أجادٌّ هو على قتالنا ؟ فقلت : نعم والله أجدُّ مني ، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحتكم وبدأت بك يا ذا الكلاع . فضحك عمار وقال :
هل يسرك ذلك ؟ قال : قلت نعم . قال أبو نوح : أخبرني الساعة عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه يقول : عمار يقتله الفئة الباغية . قال عمار : أقررته بذلك ؟ قال : نعم أقررته فأقر . فقال عمار : صدق وليضرنه ما سمع ولا ينفعه . ثم قال أبو نوح لعمار : فإنه يريد أن يلقاك .
--------------------------- 410 ---------------------------
وفي رواية : فجاء ذوالكلاع إلى معاوية فقال : إن أبانوح يريد كلامي ولست مكلمه إلابإذنك ، فما ترى في كلامه أكلمه أم لا ؟ فقال معاوية : وما تريد إلى كلامه ، فوالله ما نشك في هداك ولا في ضلالته ولا في حقك ولا في باطله . فقال ذوالكلاع : على ذلك إئذن لي في كلامه . فقال معاوية : ذاك إليك .
وفي رواية : وقام الصباح الحميري إلى معاوية فقال له : إني أرى لك أن لا تأذن لذي الكلاع أن يلقى أبانوح فإنه قد طمع فيه ، وأخاف أن يشككه في دينه ! فقال معاوية : إني قد نهيته فلم ينته عن ذلك ، وهو رجل من سادات حمير وأنا أرجو أن لا يخدع . فأنشأ رجل من أصحاب معاوية يقول :
إني رأيت أبانوح له طمعٌ * في ذي الكلاع فلا يقرب أبانوح
إني أخاف عليه من بوادره * كيد العراق وقرناً غير منطوح
إن يرجع اليوم للعقبين ذو كلع * يرجع له الشام من شك وتصريح
ما قول عمرو وشر القول أكذبه * إلا هشيم ذراه عاصف الريح
لا بارك الله في عمرو وخطبته * إن التي رامها فجر وتجليح
لو شاء قال له قولاً يشككه * حتى يظن سحوق النخل كالشيح
وفشا الأمر في الناس ، فأنشأ رجل من أصحاب علي يقول :
أذكر أخا كلع أمراً سيعقبه * شكاً وشيكاً فبادره أبانوح
حتى نشككه في دين صاحبه * والشك منه قريب شبه تصريح
أما الرجوع فإني لست آمله * إلا وبعض دماء القوم مسفوح
من يحصب ورعين أو ذوي كلع * وأصبح الشمر ذي الرأي المراجيح
كم ساعد قد أبان السيف مرفقها * ورأس أشوس وسط القوم مطروح
قال ابن هند له قولاً فأطمعه * إن المطامع باب غير مفتوح
بادره من قبل أن تنشب أظافره * من ابن هند بتشبيع وتجليح
وامنحه نصحك إما كنت ناصحه * ما كان نصح أبي نوح بمشروح
إن خالف اليوم أهل الشام ذو الكلع * لا يمس بالشام قرن غير منطوح
--------------------------- 411 ---------------------------
وأقبل عمار ومعه الأجلاء من أهل عسكره ، وتقدم عمرو بن العاص في أجلاء عسكره حتى اختلفت أعناق الخيل ، فنزلوا هؤلاء وهؤلاء عن خيولهم واحتبوا بحمائل سيوفهم ، وذهب عمرو يتكلم التشهد ، فقال عمار : أسكت ! وقد تركتها في حياة محمد ( ( عليهما السلام ) ) وبعد موته ، ونحن أحق بها منك ، فاخطب بخطبة الجاهلية ، وقل قول من كان في الإسلام دنياً ذليلاً وفي الضلال رأساً محارباً ، فإنك ممن قاتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حياته وبعد موته وفتن أمته من بعده ، وأنت الأبتر بن الأبتر شانئ محمد ( ( عليهما السلام ) ) وشانئ أهل بيته ! قال : فغضب عمرو ثم قال : أما إن فيك لهنات ! ولو شئت أن أقول لقلت . فقال عمار : وما عسى أن تقول عني ؟ إني كنت ضالاً فهداني الله ، ووضيعاً فرفعني الله ، وذليلاً فأعزني الله ، فإن كنت تزعم هذا فقد صدقت وإن تزعم أني خنت الله ورسوله يوماً واحداً ، أو توليت غيرالله يوماً واحداً فقد كذبت ! ولكن هلم إلى ما نحن فيه الآن ، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك ، وإن شئت كانت خطب فنحن أعلم بفصل الخطاب منك ، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك وتكفرك قبل القيام من مجلسك وتشهد بها على نفسك ، ولا تستطيع أن تكذبني : هل تعلم أن عثمان بن عفان كان عليه الناس بين خاذل له ومحرض عليه وما همَّ فيه من نصره بيده ولا نهي عنه بلسانه ؟ وقد حصرأربعين يوماً في جوف داره ليس له جمعة ولا جماعة ، وتظن ما كان فيه قبل أن يقتل ما كان من طلحة والزبير وعائشة بنت أبي بكر ، حين منعها أرزاقها فقالت فيه ما قالت ، وحرضت على قتله ، فلما قتل خرجت فطلبت بدمه بغير حق ، ولا حكم من الله تعالى في يدها ! ثم إن صاحبك هذا معاوية قد طلب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن يترك له ما في يده ، فأبى علي ذلك ، فانظر في هذا ، ثم سلط الحق على نفسك فاحكم لك وعليك .
قال فقال عمرو : صدقت أبا اليقظان قد كان ذلك كما ذكرت في أمر عائشة وطلحة والزبير . وأما معاوية فله أن يطلب بدم عثمان ، لأنه رجل من بني أمية وعثمان من بني أمية ، وليس لهذا جئتُ ، إذ رِسْل هذا الأمر الذي قد شجر بيننا وبينكم ، لأني رأيتك
--------------------------- 412 ---------------------------
أطوع هذا العسكر ، فاذكرالله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم وحرضت على ذلك .
ويحك أبا اليقظان ، على ماذا تقاتلنا ، ألسنا نعبد الله واحداً ؟ ألسنا نصلي إلى قبلتكم ، وندعو بدعوتكم ، ونقرأ كتابكم ، ونؤمن بنبيكم !
فقال عمار : الحمد لله الذي أخرجها من فيك ! القبلة والله لي ولأصحابي ، ولنا الدين والقرآن وعبادة الرحمن ، ولنا النبي والكتاب ، من دونك ودون أصحابك ، وإن الله تبارك وتعالى قد جعلك ضالاً مضلاً ، وأنت لاتعلم أهاد أنت أم ضال ، ولقد أمرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن أقاتل الناكثين فقد فعلت وأمرني أن أقاتل القاسطين فأنتم هم ، وأما المارقون فلا أدري أدركهم أم لا . أيها الأبتر ! ألست تعلم أن النبي قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ؟ فأنا مولى لله ولرسوله وعلي مولاي من بعده ، وأنت فلا مولى لك .
فقال عمرو بن العاص : ويحك أبا اليقظان ! لم تشتمني ولست أشتمك ! فقال عمرو : فما ترى في قتل عثمان ؟ فقال عمار : قد أخبرتك كيف قتل عثمان . فقال عمرو : فعليٌّ قتله ؟ فقال عمار : بل الله قتله . قال عمرو : فهل كنت فيمن قتله ؟ قال عمار : أنا مع من قتله وأنا اليوم أقاتل لمن قتله ، لأنه أراد أن يقتل الدين ، فقتل . فقال عمرو : يا أهل الشام إنه قد اعترف بقتل عثمان أمامكم ! فقال عمار : قد قالها فرعون لقومه : أَلَا تَسْمَعُون ، أخبرني يا ابن النابغة ! هل أقررت أني أنا الذي قتلت عثمان حتى تُشهد عليَّ أهل الشام ؟ فقال عمرو يا هذا : إنه كان من أمر عثمان ما كان وأنتم الذين وضعتم سيوفكم على عواتقكم وتحربتم علينا مثل لهب النيران حتى ظننا أن صاحبكم لا بقية عنده ، فإن تنصفونا من أنفسكم فادفعوا إلينا قتلة صاحبنا وارجعوا من حيث جئتم ، ودعوا لنا ما في أيدينا ، وإن أبيتم ذلك فإن دون ما تطلبون منا والله خرط القتاد !
قال : ثم تبسم عمار ، ثم قال : ليس أول كلامك هذا يا ابن النابغة ! يا دعي يا ابن الدعي ! يا ابن جزَّار قريش ! يا من ضرب عليه خمسة بسهامهم كل يدعيك حتى قاربك شرهم ! أفي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب تغتمز ؟ أما والله لقد علمت قريش قاطبة أن علياً لا يجلس له عُلاً ، ولا يقعقع له بالشنان ، ولا يغمز غمز التين !
--------------------------- 413 ---------------------------
قال : فقام أهل الشام فركبوا خيولهم ولهم زجل فصاروا إلى معاوية ، فقال له معاوية : ماوراءكم ؟ فقالوا : وراءنا والله أنا قد سمعنا من عمار بن ياسر كلاماً يقطر الدم ! ووالله لقد أخرس عمرو بن العاص حتى ما قدر له على الجواب ! فقال معاوية : هلكت العرب بعد هذا ورب الكعبة !
قال : ورجع عمار في أصحابه إلى علي بن أبي طالب فأخبره بالذي دار بينه وبين عمرو بن العاص ، فأنشأ رجل من أصحاب علي يقول :
ما زلت يا عمرو قبل اليوم مبتدراً * تبغي الخصومة جهراً غير سرار
حتى رأيت أبا اليقظان منتصباً * لله در أبي اليقظان عمار
ما زال يقرع منك العظم منتقياً * مخ العظام بحق غير إنكار
حتى رمى بك في بحر له لجج * يرمي بك الموج في لج من النار
قال : وقد كان مع معاوية رجل من حمير يقال له : الحصين بن مالك ، وكان يكاتب علي بن أبي طالب ويدله على عورات معاوية ، وكان له صديق من أصحاب معاوية يقال له : الحارث بن عوف السكسكي ، فلما كان ذلك اليوم قال الحصين بن مالك للحارث بن عوف : يا حارث إنه قد آتاك الله ما أردت ، هذا عمرو وعمار وأبونوح وذو الكلاع قد التقوا ، فهل لك أن تسمع من كلامهم ؟ فقال الحارث بن عوف : إنما هو حق وباطل ، وفي يدي من الله هدى ، فسر بنا يا حصين . قال : فجاء الحصين والحارث حتى سمعا كلام عمرو وعمار ،
فلما سمع الحارث بن عوف كلام عمار وتظاهر الحجة على عمرو بقي متحيراً ، فقال له الحصين : ما عندك الآن يا حارث ؟ فقال الحارث : ما عندي ؟ وقعتُ والله بين العار والنار ، ووالله لا أقاتل مع معاوية بعد هذا اليوم أبداً ، فقال له : ولا أنا أقاتل علياً بعد هذا اليوم أبداً . قال : ثم هربا من عسكر معاوية جميعاً فصار أحدهم إلى حمص وأظهر التوبة ، وصار الحارث بن عوف إلى مصر تائباً من قتال علي وأنشأ يقول :
--------------------------- 414 ---------------------------
قال الحصين ولم أعلم بنيته * يا حار هل لك في عمرو وعمار
يا حار هل لك في أمر له نبأ * فيه شرىكان من عوف وإنكار
فاسمع وتسمع ما يأتي العيان به * إن العيان شفاء النفس يا حار
لما رأيت لجاج الأمر قلت له * قولاً ضعيفاً نعم والكره إضماري
سرنا إلى ذلك المرأين مع نفر * شم كرام وجدنا زندهم واري
لما تشهد عمرو قال صاحبه * اسكت فإنك من ثوب الهدى عاري
فارتد عمرو على عقبيه منكسراً * كالهر يرقب ختلاً عازم الفار
ما زال يرميه عمار بحجته * حتى أقر له من غير إكثار
قال الحصين لقد أبصرت حجته * غراء مثل بياض الصبح للساري
ما بعد هذين من عيب لمنتظر * فاختر فدى لك بين العار والنار
قلت الحياة فراق القوم معترفاً * بالذنب حقاً وليس العار كالعار
قال : وأقبل نفر من أصحاب معاوية إلى عمرو بن العاص ، فقال له بعضهم : أبا عبد الله ألست الذي رويت لنا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : يدور الحق مع عمار حيث ما دار ؟ فقال عمرو : بلى قد رويت ذلك ولكنه يصير إلينا ويكون معنا . فقال له ذوالكلاع : هذا والله محال من الكلام ! والله لقد أفحمك عمار حيث بقيت وأنت لا تقدر على إجابته ، قال عمرو : صدقت وربما كان كلام ليس له جواب . قال : فأنشأ رجل من بني قيس يقول :
والراقصات بركب عامدين له * إن الذي كان في عمرو لمأثور
قد كنت أسمع والأنباء شائعة * هذا الحديث فقلت الكذب والزور
حتى تلقيته عن أهل محنته * فاليوم أرجع والمغرور مغرور
واليوم أبرأ من عمرو وشيعته * ومن معاوية المحذو به العير
لا لا أقاتل عماراً على طمع * بعد الرواية حتى ينفخ الصور
تركت عمرواً وأشياعاً له نكراً * إني بتركهم يا صاح معذور
يا ذا الكلاع فدع لي معشراً كفروا * أو لا فديتك دين فيه تعزير
ما في مقال رسول الله في رجل * شك ولا في مقال الرسل تغيير
--------------------------- 415 ---------------------------
ثم هرب صاحب هذا الشعر حتى لحق بعلي بن أبي طالب ، فصار معه . قال : فدعا معاوية عمرو بن العاص فقال : يا هذا إنك أفسدت أهل الشام عليَّ ، أكل ما سمعت من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تقوله وترويه ؟ ما أكثر ما سمعنا منه فلم نروه ! فقال عمرو : يا هذا والله لقد رويت هذا الحديث وأنا لا أظن أن صفين تكون ، ولست أعلم الغيب ولقد رويت أنت أيضاَ في عمار مثل الذي رويت أنا فما ذنبي ؟ قال : ثم أنشأ عمرو يقول :
تعاتبني أن قلت شيئاً سمعته * وقد قلت لو أنصفتني مثله قبلي
أنعلك فيما قلت نعل ثبيته * وتزلق بي في مثل ما قلته نعلي
وهل كان لي علم بصفين أنها * تكون وعمار يحث على قتلي
فلو كان لي بالغيب علم كتمته * وكابرت أقواماً مراجلهم تغلي
أبى الله إلا أن صدرك واغرٌ * علي بلا ذنب جنيت ولا ذحل
سوى أنني والراقصات عشية * بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل
فلا وضعت عندي حصان قناعها * ولا حملت وجناء عرمسة رحلي
ولا زلت أدعى في لؤي بن غالب * قليلاً غناي لا أمر ولا أحلي
إن الله أرخى من خناقك مرة * ونلت الذي أرجوه إن لم أرد أهلي
وأترك لك الشام الذي ضاق رحبها * عليك ولم يهنكْ بها العيش من أجلي
ثم جاء عمرو إلى معاوية فأعتبه ورضي كل واحد منهم من صاحبه ) .
أقول : يظهر أن المناظرة كانت أوسع وأبلغ وأن الذي رووه أطراف منها ،
ولعل أهم عنصر فيها قوة نفس عمار ويقينه ، وضعف عمرو أمامه !
وقال ابن الأعثم ( 3 / 94 ) : ( فدعا معاوية برجل من سادات أهل الشام من بني عبس يقال له عقيل بن مالك ، وكان من نساك أهل الشام ، فقال معاوية : خبرني عنك ، ما الذي يمنعك من قتال علي وأصحابه وأنت فارس أهل الشام ؟ فقال : يمنعني والله من ذلك شك قد خامر قلبي يوم التقى عمرو بن العاص وعمار بن ياسر ، وذو الكلاع وأبونوح ، ثم أنشأ :
--------------------------- 416 ---------------------------
أهمُّ بطعن القوم ثم يكفني * عن القوم جزل في الفؤاد دخيل
أخاف التي فيها الهلاك وإنني * عن الترك للحرب العوان ثقيل
أأطعن علياً بالصواب موكلاً * وذاك الذي يقنى إليه يؤول
وليس بأهل للخطاء وإنني * لتلك التي تسمو بها لبخيل
وقلت لنفسي إذ خلوت ببثها * لك الخير قولي في البلا وأقول
فجاءت بما لا ينبغي فرددتها * وردي عليها ما علمت طويل
وقلت لها هاتي من الناس مثله * فجاشت وقالت إنهم لقليل
فقلت له هذا ومن علمت له * مطايا لها بالرقمتين ذميل
أأعطي علياً ما يريد نبيه * وليس إلى هذا الجواب سبيل
وقالوا علي قد تناول حزمه * لها في صدور السامعين غليل
فقلت ألا لله در أبيكم * وللناس إلا سائل وسؤول
ألا أخبرونا والحوادث جمة * أما كان للقوم الشهود عقول
أيرضي علياً أهل بدر وأنه * عليهم حراماً إن ذا لجليل .
- *
رثاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لعمار ( رضي الله عنه )
لما أتاه خبر قتل عمار مشى إليه وألقى نفسه على جسده وبكى حتى ابتلت كريمته الشريفة وأنشد يقول :
ألا أيها الموت الذي هو قاصدي * أرحني فقد أفنيت كل خليلي
أراك جديرا الذين أحبهم * كأنك تأتي نحوهم بدليل
فاجتمع العسكر نحوه من فوق جسد عمار .
وبرز أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ودعا معاوية وقال : أسألك أن تحقن الدماء وتبرز إلي وأبرز إليك ! فبهت معاوية ولم ينطق بشئ ، فحمل علي ( عليه السلام ) على الميمنة فأزالها ، ثم حمل على الميسرة فطحنها ، ثم حمل على القلب فقلبه ، وقتل في هذه الحملات خلقاً كثيراً وهو ينشد ويقول ، وكأنه يخاطب معاوية :
--------------------------- 417 ---------------------------
فهل لك في أبي حسن علي * لعل الله يمكن من قفاكا
دعاك إلى البراز فكف عنه * ولو بارزته بترت يداكا
ثم انصرف ( عليه السلام ) وبرز متنكراً . ( الأنوار العلوىة للنقدي / 238 ) .
- *
شهادة أويس القرني ( رضي الله عنه )
1 . اتفق الرواة على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشرالمسلمين بأويس القرني اليماني ، وأعطاهم علامته ، وأخبرهم أنه من كبار أولياء الله تعالى ، يشفع يوم القيامة لفئام من الناس ، وأوصاهم أن يحرصوا على أن يستغفر لهم . فاستغفر لبعضهم وأبى أن يستغفر لبعض .
روى الذهبي في سيره ( 4 / 27 ) : ( فلما كان في آخر السنة التي هلك فيها عمر ،
قام على أبي قبيس فنادى بأعلى صوته : يا أهل الحجيج من أهل اليمن ، أفيكم أويس من مراد ؟ فقام شيخ كبير فقال : إنا لا ندري من أويس ، ولكن ابن أخ لي يقال له أويس وهو أخمل ذكراً وأقل مالاً وأهون أمراً من أن نرفعه إليك ، وإنه ليرعى إبلنا بأراك عرفات ، فذكر اجتماع عمر به وهو يرعى فسأله الاستغفار وعرض عليه مالاً ، فأبى ) .
وفي سير الذهبي ( 4 / 24 ) قال عمر : ( قلت : استغفر لي ، قال : يا أمير المؤمنين يستغفر مثلي لمثلك ! قلت : أنت أخي لاتفارقني . فانملس مني فأنبئت أنه قدم عليكم الكوفة ) . أبى أن يستغفر له وهذا عجيب ، وأبى أن يأخذ منه مالاً .
وفي الإختصاص للمفيد / 81 : ( عن الباقر ( عليه السلام ) : شهد مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من التابعين ثلاثة نفر بصفين شهد لهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالجنة ولم يرهم : أويس القرني ، وزيد بن صوحان العبدي ، وجندب الخير الأزدي ) .
وفي طرائف المقال ( 2 / 592 ) عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين حواري محمد بن عبد الله الذين لم ينقضوا العهد ومضوا إليه ؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر . ثم ينادي المنادي : أين حواري علي بن
--------------------------- 418 ---------------------------
أبي طالب ( عليه السلام ) وصي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فيقوم عمرو بن الحمق ، ومحمد بن أبي بكر ، وميثم التمار مولى بني أسد ، وأويس القرني ) .
2 . روى مسلم ( 7 / 188 ) وأحمد ( 1 / 38 ) وابن سعد ( 6 / 161 ) : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : خليلي من هذه الأمة أويس القرني . خير التابعين رجل يقال له أويس ) . والحاكم ( 3 / 402 ) والخطيب في الجمع والتفريق ( 1 / 480 ) وابن معين ( 1 / 324 ) .
وهوحديث موضوع مقابل قوله ( ( عليهما السلام ) ) لعلي : ادعوا لي خليلي . ( الكافي : 1 / 296 ) .
وروى ابن عساكر ( 9 / 435 ) : ( فطلبوه فوجدوه في الرمال فأبلغوه سلام عمر وسلام النبي فقال : عرفني أمير المؤمنين وشهر باسمي ! السلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، وهام على وجهه فلم يوقف له بعد ذلك على أثره دهراً ، ثم عاد في أيام علي فقاتل بين يديه فاستشهد في صفين أمامه ، فنظروا فإذا عليه نيف وأربعون جراحة ، من طعنة وضربة ورمية ) !
3 . سكن الكوفة وكان له مسجد ، وكان والي عثمان يؤذيه ! قال الحاكم ( 3 / 405 ) : قال أويس : ( والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذوننا أعداء ، ويجدون على ذلك من الفاسقين أعواناً ، حتى والله لقد يقذفوننا بالعظائم ، ووالله لا يمنعني ذلك أن أقول بالحق ) !
ولما بايع المسلمون علياً ( عليه السلام ) جاءه وبايعه على الموت وأن يبذل دونه مهجته ، وقاتل معه في حرب الجمل ، ثم في صفين حتى استشهد ( رضي الله عنه ) ، وقبره في صفين مشهد يزوره المسلمون ، وقد حاول الوهابيون هدمه !
4 . قال المفيد في الإرشاد : ( 1 / 315 ) : ( جلس ( عليه السلام ) بذي قار لأخذ البيعة فقال : يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً ، يبايعونني على الموت . قال ابن عباس : فجزعت لذلك أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدون عليه فيفسد الأمر علينا ، ولم أزل مهموماً دأبي إحصاء القوم ، حتى ورد أوايلهم فجعلت أحصيهم فاستوفيت عددهم تسع ماة وتسعة وتسعون رجلاً ، ثم انقطع مجئ القوم ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا حمله على ما قال ! فبينما أنا مفكر في ذلك
--------------------------- 419 ---------------------------
إذ رأيت شخصاً قد أقبل ، حتى إذا دنا وإذا هو رجل عليه قباء صوف ، معه سيفه وترسه وإداوته ، فقرب من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : أمدد يدك أبايعك ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : على مَ تبايعني ؟ قال : على السمع والطاعة والقتال بين يديك حتى أموت أويفتح الله عليك . فقال له : ما اسمك ؟ قال : أويس . قال : أنت أويس القرني ؟ قال : نعم . قال : الله أكبر ، أخبرني حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
أني أدرك رجلاً من أمته يقال له أويس القرني ، يكون من حزب الله ورسوله ، يموت على الشهادة ، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر ) .
أقول : هذا يدل على عدم معرفة ابن عباس بإمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعصمته . ويوجب استبعاد روايات ظهور أويس في المدينة .
5 . وفي رجال الكشي ( 1 / 315 ) عن الأصبغ بن نباتة قال : ( كنا مع علي ( عليه السلام ) بصفين فبايعه تسعة وتسعون رجلاً ، ثم قال : أين المائة ، لقد عهد إليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
أن يبايعني في هذا اليوم مائة رجل . قال : إذ جاء رجل عليه قباء صوف متقلداً بسيفين فقال : أبسط يدك أبايعك . قال علي ( عليه السلام ) : على مَ تبايعني ؟ قال : على بذل مهجة نفسي دونك . قال : من أنت ؟ قال : أنا أويس القرني . قال : فبايعه فلم يزل يقاتل بين يديه حتى قتل . فوُجد في الرجَّالة ) .
وروى أبو نعيم في حلية الأولياء ( 2 / 86 ) : ( نادى رجل من أهل الشام يوم صفين : أفيكم أويس القرني ؟ قال : قلنا نعم ، وما تريد منه ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أويس القرني خيرالتابعين بإحسان . وعطف دابته فدخل مع أصحاب علي رضي الله تعالى عنهم ) .
وسير أعلام النبلاء : 4 / 31 ، وأسد الغابة : 5 / 380 . ومن مصادرنا : الكشي : 3141 ، وشرح الأخبار : 2 / 3 ، ومعجم الخوئي : 4 / 154 ، وجامع الرواة : 1 / 110 ، وغيرها .
6 . كان أويس أسمر اللون جسيماً مهيباً ، ففي حلية الأولياء ( 2 / 82 ) : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في صفته : ( أشهل ، ذو صهوبة ، بعيد ما بين المنكبين ، معتدل القامة ، آدم شديد الأدمة ضارب بذقنه إلى صدره ، رامٍ بذقنه إلى موضع سجوده ،
--------------------------- 420 ---------------------------
يتلوالقرآن ، يبكي على نفسه ، ذو طمرين لا يؤبه له ، متزر بإزار صوف ورداء صوف ، مجهول في أهل الأرض معروف في أهل السماء ، لو أقسم على الله لأبر قسمه . ألا وإن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء ، ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد أدخلوا الجنة ، ويقال لأويس قف فاشفع ، فيشفع لله عز وجل في مثل عدد ربيعة ومضر )
وفي طرائف المقال ( 2 / 597 ) : ( كان راعياً للإبل يأخذ الأجرة على الرعي ) .
وفي مستدرك الحاكم ( 3 / 405 ) قال أويس القرني : ( كن في أمر الله كأنك قتلت الناس كلهم ) . أي جاداً خائفاً من الله تعالى ، لتكون في تصرفاتك دقيقاً حذراً ، وتشعر بالمسؤولية أمام الله تعالى شعوراً عميقاً .
وفي مستدرك الحاكم ( 2 / 365 ) : ( قال أويس : اللهم ارزقني شهادة تسبق كسرتها أذاها ، وأمنها فزعها ، تؤوب الحياة والرزق . ثم سكت . فلم نلبث إلا يسيراً حتى ضرب على الناس بعث أمير المؤمنين علي ( رضي الله عنه ) فخرج صاحب القطيفة أويس فيه ، وخرجنا معه فيه ، وكنا نسير معه وننزل معه حتى نزلنا بحضرة العدو . فنادى علي : يا خيل الله اركبي وأبشري ، قال فصف الثلثين لهم ، فانتضى صاحب القطيفة أويس سيفه حتى كسر جفنه فألقاه ، ثم جعل يقول : يا أيها الناس : تِمُّوا تموا ، ليتمن وجوه ثم لا تنصرف حتى ترى الجنة . يا أيها الناس تموا تموا ، جعل يقول ذلك ويمشي وهو يقول ذلك ويمشي إذ جاءته رمية فأصابت فؤاده فبرد مكانه ، كأنما مات منذ دهر . قال حماد في حديثه فواريناه في التراب ) .
وأصح منها رواية المناقب ( 3 / 359 ) : ( أتى أويس القرني متقلداً بسيفين ويقال كان معه مرماة ومخلاة من الحصى ، فسلم على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وودعه ، وبرز مع رجالة ربيعة ، فقتل من يومه ، فصلى عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دفنه ) .
7 . وتنسب اليه عشيرة الأويسات أو اللويسات السورية ، ففي معجم قبائل العرب ( 3 / 1019 ) : ( اللويسات : من عشائر سهل الغاب بجسر الشغور ، أحد أقضية محافظة حلب . ينتسبون إلى أويس القرني ، وقد قطنوا الغاب في القرن الحادي عشر ، وقريتهم الحويجة ، ويعدون 32 بيتاً ) .
--------------------------- 421 ---------------------------
وفي تاريخ الخميس ( 2 / 277 ) : ( قتل مع علي خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأويس القرني زاهد التابعين . وخمسة وعشرون بدرياً . عن سليم بن قيس قال : رأيت أويساً القرني بصفين صريعاً بين عمار وخزيمة بن ثابت ) .
هذا ، وقد ترجمنا لأويس ( رضي الله عنه ) في المجلد الرابع من العقائد الإسلامية .
- *
شهادة هاشم المرقال ( رضي الله عنه )
1 . ترجمنا له في : قراءة جديدة للفتوحات الإسلامية ( 2 / 248 ) . وهذه خلاصة : فهو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال ، الزهري ، صحابي جليل ، وخطيب مُفَوَّهٌ ، وبطلٌ شجاع ، وشيعيٌّ صلب . كان ضخم الجثة ، قائداً في معركة أجنادين في فتح فلسطين ، ومعركة اليرموك ، وقد سارع بعدها وشارك في معركة القادسية ، ثم قاد فتح المدائن ، وفتح جلولاء ، وفتح حلوان ، وعدة مناطق من إيران .
وكان نقيض أبيه ، لأنه مؤمن وأبوه عتبة بن أبي وقاص من عتاة قريش ، بقي على شركه وعداوته للنبي ( ( عليهما السلام ) ) !
وكان على عكس عمه سعد بن أبي وقاص ، لأنه من أبطال الإسلام ، وعمه سعد بشهادة من حوله لم يبرز يوماً لفارس ، ولاشارك بجدية في حملة !
وكان سعد قائد معركة القادسية فوكل بها هاشماً وقعد في القصرمدعياً أن في فخذه دُمَّلاً ، حتى عيرته زوجته والمسلمون بالجُبن ، ونظموا فيه قصائد !
وسُمِّيَ هاشم بالمرقال لأنه يرقل برايته أي يهرول .
وفي العبقات ( 3 / 39 ) عن القرطبي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال له : أرقل يا ميمون ! وكان هاشم يداري عمه سعداً ، وتزوج ابنته ( المحبر / 69 ) وكان سعد يفتخر بابن أخيه !
2 . روى علماء السنة عن هاشم ، ووثقه ابن معين والنسائي وأحمد والبزار وحدث عن ابن المسيب وعامر وإسحاق . ( تهذيب التهذيب : 11 / 20 ) . وعقدوا لمناقبه أبواباً كالحاكم ( 3 / 395 ) . وقال في الإستيعاب ( 4 / 1546 ) : « كان من الفضلاء الخيار ،
--------------------------- 422 ---------------------------
وكان بُهْمةً فاضلاً خيراً . وهو الذي افتتح جلولاء ولم يشهدها سعد » .
والبُهْمَة : الشديد البأس . ( الصحاح : 5 / 1875 ) .
3 . وروى المرقال أحاديث في فضل أهل البيت ( عليهم السلام ) كحديث الغدير ، وحديث تربة الحسين ( عليه السلام ) ( الحاكم : 4 / 398 ) . ووصفوه بأنه من خواص أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شهد معه حرب الجمل ، وكان حامل لوائه الأعظم يوم صفين ، واستشهد فيها هو وعمار بن ياسر فصلى عليهما ودفنهما بثيابهما ولم يُغسِّلهما ، وأعطى لواءه لابنه عبد الله ، وكان بطلاً ، وكان زعيماً رئيس الشيعة في البصرة . ( معجم الخوئي : 15 / 241 ، والإصابة : 6 / 404 ) .
وكانت عامة الأنصار مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعامة قريش مع معاوية إلا خمسة : محمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال . وجعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاله ، والخامس أبو الربيع سِلْفُ أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة وصهر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( الكشي : 1 / 281 ) .
4 . كان هاشم صاحب راية علي ( عليه السلام ) في صفين ، أي القائد العام لجيشه قال نصر / 326 : « وكانت عليه درعان ، فقال له على كهيئة المازح : أيا هاشم ، أما تخشى من نفسك أن تكون أعور جباناً ؟ قال : ستعلم يا أمير المؤمنين ! والله لألفَّنَّ بين جماجم القوم لفَّ رجل ينوي الآخرة . فأخذ رمحاً فهزه فانكسر ثم آخر فوجده جاسياً فألقاه ثم دعا برمح لين فشد به لواءه .
5 . وقاتل هاشم في صفين قتال الأبطال ، حتى استشهد هو وعمار في يوم واحد ! قال نصر / 353 : « دعا في الناس عند المساء : ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فليقبل . فأقبل إليه ناس فشد في عصابة من أصحابه على أهل الشام مراراً ، فقاتل قتالاً شديداً ثم قال لأصحابه : لايهولنكم ما ترون من صبرهم ، فوالله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها ، وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق . يا قوم إصبروا وصابروا واجتمعوا ، وامشوا بنا إلى عدونا على تؤده رويداً واذكروا الله ، ولايسلمن رجل أخاه ، ولا تكثروا الالتفات ، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا
--------------------------- 423 ---------------------------
وبينهم وهو خير الحاكمين . قال أبو سلمة : فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام ، إذ خرج عليهم فتى شاب يقول :
أنا ابن أرباب الملوك غسان * والدائن اليوم بدين عثمان
أنبأنا أقوامنا بما كان * أن علياً قتل ابن عفان
ثم شد فلا ينثني يضرب بسيفه ثم يلعن علياً ويشتمه ويسهب في ذمه ! فقال له هاشم بن عتبة : إن هذا الكلام بعده الخصام ، وإن هذا القتال بعده الحساب ، فاتق الله فإنك راجع إلى ربك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به . قال : فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذُكر لي ، وأنكم لا تصلون . وأقاتلكم لأن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله .
فقال له هاشم : وما أنت وابن عفان ؟ إنما قتله أصحاب محمد وقراء الناس حين أحدث أحداثاً وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين ، وأولى بالنظر في أمور المسلمين . وما أظن أن أمر هذه الأمة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قط ! قال الفتى : أجل أجل ، والله لا أكذب ، فإن الكذب يضر ولا ينفع ، ويشين ولايزين . فقال له هاشم : إن هذا الأمر لاعلم لك به فخله وأهل العلم به . قال : أظنك والله قد نصحتني .
وقال له هاشم : وأما قولك إن صاحبنا لا يصلي فهو أول من صلى مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأفقهه في دين الله ، وأولاه برسول الله . وأما من ترى معه فكلهم قارئ الكتاب ، لاينامون الليل تهجداً . فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون !
قال الفتى : يا عبد الله إني لأظنك امرأً صالحاً وأظنني مخطئاً آثماً ، أخبرني هل تجد لي من توبة ؟ قال : نعم ، تب إلى الله يتب عليك ، فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، ويحب التوابين ويحب المتطهرين .
قال : فذهب الفتى بين الناس راجعاً ، فقال له رجل من أهل الشام : خدعك العراقي ! قال : لا ، ولكن نصحني العراقي .
أقول : الذي أقنع الشاب الشامي : يقين هاشم ، وقوة منطقه ، وصفاء الشاب .
--------------------------- 424 ---------------------------
6 . « ولما دفع على الراية إلى هاشم قال له رجل من بكر بن وائل من أصحاب هاشم :
أقدم هاشم ، يكررها ، قال : من هذا ؟ قالوا : فلان . قال : أهلها وخيرمنها ! إذا رأيتني قد صُرعتُ فخذها . ثم قال لأصحابه : شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم ،
فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثاً ، فاعلموا أن أحداً منكم لايسبقني إليها . ثم نظر هاشم إلى عسكر معاوية فرأى جمعاً عظيماً فقال : من أولئك ؟ قيل أصحاب
ذيالكلاع . قال : من عند هذه القبة البيضاء ؟ قيل معاوية وجنده . قال فإني أرى دونهم أسودة ؟ قالوا : ذاك عمرو بن العاص وابناه ومواليه . وأخذ الراية فهزها فقال له رجل من أصحابه : أمكث قليلاً ، ولا تعجل . فقال هاشم :
قد أكثروا لومي وما أقلا * إني شريت النفس لن أعتلا
أعور يبغي نفسه محلا * لا بد أن يَفل أو يُفلا
قد عالج الحياة حتى ملا * أشدُّهم بذي الكعوب شلا
مع ابن عم أحمد المعلى * فيه الرسول بالهدى استهلا
أولُ من صدقه وصلى * فجاهد الكفار حتى أبلى .
وقال : أيها الناس ، إني رجل ضخم فلايهولنكم مسقطي إن أنا سقطت فإنه لايفرغ مني أقل من نحر جزور حتى يفرغ الجزار . ( صفين / 353 ) .
وفي الأخبار الطوال / 183 : « فقاتل بها نهاره كله ، فلما كان العشي انكشف أصحابه انكشافه ، وثبت هاشم في أهل الحفاظ منهم والنجدة ، فحمل عليهم الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه طعنة جائفة ، فلم ينته عن القتال . ووافاه رسول علي ( عليه السلام ) يأمره أن يقدم رايته ، فقال للرسول : أنظر إلى ما بي فنظر إلى بطنه فرآه منشقاً ! فرجع إلى علي فأخبره ، ولم يلبث هاشم أن سقط وجال أصحابه عنه وتركوه بين القتلى فلم يلبث أن مات ، وحال الليل بين الناس وبين القتال ، فلما أصبح علي ( عليه السلام ) غَلَّسَ بالصلاة ، وزحف بجموعه نحو القوم على التعبية الأولى ، ودفع الراية إلى ابنه عبد الله بن هاشم بن عتبة ، وتزاحف الفريقان فاقتتلوا . فروي عن القعقاع الظفري أنه قال : لقد سمعت في ذلك اليوم من أصوات السيوف ما الرعد القاصف دونه ! وعلي ( رضي الله عنه ) واقف ينظر
--------------------------- 425 ---------------------------
إلى ذلك ويقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، والله المستعان ، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ . ثم حمل علي بنفسه على أهل الشام حتى غاب فيهم فانصرف مخضباً بالدماء ، فلم يزالوا كذلك يومهم كله والليل حتى مضى ثلثه وجرح عليٌّ ( عليه السلام ) خمس جراحات ثلاث في رأسه واثنتان في وجهه .
« وقاتل هاشم هو وأصحابه قتالاً شديداً حتى قتل تسعة نفر أو عشرة ، وحمل عليه الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه فسقط » . ( صفين / 155 ) .
7 . وفي أسد الغابة ( 5 / 49 ) : « فقطعت رجله يومئذ ، وجعل يقاتل من دنا منه وهو بارك ويقول : الفحل يحمى شوله معقولا . وقيل فيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة : يا هاشم الخير جزيت الجنة . قاتلت في الله عدو السنة » . وفي صفين / 359 ،
وابن الأعثم : 3 / 119 : « وفي قتل هاشم بن عتبة يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة وهو من الصحابة ، وكان من مخلصي الشيعة :
يا هاشمَ الخير جزيت الجنهْ * قاتلت في الله عدوَّ السنة
والتاركي الحق وأهل الظِّنَّه * أعظم بما فزت به من منه
صيرني الدهر كأني شنه * يا ليت أهلي قد علوني رنه
- من حَوْبةٍ وعمةٍ وكِنَّه »
ولما قتل هاشم جزع الناس عليه جزعاً شديداً ، وأصيب معه عصابة من أسلم من القراء ، فمرَّعليهم علي ( عليه السلام ) وهم قتلى ، فقال :
جزى الله خيراً عصبةً أسلميةً * صباحَ الوجوه صُرِّعُوا حولَ هاشمِ
يزيدٌ وعبد الله بشرٌ ومعبدٌ * وسفيانُ وابنا هاشم ذي المكارم
وعروة لا يبعد ثناه وذكره * إذا اخترطت يوماً خفاف الصوارم
ثم قام عبد الله بن هاشم وأخذ الراية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس ، إن هاشماً كان عبداً من عباد الله ، الذين قدر أرزاقهم ، وكتب آثارهم ، وأحصى أعمالهم ، وقضى آجالهم ، فدعاه ربه الذي لا يعصى فأجابه وسلم لأمر لله ، وجاهد في طاعة ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأول من آمن به ، وأفقههم في
--------------------------- 426 ---------------------------
دين الله ، المخالف لأعداء الله المستحلين ما حرم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان ، فزين لهم الإثم والعدوان ، فحق عليكم جهاد من خالف سنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعطل حدود الله ، وخالف أولياء الله .
فجودوا بمهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا ، تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى ، والملك الذي لا يبلى . فلو لم يكن ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية ، ابن أكالة الأكباد . فكيف وأنتم ترجون ما لا يرجون » . ( وقعة صفين / 356 ) .
8 . كان هاشم من خاصة أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان يمازحه ، وأخبره بيوم شهادته ، وبشره بأنه سيأكل بعد هذا اليوم من طعام الجنة . قال نصر / 346 : « فقال له : يا هاشم حتى متى تأكل الخبز وتشرب الماء ! فقال هاشم : لأجهدن على ألا أرجع إليك أبداً ! قال علي ( عليه السلام ) : إن بإزائك ذا الكلاع وعنده الموت الأحمر . فتقدم فلما أقبل قال معاوية : من هذا المقبل ؟ فقيل هاشم المرقال . فقال : أعور بني زهرة قاتله الله . فأقبل وهو يقول :
أعْوَرُ يبغي نفسه خلاصا * مثل الفنيق لابساً دلاصا
قد جرب الحرب ولا أناصا * لا ديةً يخشى ولا قصاصا
كل امرئ وإن كبا وحاصا * ليس يرى من موته مناصا
وحمل صاحب لواء ذي الكلاع وهو رجل من عذرة وهاشم حاسر وهو يقول :
يا أعور العين وما بي من عورْ * أثبت فإني لست من فرعي مضر
نحن اليمانون وما فينا خور * كيف ترى وقع غلام من عذر
ينعي ابن عفان ويلحى من غدر * سيان عندي من سعى ومن أمر
فاختلفا طعنتين فطعنه هاشم فقتله ، وكثرت القتلى ، وحمل ذوالكلاع فاجتلد الناس فقتلا جميعاً . وأخذ ابن هاشم اللواء ، وهو يقول :
أهاشم بن عتبة بن مالك * أعزز بشيخ من قريش هالك
تخبطه الخيلات بالسنابك * في أسود من نقعهن حالك
أبشر بحور العين في الأرائك * والروح والريحان عند ذلك » .
--------------------------- 427 ---------------------------
9 . وصفوا شجاعته في الفتوحات وفي صفين . قال نصر في صفين / 327 : « فحمل يومئذ يرقل إرقالاً . . فجعل عمرو العاص يقول : إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملاً لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم . . والتقى الزحفان فاقتتل الناس قتالاً شديداً لم يسمع الناس بمثله ) .
وفي فتوح ابن الأعثم ( 3 / 43 ) : ( وخرج عمرو بن العاص فجعل يقول :
لا عيش إن لم ألق يوماً هاشماً * ذاك الذي أجشمني المجاشما
ذاك الذي يشتم عرضي ظالما * ذاك الذي أقام فينا الماتما
ذاك الذي إن ينج مني سالما * يكن شجى حتى الممات لازما
قال : فما لبث عمرو أن خرج إليه هاشم المرقال وهو يرتجز ويقول :
لا عيش إن لم ألق يومي عمرا * ذاك الذي نذرت فيه النذرا
ذاك الذي أعذرت فيه العذرا * ذاك الذي ما زال ينوي الغدرا
أو يحدث الله لأمر أمرا * لا تجزعي يا نفس صبراً صبرا
ضرباً إذا شئت وطعناً شزرا * يا ليت ما تحتي يكون قبرا
قال : ثم حمل هاشم على عمرو بن العاص واختلفا بطعنتين فطعنه هاشم طعنة جرحه منها جراحة منكرة ، فرجع عمرو إلى معاوية وجراحته تشخب دماً » . « وكان قال معاوية لعمرو : ويحك ، إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة ، فبصر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه ، ومن يزن بالبأس والنجدة منهم في ناحيته . وكان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص وأطافت به خيل علي ( عليه السلام ) فقال عمرو : يا الله يا رحمن ابني ابني ! قال : ويقول معاوية : صبراً صبراً فإنه لا بأس عليه . قال عمرو : ولو كان يزيد بن معاوية ، إذاً لصبرت ؟ ! ولم يزل حماة أهل الشام يذبون عنه حتى نجا هارباً على فرسه ومن معه ، وأصيب هاشم في المعركة » . ( وقعة صفين / 340 ) .
10 . قاد هاشم ( رضي الله عنه ) معارك الجهاد ، لمدة ربع قرن ، في فتوح فلسطين ، والشام ، ومصر ، والعراق ، وإيران ، ثم في حروب علي ( عليه السلام ) وهي مدة طويلة ، والأهم من
--------------------------- 428 ---------------------------
بطولاته : إيمانه وإخلاصه رضوان الله عليه .
11 . كان لهاشم إخوة قادة ، وكان أبناؤه أكثر شبهاً به ، وكانوا شيعة مثله ومن إخوته حمزة ، واستشهد مع علي ( عليه السلام ) في صفين . ( وقعة صفين / 278 )
وذكر الحاكم نافع بن عتبة ( 3 / 430 ) وذكر البخاري في الصغير : 2 / 72 ، ابنه هاشم بن هاشم ، وابن حبان في ثقاته : 2 / 342 ، والذهبي في سيره : 6 / 206 . وذكر خليفة / 185 ، إسحاق بن هاشم . وابن حجر في الإصابة ( 3 / 201 ) ابنه سليمان وفي تقريب التهذيب : 1 / 229 ابنه حفصاً . وذكروا له ابنين استشهدا معه في صفين ، وأنهما المقصودان بقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رثائه : وابنا هاشم ذي المكارمِ . وفي شرح النهج ( 8 / 34 ) وابنا معبد ذي المكارم . وفي تاريخ دمشق ( 33 / 347 ) : عبد الرحمن وعبد الله وعبد الملك ، أمهم أمية بنت عوف . وذكر في الإصابة ( 4 / 601 ) ابنته درة .
لكن أشهر أبنائه عبد الله ، الذي نص المؤرخون على أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أعطاه الراية في صفين بعد شهادة أبيه فخطب ، وقاتل واستبسل . ولم يستشهد واشتهر في أجوبته المفحمة لما قبض عليه معاوية بعد صفين .
ففي شرح النهج ( 8 / 32 ) ومروج الذهب ( 3 / 8 ) عن أبي عبيد الله المرزباني قال : « إن معاوية لما تم له الأمر بعد وفاة علي ( عليه السلام ) بعث زياداً على البصرة ونادى منادي معاوية : أمن الأسود والأحمر بأمان الله ، إلا عبد الله بن هاشم بن عتبة ! فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب ولا يعرف له خبراً ، حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة فقال له : أنا أدلك على عبد الله بن هاشم بن عتبة ، أكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية ! فدعا كاتبه فكتب : من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان ، أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعمد إلى حي بنى مخزوم ففتشه داراً داراً حتى تأتى إلى دار فلانة المخزومية ، فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق رأسه وألبسه جبة شعر وقيده وغل يده إلى عنقه واحمله على قتب بعير بغير وطاء ولا غطاء وانفذ به إليَّ . فاقتحم الدار واستخرج عبد الله منها فأنفذه إلى معاوية ، فوصل إليه يوم الجمعة وقد لاقى نصباً كثيراً ، ومن الهجير ما غير جسمه ، وكان معاوية يأمر بطعام ، فيتخذ في كل
--------------------------- 429 ---------------------------
جمعة لأشراف قريش ولأشراف الشام ووفود العراق ، فلم يشعر معاوية إلا وعبد الله بين يديه وقد ذبل وسَهِمَ وجهه فعرفه ولم يعرفه عمرو بن العاص ، فقال معاوية : أتعرف هذا الفتى ؟ قال لا ، قال : هذا ابن الذي كان يقول في صفين :
أعور يبغي أهله محلا / قد عالج الحياة حتى ملا
قال عمرو : وإنه لهو ! دونك الضب المضب فاشخب أوداجه ، ولا ترجعه إلى أهل العراق فإنهم أهل فتنة ونفاق ، فقال عبد الله وهو في القيد : يا ابن الأبتر ، هلا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين ، ونحن ندعوك إلى البراز وتلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء والنعجة القوداء ! أما إنه إن قتلني قتل رجلاً كريم المخبرة ، حميد المقدرة ، ليس بالجبس المنكوس ، ولا الثلب المركوس . فقال عمرو : دع كيت وكيت ، فقد وقعت بين لحيي لهزم فروس للأعداء ، يسعطك إسعاط الكودن الملجم . قال عبد الله : أكثر إكثارك ، فإني أعلمك بطراً في الرخاء ، جباناً في اللقاء ، هيابةً عند كفاح الأعداء ، ترى أن تقى مهجتك بأن تبدى سوأتك ! أنسيت صفين وأنت تدعى إلى النزال فتحيد عن القتال ، خوفاً أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد ، وأسنة حداد ، ينهبون السرح ، ويذلون العزيز !
فقال معاوية : ألاتسكت لا أم لك ! فقال : يا ابن هند أتقول لي هذا ! والله لئن شئت لأعرقن جبينك ولأقيمنك وبين عينيك وسماً يلين له أخدعاك . أبأكثر من الموت تخوفني ! فقال معاوية : أو تكف يا ابن أخي ! وأمر به إلى السجن .
ثم أحسن معاوية جائزته وأخذ عليه موثقاً ألايساكنه بالشام فيفسد عليه أهله ) . - *
--------------------------- 430 ---------------------------
الفصل الثاني والثمانون: من بطولات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ونبله في صفين
1 . أما الشجاعة فأنسى فيها من كان قبله
قال في شرح النهج ( 1 / 20 ) : ( وأما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة ، يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذي ما فرَّ قطُّ ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحداً إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية ، وفي الحديث كانت ضرباته وتراً .
ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما . قال له عمرو :
لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم ! أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ، الذي ما برز اليه أحد إلا قتله ! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي ) !
وفي كشف الغمة للإربلي ( 1 / 254 ) : ( وأمير المؤمنين فارس ذلك الجمع وأسده ، وإمامه ومولاه وسيده ، وهادي من اتبعه ومرشده ، يهدر كالفحل ويزأر كالأسد ، ويفرقهم ويجمعهم كفعله ( الصراف ) بالنقد ، لا يعترضه في إقامة الحق وإدحاض الباطل فتور ، ولا يلمُّ به في إعلاء كلمة الله وخزي أعدائه قصور ، يختطف النفوس ويقتطف الرؤوس ، ويلقى بطلاقة وجهه اليوم العبوس ، ويذل بسطوة بأسه الأسود السود ، والفرسان الشؤوس ، ويخجل بأنواره في ليل القتام الأقمار والشموس .
فما لقي شجاعاً إلا وأراق دمه ، ولا بطلاً إلا وزلزل قدمه ، ولا مريداً إلا أعدمه ، ولا قاسطاً إلا قصر عمره وأطال ندمه ، ولا جمع نفاق إلا فرقه ، ولا بناء ضلال إلا هدمه ، وكان كلما قتل فارساً أعلن بالتكبير فأحصيت تكبيراته ليلة الهرير فكانت خمس مائة وثلاثاً وعشرين
--------------------------- 431 ---------------------------
تكبيرة ، بخمس مائة وثلاث وعشرين قتيلاً من أصحاب السعير ! وقيل : إنه في تلك الليلة فتق نَيْفَقَ درعه لثقل ما كان يسيل من الدم على ذراعه ! وقيل : إن قتلاه عرفوا في النهار ، فإن ضرباته كانت على وتيرة واحدة ، إن ضرب طولاً قد ! أو عرضاً قطّ ! وكانت كأنها مكواة بالنار ) !
وقال نصر / 387 : ( قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد : أما والله لقد رأيتنا يوماً من الأيام وقد غشيَنا ثعبانٌ مثل الطود الأرعن ، قد أثار قسطلاً حال بيننا وبين الأفق ، وهو على أدهم شائل ، يضربهم بسيفه ضرب غرائب الإبل ، كاشراً عن أنيابه كشر المخدر الحرِب ، فقال معاوية : والله إنه كان يجالد ويقاتل عن ترة له وعليه ، أراه يعني علياً ) .
أي رأينا علياً ( عليه السلام ) مارداً كالجبل الصلد ، يقاتل كالذي له ثأر ، وعليه ثأر !
وقال ابن المحلى في الحدائق الوردية ( 1 / 73 ) : ( روينا بالإسناد عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال : ما رأيت رئيساً كأمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، ولقد رأيته يوم صفين وعلى رأسه عمامة بيضاء ، وكأن عينيه سراجا سليط ، وهو يحمش أصحابه إلى أن انتهى إلي وأنا في كثف من المسلمين فقال : معشر المسلمين : إستشعروا الخشية ، وتجلببوا السكينة ، وأخملوا اللوم ، وأخفوا الجبن ، وأقلقوا السيوف في الغمد قبل السلة ، والحظوا الشزر ، واطعنوا النثر ، ونافحوا بالظبا ، وصلوا السيوف بالخطا ، وامشوا إلى الموت سجحاً ، وعليكم بالرواق المطنب فاضربوا ثبجه فإن الشيطان راكد في كِسْره ، نافج حضنيه مفترش ذراعيه ، قد قدم للوثبة يداً وأخر للنكوص رجلاً ) .
2 . دعوته طوال أيام صفين معاوية للمبارزة
تواترت الرواية بأنه ( عليه السلام ) كرر دعوته لمعاوية لمبارزته ، قال نصر / 275 : ( قام علي ( عليه السلام ) بين الصفين ونادى : يا معاوية يكررها ! فقال معاوية : سلوه ما شأنه ؟ قال : أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحده . فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص ، فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو وقال لمعاوية : ويحك ! علامَ يقتتل الناس بيني وبينك ويضرب بعضهم بعضاً ؟ أبرز إليَّ فأينا قتل صاحبه فالأمر له !
--------------------------- 432 ---------------------------
فالتفت معاوية إلى عمرو فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ؟ قال : قد أنصفك الرجل ، واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سُبَّةً عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي . فقال معاوية : يا ابن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه ، والله ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط إلا وسقى الأرض من دمه ، ثم انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف ، وعمرو معه ، فلما رأى علي ( عليه السلام ) ذلك ضحك ، وعاد إلى موقفه .
قال نصر : وفي حديث الجرجاني أن معاوية قال لعمرو : ويحك ما أحمقك ! تدعوني إلى مبارزته ، ودوني عك وجذام والأشعريون ! وحقدها معاوية على عمرو باطناً وقال له : ما أظنك قلت ما قلته يا عمرو إلا مازحاً . . وقال معاوية شعراً ، فأجابه عمرو بشعر ) !
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد ( 5 / 87 ) : ( كان علي بن أبي طالب يخرج كل غداة بصفين في سرعان الخيل ( الخيل السريعة ) فيقف بين الصفين ثم ينادي : يا معاوية علامَ يقتتل الناس ؟ أبرز إلي فيكون الأمر لمن غلب .
فقال له عمرو : أنصفك الرجل ! فقال له معاوية : أردتها يا عمرو ! والله لا رضيتُ عنك حتى تبارز علياً . فبرز إليه متنكراً ، فلما غشيه علي بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوءته ، فضرب علي وجه فرسه وانصرف عنه ! فجلس معه معاوية يوماً فنظر إليه يضحك فقال عمرو : أضحك الله سنك ما الذي أضحكك ؟ قال : من حضور ذهنك يوم بارزت علياً ، إذ اتقيته بعورتك ! أما والله لقد صادفت مناناً كريماً ، ولولا ذلك لخرم رفغيك ( فخذيك ) بالرمح . قال عمرو : أما والله إني عن يمينك إذ دعاك إلى البراز ، فاحولَّت عيناك وربا سَحَرك ، وبدا منك ما أكره ذكره لك .
يقصد أنه ضرط !
وذكر عمرو عند علي فقال فيه علي : عجباً لابن النابغة يزعم أني تلعابة أعافس وأمارس ، أما وشرالقول أكذبه : إنه يسأل فيلحف ، ويُسأل فيبخل ، فإذا احمر البأس وحميَ الوطيس وأخذت السيوف مآخذها من هام الرجال لم يكن له هم إلا نزعه ثيابه ويمنح الناس استه ! أغَصَّه الله وتَرَّحَه ) .
أقول : تعجب معاوية من حضور ذهن عمرو بتعبيره ، لأن كشف العورة للنجاة فنٌّ
--------------------------- 433 ---------------------------
يحتاج إلى حضور ذهن وسرعة عمل ! بأن يعاجل قبل أن يضربه خصمه ، فيرمي نفسه على الأرض ويسجد ويدير قفاه ، ويكشف ثوبه فتظهر عورته ، لأنهم لم يكونوا يلبسون سراويل تحت الجلباب ( الدشداشة ) إلا بنو هاشم !
وقال الدينوري في الإمامة والسياسة ( 1 / 95 ) : ( كان علي ( رضي الله عنه ) لا ينظر قط إلى عورة أحد حياءً وتكرماً وتنزهاً عما لا يحل ولا يجمل بمثله ، كرم الله وجهه . ورواه ابن خلدون ( 2 ق 2 / 174 ، وابن الأثير : 2 / 382 ، والبيهقي في المحاسن : 1 / 23 وابن الجوزي في المنتظم ( 5 / 119 ) وغيرهم .
3 . رعب معاوية وأصحابه من علي ( عليه السلام )
قال ابن الأعثم ( 3 / 116 ) : ( وعزم الفريقان على الحرب وأقبل معاوية على هؤلاء الأربعة الرهط : مروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وعبد الله بن عامر بن كريز ، وطلحة الطلحات ، فقال : إن أمرنا وأمر علي لعجيب ! ليس منا إلا موتور ، أما أنا فإنه قتل أخي وخالي يوماً ، وشارك في قتل جدي ، وأما أنت يا وليد فإنه قتل أباك بيده صبراً يوم بدر ، وأما أنت يا طلحة ، فإنه قتل أخاك يوم أحد ، وقتل أباك يوم الجمل وأيتم أخوالك ، وأما أنت يا عبد الله بن عامر فإنه أسر أباك وأخذ مالك ، وأما أنت يا مروان ، فإنه قتل ابن عمك عثمان بن عفان ، ثم إنني أراكم قعوداً عنه ، ما فيكم أحد يغير ولا يأخذه بثأره .
فقال مروان : فما الذي تحب أن نصنع يا معاوية ؟ فقال : أريد والله منكم أن تشجروه بالرماح فتريحوا العباد والبلاد منه ، فقال مروان : الآن والله قد ثقلنا عليك يا معاوية ، إذ كنت تأمرنا بالخروج إلى حية الوادي والأسد العادي ! قال : ثم نهض مروان مغضباً ، وأنشأ الوليد بن عقبة في ذلك يقول :
يقول لنا معاوية بن حرب * أما فيكم لواتركم طليب
يشد على أبي حسن علي * بأسمر لا يهجنه الكعوب
فيهتك مجمع اللبات منه * ونقع الموت مطرد يثوب
فقلت له أتلعب يا بن حرب * كأنك بيننا رجل غريب
--------------------------- 434 ---------------------------
أتأمرنا بحية بطن واد * إذا نهشت فليس لها طبيب
وما ضبع يدب ببطن واد * أتيح له به أسد مهيب
بأضعف حيلة منا إذا ما * لقيناه وذا منا عجيب
دعا في الحرب للهيجا رجالاً * تكاد قلوبهم منه تذوب
كأن القوم لما عاينوه * خلال النقع ليس لهم قلوب
لقد ناداه في الهيجا علي * فأسمعه ولكن لا يجيب
سوى عمرو وقته خصيتاه * نجا ولقلبه منها وجيب
وبسر مثله لاقى جهاراً * فأخطأ نفسه الأجل القريب !
قال : فغضب عمرو من قول الوليد ثم قال : والله ما ظننت أن أحداً من الناس يعيرني بفراري من علي وطعنته إياي ، ثم أقبل على الوليد بن عقبة فقال : إن كنت صادقاً فأخرج إلى علي وقف له في موضع يسمع كلامك حتى ترى ما الذي ينزل بك من صولته ، ثم أنشأ عمرو وجعل يقول :
يذكرني الوليد لقا علي * وصدر المرء محلاه الوعيد
متى يذكر مشاهدة قريش * يطر من خوفه القلب الشديد
فأما في اللقاء فأين منه * معاوية بن صخر والوليد
وعيرني الوليد لقاء ليث * إذا ما زارًّ هابته الأسود
لقيت ولست أرهبه علياً * وقد بلت من العلق اللبود
فأطلبه ويطعنني خلاساً * فماذا بعد طعنته أريد
فرمها منه يا بن أبي معيط * فأنت الفارس البطل النجيد
فأقسم لو سمعت ندا علي * لطار القلب وانتقخ الوريد
ولو لاقيته شقت جيوب * عليك ولطِّمت فيها خدود ) .
--------------------------- 435 ---------------------------
4 . مبارزة عمرو العاص وبُسر بن أرطاة
وقال العلامة الحلي في كشف اليقين / 157 : ( خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوماً آخر متنكراً وطلب البراز ، فخرج إليه عمرو بن العاص وهو لا يعلم أنه علي ، وعرفه علي ( عليه السلام ) فاطَّرد بين يديه ليبعده عن عسكره ، فتبعه عمرو ، ثم عرفه فولى ركضاً ! فلحقه علي ( عليه السلام ) فطعنه فوقع الرمح في فضول درعه فسقط وخشي أن يقتله ، فرفع رجليه فبدت سوءته ! فصرف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عنه وجهه وانصرف إلى عسكره ! وجاء عمرو إلى معاوية فضحك منه . قال : ممَّ تضحك ؟ والله لو بدا لعلي من صفحتك ما بدا له من صفحتي إذاً لأوجع قذالك وأيتم عيالك ! وكان بسر بن أرطاة من أصحاب معاوية من شر الناس وأقدمهم على معاصي الله لما سمع طلب علي ( عليه السلام ) مبارزة معاوية قال : أنا أخرج إليه . فخرج فحمل علي ( عليه السلام ) عليه فسقط بسر عن فرسه على قفاه ورفع رجليه فانكشفت سوءته ! فرجع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عنه وضحك معاوية . وصاح فتى من أهل الكوفة : ويلكم يا أهل الشام أما تستحون ! لقد علمكم ابن العاص كشف الأستاه في الحروب ) !
وقال النويري في نهاية الأرب ( 20 / 139 ) : ( لما قتل عمار قال علي ( رضي الله عنه ) لربيعة : أنتم درعي ورمحي ، فانتدب له نحو من اثني عشر ألفاً ، وتقدمهم عليٌّ على بغلة فحملوا معه حملة رجل واحد ، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض ، وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية فناداه عليٌّ : فقال علامَ يقتل الناس بيننا ؟ هلمَّ أحاكمك إلى الله ، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور . فقال عمرو : أنصفك . فقال معاوية لعمرو : ما أنصفت إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلا قتله ! قال : وكان أصحاب عليٍّ قد وكلوا به رجلين يحفظانه لئلا يقاتل ، فكان يحمل إذا غفلا ، فلايرجع حتى يخضب سيفه ! وإنه حمل مرة فلم يرجع حتى انثنى سيفه فألقاه إليهم وقال : لولا أنه انثنى ما رجعت إليكم . فقال الأعمش لأبي عبد الرحمن : هذا والله ضَرْبُ غيرِ مرتاب ) !
أي ضرب رجل صاحب يقين وبصيرة .
--------------------------- 436 ---------------------------
وقال ابن حاتم في الدر النظيم / 364 : ( وعلي ( عليه السلام ) على بغلته الشهباء ، يقول :
من أي يوميَّ من الموت أفر * من يوم لم يقدر أو يوم قدر
وحملوا حملة واحدة ولم يبق صف من أهل الشام إلاانفض وعلي ( عليه السلام ) يقول :
أضربهم ولا أرى معاوية * الأخرز العين العظيم الحاوية
هوت به في النار أم هاويه * جاوره فيها كلابٌ عاويه
- أغوى طغاماً لا هدته هاديه ) .
أقول : يظهر أن هذا الشعر لعبد الله بن بديل ( رضي الله عنه ) ، واستشهد به ( عليه السلام ) .
وقال ابن المحلى في الحدائق الوردية ( 1 / 73 ) : ( وخرج بعد أيام بسر بن أرطأة إلى علي ( عليه السلام ) وهو لا يعرفه ، فلما بصر به عرفه وحمل عليه علي ( عليه السلام ) فسقط عن فرسه ورفع رجله وكشف عورته ! فصرف علي وجهه ، ووثب بسر هارباً فضحك معاوية من بسروقال : لا عليك فقد نزل بعمرو ما نزل بك . وصاح فتى من أهل الكوفة ويلكم يا أهل الشام أما تستحيون ، لقد علمكم عمرو بن العاص في الحرب كشف الإستاه ! وكان بسر مرة يضحك من عمرو وعمرو يضحك من بسر . وتحامى
أهل الشام علياً ( عليه السلام ) وخافوه خوفاً شديداً .
وفي الإستيعاب لابن عبد البر ( 1 / 165 ) قال الحارث بن النضرالسهمي :
( أفي كلّ يوم فارس ليس ينتهى * وعورته وسط العجاجة بادية
يكفّ لها عنه عليٌّ سنانه * ويضحك منه في الخلاء معاوية
بدت أمس من عمرو فقنّع رأسه * وعورة بسر مثلها حذو حاذيه
فقولا لعمرو ثم بسر ألَّا انظرا * سبيلكما لا تلقيا اللَّيث ثانيه
ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما * هما كانتا والله للنفس واقيه
ولولا هما لم ينجوا من سنانه * وتلك بما فيها عن العود ناهيه
متى تلقيا الخيل المشيحة صبحة * وفيها عليّ فاتركا الخبل ناحية
وكونا بعيداً حيث لا تبلغ القنا * نحوركما إن التجارب كافيه .
قال أبو عمر : إنما كان انصراف علي عنهما وعن أمثالهما من مصروع ومنهزم لأنه كان يرى في قتال الباغين عليه من المسلمين : ألَّا يُتبع مدبر ، ولا يُجهز على جريح ، ولا يُقتل أسير ) .
--------------------------- 437 ---------------------------
وروى ابن كثير في السيرة ( 3 / 39 ) عن ابن هشام : ( لما اشتد القتال يوم أحد ، جلس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تحت راية الأنصار ، وأرسل إلى عليٍّ أن قدِّم الراية ، فقدم عليٌّ وهو يقول : أنا أبوالقضم ، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة ، وهو صاحب لواء المشركين : هل لك يا أباالقضم في البراز من حاجة ؟ قال : نعم ، فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين ، فضربه عليٌّ فصرعه ثم انصرف ولم يجهز عليه ! فقال له بعض أصحابه : أفلا أجهزت عليه ؟ فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم ، وعرفت أن الله قد قتله !
ثم قال : وقد فعل ذلك علي يوم صفين مع بُسر بن أبي أرطاة ، لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه . وكذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين ، أبدى عن عورته فرجع علي أيضاً . ففي ذلك يقول الحارث بن النضر : أفي كل يوم فارسٌ غير منته . . الخ . . ) .
وقال نصر / 462 : ( فغدا عليٌّ منقطعاً من خيله ومعه الأشتر ، وهو يريد التل ، فاستقبله بُسرقريباً من التل وهو مقنع في الحديد لايُعرف فناداه : أبرز إليَّ أباحسن ، فانحدر إليه عليٌّ على تؤدةً غير مكترث ، حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه على الأرض ، ومنع الدرع السنان أن يصل إليه ، فاتقاه بسر بعورته وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه ، فانصرف عنه علي مستدبراً له ، فعرفه الأشتر حين سقط فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا بسر بن أرطاة ، عدو الله وعدوك . فقال :
دعه عليه لعنة الله ، أبَعْدَ أن فعلها ! وقام بسر من طعنة علي مولياً وناداه عليٌّ ( عليه السلام ) :
يا بسر ، معاوية كان أحق بهذا منك . فرجع بسر إلى معاوية فقال له معاوية :
إرفع طرفك قد أدال الله عمراً منك ) !
5 . مطالبة اليمانيين أن يبرز معاوية
قال نصر / 457 ، ملخصاً : ( عن صعصعة بن صوحان والحارث بن أدهم ، أن أبرهة بن الصباح بن أبرهة الحميري ، قام فقال : ويلكم يا معشر أهل اليمن ،
--------------------------- 438 ---------------------------
والله إني لأظن أن قد أذن بفنائكم ، ويحكم خلوا بين هذين الرجلين فليقتتلا ، فأيهما قتل صاحبه مِلنا معه جميعاً .
وكان أبرهة من رؤساء أصحاب معاوية ، فبلغ ذلك علياً فقال : صدق أبرهة بن الصباح ، والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سروراً مني بهذه . وبلغ معاوية كلام أبرهة فتأخرآخر الصفوف وقال لمن حوله : إني لأظن أبرهة مصاباً في عقله ! فأقبل أهل الشام يقولون : والله إن أبرهة لأفضلنا ديناً ورأياً وبأساً ، ولكن معاوية كره مبارزة علي ! فقال أبرهة :
لقد قال ابن أبرهة مقالاً * وخالفه معاوية بن حرب
لأن الحق أوضح من غرور * ملبسة غرائضه بحقب
رمى بالفيلقين به جهاراً * وأنتم ولد قحطان بحرب
فخلوا عنهما ليثي عراك * فإن الحق يدفع كل كذب
وما أن يعتصم يوماً بقول * ذوو الأرحام إنهم لصحبي
وكم بين المنادي من بعيد * ومن يغشى الحروب بكل عضب
ومن يرد البقاء ومن يلاقي * بإسماح الطعان وصفح ضرب
أيهجرني معاوية بن حرب * وما هجرانه سخطاً لربي
وعمرو إن يفارقني بقول * فإن ذراعه بالغدر رحب
وإني إن أفارقهم بديني * لفي سعة إلى شرق وغرب
وبرز يومئذ عروة بن داود الدمشقي فقال : إن كان معاوية كره مبارزتك يا أبا الحسن فهلم إليَّ . فتقدم إليه عليٌّ فقال له أصحابه : ذر هذا الكلب فإنه ليس لك بخطر ، فقال : والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه ، دعوني وإياه ! ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين سقطة إحداهما يمنة والأخرى يسرة ، فارتج العسكران لهول الضربة ثم قال : إذهب يا عروة فأخبرقومك ! أما والذي بعث محمداً بالحق ، لقد عاينت النار وأصبحت من النادمين .
وقال ابن عم لعروة : واسوء صباحاه قبح الله البقاء بعد أبي داود ثم أنشأ :
فقدت عروة الأرامل والأيتام * يوم الكريهة الشنعاء . .
--------------------------- 439 ---------------------------
قال : وحمل ابن عم أبي داود على علي فطعنه فضرب الرمح فبراه ، ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود ، ومعاوية واقف على التل يبصرويشاهد فقال : تبّاً لهذه الرجال وقبحاً ، أما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة ، أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع . فقال الوليد بن عقبة : أبرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته . فقال : والله لقد دعاني إلى البراز حتى استحييت من قريش ، وإني والله لا أبرز إليه ، ما جُعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقايةً له .
فقال عتبة بن أبي سفيان : إلهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنه قتل حريثاً وفضح عمرواً ، ولا أرى أحداً يتحكك به إلا قتله ) !
6 . مبارزة غرار والفارسين اللخميين
في الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ( 1 / 469 ) : ( خرج العباس بن ربيعة الهاشمي من أصحاب علي ( عليه السلام ) وخرج إليه فارس مشهور يقال له غرار من أصحاب معاوية فقال : يا عباس هل لك في المبارزة ؟ فقال العباس : هل لك في المنازلة ، فقال : نعم ، فرمى كل واحد منهما بنفسه عن فرسه وتلاقيا وكف أهل الجيشين أعِنَّة خيولهم عنهما لينظرا ما يكون من أمرهما ، فتجاولاساعةً بسيفهما فلم يقدر أحد منهما على الآخر . ثم إنهما تجاولا ثانيةً فتبين للعباس وهن في درع الشامي ، وكان سيف العباس قاطعاً فضربه بالسيف على وسطه من فوق الدرع فقسمه بنصفين ، فكبر الناس وعجبوا لذلك .
وعطف العباس على فرسه فركبها وجال بين الصفين ، فقال معاوية لأصحابه : من خرج منكم إلى العباس فقتله فله عندي ديتان . فخرج فارسان من لخم وقال كل واحد منهما : أنا له ، فقال : أخرجا إليه فأيكما سبق إلى قتله فله من المال عندي ما قلت ، وللآخر نصف مثله ، فخرجا جميعاً ووقفا في مقر المبارزة ، ثم صاحا : يا عباس هل لك في المبارزة فابرز لأينا اخترت ، فقال : حتى أستأذن أميري وأرجع إليكما فجاء إلى علي ( عليه السلام ) فاستأذنه فقال علي : أنا لهما أدنُ مني يا عباس وهات لبسك وفرسك وجميع ما عليك ، وخذ لبسي وفرسي . ثم إن علياً ( عليه السلام )
--------------------------- 440 ---------------------------
خرج إليهما فجال بين الصفين وكل من رآه يظنه العباس فقال له اللخميان : استأذنت صاحبك فتحرج علي ( عليه السلام ) من الكذب فقال : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . فتقدم إليه أحدهما فاختلفا بضربتين سبقه أمير المؤمنين بالضربة فجاءت على بطنه فقطعته بنصفين ، فتقدم إليه الآخر فما كان بأسرع من طرفة عين من أن ألحقه بصاحبه ، وجال بين الصفين جولة ورجع إلى مكانه ، فتبين لأهل الشام ومعاوية أنه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ولكنه تنكر ! فقال معاوية : قبح الله اللجاج ، إنه لقعود ما ركبه أحد قط إلا خذله ، فقال عمرو : المخذول والله اللخميان لاَ أنت !
فقال له معاوية : أسكت أيها الإنسان ليس هذه الساعة من ساعاتك . قال عمرو : فإن لم تكن من ساعاتي فرحم الله اللخميان ، ولا أظنه يفعل ) .
7 . مبارزة أحمر مولى عثمان بن عفان
قال ابن الأعثم ( 3 / 29 ) : ( وخرج مولى لعثمان بن عفان يقال له أحمر حتى وقف بين الصفين ، وجعل يرتجز ويقول :
إن الكتيبة عند كل تصادم * تبكي فوارسها على عثمان
قوم حماة ليس منهم قاسط * يبكون كل مفصل وسنان
قال : فخرج إليه كيسان مولى علي مجيباً له ، وهو يقول :
قف لي قليلاً يا أحيمر إنني * مولى التقي الصادق الإيمان
عثمان ويحك قد مضى لسبيله * فاثبت لحمد مهند وسنان
قال : فحمل عليه مولى عثمان فطعنه طعنة جدله قتيلاً ، فقال علي ( رضي الله عنه ) : قتلني الله إن لم أقتلك يا عدو الله ! ثم حمل عليه علي وتلقاه مولى عثمان بالسيف وهو لم يعرفه فضربه واتقاه بحجفته ، ثم مد علي يده إليه وقبض على ثوبه ثم رفعه عن قربوصه وضرب به الأرض فكسرمنكبه وأضلاعه ، ثم جال علي ( رضي الله عنه ) في ميدان الحرب ، وهو يتمثل بهذه الأبيات :
لهف نفسي وقليل ما أسر * ما أصاب الناس من خير وشر
لم أرد في الدهر يوماً حربهم * وهم الساعون في الشر الشمر .
وقال نصر / 249 : ( فانتهزه علي فتقع يده في جيب درعه فجذبه ثم حمله على عاتقه ،
--------------------------- 441 ---------------------------
فكأني أنظر إلى رجليه تختلفان على عنق على ، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضده ، وشد ابنا علي عليه الحسين ومحمد ، فضرباه بأسيافهما حتى برد ، فكأني أنظر إلى علي قائماً وشبلاه يضربان الرجل ، حتى إذا أتيا عليه أقبلا إلى أبيهما والحسن معه قائم ، قال : يا بني ، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك ؟ قال : كفياني يا أمير المؤمنين ) .
8 . مبارزة حريث وعمرو بن الحصين
قال ابن الأعثم ( 3 / 30 ) ونصر / 272 : ( كان فارسُ معاوية الذي يُعده لكل مبارز ولكل عظيم ، حريثٌ مولاه ، وكان يلبس سلاح معاوية متشبهاً به فإذا قاتل قال الناس : ذاك معاوية ، وإن معاوية دعاه فقال : يا حريث ، إتق علياً ، وضع رمحك حيث شئت ! فأتاه عمرو بن العاص فقال : يا حريث إنك والله لو كنت قرشياً لأحب معاوية أن تقتل علياً ولكن كره أن يكون لك حظها ، فإن رأيت فرصة فاقحم ولايهولنك ، فإنما هو رجل مثلك .
وخرج علي ( عليه السلام ) في هذا اليوم أمام الخيل ، فنادى حريث : يا علي ، هل لك
في المبارزة فأقدم أباحسن إذا شئت ، فأقبل علي ( عليه السلام ) وهو يقول :
أنا علي وابن عبد المطلب * نحن لعمر الله أولى بالكتب
منا النبي المصطفى غير كذب * أهل اللواء والمقام والحجب
نحن نصرناه على جل العرب * يا أيها العبد الغرير المنتدب
- أثبت لنا يا أيها الكلب الكلب *
ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة واحدة فقطعه نصفين ، فجزع معاوية عليه جزعا شديداً ، وعاتب عمراً وقال معاوية :
حريث ألم تعلم وجهلك ضائر * بأن علياً للفوارس قاهر
وأن علياً لم يبارزه فارس * من الناس إلا أقصدته الأظافر
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني * فجدك إذ لم تقبل النصح عاثر
ودلاك عمرو والحوادث جمة * غروراً وما جرت عليك المقادر
--------------------------- 442 ---------------------------
وظن حريث أن عمراً نصيحه * وقد يهلك الإنسان من لا يحاذر
أيركب عمر رأسه خوف سيفه * ويصلي حريثاً إنه لفرافر
فلما قتل عليٌّ حريثاً برز عمرو بن حصين السكسكي فنادى : يا أباحسن هلم إلى المبارزة . فأنشأ عليٌّ ( عليه السلام ) يقول :
ما علتي وأنا جلد حازم * وعن يميني مذحج القماقم
وعن يساري وائل الخضارم * والقلب حولي مضر الجماجم
وأقبلت همدان في الخضارم * مشي الجمال البزل الخلاجم
أقسمت بالله العلي العالم * لا أنثني إلا برغم الراغم
وحمل عليه عمرو بن الحصين ليضربه ، فبادره إليه سعيد بن قيس ففلق صلبه . حدثني السدي عن أبي أراكة أن علياً ( عليه السلام ) قال يومئذ :
دعوت فلباني من القوم عصبة * فوارس من همدان غير لئام
فوارس من همدان لبسوا بعزل * غداة الوغى من شاكر وشبام
بكل رديني وعضب تخاله * إذا اختلف الأقوام شعل ضرام
لهمدان أخلاق ودين يزينهم * وبأس إذا لا قوا وحد خصام
وجد وصدق في الحروب ونجدة * وقول إذا قالوا بغير أثام
متى تأتهم في دارهم تستضيفهم * تبت ناعماً في خدمة وطعام
جزى الله همدان الجنان فإنها * سمام العدى في كل يوم زحام
فلو كنت بواباً على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلي بسلام )
قال الخوارزمي في المناقب / 223 : ( كان الشقي يتمنى مبارزة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان معاوية ينهاه عن مبارزته ضناً به ، فقال في اليوم الثالث من حروب صفين لمعاوية : إن أنا قتلت علياً أتقلدني ولاية طبرية ؟ فقال معاوية : لا تبارز علياً وعليك بالأشتر ، فإن أنت قتلته فقد كفيت وأغنيت ، فأما علي فلا تبارزه فإن لي نابين : أحدهما أنت والآخر عبد الرحمان بن خالد بن الوليد ، وإن فجعت بك لم أجد بدلاً منك ، فجانب علياً . فسمع بذلك عمرو بن العاص فخلا بحريث وقال له : أنت لو كنت قرشياً ما
--------------------------- 443 ---------------------------
نهاك معاوية عن مبارزة علي ، ولأحب أن تقتل علياً وتريحه منه ، ولكنه يكره أن يقتل ابن عمه مولاه ، فإن وجدت فرصة فأقحم فإن حظها لك ، فلما خرج علي ( عليه السلام ) أمام الخيل انبرى له حريث فحمل عليه علي ( عليه السلام ) .
فقيل : يا أمير المؤمنين تبرز إلى هذا الكلب ؟ قال : والله إنه لأعظم غناءً من معاوية ، فضربه على رأسه فسقط قتيلاً على هامته ، فجزع عليه معاوية جزعاً شديداً . . .
ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 12 / 335 ) وفي ( 45 / 485 ) وفيه : ( فلما قَتل حريثاً نهد إليه عمرو بن الحصين السكسكي فقال : من يبارز ؟ فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله عمرو بن الحصين ، ثم قام على ظهره ثم نادى : هل من مبارز ؟ فخرج رجل من أصحاب علي فقتله وقام على ظهره ثم نادى : هل من مبارز ؟ فخرج إليه علي ( عليه السلام ) ففرقت عليه همدان لما رأوا من شجاعة الرجل ، فلما رآه السكسكي بدأه بالحملة قال : ويشد عليه سعيد بن قيس الهمداني من خلف علي فطعنه فدق ظهره .
ثم إن علياً ( عليه السلام ) دعا إلى المبارزة فخرج إليه رجل من أصحاب معاوية فقتله علي ( عليه السلام ) ، ثم دعا إلى المبارزة فخرج إليه رجل آخر فقتله علي ( عليه السلام ) ، ثم دعا إلى المبارزة فخرج إليه الثالث فقتله علي ( عليه السلام ) أيضاً . ثم انصرف علي إلى أصحابه وقد اجتمعت له همدان فقالوا له : يا أمير المؤمنين ، لقد تخوفنا عليك من الرجل ، فأنشأ علي ( عليه السلام ) يقول :
ولو كنت بواباً على باب جنة * لقلت لهمدانَ ادخلي بسلام
جزى الله همدان الجنان فإنهم * سِمَامُ العدى في كل يومِ سِمام
أناسٌ يحبون النبي ورهطه * سراعٌ إلى الهيجاء غيرُ كهام )
9 . مبارزة كريب الحميري وعروة الدمشقي
روى نصر / 315 ، بسند صحيح عن صعصعة بن صوحان ( رضي الله عنه ) قال إنهم لما اصطفوا مقابل جيش معاوية : ( برز رجل من حمير من آل ذي يزن ( أي من أسرة ملوك حمير ) اسمه كريب بن الصباح ، ليس في أهل الشام يومئذ رجل أشهر
--------------------------- 444 ---------------------------
شدة بالبأس منه ، ثم نادى من يبارز ؟ فبرز إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدي فقَتله ثم نادى من يبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن الجلاح فقتله ثم نادى من يبارز ؟ فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمداني فقتله ، ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض ، ثم قام عليها بغياً واعتداء ثم نادى : هل بقي من مبارز ؟ فبرز إليه عليٌّ ثم ناداه : ويحك يا كريب ، إني أحذرك الله وبأسه ونقمته وأدعوك إلى سنة الله وسنة رسوله ، ويحك لا يدخلنك ابن آكلة الأكباد النار ! فكان جوابه أن قال : ما أكثر ما قد سمعنا هذه المقالة منك ، فلا حاجة لنا فيها ، أقدم إذا شئت ! من يشتري سيفي وهذا أثره .
فقال ( عليه السلام ) : لا حول ولا قوة إلا بالله . ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خر منها قتيلاً يتشحط في دمه ثم نادى من يبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله ، ثم نادى من يبارز ؟ فبرز إليه المطاع بن المطلب القيني فقتله ، ثم نادى من يبارز ؟ فلم يبرز إليه أحد .
ثم إن عليا ( عليه السلام ) نادى : يا معشر المسلمين : الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ . ويحك يا معاوية هلمَّ إليَّ فبارزني ولا يقتلن الناس فيما بيننا . فقال عمرو : إغتنمه منتهزاً ، قد قتل ثلاثة من أبطال العرب ( يقصد تعب ) وإني أطمع أن يظفرك الله به . فقال معاوية : ويحك يا عمرو ، والله إن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي ، إذهب إليك ، فليس مثلي يخدع ) .
وقال الخوارزمي في المناقب / 227 ، عن كريب : ( وكان مهيباً قوياً يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فيذهب بكتابته ، فقال له معاوية : إن علياً يبرز بنفسه وكل أحد لا يتجاسر على مبارزته وقتاله ، قال كريب : أنا أبرز إليه . .
وقال : فدعا علي ( عليه السلام ) ابنه العباس وكان تاماً كاملاً من الرجال فأمره بأن ينزل عن فرسه وينزع ثيابه ، ففعل فلبس علي ( عليه السلام ) ثيابه وركب فرسه ، وألبس ابنه العباس ثيابه وأركبه فرسه لئلا يجبن كريب عن مبارزته ، فلما هم علي بذلك جاءه عبد الله بن عدي الحارثي وقال : يا أمير المؤمنين بحق إمامتك فائذن لي أبارزه ، فإن قتلته وإلا قتلت
--------------------------- 445 ---------------------------
شهيداً بين يديك ، فأذن له علي فتقدم إلى كريب وهو يقول :
هذا علي والهدى يقوده * من خير عيدان قريش عوده
لا يسأم الدهر ولا يؤوده * وعلمه معاجز وجوده
فتصارعا ساعة ثم صرعه كريب . ثم برز إليه علي ( عليه السلام ) متنكراً وحذره بأس الله وسخطه فقال له كريب : أترى سيفي هذا ؟ لقد قتلت به كثيراً مثلك ، ثم حمل على علي بسيفه فاتقاه بحجفته ، ثم ضربه علي ( عليه السلام ) على رأسه فشقه حتى سقط نصفين ، وقال :
النفس بالنفس والجروح قصاص * ليس للقرن بالضراب خلاص
بيدي عند ملتقى الحرب سيف * هاشمي يزينه الإخلاص
مرهف الشفرتين أبيض كالملح * ودرعي من الحديد دلاص
ثم انصرف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال لابنه محمد : قف مكاني فإن طالب وتره يأتيك ، فوقف محمد عند مصرع كريب ، فأتاه أحد بني عمه وقال : أين الفارس الذي قتل ابن عمي ؟ قال محمد : وما سؤالك عنه فأنا أنوب عنه ، فغضب الشامي وحمل على محمد ، وحمل عليه محمد فصرعه ، فبرز إليه آخر فقتله حتى قتل من الشاميين سبعة ، فأتاه شاب وقال لمحمد : أنت قتلت عمي وإخوتي ، فبرزت إليك لأشفي صدري منك أو الحق بهم . وقال :
ومن للصباح ومن للرواح * ومن للسلاح ومن للخطب
ومن للسعاة ومن للكماة * إذا ما الكماة جثت بالركب .
ثم تكافحا ملياً ، فضربه محمد فصرعه ) .
وفي الحدائق الوردية ( 1 / 72 ) أنه : ( قتل أربعة من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكشف عوراتهم واحتز رؤوسهم ، فتنكرعلي ( عليه السلام ) وخرج فقتل ثمانية نفر من أصحاب معاوية واحتز رؤوسهم ولم يكشف العورة ) .
وقال ابن كثير ( النهاية : 7 / 292 ) : ( فقال له عمرو بن العاص لمعاوية : إغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الأربعة ، فقال له معاوية : والله لقد علمت أن علياً لم يقهر قط ، وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي ) .
--------------------------- 446 ---------------------------
10 . مبارزة مخارق بن عبد الرحمن
وقال العلامة الحلي في كشف اليقين / 156 : ( خرج من عسكر معاوية المخارق بن
عبد الرحمن وطلب البراز فخرج إليه من عسكرعلي ( عليه السلام ) المؤمل بن عبيد الله المرادي فقتله الشامي ، فخرج فتى من الأزد فقتله الشامي .
فتنكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وخرج والشامي يطلب البراز فقتله ، ثم خرج فارس فقتله وهكذا حتى قتل سبعة ، فأحجم عنه الناس ولم يعرفوه .
فقال معاوية لعبد له يقال له حرب وكان شجاعاً : أخرج إلى هذا الفارس فاكفني أمره . فقال : أنا أعلم أنه سيقتلني ، فإن شئت خرجت إليه ، وإن شئت فاستبقني لغيره ! فقال له : لا تخرج ) .
11 . مبارزة عبيد الله بن عمر
قال ابن قتيبة في الأخبار الطوال / 175 : ( وخرج في يوم آخرمحمد بن الحنفية ، فخرج إليه عبيد الله بن عمر في مثل عدده من أهل الشام ، فقال عبيد الله لابن الحنفية : أبرز لي ، فقال محمد : نزال ؟ ( أي راجلين ) قال : وذاك . فنزلا جميعاً عن فرسيهما ، ونظر علي إليهما ، فحرك فرسه حتى دنا من محمد ثم نزل ، وقال لمحمد : أمسك عليَّ فرسي ففعل . ومشى إلى عبيد الله فولى عنه عبيد الله وقال : مالي في مبارزتك من حاجة ، إنما أردت ابنك !
فقال محمد : يا أبت ، لو تركتني أبارزه لرجوت أن أقتله . قال : لو بارزته لرجوت ذلك ، وما كنت آمناً أن يقتلك ) .
12 . قاعدة نبل الفرسان : لا تقتلوا أسيراً
أطلق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قاعدة وطبقها وهي : أسير أهل القبلة لا يقتل ولايفادى . قال نصر / 466 : ( كان من أهل الشام بصفين رجل يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي ، وكان يكون طليعة ومسلحة لمعاوية ، فندب على له الأشتر فأخذه أسيراً من غير أن يقاتل . وكان علي ينهى عن قتل الأسيرالكاف ، فجاء به ليلاً وشد وثاقه ، وألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح ، وكان الأصبغ شاعراً مفوهاً ، ونام أصحابه فرفع صوته فأسمع
--------------------------- 447 ---------------------------
الأشتر ، فقال :
ألا ليت هذا الليل طبق سرمداً * على الناس لا يأتيهم بنهار
يكون كذا حتى القيامة إنني * أحاذر في الإصباح ضرمة نار
فيا ليل طبق إن في الليل راحة * وفي الصبح قتلي أو فكاك إساري
ولو كنت تحت الأرض ستين وادياً * لما رد عني ما أخاف حذاري
فيا نفس مهلاً إن للموت غايةً * فصبراً على ما ناب يا ابن ضرار
أأخشى ولي في القوم رحم قريبة * أبى الله أن أخشى والأشتر جاري
ولو أنه كان الأسير ببلدة * أطاع بها شمرت ذيل إزاري
ولو كنت جار الأشعث الخير فكني * وقل من الأمر المخوف فراري
وجار سعيد أو عدي بن حاتم * وجار شريح الخير قر قراري
وجار المرادي العظيم وهانئ * وزحر بن قيس ما كرهت نهاري
ولو أنني كنت الأسير لبعضهم * دعوت رئيس القوم عند عثاري
أولئك قومي لا عدمت حياتهم * وعفوهم عني وستر عواري
فغدا به الأشتر على علي فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا رجل من المسلحة لقيته بالأمس ، فوالله لو علمت أن قتله الحق قتلته ، وقد بات عندنا الليلة وحركنا بشعره ، فإن كان فيه القتل فاقتله وإن غضبنا فيه ، وإن ساغ لك العفو عنه فهبه لنا .
قال : هو لك يا مالك ، فإذا أصبت أسيراً فلا تقتله ، فإن أسيرأهل القبلة لا يفادى ولا يقتل . فرجع به الأشتر إلى منزله وقال : لك ما أخذنا منك ، ليس لك عندنا غيره ) .
وفي رواية ابن الأعثم ( 3 / 115 ) وابن العديم ( 4 / 1925 ) : قال الأشتر لعلي ( عليه السلام ) : ( بات البارحة عندي وحركني بأبيات قالها ، فإن أحببت قتله فاقتله ، وإن كنت فيه بالخيار فهبه لي ! فقال : هو لك يا مالك ! وإذا أصبت منهم أسيراً فلا تقتله ، فإن أسير أهل القبلة لا يفادى ولا يقتل .
فرده الأشتر إلى رحله فأحسن إليه ورد عليه ما كان أخذ منه وأطلقه ) .
--------------------------- 448 ---------------------------
13 . من توجيهات الإمام ( عليه السلام ) في المعركة وإدارته وأدعيته
قال نصر / 391 و 395 : ( كان على إذا أراد القتال هلل وكبر ، ثم قال :
من أي يوميَّ من الموت أفر * أيومَ ما قُدر أم يومٌ قُدِرْ
مرَّ بأهل راية فرآهم لا يزولون عن موقفهم ، فحرض الناس على قتالهم وذكر أنهم غسان فقال : إن هؤلاء القوم لن يزولوا عن موقفهم دون طعن دراك يخرج منه النسيم ، وضرب يفلق الهام ، ويطيح العظام ، وتسقط منه المعاصم والأكف ، حتى تصدع جباههم وتنثرحواجبهم على الصدور والأذقان . أين أهل الصبر وطلاب الخير ، أين من يشري وجهه لله عز وجل ؟ فثابت إليه عصابة من المسلمين فدعا ابنه محمداً فقال له : إمش نحو هذه الراية مشياً رويداً على هينتك ، حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح فأمسك يدك حتى يأتيك أمري ورأيي ، ففعل .
وأعدَّ مثلهم مع الأشتر ، فلما دنا منهم وأشرع الرماح في صدورهم ، أمر عليٌّ الذين أعدوا فشدوا عليهم ، ونهض محمد في وجوههم ، فزالوا عن مواقفهم ، وأصابوا منهم رجالاً ، واقتتل الناس بعد المغرب قتالاً شديداً ، فما صلى كثير من الناس إلا إيماء ) .
في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 362 ) : ( وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أيها الناس : من يبع يربح في هذا اليوم . . في كلام له ( عليه السلام ) : ألا أن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير في عواقب الأمور . ألا إنها إحن بدرية ، وضغاين أحدية ، وأحقاد جاهلية وقرأ : فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاأَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ . فتقدم وهو يرتجز :
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا * وأصبحوا في حربكم وبيتوا
كيما تنالوا الدين أو تموتوا * أو لا فإني طال ما عصيت
قد قلتم لو جئتنا فجيت * ليس لكم ما شئتم وشيت
- بل ما يريد المحْيِيُ المميتُ
فحمل في سبعة عشر ألف رجل فكسروا الصفوف ، فقال معاوية لعمرو : اليوم صبر وغداً فخر . فقال عمرو : صدقت ولكن الموت حق والحياة باطل ، ولو حمل علي في أصحابه حملة أخرى فهو البوار . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فما انتظاركم إن كنتم تريدون
--------------------------- 449 ---------------------------
الجنة ؟ فبرز أبو الهيثم بن التيهان قائلاً :
أحمد ربي فهو الحميد * ذاك الذي يفعل ما يريد
دين قويم وهو الرشيد . فقاتل حتى قتل
وبرز خزيمة بن ثابت قائلاً :
كم ذا يرجى أن يعيش الماكث * والناس موروث وفيهم وارث
هذا علي من عصاه ناكث . فقاتل حتى قتل .
وبرز عدي بن حاتم قائلاً :
أبعد عمار وبعد هاشم * وابن بديل صاحب الملاحم
ترجو البقا من بعد يا بن حاتم . فما زال يقاتل حتى فقئت عينه .
وبرز الأشتر مرتجزاً :
سيروا إلى الله ولا تَعرّجوا * دين قويمٌ وسبيلٌ منهج
وقتل جندب بن زهير . فلم يزالوا يقاتلون حتى دخلت وقعة الخميس وهي ليلة الهرير .
وكان يحمل عليهم مرة بعد مرة ويدخل في غمارهم ويقول : الله الله في الحُرم والذرية ، فكانوا يقاتلون أصحابهم بالجهل ( بدون معرفة المقابل ) فلما أصبح كان قتلى عسكره أربعة آلاف ، وقتلى معاوية اثنين وثلاثين ألفاً فصاحوا : يا معاوية هلكت العرب فاستغاث بعمرو فأمره برفع المصاحف ) .
وقال نصر في صفين / 256 : ( إن علياً لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها ومصافها وكشف من بإزائها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم ، أقبل حتى انتهى إليهم فقال : إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم ، يحوزكم الجفاة الطغام وأعراب أهل الشام ، وأنتم لهاميم العرب ، والسنام الأعظم ، وعمار الليل بتلاوة القرآن ، وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون . فلولا إقبالكم بعد إدباركم ، وكركم بعد انحيازكم ، وجب عليكم ما وجب على المُولي يوم الزحف دبره ، وكنتم فيما أرى من الهالكين .
--------------------------- 450 ---------------------------
ولقد هون عليَّ بعض وجدي ، وشفى بعض أحاح نفسي أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم ، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم ، تحوزونهم بالسيوف ليركب أولهم آخرهم ، كالإبل المطردة الهيم .
فالآن فاصبروا ، أنزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين . وليعلم المنهزم أنه مسخط لربه وموبق نفسه ، وفي الفرار موجدة الله عليه ، والذل اللازم له ، والعار الباقي ، واعتصار الفيئ من يده ، وفساد العيش ، وإن الفار لا يزيد الفرار في عمره ، ولا يرضي ربه . فموت الرجل محقاً قبل إتيان هذه الخصال ، خير من الرضا بالتلبس بها ، والإقرار عليها ) .
14 . من أدعيته وتوجيهاته ( عليه السلام ) ليلة الهرير
قال ابن العديم في تاريخ حلب ( 6 / 3008 ) : ( عن أبي الكنود وغيره قال : فاجتلدوا بالسيوف من صلاة الغداة إلى نصف الليل ، والأشتر في ميمنة الناس وابن عباس في الميسرة ، وعلي ( عليه السلام ) في القلب والناس يقتتلون فجعل علي يزحف بأصحابه ويقول لهم : إزحفوا قيد رمحي هذا ، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك ، حتى التقوا . ثم دعا علي ( عليه السلام ) بنفر يسير وركز رايته وكانت مع حيان بن هوذة النخعي ، فاقتتلوا إلى نصف الليل لم يصلوا لله عز وجل صلاة إلا تكبيراً ، قال وهي ليلة الهرير ، وجعل يهر بعضهم إلى بعض ويكدم بعضهم بعضاً . قال وخرج علي يومئذ وهو يسير على فرسه في كيانته فقال : من يشري نفسه لله عز وجل ) .
قال العلامة الحلي في كشف اليقين / 158 : ( وفي ليلة الهرير باشر الحرب بنفسه خاصة ، وكان كلما قتل قتيلاً كبَّرَ ، فعُدَّ تكبيره فبلغ خمس مائة وثلاثاً وعشرين تكبيرة ، وعد قتلى الفريقين في صبيحة تلك الليلة ، فبلغت ستة وثلاثين ألف قتيل . واستظهر حينئذ أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وزحف مالك الأشتر حتى ألجأهم إلى معسكرهم . فلما رأى عمرو بن العاص الحال قال لمعاوية : نرفع المصاحف وندعوهم إلى كتاب الله . فقال معاوية : أصبتَ . ورفعوها فرجع القراء عن القتال . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
إنها خديعة عمرو العاص ، ليسوا من رجال القرآن ) !
--------------------------- 451 ---------------------------
وفي كشف الغمة ( 1 / 255 ) : ( فأحصيت تكبيراته ليلة الهرير فكانت خمس مائة وثلاثاً وعشرين تكبيرة بخمس مائة وثلاث وعشرين قتيلاً من أصحاب السعير . )
أقول : وروي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان ينظر بنور الله تعالى إلى من يضربه فإن رأى في صلبه مؤمناً ، لم يضربه !
15 . في الختام : من عجائب ما روي عنه ( عليه السلام )
( أن الأشتر ( رضي الله عنه ) قال : حدثتني نفسي أني أشد من أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فحرك دابته إلى ذي الكلاع الحميري فاستلبه من فوق سرجه ، ورمى به إلى فوق وتلقاه بسيفه ، فقده نصفين ثم قال : يا أشتر ، أنا أم أنت ؟ فقلت : بل أنت أمير المؤمنين ) . ( الثاقب / 257 ) .
والمعروف أن ذا الكلاع قتله خندف الحنفي من بني بكر . فلا بد أن يكون هذا شخصاً آخر على اسمه .
وقال ابن ميثم في مئة كلمة / 257 : ( وهذا الخبر كما يدل على هذا المطلوب باستلاب الحميري وما فعل به ، كذلك يدل على المطلوب الذي قبله من جهة أنه بكت مالكاً بما تصوره دون أن ينطق به ) .
أقول : هذا عدد من بطولاته ونبله صلوات الله عليه . وقد اقتدى به تلميذه مالك الأشتر ( رضي الله عنه ) ، وتقدمت بعض بطولاته ، وسنترجم له ونذكر بعضها إن شاء الله .
16 . من خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكلماته في صفين
1 - أوردنا خطبته ( عليه السلام ) في الكوفة ، في الدعوة إلى جهاد معاوية ، وفيها : ( إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ، فانصبوا أنفسكم في أداء حقه ، ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه ، وتناول ما ليس له : معاوية وجنده ، الفئة الباغية الطاغية ، يقودهم إبليس ، ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويدليهم بغروره . سيروا إلى أعداء الله ، أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار ) . ( صفين / 94 و 112 ) .
--------------------------- 452 ---------------------------
2 - وتقدم كلامه ( عليه السلام ) في كربلاء والمدائن وصندودياء . وروى له الصدوق ( الأمالي / 490 ) خطبة بصفين عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع خلقه البر والفاجر ، وعلى حججه البالغة على خلقه من عصاه وأطاعه ، إن يعف فبفضل منه ، وإن يعذب فبما قدمت أيديهم ، وما الله بظلام للعبيد .
أحمده على حسن البلاء ، وتظاهر النعماء ، وأستعينه على ما نابنا من أمر ديننا ، وأؤمن به ، وأتوكل عليه ، وكفى بالله وكيلا .
ثم إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودينه الذي ارتضاه وكان أهله ، واصطفاه على جميع العباد بتبليغ رسالته وحججه على خلقه ، وكان كعلمه فيه رؤوفاً رحيماً ، أكرم خلق الله حسباً ، وأجملهم منظراً ، وأشجعهم نفساً ، وأبرهم بالوالد ، وآمنهم على عقد ، لم يتعلق عليه مسلم ولا كافر بمظلمة قط ، بل كان يظلم فيغفر ، ويقدر فيصفح ويعفو ، حتى مضى مطيعاً لله ، صابراً على ما أصابه ، مجاهداً في الله حق جهاده ، عابداً لله حتى أتاه اليقين ، فكان ذهابه ( ( عليهما السلام ) ) أعظم المصيبة على جميع أهل الأرض البر والفاجر ، ثم ترك فيكم كتاب الله ، يأمركم بطاعة الله ، وينهاكم عن معصيته .
وقد عهد إليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهداً لن أخرج عنه ، وقد حضركم عدوكم ، وقد عرفتم من رئيسهم ، يدعوهم إلى باطل ، وابن عم نبيكم ( ( عليهما السلام ) ) بين أظهركم يدعوكم إلى طاعة ربكم ، والعمل بسنة نبيكم . ولا سواء من صلى قبل كل ذكر ، لم يسبقني بالصلاة غير نبي الله ، وأنا والله من أهل بدر ، والله إنكم لعلى الحق ، وإن القوم لعلى الباطل ، فلايصبر القوم على باطلهم ويجتمعوا عليه ، وتتفرقوا عن حقكم ، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ، فإن لم تفعلوا ليعذبنهم الله بأيدي غيركم .
فأجابه أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إنهض إلى القوم إذا شئت ، فوالله ما نبغي بك بدلاً ، نموت معك ونحيا . فقال لهم : والذي نفسي بيده لنظر إلي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
وأنا أضرب قدامه بسيفي فقال : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي . ثم قال لي :
يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ، وحياتك يا علي
--------------------------- 453 ---------------------------
وموتك معي . فوالله ما كذبت ولا كذبت ولا ضللت ولا ضل بي ، ولا نسيت ما عهد إلي ، إني إذن لنسي ، وإني لعلى بينة من ربي بينها لنبيه فبينها لي ، وإني لعلى الطريق الواضح ، ألقطه لقطاً .
ثم نهض إلى القوم يوم الخميس ( الثاني ) فاقتتلوا من حين طلعت الشمس حتى غاب الشفق ، ما كانت صلاة القوم يومئذ إلا تكبيراً عند مواقيت الصلاة ، فقتل علي ( عليه السلام ) يومئذ بيده خمس مائة وستة نفر ، فأصبح أهل الشام ينادون : يا علي إتق الله في البقية ، ورفعوا المصاحف على أطراف القنا ) .
3 - ومن خطبة له ( عليه السلام ) ( صفين / 476 ) : ( أيها الناس قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلا آخر نفس ، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عز وجل .
فبلغ ذلك معاوية فدعا عمرو بن العاص فقال : يا عمرو ، إنما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل فما ترى ؟ قال : إن رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله . هو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره . أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون علياً إن ظفر بهم ، ولكن ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم ، فإنك بالغ به حاجتك في القوم ، فإني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه ، فقال معاوية : صدقت ) .
4 - ومن كلام له ( عليه السلام ) قاله لأبي زينب بن عوف : ( شهدت أنك إن مضيت معنا ناصراً لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، فإنك ولي الله تسيح في رضوانه ، وتركض في طاعته : فأبشر أبازبيب ) !
5 - وسمع ( عليه السلام ) عبد الله بن بديل يقول لزياد بن النضر ( صفين / 111 ) : ( وأيم الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منا ومنهم إلا الرذال . فقال ( عليه السلام ) : ليكن هذا الكلام مخزوناً في صدوركما ، لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع . إن الله كتب القتل على قوم ،
--------------------------- 454 ---------------------------
والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب الله له . فطوبى للمجاهدين في سبيل الله ، والمقتولين في طاعته ) .
6 - وجاءه أصحاب عبد الله بن مسعود ( صفين / 115 ) فقالوا له : ( إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم ، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام ، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له ، أو بدا منه بغي ، كنا عليه . فقال على : مرحباً وأهلاً ، هذا هو الفقه في الدين ، والعلم بالسنة ، من لم يرض بهذا ، فهو جائر خائن ) .
7 - وتقدم أنه ( عليه السلام ) كان ينظر إلى إيوان كسرى فتمثل أحدهم : ( صفين / 142 ) :
جرت الرياح على مكان ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد
فقال على ( عليه السلام ) : أفلا قلت : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . . . الآيات . .
8 - وقال نصر / 308 : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوماً : ألا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته ؟ فأتاه رجل من جعف يقال له عبد العزيز بن الحارث ، على فرس أدهم كأنه غراب ، مقنعاً في الحديد لا يرى منه إلا عيناه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مرني بأمر ، فوالله ما تأمرني بشئ إلا صنعته فقال علي ( عليه السلام ) :
سمحت بأمر لا يطاق حفيظة * وصدقاً ، وإخوان الحفاظ قليل
جزاك إله الناس خيرا فقد وفت * يداك بفضل ما هناك جزيل
أباالحارث ، شد الله ركنك ، إحمل على أهل الشام حتى تأتي أصحابك فتقول لهم : أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم : هللوا وكبروا من ناحيتكم ، ونهلل نحن ونكبر من هاهنا ، واحملوا من جانبكم ونحمل من جانبنا على أهل الشام . فضرب الجعفي فرسه حتى إذا قام على السنابك ، حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي فطاعنهم ساعة وقاتلهم فانفرجوا له حتى أتى أصحابه ، فلما رأوا استبشروا به وفرحوا وقالوا : ما فعل أمير المؤمنين ؟ قال : صالحٌ يقرؤكم السلام ويقول لكم : هللوا وكبروا واحملوا حملة رجل واحد من ذلك الجانب . وحملوا على أهل الشام من ثم ، وحمل على من هاهنا في أصحابه ، فانفرج أهل الشام عنهم فخرجوا وما أصيب منهم رجل واحد . ولقد قتل من فرسان أهل الشام يومئذ زهاء سبع مائة رجل ) .
--------------------------- 455 ---------------------------
9 - قال نصر / 436 : ( أصبح الناس غدواً على مصافهم ، وإن معاوية نادى في أحياء اليمن فقال : عبوا إليَّ كل فارس مذكور فيكم ، أتقوى به لهذا الحي من همدان . فخرجت خيل عظيمة ، فلما رآها علي عرف أنها عيون الرجال فنادى : يا لهمدان . فأجابه سعيد بن قيس ، فقال له ( عليه السلام ) : إحمل ، فحمل حتى خالط الخيل واشتد القتال ، وحطمتهم همدان حتى ألحقوهم بمعاوية فقال : ما لقيت من همدان ، وجزع جزعاً شديداً وأسرع في فرسان أهل الشام القتل !
وجمع علي ( عليه السلام ) همدان فقال : يا معشر همدان ، أنتم درعي ورمحي ، يا همدان ما نصرتم إلا الله ، ولا أجبتم غيره . فقال سعيد بن قيس : أجبنا الله وأجبناك ، ونصرنا نبي الله في قبره ، وقاتلنا معك من ليس مثلك ، فارم بنا حيث أحببت ) .
قال نصر : وفي هذا اليوم قال علي ( عليه السلام ) :
ولو كنت بواباً على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلي بسلام ) .
10 - تقدم كلامه ( عليه السلام ) ( نصر / 489 ) : ( عباد الله ، إني أحق من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب ابن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ، وصحبتهم رجالاً ، فكانوا شر أطفال وشر رجال . إنها كلمة حق يراد بها باطل . إنهم والله ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها ، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة . أعيروني سواعد كم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا .
فجاءه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح ، سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودت جباههم من السجود ، يتقدمهم مسعر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه ، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم . فقال لهم : ويحكم ، أنا أول من دعا إلى كتاب الله وأول من أجاب إليه ، ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون ) ! .
--------------------------- 456 ---------------------------
الفصل الثالث والثمانون: موقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من الحرب الداخلية وهدفه منها
1 . حاول الإمام ( عليه السلام ) التخلص من الحرب الداخلية من زمن النبي ( ( عليهما السلام ) )
1 . فعندما أخبره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه سيبتلى بعده بحرب داخلية ، طلب منه أن يدعو له الله تعالى أن يموت قبل ذلك ! قال له ( شرح النهج : 9 / 207 ) : ( إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب عليَّ جهاد المشركين ، قال فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الفتنة التي كتب عليَّ فيها الجهاد ؟ قال : قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وهم مخالفون للسنة .
فقلت : يا رسول الله فعلامَ أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد ؟ قال : على الإحداث في الدين ومخالفة الأمر ! فقلت : يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فاسألِ الله أن يعجلها لي بين يديك . قال : فَمَنْ يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ؟ أما إني وعدتك الشهادة وستُستشهد ، تُضرب على هذه فتخضب هذه ، فكيف صبرك إذاً ؟ قلت : يا رسول الله ، ليس ذا بموطن صبر ، هذا موطن شكر . قال : أجل أصبت ، فأعدَّ للخصومة فإنك مخاصم .
فقلت : يا رسول الله لو بينت لي قليلاً ، فقال : إن أمتي ستفتن من بعدي فتتأول القرآن وتعمل بالرأي ، وتستحل الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، وتحرف الكتاب عن مواضعه ، وتغلب كلمة الضلال . فكن جليس بيتك حتى تُقَلَّدَها ، فإذا قُلِّدْتَها جاشت عليك الصدور وقُلِّبَت لك الأمور ، فقاتِلُ حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى .
--------------------------- 457 ---------------------------
فقلت : يا رسول الله ، فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك ؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة ؟ فقال : بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل ! فقلت : يا رسول الله ، أيدركهم العدل منا أم من غيرنا ؟ قال : بل منا ، بنا فتح وبنا يختم ، وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله ) .
وقد أعلن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مراراً أن علياً ( عليه السلام ) سيقاتل على تأويل القرآن ، قال : ( إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله ، فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا . قال عمر : أنا يا رسول الله ؟ قال : لا ، لكنه خاصف النعل . وكان أعطى علياً نعله يخصفها ) . ( مجمع الزوائد : 5 / 186 ، وصححه بشرط الشيخين ) .
2 . وكان قبل حرب الجمل يقول إنه مضطر للحرب الداخلية لأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره بها ، ويقول : ( ولقد أهمنى هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه ، فلم أجد إلا القتال أوالكفر بما أنزل الله على محمد ( ( عليهما السلام ) ) ! إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لايأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة الأغلال في جهنم ) . ( صفين / 474 ) .
3 . وقال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1117 ) : ( ويروى من وجوه عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر أنه قال : ما آسى على شئ إلَّا أني لم أقاتل مع عليٍّ الفئة الباغية . وقال الشعبي : ما مات مسروق حتى تاب إلى الله عن تخلَّفه عن القتال مع علي . ولهذه الأخبار طرق صحاح قد ذكرناها في موضعها . ورويَ من حديث علي ، ومن حديث ابن مسعود ، ومن حديث أبي أيوب الأنصاري ، أنه أُمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين . وروي عنه أنه قال : ما وجدت إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله ) .
قد يقال : ألم يكن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يعلم قبلها بأنه سيقاتل على تأويل القرآن ؟ والجواب : أن علم المعصوم يأتيه بالتدريج في حياة السابق ، فإذا كانت آخر دقيقة
--------------------------- 458 ---------------------------
من عمر السابق حل في المعصوم العلم وروح القدس . ( الكافي : 1 / 274 ) .
وقد يقال : لماذا يكره أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمر الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) بقتال الضالين ؟
والجواب : أن كراهة ذلك ليست معصية ، فقد طلب الشهادة قبل أن يبتلى بذلك ،
ليقوم غيره بهذه المهمة ، ولما قال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يوجد غيرك يقوم بذلك فيجب أن تقبله ، رضي به ، وأطاع الله ورسوله ( ( عليهما السلام ) ) .
2 . وددت لو أفتدي الحرب الداخلية بمهجتي !
جاءه شرحبيل بن السمط قبيل معركة صفين ، وطلب منه تجنب الحرب وترك الشام لمعاوية ، فقال له الإمام ( عليه السلام ) : ( وأيم الله لوددت أنني فديت حقن دماء المسلمين بمهجتي ، ولكن قولوا لصاحبكم هذا يخرج إلى هذه الصحراء ، ثم أدعو الله ويدعو هو أيضاً ، أن يقتل المحق منا المبطل ) . ( ابن الأعثم : 3 / 170 )
فقد أقسم ( عليه السلام ) بالله تعالى أنه يحب أن يفتدي الحرب الداخلية بدمه ، لو جاز له ذلك ، لكنه مضطر لأن يخوضها ، لأنه مأمور بها من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولو عصاه لكفر واستحق العذاب من الله . واقترح حلاً لتجنب الحرب أن يبرز اليه معاوية فأيهما يقتل يكون الحكم لصاحبه ! وقد كرر ذلك ( عليه السلام ) ، ومعاوية ينكص عنه .
3 . سمى له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من يقاتلهم على تأويل القرآن فرداً فرداً !
كان الإمام ( عليه السلام ) ينفذ خريطة نبوية دقيقة حتى في الأسماء ! قال ( عليه السلام ) : ( جاهدت مع رسول الله بأمر الله وأمر رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، فلما قبض الله رسوله ( ( عليهما السلام ) ) جاهدت من أمرني بجهاده من أهل البغي وسماهم لي رجلاً رجلاً ، وحضني على جهادهم وقال : يا علي تقاتل الناكثين وسماهم لي ، والقاسطين وسماهم لي ، والمارقين وسماهم لي . فلا تَكْثر منكم الأقوال ) . ( دعائم الإسلام : 2 / 355 )
4 . وكان بطبيعته لا يحب الحرب الداخلية ولا الخصومة مع أحد !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 2 / 201 ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما كاد جبرئيل ( عليه السلام ) يأتيني إلا قال : يا محمد إتق شحناء الرجال وعداوتهم ) .
--------------------------- 459 ---------------------------
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 4 / 58 ) : ( إن للخصومة قُحُماً . يريد بالقحم
المهالك ، لأنها تقحم أصحابها في المهالك والمتالف في الأكثر ) .
وقال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 4 / 72 ) : ( من بالغ في الخصومة أثم ، ومن قصرفيها ظلم ، ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم ) . فغريزة حب الغلبة قوية جداً !
وفي مسند زيد بن علي / 290 : ( عن أبيه ، عن جده ، عن علي ( عليهم السلام ) أنه وكل الخصومة إلى عبد الله بن جعفر ، وقال : ما قضي له فلي وما قضي عليه فعلي ، وكان قبل ذلك وكل الخصومة إلى عقيل بن أبي طالب حتى توفي ) .
5 . وروى أبو أيوب الأنصاري فضل القتال مع علي ( عليه السلام )
في تاريخ بغداد ( 13 / 189 ) : ( عن الأعمش قال : حدثنا إبراهيم عن علقمة والأسود قالا : أتينا أباأيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين ، فقلنا له : يا أباأيوب إن الله أكرمك بنزول محمد وبمجيئ ناقته تفضلاً من الله وإكراماً لك ، حتى أناخت ببابك دون الناس ، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله ؟ ! فقال : يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله ، وإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرنا بقتال ثلاثة مع علي : بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين . فأما الناكثون فقد قاتلناهم أهل الجمل طلحة والزبير . وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم ، يعني معاوية وعمراً . وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروانات ، والله ما أدري أين هم ، ولكن لابد من قتالهم إن شاء الله ! قال : وسمعت رسول الله يقول لعمار : يا عمار تقتلك الفئة الباغية ، وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك . يا عمار بن ياسر إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي فإنه لن يُدْليك في ردى ولن يخرجك من هدى . يا عمار من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در ، ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار ! قلنا : يا هذا حسبك رحمك الله ، حسبك رحمك الله ) !
--------------------------- 460 ---------------------------
أقول : رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 43 / 273 ) وابن العديم في تاريخ حلب ( 1 / 292 ) وآخرون . وروته مصادرنا كالطرائف / 104 ، والخوارزمي في المناقب / 105 ، وضعفه ابن كثير في النهاية ( 7 / 340 ) فقال : ( هذا السياق الظاهر أنه موضوع ، وآفته من جهة المعلى بن عبد الرحمن ، فإنه متروك الحديث ) .
لكن قال الهيتمي في مجمع الزوائد ( 5 / 20 ) : ( أثنى عليه الدقيقي ، وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به ) . وقال ابن حجر في التقريب ( 2 / 202 ) : ( وقد رمي بالرفض ) .
ويكفي لتوثيقه أنهم اتهموه بالرفض لكن وثقه اثنان من علمائهم فلا يلتفت لتضعيفه .
وقال الموفق الخوارزمي في المناقب ( 1 / 241 ) : ( رُويَ أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كان يقول أيام صفين : والله ما سمعت بأمة قد آمنت بنبيها وقاتلت أهل بيت نبيها غيركم ) !
وروى يحيى بن الحسين في تيسير المطالب ( 1 / 519 ) : ( عن المستظل بن حصين قال : سمعت علياً ( عليه السلام ) ليلة صفين وهو يقول : يا أيها الناس لا يفتننكم الهوى ، يا أيها الناس لاتأفكوا عن الهدى ، يا أيها الناس لا تقاتلوا أهل بيت نبيكم فوالله ما سمعت بأمة آمنت بنبيها وقاتلت أهل بيت نبيها ، غيركم ) !
راجع ما كتبنا في حرب الجمل في دوران الأمر عنده ( عليه السلام ) بين القتال أو الكفر بما أنزل على محمد ( ( عليهما السلام ) ) ! وما كتبنا في فريضة قتال البغاة عند فقهاء المسلمين .
6 . القتال على التأويل كالقتال الذي أمر الله به بني إسرائيل
يشبه القتال على التأويل في هذه الأمة ، القتال الذي فرضه الله على بني إسرائيل ، أن يقاتل من لم يعبد العجل الذين عبدوه !
قال تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . فقد أمرهم الله بالقتال ، فتقاتلوا وقتل منهم ألوف كما ذكرت الروايات ، حتى أنزل الله توبتهم وأمرهم بوقف القتال .
في تفسير القمي ( 1 / 47 ) : ( فاجتمعوا سبعين ألف رجل ، ممن كانوا عبدوا العجل إلى بيت المقدس ، فلما صلى بهم موسى ( عليه السلام ) وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضاً ،
--------------------------- 461 ---------------------------
حتى نزل جبرئيل فقال : قل لهم يا موسى : إرفعوا القتل ، فقد تاب الله عليكم ، فقتل عشرة آلاف ) !
وفي التفسير الأمثل ( 1 / 228 ) : ( إن بني إسرائيل كانوا على مر التاريخ قوماً متعنتين لجوجين ، ولابد إذن من عقاب صارم يبقى رادعاً للأجيال التالية عن السقوط في هاوية الشرك . ولعل في عبارة قوله تعالى : ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى هذا المعنى ) .
7 . جعل علي ( عليه السلام ) كل قبيلة مقابل أقاربهم ليقلل الخسائر
جعل علي ( عليه السلام ) كل قبيلة مقابل أقاربهم في الشام ، لأن عاطفة الرحم تمنعهم من الاستئصال . قال نصر / 229 : « وأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام ، إلا قبيلة ليس منهم بالشام أحد ، مثل بجيلة لم يكن بالشام منهم إلا عدد يسير ، فصرفهم إلى لخم » . أي جعلهم مقابلهم .
8 . كانت المعركة تنتهي قرب الغروب
وكانت طريقة الحرب : أن يعبؤوا الجيش بعد صلاة الفجر ويتقدموا إلى مواجهة بعضهم ، فربما تقدم فارس يطلب المبارزة فيبرز إليه فارس من الطرف الآخر ، فيقف الناس يتفرجون عليهما ، وربما حملت مجموعة على من يقابلها ، وربما كانت الحرب زحفاً من الجيش جله أو كله . لكن القتال كان ينتهي عند الغروب فيحجز بينهم الليل ، ويدفنون قتلاهم ، ويعود كلٌّ إلى معسكره . ولم تشتد الحرب إلا في الأيام الثلاثة الأخيرة .
9 . وكانوا يتجنبون قتال الإبادة والإستئصال
1 . قال في الأخبار الطوال / 169 : ( فلم يزالوا يتراسلون شهري ربيع وجمادى الأولى ، ويفزعون فيما بين ذلك يزحف بعضهم إلى بعض ، فيحجز بينهم القراء والصالحون ، فيفترقون من غير حرب حتى فزعوا في هذه الثلاثة الأشهر خمساً وثمانين فزعة ، كل ذلك يحجز بينهم القراء ) . ولا يصح هذا التوقيت لأن صفين كانت في ذي الحجة ومحرم وصفر ، ولم تكن في ربيع وجمادى .
--------------------------- 462 ---------------------------
2 . وقال نصر / 195 : ( فمكثوا على ذلك حتى كان ذو الحجة ، فجعل عليٌّ يأمر هذا الرجل الشريف فيخرج معه جماعة فيقاتل ، ويخرج إليه من أصحاب معاوية رجل معه آخر ، فيقتتلان في خيلها ورجلهما ثم ينصرفان ، وأخذوا يكرهون أن يتراجعوا بجميع الفيلق من العراق وأهل الشام ، مخافة الاستئصال والهلاك .
وكان علي ( عليه السلام ) يُخرج الأشتر مرة في خيله ، وحجر بن عدي مرة ، وشبث بن ربعي التميمي مرة ، ومرة خالد بن المعمر السدوسي ، ومرة زياد بن النضر الحارثي ، ومرة زياد بن جعفر الكندي ، ومرة سعد بن قيس الهمداني ، ومرة معقل بن قيس الرياحي ، ومرة قيس بن سعد بن عبادة . وكان أكثر القوم حروباً الأشتر .
وكان معاوية يُخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، ومرة أباالأعور السلمي ، ومرة حبيب بن مسلمة ، ومرة ابن ذي الكلاع ، ومرة عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، ومرة شرحبيل بن السمط ، ومرة حمزة بن مالك الهمداني . فاقتتلوا ذا الحجة ،
وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين ، أوله وآخره ) .
10 . كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتدخل إذا خشي إبادة طرف
قال نصر / 477 : ( عن جابر بن عميرالأنصاري : والله لكأني أسمع علياً يوم الهريرحين سار أهل الشام وذلك بعدما طحنت رحى مذحج فيما بينها وبين عك ولخم وجذام والأشعريين بأمرعظيم تشيب منه النواصي من حين استقلت الشمس حتى قام قائم الظهيرة . ثم إن علياً قال : حتى متى نخلي بين هذين الحيَّين وقد فنيا ، وأنتم وقوف تنظرون إليهم ، أما تخافون مقتَ الله ! ثم انفتل إلى القبلة ورفع يديه إلى الله ثمّ نادى : يا الله يا رحمن يا رحيم . يا واحد يا أحد يا صمد ، يا الله يا إله محمد ، اللهم إليك نُقلت الأقدام ، وأفضت القلوب ، ورُفعت الأيدي ، وامتدت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، وطُلبت الحوائج . اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا ( ( عليهما السلام ) ) وكثرة عدونا وتشتت أهوائنا : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ . سيروا على بركة الله ثمّ نادى : لا إله إلاّ الله والله أكبركلمة التقوى ) .
--------------------------- 463 ---------------------------
ومعناه أن علياً ( عليه السلام ) كان إذا خشيَ الإبادة في القتال ، تدخل لإيقافها .
11 . وكان الإمام ( عليه السلام ) ليناً في مواقفه ومفاوضاته لإنهاء الحرب
تقرأ أخبار الجمل وصفين فتعجب لعلي ( عليه السلام ) كيف جمع بين الضدين : الجدية في القتال ، واللين في المواقف لإيقاف الحرب وإيقاف سفك الدماء !
فهو الذي يقول : ولعمري ما عليَّ من قتال من خالف الحق وخابط الغي من إدهان ولا إيهان . ويقول : أعطوا السيوف حقوقها ، ووطَّئوا للجنوب مصارعها ، واذمروا أنفسكم ( وطنوها ) على الطَّعن الدعسي والضرب الطَّلحفي ( الشديد ) . وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل .
فوالَّذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر ، فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروه . ( نهج البلاغة : 3 / 16 ) .
ويقول : ( إن هؤلاء لن يزولوا عن موقفهم دون طعن يخرج منه النسيم ، وضرب يفلق الهام ، ويصجُّ العظام ، وتسقط منه المعاصم والأكف ، وحتى تشدخ جباههم بعُمُد الحديد ، وتنتثر لممهم على الصدور والأذقان !
أين أهل الصبر وطلاب الأجر ؟ فثاب اليه عصابة من المسلمين من سائر الناس فدعا ابنه محمداً ، فدفع اليه الراية وقال : إمْشِ بها نحو هذه الراية مشياً رويداً ، حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح ، فأمسك حتى يأتيك أمري . . ) . ( مروج الذهب : 2 / 388 ) .
ويقول : ( إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب . إن أكرم الموت القتل . والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون على عليٍّ من ميتة على الفراش . فقدموا الدارع وأخروا الحاسر ، وعضوا على الأضراس ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام . والتووا في أطراف الرماح فإنه أمْوَر للأسنة . وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب . وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل . ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم والمانعين الذمار منكم ، فإن الصابرين على نزول الحقائق
--------------------------- 464 ---------------------------
هم الذين يحفون براياتهم ، ويكتنفون حفافيها وراءها وأمامها ، ولايتأخرون عنها فيسلموها ، ولايتقدمون عليها فيفردوها . وإن الفار لغير مزيد في عمره ولا محجوز بينه وبين يومه . الرائح إلى الله كالظمآن يرد الماء . الجنة تحت أطراف العوالي . اليوم تبلى الأخبار . والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم . اللهم فإن ردوا الحق فافضض جماعتهم وشتت كلمتهم وأبسلهم بخطاياهم . إنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك ، يخرج منه النسيم ، وضرب يفلق الهام ، ويطيح العظام ، ويندر السواعد والأقدام . وحتى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر ، ويرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب ، وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس ، وحتى تدعق الخيول في نواحر أرضهم ، وبأعنان مساربهم ومسارحهم ) . ( نهج البلاغة : 2 / 5 ) .
ويقول : « الآن فاصبروا ، نزلت عليكم السكينة ، وثبتكم الله باليقين ، وليعلم المنهزم بأنه مسخط ربه وموبق نفسه وفي الفرار موجدة الله عليه والذل اللازم وفساد العيش عليه ، وإن الفار منه لا يزيد في عمره ولا يرضي ربه » . ( الكافي : 5 / 40 ) .
وهو الذي باشرالحرب بنفسه ليلة الهرير ويومها : ( وكان كلما قتل قتيلاً كبَّرَ فعُدَّ تكبيره فبلغ خمس مائة وثلاثاً وعشرين تكبيرة ) . ( كشف اليقين / 158 ) .
وفي نفس الوقت تراه استجاب لإيقاف الحرب لما رفع معاوية المصاحف ووقعت الفتنة في عسكره ، فأرسل إلى الأشتر وقد قارب على النصر أن يوقف الحرب ويرجع ، ولما تأخر الأشتر أرسل له مرة ثانية ، وأوقف الحرب كما أراد جمهور جيشه ، وجعل الحكَم أبا موسى الأشعري وهو يعرف أنه عدو له وأن حكمه سيكون ضده ! وكان باستطاعته أن يحمل مع الأشتر ويقتل معاوية ، بل كان بإمكانه أن يصل إلى خيمة معاوية في فرص سابقة !
لكنه كان في قتاله ينفذ خريطة نبوية ، فهو مأمور بأن يثبت الخط النبوي في الأمة وهو يعلم أن معاوية سيحكم بعده ! فالموجة لخط الانحراف المضاد للخط النبوي ، لكن عليه أن يثبت الخط النبوي ليكون شاخصاً في مجرى تاريخ الأمة .
ولما رفعوا المصاحف ودعوا إلى التحكيم ، ترك المقادير تجري وجاراها ، فقد كان ( عليه السلام ) يرى أنه أدى ما عليه ، وثبت مبدأ القتال على التأويل والتحريف ، وكشف للأمة أن أعداءه
--------------------------- 465 ---------------------------
الذين قاتلهم ليس عندهم دين ، وتركهم يظهرون على حقيقتهم في لجنة التحكيم ، ويكشفون للأمة والتاريخ أنهم أهل دنيا ومكائد ، لا يريدون إلا الحكم والتسلط ، وأنهم ليسوا من الإسلام في شئ !
12 . وكانت سياسته ( عليه السلام ) الحدية في النظرية والمرونة في التطبيق
قال ( عليه السلام ) : ( قال : فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي . أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم » ! ( الطبري : 4 / 34 ) .
( ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ، ولكن يكتب معاوية ما شاء ويقر بما شاء لنفسه وأصحابه ، ويسمي نفسه وأصحابه ما شاء ) ( صفين / 509 ) .
( يا عجباً أعصى ويطاع معاوية ؟ وقال : قد أبيتم إلا أبا موسى ؟ قالوا : نعم . قال : فاصنعوا ما بدا لكم . اللهم إني أبرأ إليك من صنيعهم ) . ( مناقب آل أبي طالب ( 2 / 365 ) .
13 . ونهى الإمام ( عليه السلام ) عن الحديث عن خسائرالحرب
قال نصر / 111 : ( قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل بن ورقاء : إن يومنا ويومهم ليوم عصيب ، ما يصبرعليه إلا كل مشيع القلب ، صادق النية رابط الجأش . وأيم الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منا ومنهم إلا الرذال . قال عبد الله بن بديل : والله أظن ذلك . فقال علي ( عليه السلام ) : ليكن هذا الكلام مخزوناً في صدوركما لا تظهراه ، ولايسمعه منكما سامع .
إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب الله له . فطوبى للمجاهدين في سبيل الله ، والمقتولين في طاعته !
فلما سمع هاشم بن عتبة مقالتهم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : سِرْ بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلوا حرامه وحرموا حلاله ، واستولاهم الشيطان ووعدهم الأباطيل ومَنَّاهم الأماني ، حتى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردى ، وحبب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم
--------------------------- 466 ---------------------------
رغبة فيها ، كرغبتنا في الآخرة إنجاز موعود ربنا .
وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه رحماً ، وأفضل الناس سِبْقَةً وقِدْماً . وهم يا أمير المؤمنين منك مثل الذي علمنا . ولكن كتب عليهم الشقاء ، ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين .
فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة وأنفسنا تنصرك جذلة على من خالفك وتولى الأمر دونك .
والله ما أحب أن لي ما في الأرض مما أقلت وما تحت السماء مما أظلت ، وأني واليت عدواً لك ، أو عاديت ولياً لك . فقال علي ( عليه السلام ) : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيك ( ( عليهما السلام ) ) ) .
14 . وكان ( عليه السلام ) يوجه بعض خاصته إلى الشهادة لأنها فرصة
روى الكشي ( 1 / 126 ) أن حمران بن أعين سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( ما تقول في عمار ؟ قال : رحم الله عماراً ثلاثاً ، قاتل مع أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله وقتل شهيداً . قال قلت في نفسي : ما تكون منزلة أعظم من هذه المنزلة ! فالتفت إلي فقال : لعلك تقول مثل الثلاثة هيهات ! قال قلت : وما علمه أنه يقتل في ذلك اليوم ؟ قال : إنه لما رأى الحرب لا تزداد إلا شدة والقتل لا يزداد إلا كثرة ، ترك الصف وجاء إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين هو هو ؟ قال : إرجع إلى صفك ، فقال له ذلك ثلاث مرات ، كل ذلك يقول له إرجع إلى صفك ، فلما أن كان في الثالثة قال له : نعم . فرجع إلى صفه وهو يقول : اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه ) . فعمار عنده من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علامات ليوم شهادته ، لكن لا يعرف ساعته إلا من إمامه ، ولا يبرز إلا بإذن إمامه ( عليه السلام ) .
كما مازح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هاشم المرقال وكان أعور أصيبت عينه يوم اليرموك : « فدفع له الراية وكانت عليه درعان فقال له علي ( عليه السلام ) كهيئة المازح : أيا هاشم ، أما تخشى من نفسك أن تكون أعور جباناً ؟ قال : ستعلم يا أمير المؤمنين ! والله لألفَّنَّ بين جماجم القوم لفَّ رجل ينوي الآخرة . فأخذ رمحاً فهزه فانكسر ، ثم آخر فوجده جاسياً فألقاه ، ثم دعا برمح لين فشد به لواءه » . ( صفين / 326 ) .
--------------------------- 467 ---------------------------
ولما حان وقت شهادته قال له الإمام ( عليه السلام ) ( نصر / 346 ) : « يا هاشم ، حتى متى تأكل الخبز وتشرب الماء ؟ فقال هاشم : لأجهدن على ألا أرجع إليك أبداً ! قال علي ( عليه السلام ) إن بإزائك ذا الكلاع وعنده الموت الأحمر . فتقدم هاشم ، فلما أقبل قال معاوية : من هذا المقبل ؟ فقيل هاشم المرقال . فقال : أعور بني زهرة قاتله الله . . فأقبل هاشم وهو يقول :
أعْوَرُ يبغي نفسه خلاصا * مثل الفنيق لابساً دلاصا
قد جرب الحرب ولا أناصا * لا ديةً يخشى ولا قصاصا
كل امرئ وإن كبا وحاصا * ليس يرى من موته مناصا
وكان الإمام ( عليه السلام ) دعا لهاشم بالشهادة ومرافقة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما قال له هاشم ( نصر / 112 ) : ( والله ما أحب أن لي ما في الأرض مما أقلت ، وما تحت السماء مما أظلت ، وأني واليت عدواً لك ، أو عاديت ولياً لك . فقال علي ( عليه السلام ) : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيك ( ( عليهما السلام ) ) ) . وقاتل حتى قتل !
أقول : الشهادة اختيار إلهي ومقام رفيع ، لا تحصل لصاحبها إلا باستحقاق وإذن من الله تعالى . ولذلك قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب الله له . فطوبى للمجاهدين في سبيل الله ، والمقتولين في طاعته ! فالذي كتب عليه القتل لا يموت بغيره ، والذي كتب عليه أن يموت حتف أنه لا يمكن أن يقتل أو يستشهد .
ويبدو لنا أن الموت والذهاب إلى الآخرة واحد ، ولا فرق فيه بين أسبابه ، لكن الفرق كبير ودقيق عند الله تعالى ، كالسفر بالطائرة أو السيارة أو مشياً !
وكأن فتح باب الجهاد والقتال على التأويل مقصود لفتح باب الشهادة ، وهو من أسرار الله تعالى ، فلا يجوز للإمام ( عليه السلام ) منع الناس من الجهاد والشهادة .
15 . نشر علي ( عليه السلام ) راية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حرب الجمل فقط
عقديتنا أن الله تعالى جمع مواريث الأنبياء ( عليه السلام ) لنبيه ( ( عليهما السلام ) ) وفيها صحف آدم ونوح وإبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى وعصا موسى وخاتم
--------------------------- 468 ---------------------------
سليمان ( عليهم السلام ) ، وغيرها . فأضاف لها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مواريثه وسلمها إلى علي ( عليه السلام ) ومنها رايته التي نزل بها جبرئيل ( عليه السلام ) والتي إذا نشرت لا تنهزم . وأوصاه أن لا ينشرها إلا في حرب الجمل ، وأن يورثها لأولاده حتى ينشرها المهدي الموعود ( عليه السلام ) .
قال الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 223 ) يصف اتباع الناس لرواة السلطة أهل الظنون : ( يمصون الثماد ( الماء القليل في الرمل ) ويدعون النهر العظيم ، قيل له : وما النهر العظيم ؟ قال : رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والعلم الذي أعطاه الله ، إن الله عز وجل جمع لمحمد ( ( عليهما السلام ) ) سنن النبيين من آدم وهلم جراً إلى محمد ( ( عليهما السلام ) ) . قيل له : وما تلك السنن ؟ قال : علم النبيين بأسره ، وإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صير ذلك كله عند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
فقال له رجل : يا ابن رسول الله ، فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النبيين ؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : إسمعوا ما يقول ؟ إن الله يفتح مسامع من يشاء ، إني حدثته أن الله جمع لمحمد ( ( عليهما السلام ) ) علم النبيين وأنه جمع ذلك كله عند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهو يسألني أهو أعلم أم بعض النبيين ) !
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( لا يخرج القائم ( عليه السلام ) حتى يكون تكملة الحلقة . قلت : وكم الحلقة ؟ قال : عشرة آلاف ، جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، ثم يهز الراية ويسير بها ، وهي راية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نزل بها جبرئيل يوم بدر . ثم قال : يا أبا محمد وما هي والله قطن ولا كتان ولا قز ولا حرير ، قلت : فمن أي شئ هي ؟ قال : من ورق الجنة ، نشرها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم بدر ، ثم لفها ودفعها إلى علي ( عليه السلام ) ، فلم تزل عند علي حتى إذا كان يوم البصرة نشرها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ففتح الله عليه ، ثم لفها .
وهي عندنا هناك ، لاينشرها أحد حتى يقوم القائم ، فإذا هو قام نشرها لم يبق أحد في المشرق والمغرب إلا لعنها ، يسير الرعب قدامها شهراً ، ووراءها شهراً ، وعن يمينها شهراً ، وعن يسارها شهراً ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( غيبة النعماني / 319 ) : ( لما التقى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأهل البصرة نشر الراية راية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فزلزلت أقدامهم ، فما اصفرت الشمس حتى قالوا : آمنا يا ابن أبي طالب ! فعند ذلك قال : لاتقتلوا الأسرى ولا تجهزوا على جريح ، ولا تتبعوا مولياً ،
--------------------------- 469 ---------------------------
ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن . ولما كان يوم صفين سألوه نشرالراية فأبى عليهم فتحملوا عليه بالحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعمار بن ياسر فقال للحسن : يا بنيَّ إن للقوم مدةً يبلغونها ، وإن هذه رايةٌ لاينشرها بعدي إلا القائم ( عليه السلام ) ) .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( غيبة النعماني / 321 ) : ( فإذا هو أشرف على نجفكم نشر راية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فإذا هو نشرها انحطت عليه ملائكة بدر . قلت : وما راية رسول الله ؟ قال : عمودها من عمد عرش الله ورحمته ، وسائرها من نصر الله ،
لا يهوي بها إلى شئ إلا أهلكه الله ) !
وقد نشرها الإمام ( عليه السلام ) في حرب الجمل ، وامتنع عن نشرها بعده ، لتجري مقادير الله تعالى في المسلمين ومعاوية ، وذلك بتوجيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومعناه أن النصر في حرب الجمل ضروري بميزان هذه المقادير ، وفي صفين غير ضروري . وفي النهروان لا يحتاج الأمر إلى نشر راية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
ومعنى المقادير الربانية : أن الأمة ضلت في تأويل القرآن عن علم وعمد واتبعت أهواءها ، فوجب قتالها على تأويل القرآن ، لتثبيت الخط النبوي في مجرى تاريخها وفكرها ، حتى لو انتصرالإنحراف بعد القتال على التأويل .
16 . أخبر الأمة بأنها ستدخل في الذل لكرهها للحرب !
وروى ذلك الشيعة والسنة ، ففي مصنف ابن أبي شيبة ( 8 / 614 ) : ( قال علي ( رضي الله عنه ) :
إني لأرى هؤلاء القوم ظاهرين عليكم لتفرقكم عن حقكم واجتماعهم على باطلهم . . وإنكم ستعرضون على سبي وعلى البراءة مني ، فمن سبني فهو في حل من سبي ، ولا تبرأوا من ديني فإني على الإسلام ) .
وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 131 ) قوله ( عليه السلام ) : ( والله يا أهل العراق ،
ما أظن هؤلاء القوم من أهل الشام إلا ظاهرين عليكم ، فقالوا : أبعلم تقول ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : نعم ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إني أرى أمورهم قد علت ، وأرى أموركم قد خبت ، وأراهم جادين في باطلهم ، وأراكم وانين في حقكم ، وأراهم مجتمعين وأراكم متفرقين ، وأراهم لصاحبهم معاوية مطيعين وأراكم لي عاصين .
--------------------------- 470 ---------------------------
أما والله لئن ظهروا عليكم بعدي لتجدنهم أرباب سوء ، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم في بلادكم ، وحملوا إلى بلادهم منكم ، وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب ، لا تأخذون لله حقاً ولا تمنعون له حرمة ، وكأني أنظر إليهم يقتلون صلحاءكم ويخيفون علماءكم ، وكأني أنظر إليكم يحرمونكم ويحجبونكم ، ويدينون الناس دونكم ، فلو قد رأيتم الحرمان ، ولقيتم الذل والهوان ، ووقع السيف ونزل الخوف ، لندمتم وتحسرتم على تفريطكم في جهاد عدوكم ، وتذكرتم ما أنتم فيه من الخفض والعافية ، حين لا ينفعكم التذكار .
فقال الناس : قد علمنا يا أمير المؤمنين أن قولك كله وجميع لفظك يكون حقاً ، أترى معاوية يكون علينا أميراً ؟ فقال : لا تكرهوا إمرة معاوية ، فإن إمرته سلم وعافية ، فلو قد مات رأيتم الرؤوس تندر عن كهولها كأنها الحنظل ، وعداً كان مفعولاً ، فأما إمرة معاوية فلست أخاف عليكم شرها ، ما بعدها أدهى وأمر ) !
ونحوه الغارات ( 2 / 511 ) والإرشاد ( 1 / 274 ) وتاريخ دمشق ( 10 / 361 ) .
والعجيب أنه ( عليه السلام ) كتب بذلك إلى معاوية وقد ذكرناه في فصل رسائله ( عليه السلام ) ، قال : وأنك ستفرح إذا أخبرتك أنك ستلي الأمر وابنك بعدك ، لأن الآخرة ليست من بالك . .
فأجابه معاوية : هنيئاً لك يا أبا الحسن تملك الآخرة ، وهنيئاً لنا نملك الدنيا !
وفي تاريخ دمشق ( 59 / 61 ) : ( وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رجوعه من صفين لا تكرهوا إمارة معاوية والله لئن فقدتموه لكأني أنظر إلى الرؤوس تندر على كواهلها كالحنظل )
وفي مقاتل الطالبيين ( 1 / 20 ) : ( جاء الأشعث إلى علي ( عليه السلام ) يستأذن عليه فرده قنبر ، فأدمى الأشعث أنفه . فخرج علي وهو يقول : مالي ولك يا أشعث ! أما والله لو بعبد ثقيف تمرست لاقشعرت شعيراتك ! قيل يا أمير المؤمنين ومن غلام ثقيف ؟ قال : غلام يليهم لا يبقى أهل بيت من العرب إلا أدخلهم ذلاً . قيل : يا أمير المؤمنين كم يلي وكم يمكث ؟ قال : عشرين إن بلغها ) .
وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 129 ) وفي طبعة ( 173 ) خطبته ( عليه السلام ) وفيها :
--------------------------- 471 ---------------------------
( أما بعد : فإن لي عليكم حقاً ، ولكم علي حق ، أما حقكم علي : فالنصيحة في ذات الله ، وتوفير فيئكم عليكم ، وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كيما تعلموا . وأما حقي عليكم : فالوفاء بالبيعة ، والنصح لي في الإجابة حين أدعوكم ، والطاعة حين آمركم ، فإن يرد الله بكم خيراً تنزعوا عما أكره ، وترجعوا إلى ما أحب ، تنالوا بذلك ما تحبون ، وتدركوا ما تأملون .
أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ، ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم ، كلامكم يوهي الصم ، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم ، إذا أمرتكم بالمسير قلتم كيت وكيت ، أعاليل بأضاليل هيهات لا يدرك الحق إلا بالجد والصبر ، أي دار بعد داركم تمنعون ؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، أصبحت لا أطمع في نصرتكم ، ولا أصدق قولكم ، فرق الله بيني وبينكم ، وأعقبني بكم من هو خير لي ، وأعقبكم بعدي من هو شر لكم مني !
أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملاً ، وسيفاً قاتلاً ، وأثرة يتخذها الظالمون بعدي عليكم سنة ، تفرق جماعتكم ، وتبكي عيونكم ، وتدخل الفقر بيوتكم ! تَمنَّوْنَ والله عندها أن لو رأيتموني ونصرتموني ، . وستعرفون ما أقول لكم عما قليل .
استنفرتكم فلم تنفروا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا ، وأسمعتكم فلم تعوا ، فأنتم شهود كغياب ، وصُمٌّ ذووا أسماع ، أتلو عليكم الحكمة ، وأعظكم بالموعظة النافعة ، وأحثكم على جهاد المحلين ، الظلمة الباغين ، فما آتى على آخر قولي حتى أراكم متفرقين !
إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقاً عزين ، تضربون الأمثال ، وتناشدون الأشعار ، تربت أيديكم ! وقد نسيتم الحرب واستعدادها ، وأصبحت قلوبكم فارغة عن ذكرها ، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل !
ويحكم ! أغزوا عدوكم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غزيَ قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا ، وأيم الله ما أظنكم تفعلون حتى يفعل بكم !
--------------------------- 472 ---------------------------
وأيم الله لوددت أني قد رأيتهم فلقيت الله على نيتي وبصيرتي ، فاسترحت من مقاساتكم ومداراتكم ! ويحكم ، ما أنتم إلا كإبل جامحة ضل عنها رعاؤها ، فكلما ضمت من جانب انتشرت من جانب ) !
وفي الإحتجاج ( 1 / 246 ) : ( كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يخطب بالبصرة بعد دخوله بأيام فقام إليه رجل من بكر بن وائل ، يدعى عباد بن قيس ، وكان ذا عارضة ولسان شديد فقال : يا أمير المؤمنين والله ما قسمت بالسوية ، ولاعدلت بالرعية . فقال : ولمَ ويحك ؟ ! قال لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية .
فقال ( عليه السلام ) : أيها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن ! ( يعني أنه ( عليه السلام )
غيَّرَ الموضوع )
فقال عباد : جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن كنت كاذباً فلا أماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف ! قيل : ومن غلام ثقيف ؟ فقال : رجل لا يدع لله حرمة إلا انتهكها ! فقيل أفيموت أو يقتل ؟ فقال : يقصمه قاصم الجبارين بموت فاحش يحترق منه دبره ، لكثرة ما يجري من بطنه !
وفي نهج البلاغة ( 1 / 230 ) : ( أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال . يأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم . إيهٍ أباوذحة .
قال الشريف : وهذا القول يومئ به إلى الحجاج ، وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره ) . ومعنى الذيال الميال : الطويل المتبختر !
وقصة الحجاج مع الوذحة : أنه كان مأبوناً في مقعده حكة ، فكان يضع الوذحة ، أي الخنفساء لتحكه . ومعنى : يقصمه قاصم الجبارين بموت فاحش : أنه كان مصاباً بمرض في بطنه وأمعائه ، وكان يخرج منه القيح حتى هلك .
قال في شرح النهج ( 7 / 280 ) : ( وقد روى أبو عمر الزاهد ولم يكن من رجال الشيعة في أماليه وأحاديثه ، عن السياري ، عن أبي خزيمة الكاتب قال : ما فتشنا أحداً فيه هذا الداء إلا وجدناه ناصبياً ) .
- *
--------------------------- 473 ---------------------------
الفصل الرابع والثمانون: رجوع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من صفين إلى الكوفة
أطلق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أسرى جيش معاوية
وطبق قاعدته بأن أسير أهل القبلة لا يقتل ولا يفادى ، وإن لم يطبقها غيره ، وأمر مالكاً بإطلاق أسيره الأصبغ بن ضرار الأزدي .
قال نصر / 518 : ( عن الشعبي قال : أسرعليٌّ أسرى يوم صفين ، فخلى سبيلهم فأتوا معاوية ، وقد كان عمرو بن العاص يقول لأسرى أسرهم معاوية : أقتلهم . فما شعروا إلا بأسراهم قد خلى سبيلهم علي فقال معاوية : يا عمرو لو أطعناك في هؤلاء الأسرى لوقعنا في قبيح من الأمر ، ألا تراه قد خلى سبيل أسرانا . فأمر بتخلية من في يديه من أسرى علي .
وكان علي إذا أخذ أسيراً من أهل الشام خلى سبيله ، إلا أن يكون قد قتل أحداً من أصحابه فيقتله به ، فإذا خلى سبيله فإن عاد الثانية قتله ولم يخل سبيله . وكان علي لا يجهز على الجرحى ، ولا على من أدبر بصفين ) .
الأسيرالذي سمى معاوية : خال المؤمنين !
قال نصر / 518 : ( حدثني أبو عبد الله يزيد الأودي أن رجلاً منهم كان يقال له عمرو بن أوس ، قاتل مع علي يوم صفين وأسره معاوية في أسرى كثيرة ، فقال له عمرو بن العاص : أقتلهم . قال عمرو بن أوس لمعاوية : إنك خالي فلا تقتلني ! فقامت إليه بنو أود فقالوا : هب لنا أخانا ، فقال : دعوه ، فلعمري لئن كان صادقاً ليستغنين عن شفاعتكم ، وإن كان كاذباً فإن شفاعتكم لمن ورائه . فقال له معاوية : من أين أنا خالك ؟ فما بيننا وبين أود من مصاهرة . فقال : فإذا أخبرتك فعرفت فهوأماني عندك ؟ قال : نعم . قال : ألست تعلم أن أم حبيبة ابنة
--------------------------- 474 ---------------------------
أبي سفيان زوجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هي أم المؤمنين ؟ قال : بلى . قال : فأنا ابنها وأنت أخوها فأنت خالي . فقال معاوية : ما له لله أبوه ، ما كان في هؤلاء الأسرى أحد يفظن لها غيره . وقال : خلوا سبيله ) !
أقول : لقفها معاوية ونشرها فجعل لقبه : خال المؤمنين ، لكن محمد بن أبي بكر ( رضي الله عنه ) ليس خالهم ! ويلزم أن يكون إخوة صفية اليهود أخوال المؤمنين !
رجع الإمام ( عليه السلام ) إلى الكوفة من طريق آخر
قال نصر / 532 : ( لما صدر علي من صفين أنشأ يقول :
وكم قد تركنا في دمشق وأرضها * من أشمط موتور وشمطاء ثاكل
وغانية صاد الرماح حليلها * فأضحت تعد اليوم إحدى الأرامل
تبكي على بعل لها راح غادياً * فليس إلى يوم الحساب بقافل
وإنا أناس ما تصيب رماحنا * إذا ما طعنا القوم غير المقاتل
أقول : لعله ( عليه السلام ) سمع من أحد ضعفاً فأراد أن يرفع من معنوياتهم ، ويقول إنا لم نندم على قتالنا لأهل الشام ولم نقصر فيه .
وقد يكون تمثل بهذه الأبيات لما دخل الكوفة فسمع نواح نسائها ، فهو يقول لهم : كما أن عندنا نساء ثواكل ففي أهل الشام أيضاً ، وهذه ضريبة الحرب والجهاد ، الذي كتبه الله علينا وهو كرهٌ لنا .
قال نصر / 528 ، والطبري ( 4 / 43 ) : ( لما أقبل عليٌّ ( عليه السلام ) من صفين أقبلنا معه فأخذ طريقاً غير طريقنا الذي أقبلنا فيه ، فقال علي : آئبون عائدون ، لربنا حامدون . اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر في المال والأهل . ثم أخذ بنا طريق البرعلى شاطئ الفرات حتى انتهينا إلى هيت وأخذنا على صندودا ، فخرج الأنماريون بنو سعيد بن حزيم واستقبلوا علياً ، فعرضوا عليه النزل فلم يقبل ، فبات بها ، ثم غدا .
وأقبلنا معه حتى جزنا النخيلة ورأينا بيوت الكوفة ، فإذا نحن بشيخ جالس في ظل بيت على وجهه أثر المرض ، فأقبل إليه على ونحن معه حتى سلم عليه وسلمنا عليه قال : فرد رداً حسناً ظننا أن قد عرفه ، فقال له علي : مالي أرى وجهك منكفتاً أمن
--------------------------- 475 ---------------------------
مرض ؟ قال : نعم . قال : فلعلك كرهته . فقال : ما أحب أنه بغيري . قال : أليس احتساباً للخيرفيما أصابك منه ؟ قال : بلى . قال : أبشر برحمة ربك وغفران ذنبك ، من أنت يا عبد الله ؟ قال : أنا صالح بن سليم . قال : ممن أنت ؟ قال : أما الأصل فمن سلامان بن طي ، وأما الجوار والدعوة فمن بني سليم بن منصور . قال : سبحان الله ، ما أحسن اسمك واسم أبيك واسم من اعتزيت إليه ، هل شهدت معنا غزاتنا هذه ؟ قال : لا والله ما شهدتها ولقد أردتها ، ولكن ما ترى بي من لَحَب الحُمَّى خذلني عنها . قال علي : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
أخبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام ؟ قال : منهم المسرور فيما كان بينك وبينهم ، وأولئك أغشاء الناس ، ومنهم المكبوت الآسف لما كان من ذلك ، وأولئك نصحاء الناس لك .
فذهب لينصرف فقال : صدقت ، جعل الله ما كان من شكواك حطاً لسيئاتك ، فإن المرض لا أجر فيه ، ولكن لا يدع للعبد ذنباً إلا حطه ، إنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل ، وإن الله عز وجل يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالماً جماً من عباده الجنة .
ثم مضى غير بعيد فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسأله فقال : ما سمعت الناس يقولون في أمرنا هذا ؟ قال : منهم المعجب به ، ومنهم الكاره له . والناس كما قال الله تعالى : وَلا يَزَالُون مُختلِفين . فقال له : فما يقول ذوو الرأي ؟
قال يقولون : إن علياً كان له جمع عظيم ففرقه ، وحصن حصين فهدمه ، فحتى متى يبني مثل ما قد هدم ، وحتى متى يجمع مثل ما قد فرق . فلو أنه كان مضى بمن أطاعه إذا عصاه من عصاه ، فقاتل حتى يظهره الله أو يهلك ، إذن كان ذلك هو الحزم . فقال علي : أنا هدمت أم هم هدموا ، أم أنا فرقت أم هم فرقوا ؟ !
وأما قولهم لو أنه مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظفر أو يهلك ، إذن كان ذلك هو الحزم ، فوالله ما غبي عني ذلك الرأي ، وإن كنت
--------------------------- 476 ---------------------------
لسخياً بنفسي عن الدنيا طيب النفس بالموت . ولقد هممت بالإقدام فنظرت إلى هذين قد ابتدراني يعني الحسن والحسين ، ونظرت إلى هذين قد استقدماني ، يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي ، فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل محمد من هذه الأمة ، فكرهت ذلك وأشفقت على هذين أن يهلكا ، وقد علمت أن لولا مكاني لم يستقدما ، يعني محمد بن علي وعبد الله بن جعفر ، وأيم الله لئن لقيتهم بعد يومي لألقينهم وليس هما معي في عسكر ولا دار !
قال : ثم مضى حتى جزنا دور بني عوف ، فإذا نحن عن أيماننا بقبور سبعة أو ثمانية فقال أمير المؤمنين : ما هذه القبور ؟ فقال له قدامة بن عجلان الأزدي : يا أمير المؤمنين ، إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك ، فأوصى أن يدفن في الظهر ، وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم ، فدفن الناس إلى جنبه . فقال عليٌّ : رحم الله خباباً ، قد أسلم راغباً ، وهاجرطائعاً ، وعاش مجاهداً ، وابتلي في جسده أحوالاً ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً . فجاء حتى وقف عليهم ، ثم قال : عليكم السلام يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة ، من المؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، أنتم لنا سلف وفرط ونحن لكم تبع ، وبكم عما قليل لاحقون . اللهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز عنا وعنهم .
ثم قال : الحمد لله الذي جعل الأرض كِفَاتاً ، أحْيَاءً وأمْواتاً ، الحمد لله الذي جعل منها خلقنا وفيها يعيدنا وعليها يحشرنا . طوبى لمن ذكر المعاد ، وعمل للحساب ، وقنع بالكفاف ، ورضي عن الله بذلك .
ثم أقبل حتى دخل سكة الثوريين فقال : خشوا بين هذه الأبيات .
قال : لما مر على بالثوريين ، يعني ثور همدان ، سمع البكاء فقال : ما هذه الأصوات ؟ قيل : هذا البكاء على من قتل بصفين . فقال : أما إني أشهد لمن قتل منهم صابراً محتسباً بالشهادة . ثم مر بالفائشيين فسمع الأصوات فقال مثل ذلك ، ثم مر بالشباميين فسمع رنة شديدة وصوتاً مرتفعاً عالياً ، فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي فقال عليٌّ : أيغلبكم نساؤكم ، ألا تنهونهن عن هذا الصياح والرنين ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لو كانت داراً أو دارين أو ثلاثاً قدرنا على ذلك ، ولكن من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل ،
--------------------------- 477 ---------------------------
فليس من دار إلا وفيها بكاء ، أما نحن معشر الرجال فإنا لا نبكي ، ولكن نفرح لهم . ألا نفرح لهم بالشهادة ! فقال عليٌّ : رحم الله قتلاكم وموتاكم .
وأقبل يمشي معه وعليٌّ راكب فقال له عليٌّ : إرجع . ووقف ثم قال له : إرجع ، فإن مشي مثلك فتنة للوالي ومذلة للمؤمنين .
ثم مضى حتى مر بالناعطيين فسمع رجلاً منهم يقال له عبد الرحمن بن مرثد ، فقال : ما صنع عليٌّ والله شيئاً ، ذهب ثم انصرف في غير شئ . فلما نظر أمير المؤمنين أبلسَ فقال على : وجوه قوم ما رأوا الشام العام ! ثم قال لأصحابه : قوم فارقتهم آنفاً خير من هؤلاء . ثم قال :
أخوك الذي إن أحرضتك ملمة * من الدهر لم يبرح لبثك واجما
وليس أخوك بالذي إن تمنعت * عليك أمور ظل يلحاك لائما
ثم مضى ، فلم يزل يذكر الله حتى دخل الكوفة ) .
وفي تفسير القمي ( 2 / 400 ) : ( نظر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رجوعه من صفين إلى المقابر فقال : هذه كفات الأموات أي مساكنهم . ثم نظر إلى بيوت الكوفة فقال : هذه كفات الأحياء ثم تلا قوله : أَلَمْ نَجْعَلِ الأَْرْضَ كِفَاتاً . أَحْيَآءً وَأَمْوَتًا )
وفي نهج البلاغة ( 4 / 30 ) : ( قال ( عليه السلام ) وقد رجع من صفين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة : يا أهل الديار الموحشة ، والمحال المقفرة ، والقبور المظلمة . يا أهل التربة ، يا أهل الغربة ، يا أهل الوحدة ، يا أهل الوحشة ، أنتم لنا فرط سابق ، ونحن لكم تبع لاحق ، أما الدور فقد سكنت ، وأما الأزواج فقد نكحت ، وأما الأموال فقد قسمت . هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال : أما لو أُذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى ) .
خلط الرواة في كراماته ( عليه السلام ) في طريق ذهابه إلى صفين ورجوعه
1 . فقد رووا أنه ( عليه السلام ) كشف عين راحوما بصندودياء ، في طريق رجوعه ، والمرجح عندنا أن ذلك كان في ذهابه ، لقرائن ، منها أن الراهب ذهب معه إلى
--------------------------- 478 ---------------------------
صفين واستشهد بين يديه . وكذا حديثه عن كربلاء وما ظهر منه فيها من كرامات ، فالمرجح أنه كان في ذهابه إلى صفين ، لا في رجوعه .
نعم يحتمل أن تكون بعض كراماته ومعجزاته ( عليه السلام ) في بابل حدثت في ذهابه كتكليم الجمجمة ورد الشمس ، وبعضها في رجوعه مثل تكليمه الفرات وحيتانه وأسماكه . قال البياضي في الصراط المستقيم ( 1 / 107 ) : ( لما رجع من صفين كلم الفرات فاضطربت ، وسمع الناس صوتها بالشهادتين والإقرار له بالخلافة . وفي رواية عن الصادق ( عليه السلام ) عن آبائه ( عليهم السلام ) : أنه ضربها بقضيب فانفجرت وسلمت عليه حيتانها ، وأقرت له بأنه الحجة ) .
2 . كما روي أن الشمس ردت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في بابل ، في رجوعه من صفين .
قال في إرشاد القلوب ( 2 / 227 ) : ( لما رجع من صفين وأراد عبور الفرات ببابل ، واشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم ورحالهم وصلى بنفسه في طائفة معه العصر ، فلم يفرغ الناس عن عبورهم الماء حتى غربت الشمس ، ففاتت الصلاة كثيراً منهم ، وفات الجمهور فضل الجماعة معه ، فتكلموا في ذلك . فلما سمع كلامهم فيه سأل الله تعالى أن يرد الشمس عليه ليجتمع كل أصحابه على صلاة العصر في وقتها ، فأجابه الله سبحانه إلى ردها عليه ، فهالَ الناس ذلك فأكثروا من التسبيح والتهليل والاستغفار ) .
ويحتمل أن تكون هذه الآية تكررت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رجوعه من صفين .
3 . وقال نصر / 145 : « ثم مضى أمير المؤمنين حتى نزل بأرض الجزيرة ، فاستقبله بنو تغلب والنمر بن قاسط بالجزيرة . قال : قال علي ليزيد بن قيس الأرحبي : يا يزيد بن قيس قال : لبيك يا أمير المؤمنين . قال : هؤلاء قومك ، من طعامهم فاطعم ، ومن شرابهم فاشرب » . وكان ذلك في ذهابه .
وقال نصر / 146 : « أتاه وفد بني تغلب فصالحوه على أن يقرهم على دينهم ، ولايصبغوا أبناءهم في النصرانية . قال : وقد بلغني أنهم قد تركوا ذلك ، وأيم الله لئن ظهرت عليهم لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم . فلما دخل بلادهم استقبلته مسلمة لهم كثيرة ، فسر بما رأى من ذلك » .
أقول : أما وفدهم فقد يكون أتاه إلى الكوفة ، وأما دخول الإمام ( عليه السلام ) إلى بلادهم فكان في
--------------------------- 479 ---------------------------
ذهابه إلى صفين . ومعنى صبغ الأطفال : تعميدهم ، وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شرط عليهم أن لايصبغوا أولادهم أي لا ينصروهم ، فتسامح الخلفاء معهم .
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حاسماً في ذلك ، لأن هرقل كان يهتم بتكثير النصارى في العرب ، ليستعملهم رأس حربة في غزو بلاد المسلمين .
خطبة الإمام ( عليه السلام ) بعد رجوعه إلى الكوفة
قال اليعقوبي ( 2 / 190 ) : ( وانصرف علي إلى الكوفة ، فلما قدمها قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إن أول وقوع الفتن هوى يتبع ، وأحكام تبتدع ، يعظم فيها رجال رجالاً ، يخالف فيها حكم الله ، ولو أن الحق أخلص فعمل به لم يخف على ذي حجى ولكن يؤخذ ضغث من ذا وضغث من ذا ، فيخلط ، فيعمل به ، فعند ذلك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى ) .
أقول : هذه الخطبة مقطع من خطبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذكر فيها التحريف المتعمد بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولم يذكر أحد غير اليعقوبي أنها بعد رجوعه من صفين .
ورواها الكليني في الكافي ( 8 / 58 ) بسند صحيح عن سليم بن قيس الهلالي ، قال : ( خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم قال : ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان : اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ، ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ، ولكن واحدة بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وإن غداً حساب ولا عمل .
وإنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم الله يتولى فيها رجال رجالاً . ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلاف ، ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجللان معاً ، فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى .
--------------------------- 480 ---------------------------
إني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة ، فإذا غير منها شئ قيل قد غيرت السنة ، وقد أتى الناس منكراً ! ثم تشتد البلية وتسبى الذرية ، وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب ، وكما تدق الرحا بثفالها ، ويتفقهون لغير الله ، ويتعلمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .
ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيرين لسنته ، ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها ، وإلى ما كانت في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لتفرق عني جندي ، حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ( عليه السلام ) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ( عليها السلام ) ، ورددت صاع رسول ( ( عليهما السلام ) )
كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد ، ورددت قضايا من الجور قضي بها ، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حق ، فرددتهن إلى أزواجهن ، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأرحام ، وسبيت ذراري بني تغلب ، ورددت ما قسم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا ، وأعطيت كما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء ، وألقيت المساحة ، وسويت بين المناكح ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه ، ورددت مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب ، وفتحت ما سد منه ، وحرمت المسح على الخفين ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأخرجت من أدخل مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مسجده ، ممن كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخرجه ، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ممن كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أدخله ، وحملت الناس على حكم القرآن ، وعلى الطلاق على السنة ،
--------------------------- 481 ---------------------------
وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم ، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه ( ( عليهما السلام ) ) . إذاً لتفرقوا عني !
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيرت سنة عمر ، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً ! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري !
ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار ! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ، فنحن والله عنى بذي القربى ، قرننا الله بنفسه وبرسوله ( ( عليهما السلام ) ) ، فقال تعالى : فَللَّهِ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، فينا خاصة ، كَىْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ ، في ظلم آل محمد ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . لمن ظلمهم . رحمة منه لنا وغنى أغنانا الله به ، ووصى به نبيه ( ( عليهما السلام ) ) ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً ، أكرم الله رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس ، فكذبوا الله وكذبوا رسوله ، وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ، ومنعونا فرضاً فرضه الله لنا ! ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا ( ( عليهما السلام ) ) ! والله المستعان على من ظلمنا ،
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) .
إن الله أمرني بحب أربعة رجال من أصحابي
قال سليم بن قيس في كتابه / 461 : ( خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ونحن قعود في المسجد ، بعد رجوعه من صفين وقبل يوم النهروان ، فقعد علي ( عليه السلام ) واحتوشناه ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أصحابك . قال : سل . فذكر قصة طويلة فقال : إني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول في كلام طويل له :
--------------------------- 482 ---------------------------
إن الله أمرني بحب أربعة رجال من أصحابي وأخبرني أنه يحبهم وأن الجنة تشتاق إليهم . فقيل : من هم يا رسول الله ؟ فقال : علي بن أبي طالب . ثم سكت . فقالوا : من هم يا رسول الله ؟ فقال : علي ، ثم سكت . فقالوا : من هم يا رسول الله ؟ فقال : علي وثلاثة معه هو إمامهم ودليلهم وهاديهم ، لا ينثنون ولايضلون ولا يرجعون ، ولايطول عليهم الأمد فتقسو قلوبهم : سلمان ، وأبو ذر ، والمقداد ) .
ورواه المفيد في أماليه / 124 ، عن أحمد بن حنبيل ، وفيه : قلنا من هم يا رسول الله ؟ وليس منا أحد إلا ويحب أن يكون منهم !
ورواه ابن حاتم في الدر النظيم / 289 ، عن المناقب لابن مردويه ، عن أنس قال : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الجنة مشتاقة إلى أربعة من أمتي فهبتُ أن أسأله من هم . فأتيت أبا بكر فقلت له : إن النبي قال : إن الجنة تشتاق إلى أربعة من أمتي فسله من هم ؟ فقال : أخاف ألا أكون منهم فيعيرني به بنو تيم . فأتيت عمر فقلت له مثل ذلك . فقال : أخاف ألا أكون منهم فيعيرني به بنو عدي . فأتيت عثمان فقلت له مثل ذلك . فقال : أخاف ألا أكون منهم فيعيرني به بنو أمية . فأتيت علياً ( عليه السلام ) وهو في ناضح له فقلت له : إن النبي قال إن الجنة مشتاقة إلى أربعة من أمتي فسله من هم ؟ فقال : والله لأسألنه فإن كنت منهم فأحمد الله عز وجل ، وإن لم أكن منهم لأسألن الله أن يجعلني منهم وأودهم . فجاء وجئت معه إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : بأبي وأمي يا رسول الله أعلمني أنس أنك قلت إن الجنة مشتاقة إلى أربعة من أمتي فمن هم ؟ فأومأ إليه بيده فقال : أنت والله أولهم ، أنت والله أولهم ثلاثاً . فقال له : بأبي وأمي فمن الثلاثة ؟ فقال : المقداد وسلمان وأبو ذر ) .
وقال ابن حجر في الإصابة ( 6 / 161 ) : ( أخرجه الترمذي وابن ماجة وسنده حسن ) . وكذلك صححه الترمذي ، والحاكم ( 3 / 130 ) وقال : ( هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ) . ورواه البخاري في كناه / 31 ، ولم يعلق عليه ، وكذا رواه ابن كثير عن الترمذي ( النهاية : 7 / 345 ) ولم يعلق عليه .
لكنه لم يعجب الذهبي فقال ( تاريخ الإسلام : 3 / 419 ) : إسناده ضعيف . وتبعه الألباني في ضعيف الترمذي / 500 ، وضعيف ابن ماجة / 149 ، وضعيف الجامع الصغير / 1566 ، فقال :
--------------------------- 483 ---------------------------
حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث شريك .
وطبيعي أن لا يعجبهم لأنه يدل على أفضلية أحد على أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة ، وهذا عندهم كفر ! ولذلك وضعوا مقابله حديث : إن الله أمرني بحب أربعة من أصحابي وقال إني أحبُّهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي !
( تاريخ دمشق : 39 / 127 ) ثم قال : قال ابن عدي : سليمان بن عيسى يضع الحديث !
لا تكرهوا إمرة معاوية فما بعدها أدهى وأمر !
تقدم أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخبر معاوية والناس بأن معاوية سيتسلط عليهم لجبنهم عن القتال ، وأخبرهم بأن الأمة ستصل إلى الحضيض !
وفرح معاوية والنواصب بقوله ( عليه السلام ) ، فقال ابن كثير ( النهاية : 8 / 134 ) : ( قال بعد رجوعه من صفين : أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية ، فإنكم لو فقدتموها ، رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل ) !
وحرفوا كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فزعم ابن تيمية أنه ندم على حربه لمعاوية !
قال في منهاجه ( 6 / 209 ) : ( ولما رجع من صفين تغير كلامه ، وكان يقول :
لا تكرهوا إمارة معاوية ، فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تتطاير عن كواهلها . وتواترت الآثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر ، ورؤيته اختلاف الناس وتفرقهم ، وكثرة الشرالذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل ) ! وتقدمت مكابراته في بغض أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وأرسل جيشاً بقيادة جعدة لاستكمال فتح خراسان
قال الطبري ( 4 / 46 ) : « بعث عليٌّ بعد ما رجع من صفين جعدة بن هبيرة المخزومي إلى خراسان فانتهى إلى أبر شهر وقد كفروا وامتنعوا ) .
وفي شرح النهج ( 18 / 308 ) : « هو ابن أخت علي بن أبي طالب ، أمه أم هاني بنت أبي طالب ، هو الذي فتح القندهار وكثيراً من خراسان ، فقال فيه الشاعر :
لولا ابن جعدةَ لم تُفتح قهندركم * ولا خراسانُ حتى ينفخ الصور
--------------------------- 484 ---------------------------
وفي معجم البلدان : 4 / 419 ، وصحاح الجوهري : 1 / 433 : قهندز بالزاي ، ومعناها الحصن ، ويظهر أن جعدة ( رضي الله عنه ) فتح بقية خراسان وأفغانستان .
وتقدمت رواية البلاذري وابن خياط بأن الإمام ( عليه السلام ) أرسل الحارث بن مرة العبدي بجيش من البحرين إلى فتح الهند ، فجاوز مكران إلى بلاد قندابيل ووغل في جبال الفيقان ، وقال البلاذري إنه ظفر وأصاب مغنماً وسبياً .
فلم يوقف ( عليه السلام ) الفتوحات كما زعموا ، بل معاوية أوقفها ودفع للروم جزية !
وجاء الثلاثي المتربص إلى الإمام ( عليه السلام ) يريدون العطاء !
1 . قال نصر / 551 : ( في حديث عمر بن سعد : ودخل عبد الله بن عمر ، وسعد ابن أبي وقاص ، والمغيرة بن شعبة ، مع أناس معهم ، وكانوا قد تخلفوا عن علي ، فدخلوا عليه فسألوه أن يعطيهم عطاءهم ، وقد كانوا تخلفوا عن علي حين خرج إلى صفين والجمل ، فقال لهم عليٌّ : ما خلفكم عني ؟ قالوا : قتل عثمان ولا ندري أحل دمه أم لا ؟ وقد كان أحدث أحداثاً ثم استتبتموه فتاب ، ثم دخلتم في قتله حين قتل ، فلسنا ندري أصبتم أم أخطأتم ؟ مع أنا عارفون بفضلك يا أمير المؤمنين وسابقتك وهجرتك .
فقال عليٌّ : ألستم تعلمون أن الله عز وجل قد أمركم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر فقال : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الآخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِى حَتَّى تَفِيئَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ؟
قال سعد : يا علي ، أعطني سيفاً يعرف الكافر من المؤمن ، أخاف أن أقتل مؤمناً فأدخل النار . فقال لهم علي : ألستم تعلمون أن عثمان كان إماماً بايعتموه على السمع والطاعة ، فعلام خذلتموه إن كان محسناً ، وكيف لم تقاتلوه إذ كان مسيئاً ! فإن كان عثمان أصاب بما صنع فقد ظلمتم إذ لم تنصروا إمامكم ، وإن كان مسيئاً فقد ظلمتم إذ لم تعينوا من أمر بالمعروف ونهيٍ عن المنكر . وقد ظلمتم إذ لم تقوموا بيننا وبين عدونا بما أمركم الله به ، فإنه قال : قَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِى حَتَّى تَفِيئَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ . فردهم ولم يعطهم شيئاً ) .
--------------------------- 485 ---------------------------
2 . كان سعد بن أبي وقاص قائداً شكلياً شبيهاً بخالد بن الوليد ، لم يبرز في حياته إلى فارس ولم يضرب بسيف ، لكنه يجيد التأمر على المقاتلين . وأشاع عن نفسه أنه رامٍ ممتاز ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أجلسه في حجره في معركة أحُد ، فرمى الأعداء بألف سهم ، ودعا له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن تصيب رميته وتستجاب دعوته ، فكان يهدد من يختلف معه بأن يدعو عليه وأن دعوته مستجابة لدعاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) له !
وكان مثل عامة القرشيين يبغض علياً ( عليه السلام ) وعترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد أيد أهل السقيفة في عزلهم بني هاشم وبيعتهم لأبي بكر ، فجعلوه والياً على العراق حتى شكاه أهل العراق ، فاضطر عمر لعزله وجعل بدله عمار بن ياسر .
وأصيب سعد بالغرور وانتفخ ، لما جعله عمر أحد أعضاء الشورى الستة فصار يتشوف للخلافة ، وقال لمعاوية يوماً : والله إني لأحق بموضعك منك . فقال معاوية : يأبى عليك ذلك بنو عذرة ! ( مروج الذهب : 1 / 353 ) أي لست قرشياً لتحق لك الخلافة بل أنت يماني من بني عذرة تحالف جدك مع بني زهرة .
وقد امتنع سعد عن بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأمر بتركه ! وأدان حربه في معركة الجمل وصفين ، وجاءه بكل وقاحة ليأخذ منه عطاءه ، وهو غني ! فأقام عليه الحجة ولم يعطه من بيت مال المسلمين أكثر من حقه .
3 . أما عبد الله بن عمر ، فكان غير محترم عند أبيه عمر ، والسبب أنه وسواسي قليل الفهم ، معتد بنفسه ! ولماأشاروا على عمر أن يستخلفه قال : ( يأمرونني أن أبايع لرجل لم يحسن أن يطلق امرأته ) ! ( تاريخ المدينة لعمر بن شبة : 3 / 923 ) . وكان يخالف أباه أحياناً ، فقد سئل عن متعة الحج فأمر بها فقال : إنك تخالف أباك ! فقال : أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر ! ( مغني ابن قدامة : 3 / 232 ) .
وأراد أبوه يوماً أن يقطع لسانه ، فقد أساء للمقداد فشكاه إلى عمر فأراد عمر أن يقطع لسان ابنه ! فمنعه الناس فقال : دعوني فأقطع لسانه ) ( تاريخ دمشق : 38 / 60 ) .
ومع ذلك وكله مع محمد بن مسلمة بأهل الشورى وأن يقتلهم إذا لم يتفقوا على خليفة ، ويقتل الأقل إن خالفوا !
--------------------------- 486 ---------------------------
وامتنع عبد الله عن بيعة علي ( عليه السلام ) وعن القتال معه فتركه ، ثم كان يتحسر لو فعل ذلك . وطرحه أبو موسى الأشعري للخلافة فقبل إن اتفق عليه الناس !
وكان ضعيفاً ، فبايع معاوية ، ثم يزيداً ، ثم ابن الزبير ، ثم مروان بن الحكم !
4 . أما المغيرة بن شعبة فهو معروف بخيانته رفقاءه إلى مصر ، وكانوا ثمانية عشر رجلاً ، فسقاهم الخمر وقتلهم ، وسلبهم وجاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مسلماً !
ومعروف ببغضه لبني هاشم ودهائه وأفكاره الجهنمية ، وكان مع أهل السقيفة الذين هاجموا بيت علي وفاطمة ( عليها السلام ) وسيأتي أنه ضربها . وكان مستشاراً أميناً لمعاوية ، وهو الذي زين له أن يبايع لابنه يزيد . وكان غليظاً قصير القدمين حتى قال فيه الشاعر : لو خرجت من استه بيضة ووقعت على الأرض ، ما انكسرت ! وفىما ىلي خلاصة عن شخصىاتهم .
- *
شخصية سعد بن أبي وقاص
1 . كان سعد قصيراً غليظاً ، أسمر أفطس الأنف أشعر الجسد . ( المنتظم : 5 / 281 ) .
وقد أمَّره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على بعض سراياه ، وزعموا أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله في السرية التي أرسلها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بإمرة عبيدة بن الحارث ، فاعترضت قافلة لقريش ) . قال خليفة في تاريخه / 33 : « ولم يك بينهم قتال ، غير أن سعد بن مالك رمى يومئذ بسهم ، فكان أول سهم رمي به في الإسلام » !
2 . كتبنا له ترجمة في قراءة جديدة في الفتوحات ، واسم أبي وقاص مالك بن أهيب ، ينسب إلى بني زهرة القرشيين . وقال رواة السلطة أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة ( المنتظم : 5 / 281 ) . وطعن عبد الله بن مسعود في نسبه لما استقرض من بيت المال ولم يسدده ، فقال له ابن مسعود : يا عبد عذرة ! وقال حسان ( شرح النهج : 6 / 55 ) في أخيه عتبة الذي ضرب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم أحد :
« فمن عاذري من عبد عذره بعدما * هوى في دجوجي شديد المضايق
وأورث عاراً في الحياة لأهله * وفى النار يوم البعث أم البوائق
وقال سعد إنه شكى للنبي ( ( عليهما السلام ) ) طعنهم في نسبه فقال له : أنت سعد بن مالك بن
--------------------------- 487 ---------------------------
وهيب ( الرياض النضرة : 4 / 319 ) لكن لم يشهد له أحد بروايته .
وفي مروج الذهب ( 1 / 353 ) أنه قال لمعاوية : والله إني لأحق بموضعك منك . فقال معاوية : يأبى عليك ذلك بنو عذرة ! وقال السيد الحميري :
سائل قريشاً بها إن كنت ذا عَمَهٍ * مَنْ كان أثْبَتَهَا في الدين أوْتَادَا
من كان أقدمها سلماً وأكثرها * علماً وأطهرها أهلاً وأولادا
من وحَّدَ اللّه إذ كانت مكذبة * تدعو مع اللّه أوثاناً وأندادا
من كان يُقْدِم في الهيجاء إن نكلوا * عنها وإن بَخِلوا في أزمة جادا
من كان أعدلها حكماً وأقسطها * حلماً وأصدقها وعداً وإيعادا
إن يَصْدَقوك فلم يَعدوا أباحسن * إن أنت لم تلق للأبرار حسادا
إن أنت لم تلق من تَيْمٍ أخا صَلَف * ومن عدي لحق اللّه جُحَّادا
أو من بني عامر أو من بني أسد * رَهْط العبيد ذوي جهل وأوغادا
أو رهط سعد وسعد كان قد علموا * عن مستقيم صراط الله صَدَّادا
قوم تَدَاعَوْا زنيماً ثم سادهُمُ * لولا خمول بني زهر لما سادا
وكان سعد ، وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، ممن قعد عن علي بن أبي طالب وأبوا أن يبايعوه .
3 . ومع حسده وبغضه لعلي ( عليه السلام ) فقد رفض سعد أن يسبه لما أمره معاوية بن
أبي سفيان فقال ( صحيح مسلم ( 7 / 120 ) : « : ما منعك أن تسب أباالتراب ؟ فقال :
أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمرالنعم ، سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه ، فقال له عليٌّ : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ! فقال له رسول الله : أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي . وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . قال فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي علياً فأتيَ به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه . ولما نزلت هذه الآية :
--------------------------- 488 ---------------------------
فقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبناءنا وأبناءكم ، دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي » . فقال له معاوية : ما كُنْتَ عندي قَطُّ ألأم منك الآن ، فهلا نصرته ؟ فإني لو سمعت من النبي مثل الذي سمعت فيه ، لكنت خادماً لعلي ما عشت ) ! ( مروجالذهب : 1 / 354 ) .
4 . وكان سعد يروي فضائل علي ( عليه السلام ) ومع ذلك كان يكرهه لأنه قتل أخواله
في بدر ! ثم جعله عمر في الشورى فقال عنه علي ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 1 / 35 ) : « فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن » ! قال الشريف المرتضى في رسائله ( 2 / 111 ) : « أراد المائل إلى صهره عبد الرحمن بن عوف ، والذي مال إليه لضغنه سعد ) .
وتخلف سعد عن بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . قال البلاذري ( 2 / 207 ) : ( وجئ بسعد بن أبي وقاص فقيل له : بايع . فقال : يا أبا الحسن إذا لم يبق غيري بايعتك . فقال علي : خلوا سبيل أبي إسحاق ) .
5 . أخبره أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن ابنه عمر سيقتل الحسين ( عليه السلام ) وذلك لما قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فقام إليه سعد وقال : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة ؟ فقال له : والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنك ستسألني عنها ! وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ! وإن في بيتك لسخلاً يقتل الحسين ابني ! وعمر يومئذ يدرج بين يدي أبيه » . ( أمالي الصدوق / 196 ) .
6 . زعم سعيد بن نفيل ابن عم عمر أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشَّر عشرة من قريش بالجنة وأنه هو وسعد منهم ! وكذبه علي ( عليه السلام ) فقال له الزبير : أفتراه كذب على رسول الله ؟ فقال له علي ( عليه السلام ) : ما أراه كذب ولكنه والله اليقين ! والله إن بعض من سميته لفي تابوت في شعب في جب في أسفل درك من جهنم ! سمعت ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك ، وإلا أظفرني الله عليك وعلى أصحابك وسفك دمائكم على يدي ، وعجل أرواحكم إلى النار ! فرجع الزبير إلى أصحابه وهو يبكي » ! ( الإحتجاج : 1 / 237 ) .
--------------------------- 489 ---------------------------
وكلام الإمام ( عليه السلام ) مباهلة ، وبرهان ، وقد تحقق كما قال !
7 . أسرة سعد عجيبة ، فمنها ابن أخيه هاشم بن عتبة ، البطل الشيعي الفاتح ، ومنها عتبة والد هاشم وأخ سعد ، وكان عدواً للنبي ( ( عليهما السلام ) ) وقد تعاقد مع نفر من عتاة قريش منهم والد الزهري على قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في معركة أحد .
قال في الإمتاع ( 14 / 339 ) : « فرماه بأربعة أحجار فكسر رباعيته اليمنى السفلى ، وأما ابن قمئة فكَلَمَ وجنتيه وغيب حَلَق المغفر فيهما ، وأما أبي بن خلف فشد بحربة ، فأعان الله عز وجل رسوله فقتله . وأما عبد الله بن حميد ، فأقبل يريد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فشد عليه أبو دجانة فضربه ) .
وقال الباقر ( عليه السلام ) لم تكسررباعيته ( ( عليهما السلام ) ) بل « قبضه الله سليماً » . ( معاني الأخبار / 406 ) .
8 . وكان سعد يفتخر برميه يوم أحد ويقول : « نَثَلَ رسول الله كنانته يوم أحُد وقال إرم فداك أبي وأمي » . ( سنن النسائي : 6 / 57 ) !
والصحيح أنه هرب ! ثم زعم أنه رجع إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورمى عنه بألف سهم ففدَّاه النبي بأبيه وأمه ودعا له أن يسدد الله سهمه ويستجيب دعوته ! وبالغ الرواة بحديثه هذا وصححوه ( الحاكم : 3 / 26 ) وجاء فيه : « لما جال الناس ( فروا ) عن رسول الله تلك الجولة يوم أحد تنحيت ( فررت ) فقلت أذود عن نفسي فإما أن أستشهد وإما أن أنجو حتى ألقى رسول الله ، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه إذ قال المقداد : يا سعد هذا رسول الله يدعوك . فقال رسول الله : أين كنت اليوم يا سعد ؟ فقلت : حيث رأيت يا رسول الله ( هارباً ) فأجلسني أمامه فجعلت أرمي ، ورسول الله يقول : اللهم استجب لسعد دعوته وسدد رميته ، إيهاً سعد فداك أبي وأمي . قال الزهري : إن السهام التي رمى بها سعد يومئذ كانت ألف سهم » .
لكن قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) له : أين كنت اليوم ؟ يدل على أنه كان مع الفارين من الضحى إلى ما بعد الظهر ، وعاد بعضهم عصراً بعد انسحاب قريش ولم يكن رمي ! وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ظل صخرة والمشركون بعيدون لاتصل إليهم السهام ، فلا يصح قوله إنه كان في حضن النبي يرمي ! فلا الوقت الذي رجع فيه وقت رمي ، ولا المكان
--------------------------- 490 ---------------------------
مكانه ، ولا سمعنا أن قرشياً جرح بسهم من سعد !
ولا روى هذه الفضيلة لسعد أحد غيره . ولو صدق لشارك في الصلاة على شهداء أحُد بعد الظهر ، ولم يدعه هو ولا غيره . ومدح الزهري له لا يصح ، فلم يروه أحد !
كما لا يصح ادعاؤه أنه قتل أحداً بسهم قبل فراره ، فقد قال ابن سعد ( 2 / 41 ) : « وقال قائل : قتله سعد بن أبي وقاص ، وقال قائل : قتله علي بن أبي طالب ، وقال قائل : قتله قزمان ، وهو أثبت القول » .
وروى ابن هشام ( 2 / 532 ) عن سعد أنه قَتَل يوم بدر حذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة ، لكن ابن عبد البر ذكره في الأسرى . ( الدرر : 1 / 111 ) !
9 . ويكفي لإثبات جُبن سعد أن الله تعالى عيَّره وغيره بالخوف في بدر ! فقال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ . قال الطبري في تفسيره ( 5 / 233 ) : « نزلت في قوم من أصحاب رسول الله كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد ، فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم » !
وفي أسباب النزول لابن حجر ( 2 / 918 ) : « قال مقاتل بن سليمان : نزلت في
عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص . استأذنوا في قتال كفار مكة لما يلقون منهم من الأذى فقال : لم أؤمر بالقتال ، فلما هاجر إلى المدينة وأذن بالقتال ، كره بعضهم ذلك » .
وقال الزركشي ( 1 / 422 ) : « هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا من القوم » !
فيكون سعداً منافقاً بنص القرآن !
10 . وادعى سعد لنفسه فضيلة أنه مستجاب الدعوة ، وكان يخوِّف بها خصومه فقد زعم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعا له أن تُجاب دعوته وأنه قال له : « يا رسول الله ، أدع الله أن يجيب دعوتي ، فقال : إنه لا يستجيب الله دعوة عبد حتى يطيب مطعمه . فقال : يا رسول الله أدع الله أن يطيب مطعمي ، فدعا له . قالوا : فكان سعد يتورع من السنبلة يجدها في زرعه فيردها من حيث أخذت . وقد كان كذلك مجاب الدعوة . رواه عنه ابن كثير ( النهاية : 8 / 82 )
--------------------------- 491 ---------------------------
وقال إن عمر خاف أن يدعو عليه ، ورووا استجابة دعائه على رجال ونساء .
ثم ذكر له أنه زير نساء ! فقال : « قال محمد بن سيرين : طاف سعد على تسع جوار في ليلة ! فلما انتهى إلى العاشرة أخذه النوم فاستحيت أن توقظه .
وذكر أنه دفن بالبقيع وقد جاوز الثمانين ، ثم ذكر ثروته الطائلة فقال : ( وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفاً » . وكان مصروف العائلة يومها نحو مئة درهم ، وقد تكون ثروته من حلال لكن ليته وفَّى دينه الذي اقترضه من بيت المال ، وكان واليه عبد الله بن مسعود ، فساءت علاقتهما بسبب ذلك !
11 . قال له ابن مسعود ( مجمع الزوائد : 9 / 154 ) : « أدِّ المال الذي قِبَلَك . فقال له : والله لأراك لاقٍ مني شراً ! هل أنت إلا ابن مسعود وعبد من هذيل ! فقال : أجل والله إني لابن مسعود ، وإنك لابن حمنة ! فقال سعد : لولا اتقاء الله لدعوت عليك دعوةً ما تخطؤك » !
فاعجب لسعد يهين أمين المسلمين على مالهم عندما يطالبه به ! فأين عدالة الصحابة ، وأين طيب المطعم الذي هو شرط لاستجابة الدعوة ؟ !
وطال خلافهما وصار قضية في الكوفة ، قال الطبري ( 3 / 311 ) : « كان أول ما نزغ به بين أهل الكوفة أن سعد بن أبي وقاص استقرض من عبد الله بن مسعود من بيت المال مالاً فأقرضه ، فلما تقاضاه لم يتيسر عليه ، فارتفع بينهما الكلام حتى استعان عبد الله بأناس من الناس على استخراج المال ، واستعان سعد بأناس من الناس على استنظاره » ! وبقي المال في ذمة سعد حتى مات !
وقال الطبري ( 3 / 311 ) : « غضب عليهما عثمان وانتزعها ( الكوفة ) من سعد وعزله ، وغضب على عبد الله وأقره » .
12 . من أخلاق سعد أنه لا يعطي شيئاً أخذه ، ففي فتوح البلدان ( 1 / 8 ) : « وجد غلاماً يقطع الحمى فضربه وسلبه فأسه ! فدخلت مولاته أو امرأة من أهله على عمر فشكت إليه سعداً فقال عمر : رد الفأس والثياب أبا إسحاق رحمك الله . فأبى وقال : لا أعطي غنيمة غنمنيها رسول الله ! سمعته يقول : من وجدتموه
--------------------------- 492 ---------------------------
يقطع الحمى فاضربوه واسلبوه ! فاتخذ من الفأس مسحاة ، فلم يزل يعمل بها في أرضه حتى توفي » !
والحمى : الأرض المحمية لرعي إبل الدولة ، ولا علاقة لسعد بها ، ومحالٌ أن يعطي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الحق لكل من رأى متجاوزاً على الحمى أن يضربه ويسلبه !
13 . ولاه عمر على العراق ، أميراً على المثنى وجرير : « وتنازع جرير والمثنى الإمارة ، فبعث إليهما أن اسمعا له وأطيعا » . ( تاريخ خليفة / 87 ) .
ورأى المسلمون في الكوفة أن سعداً لا يقاتل معهم ! وأنه مشغولٌ بالصيد والقنص ، وقد بنى قصراً في الكوفة ! فشكوه إلى عمرفأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة فسألهم عنه فقام : « رجل يقال له أبوسعدة أسامة بن قتادة فقال : أما إذ ناشدتنا ، فإن سعداً لا يقسم بالسوية ، ولا يعدل في الرعية ، ولا يغزو في السرية » ( النهاية : 7 / 121 ) .
وفي الأخبار الطوال / 129 : « عزله عمر وولى مكانه عمار بن ياسرعلى الحرب ، وعبد الله بن مسعود على القضاء ، وعمرو بن حنيف على الخراج » .
14 . ومن سوء إدارة سعد أنه كان يحتجب عن المسلمين ، فأرسل عمر من أحرقه ! قال سيد سابق في فقه السنة ( 2 / 590 ) : « وحرَّق ( عمر ) قصر سعد بن أبي وقاص بالكوفة ، لما احتجب فيه عن الرعية » . والإصابة : 6 / 29 .
ونص اليعقوبي ( 2 / 155 ) على أن شكاية أهل الكوفة لسعد كانت في أول تحشيد الفرس لمعركة نهاوند ، فسكن سعد المدينة وانشغل ببناء قصره ولم يشارك في شئ من أمر نهاوند . وولى عمر بدله عمار بن ياسر نحو سنتين ، فقام عمار بالإعداد لمعركة نهاوند ، وشارك فيها . ( البلاذري : 2 / 343 ) .
15 . وتتعجب من عمر حيث كان رأيه سلبياً في سعد ، ومع ذلك ولاه ودافع عنه ! فقد طعن عمر فيه لما سأله ابن عباس عمن يرشحه للخلافة ، ففي شرح النهج ( 12 / 259 ) والشافي للمرتضى ( 4 / 202 ) : « عن ابن عباس قال : قال عمر : لا أدري ما أصنع بأمة محمد ، وذلك قبل أن يطعن ، فقلت : ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم ؟ قال : أصاحبكم يعني علياً ؟ قلت : نعم والله هو لها أهل ، في قرابته من رسول الله
--------------------------- 493 ---------------------------
وصهره وسابقته وبلائه . فقال عمر : إن فيه بطالة وفكاهة . قلت : فأين أنت عن طلحة ؟ قال : فأين الزهو والنخوة ! قلت : عبد الرحمن ؟ قال : هو رجل صالح على ضعف فيه ( أمره في يد امرأته ) قلت : فسعد ! قال : ذاك صاحب مقنب ( البَرِّ ) وقِتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها ! قلت : فالزبير ؟ قال : وَعْقَةٌ لقس ( متضجر سئ الخلق ) مؤمن الرضا كافر الغضب » !
ومع ذلك رشح عمرسعداً للخلافة ( فتح الباري : 13 / 157 ، و : 7 / 45 ) : « لم أعزله لضعف ولا لخيانة . وأوصى من بعده ، أن يولي سعداً » .
وسبب تمسك عمر بسعد وسالم مولى حذيفة وأبي عبيدة ، وإعلانه قبل موته بأنه لو كان أحدهما حياً لعهد إليه بالخلافة مع أن سالماً عبد فارسي ! أنهم أعضاء في الحزب القرشي الذين اتفقوا بعد فتح مكة على أخذ الخلافة لقريش ، وإبعاد عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنها .
وقد ورد اسم سعد في البضعة عشرأصحاب ليلة العقبة ، الذين هموا بما لم ينالوا في قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ورواه ابن حزم بسند موثق !
16 . لكن هذا لم يمنع عمر أن يصادر نصف ثروة سعد ، وبعث إلى ولاته برسالة موحدة : « أما بعد فإنكم معشرالعمال تقدمتم على عيون الأموال ، فجبيتم الحرام وأكلتم الحرام وأورثتم الحرام ! وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فيقاسمك مالك فأحضره مالك . والسلام » ! ( كنز العمال : 5 / 853 ) .
وقال اليعقوبي ( 2 / 157 ) إن سعداً كان منهم وعمرو العاص وأباهريرة .
17 . كانت مشكلة سعد أنه لما جعله عمر في الشورى رأى نفسه كبيراً ، مع أنه
كان يرى أن علياً ( عليه السلام ) أحقهم بها ، لكنه قرر أن ينتظر فرصة تأتيه ، وكذلك لم يبايع معاوية ، ودخل عليه وقال : السلام عليك أيها الملك !
وروى اليعقوبي ( 2 / 217 ) قوله لمعاوية : « إنما أنت مُنْتَزٍ » أي قافزٌ مغتصبٌ للخلافة . ورواه ابن عساكر في تاريخه ( 17 / 324 ، والأزدي في الجامع : 10 / 390 ، وابن حنبل في فضائل الصحابة : 2 / 988 ، والبلاذري في أنساب الأشراف / 1111 ، والفصول المهمة : 2 / 733 ، والنصائح الكافية / 195 .
--------------------------- 494 ---------------------------
ولا يغرك ما يرويه سعد في فضل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وما يشهد على نفسه في حقه كقوله : « قال أما بعد فإن علياً لم يسبقه أحد من هذه الأمة من أولها بعد نبيه ، ولن يلحق به أحد من الآخرين منهم » . ( تاريخ دمشق : 13 / 275 ) .
وفي الإستيعاب ( 2 / 609 ) : « كان سعد ممن قعد ولزم بيته في الفتنة وأمر أهله ألا يخبروه من أخبار الناس بشئ حتى تجتمع الأمة على إمام ، فطمع فيه معاوية وفي عبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة ، وكتب إليهم يدعوهم إلى عونه على الطلب بدم عثمان ويقول لهم إنهم لا يُكَفِّرُون ما أتوه من قتله وخذلانه إلا بذلك ، ويقول إن قاتله وخاذله سواء . فأجابه كل واحد منهم يرد عليه ما جاء به من ذلك ، وينكر مقالته ، ويعرفه بأنه ليس بأهل لما يطلب . وكان في جواب سعد بن أبي وقاص له :
معاوي داؤك الداءُ العياءُ * وليس لما تجئ به دواءُ
أيدعوني أبو حسن عليٌّ * فلم أردد عليه ما يشاء
وقلت له أعطني سيفاً بصيراً * تميز به العداوة والولاء
فإن الشر أصغره كبيرٌ * وإن الظهر تثقله الدماء
أتطمع في الذي أعيا علياً * على ما قد طمعت به العفاء
ليوم منه خير منك حياً * وميتاً أنت للمرء الفداء
فأما أمر عثمان فدعه * فإن الرأي أذهبه البلاء
قال أبو عمر : سئل علي ( رضي الله عنه ) عن الذين قعدوا عن بيعته ونصرته والقيام معه ؟ فقال : أولئك قوم خذلوا الحق ، ولم ينصروا الباطل ) .
18 . ولم ينتفع سعد لدنياه باعتزاله علياً ( عليه السلام ) ومعاوية ، فقد قتله معاوية بالسُّم ، في سنة قتله للإمام الحسن ( عليه السلام ) ! ولله في خلقه شؤون ! فلما أراد معاوية أن يبايع لابنه يزيد اعترض عليه سعد وكثيرون ، فقتلَ جماعة منهم بالسُّم ، ليزيحهم من طريق يزيد .
قال علي بن الحسين البيهقي الشافعي المتوفى 483 في لباب الأنساب / 40 : « أمر والي المدينة سعيد بن العاص فسقاه السم مع سعد وجماعة من المهاجرين ، فمات الحسن ( عليه السلام ) مسموماً بعد يومين ، وسعد بن أبي وقاص في يومه » .
--------------------------- 495 ---------------------------
19 . وكان معاوية يرى أن الذنب في طموح سعد للخلافة ذنب عمر بن الخطاب ، الذي جرأ قبائل قريش على بني عبد مناف !
قال في تاريخ دمشق ( 19 / 197 ) : « أرسل معاوية إلى حضين بن المنذر الذهلي فدعاه وأدناه حتى كان قريباً منه ، ثم أجلسه وألقيت تحته وسادة ، ثم قال له معاوية : بلغني أن لك عقلاً ورأياً وعلماً بالأمور ، فأخبرني ما فرَّقَ بين هذه الأمة ومن سفك دمائها وشق عصاها وفرق ملأها ؟ قال : قتل أمير المؤمنين عثمان . قال : ما صنعت شيئاً . قال : مسير علي إلى عائشة وطلحة والزبير ، ومسير علي إليك وقتالكم بصفين ، والذي كان بينكم من سفك الدماء والاختلاف ! قال : ما صنعت شيئاً ! قال : فأخبرني يا أمير المؤمنين ! فوصف معاوية خلافة أبي بكر وعمر ثم قال عن الشورى : فما زال كل رجل من أهل الشورى يطمع فيها ويطمع له فيها أحباؤهم ، حتى وثبوا على عثمان فقتلوه واختلفوا بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً ! فهذا الذي سفك دماء هذه الأمة وشق عصاها وفرق ملأها » !
فاعجب لمعاوية حيث لم يشكر لعمر ترتيبه الأمر لبني أمية بإعطائه حكم الشام ، ثم رتب الشورى لعثمان ! ومع ذلك يرى معاوية أنه أسس الخراب لأنه أشرك غير بني عبد مناف معهم ، فطمع أعضاء الشورى من غير المنافيين !
واعجب لضعف عمر العدوي أمام بني أمية ، فقد نصب معاوية نفسه بعد موت أخيه فسكت ! ولم يسمع لاعتراض الصحابة عليه ! ( سير الذهبي : 3 / 126 ) .
20 . كل ما تقرؤه من بطولات سعد فهو من كذب رواة السلطة ، كبطولات خالد بن الوليد ! وقد وثقنا ذلك بتفصيل في كتاب : قراءة جديدة في الفتوحات . وأوردنا هجاء الشعراء لسعد لهربه من معركة القادسية !
منها ما رواه الطبري ( 3 / 81 ) : « قاتل المسلمون يومئذ وسعد في القصر ينظر إليهم ، فنُسب إلى الجبن ، فقال رجل من المسلمين :
ألم ترَ أن الله أنزل نصره * وسعدٌ بباب القادسية مُعصمُ
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة * ونسوةُ سعدٍ ليس فيهنَّ أيِّمُ »
--------------------------- 496 ---------------------------
فبطولاتهما من اختراعهما ، ينشرها رواة الحكومات يمدحون الموالين لأبي بكر وعمر وعثمان ! لكن سعداً أقل ادعاء في الحرب من خالد ، فخالد يقول عنه البخاري إنه دقَّ تسعة أسياف في مؤتة ، وسعد لم يدعِ أنه دقَّ تسعة أسياف في بدر ، ولا خمسة في القادسية ! وكانت القادسية في ولايته ولم يشارك فيها ! وكان بعدها فتح المدائن وجلولاء ونهاوند الكبرى ، ولم يقاتل في أيٍّ منها ! لكن الدعاية الحكومية جعلته قائد فتح العراق !
قال ابن حبان في ثقاته ( 2 / 210 ) : « وكان الناس قد أجبنوا سعداً وقالوا : أجبنت عن محاربة الأعداء ، فاعتذر إلى الناس ، وأراهم ما به من القروح في فخذيه ، حتى سكت الناس » ! وكان على العكس منه ابن أخيه القائد البطل الفذ هاشم المرقال ( رضي الله عنه ) .
21 . وقد ورَّث سعد طموحه للخلافة إلى أولاده ! فثار ابنه محمد مع ابن الأشعث على عبد الملك . قال ابن الأعثم ( 7 / 102 ) : « فقدم بالأسارى على الحجاج ، والحجاج يومئذ بواسط العراق ، فأول من قدم إليه محمد بن سعد بن أبي وقاص . فقتله الحجاج ) .
- *
شخصية عبد الله بن عمر بن الخطاب
1 . أبرز أولاد عمر حفصة ، وكانت تدير إخوتها ، وتؤثر على أبيها ، وكانت عائشة تدير حفصة !
وأبرز أبناء عمر : عبد الله ، وأشجعهم عبيد الله ، الذي قتل الهرمزان ، ثم قُتل مع معاوية بصفين . أما عبد الله فكان ضعيفاً مسالماً ، وكان ضخم البدن شديد السمرة ، عاش سبعاً وثمانين سنة ، ومات سنة أربع وثمانين . ( الإصابة : 4 / 161 ) وكان أعسر
( تاريخ بغداد : 1 / 234 ) يصفِّر لحيته بالزعفران ، وأصيب باللقوة فمال فمه إلى جنب وجهه ( الطبقات : 4 / 160 ) وقد يلبس ثياباً حمراء ( توضيح المشتبه : 7 / 110 ) وعمي في آخر عمره
( تفسير القرطبي : 6 / 85 ) وأبصرجارية متزينة فجعلت تنظر إليه فقال لها : ما تنظرين إلى شيخ كبير أخذته اللقوة وقد ذهب منه الأطيبان . ( الطبقات : 4 / 120 ) .
--------------------------- 497 ---------------------------
2 . وكان عمر يشرب النبيذ فلا يسكر ، أما أولاده فيسكرون ويقام عليهم الحد : عبيد الله ، وعبد الرحمن ، وعاصم ، وأبوشحمة ، وروي أن عبد الله شرب وسكر وأقيم عليه الحد ، وقد يكون اسمه الذي ورد في رواية أبي داود ورواية ابن شبة في تاريخ المدينة ، تصحيفاً لاسم أخيه عبيد الله . قال ابن شبة ( 3 / 842 ) : ( عن السائب بن يزيد قال : صلى عمر على جنازة ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : إني وجدت من عبد الله بن عمر ريح شراب ، وإني سألته عنه فزعم أنه خل ، وإني سائل عنه فإن كان مسكراً جلدته . قال : فأنا شهدته جلده الحد ) .
3 . وكان عبد الله بن عمر يقلد أباه فيبول واقفاً ! وكان عمر أفحج ، أي فخذه معيوب فكان يبول قائماً . قال زيد بن وهب : رأيت عمر يبول قائماً ففرَّج حتى رحمته ) . ( كنز العمال : 9 / 519 ) . وكان عمر يبرر فعله فيقول : ( البول قائماً أحصن للدبر ، والبول جالساً أرخى للدبر ) ! ( كنز العمال : 9 / 520 ) .
ومن أجل عمر كذبوا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنسبوا اليه ذلك ! قال البخاري ( 1 / 63 ) : ( أتى رسول الله سباطة قوم فبال قائماً ) ! والسباطة : المزبلة .
وقد كذبتهم عائشة فقالت ( صحيح مسلم : 2 / 166 ) : ( من حدثكم أن النبي كان يبول قائماً فلا تصدقوا . ما كان يبول الا قاعداً ) .
لكنهم ردوا حديث عائشة لتبرير فعل عمر ، وجعلوا بول عمر قائماً سنة شرعية !
قال الزرقاني في شرحه ( 1 / 254 ) : ( مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال : رأيت عبد الله بن عمر يبول قائماً ، لأن مذهبه جوازه بلا كراهة وبه قال أبوه ، وزيد بن ثابت ، وابن المسيب ، وابن سيرين ، والنخعي ، وأحمد ، وقال مالك : إن كان في مكان لا يتطاير عليه منه شئ فلا بأس به ) .
وكذب أبو هريرة على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال الزرقاني : وروى الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة قال : إنما بال صلى الله عليه وسلم قائماً لوجع كان في مأبضه ، أي ركبته ، فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود ، ولو صح هذا الحديث لأغنى عن جميع ما تقدم ، لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي ) .
--------------------------- 498 ---------------------------
وكان ابن عمر يترك قميصه مفتوحاً على صدره ! روى البيهقي ( 2 / 240 ) : ( عن أبي أيوب قال : ما رأيت عبد الله بن عمر قط إلا محلول الأزرار ) .
4 . وقد اهتم في شبابه مع عبد الله العاص بكتابة حديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فنهاه أبوه ، لكن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شجعهما . رووا عن ابن العاص ( مسند أحمد : 2 / 215 ) : ( قال : يا رسول الله إني أسمع منك أشياء أفاكتبها ؟ قال : نعم . قلت : في الغضب والرضا ؟ قال : نعم ، فإني لا أقول فيهما إلا حقاً ) .
ورووه عن ابن عمر ( أبو داود : 2 / 176 ) قال : ( كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : أتكتب كل شئ تسمعه ورسول الله بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا ! فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال : أكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق ) .
ومنه تعرف سبب تحريمهم تدوين السنة !
5 . وكان عبد الله بطئ الذهن ، فقد روى مالك في الموطأ ( 1 / 205 ) : ( أن عبد الله بن عمر
مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها ) !
وقال العيني في عمدة القاري ( 5 / 202 ) : ( روي أن ابن عمر ، رضي الله تعالى عنها ، حفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة ) .
6 . وكان عبد الله على مذهب أبيه عمر ، يُجوِّز تبديل ألفاظ القرآن ، وتحريفها !
قال ابن قدامة في المغني ( 1 / 576 ) : ( كان يرخص في إبدال لفظات من القرآن ، فالتشهد أولى ، فقد روي عنه أن إنساناً كان يقرأ عليه : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ . فيقول طعام اليتيم ، فقال له عبد الله : قل طعام الفاجر ) !
7 . لكنه خالف أباه في حذف حيَّ على خير العمل من الأذان ، فكان يقولها في أذانه ويقول هو الأذان الأول ! ( نيل الأوطار : 2 / 19 ) . وخالفه في حج التمتع ، أي في فك الإحرام بعد العمرة إلى يوم الذهاب إلى عرفات .
قال ابن قدامة في المغني ( 3 / 232 ) : ( وممن روي عنه اختيارالتمتع : ابن عمر وابن
--------------------------- 499 ---------------------------
عباس وابن الزبير وعائشة والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد والقاسم وسالم وعكرمة ، وهو أحد قولي الشافعي . وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقال : إنك تخالف أباك ! فقال : عمر لم يقل الذي يقولون ، فلما أكثر عليه قال : أفكتاب الله أحق أن تتبعوا ، أم عمر ) !
يقصد قوله تعالى : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمَرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ .
وكان أبوه شديداً عليه ، فقد روى في تاريخ دمشق ( 28 / 60 ) : ( عن البهي قال : كان بين عبيد الله بن عمر وبين المقداد شئ ، فنال منه عبيد الله فشكاه المقداد إلى أبيه ، فنذر عمر ليقطعن لسانه ، فلما خاف ذلك من أبيه تحمل على أبيه بالرجال فقال : دعوني فأقطع لسانه فتكون سنة يعمل بها من بعدي ، لا يوجد رجل شتم رجلاً من أصحاب رسول الله إلا قطع لسانه ) !
ورواه السيوطي في جامع الأحاديث ( 28 / 8 ) وفيه عبد الله ، بدل عبيد الله .
8 . وكان عبد الله يروي أحاديث مهمة في فضائل علي ( عليه السلام ) ، لكنه تخلف عن بيعته وعن الحرب معه ، ثم أعلن ندمه لأنه لم يقاتل مع علي ( عليه السلام ) ! ( قال : لم أجدني آسي على شئ إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي . رواه الطبراني بأسانيد وأحدها رجاله رجال الصحيح ) . ( مجمع الزوائد : ( 7 / 242 )
وقال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 1 / 77 ) : ( ولم يشهد أمرهم من التابعين أربعة : الربيع بن خثيم ، ومسروق بن الأجدع ، والأسود بن يزيد ، وأبوعبد الرحمن السلمي . قال أبو عمر : أما أبو عبد الرحمن السلمي فالصحيح عنه أنه كان مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه . وأما مسروق فذكر عنه إبراهيم النخعي أنه ما مات حتى تاب إلى الله تعالى من تخلفه عن علي كرم الله وجهه . وصح عن
عبد الله بن عمر ( رضي الله عنه ) ما من وجوه أنه قال : ما آسى على شئ كما آسى أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي ( رضي الله عنه ) ) .
وقال في الإستيعاب ( 3 / 953 ) : ( قال حين حضرته الوفاة : ما أجد في نفسي من أمر الدنيا شيئاً ، إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب ) .
--------------------------- 500 ---------------------------
ونحوه ابن سعد ( 4 / 187 ) والذهبي في سيره ( 3 / 232 ) .
وروى البلاذري ( 2 / 180 ) : ( عن سعد بن عبيدة قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمر فقال : حدثني عن علي . فقال ابن عمر : إن سرَّك أن تعلم ما كانت منزلته من رسول الله ، فانظر إلى بيته من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الرجل : فإني أبغضه . قال : أبغضك الله ) .
وقال ابن أبي شيبة ( 7 / 505 ) : ( جاءه نافع بن الأزرق فقام على رأسه فقال : والله إني لأبغض علياً ، قال : فرفع إليه ابن عمر رأسه فقال : أبغضك الله ، تبغض رجلاً سابقة من سوابقه خير من الدنيا وما فيها ) !
قال البلاذري ( 2 / 207 ) : ( قال الشعبي : وأُتِيَ علي بعبد الله بن عمر بن الخطاب ملبباً والسيف مشهور عليه فقال له : بايع . فقال : لا أبايع حتى يجتمع الناس عليك . قال : فأعطني حميلاً ألا تبرح . فقال : لا أعطيك حميلاً . فقال الأشتر : إن هذا رجل قد أمن سوطك وسيفك فأمكني منه . فقال عليّ : دعه أنا حميله ، فوالله ما علمته إلا سيئ الخلق صغيراً وكبيراً ) .
وفي المعيار والموازنة / 108 : قالوا له ( عليه السلام ) : إن عبد الله بن عمر وسعد بن وقاص وأسامة بن زيد تخلفوا عن بيعته . واستأذنه عمار أن يأتي بهم ليجبرهم على البيعة كما جرت سنة قريش ! فقال : دع عنك هؤلاء الرهط الثلاثة ، أما ابن عمر فضعيف في دينه ، وأما سعد بن أبي وقاص فحسود ، وأما محمد بن مسلمة فذنبي إليه أني قتلت قاتل أخيه ، مرحباً يوم خيبر ) .
9 . وكان ابن عمر يطمح للخلافة فقمعه معاوية وأذله وأجبره على بيعته ، ثم على بيعة يزيد ، ثم بايع ابن الزبير ، ثم عبد الملك بن مروان .
وكان أبوه عمر أخرجه من الخلافة : ( إن رجلاً قال لعمر : ألا تستخلف عبد الله بن عمر ؟ فقال : قاتلك الله ! والله ما أردت الله بهذا ، أستخلف رجلاً لم يحسن أن يطلّق امرأته ) ! ( تاريخ الخلفاء / 145 ) .
وقال الطبري عن الشورى ( 4 / 48 ) : ( شهد جماعتهم : عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ،
--------------------------- 501 ---------------------------
وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري ، وأبوجهم بن حذيفة العدوي ، والمغيرة بن شعبة الثقفي . قال أبو موسى : أما والله لئن استطعت لأحيين اسم عمر ، فقال له عمرو : إن كنت تحب بيعة ابن عمر فما يمنعك من ابني وأنت تعرف فضله وصلاحه ! فقال : إن ابنك رجل صدق ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة ) !
وهذا يدل على أن مذهب أبي موسى تحريم القتال ، وأنه يقول : لا مساس !
وقال عبد الله عن نفسه عند تحكيم الحكَمَيْن ، كما في صحيح بخاري ( 5 / 48 ) : ( دخلت على حفصة ونَسْواتها تَنْطُف ( جدائلها تقطر ماء ) قلت : قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يُجعل لي من الأمر شئ ( من الخلافة ) !
فقالت : إلحق فإنهم ينتظرونك ، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة فلم تدَعْهُ حتى ذهب ! فلما تفرق الناس خطب معاوية قال : من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطْلع لنا قرنه ، فلنحن أحق به منه ومن أبيه !
قال حبيب بن مسلمة : فهلا أجبته ؟ قال عبد الله : فحللتُ حَبْوتي وهممتُ أن أقول : أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام . فخشيتُ أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ، ويُحمل عني غير ذلك ، فذكرتُ ما أعدَّ الله في الجنان ! قال حبيب : حُفِظتَ وعُصِمت ) .
قال العلامة الحلي في نهج الحق / 309 : ( إن كان ما يقوله معاوية حقاً ، فقد ارتكب عمر الخطأ في أخذه الخلافة ! وإن كان باطلاً فكيف يجوز تقديمه على طوائف المسلمين ) !
وهو يدل على أن عبد الله كان حاضراً خطبة معاوية ، وأنه بعد التحكيم ذهب عبد الله إلى الشام ، وزعم أنه قاصد القدس ! فهاجم معاوية عمر بحضور ابنه وحكم عليه بأنه غصب الخلافة وفرق الأمة ! وتحدى ابنه أن يرفع رأسه ويُطْلعَ قرْنه ويتكلم ! فخاف ولم ينبس بكلمة !
وقال ابن خياط في تاريخه / 10 ، إن معاوية قال : ( والله ليبايعن أو لأقتلنه ! فخرج عبد الله بن عبد الله بن عمر إلى أبيه فأخبره ، وسار إلى مكة ثلاثاً فلما أخبره بكى ابن عمر ) !
--------------------------- 502 ---------------------------
أي ركض ابنه إلى مكة وأخبره بتهديد معاوية ، فبكى !
كما بادر ابن عمر إلى بيعة يزيد عند وصول معاوية إلى مكة ، فقد أورد ابن سعد في الطبقات ( 4 / 182 و 149 ) نصوصاً عن بيعته ليزيد ، ثم عن بيعته لابن الزبير ، ولعبد الملك بن مروان ، ومخالفته لأهل المدينة في ثورتهم على يزيد ) .
وأنه كان يقول : ( لا أقاتل في الفتنة ، وأصلي وراء من غلب ) !
ثم مرَّ على عبد الله ابن الزبير وهو مصلوب فقال : ( يرحمك الله أباخبيب ، لولا ثلاث كن فيك لقلت أنت أنت : إلحادك في الحرم ، ومسارعتك إلى الفتنة ، وبُخْلٌ بكفك ، وما زلتُ أتخوف عليك هذا المركب وما صرتَ إليه مذ كنت أراك ترمق بَغْلات شُهُباً كنَّ لابن حرب ( معاوية ) فيعجبنك ، إلا أنه كان أسوس لدنياه منك ) .
( تاريخ اليعقوبي : 2 / 267 ) . يقصد أن عبد الله بن الزبير أعجبه موكب معاوية إلى الحج على بغلات شُهب ، فأراد أن يكون مثله !
10 . لما عزم الحسين ( عليه السلام ) على الخروج إلى العراق حاول ابن عمر أن يثنيه . روى النسائي في سننه ( 7 / 100 ) وابن عساكر في تاريخه ( 14 / 201 ) : ( عن الشعبي قال : لما توجه الحسين بن علي إلى العراق قيل لابن عمر : إن أخاك الحسين قد توجه إلى العراق ، فلحقه على مسيرة ثلاث ليال فقال له : أين تريد ؟ فقال العراق ، فناشده الله فقال : إن أهل العراق قوم مناكير وقد قتلوا أباك ، وضربوا أخاك وفعلواوفعلوا . وإذا معه طوامير كتب فقال : هذه كتبهم وبيعتهم ، فقال : لا تأتيهم ، فأبى . قال : إني محدثك حديثاً : إن جبريل أتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا ، وإنكم بضعة من رسول الله ، والله لا يليها أحد منكم ، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم ، فأبى أن يرجع . قال : واعتنقه ابن عمر وبكى وقال : استودعك الله من قتيل ) !
وفي دلائل النبوة للبيهقي ( 6 / 470 ) : ( عن سعيد بن مينا قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : عجل حسين قدره ، والله لو أدركته ما تركته يخرج إلا أن يغلبني ، ببني هاشم فتح هذا الأمر ، وببني هاشم يختم ، فإذا رأيت الهاشمي قد ملك فقد ذهب الزمان ) .
- *
--------------------------- 503 ---------------------------
شخصية المغيرة بن شعبة
1 . هو المغيرة بن شعبة ، بن أبي عامر ، بن مسعود ، بن معتب الثقفي . وقد جعله رواة السلطة أحمر أشقر ، طويلاً جميلاً ! على عادتهم في تجميل أتباع الحاكم ، وتبديل عيوبهم إلى فضائل ، بينما الحقيقة خلاف ذلك .
قال الطبري في المنتخب من تاريخ الصحابة / 19 : ( مات المغيرة بالكوفة في شعبان سنة 50 في خلافة معاوية ، وهو ابن سبعين سنة ، وكان رجلاً طوالاً أعور ، وقيل كان أصهب الشعر أكشف ، جعداً يفرق رأسه فروقاً أربعة ، أقلص الشفتين ، مهتوماً ، ضخم الهامة ) .
قال أبو علي القالي في الأمالي ( 1 / 278 ) : ( عن أبي عبيدة قال : كان المغيرة بن شعبة أعور ، دميماً ، آدم ، فهجاه رجل من أهل الكوفة فقال :
إذا راح في قبطية متأزراً * فقل جُعَلٌ يستن في لبن محض
فأقسم لو خرت من استك بيضة * لما انكسرت من قرب بعضك من بعض ) .
فالمغيرة إذن أسمر يميل إلى السواد ، فإذا لبس عباءة قبطية بيضاء رأيته كالخنفساء تغوص في اللبن . ورجلاه قصيرتان ومقعدته قريبة من الأرض ، فلو باض لوقعت البيضة على الأرض ولم تنكسر ! وهذا من أبلغ الشعر الهجائي !
ورواها في الحماسة البصرية ( 2 / 280 ) أربعة أبيات ، ونسبها إلى كعب بن جعيل :
إذا راح في قوهية متأزراً * فقل جُعَلٌ يستن في لبنٍ محض
وتحسبه إن قام للمشي قاعداً * لقلة مقياسيه في الطول والعرض
فأقسم لو خرَّت من استك بيضة * لما انكسرت من قرب بعضك من بعض
فيا خلقة الشيطان أقصر فإنما * رأيتك أهلاً للعداوة والبغض ) .
وهذا يدلك على أن المغيرة كان دميماً ، أسمر يميل إلى السواد ؟
وقال في تاريخ دمشق ( 60 / 21 ) : ( كان المغيرة أصهب الشعر ، جعداً ، أكشف يفرق رأسه فروقاً أربعة ، أقلص الشفتين ، مهتوماً ، ضخم الهامة ) .
والأهتم والمهتوم من انكسرت ثنتياه وهي مقدمة أسنانه . والأكشف : الذي له في
--------------------------- 504 ---------------------------
قصاص الناصية شعرات ثائرة ، وقد يتشاءم به . ( الفايق : 1 / 208 ) .
وأقلص الشفتين : ضخم الشفتين . من القلوص وهو السمين .
2 . قصة إسلام المغيرة عارٌ واحتيال ، فقد غدر برفاقه الثلاثة عشرفقتلهم وسرق أموالهم ، وجاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأسلم ليحمي نفسه من عشيرتهم !
وقد رواها ابن سعد ( 4 / 214 ) وعامة المؤرخين عن المغيرة نفسه قال : ( أجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس وأهدوا له هدايا . فأجمعت الخروج معهم فاستشرت عمي عروة بن مسعود فنهاني وقال : ليس معك من بني أبيك أحد ، فأبيت إلا الخروج . فخرجت معهم وليس معهم من الأحلاف غيري ، حتى دخلنا الإسكندرية فإذا المقوقس في مجلس مطل على البحر ، فركبت زورقاً حتى حاذيت مجلسه فنظر إلي فأنكرني ، وأمر من يسألني من أنا وما أريد ، فسألني المأمور فأخبرته بأمرنا وقدومنا عليه ، فأمر بنا أن ننزل في الكنيسة وأجرى علينا ضيافة ، ثم دعا بنا فدخلنا عليه ، فنظر إلى رأس بني مالك فأدناه إليه وأجلسه معه ، ثم سأله : أكل القوم من بني مالك ؟ فقال : نعم إلا رجل واحد من الأحلاف ، فعرفه إياي فكنت أهون القوم عليه . ووضعوا هداياهم بين يديه فسر بها وأمر بقبضها ، وأمر لهم بجوائز وفضل بعضهم على بعض ، وقصر بي فأعطاني شيئاً قليلاً لا ذكر له .
وخرجنا فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهليهم وهم مسرورون ، ولم يعرض على رجل منهم مؤاساة . وخرجوا وحملوا معهم الخمر ، فكانوا يشربون وأشرب معهم ، وتأبى نفسي تدعني ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا وما حباهم الملك ويخبرون قومي بتقصيره بي وازدرائه إياي ، فأجمعت على قتلهم ! فلما كنا ببسا تمارضت وعصبت رأسي فقالوا لي : مالك ؟ قلت : أُصدع . فوضعوا شرابهم ودعوني فقلت : رأسي يصدع ولكني أجلس فأسقيكم ، فلم ينكروا شيئاً ! فجلست أسقيهم وأشرب القدح بعد القدح ، فلما دبت الكأس فيهم اشتهوا الشراب فجعلت أصرف لهم وأنزع الكأس فيشربون ولا يدرون ! فأهمدتهم الكأس حتى ناموا ما يعقلون ! فوثبت إليهم فقتلتهم جميعاً ، وأخذت جميع ما كان معهم !
--------------------------- 505 ---------------------------
فقدمت على النبي فأجده جالساً في المسجد مع أصحابه وعليَّ ثياب سفري فسلمت بسلام الإسلام فنظر إلي أبو بكر بن أبي قحافة ، وكان بي عارفاً فقال : ابن أخ عروة . قال قلت : نعم ، جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فقال رسول الله : الحمد لله الذي هداك للإسلام . فقال أبو بكر : أمن مصرأقبلتم ؟ قلت : نعم . قال : فما فعل المالكيون الذين كانوا معك ؟ قلت : كان بيني وبينهم بعض ما يكون بين العرب ونحن على دين الشرك ، فقتلتهم وأخذت أسلابهم وجئت بها إلى رسول الله ليخمسها أو يرى فيها رأيه ، فإنما هي غنيمة من مشركين ، وأنا مسلم مصدق بمحمد ! فقال رسول الله : أما إسلامك فقبلته ، ولا آخذ من أموالهم شيئاً ، ولا أخمسه لأن هذا غدر والغدرلا خير فيه .
قال فأخذني ما قرب وما بعد وقلت : يا رسول الله إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ، ثم أسلمت حيث دخلت عليك الساعة . قال : فإن الإسلام يجب ما كان قبله .
قال : وكان قتل منهم ثلاثة عشر إنساناً فبلغ ذلك ثقيفاً بالطائف ، فتداعوا للقتال ، ثم اصطلحوا على أن تحمَّل عني عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية . قال المغيرة : وأقمت مع النبي حتى اعتمر عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، فكان أول سفرة خرجت معه فيها ، وكنت أكون مع أبي بكر الصديق ، وألزم النبي فيمن يلزمه .
وبعثت قريش عام الحديبية عروة بن مسعود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليكلمه فأتاه فكلمه وجعل يمس لحية رسول الله والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله مقنع في الحديد ، فقال لعروة وهو يمس لحية رسول الله : كف يدك قبل أن لا تصل إليك ! فقال : يا محمد من هذا ، ما أفظه وأغلظه ! فقال : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ! فقال عروة : يا غُدَر ، ما غسلت عنك سوأتك إلا بالأمس ) ! وفي رواية : ما غسلت عنك سوأتك إلى الآن . وقد أورثتنا العداو في ثقيف إلى آخر الدهر . وفي رواية السمرقندي ( 3 / 310 ) : ( يا غُدَر ما غسلت سلحتك بعد ) .
فقد كان إسلام المغيرة إذن للتخلص من جريمته ، لا عن إيمان ولا نبل ،
--------------------------- 506 ---------------------------
وهكذا بقي كل عمره ! وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مأموراً أن يقبل كل من يأتيه ويعلن إسلامه حتى لو كان مجرماً ! ورفض أن يأخذ من المغيرة شيئاً من ماله الحرام ، لأنه غادر وماله مال غدر ، وترك جريمته لعشيرته ولم يدافع عنه !
3 . المغيرة مغضوب عليه عند أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقد كان من المتآمرين مع قريش لأخذ الخلافة من بني هاشم ، وكان من المهاجمين لبيت فاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وذكرت الرواية أنهم هاجموا الدار مرتين ، ففي المرة الأولى خاطبتهم الزهراء ( عليها السلام )
من الدار ، ونادت أباها ( ( عليهما السلام ) ) فبكى بعضهم تأثراً ، ورجعوا !
وعادوا في المرة الثانية بقيادة عمر ومعهم الحطب ، وفي أولهم المغيرة وخالد بن الوليد ، وأسيد بن حضير ، ومحمد بن مسلمة ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعثمان بن عفان ، وزيد بن أسلم ، وقنفذ ، وعبد الرحمان بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وعياش بن ربيعة ، وسالم مولى أبي حذيفة . . الخ .
وقد واجه الإمام الحسن ( عليه السلام ) المغيرة بعد ذلك ، فقال له ( الإحتجاج : 1 / 413 ) : ( وأما أنت يا مغيرة بن شعبة ، فإنك لله عدو ، ولكتابه نابذ ، ولنبيه مكذب ، وأنت الزاني وقد وجب عليك الرجم ، وشهد عليك العدول البررة الأتقياء ، فأخر عمر رجمك ، ودفع الحق بالأباطيل ، والصدق بالأغاليط ، وذلك لما أعد الله لك من العذاب الأليم ، والخزي في الحياة الدنيا ، ولعذاب الآخرة أخزى !
وأنت الذي ضربت فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى أدميتها ، وألقت ما في بطنها ، استذلالاً منك لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومخالفة منك لأمره ، وانتهاكاً لحرمته ! وقد قال لها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا فاطمة أنت سيدة نساء أهل الجنة . والله مُصَيِّرُك إلى النار ، وجاعلٌ وبال ما نطقت به عليك ) !
4 . وكان المغيرة من دهاة العرب ، ومن كبار المستشارين لأبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ، وكانت آراؤه صحيحة بالميزان الدنيوي . فلما تعاظمت مشاورة الصحابة وأرادوا أن يبطلوا صفقة السقيفة ويعيدوا الأمر شورى ، خاف أهل السقيفة ، فلجؤوا إلى المغيرة لينقذ موقفهم !
--------------------------- 507 ---------------------------
قال سليم بن قيس الهلالي في كتابه / 140 : ( وبلغ أبا بكر وعمر الخبر ، فأرسلا إلى أبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة فسألاهما الرأي . فقال المغيرة بن شعبة : أرى أن تلقوا العباس بن عبد المطلب فتطمعوه في أن يكون له في هذا الأمر نصيب يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعوا عنكم بذلك ناحية علي بن أبي طالب ، فإن العباس بن عبد المطلب لوصار معكم كانت الحجة على الناس ، وهان عليكم أمر علي بن أبي طالب وحده .
قال : فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة حتى دخلوا على العباس بن عبد المطلب في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ! قال : فتكلم أبو بكر فحمد الله جل وعز وأثنى عليه ثم قال : إن الله بعث لكم محمداً نبياً وللمؤمنين ولياً ، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده وترك للناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصلحتهم متفقين لا مختلفين ، فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً ، فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وهنا ولاحيرة ولا جبناً ، وما توفيقي إلا بالله .
غير أني لا أنفك من طاعن يبلغني فيقول بخلاف قول العامة ، فيتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع وخطبه البديع ، فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه ، أو صرفتموهم عما مالوا إليه ، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ولعقبك من بعدك ، إذ كنت عم رسول الله ، وإن كان الناس أيضاً قد رأوا مكانك ومكان صاحبك فعدلوا بهذا الأمر عنكما !
فقال عمر : إي والله ، وأخرى يا بني هاشم على رسلكم ، فإن رسول الله منا ومنكم ، وإنا لم نأتكم لحاجة منا إليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم . فانظروا لأنفسكم وللعامة . ثم سكت .
فتكلم العباس فقال : إن الله تبارك وتعالى ابتعث محمداً كما وصفت ، نبياً وللمؤمنين ولياً ، فإن كنت برسول الله طلبت هذا الأمر فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن من المؤمنين ، ما تقدمنا في أمرك ولا تشاورنا ولا تآمرنا
--------------------------- 508 ---------------------------
ولا نحب لك ذلك ، إذ كنا من المؤمنين وكنا لك من الكارهين . وأما قولك أن تجعل لي في هذا الأمر نصيباً ، فإن كان هذا الأمر لك خاصة فأمسك عليك فلسنا محتاجين إليك ، وإن كان حق المؤمنين فليس لك أن تحكم في حقهم دونهم ، وإن كان حقنا فإنا لا نرضى منك ببعضه دون بعض . وأما قولك يا عمر إن رسول الله منا ومنكم ، فإن رسول الله شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها ، فنحن أولى به منكم .
وأما قولك إنا نخاف تفاقم الخطب بكم وبنا ، فهذا الذي فعلتموه أوائل ذلك ،
والله المستعان . فخرجوا من عنده وأنشأ العباس يقول :
ما كنت أحسب هذا الأمر منحرفاً * عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالآثار والسنن
وأقرب الناس عهداً بالنبي ومن * جبريل عونٌ له في الغسل والكفن
من فيه ما في جميع الناس كلهم * وليس في الناس ما فيه من الحسن
من ذا الذي ردكم عنه فنعرفه * ها إن بيعتكم من أول الفتن ) .
أقول : لم يؤثر تطميعهم للعباس في أول الأمر ، لكنه أثر بعد ذلك مع الأسف !
5 . ووفوا للمغيرة فعينوه والياً على البصرة ، واشتهر زناه بامرأة متزوجة ! وشهد عليه الشهود ، فخلصه عمر من الحد ، وجلد الشهود !
قال البلاذري ( 13 / 347 ) : ( وكان المغيرة يختلف إلى أم جميل بنت محجن بن الأفقم بن شعيثة الهلالية ، وكان لها زوج من ثقيف يقال له الحجاج بن عتيك ، فرصده أبو بكرة ، وشبل بن معبد البجلي ، ونافع بن الحارث بن كلدة الثقفي ، وزياد بن أبي سفيان ، وهجموا عليه وهو والمرأة عريانان وقد تبطنها ، فخرجوا إلى عمر فشهدوا عليه عنده بما رأوا ، فدرأ عمر الحد عنه لأن زياداً قال : رأيت منظراً قبيحاً ، وسمعت نفساً عالياً وما أدري أخالطها أم لا ، فجلد عمر الشهود إلا زياداً ، وقال حسان بن ثابت في المغيرة :
لو انَّ اللؤم ينسب كان عبداً * قبيح الوجه أعور من ثقيف
تركت الدين والإسلام جهلاً * غداة لقيت صاحبة النصيف
ومال بك الهوى وذكرت لهواً * من الحسناء بالغمر اللطيف ) .
--------------------------- 509 ---------------------------
وقال البلاذري ( 1 / 491 ) : ( فلما قدموا على عمر اجتمع الناس ، وتقدم أبو بكرة ، وأقيم المغيرة فقال عمر لأبى بكرة : بما ذا تشهد يا با بكرة ؟ فقال : أشهد أني رأيته وذكره يدخل في فرجها كالمرود في المكحلة . فقال عمر : ذهب ربع المغيرة ! ثم تقدم نافع بن الحارث بن كلدة ، فشهد بمثل ما شهد به أبو بكرة . فقال عمر : ذهب نصف المغيرة ! ثم تقدم شبل بن معبد فشهد كمثل ما شهدا به ، فقال عمر : ذهب ثلاثة أرباع المغيرة !
ثم تقدم زياد ، وكان شاباً طريراً جميلاً ، فلما نظر إليه عمر قال : والله إني لأرى وجهاً خليقاً أن لايخزى عليه اليوم رجل من أصحاب محمد ! إيهٍ بمَ تشهد ؟ قال : أشهد أني سمعت نفساً عالياً ورأيت أمراً قبيحاً ، فأما ما ذكر هؤلاء فلا . فانتضى المغيرة السيف يريد أبابكرة وصاحبيه ، فقال عمر : يا أعور أمسك ، عليك لعنة الله ، ثم أمر عمر بالثلاثة الذين شهدوا فضربوا . ودرأ عن زياد حد القاذف وعن المغيرة حد الزاني ! وقال لهم عمر : توبوا فتاب نافع وشبل ، وقال أبو بكرة : والله لا أتوب من الحق أشهد أنه زان ! فأراد عمر أن يحده ثانية ، فقال له عليٌّ : لا تفعل ، فإنك إن جعلتها شهادة ، رجمنا المغيرة لأنه قد تمت عليه أربع شهادات ! فلم يجلده عمر . وحلف أبو بكرة أن لا يكلم زياداً ( أخاه ) أبداً . وكان أبو بكرة رجلاً صالحاً ) .
وقد صحح الألباني في إرواء الغليل ( 8 / 28 ) إرهاب عمر للشاهد الرابع فقال : ( جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فشهد على المغيرة بن شعبة فتغيرلون عمر !
ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر ، ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر حتى عرفنا ذلك فيه وأنكرذلك ! وجاء آخر يحرك بيديه فقال : ما عندك يا سلح العقاب ، وصاح أبو عثمان صيحة تشبهها صيحة عمر ، حتى كربت أن يغشى عليَّ ) .
ومعناه أنه خوف زياداً بعد تطميعه ، أو طمعه بعد تخويفه !
وقال الفضل بن شاذان الأزدي في الإيضاح / 64 : ( ومن علمائكم المغيرة بن شعبة الذي رويتم أن أبابكرة ورجلين من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شهدوا عليه عند
--------------------------- 510 ---------------------------
عمر بن الخطاب بالزنا ، وإن زياداً جاء ليشهد عليه فلما رآه عمر قال : أرى رجلاُ مقبلاً لايفضح الله على يديه رجلاُ من أصحاب رسول الله ! فلما سمع زياد الكلمات حذف الشهادة وقال : يا أمير المؤمنين رأيته نائماً على بطن امرأة ورأيت حفزاً شديداً وسمعت نفساً عالياً إلا أني لم أر الميل في المكحلة .
فقال عمر : الله أكبر تخلص والله المغيرة بن شعبة ، ثم أمر بالثلاثة الذين شهدوا بالحق فأقيم عليهم الحد .
ورويتم عن الأعمش أن عمر بن الخطاب كان يقول للمغيرة بن شعبة : ما رأيتك قط إلا خشيت أن تقع علي حجارة من السماء ! ورويتم عن سفيان بن عيينة : قال عمر بن الخطاب : لئن لم ينته المغيرة لأعودن عليه بالحجارة ) !
في ختام هذه النقاط المختصرة : نلفت إلى كتاب في المغيرة للباحث الجزائري العلامة عبد الباقي قرنه ، فقد دون فيه أهم معالم شخصيته وحياته .
- *
بعد رجوعه من صفين جاهر الأشعث بعدائه لأمير المؤمنين ( عليه السلام )
بلغ الأشعث قمة عدائه لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في صفين ، فقد هدده بالقتل إن لم يوقف الحرب ويقبل بالتحكيم ، لكن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شرح لهم الموقف الصحيح وأتم عليهم الحجة ، وتجرع مرارة الفتنة وقال للأشعث إصنع ما تحب !
ثم أصر الأشعث أن يكون الحكَم أبا موسى الأشعري : وخدع اليمانيين بشعار :
لا يحكم فينا مضريان ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أيضاً : إصنع ما تحب .
وكان غرض الإمام ( عليه السلام ) أن يبقي العلاقة مع الأشعث وجمهوره اليمانيين معه ولو بالاسم ولا يكسرها ، وهو يعلم أن مجرى الأحداث سيكشف مؤامرة الأشعث .
وقد فرح الأشعث بالنصر وشكره معاوية وعمرو العاص ، ورجع إلى الكوفة منتصراً بل قوة هائلة ! لكن موجة الخوارج ورفض التحكيم كانت في تزايد وهم يدينون الأشعث وعلياً ومعاوية وعمرو العاص ، ويحكمون عليهم بالكفر لأنهم حكَّموا الرجال في دين الله ، حسب زعمهم !
--------------------------- 511 ---------------------------
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يفضح الأشعث ويمنع شيعته عن قتله
1 . ذم الإمام ( عليه السلام ) الأشعث مرات ، وبعد صفين تعمد أن يفضحه فقال في خطبته :
( ويحُ الفرخ فرخ آل محمد ( ( عليهما السلام ) ) وريحانته وقرة عينه ، ابني هذا الحسين من ابنك الذي من صلبك ، وهو مع ملك متمرد جبار يملك بعد أبيه .
فقام الأحنف بن قيس فقال له : يا أمير المؤمنين ما اسمه ؟ قال : نعم ، يزيد بن معاوية ، ويؤمر على قتل الحسين عبيد الله بن زياد على الجيش السائر إلى ابني من الكوفة ، فتكون وقعتهم بنهر كربلاء في غربي الفرات ، فكأني أنظر مناخ ركابهم ومحط رحالهم ، وإحاطة جيوش أهل الكوفة بهم ، وإعمال سيوفهم ورماحهم وقسيهم في جسومهم ودمائهم ولحومهم ، وسبي أولادي وذراري رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحملهم على شرس الأقتاب وقتل الشيوخ والكهول
والشباب والأطفال !
فقام الأشعث بن قيس على قدميه وقال : ما ادعى رسول الله ما تدعيه من العلم ! من أين لك هذا ؟ فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ويلك يا عُنُق النار وويلٌ لابنك محمد من قوادهم إي والله ، وشمر بن ذي جوشن ، وشبث بن ربعي ، والزبيدي ، وعمرو بن حريث ! فأسرع الأشعث وقطع الكلام وقال : يا ابن أبي طالب أفهمني ما تقول حتى أجيبك عنه ! فقال له : ويلك يا أشعث أما سمعت ؟ فقال يا ابن أبي طالب ما يساوي كلامك عندي تمرتين وولى !
فقام الناس على أقدامهم ومدوا أعينهم إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليأذن لهم في قتله ، فقال لهم : مهلاًيرحمكم الله ، إني أقدر على هلاكه منكم ، ولا بد أن تحق كلمة العذاب على الكافرين ) . ( الهداية الكبرى / 184 ) .
فذهب الأشعث غاضباً واعتزل في بيته وقاطع صلاة الجماعة والجمعة ، مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلا قليلاً . وأغدق عليه معاوية الأموال ، فبنى داره الكبيرة ( الأشعثية ) وبنى فيها مسجداً له منارة ، ففي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 99 ) :
قال الإمام الحسن ( عليه السلام ) : ( إن الأشعث بنى في داره مئذنة ، فكان يرقى إليها إذا سمع
--------------------------- 512 ---------------------------
الأذان في أوقات الصلوات في مسجد جامع الكوفة ، فيصيح من على مئذنته : يا رجل إنك لكاذب ساحر ! وكان أبي ( عليه السلام ) يسميه : عنق النار ، فسئل عن ذلك فقال : إن الأشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه عنق من النار ممدودة من السماء فتحرقه ، فلا يدفن إلا وهو فحمة سوداء !
فلما توفي نظر ساير من حضر إلى النار وقد دخلت عليه ، كالعنق الممدود حتى أحرقته ، وهو يصيح ويدعو بالويل والثبور ) !
وروى الحضيني في الهداية / 184 ، والبحراني في مدينة المعاجز ( 3 / 196 ) : ( لما حضرت الحسن ( عليه السلام ) الوفاة قال لأخيه الحسين ( عليه السلام ) : إن جعدة لعنها الله ولعن أباها وجدها . فإن أباها قد خالف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقعد عنه بالكوفة بعد الرجوع من صفين منحرفاً مخالفاً لطاعته لا يجتمع معه في جماعة ، ولايشيع أحداً من شيعته ولا يصلي عليهم ، منذ سمع أمير المؤمنين على منبره وهو يقول في خطبته : ويحُ الفرخ فرخ آل محمد ( ( عليهما السلام ) ) وريحانته وقرة عينه . . إلى آخر ما تقدم . ومضى الأشعث وبنى خطة وهي المعروفة بالأشعثية ، وبنى في داره مئذنة عالية ، فكان إذا ارتفعت أصوات مؤذني أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في جامع الكوفة صعد إلى مئذنته فنادى نحوالمسجد يريد أمير المؤمنين : أنا كذا وكذا ، أنك ساحر كذاب !
واجتاز أمير المؤمنين في جماعة من أصحابه في خطة الأشعث بن قيس وهو على ذروة بنيانه ، فلما نظرأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أعرض بوجهه فقال له : ويلك يا أشعث ، حسبك ما وعد الله لك من عنق النار ! فقال أصحابه : يا أمير المؤمنين وما معنى عنق النار ؟ فقال : إن الأشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه عنق ممدودة حتى تصل إليه وعشيرته ينظرون ، فتبلعه فإذا خرجت به عنق النار لم يجدوه في مضجعه ، فيأخذون عليهم أثوابهم ويكتمون أمرهم ويقولون : لاتقروا بما رأيتم فيشمت بكم أصحاب علي ! فقال له أصحابه : يا أمير المؤمنين ما يصنع به عنق النار ؟ فقال : عجلت عليه النار يكون فيها جثياً معذباً ، إلى أن نورده النار بعد ذلك في الآخرة . فقالوا : يا أمير المؤمنين فكيف عُجلت له النار في الدنيا ؟ فقال ( عليه السلام )
--------------------------- 513 ---------------------------
لأنه كان يخالف الله ولا يخاف النار فيعذبه الله بالنار ، وبالذي كان يخاف منه !
فقالوا : يا أمير المؤمنين وأين يكون عنق هذه النار ؟ قال : في هذه الدنيا والأشعث فيها يعذب كل يوم حتى تورده على كل مؤمن فتقذفه بين يديه فيراه بصورته ويدعوه الأشعث ويستجير ويقول أيها العبد الصالح أدع ربك لي يخرجني من هذه النار التي جعلها الله عذابي في الدنيا والآخرة لبغضي علي ابن أبي طالب ! فيقول له المؤمن لا أخرجك الله منها في الدنيا ولا في الآخرة إي والله ، ويقذفه عند عشيرته وأهله ممن شك أنه عنق النار فيلعنونه ويتبرؤون منه ويقولون له : ما نحب أن نصير إلى ما صرت إليه ) !
أقول : معنى ذلك أن عذاب الأشعث كعذاب آل فرعون ، لأن تكبره من نوع تكبر فرعون ، وقد قال الله تعالى عنهم : وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ . النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ . .
وكلامه عندما قاد المرتدين في حضرموت يتفق مع تكبر فرعون ، فقد قال الأشعث لما ارتد إن كندة أولى بالملك من أبي بكر بن تيم بن مرة ، ومن كل قريش ! فهو لا يؤمن بنبوة ولا بخلافة ، بل يعمل للاستفادة من القوى المتصارعة لطموحه في ملك كندة ! !
ولم يذكر المؤرخون الألوف المؤلفة التي وصلت إلى الأشعث من معاوية ، لكنهم ذكروا أنه أرسل اليه ذات مرة : ( بخمس مائة فرس معلمة محذَّقة ، فقسمها الأشعث في قومه ) . ( تاريخ حلب : 4 / 1915 ) . أي مروضة مدربة .
2 . وكان مسجده في الكوفة مسجد ضرار يجتمع فيه من يبغض علياً ( عليه السلام ) ويتآمر ضده ، ونزل ابن ملجم ضيفاً على الأشعث ، وكان يلتقي في بيته بقطام !
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( الكافي : 3 / 489 ) : ( إن بالكوفة مساجد ملعونة ومساجد مباركة ، فأما المباركة فمسجد غني ، والله إن قبلته لقاسطة ، وإن طينته لطيبة ، ولقد وضعه رجل مؤمن ، ولا تذهب الدنيا حتى تنفجر عنده عينان وتكون عنده جنتان ، وأهله ملعونون وهو مسلوب منهم . ومسجد بني ظفر وهو مسجد السهلة ، ومسجد الحمراء ، ومسجد جعفي وليس هو مسجدهم اليوم ، قال : دُرِس .
--------------------------- 514 ---------------------------
وأما المساجد الملعونة فمسجد ثقيف ، ومسجد الأشعث ، ومسجد جرير ، ومسجد سماك ، ومسجد بالحمراء بني على قبر فرعون من الفراعنة .
وقال ( عليه السلام ) : جددت أربعة مساجد بالكوفة فرحاً لقتل الحسين ( عليه السلام ) : مسجد الأشعث ، ومسجد جرير ، ومسجد سماك ، ومسجد شبث بن ربعي » !
وقال محمد بن جعفر المشهدي في كتابه المزار / 120 : ( حدثني الشيخ الجليل أبو الفتح القيم بالجامع ، وأوقفني على هذه المساجد ، وحدثني أن مسجد الأشعث ما بين السهلة والكوفة ، وقد بقي منه حائط قبلته ومنارته . وأخبرني غيره أن مسجد الأشعث هو الذي يدعونه بمسجد الجواشن ، ومسجد سماك وهو بالموضع الذي فيه الحدادون ، قريب منه ) .
وفي الكافي ( 3 / 489 ) عن الصادق ( عليه السلام ) : ( إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه نهى بالكوفة عن الصلاة في خمسة مساجد : مسجد الأشعث بن قيس ، ومسجد جرير بن عبد الله البجلي ، ومسجد سماك بن مخرمة ، ومسجد شبث بن ربعي ، ومسجد التيم ) .
ومقابل نهي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان الأشعث يعطي من يصلي في مسجده هدايا !
ففي تاريخ دمشق ( 9 / 141 ) وتاريخ حلب ( 4 / 1915 ) : ( قال : صليت الفجر في مسجد الأشعث أطلب غريماً لي ، فلما صلى الإمام وضع رجل بين يدي حلة ونعلاً ، فقلت : إني لست من أهل هذا المسجد . فقال الأشعث بن قيس لا يخرج أحد من المسجد . قال فبعث إلى كل رجل بحلة ونعلين ) .
3 . ولم يكتف الأشعث بمؤامرته في صفين ، فكان يعمل لتثبيط الناس عن الجهاد مع علي ( عليه السلام ) ، فبعد معركة النهروان أراد الإمام ( عليه السلام ) أن يتوجه إلى الشام ، فحرك الأشعث اليمانيين وغيرهم فثبطهم !
قال البلاذري ( 2 / 383 ) : ( إن معاوية لما بويع وبلغه قتال عليٍّ أهل النهروان ، كاتب وجوه من معه مثل الأشعث بن قيس وغيره ، ووعدهم ومناهم وبذل لهم حتى مالوا إليه وتثاقلوا عن المسير مع علي ، فكان يقول فلا يلتفت إلى قوله ، ويدعو فلا يسمع لدعوته ، فكان معاوية يقول : لقد حاربت علياً بعد صفين بغير جيش ولا عناء ) .
--------------------------- 515 ---------------------------
وبلغت وقاحة الأشعث أن يطلب من الإمام ( عليه السلام ) أن يسكت كما سكت عثمان ! فقد روى المفيد في الأمالي / 145 ، عن جندب بن عبد الله الأزدي ، ورواه ابن قتيبة ( الإمامة والسياسة : 1 / 128 ) بتفصيل ، وفيه : ( ولما أراد علي الانصراف من النهروان ، قام خطيباً فحمد الله ثم قال : أما بعد فإن الله قد أحسن بلاءكم ، وأعز نصركم ، فتوجهوا من فوركم هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً ، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . فقالوا ( والقائل الأشعث ) يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا ، وكلت أذرعنا ، وتقطعت سيوفنا ، ونصلت أسنة رماحنا ، فارجع بنا نحسن عدتنا ، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة ، فإن ذلك أقوى لنا على عدونا . فأقبل عليٌّ بالناس حتى نزل بالنخيلة ، فعسكر بها وأمرالناس أن يلزموا معه عسكرهم ، ويوطنوا أنفسهم على الجهاد ، وأن يقلوا من زيارة أبنائهم ونسائهم ، حتى يسيروا إلى عدوهم من أهل الشام ، فأقاموا معه أياماً ، ثم رجعوا يتسللون ويدخلون الكوفة ، ويتلذذون بنسائهم وأبنائهم ولذاتهم ، حتى تركوا علياً وما معه إلا نفر من وجوه الناس يسير ، وترك العسكر خالياً .
فقام علي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، استعدوا للمسير إلى عدو في جهاده القربة إلى الله إلى أن قال : أتلو عليكم الحكمة ، وأعظكم بالموعظة النافعة ، وأحثكم على جهاد المحلين ، الظلمة الباغين ، فما آتى على آخر قولي حتى أراكم متفرقين ، إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقاً عزين ، تضربون الأمثال ، وتناشدون الأشعار ، تربت أيديكم ، وقد نسيتم الحرب واستعدادها ، وأصبحت قلوبكم فارغة عن ذكرها ، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل ! فقام إليه الأشعث بن قيس الكندي فقال : يا أمير المؤمنين فهلا فعلت كما فعل عثمان ؟ قال له علي : ويلك وما فعل عثمان ، رأيتني عائذاً بالله من شر ما تقول ، والله إن الذي فعل عثمان لمخزاةٌ على من لا دين له ، ولا حجة معه ، فكيف وأنا على بينة من ربي ، والحق معي ، والله إن امرأ أمكن عدوه من نفسه ، فنهش عظمه ، وسفك دمه ، لعظيم عجزه ، ضعيف قلبه . أنت يا ابن قيس
--------------------------- 516 ---------------------------
فكن ذلك ، فأما أنا فوالله دون أن أعطى ذلك ضرب بالمشرفي يطير له فراش الرأس ، وتطيح منه الأكف والمعاصم ، وتجدُّ به الغلاصم ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء .
والله يا أهل العراق ، ما أظن هؤلاء القوم من أهل الشام إلا ظاهرين عليكم ! فقالوا : أبعلم تقول ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : نعم ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إني أرى أمورهم قد علت ، وأرى أموركم قد خبت ، وأراهم جادين في باطلهم ، وأراكم وانين في حقكم ، وأراهم مجتمعين وأراكم متفرقين ، وأراهم لصاحبهم معاوية مطيعين ، وأراكم لي عاصين !
أما والله لئن ظهروا عليكم بعدي لتجدنهم أرباب سوء ، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم في بلادكم ، وحملوا إلى بلادهم منكم ، وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب ، لا تأخذون لله حقاً ، ولا تمنعون له حرمة ، وكأني أنظر إليهم يقتلون صلحاءكم ، ويخيفون علماءكم ، وكأني أنظر إليكم يحرمونكم ويحجبونكم ، ويدينون الناس دونكم ، فلو قد رأيتم الحرمان ، ولقيتم الذل والهوان ، ووقع السيف ونزل الخوف ، لندمتم وتحسرتم على تفريطكم في جهاد عدوكم ، وتذكرتم ما أنتم فيه من الخفض والعافية ، حين لا ينفعكم التذكار . فقال الناس : قد علمنا يا أمير المؤمنين أن قولك كله وجميع لفظك يكون حقاً ، أترى معاوية يكون علينا أميراً ؟ فقال : لا تكرهوا إمرة معاوية ، فإن إمرته سلم وعافية ، فلو قد مات رأيتم الرؤوس تندر عن كهولها كأنها الحنظل ، وعداً كان مفعولاً ، فأما إمرة معاوية فلست أخاف عليكم شرها ، ما بعدها أدهى وأمر !
ثم قام أبو أيوب الأنصاري ، فقال : إن أمير المؤمنين أكرمه الله قد أسمع من كانت له أذن واعية ، وقلب حفيظ ، إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها ، حيث نزل بين أظهركم ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخير المسلمين وأفضلهم وسيدهم بعده ، يفقهكم في الدين ، ويدعوكم إلى جهاد المحلين ، فوالله لكأنكم صم لا تسمعون ، وقلوبكم غلف مطبوع عليها فلا تستجيبون . عباد الله ، أليس إنما عهدكم بالجور والعدوان أمس ، وقد شمل العباد ، وشاع في الإسلام ، فذو حق محروم ، ومشتوم
--------------------------- 517 ---------------------------
عرضه ، ومضروب ظهره ، وملطوم وجهه ، وموطوء بطنه ، وملقى بالعراء ، فلما جاءكم أمير المؤمنين صدع بالحق ، ونشر العدل ، وعمل بالكتاب ، فاشكروا نعمة الله عليكم ، ولا تتولوا مجرمين ، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون . إشحذوا السيوف ، وجددوا آلة الحرب ، واستعدوا للجهاد ، فإذا دعيتم فأجيبوا ، وإذا أمرتم فأطيعوا تكونوا بذلك من الصادقين .
قال : ثم قام رجال من أصحاب علي فقالوا : يا أمير المؤمنين أعط هؤلاء هذه الأموال ، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي ، ممن يتخوف خلافه على الناس وفراقه . وإنما قالوا له : هذا الذي كان معاوية يصنعه بمن أتاه ، وإنما عامة الناس همهم الدنيا ولها يسعون ، وفيها يكدحون . فأعط هؤلاء الأشراف ، فإذا استقام لك ما تريد عدت إلى أحسن ما كنت عليه من القسم .
فقال علي : أتأمروني أن أطلب النصربالجور فيمن وليت عليه من الإسلام ؟ فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم ، والله لو كان لهم مال لسويت بينهم فكيف وإنما هي أموالكم . والله لقد أحببت أن يدال هؤلاء القوم عليكم ، بإصلاحهم في أرضهم ، وفسادكم في أرضكم ، وأدائهم الأمانة لمعاوية وخيانتكم ، وبطاعتهم له ومعصيتكم لي ، واجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم . وأيم الله لا يدعون بعدي محرماً إلا استحلوه ، ولا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا أدخلوه ظلمهم ، حتى يقوم الباكيان منكم : باكٍ لدينه وباك لدنياه ، وحتى تكون نصرة أحدكم كنصرة العبد لسيده : إذا شهد أطاعه وإذا غاب سبه . فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، أتظن ذلك كائناً ؟ قال : ما هو بالظن ولكنه اليقين ) !
ورواه سليم في كتابه / 213 ، بفروق ، وفيه : ( ويلك يا ابن قيس ! المؤمن يموت بكل موتة غيرأنه لا يقتل نفسه ، فمن قدر على حقن دمه ثم خلى بينه وبين قاتله فهوقاتل نفسه . ويلك يا ابن قيس ! إن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة واحدة منها في الجنة واثنتان وسبعون في النار ، وشرها وأبغضها إلى الله وأبعدها منه السامرة الذين يقولون : لاقتال ، وكذبوا ، قد أمر الله عز وجل
--------------------------- 518 ---------------------------
بقتال هؤلاء الباغين في كتابه وسنة نبيه وكذلك المارقة .
فقال الأشعث وغضب من قوله : فما يمنعك يا ابن أبي طالب حين بويع أخو تيم وأخو عدي وأخو بني أمية بعدهما ، أن تقاتل وتضرب بسيفك ؟ فقال له علي ( عليه السلام ) :
يا ابن قيس ، قلت فاسمع الجواب : لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهية للقاء ربي ، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها ، ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعهده إلي . أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما الأمة صانعة بي بعده ، فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت .
فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إلي إذا كان ذلك ؟ قال ( ( عليهما السلام ) ) : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً .
وأخبرني ( ( عليهما السلام ) ) أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري . وأخبرني أني منه بمنزلة هارون من موسى ، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه ، والعجل ومن تبعه ) !
- *
ملاحظات
1 . اجتمع لمعاوية التعصب الشامي والتعصب القرشي فكانت قريش كلها معه ضد بني هاشم ، كما كانت مع أبيه ضد بني هاشم !
كما اجتمع له تعصب اليمانيين ، فقد التفوا حول شرحبيل بن السمط الكندي ، وذي الكلاع الحميري ، وكندة وحمير هما بيتا الملك في اليمن .
أما علي ( عليه السلام ) فكان معه العصبة الإسلامية للنبي ( ( عليهما السلام ) ) والإسلام ، متمثلة بالمهاجرين والأنصار . ومعه العصبة العراقية لكنها كانت ناشئة ممزوجة بالعصبة اليمانية ، وكان ثقل اليمانيين كندة ، وكانوا مطيعين للأشعث كما كانت مذحج مطيعة للأشتر ( رضي الله عنه ) .
وكانت العصبة العراقية لربيعة والقبائل العربية الأخرى ، أصفى عناصر العصبة للعراق .
--------------------------- 519 ---------------------------
وكان التنوع في قبائل العراقيين وتعدد جذورهم ومشاربهم ، ومكر الأشعث بن قيس ، عاملاً في إضعاف طاعة العراقيين لعلي ( عليه السلام ) ، مقابل وحدة العصبة الشامية وطاعة رؤسائهم المطلقة لمعاوية .
2 . قال المسعودي عن معاوية ( مروج الذهب : 3 / 31 ) : ( بلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه ، أن رجلًا من أهل الكوفة دخل على بعيرله إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين ، فتعلق به رجل من دمشق فقال : هذه ناقتي أُخذت مني بصفين ، فارتفع أمرهما إلى معاوية ، وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينة ، يشهدون أنها ناقته ، فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير اليه . فقال الكوفي : أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة ! فقال معاوية : هذا حكم قد مضى ! ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره فدفع اليه ضعفه وبرّه وأحسن اليه ، وقال له : أبلغ علياً أني أُقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل !
وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء ! وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها ! وركنوا إلى قول عمرو بن العاص : إن علياً هو الذي قتل عمَّار بن ياسر حين أخرجه لنصرته ! ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لَعْنَ علي سُنَّة ، ينشأ عليها الصغير ، ويهلك عليها الكبير ) !
3 . يتعجب المسعودي من سياسة معاوية ، وتصرفه مع صاحب الجمل ورسالته إلى علي ( عليه السلام ) . وقد تميز معاوية بالدهاء السياسي ، واشتهر وصفه بالحلم وهو أبعد الناس عن الحلم ، واشتهر بالعقل ولو كان له عقل لما أقام دولة على جثث مئة ألف مسلم وأكثر ، ثم سلمها لولده الأرعن فبددها !
( قيل لمالك بن أنس : كان معاوية حليماً ، فقال : وكيف يكون حليماً من أرسل بسر بن أرطاة ما بينه وبين اليمن لا يسمع بأحد عنده خبر يخاف منه إلا قتله ! ما كان بحليم ولا مبارك ) ! ( شرح الأخبار للقاضي النعمان : 2 / 169 ) .
وسأل رجلٌ الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ما العقل ؟ قال : ما عُبد به الرحمن واكتسب
--------------------------- 520 ---------------------------
به الجنان . قال قلت : فالذي كان في معاوية ؟ فقال تلك النكراء ، تلك الشيطنة ! وهي شبيهة بالعقل ، وليست بالعقل ) . ( الكافي : 1 / 11 ) !
أقول : يظهر صحة قول مالك والإمام الصادق ( عليه السلام ) من نظرة فاحصة لما حققه معاوية ، فقد عمل ليل نهار لمدة أربعين سنة وبنى دولة وأمبراطورية ، وكان ثمنها مئة ألف قتيل ، ومظالم للعباد ارتكبها ، ثم سلمها دولته إلى ولده الشاب الأهوج المدمن على الخمر واللهو والفجور ، فبددها في ثلاث سنوات ! وكان معاوية يعرف ذلك ويقول : لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي ! ( النهاية : 8 / 126 ) .
ثم يوم القيامة يؤخذ بدماء العباد ومظالمهم ، فأي عقل لمن يفعل ذلك !
4 . لا نعرف لماذا صلى معاوية صلاة الجمعة يوم الأربعاء ، لكن أرجح أنه أراد أن يختبرطاعة أهل الشام ، وقد صلوا معه الجمعة ، ونجحوا في طاعته لكنهم سقطوا في معصية الله تعالى ، وقلة العقل !
وقد استفاد من صلاة معاوية الحداثويون تلامذة جامعة السوربون ، فقال
عبدالكرىم سروش : إن يوم الجمعة قابل للتغيير ، وغرضهم تحريك أي ثابت من ثوابت الدين ! حتى يصلوا إلى فرائضه ، ثم إلى نص القرآن ، وكل ما يريدون تحريفه !
5 . أسس معاوية لعن علي ( عليه السلام ) في صلاة الجمعة وغيرها من الصلوات !
قال البلاذري ( 2 / 351 ) : إن معاوية كان يلعن في صلاته : علياً والأشتر ، وقيس بن سعد ، والحسن ، والحسين ، وابن عباس ، وعبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهم . وأن علياً ( عليه السلام ) كان يقول في قنوته في صلاة الصبح : اللهم العن معاوية ، وعمراً ، وأباالأعور ، وحبيب بن مسلمة ، وعبد الرحمان بن خالد بن الوليد ، والضحاك بن قيس ، والوليد بن عقبة ) .
وقد كتبنا فصلاً في جواهر التاريخ ( 2 / 429 ) في إجباره الناس على لعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وبعد ستين سنة أمرعمر بن عبد العزيز بتركها فتركوها جزئياً ، ثم عادت بعد وفاته ، واستمرت إلى آخر دولة بني أمية !
--------------------------- 521 ---------------------------
رجع المسلمون إلى الكوفة بالاختلاف والدغل !
1 . قال ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 59 / 118 ) : ( وتفرق الناس : فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل ، واختلف عليه أصحابه ، فخرج عليه الخوارج من أصحابه ومن كان معه ، وأنكروا تحكيمه وقالوا : لا حكم إلا لله . ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه ) !
وقال الطبري ( 4 / 46 ) : ( عن عمارة بن ربيعة قال : خرجوا مع علي إلى صفين وهم متوادون أحباء ، فرجعوا متباغضين أعداء ! ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكيم ( شعار لاحكم إلا لله ) ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط ! يقول الخوارج : يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله عز وجل وحكمتم ! وقال الآخرون : فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا ! فلما دخل عليٌّ الكوفة لم يدخلوا معه حتى أتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً ، ونادى مناديهم : إن أمير القتال شبت بن ربعي التميمي ، وأميرالصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عز وجل ،
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) .
2 . وقال الإسكافي في المعيار والموازنة / 192 : ( اعتزلوه وأتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً . ثم قالوا لأصحاب علي : إنكم استبقتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان ! بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا ، وبايعتم أنتم علياً على أنكم أولياء من والاه وأعداء من عاداه ! فقال لهم زياد بن النضر : والله ما بسط علي يده فبايعناه إلا على كتاب الله وسنة نبيه ، ولكنكم لما خالفتموه جاءت إليه شيعته فقالوا : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ، لأنه على الحق والهدى ، ومن خالفه ضال مضل .
3 . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 270 ) : ( ومن كلامه ( عليه السلام ) للخوارج حين رجع إلى الكوفة ، وهو بظاهرها قبل دخوله أياماً ، بعد حمد الله والثناء عليه :
--------------------------- 522 ---------------------------
اللهم هذا مقامٌ من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة ، ومن نطف فيه أو غل فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . نشدتكم بالله أتعلمون أنهم حين رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم : إني أعلم بالقوم منكم ، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال ، إمضوا على حقكم وصدقكم . إنما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة ووهنا ومكيدة ، فرددتم على رأيي ، وقلتم : لا ، بل نقبل منهم ! فقلت لكم : أذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي ، فلما أبيتم إلا الكتاب ، اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحياة القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء .
فقال له بعض الخوارج : فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء ؟ فقال ( عليه السلام ) : إنا لم نحكم الرجال ، إنما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق ، وإنما يتكلم به الرجال . قالوا له : فخبرنا عن الأجل ، لم جعلته فيما بينك وبينهم . قال : ليتعلم الجاهل ويتثبت العالم ، ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة . أدخلوا مصركم رحمكم الله ، ودخلوا من عند آخرهم ) .
أقول : هؤلاء فرقة من الخوارج أقنعهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فدخلوا الكوفة ، ومنهم فرق لم تدخل إلى الكوفة ، وعسكروا في حروراء ثم المدائن ثم في النهروان . وسيأتي خبرهم في المجلد الخامس ، إن شاء الله .
من كلامه ( عليه السلام ) في شأن الحكمين
4 . ومن كلام له ( عليه السلام ) في شأن الحكمين ، وذم أهل الشام ( نهج البلاغة : 2 / 231 ) :
( جُفاة طَغام ، وعبيد أقزام ، جُمعوا من كل أوْب ، وتُلُقِّطوا من كل شَوْب ، ممن ينبغي أن يُفقَّه ويُؤدَّبَ ، ويُعلَّمَ ويُدرَّبَ ، ويُولَّى عليه ويُؤخَذَ على يديه . ليسوا من المهاجرين والأنصار ، ولا من الذين تبوؤوا الدار والإيمان .
ألا وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يُحبون ، وإنكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم مما تكرهون . وإنما عهدكم بعبد الله بن قيس بالأمس يقول إنها فتنة
--------------------------- 523 ---------------------------
فقطِّعوا أوتاركم وشيموا سيوفكم . فإن كان صادقاً فقد أخطأ بمسيره غير مستكره ، وإن كان كاذباً فقد لزمته التهمة . فادفعوا في صدر عمروالعاص بعبد الله بن العباس ، وخذوا مَهَلَ الأيام ، وحوطوا قواصي الإسلام . ألا ترون إلى بلادكم تغزى ، وإلى صفاتكم تُرمى ) !
5 . ومن كلامه ( عليه السلام ) معهم ( نهج البلاغة : 2 / 7 ) : ( فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت ! فلم تضللون عامة أمة محمد ( ( عليهما السلام ) ) بضلالي وتأخذونهم بخطئي وتكفرونهم بذنوبي ! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب ! وقد علمتم أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورثه أهله ، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله ، وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ، ثم قسم عليهما من الفئ ونكحا المسلمات ، فأخذهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذنوبهم وأقام حق الله فيهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله .
وإنما حُكم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وإماتته الافتراق عنه ، فإن جرَّنا القرآن إليهم اتبعناهم ، وإن جرَّهم إلينا اتبعونا !
فلم آت لا أباً لكم بَجْراً ، ولا ختلتكم عن أمركم ولا لبَّسته عليكم ، إنما اجتمع رأي ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما أن لايتعديا القرآن فتاها عنه ، وتركا الحق وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما فمضيا عليه ! وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكومة بالعدل ، والصمْد للحق ) .
علَّم الإمام المسلمين أحكام القصر والتمام
قال البخاري في صحيحه ( 2 / 36 ) : ( خرج علي ( رضي الله عنه ) فقصر وهو يرى البيوت ، فلما رجع قيل له : هذه الكوفة . قال : لا ، حتى ندخلها ) .
وقال ابن حجر في فتح الباري ( 2 / 469 ) : ( وصله الحاكم من رواية الثوري عن وقاء ابن إياس وهو بكسر الواو بعدها قاف ثم مدة ، عن علي بن ربيعة قال :
--------------------------- 524 ---------------------------
خرجنا مع علي بن أبي طالب فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت ، ثم رجعنا فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت . خرجنا مع علي متوجهين هاهنا وأشار بيده إلى الشام فصلى ركعتين ركعتين ، حتى إذا رجعنا ونظرنا إلى الكوفة حضرت الصلاة قالوا : يا أمير المؤمنين هذه الكوفة أتم الصلاة ، قال : لا ، حتى ندخلها . أي لانزال نقصرحتى ندخلها في حكم المسافرين ) .
جواب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على سؤال القضاء والقدر !
قال ابن الأعثم ( 4 / 217 ) : ( وثب إلى علي بن أبي طالب رجل من أهل الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرني عن مسيرنا إلى أهل الشام وقتالنا إياهم أكان بقضاء من الله وقدر ؟ فقال علي : ويحك يا شيخ ! والله خالق الحبة وبارئ النسمة ما وطئنا موطئاً ولا هبطنا وادياً ولا علونا تلعة إلا بقضاء من الله وقدر . فقال الرجل : فعند الله أحتسب عناي يا أمير المؤمنين ! فقال علي : ولمَ ذلك ؟ فقال : إني ما أرى لي هاهنا من الأجر شيئاً . فقال علي ( رضي الله عنه ) : بلى يا شيخ ! لقد أعظم الله لكم الأجر على ما سيركم وأنتم سائرون ، وعلى منصرفكم وأنتم منصرفون ، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون .
ثم قال علي : ويحك يا شيخ ! لعلك تظن أن ذلك إنما كان قضاء لازماً وقدراً حتماً ؟ قال : أظن يا أمير المؤمنين ! فقال علي : ليس ذاك كما ظننت ! إنه لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وذهب الوعد والوعيد ، ولم يكن يأتي من الله لائمةٌ لمذنب ، ولا محمدةٌ لمحسن . فقال الرجل : كيف هذا يا أمير المؤمنين ؟ بينه لي حتى أعلم .
فقال علي ( رضي الله عنه ) : ويحك ! إن الله تبارك وتعالى أمرتخبيراً ونهى تحذيراً وكلف يسيراً ، لم يعص مغلوباً ولم يكلف تعنتاً ، ولم يرسل الأنبياء عبثاً ، ولم ينزل الكتب لعباً ، و : ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ للَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ . قال : فوثب الرجل من بين يديه مستبشراً ، ثم أنشأ يقول :
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته * يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان مشتبهاً * جزاك ربك عنا فيه إحسانا
فليس معذرة في فعل فاحشة * ما كنت ذاكرها فسقاً وعصيانا
--------------------------- 525 ---------------------------
لا لا ولا قائلاً الرب أوقعه * فها عبدت إذاً يا قوم شيطانا
ولا أراد ولا شاء الفسوق ولا * قلت الولي له ظلماً وعدوانا
نفسي الفداء لخير الناس كلهم * بعد النبي علي الخير مولانا
أخي النبي ومولى المؤمنين معاً * وأول الناس تصديقاً وإيمانا
وبعل بنت نبي الله فاطمة * أكرم بها شرفاً سراً وإعلانا )
مرافعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع يهودي عند القاضي
بينا في الفصل الحادي والخمسين كيف أعاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للقضاء أصوله النبوية . وأنه حضر مع يهودي عند قاضيه وقاضاه على درع ، وحكم شريح لليهودي ، فقبل ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لأنه لم يكن عنده شهود !
قال أبو الفداء في تاريخه ( 1 / 181 ) : ( فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ، ثم عاد وقال : أشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إِلى صفين ، ففرح علي بإسلامه ، ووهبه الدرع وفرساً . وشهد مع علي ( عليه السلام ) قتال الخوارج فقتل ( رحمه الله ) ) .
وقد ورد أن الطرف كان يهودياً ، وأن الحادثة كانت بعد حرب الجمل .
- *
--------------------------- 526 ---------------------------
الفصل الخامس والثمانون: المحكمة الأموية للتحكيم بين معاوية وعلي ( عليه السلام ) !
مكيدة عمرو العاص على أبي موسى الأشعري !
1 . اجتمعوا في دومة الجندل وهي كما في معجم البلدان ( 2 / 487 ) : ( حصن وقرى بين الشام والمدينة ، قرب جبلي طئ . سميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل ( الصخر ) .
وقد ذهب بعض الرواة إلى أن التحكيم بين علي ومعاوية كان بدومة الجندل ، وأكثر الرواة على أنه كان بأذْرُح ، وقد أكثر الشعراء في ذكر أذرح وأن التحكيم كان بها ، ولم يبلغني شئ من الشعر في دومة إلا قول الأعور الشني ، وإن كان الوزن يستقيم بأذرح ، وهو هذا :
رضينا بحكم الله في كل موطن * وعمرو وعبد الله مختلفان
وليس بهادي أمة من ضلالة * بدومة شيخا فتنة عميان
بكت عين من يبكى ابن عفان * بعدما نفا ورق الفرقان كل مكان
ثوى تاركاً للحق متبع الهوى * وأورث حزناً لا حقاً بطعان )
أقول : لا وجه لإشكال الحموي لأن أذرح قرب دومة الجندل أو جزء منها .
2 . روى اليعقوبي ( 2 / 188 ) وهو مؤرخ دقيق خلاصة محكمة دومة الجندل فقال : ( وجه عليٌّ بعبد الله بن عباس في أربع مائة من أصحابه ، ونفذ معاوية أربع مائة من أصحابه ، واجتمعوا بدومة الجندل في شهر ربيع الأول سنة 38 ، فخدع عمرو بن العاص أبا موسى ! وذكر له معاوية فقال : هو وليُّ ثأر عثمان وله شرف في قريش ، فلم يجد عنده ما يحب . قال : فابني عبد الله ؟ قال : ليس بموضع لذلك . قال : فعبد الله بن عمر ؟ قال : إذاً نحيي سنة عمر ، الآن حيث به
--------------------------- 527 ---------------------------
[ فأت به ] . فقال : فاخلع علياً وأخلع أنا معاوية ويختار المسلمون . وقدَّم عمرو أبا موسى إلى المنبر فلما رآه عبد الله بن عباس قام إلى عبد الله بن قيس فدنا منه فقال : إن كان عمرو فارقك على شئ ، فقدمه قبلك فإنه غُدُر . فقال : لا ، قد اتفقنا على أمر ، فصعد المنبر فخلع علياً ، ثم صعد عمرو بن العاص فقال : قد ثبتُّ معاوية كما ثبتُّ خاتمي هذا في يدي . فصاح به أبو موسى : غدرت يا منافق ، إنما مثلك كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ !
قال عمرو : إنمامثلك كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً !
وتنادى الناس : حكم والله الحكمان بغيرما في الكتاب ، والشرط عليهما غير هذا ! وتضارب القوم بالسياط وأخذ قوم بشعور بعض ! وافترق الناس ونادت الخوارج : كفر الحكمان لاحكم إلا لله ) .
وصاح الناس على الحكمين ، لكن مكيدة عمرو والأشعث بالمصاحف نجحت !
التحكيم برواية ابن الأعثم
قال أحمد ابن الأعثم ( 4 / 207 ) : ( أقبل أبو موسى الأشعري إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، إني لست آمن الغوائل فابعث معي قوماً من أصحابك إلى دومة الجندل ، قال : فبعث معه علي شريح بن هانئ في خمس مائة رجل من أصحابه ، فلما صار في بعض الطريق أقبل عليه شريح فقال له : أبا موسى ، إنك قد نصبت لأمرلايجبرصدعه ولاتستقال عثرته ، فاعلم أنك قلت شيئاً لك أم عليك لزمك حقه وزال عنك باطله ، فاتق الله وانظر كيف تكون ، فإنك قد رميت بعمرو بن العاص وهو رجل لا دين له ، لأنه باع دينه بدنياه ، فإياك أن يخدعك فإنه خداع مكار . ثم أنشأ شريح بن هانئ يقول :
أبا موسى رميت بشر خصم * فلا تدع العراق فدتك نفسي
ولا تخدع بشيء من مقال * فإن اليوم في الأغدا كأمس
وإن غداً يجيئ بما عليه * يدور الأمر من سعد ونحس
--------------------------- 528 ---------------------------
فلا يخدعك عمرو إن عمراً * عدو الله ، مطلع كل شمس
له خدع يحار العقل فيها * مموهة مزخرفة بلبس
ولا تجعل معاوية بن حرب * كشيخ في الحوادث غير نكس
هداه الله للإسلام فرداً * سوى عرس النبي وأي عرس
فقال أبو موسى : ما ينبغي لقوم اتهموني أن يبعثوني لكي أدفع عنهم باطلاً ، والله إني لأرجو أن ينقضي هذا الأمر وأنا على رضاً من الفريقين جميعاً إن شاء الله . قال : وسار أبو موسى في أصحابه ، وكان شرحبيل بن السمط مع عمرو بن العاص في خيل عظيمة من خيول الشام فسبقوا إلى دومة الجندل . وأقبل أبو موسى في أصحابه ومعه أيضاً قوم يشيعونه فقال لهم : انصرفوا رحمكم الله ، فإني لست أبقي غاية في النصيحة لهذه الأمة .
قال فودعه الناس ، وفيمن ودعه يومئذ الأحنف بن قيس ، فقال له الأحنف : اعرف خطر هذا المسير فإن له ما بعده ، واعلم بأنك إن ضيعت العراق فلاعراق ، فاتق الله فإنه يجتمع لك أمر الدنيا والآخرة ، وانظر إذا لقيت عمرو بن العاص فلا تبدأه بالسلام حتى يكون هو الذي يبدؤك ، وإن سألك أن تقعد معه على فراشه فلا تفعل فإن ذلك خديعة منه لك ، وانظر لايدخلك إلى بيت له مخدع ، ويكون قد عبى لك فيه رجالاًيسمعون كلامك ويشهدون عليك وأنت لاتعلم ، وإن لم يستقم لك عمرو على ما تريد ، فخيره من شاء غيرك يكلمه ولاتكلمه أنت . فقال أبو موسى : إني قد سمعت كلامك وعرفت نصيحتك ، فارجع راشداً يرحمك الله !
فرجع الأحنف إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين أخرج والله أبو موسى زبدة سقائه في أول مخضه ، لا أرانا إلا بعثنا رجلاً لاينكرخلعك . فقال علي : إن الله بالغ أمره . قال : وكتب النجاشي شاعر علي إلى أبي موسى :
أبا موسى جزاك الله خيراً * عراقك إن حظك بالعراق
وإن الشام قد نصبوا إماماً * من الأحزاب معروف النفاق
وإنا لا نزال لهم عدواً * أبا موسى إلى يوم التلاق
--------------------------- 529 ---------------------------
فلا تجعل معاوية بن صخر * إماماً ما مشت قدم بساق
ولا يخدعك عمرو إن عمراً * أبا موسى لداهية الرفاق
وكن منه على حذر وأنهِج * سبيلك لا تزل بك المراقي
ستلقاه أبا موسى ملياً * بمر القول مسترخي الخناق
ولا تحكم بأن سوى علي * إماماً إن هذا الشر باق
والتقت الناس بدومة الجندل ، فأقبل أبو موسى فلما رآه عمرو استقبله فسلم عليه أبو موسى ، ومد أبو موسى يده إلى عمرو فصافحه وحياه وضمه إلى صدره ثم قال : يا أخاه طال عهدي بك فقبح الله أمراً فرق بيننا ! قال : ثم أقعده عمرو على فراشه ، وأقبل عليه يحدثه ساعة ، ثم دعا عمرو بالطعام فأكلا جميعاً ، وانصرف أبو موسى إلى رحله .
ثم لم يزالا يجتمعان في كل يوم فيتحدثان وينصرفان ، فأقاما على ذلك أياماً كثيرة ، حتى ارتابت الناس وغمهم ذلك !
قال : فوثب عدي بن حاتم الطائي فقال : أما والله يا عمرو ! إنك لغير مأمون بالعيب ، فأما أنت يا أبا موسى فغير مأمون الضعف .
فقال له عمرو بن العاص : والله يا عدي ! ما لك ولا لغيرك مع كتاب الله ورد ولا صدر ، فأمسك عنك يا هذا . قال : ثم أقبل عمرو على أبي موسى فقال : والله لقد كنت أحب أن لا يشهد هذا الأمر من يفسده علينا !
وخاض الناس في أمر عمرو وأبي موسى فقال بعضهم لبعض : إن أبا موسى خالع صاحبه علياً على ما نرى ! فأنشأ رجل من أصحاب علي يقول :
لعمرك لا ألقى مدى الدهر خالعاً * علياً بقول الأشعري ولا عمرو
ولسنا نقول الدهر ذاك إليكما * وفي ذاك لو قلناه قاصمة الظهر
ولكن نقول الأمر لله وحده * إليه وفي كفيه عاقبة الأمر
وما اليوم إلا مثل أمسٍ وإننا * لفي رقرق الضحضاح أو لجة البحر
قال : وبلغ معاوية أن عمراً يريد الأمر لنفسه ، فضاق لذلك ذرعاً ولم يدر ما
--------------------------- 530 ---------------------------
يصنع ، فدعا بالمغيرة بن شعبة وقد كان أتاه زائراً من الطائف ، فقال له : ويحك يا مغيرة أشرعلي فقد بلغني أن عمراً يريد الأمر لنفسه ! فقال له المغيرة : إنه لو وسعني أن أشيرعليك أو آمرك لوسعني أن أنصرك على علي ، ولكن عليَّ أن آتيك بخبر الرجلين جميعاً عمرو وأبي موسى . قال : ثم خرج المغيرة من عند معاوية وسار حتى أتى دومة الجندل فدخل على أبي موسى كأنه زائر له ، فحدثه ساعة ثم قال : يا أبا موسى ، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره هذه الدماء فلم يكن مع علي ولا معاوية ؟ فقال أبو موسى : أولئك والله خيار الناس ، ممن قد خف ظهره من مظالم العباد .
قال : ثم تركه المغيرة وأقبل حتى دخل على عمرو بن العاص ، فحدثه ساعة ثم قال : أبا عبد الله ، ما تقول فيمن اعتزل هذه الدماء ولم يدخل نفسه في شئ من هذه الأمور ؟ فقال عمرو : أولئك من أشرارخلق الله لا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلاً . قال : فخرج المغيرة إلى معاوية فقال : أما أبو موسى فإنه خالع صاحبه علياً ، لا أشك في ذلك على ما سمعت في ذلك من كلامه وأما عمرو فإنني قد سمعت كلاماً يدل على أنه يريد أمراً .
قال : فاغتم معاوية لذلك ، ثم كتب إلى عمرو هذه الأبيات :
بدا الأمر ما لا تبتلعه الأضالع * وكل امرئ يوماً إلى الله راجع
فيا عمرو قد لاحت عيون كثيرة * فيا ليت شعري عمرو ما أنت صانع
وقال رجال إن عمراً يريدها * فقلت لهم عمرو لي اليوم تابع
وإنك قد أبطأت فيها وبادرت * عليك بتحقيق الظنون الأصابع
فأسرع بها أو ابْطِ على غير ريبة * يكون بها في البيد والنقع ساطع
بك اليوم في عقد الخلافة ظالماً * ومن دون ما ظنوا بك اليوم مانع
قال : وصاح الناس على أبي موسى وعمرو بن العاص ، وقالوا : إنكما قد أبطأتما بهذا الأمر ، وإننا نخاف انقطاع المدة ولم تصنعا شيئاً فتعود الحرب إلى ما كانت ! قال : فعندها أقبل عمرو حتى دخل على أبي موسى فقال له : أبا موسى : هل لك أن تخلع صاحبك علياً وأخلع أنا صاحبي معاوية ونجعل هذا الأمر في يد عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فإنه رجل زاهد عابد ولم يبسط في هذه الحروب لسانا ولا يداً ؟ فقال
--------------------------- 531 ---------------------------
أبو موسى : أحسنت رحمك الله وجزاك بنصيحتك خيراً ! فنعم ما رأيت .
قال عمرو : فمتى تحب أن يكون ذلك الأمر ؟ فقال أبو موسى : ذاك إليك ، إن شئت الساعة ، وإن شئت غداً فإنه يوم الاثنين ، وهذا يوم مبارك .
قال : وانصرف عمرو إلى رحله ، فلما كان من الغد أقبل إلى أبي موسى ومعه شهود ، قد أعدهم للذي يريد أن يصنع . قال أبو موسى : قم يا عمرو فاخلع صاحبك فإننا على ما كنا عليه أمس . فقال عمرو : سبحان الله أقوم أنا قبلك وقد قدمك الله عليَّ في الإيمان والهجرة ، لا بل قم أنت فتكلم بما أحببت ، وأقوم أنا من بعدك .
قال : فوثب أبو موسى قائماً وقد اجتمعت الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس : إن خيرالناس خيرهم لنفسه ، وإن شرالناس شرهم لنفسه ، وقد علمتم ما كان من الحروب التي لم تبق على بر ولاتقي ولامحق ولا مبطل ،
ألا وإني قد رأيت أن نخلع علياً ومعاوية ونجعل هذا الأمر في يد عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فإنه رجل لم يبسط في هذه الحروب لساناً ولا يداً ، ألا وإني قد خلعت علياً من الخلافة كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي . والسلام .
وقام عمرو بن العاص فحمد الله وأثنى عليه وقال : أيها الناس ! هذا عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري ، وافد رسول الله ، وعامل عمر بن الخطاب ، وحَكَم أهل العراق قد خلع صاحبه علياً من الخلافة كما زعم أنه خلع خاتمه من أصبعه ، ألا وإني قد أثبت معاوية في الخلافة كما أثبت خاتمي هذا في أصبعي . ثم قعد .
فقال أبو موسى : عليك غضب الله ، فوالله ما أنت إلا كما قال الله تعالى : كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ! قال : وتشاتموا جميعاً وضج الناس وقالوا هذه خديعة ونحن لا نرضى بهذا . ودخل عمرو من ساعته إلى رحله ، وكتب إلى معاوية :
أتتك الخلافة في خدرها * هنيئاً مريئاً تقر العيونا
تزف إليك زفاف العروس * بأهون من طعنك الدارعينا
فما الأشعري بواري الزناد * ولا خامل الذكر في الأشعرينا
ولكن أتيحت له حيلة * يظل الشجاع لها مستكينا
--------------------------- 532 ---------------------------
فقالوا وقلت وكنت امرءً * أرى الرفق بالخصم حتى يلينا
فخذها ابن هند على بأسها * فقد دافع الله ما تحذرونا
وقد دافع الله عن شامكم * عدواً شنياً وحرباً زبونا
قال : وشمتَ أهل الشام بأهل العراق . قال : فقام سعيد بن قيس الهمداني فقال : أما والله إن لو اجتمعتما على الهدى لما زدتمانا على ما نحن فيه . وإن ضلال عمرو بن العاص وأبي موسى ليس لنا بلازم ، وإننا اليوم على ما كنا بالأمس عليه . قال : وتكلم أصحاب علي مثل كلام سعيد بن قيس .
وأما الأشعث بن قيس فسكت ولم ينطق ، فقال له الأشتر : أما والله يا أشعث ! إني لأعلم أنك راض بهذا الحكم ، قال : فغضب الأشعث ثم أنشأ :
ألا ليت من يرضى من الناس كلهم * بعمرو وعبد الله في لجة البحر
رضينا بحكم الله لا حكم غيره * وبالله رباً والنبيين والنذر
وبالأصلع الهادي علي إمامنا * رضينا بذاك الشيخ في العسر واليسر
فمن قال لا قلنا بلى إن أمره * لأفضل ما يعطاه في ليلة القدر
وما لابن هند بيعة في رقابنا * وما بيننا غير المثقفة السمر
وضرب يزيل الهام عن مستقره * وإني عليه آخر الدهر من عمري
رضينا به حياً وميتاً لأنه * إمام هدى في الوقف والنهي والأمر
قال : وبلغ ذلك علياً فقال : أما أنا قد أخبرتكم الأمر قبل أن يكون ، وقد جهدنا أن يكون الحكم غير أبي موسى ، فأبيتم عليَّ وجئتموني به مبرنساً وقلتم : قد رضينا به فاتبعت رأيكم ! والآن فلا سبيل إلى حرب القوم إلى انقضاء المدة التي كانت بيننا وبينهم . قال : فعندها رجعت أهل العراق إلى عراقهم ، وهم عازمون على معاودة الحرب إذا انقضت المدة ، ورجع أهل الشام إلى شامهم ، وهم على ذلك من أهل العراق . وصار أبو موسى الأشعري إلى مكة ، فأقام بها حياء من علي بن أبي طالب ) !
أقول : لا تصح نسبة هذه الأبيات إلى الأشعث ، ولعله وقع سقط في نسخة ابن الأعثم ، أو أخطأ الراوي لأن المؤرخين نسبوها إلى كردوس ، ونسب الحموي بعضها إلى الأعور
--------------------------- 533 ---------------------------
الشني . وقَسَم الأشتر بأن الأشعث راض قسمٌ صحيح .
نعم كان الأشعث مضطراً لإعلان عدم رضاه لأن الحيلة مفضوحة ، وجمهور كندة واليمانين غاضبون منها . فالصحيح أن الأشعث خنس ، كما قال نصر !
قال نصر / 547 : ( وتكلم الناس غير الأشعث بن قيس ، وتكلم كردوس بن هانئ ، فقال له سعيد بن قيس الهمداني : أما والله إني لأظنك أول راض بهذا الأمر يا أخا ربيعة ! فغضب كردوس فقال :
أيا ليت من يرضى من الناس كلهم * بعمرو وعبد الله في لجة البحر
رضينا بحكم الله لا حكم غيره * وبالله رباً والنبي وبالذكر
وبالأصلع الهادي عليٍّ إمامنا * رضينا بذاك الشيخ في العسر واليسر
رضينا به حياً وميتاً وإنه * إمام هدى في الحكم والنهي والأمر
فمن قال لا قلنا بلى إن أمره * لأفضل ما نعطاه في ليلة القدر
وما لابن هند بيعة في رقابنا * وما بيننا غير المثقفة السمر
وبيض تزيل الهام عن مستقره * وهيهات هيهات الولا آخر الدهر
أبت لي أشياخ الأراقم سُبَّةً * أُسَبُّ بها حتى أغيَّب في القبر ) .
التحكيم برواية الطبري
قال الطبري ( 4 / 52 ) : ( أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام يقول : إنك صاحب رسول الله ، وأنت أسن مني فتكلم وأتكلم ! فكان عمرو قد عوَّد أبا موسى أن يقدمه في كل شئ ، اغتره بذلك كله أن يقدمه فيبدأ بخلع علي ! قال فنظر في أمرهما وما اجتمعا عليه فأراده عمرو على معاوية فأبى ، وأراده على ابنه فأبى ، وأراد أبو موسى عمرواً على عبد الله بن عمر فأبى عليه ، فقال له عمرو : خبرني ما رأيك ؟ قال رأيي أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا ، فقال له عمرو : فإن الرأي ما رأيت ! فتقدم أبو موسى ليتكلم فقال له ابن عباس : ويحك والله إني لأظنه قد خدعك ، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك ، ثم تكلم
--------------------------- 534 ---------------------------
أنت بعده ، فإن عمراً رجل غادر ، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه ،
فإذا قمت في الناس خالفك ! وكان أبو موسى مغفلاً فقال له : إنا قد اتفقنا !
فتقدم أبو موسى فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نرأصلح لأمرها ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد جمع رأيي ورأي عمرو عليه ، وهو أن نخلع علياً ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم وإني قد خلعت علياً ومعاوية ، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً ! ثم تنحى .
وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه ، وأثبت صاحبي معاوية ! فإنه وليُّ عثمان بن عفان والطالب بدمه ، وأحق الناس بمقامه . فقال أبو موسى : مالك لا وفقك الله غدرتَ وفجرتَ ! إنما مثلك كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ! قال عمرو : إنما مثلك كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ! وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط ! وحمل على شريح ابن عمرو فضربه بالسوط ! وقام الناس فحجزوا بينهم ، وكان شريح بعد ذلك يقول : ماندمت على شئ ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف ، آتياً به الدهر ما أتى ) .
وقال الطبري ( 4 / 48 ) : ( وشهد جماعتهم تلك عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري ، وأبوجهم بن حذيفة العدوي ، والمغيرة بن شعبة الثقفي . قال أبو موسى : أما والله لئن استطعت لأحيين اسم عمر بن الخطاب ) .
التحكيم برواية المسعودي
قال في مروج الذهب ( 2 / 396 - 399 ) : ( وصى معاوية عمراً حين فارقه وقد ضم إليك رجل طويل اللسان قصيرالرأي ، فأخِّر الحزَّ وطبق المفصل ! قال أبو موسى : قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبداً ، وإن أهل الشام لا يحبون علياً أبداً ، فهلمّ نخلعهما جميعاً ونستخلف عبد الله بن عمر ؟ وكان عبد الله بن عمر على بنت أبي موسى !
--------------------------- 535 ---------------------------
قال عمرو : أيفعل ذلك عبد الله بن عمر ؟ قال أبو موسى : نعم إذا حَمَلَه الناس على ذلك فعل ، فعمد عمرو إلى كل ما مال إليه أبو موسى فصَوَّبه !
فقام أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ، ثم قال : أيها الناس : إنا قد نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولمِّ الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة ، خلعُنا علياً ومعاوية ، وقد خلعت علياً كما خلعت عمامتي هذه ، ثم أهْوى إلى عمامته فخلعها ، واستخلفنا رجلًا قد صحب رسول الله بنفسه ، وصحب أبوه النبي ، فبرَّزَ في سابقته وهو عبد الله بن عمر ، وأطراه ورغَّب الناس فيه ، ثم نزل .
فقام عمرو فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، ثم قال : أيها الناس ، إن أبا موسى عبد الله بن قيس قد خلع علياً وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب وهو أعلم به ، ألا وإني قد خلعت علياً معه ، وأثبتُّ معاوية عليَّ وعليكم ، وإن أبا موسى قد كتب في الصحيفة أن عثمان قد قتل مظلوماً شهيداً وإن لوليه سلطاناً أن يطلب بدمه حيث كان ، وقد صحب معاوية رسول الله بنفسه ، وصحب أبوه النبي . وقال : هو الخليفة علينا ، وله طاعتنا وبيعتنا على الطلب بدم عثمان .
فقال أبو موسى : كذب عمرو لم نستخلف معاوية ، ولكنا خلعنا معاوية وعلياً معاً ، فقال عمرو : بل كذب عبد الله بن قيس ، قد خلع علياً ولم أخلع معاوية . قال المسعودي : ووجدت في وجه آخر : فقال أبو موسى : إني قد خلعت علياً ومعاوية فاستقبلوا أمركم ، وتنحَّى .
وقام عمرو مكانه فقال : إن هذا قد خلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه ، وأثبت صاحبي معاوية . فقال أبو موسى : مالك لا وفقك الله ، غدَرْت وفجَرْت ! إنما مثلك إنما مثلك كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ! فقال له عمرو : بل إياك يلعن الله ، كذبت وغدرت ! إنما مثلك كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ . ثم وكز أبا موسى فألقاه لجنبه ! فلما رأى ذلك شريح بن هانئ قنَّع عمراً بالسوط !
وانخزل أبو موسى فاستوى على راحلته ولحق بمكة ، وآلى أن لا ينظر إلى وجه
--------------------------- 536 ---------------------------
علي ما بقي ! وفي فعل الحكمين يقول أيمن بن خزيم بن فاتك :
لو كان للقوم رأي يعصمون به * عند الخطوب رَمَوْكم بابن عباس
لكن رموكم بوَغدٍ من ذوي يمن * لم يدر ما ضَرْبُ أخماس لأسداس ) .
من شيطنات الأمويين في محكمة التحكيم !
افتخر عبد الرحمن بن خالد بشيطنته ليمنع ابن عباس أن يسمع كلام عمرو وأبي موسى في جلسة صدورالحكم ، وخلع أبي موسى علياً ( عليه السلام ) !
وقال إن عتبة بن أبي سفيان كلفه بذلك ، وكان عبد الرحمن يفتخر بعمله ! وقد رواه ابن عساكر في تاريخه ( 28 / 266 ) وأبو حيان التوحيدي في البصائر ( 9 / 221 ) وثعلب في مجالسه / 81 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ( 2 / 261 ) !
( قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد : حضرت الحكومة ، فلما كان يوم الفصل جاء عبد الله بن عباس فقعد إلى جانب أبي موسى وقد نشر أذنيه حتى كاد أن ينطق بهما ، فعلمت أن الأمر لا يتم لنا ما دام هناك ، وأنه سيفسد على عمرو حيلته ، فأعملت المكيدة في أمره فجئت حتى قعدت عنده ، وقد شرع عمرو وأبو موسى في الكلام ، فكلمت ابن عباس كلمة استطعمته جوابها فلم يجب ، فكلمته أخرى فلم يجب ، فكلمته ثالثه فقال : إني لفي شغل عن حوارك الآن ، فجبهته وقلت : يا بني هاشم لاتتركون بأوكم وكبركم أبداً ! أما والله لولا مكان النبوة لكان لي ولك شأن !
قال : فحمي وغضب واضطرب فكره ورأيه وأسمعني كلاماً يسوء سماعه فأعرضت عنه ، وقمت فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص فقلت : قد كفيتك التقوالة ، إني قد شغلت باله بما دار بيني وبينه ، فأحكم أنت أمرك ، قال : فذهل والله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين ، حتى قام أبو موسى ، فخلع علياً ) !
وفي رواية ثعلب : أن عتبة قال له : ( يا أخي أما ترى ابن عباس قد فتح عينيه ونشر أذنيه ، وغفلة أصحابه مجبورة بفطنته ، وهي ساعتنا الطولى فاكفنيه .
وفي رواية : وارتفعت أصواتنا فأخذوا بأيدينا فنحوه عني ونحوني عنه ، وفات ابن عباس أول الكلام !
--------------------------- 537 ---------------------------
وفي رواية : فقربت من عمرو بن العاص فرماني بمؤخر عينه أي : ما صنعت فقلت له كفيتك التقوالة ! قال : فحمحم كما يحمحم الفرس للشعير ) .
وأخيراً استحكمت العداوة بين معاوية وعمرو
فقد عزل معاوية عمرواً عن مصر ، فكتب له ( مناقب آل أبي طالب ( 2 / 367 ) : وفي رواية أنه طلب منه خراج مصر ، واشتهرت قصيدته باسم الجلجلية لقوله في آخرها : وفي عنقي علق الجلجل . قال الأميني في الغدير ( 2 / 117 ) : ( توجد منها نسختان في مجموعتين في المكتبة الخديوية بمصر ، كما في فهرستها المطبوع سنة 1307 ( 4 / 314 ) وروى جملة منها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ( 2 / 522 ) وقال : رأيتها بخط أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي المتوفى 502 . وقال الإسحاقي في لطايف أخبار الدول / 41 : كتب معاوية إلى عمرو بن العاص : إنه قد تردد كتابي إليك بطلب خراج مصر وأنت تمتنع وتدافع ، ولم تسيره ، فسيره إليَّ ، قولاً واحداً وطلباً جازماً ، والسلام . فكتب إليه عمرو بن العاص :
معاوية الفضل لا تنس لي * وعن منهج الحق لا تعدل
نسيت احتيالي في جلق * على أهلها يوم لبس الحلي ؟
وقد أقبلوا زمراً يهرعون * ويأتون كالبقر المهل .
ومنها أيضاً :
ولولاي كنت كمثل النساء * تعاف الخروج من المنزل
نسيت محاورة الأشعري * ونحن على دومة الجندل ؟
وألعقته عسلاً بارداً * وأمزجت ذلك بالحنظل
ولم تك والله من أهلها * ورب المقام ولم تكمل
وسيرت ذكرك في الخافقين * كسير الجنوب مع الشمأل
نصرناك من جهلنا يا بن هند * على البطل الأعظم الأفضل
وكنت ولن ترها في المنام * فزفت إليك ولا مهر لي
وحيث تركنا أعالي النفوس * نزلنا إلى أسفل الأرجل
--------------------------- 538 ---------------------------
وكم قد سمعنا من المصطفى * وصايا مخصصة في علي
وإن كان بينكما نسبة * فأين الحسام من المنجل !
وأين الثريا وأين الثرى * وأين معاوية من علي !
فلما سمع معاوية هذه الأبيات ، لم يتعرض له بعد ذلك ) .
وروى القمي في العقد النضيد / 122 ، عن رجاء بن حياة الكندي ، ملخصاً : ( أن عمرو بن العاص سأل معاوية حاجة كبُرَ عليه قضاؤها ، فقضاها لعمرو من ساعته ، فقال له عمرو : جزاك الله خيراً ، فما أعم إحسانك ، وأتمَّ برك يا أمير المؤمنين ! فقال له معاوية : لكنَّك لا تشكر إلاّ يسيراً من كثير ما اصطنعته إليك ، وخصصتك به دون غيرك ، فاعرف حقنا ولا تنكر فضلنا ! فتغير وجه عمرو ورفع من صوته وقال : فكرت في أصغر بذلي عندك فوجدته يعلو الأيادي التي ذكرتها ! فقال معاوية : وكيف ذلك ؟ قال : لأنّي طمست لك الشمس بالطين نهاراً ، والقمر بالعهن المنفوش ليلاً ، وأبطلت حقاً وحققتُ باطلاً ، حتى سحرتُ أعين الناظرين وآذان السامعين ، في إخفاء أودك وإطفاء نور غيرك ، فهل رأيت حقاً كان أحق من عليٍّ ! وهل رأيت باطلاً أبطل منك ! فكيف تمن عليَّ بإحسانك إلي ! وأنا فرشت لك الخلافة ، وشددت الخيبة ، وصرعت أعلم الناس وسيد العرب لك ، فإذا أنت في قُلّة الفخر والسلطان ينفذ قولك في القريب وخاتمك في البعيد ، وأنا أخاف على نفسي أن أموت بالمقت والخسران ولم يرحمني ربّي برحمته ! ثمّ بكى عمرو . فقال معاوية : يا عمرو ، ما تركت باباً مغلقاً إلاّ فتحته ، ولا وعاءً مشدوداً إلا حللته ، ولا خبئة إلا استخرجتها ، الويل لعدوك منك يا عمرو !
فقام معاوية فقال : إما أن تنهض وإما أن ننهض ، فدخل معاوية بيتاً وخرج عمرو وهو يقول : معاوية الخير لا تنسَ لي . . إلى آخر الأبيات ) .
- *
من هو أبو موسى الأشعري ؟
1 . هو عبد الله بن قيس بن سليم ، أسلم أيام فتح خيبر ، فقد كان أبو موسى الأشعري في اليمن ، ورأى سفينة جعفر بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وأصحابه تتجه من الحبشة إلى جدة ،
--------------------------- 539 ---------------------------
فحشرأبوموسى نفسه معهم وسمى نفسه مهاجراً ! قال : « [ كنا ] في ثلاثة وخمسين رجلاً من قومي فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً فوافقنا النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين افتتح خيبر » . ( صحيح بخاري : 5 / 79 ، وكررها بتفاوت في : 4 / 55 ، و 226 ) .
2 . وأبو موسى مغضوب عند أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وقد وصفوه بأنه : « سامري هذه الأمة » ! ( الخصال / 457 ) . قال الله تعالى في السامري : قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ . قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي . قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا . إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً .
وقد ورد عن الأئمة ( عليهم السلام ) أن أبا موسى الأشعري سامري هذه الأمة ، كالذي رواه الصدوق في الخصال / 458 ، عن أبي ذر من حديث : ( والسامري وهو أبو موسى عبد الله بن قيس ، لأنه قال كما قال سامري قوم موسى : لا مساس ، أي لا قتال . والأبتر ، وهو عمرو بن العاص ) .
وورد في ذمه أحاديث كالذي رواه الطوسي في أماليه / 725 ، والثقفي في الغارات ( 2 / 927 ) وابن أبي الحديد في شرح النهج ( 2 / 126 ) أن عقيل بن أبي طالب سأل معاوية : ( من هذا عن يمينك يا معاوية ؟ قال : هذا عمرو بن العاص ، قال : هذا الذي اختصم فيه ستة نفر ، فغلب عليه جزار قريش ! فمن هذا الآخر ؟ قال أبو موسى الأشعري ، قال : هذا ابن السراقة ) !
فقد كانت أم أبي موسى الأشعري تتردد إلى مكة ، وكانت سيئة الذكر !
3 . وشهد عمار بأن أبا موسى كان أحد الذين أرادوا اغتيال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ففي تاريخ دمشق ( 32 / 93 ) : « عن أبي نجاء حكيم قال : كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال : ما لي ولك ألست أخاك ؟ قال : ما أدري إلا أني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يلعنك ليلة الجبل ! قال : إنه قد استغفر لي ! قال عمار : قد شهدت
--------------------------- 540 ---------------------------
اللعن ولم أشهد الاستغفار » !
وشهد عليه حذيفة بأشد من شهادة عمار ، بأنه عدو لله ولرسوله ، وحرب لهما في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
وقد كره ابن عبد البر ( الإستيعاب : 3 / 979 ) ذكر شهادة حذيفة ! فقال ملخصاً :
( الصحيح أن أبا موسى رجع بعد قدومه مكة ومحالفة من حالف من بنى عبد شمس إلى بلاد قومه ، فأقام بها حتى قدم مع الأشعريين نحو خمسين رجلاً في سفينة ، فألقتهم الريح إلى النجاشي بأرض الحبشة ، فوافقوا خروج جعفر وأصحابه منها فأتوا معهم ، وقدمت السفينتان معاً : سفينة الأشعريين وسفينة جعفر وأصحابه على النبي ( صلى الله عليه وآله )
في حين فتح خيبر .
ولاه رسول الله مخاليف اليمن : زبيد وذواتها إلى الساحل ، وولاه عمر البصرة في حين عزل المغيرة عنها ، إلى صدر من حلافة عثمان ، فعزله عثمان عنها وولَّاها عبد الله بن عامر بن كريز ، فنزل أبو موسى حينئذ بالكوفة وسكنها ، فلما دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولَّوا أبا موسى ، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه ، فأقره عثمان على الكوفة ، وعزله علي ( رضي الله عنه ) عنها فلم يزل واجداً حتى جاء منه ما قال حذيفة فقد روى فيه لحذيفة كلام كرهت ذكره ! ثم كان من أمره يوم الحكمين ما كان ) .
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 13 / 314 ) : ( الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن
عبد البر ولم يذكره : قوله ( حذيفة ) فيه وقد ذكرعنده بالدين : أما أنتم فتقولون ذلك ، وأما أنا فأشهد أنه عدو لله ولرسوله ، وحرب لهما في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار . وكان حذيفة عارفاً بالمنافقين ، أسرَّ إليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرهم وأعلمه أسماءهم . وروي أن عماراً سئل عن أبي موسى فقال : لقد سمعت فيه من حذيفة قولاً عظيماً ، سمعته يقول صاحب البرنس الأسود ، ثم كلح كلوحاً علمت منه أنه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط !
4 . والبلاء موكل بالمنطق ، فقد روى أبو موسى نفسه حديث الحكمين الضالين ! قال في شرح النهج ( 13 / 314 ، واليعقوبي : 3 / 191 ، وغيره ) ( عن سويد بن غفلة قال : كنت مع
--------------------------- 541 ---------------------------
أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان ، فروى لي خبراً عن رسول الله قال سمعته يقول : إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالين ، ضلا وأضلا من اتبعهما ، ولا ينفك أمر أمتي حتى يبعثوا حكمين يضلان ، ويُضلان من تبعهما ) !
ثم قال : ( أما أبو موسى فإنه عظم جرمه بما فعله وأدى ذلك إلى الضرر الذي لم يخف حاله ، وكان علي ( عليه السلام ) يقنت عليه وعلى غيره فيقول : اللهم العن معاوية أولاً ، وعَمْراً ثانياً ، وأباالأعور السلمي ثالثاً ، وأبا موسى الأشعري رابعاً . روى عنه ( عليه السلام ) أنه كان يقول في أبي موسى : صُبغ بالعلم صبغاً ، وسُلخ منه سلخاً ) .
وروى المسعودي ( مروج الذهب : 2 / 392 ) أن أبا موسى حدث بهذا الحديث سويد بن غفلة ، ففهم منه سويد أنه تحذير من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأبي موسى ، فقال لأبي موسى : إياك ان أدركت ذلك الزمان أن تكون أحد الحكمين ، قال : أنا ؟ قال : نعم أنت ، قال : فكان يخلع قميصه ويقول : لاجعل الله لي إذاً في السماء مصعداً ولا في الأرض مقعداً ! فلقيه سويد بن غَفَلة بعد ذلك فقال : يا أبا موسى أتذكر مقالتك ؟ قال : سل ربك العافية ) !
5 . وتعجب ابن حجر ( لسان الميزان : 5 / 290 ) من قول حذيفة في أبي موسى ! ولاوجه لتعجبه ، بل العجب منه ومن أمثاله كيف يقرون بأن حذيفة موضع سر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنه خبير بالمنافقين ، ثم يردون شهادته في أبي موسى ، وأنه من أهل العقبة ، فالواجب قبول شهادته في الصحابة !
6 . كان أبو موسى يقول بتحريف القرآن بل يدعو قراء البصرة لتحريفه ! فقد روى مسلم ( 3 / 100 ) : ( بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاث مائة رجل قد قرأوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها ! غير أني قد حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب .
--------------------------- 542 ---------------------------
وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ) .
فهذا قول بالتحريف ودعوة اليه ، ولذا حرص حذيفة على مصادرة مصحفه .
قال ابن شبة في تاريخ المدينة ( 3 / 998 ) : ( عبد الأعلى بن الحكم الكلابي قال : أتيت دار أبي موسى الأشعري فإذا حذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري فوق إجار فقلت : هؤلاء والله الذين أريد فأخذت أرتقي لهم فإذا غلام على الدرجة فمنعني أن أرتقي إليهم فنازعته حتى التفت إلى بعضهم فأتيتهم حتى جلست إليهم ، فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان فأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه فقال أبو موسى : ماوجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها ، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه فيه ! فقال حذيفة : فكيف بما صنعنا . وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان أن يجمع المصاحف على مصحف واحد ) .
والظاهر أن آية أبي موسى في تأييد الدين بالفجار ، كتبها في مصحفه ، تنظيراً لسياسة عمر بإعطاء مناصب الدولة إلى المنافقين والفساق ! وعزل عمال النبي ‘ ، ومنع توظيف أحد من بنسي هاشم !
7 . روت المصادر تشاتم أبي موسى وعمرو العاص ، وافتخار عمرو بذكائه وحيلته معه ، وفَرَح معاوية بذبك ، وأخذه البيعة بالخلافة من أهل الشام . وأجوبة أهل العراق لهم . ونحن نختار من ذلك نماذج يتسع لها المجال :
قال نصر / 548 : ( فتشاتم عمرو وأبو موسى من ليلته ، فقال ابن عم لأبي موسى :
أبا موسى خُدعت وكنت شيخاً * قريب القعر مدهوش الجنان
رمى عمرو صَفَاتك يا ابن قيس * بأمر لا تنوء به اليدان
فعُضَّ الكفَّ من ندم وماذا * يرد عليك عضك بالبنان
وشمت أهل الشام بأهل العراق ، وقال كعب بن جعيل ، شاعر معاوية :
كأن أبا موسى عشية أَذْرُحٍ * يطوف بلقمان الحكيم يُواربُه
فلما تلاقوا في تراث محمد * نمت بابن هند في قريش مضاربه
فرد ابن هند ملكه في نصابه * ومن غالب الأقدار فالله غالبه
--------------------------- 543 ---------------------------
فهذاك ملك الشام وافٍ سنامه * وهذاك ملك القوم قد جُبَّ غاربه
يحاول عبد الله عمراً وإنه * ليضرب في بحر عريض مذاهبه
دحا دحوةً في صدره فهوت به * إلى أسفل المهوى ظنون كواذبه
فرد عليه رجل من أصحاب علي ( عليه السلام ) فقال :
غدرتم وكان الغدر منكم سجية * فما ضرنا غدر اللئيم وصاحبه
وسميتم شر البرية مؤمناً * كذبتم فشر الناس للناس كاذبه
وقال عمرو بن العاص حين خَدَع أبا موسى :
خدعتُ أبا موسى خديعة شَيْظَمٍ * يخادع سقباً في فلاة من الأرض
فقلت له إنا كرهنا كليهما * فنخلعهما قبل التلاتل والدحض
فطاوعني حتى خلعت أخاهم * وصار أخونا مستقيماً لدى القبض
وإن ابن حرب غير معطيهمُ الولا * ولا الهاشميُّ الدهرَ أو يربع الحمض
فرد عليه ابن عباس فقال :
كذبت ولكن مثلك اليوم فاسقٌ * على أمركم يبغي لنا الشر والعزلا
وتزعم أن الأمر منك خديعة * إليه وكل القول في شأنكم فضلا
وأنتم ورب البيت أخبث من مشى * على الأرض ذا نعلين أو حافياً رِجْلا
غدرتم وكان الغدر منكم سجية * كأن لم يكن حرثاً ولم يكن نسلا ) .
موقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من حكم الحكمين
فرح معاوية وجماعته بمكيدتهم وإجبارهم علياً ( عليه السلام ) على التحكيم ، وزعموا أن الحكمين حكما بكتاب الله تعالى ، وبدأ بأخذ البيعة لنفسه بالخلافة !
ولم يقبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأهل العراق نتيجة هذه المكيدة المكشوفة ، التي دبرها معاوية وعمرو العاص ، وكان في العراق عامة المهاجرين والأنصار وأجلاء المسلمين ، فتمسكوا بخلافة علي ( عليه السلام ) وجهاد معاوية .
واستثمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) غضب المسلمين فدعاهم إلى حرب معاوية ، وتحرك إلى معسكر الكوفة ، وبدأت استجابة الناس وتجمعهم في النخيلة .
--------------------------- 544 ---------------------------
خطبته ( عليه السلام ) بعد التحكيم
قال ( عليه السلام ) : ( الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس معه إله غيره ، وأن محمداً عبده ورسوله . أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب ، تورث الحسرة ، وتعقب الندامة .
وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ، ونخلت لكم مخزون رأيي ، لو كان يطاع لقصير أمر ، فأبيتم عليَّ إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة ! حتى ارتاب الناصح بنصحه ، وضن الزند بقدحه ، فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن :
أمرتكم أمري بمُنْعَرج اللِّوى * فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد ) !
( نهج البلاغة : 1 / 84 ) .
وقال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 2 / 96 ) : ( فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين ، فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن ولا يجاوزاه ، وتكون ألسنتهما معه وقلوبهما تبعه . فتاها عنه وتركا الحق وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، والاعوجاج دأبهما ، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل والعمل بالحق ، سوء رأيهما وجور حكمهما ، والثقة في أيدينا لأنفسنا حين خالفا سبيل الحق ، وأتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم ) .
نهيتكم عنها فأبيتم إلا عصياني !
قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 402 ) : ( ولما بلغ علياً ما كان من أمر أبي موسى وعمرو ، قال : إني كنت تقدمت إليكم في هذه الحكومة ونهيتكم عنها فأبيتم إلا عصياني ، فكيف رأيتم عاقبة أمركم إذا أبيتم علي ؟ والله إني لأعرف من حملكم على خلافي والترك لأمري ، ولو أشاء أخذه لفعلت ، ولكن الله من ورائه ، يريد بذلك الأشعث بن قيس والله أعلم .
ألا إن هذين الرجلين الخاطئين اللذين اخترتموهما حكمين ، قد تركا حكم الله ، وحكما بهوى أنفسهما بغير حجة ولا حق معروف ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أماته ، واختلف في حكمهما كلامهما ، ولم يرشدهما الله ولم يوفقهما ، فبرئ الله منهما
--------------------------- 545 ---------------------------
ورسوله وصالح المؤمنين ، فتأهبوا للجهاد واستعدوا للمسير ، وأصبحوا في عساكركم ، إن شاء الله تعالى .
قال المسعودي : وقد اختلفت الفرق من أهل ملتنا في الحكَمين ، وقالوا في ذلك أقاويل كثيرة ، وقد أتينا على ما ذهبوا اليه في ذلك وما قاله كل فريق منهم ، ومن أيد قوله من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم من فرق هذه الأمة ، في كتابنا في المقالات في أصول الديانات . وذكرنا في كتاب أخبار الزمان ، قول علي في مواقفه وخطبه وما قاله في ذلك وما أكره عليه ، وتأنيبه لهم بعد الحكومة ، وما تقدم الحكومة من تحذيره إياهم منها حين ألحوا في تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو ، وحيث قال : ألا إن القوم قد اختاروا لأنفسهم أقرب الناس مما يحبون ، واخترتم لأنفسكم أقرب الناس مما تكرهون ، إنما عهدكم بعبد الله بن قيس بالأمس وهو يقول : ألا إنها فتنة فقطِّعوا فيها أوتاركم وكسروا قسيَّكم ! فإن يك صادقاً فقد أخطأ في مسيره غير مستكره عليه ، وإن يك كاذباً فقد لزمته التهمة . وهذا كلام أبي موسى في تخذيله الناسَ وتحريضهم على الجلوس ، وتثبيطهم عن أمير المؤمنين علي في حروبه ومسيره إلى الجمل وغيره .
ثم ما قاله في بعض مقاماته في معاتبته لقريش ، وقد بلغه عن أناس منهم ممن قعد عن بيعته ونافق في خلافته كلام كثير ، فقال : وقد زعمت قريش أن ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحروب ، ترِبَت أيديهم ! وهل فيهم أشد مِراساً لها مني ؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد أربيت على نيف وستين ، ولكن لا رأيَ لمن
لا يُطاع ) .
أشد حملات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على الأشعث !
في نهج البلاغة ( 1 / 233 ) : ( من كلامه ( عليه السلام ) وقد قام إليه رجل فقال : نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها ، فما ندري أيُّ الأمرين أرشد ! فصفق ( عليه السلام ) إحدى يديه على الأخرى ثم قال : هذا جزاء من ترك العقدة ! أما والله لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً ، فإن استقمتم هديتكم ،
--------------------------- 546 ---------------------------
وإن اعوججتم قومتكم ، وإن أبيتم تداركتكم ، لكانت الوثقى ، ولكن بمن وإلى من ؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي ، كناقش الشوكة بالشوكة ، وهو يعلم أن ضَلَعَها معها . اللهم قد ملَّت أطباء هذا الداء الدويّ ، وكلَّت النزعة بأشطان الركيّ .
أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه ، وقرأوا القرآن فأحكموه ، وهيجوا إلى القتال فولهوا وَلَهَ اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً وصفاً صفاً ؟
بعضٌ هلك ، وبعضٌ نجا ، لا يبشرون بالأحياء ، ولايعزون عن الموتى ! مُرْهُ العيون من البكاء ، خُمصُ البطون من الصيام ، ذُبْلُ الشفاه من الدعاء ، صُفْرُ الألوان من السهر ! على وجوههم غُبْرةُ الخاشعين . أولئك إخواني الذاهبون ، فحقٌّ لنا أن نظمأ إليهم ، ونعض الأيدي على فراقهم !
إن الشيطان يُسْني لكم طرقه ، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة الفرقة ، فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته ، واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم ، واعقلوها على أنفسكم ) .
قال في شرح النهج ( 1 / 296 ) : ( مراده ( عليه السلام ) هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي والحزم وأصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم . فظن الأشعث أنه أراد : هذا جزائي حيث تركت الرأي والحزم وحكَّمت . فقال له : هذه عليك لا لك ) !
( فخفض ( عليه السلام ) إليه بصره فقال : ما يدريك ما عليَّ مما لي ! عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين ! حائك بن حائك ، منافق بن كافر ! والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى ، فما فداك من واحدة منهما مالك ولاحسبك ! وإن امرأً دلَّ على قومه السيف ، وساق إليهم الحتف ، لحريٌّ أن يمقته الأقرب ، ولا يأمنه الأبعد ) .
ملاحظة
قصده ( عليه السلام ) : أن الأشعث سلم قومه المحاصرين في حصن النجير بحضرموت فدل عليهم السيف ، وقومه الذين انهزم بهم في صفين فدل عليهم السيف ، وقومه في العراق الذين تآمر عليهم برفع المصاحف ، وسلمهم بيد معاوية !
--------------------------- 547 ---------------------------
ولم يكن ممكناً أن يواجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الأشعث بمثل هذا الكلام قبل انكشاف مؤامرته في رفع المصاحف ، وظهور نتيجتها للعراقيين ، ومنهم الكنديون ، وكان أكثرهم متعصبين للأشعث .
لكن الأشعث بعد التحكيم انخذل أمام هجوم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ثم انخزل في بيته ! ومع ذلك واصل مكائده مع معاوية حتى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) !
وقد يقال : لماذا لم يواصل الإمام ( عليه السلام ) مداراته للأشعث كفعله في صفين وقبلها ؟
والجواب : أن الظرف اختلف ، وهدف الأشعث انكشف ، فصار اللازم فضحه أمام المسلمين وأمام قومه ، حتى لو دفعه ذلك إلى مزيد العداء !
لما أكثر الناس في الكلام عن الحكمين
روى في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 373 ) عن الرعيني قال : ( لما انصرف الناس من صفين خاض الناس في أمر الحكمين ، فقال بعض الناس : ما يمنع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من أن يأمر بعض أهل بيته فيتكلم ؟ فقال للحسن : قم يا حسن فقل في هذين الرجلين ، عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص .
فقام الحسن ( عليه السلام ) فقال : أيها الناس إنكم قد أكثرتم في أمر عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص ، فإنما بعثا ليحكما بكتاب الله ، فحكما بالهوى على الكتاب ! ومن كان هكذا لم يسم حكماً ولكنه محكوم عليه .
وقد أخطأ عبد الله بن قيس في أن أوصى إلى عبد الله بن عمر فأخطأ في ذلك في ثلاث خصال : في أن أباه لم يرضه لها ، وفي أنه لم يستأمره ، وفي أنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين نفذوها لمن بعده . وإنما الحكومة فرض من الله تعالى ، وقد حكَّم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سعداً في بني قريظة فحكم فيهم بحكم الله لا شك فيه ، فنفذ رسول الله حكمه ، ولو خالف ذلك لم يُجِزْهُ .
ثم جلس . ثم قال علي ( عليه السلام ) لعبد الله بن العباس : قم فتكلم ، فقام وقال :
أيها الناس إن للحق أهلاً أصابوه بالتوفيق ، والناس بين راض وراغب عنه ، وإنما بعث عبد الله بن قيس لهدى إلى ضلالة وبعث عمرو بن العاص لضلالة
--------------------------- 548 ---------------------------
إلى الهدى ، فلما التقيا رجع عبد الله عن هداه وثبت عمرو على ضلالته ، والله لئن حكما بالكتاب لقد حكما عليه ، وإن كانا حكما بما اجتمعا عليه معاً ، ما اجتمعا على شئ ، وإن كانا حكماً بما سارا إليه ، لقد سار عبد الله وإمامه علي ، وسار عمرو وإمامه معاوية ، فما بعد هذا من عيب ينتظر ، ولكنهم سئموا الحرب وأحبوا البقاء ودفعوا البلاء ، ورجا كل قوم صاحبهم . ثم جلس . ثم قال ( عليه السلام ) لعبد الله بن جعفر : قم فتكلم ، فقام عبد الله وقال : أيها الناس : إن هذا الأمر كان النظر فيه إلى علي والرضا فيه لغيره ، فجئتم بعبد الله بن قيس ، فقلتم لا نرضى إلا بهذا ، فارض به فإنه رضانا ، وأيم الله ما استفدناه علماً ، ولا انتظرنا منه غائباً ، ولا أملنا ضعفه ، ولا رجونا به صاحبه ، ولا أفسدا بما عملا للعراق ، ولا أصلحا الشام ، ولا أماتا حق علي ، ولا أحييا باطل معاوية ، ولا يذهب الحق رقية راق ، ولا نفخة شيطان ، وإنا اليوم لعلى ما كنا عليه بالأمس . وجلس ) .
- *
أهم إنجازات علي ( عليه السلام ) في خلافته
1 . أول إنجاز برأيه ( عليه السلام ) تكذيب قريش في قولها إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حرم الخلافة على بني هاشم ، وقد وضعوا على لسانه حديثاً وشهد به كبارهم : ( قال أبو بكر : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة . فقال علي ( عليه السلام ) : أمَا أحد من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شهد هذا معك ؟ قال عمر : صدق خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قد سمعنا منه هذا كما قال ، وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل : صدق ، قد سمعنا ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) . ( الإحتجاج : 1 / 108 ) .
وقال العباس لعلي ( عليه السلام ) يوم الشورى : ( إن عمر قد كتب اسمك في الشورى وجعلك آخر القوم ، وهم يخرجونك منها ، فأطعني ولا تدخل في الشورى . فقال له علي : يا عم إنه قد خفي عليك أمر ، أردت أن يكذب نفسه بلسانه ، فيعلم الناس أن قوله بالأمس كان كذباً باطلاً ، وأنا نصلح للخلافة . فسكت العباس » . ( علل الشرايع : 1 / 203 ) .
--------------------------- 549 ---------------------------
2 . كشف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بسياسته أنظمة الحكم قبله ، وأنها قامت على العصبة القبلية ، ولم تقم على نص شرعي ، ولاطبقت في سياساتها شريعة الإسلام . بل كان الحكم فيها والقوانين حسب هوى الحاكم .
3 . وكشف معاويةَ في احتجاجه عليه ، وحربه معه ، وسلمه . فكانت خطبه ورسائله إلى معاوية شواهد ناطقة على حق علي ( عليه السلام ) وانحراف معاوية . وكان قبوله بتحكيم القرآن شاهداً آخر ، وكشف بقبوله بأبي موسى الأشعري وهو عدو غبي ، أن يكون ممثلاً له في التحكيم ، شيطنة عمرو العاص ومعاوية ، وأنهما محتالان ، لايريدان القرآن ولا الحق ولا المنطق !
4 . أتم الحجة على الأمة وأخبرهم بأن تعبهم من القتال وتركهم جهاد معاوية ، سيكلفهم الكثيرالكثير ، من الإذلال والدماء والدمار !
5 . قاتل على تأويل القرآن كما أمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجسد للأمة العهد النبوي ، والوجه الآخر للإسلام ، فثبت هذا الخط في تاريخ الأمة وأثر في مستقبلها .
- *
موضوعات المجلد الخامس من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام )
بقي من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ظهور الخوارج بعد التحكيم .
وغزو معاوية لمصر ، وشهادة محمد بن أبي بكر ومالك الأشتر .
وغارات معاوية على أطراف العراق ، وعلى الحجاز واليمن .
وشهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بمؤامرة معاوية والخوارج .
وهي موضوعات المجلد الخامس والأخير من سيرته ، صلوات الله عليه .
- *
--------------------------- 550 ---------------------------
.
--------------------------- 551 ---------------------------
.
--------------------------- 552 ---------------------------
.
--------------------------- 553 ---------------------------
.
--------------------------- 554 ---------------------------
.
--------------------------- 555 ---------------------------
.
--------------------------- 556 ---------------------------
.
--------------------------- 557 ---------------------------
.
--------------------------- 558 ---------------------------
.
--------------------------- 559 ---------------------------
.
--------------------------- 560 ---------------------------
.
--------------------------- الغلاف 2 ---------------------------
يتضمن هذا المجلد نقل الإمام عليه السلام عاصمة الإسلام إلى الكوفة ، وبيان عراقة الكوفة من عهد آدم ونوح وإبراهيم عليهم السلام . وتحقيقه العدالة ، واستعداده لحرب معاوية ، والمراسلات بينهما ، وحركته إلى صفين .
وأحداث معركة صفين ، وإجبار الخوارج له على قبول التحكيم . ثم عودته إلى الكوفة ، وأخبار التحكيم في محكمة دومة الجندل ، وخيانة الحكمين !
دار المعروف
للطباعة والنشر
إيران - قم - شارع مصلى القدس - رقم 682
تلفون : 2532939140 ( 0 ) 0098