سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام - ج 2
--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
سلسلة جواهر التاريخ
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
في عهد أبي بكر وعمر وعثمان إلى بيعته بالخلافة
علي الكوراني العاملي
المجلد الثاني
طبعة مزيدة ومنقحة
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
في عهد أبي بكر وعمر وعثمان إلى بيعته بالخلافة
علي الكوراني العاملي
المجلد الثاني
الطبعة الأولى
1439 - 2018
دار المعروف
--------------------------- 4 ---------------------------
سر شناسه ، كورانى ، على ، 1944 - م . / Kurani Ali
عنوان ونام پديد آور : سيره أمير المؤمنين ( ع ) / على الكوراني العاملي .
مشخصات نشر : قم : دار النشر المعروف ، 1438 ق . = 2017 م . = 1396 - مشخصات ظاهري : ج .
شابك : 978 - 600 - 8916 - 03 - 1 ج 2
وضعيت فهرست نويسى : فيپا
يادداشت : عربى .
مندرجات : ج . 3 . في عهد أبي بكر وعمر وعثمان إلى بيعته بالخلافة
موضوع : علي بن أبي طالب ( ع ) ، امام أول ، 23 قبل از هجرت - 40 ق .
موضوع : 600 - 661 ، Ali ibn abi - Talib , Imam I
رده بندى كنگره : 1396 9 س 85 ك / 37 BP
رده بندى ديويى : 297 / 951
شماره كتابشناسى ملى : 4992656
سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
في عهد أبي بكر وعمر وعثمان إلى بيعته بالخلافة
المؤلف : علي الكوراني
الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
الطبعة : الأولى .
تاريخ النشر : ربيع الثاني 1439 - 2018 Jan
المطبعة : باقري - قم المقدسة .
عدد المطبوع : 3000 نسخة .
شابك : 978 - 600 - 8916 - 03 - 1
دار المعروف
للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 37156 - 158 تلفون : 00982532926175
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www . maroof . org
Email : nashremaroof @ gmail . com
--------------------------- 5 ---------------------------
الفصل الثاني والثلاثون: أدار علي ( عليهم السلام ) معركة نهاوند وحقق النصر
علي ( عليه السلام ) يواجه كبرياء الأكاسرة في نهاوند
تصاعد غضب الفرس وتحشيدهم لحرب المسلمين ، فقد كانت قواتهم في النمارق بضعة آلاف ، وزادت في معركة الجسر ، وكان بعدد المسلمين تقريباً ، لكن المسلمين أخطأوا فعبروا النهراليهم إلى منطقة ضيقة ، فحصرهم الفرس وقتلوا منهم نحو أربعة آلاف ! ثم أعد المثنى لمعركة البويب قرب الحلة فاقتص ليوم الجسروهزم المسلمون الفرس هزيمة كبيرة ، وأكثروا فيهم القتل ، وقيل قتل منهم عشرات الألوف ! ثم كان أكبر تحشيد للفرس في القادسية ، فقيل بلغ عددهم ستين ألفاً . قال الطبري ( 3 / 22 ) : « فبعث ( رستم ) مقدمته أربعين ألفاً ، وخرج في ستين ألفاً ، وساقته في عشرين ألفاً » .
ثم حشدوا أكثر من ذلك نجدةً ليزدجرد في المدائن ، لكن المسلمين فتحوها قبل تكامل وصول جيوشهم إليها ، فتجمعوا في جلولاء ، وقيل كان عددهم ثمانين ألفاً .
قال ابن الأعثم ( 1 / 210 ) : « واجتمعت الفرس بجلولاء في ثمانين ألف فارس . . وصار المسلمون بجلولاء في أربعة وعشرين ألفاً ويزيدون » .
ورويَ أن المسلمين كانوا اثني عشر ألفاً . ( الطبري : 3 / 134 ) .
أما في معركة تستر فلم تكن قوات الفرس كثيرة ، لكن تحصنهم كان قوياً ، حتى دلَّ المسلمين رجل فارسي على مدخل إلى المدينة ، من النهر المحيط بها .
ثم كان أكبر تحشيد للفرس في نهاوند ، وقد بلغ مئة وخمسين ألفاً ، وكان هدفه استرجاع العراق ، وغزو المدينة لاستئصال الإسلام والمسلمين !
--------------------------- 6 ---------------------------
قال الطبري ( 3 / 209 ) : « فتوافوا إلى نهاوند ، فتوافى إليها من بين خراسان إلى حلوان ومن بين الباب إلى حلوان ، ومن سجستان إلى حلوان ، فاجتمعت حلبة فارس والفهلوج أهل الجبال من بين الباب إلى حلوان ثلاثون ألف مقاتل ، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألف مقاتل ، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألف مقاتل ، واجتمعوا على الفيرزان » .
قال ابن الأعثم ( 2 / 289 ) : « فاجتمع أهل الري وسمنان والدامغان وما والاها بنهاوند في عشرين ألفاً ، وأهل ساوه وهمذان في عشرة آلاف ، وأهل نهاوند خاصة في عشرة آلاف ، وأهل قم وقاشان في عشرين ألفاً ، وأهل أصفهان في عشرين ألفاً ، وأهل فارس وكرمان في أربعين ألفاً .
قال : ثم بعثوا إلى أذربيجان يستمدونهم إلى حرب العرب ، فأقبل إليهم أهل أذربيجان في ثلاثين ألفاً ، فذلك خمسون ألفاً ومائة ألف ، ما بين فارس وراجل ، من المرازبة والأساورة والأبطال المعدودين المذكورين في كل بلد من أرض الفرس .
ثم إنهم جمعوا نيفاً وسبعين فيلاً يريدون التهويل على خيول المسلمين ، ثم أقبل بعضهم على بعض فقالوا : إن ملك العرب الذي جاءهم بهذا الكتاب ، وأقام لهم هذا الدين قد هلك ، يعنون بذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإنه قد ملكهم من بعده رجل يكنى أبا بكر ، فملك ملكاً يسيراً وهلك ، وإنا نرى صاحبهم هذا عمر ، قد طال عمره ودام ملكه وعلا أمره ، قد اجتمعتم من كل بلد وليس فيكم إلارماة الحدق وأحلاس السيوف والدرق ، فتعالوا بنا حتى ننفي مَن بقربنا من جيوش العرب ، ثم نسير إليهم في ديارهم ، فنستأصلهم عن جديد الأرض ! فإنا إن لم نفعل ذلك ساروا إلينا فأخرجونا عن جميع بلادنا وأنزلوا بنا من الذل والصغار ما أنزلوه بأهل القادسية والمدائن وجلولاء وخانقين ، وما أنزلوه بأهل الأهواز وتستر ومناذر ورامهرمز ، وما أنزلوه بأهل الشام ، قبل ذلك .
قال : فتعاقدوا على أمرهم وتعاهدوا وعزموا على جهاد المسلمين ، وبلغ ذلك أهل الكوفة ، فاجتمعوا إلى أميرهم عمار بن ياسر فقالوا : أيها الأمير ، هل بلغك ما كان من
--------------------------- 7 ---------------------------
جموع هؤلاء الأعاجم بأرض نهاوند ؟ قال عمار : قد بلغني ذلك فهاتوا ما عندكم من الرأي ! فقالوا : الرأي في ذلك أن نكتب إلى أمير المؤمنين ونعلمه بذلك ، قبل أن يسيرعدونا إلى ما قبلنا . قال عمار : أفعل ذلك إن شاء الله تعالى .
ذكر كتاب عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمار بن ياسر ، سلام عليك ! أما بعد فإن ذا السطوات والنقمات المنتقم من أعدائه ، المنعم على أوليائه ، هو الناصرلأهل طاعته على أهل الإنكار والجحود من أهل عداوته .
ومما حدث يا أمير المؤمنين أن أهل الري وسمنان وساوه وهمذان ونهاوند وأصفهان وقم وقاشان وراوند واسفندهان وفارس وكرمان وضواحي أذربيجان ، قد اجتمعوا بأرض نهاوند في خمسين ومائة ألف من فارس وراجل من الكفار ، وقد كانوا أمروا عليهم أربعة من ملوك الأعاجم ، هم : ذو الحاجب خرزاد بن هرمز ، وسنفاد بن حشروا ، وخهانيل بن فيروز ، وشروميان بن اسفنديار ، وأنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا ، وتحالفوا وتكاتبوا ، وتواصوا وتواثقوا على أنهم يخرجوننا من أرضنا ، ويأتونكم من بعدنا .
وهم جمع عتيد ، وبأس شديد ، ودواب فره ، وسلاح شاك ، ويَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، فإني أخبرك يا أمير المؤمنين أنهم قد قتلوا كل من كان منا في مدنهم ، وقد تقاربوا مما كنا فتحناه من أرضهم ، وقد عزموا أن يقصدوا المدائن ، ويصيروا منها إلى الكوفة ، وقد والله هالنا ذلك وما أتانا من أمرهم وخبرهم ، وكتبت هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ليكون هو الذي يرشدنا ، وعلى الأمور يدلنا ، والله الموفق الصانع بحوله وقوته ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، فرأي أمير المؤمنين أسعده الله فيما كتبته . والسلام .
قال : فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب وقرأه وفهم ما فيه وقعت عليه الرعدة والنفضة ، حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه !
ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد وجعل ينادي : أين المهاجرون
--------------------------- 8 ---------------------------
والأنصار ألا فاجتمعوا رحمكم الله ، وأعينوني أعانكم الله ! قال : فأقبل إليه الناس من كل جانب ، حتى إذا علم أن الناس قد اجتمعوا وتكاملوا في المسجد ، وثب إلى منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاستوى عليه قائماً ، وإنه ليرعد من شدة غضبه على الفرس ، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ، وصلى على نبيه محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أيها الناس : هذا يوم غم وحزن ! فاستمعوا ما ورد عليَّ من العراق .
فقالوا : وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إن الفرس أمم مختلفة أسماؤها وملوكها وأهواؤها وقد نفخهم الشيطان نفخة فتحزبوا علينا ، وقتلوا من في أرضهم من رجالنا ، وهذا كتاب عمار بن ياسرمن الكوفة ، يخبرني بأنهم قد اجتمعوا بأرض نهاوند في خمسين ومائة ألف ، وقد سربوا عسكرهم إلى حلوان وخانقين وجلولاء ، وليست لهم همة إلا المدائن والكوفة ، ولئن وصلوا إلى ذلك ، فإنها بلية على الإسلام وثلمة لا تسد أبداً ، وهذا يوم له ما بعده من الأيام . فالله الله يا معشر المسلمين ، أشيروا عليَّ رحمكم الله ، فإني قد رأيت رأياً غير أني أحب أن لا أقدم عليه إلا بمشورة منكم ، لأنكم شركائي في المحبوب والمكروه !
قال : وكان أول من وثب على عمر بن الخطاب وتكلم طلحة بن عبيد الله فقال : يا أمير المؤمنين إنك بحمد الله رجل قد حنكته الدهور وأحكمته الأمور وراضته التجارب في جميع المقانب ، فلم ينكشف لك رأي إلا عن رضى ، وأنت مبارك الأمر ميمون النقيبة فنفذنا ننفذ ، واحملنا نركب ، وادعنا نجب .
قال : ثم وثب الزبير بن العوام فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الله تبارك وتعالى قد جعلك عزاً للدين وكهفاً للمسلمين ، فليس منا أحد له مثل فضائلك ، ولا مثل مناقبك ، إلامن كان من قبلك ، فمد الله في عمرك لأمة نبيك محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وبعد ، فأنت بالمشورة أبصرمن كل من في المسجد فاعمل برأيك فرأيك أفضل ومرنا بأمرك فها نحن بين يديك . فقال عمر : أريد غير هذين الرأيين .
قال : فوثب عبد الرحمن بن عوف الزهري ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن كل متكلم يتكلم برأيه ، ورأيك أفضل من رأينا ، لما قد فضلك الله عز وجل علينا وأجرى على
--------------------------- 9 ---------------------------
يديك من موعود ربنا ، فاعمل برأيك واعتمد على خالقك وتوكل على رازقك ، وسر إلى أعداء الله بنفسك ونحن معك ، فإن الله عز وجل ناصرك بعزه وسلطانه ، كما عودك من فضله وإحسانه .
فقال عمر : أريد غير هذا الرأي ، فتكلم عثمان بن عفان فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك قد علمت وعلمنا أنا كنا بأجمعنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله منها بنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد اختارك لنا خليفة نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد رضيك الأخيار وخافك الكفار ، ونفر عنك الأشرار ، وأنا أشير عليك أن تسير أنت بنفسك إلى هؤلاء الفجار ، بجميع من معك من المهاجرين والأنصار ، فتحصد شوكتهم وتستأصل جرثومتهم .
فقال عمر : وكيف أسير أنا بنفسي إلى عدوي وليس بالمدينة خيلٌ ولا رَجْلٌ ، فإنما هم متفرقون في جميع الأمصار ؟ فقال عثمان : صدقت يا أمير المؤمنين ، ولكني أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيقبلوا عليك من شامهم ، وإلى أهل اليمن فيقبلوا إليك من يمنهم ، ثم تسير بأهل الحرمين مكة والمدينة إلى أهل المصرين البصرة والكوفة ، فتكون في جمع كثير وجيش كبير ، فتلقى عدوك بالحد والحديد والخيل والجنود .
فقال عمر : هذا أيضاً رأي ليس يأخذ بالقلب ، أريد غير هذا الرأي .
قال : فسكت الناس . والتفت عمر إلى علي ( عليه السلام ) فقال : يا أبا الحسن ، لم لا تشير بشئ كما أشار غيرك ؟ قال فقال علي : يا أمير المؤمنين ، إنك قد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث نبيه محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وليس معه ثان ، ولا له في الأرض من ناصر ، ولا له من عدوه مانع ، ثم لطف تبارك وتعالى بحوله وقوته وطوله ، فجعل له أعواناً أعز بهم دينه ، وشد أزره وشيد بهم أمره ، وقصم بهم كل جبار عنيد وشيطان مريد ، وأرى موازريه وناصريه من الفتوح والظهور على الأعداء ، ما دام به سرورهم ، وقرت به أعينهم . وقد تكفل الله تبارك وتعالى لأهل هذا الدين بالنصر والظفر والإعزاز .
--------------------------- 10 ---------------------------
والذي نصرهم مع نبيهم وهم قليلون ، هو الذي ينصرهم اليوم إذ هم كثيرون . وبعد ، فإنك أفضل أصحابك رأياً وأيمنهم نقيبة ، وقد حملك الله عز وجل أمر رعيتك ، فهو الذي يوفقك للصواب ودين الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ، فأبشر بنصر الله عز وجل الذي وعدك ، وكن على ثقة من ربك فإنه لا يخلف الميعاد .
وبعد ، فقد رأيت قوماً أشاروا عليك بمشورة بعد مشورة فلم تقبل ذلك منهم ، ولم يأخذ بقلبك شئ مما أشاروا به عليك ، لأن كل مشير إنما يشير بما يدركه عقله ، وأعلمك يا أمير المؤمنين إن كتبت إلى الشام أن يقبلوا إليك من شامهم ، لم تأمن من أن يأتي هرقل في جمع النصرانية ، فيغير على بلادهم ويهدم مساجدهم ويقتل رجالهم ، ويأخذ أموالهم ، ويسبي نساءهم وذريتهم .
وإن كتبت إلى أهل اليمن أن يقبلوا من يمنهم ، أغارت الحبشة أيضاً على ديارهم ونسائهم وأموالهم وأولادهم . وإن سرت بنفسك مع أهل مكة والمدينة إلى أهل البصرة والكوفة ، ثم قصدت بهم قصد عدوك ، انتقضت عليك الأرض من أقطارها وأطرافها ، حتى يكون من خلفته وراءك أهم إليك مما تريد أن تقصده ، ولا يكون للمسلمين كانفة تكنفهم ولا كهف يلجؤون إليه ، وليس بعدك مرجع ولا موئل ، إذ كنت أنت الغاية والمفزع والملجأ .
فأقم بالمدينة ولا تبرحها فإنه أهيب لك في عدوك وأرعب لقلوبهم ، فإنك متى غزوت الأعاجم بنفسك يقول بعضهم لبعض : إن ملك العرب قد غزانا بنفسه لقلة أتباعه وأنصاره ، فيكون ذلك أشد لكَلَبهم عليك وعلى المسلمين . فأقم بمكانك الذي أنت فيه ، وابعث من يكفيك هذا الأمر .
ذكر مشورة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ثانية :
فقال عمر : يا أبا الحسن ، فما الحيلة في ذلك ، وقد اجتمعت الأعاجم عن بكرة أبيها بنهاوند في خمسين ومائة ألف ، يريدون استئصال المسلمين ؟
فقال له علي بن أبي طالب : الحيلة أن تبعث إليهم رجلاً مجرباً ، قد عرفته بالبأس والشدة ، فإنك أبصر بجندك وأعرف برجالك ، واستعن بالله وتوكل عليه واستنصره
--------------------------- 11 ---------------------------
للمسلمين ، فإن استنصاره لهم خير من فئة عظيمة تمدهم بها ، فإن أظفر الله المسلمين فذلك الذي تحب وتريد ، وإن يكن الأخرى ، وأعوذ بالله من ذلك ، تكون ردءً للمسلمين وكهفاً يلجؤون إليه ، وفئةً ينحازون إليها .
ذكر مشورة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ثالثة :
قال فقال له عمر : نعم ما قلت يا أبا الحسن ، ولكني أحببت أن يكون أهل البصرة وأهل الكوفة ، هم الذين يتولون حرب هؤلاء الأعاجم ، فإنهم قد ذاقوا حربهم وجربوهم ومارسوهم ، في غير موطن .
فقال له علي : إن أحببت ذلك فاكتب إلى أهل البصرة أن يفترقوا على ثلاث فرق : فرقة تقيم في ديارهم فيكونوا حرساً لهم يدفعون عن حريمهم ، والفرقة الثانية يقيمون في المساجد يعمرونها بالأذان والصلاة ، لكيلا تعطل الصلاة ، ويأخذون الجزية من أهل العهد لكيلا ينتقضوا عليك . والفرقة الثالثة يسيرون إلى إخوانهم من أهل الكوفة . ويصنع أهل الكوفة أيضاً كصنع أهل البصرة ، ثم يجتمعون ويسيرون إلى عدوهم ، فإن الله عز وجل ناصرهم عليهم ومظفرهم بهم ، فثق بالله ولاتيأس من روح الله ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ .
قال : فلما سمع عمر مقالة علي كرم الله وجهه ومشورته أقبل على الناس وقال : ويحكم ! عجزتم كلكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن ! والله ، لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي ! ثم أقبل عليه عمر بن الخطاب فقال : يا أبا الحسن ، فأشر علي الآن برجل ترتضيه ويرتضيه المسلمون ، أجعله أميراً وأستكفيه من هؤلاء الفرس ، فقال عليٌّ : قد أصبته ، قال عمر : ومن هو ؟ قال : النعمان بن مقرن المزني . فقال عمر وجميع المسلمين : أصبت يا أبا الحسن ! وما لها من سواه . قال : ثم نزل عمرعن المنبر ، ودعا بالسائب بن الأقرع بن عوف الثقفي فقال : يا سائب ! إني أريد أن أوجهك إلى العراق ، فإن نشطت لذلك فتهيأ ، فقال له السائب : ما أنشطني لذلك . . .
ثم كتب عمر إلى النعمان بن مقرن المزني ، والنعمان يومئذ بموضع من العراق
--------------------------- 12 ---------------------------
يقال له كسكر ، أما بعد يا نعمان فإن كتاب أهل الكوفة ورد علي فقرأته وفهمت ما ذكر لي فيه من أمر الفرس . وبعد فقد وجهت إليك السائب بن الأقرع التميمي وأمرته بأمري وأعوزت إليك أن يأمرك أن تعسكر بالقصرالأبيض حتى تجتمع إليك أهل البصرة وأهل الكوفة ، فإذا اجتمعوا إليك وتكاملوا لديك ، فسر بهم إلى أعداء الله بأرض نهاوند ، فقد وليتك هذا الجيش ، وأنا أعلم إن شاء الله أن الله ناصرك وخاذل عدوك .
قال : ثم كتب عمر أيضاً إلى أبي موسى الأشعري أن يمده من أهل البصرة بالثلث ، وكذلك أهل الكوفة . والتأمت العساكر بالعراق فعرضهم النعمان بن المقرن وعدهم وأحصاهم فإذا هم يزيدون على ثلاثين ألفاً من أهل البصرة وأهل الكوفة ، فدعا النعمان بطليحة بن خويلد الأسدي ، فعقد له عقداً وضم إليه أربعة آلاف فارس من أهل البصرة وأهل الكوفة ، وجعله مقدمة ، ورحل طليحة على مقدمته ، فلم يزل كذلك حتى صار إلى حلوان وبها يومئذ قائد من قواد كسرى يقال له شادوه بن آزاد مرد ، في نيف وعشرة آلاف من الفرس ، فلما أحس بجنود المسلمين أنها قد استشرفت على حلوان خرج هارباً في جميع أصحابه حتى صار إلى قرماسين فنزلها ، ونزل طليحة بن خويلد حلوان في أربعة آلاف فارس .
وأقبل النعمان في جيشه الأعظم حتى نزل بحلوان ، وأقام بها أياماً حتى استراح المسلمون وأراحوا خيولهم . قال : وسار النعمان بن مقرن من حلوان حتى نزل قرماسين ، وبلغ ذلك الفرس ممن كان خارجاً عن أرض نهاوند ، فامتلأت قلوبهم خوفاً ورعباً ، ثم إنهم تفلتوا من جميع المواضع حتى صاروا إلى نهاوند فاحتشدوا بها ، ثم إنهم اجتمعوا وتحالفوا وتعاقدوا على أنهم لا يفرون أبداً دون أن يبيدوا العرب عن آخرهم !
قال : وسار المسلمون يريدون نهاوند ، قال : وبلغ ذلك أهل نهاوند فأرسلوا الماء في أرضهم لكي يمنعوا بتلك المياه المسلمين ، قال فلم يغن ذلك من قضاء الله عز وجل فيهم شيئاً ، قال : وسار المسلمون حتى نزلوا في الموضع الذي يقال له قبور الشهداء ، فنزلوا هنالك وضربوا عسكرهم ، وبلغ ذلك الفرس فألقوا حسك الحديد حول نهاوند ، فحصنوها بتلك الحسك .
--------------------------- 13 ---------------------------
قال : ودعا النعمان برجل من أشد أصحابه يقال له محمود بن زكار الخثعمي ، فقال له : ويحك يا محمود ! أحب منك أن تنطلق نحو حصن هؤلاء القوم فتنظر إليه وتأتيني بخبره ، فقد بلغني أنه حصن حصين وأنه مشرف على قلعة لهم في الهواء ، فقال محمود بن زكار : أيها الأمير ، قد بلغني ذلك وهذا نهار ، فإذا كان الليل انطلقت فأتيتك بخبر القلعة إن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله .
قال : فلما كان الليل واختلط الظلام عمد محمود بن زكار هذا إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، ثم صب عليه درعه وتقلد بسيفه واعتم بعمامته ، واستوى على فرسه وتناول رمحه ومضى ، فلم يزل يسير حتى إذا أشرف على قلعة نهاوند وقد جعل يسمع أصوات الحرس على سورها من كل ناحية ونيرانهم تأجج ، قال : وإذا بفرسه قد قام وليس يتقدم ولا يتأخر ، فحركه فلم يتحرك فإذا قد علق يده واتقى منها ، قال : فنزل محمود بن زكار عن فرسه ثم ضرب بيده إلى الفرس فقلب حافره فإذا بحسكة حديد قد دخلت في حافره ، فنزعها وركب فرسه ، ثم رجع إلى النعمان بن مقرن فخبره » .
في نهج البلاغة ( 2 / 29 ) مشورة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لعمر ، قال : « وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه : إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة ، وهو دين الله الذي أظهره ، وجنده الذي أعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ ، وطلع حيث طلع . ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده وناصر جنده . ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز ، يجمعه ويضمه ، فإن انقطع النظام تفرق وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً .
والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً ، فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالاجتماع ، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب ، وأصلِهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك ! إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب ، فإذا قطعتموه استرحتم ، فيكون
--------------------------- 14 ---------------------------
ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك .
فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين ، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره . وأما ما ذكرت من عددهم ، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة » .
قال المفيد الإرشاد ( 2 / 208 ) : « فانظروا أيدكم الله إلى هذا الموقف الذي ينبئ بفضل الرأي ، إذ تنازعه أولو الألباب والعلم ، وتأملوا التوفيق الذي قرن الله به أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الأحوال كلها ، وفزع القوم إليه في المعضل من الأمور ، وأضيفوا ذلك إلى ما أثبتناه عنه من القضاء في الدين ، الذي أعجز متقدمي القوم ، حتى اضطروا في علمه إليه ، تجدوه من باب المعجز الذي قدمناه » .
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 209 ) : « وكتب إليه أيضاً عبد الله ( ابن مسعود ) وغيره بأنه قد تجمع منهم خمسون ومائة ألف مقاتل ، فإن جاؤونا قبل أن نبادرهم الشدة ، ازدادوا جرأة وقوة . ثم أورد الطبري مشورة عمر للصحابة وكلام طلحة وعثمان . ثم كلام علي ( عليه السلام ) بنحو ما تقدم .
وقال ابن حجر في فتح الباري ( 13 / 286 ) : ( ولقد شهدت عمر أشكل عليه شئ فقال : هاهنا علي ؟ وفي كتاب النوادر للحميدي ، والطبقات لمحمد بن سعد ، من رواية سعيد بن المسيب قال : كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن ، يعني
علي بن أبي طالب ) .
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل ( 1 / 176 ) : ( وكان كبراء الصحابة يرجعون إليه في رأيه وعلمه ، حتى كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن ) .
النعمان بن مقرن الذي اختاره علي ( عليه السلام ) قائداً للمعركة
1 . النعمان بن مقرن من عائلة مؤمنة هو وإخوته الستة : « معقل ، وعقيل ، وسويد ، وسنان ، وعبد الرحمن ، وسابع لم يسم لنا . بنو مقرن المزنيون ، هاجروا وصحبوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يشاركهم فيما ذكره ابن عبد البر وجماعة في هذه المكرمة غيرهم » .
--------------------------- 15 ---------------------------
( مقدمة ابن الصلاح / 184 ) . وروى البيضاوي في تفسيره ( 3 / 165 ) أنه نزل فيهم قوله تعالى : وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَايُنْفِقُونَ » . « فسألوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحملهم على الخفاف المدبوغة والنعال المخصوفة فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون ، وهم ثلاثة إخوة : معقل ، وسويد ، والنعمان بنو مقرن » . ( القواعد الفقهية للبجنوردي : 4 / 9 ) .
وقال عبد الله بن مسعود : « إن للإيمان بيوتاً ، وللنفاق بيوتاً ، وإن بيت بني مقرن من بيوت الإيمان » . ( الإستيعاب : 4 / 1507 ) .
2 . وشارك النعمان وإخوته في حفر الخندق . قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان ، وحذيفة ، والنعمان بن مقرن المزني ، وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً ، فحفرنا حتى إذا كنا . . » . ( البحار : 17 / 170 ) .
وكان حارس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غزوة الحديبية : « رأيت النعمان بن مقرن المزني قائماً على رأسه ، وقد رفع أغصان الشجرة عن رأسه يبايعونه » .
وكان وإخوته مع مزينة مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في فتح مكة . ( مجمع الزوائد : 6 / 146 ، و : 8 / 304 ) .
3 . وكان وإخوته مع علي ( عليه السلام ) في رد هجوم طليحة الأسدي على المدينة ، كما تقدم .
4 . شارك في معارك فتح العراق ، وكان النعمان في وفد المسلمين إلى يزجرد ، ففي الطبري : 3 / 17 : « قال الملك : سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا ، أمن أجل أنا أجممناكم وتشاغلنا عنكم ، اجترأتم علينا ؟ فقال لهم النعمان بن مقرن : إن شئتم أجبت عنكم ، ومن شاء آثرته . فقالوا : بل تكلم ، وقالوا للملك : كلام هذا الرجل كلامنا . فتكلم النعمان فقال : إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا ، به ويعرفنا الشر وينهانا عنه ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة ، فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين فرقة تقاربه وفرقة تباعده ، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص ، فمكث بذلك ما شاء الله أن
--------------------------- 16 ---------------------------
يمكث ، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب وبدأ بهم ، وفعل فدخلوا معه جميعاً ، على وجهين مكره عليه فاغتبط ، وطائع أتاه فازداد ، فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق .
ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف ، فنحن ندعوكم إلى ديننا ، وهو دين حسَّن الحسن وقبَّح القبيح كله ، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه : الجزاء . فإن أبيتم ، فالمناجزة . فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله ، وأقمناكم عليه أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم ، وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم ، وإلا قاتلناكم !
قال فتكلم يزدجرد فقال : إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم ، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم لا تغزوكم فارس ولاتطمعون أن تقوموا لهم . فإن كان عدو لحق فلا يغرنكم منا ، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم ، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم ، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم . فأسكت القوم ، فقال المغيرة بن زرارة بن النباش الأسيدي : أيها الملك إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم ، وهم أشراف يستحيون من الأشراف ، وإنما يكرم الأشراف الأشراف ، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف ، ويفخم الأشراف الأشراف ، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك ، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه ، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك . فجاوبني لأكون الذي أبلغك ويشهدون على ذلك . . . فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر ، وإن شئت فالسيف أو تسلم ، فتنجي نفسك !
فقال : أتستقبلني بمثل هذا ! فقال : ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به . فقال : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم ! لا شئ لكم عندي ! فقال : إئتوني بوقر من تراب ، فقال : إحملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه ، حتى يخرج من باب المدائن ! إرجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم ، حتى يدفنكم ويدفنه في خندق القادسية ، وينكل به وبكم من بعد ، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم
--------------------------- 17 ---------------------------
في أنفسكم ، بأشد مما نالكم من سابور !
ثم قال : من أشرفكم ؟ فسكت القوم ، فقال عاصم بن عمرو وَافْتَأَتَ ( أي كذب ) ليأخذ التراب : أنا أشرفهم ، أنا سيد هؤلاء فحمِّلنيه . فقال : أكذاك ؟ فقالوا : نعم فحمله على عنقه ، فخرج به من الإيوان والدار ، حتى أتى راحلته فحمله عليها ، ثم انجذب في السير ، فأتوا به سعداً وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه فقالوا : بشروا الأمير بالظفرظفرنا إن شاء الله » .
وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 143 : « وبلغ رستم الخبر فغلظ ذلك عليه وقال : ما لابن الحجامة ولتدبير الملك ؟ ويقال : إن أم يزد جرد كانت حَجَّامة . ثم وجه رسلاً في آثارهم ، ففاتوا الرسل » .
ومعناه أن رستم خطَّأ يزدجرد في جوابه لوفد المسلمين ، وقال مع أنه ابن كسرى العظيم ، لكن أدركه عرق من أمه الحجَّامة فتصرف تصرف الصغار !
وأراد رستم تدارك الأمر مع الوفد ، والاعتذار منهم ، لكنهم فاتوه ! وقد نسي رستم أن كسرى نفسه تصرف تصرف الصغار ومزق رسالة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهل كانت أم كسرى حجَّامة ؟ ! بل هو الغرور والتكبر الكسروي ظهر فيه وفي ابنه .
معركة نهاوند وبطولة النعمان فيها
سُميت معركة نهاوند : فتح الفتوح ، لأنها أنهت قوة الفرس ، فلم يجتمع لهم بعدها جيش ، ومهدت لفتح بقية إيران ، وصار الشاهنشاه يزدجرد مشرداً من بلد إلى بلد ، حتى لجأ إلى مطحنة ، فقتله الطحان بأمر حاكم مرو .
قال الطبري في تاريخه ( 3 / 213 ) : « وخرج حذيفة بن اليمان بالناس ومعه نعيم ، حتى قدموا على النعمان بالطزر ، وجعلوا بمرج القلعة خيلاً عليها النسير . وقد كتب عمر إلى سلمى بن القين وحرملة بن مريطة وزرّ بن كليب والمقترب الأسود بن ربيعة ، وقواد فارس الذين كانوا بين فارس والأهواز ، أن اشغلوا فارس عن إخوانكم ، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم ، وأقيموا على حدود
--------------------------- 18 ---------------------------
ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري . وبعث مجاشع بن مسعود السلمي إلى الأهواز وقال له : أنصل ( أخرج كالنصل ) منها على ماه ، فخرج حتى إذا كان بغضي شجر ، أمره النعمان أن يقيم مكانه ، فأقام بين غضى شجر ومرج القلعة .
ونَصَل سلمى وحرملة وزرّ والمقترب ، فكانوا في تخوم أصبهان وفارس فقطعوا بذلك عن أهل نهاوند أمداد فارس .
ولما قدم أهل الكوفة على النعمان بالطزر جاءه كتاب عمر مع قريب ، إن معك حد العرب ورجالهم في الجاهلية ، فأدخلهم دون من هو دونهم في العلم بالحرب ، واستعن بهم واشرب برأيهم . .
وسار النعمان على تعبيته وعلى مقدمته نعيم بن مقرن ، وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن ، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو ، وعلى الساقة مجاشع ، وقد توافي إليه أمداد المدينة فيهم المغيرة وعبد الله ، فانتهوا إلى الأسبيذهان ، والقوم وقوف دون وادي خرد على تعبيتهم ، وأميرهم الفيرزان وعلى مجنبتيه الزردق ، وبهمن جاذويه الذي جُعل مكان ذي الحاجب ، وقد توافي إليهم بنهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام ، من أهل الثغور وأمرائها ، وأعلام من أعلامهم ، ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس . وعلى خيولهم أنوشق . فلما رآهم النعمان كبر وكبر الناس معه ، فتزلزت الأعاجم ، فأمر النعمان وهو واقف بحطِّ الأثقال وبضرب الفسطاط ، فضرب وهو واقف ، فابتدره أشراف أهل الكوفة فبنوا له فسطاطاً سابقوا أكفاءهم فسبقوهم ، وهم أربع عشرة ، منهم حذيفة بن اليمان ، وعقبة بن عمرو ، والمغيرة بن شعبة ، وبشير بن الخصاصية ، وحنظلة الكاتب بن الربيع ، وابن الهوبر ، وربعي بن عامر ، وعامر بن مطر ، وجرير بن عبد الله الحميري ، والأقرع بن عبد الله الحميري ، وجرير بن عبد الله البجلي ، والأشعث بن قيس الكندي ، وسعيد بن قيس الهمداني ووائل ابن حجر ، فلم ير بَنِّاء فسطاط بالعراق كهؤلاء .
وأنشب النعمان بعد ما حط الأثقال القتال ، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم في ذاك سجال في سبع سنين من أمارة عمر في سنة تسعة عشر ،
--------------------------- 19 ---------------------------
وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة ، وحصرهم المسلمون ، فأقاموا عليهم
ما شاء الله ، والأعاجم بالخيار لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج !
فاشتد ذلك على المسلمين وخافوا أن يطول أمرهم ، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع ، تجمع أهل الرأي من المسلمين فتكلموا وقالوا : نراهم علينا بالخيار ، وأتوا النعمان في ذلك فأخبروه فوافقوه وهو يُرَوِّي ( يتروى ) في الذي روَّوا فيه فقال : على رسلكم لا تبرحوا ، وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحروب فتوافوا إليه ، فتكلم النعمان فقال : قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن ، وإنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا ، ولا يقدر المسلمون على إنقاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم ، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق بالذي هم فيه ، وعليه من الخيار عليهم في الخروج ، فما الرأي الذي به نحمشهم ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل ؟ فتكلم عمرو بن ثُبَى ، وكان أكبر الناس يومئذ سناً ، وكانوا إنما يتكلمون على الأسنان فقال : التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم ، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم ، وقاتل من أتاك منهم . فردوا عليه جميعاً رأيه وقالوا : إنا على يقين من إنجاز ربنا موعده لنا .
وتكلم عمرو بن معدي كرب فقال : ناهدهم وكاثرهم ولاتخفهم ، فردوا عليه جميعاً رأيه وقالوا : إنما تناطح بنا الجدران ، والجدران لهم أعوان علينا !
وتكلم طليحة فقال : قد قالا ولم يصيبا ما أرادا . وأما أنا فأرى أن نبعث خيلاً مؤدية فيحدقوا بهم ثم يرموهم لينشبوا القتال ويحمشوهم ، فإذا استحمشوا ( أثيروا وخرجوا ) واختلطوا بهم وأرادوا الخروج ، أرزوا ( هربوا ) إلينا استطراداً ، فإنا لم نستطرد لهم ( لم نهرب أمامهم ) في طول ما قاتلناهم ، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منا طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها ، فخرجوا فجادُّونا وجاددناهم ( صرنا وإياهم على جديد الأرض ) حتى يقضى الله فيهم وفينا ما أحب .
فأمر النعمان القعقاع بن عمرو وكان على المجردة ، ففعل وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم فأنقضهم ، فلما خرجوا نكص ثم نكص ثم نكص ، واغتنمها
--------------------------- 20 ---------------------------
الأعاجم ، ففعلوا كما ظن طليحة ( اتبعوا الفارين ) وقالوا : هي هي ! فخرجوا فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب ، وجعلوا يركبونهم حتى أرز القعقاع إلى الناس ، وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع ، والنعمان بن مقرن والمسلمون على تعبيتهم في يوم جمعة ، في صدر النهار وقد عهد النعمان إلى الناس عهده ، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولايقاتلوهم حتى يأذن لهم ، ففعلوا واستتروا بالجحف من الرمي ، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات ، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض ، ثم قالوا للنعمان : ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما لقيَ الناس ، فما تنتظر بهم إئذن للناس في قتالهم . فقال لهم النعمان : رويداً رويداً . قالوا له ذلك مراراً فأجابهم بمثل ذلك مراراً : رويداً رويداً . فقال المغيرة : لو أن هذا الأمر إليَّ علمت ما أصنع ! فقال : رويداً ترى أمرك ، وقد كنت تلي الأمر فتحسن فلا يخذلنا الله ولا إياك ، ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث . وجعل النعمان ينتظر بالقتال إكمال ساعات كانت أحب إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في القتال أن يلقى فيها العدو ، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الرياح !
فلما كان قريباً من تلك الساعة تحشحش النعمان وسار في الناس على برذون أحوى قريب من الأرض ، فجعل يقف على كل راية ويحمد الله ويثنى عليه ويقول : قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور ، فكفى كل رجل ما يليه ، ولم يكل قرنه إلى أخيه ، فيجتمع عليه قرنه وقرن نفسه وذلك من الملامة ، وقد يقاتل الكَلِبُ عن صاحبه فكل رجل منكم مسلط على ما يليه .
فإذا قضيت أمري فاستعدوا فإني مكبرٌ ثلاثاً ، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض ، فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معاً .
اللهم أعز دينك ، وانصر عبادك ، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك . فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف وقضى إليهم أمره رجع إلى موقفه ، فكبر الأولى والثانية والثالثة ، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة
--------------------------- 21 ---------------------------
ينحى بعضهم بعضاً عن سننهم ، وحمل النعمان وحمل الناس ، وراية النعمان تنقضُّ نحوهم انقضاض العقاب ، والنعمان مُعَلَّمٌ ببياض القباء والقلنسوة ، فاقتتلوا بالسيوف قتالاً شديداً ، لم يسمع السامعون بوقعةِ يومٍ قط كانت أشد منها ، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ، ما طبق أرض المعركة دماً يزلق الناس والدواب فيه ، وأصيب فرسان من فرسان المسلمين في الزلق في الدماء ، فزلق فرس النعمان في الدماء فصرعه ، وأصيب النعمان حين زلق به فرسه وصرع ، وتناول الراية نعيم بن مقرن قبل أن تقع ، وسجى النعمان بثوب وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه .
وكان اللواء مع حذيفة فجعل حذيفة نعيم بن مقرن مكانه ، وأتى المكان الذي كان فيه النعمان ، فأقام اللواء وقال له المغيرة : أكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم لكيلا يهن الناس ، واقتتلوا حتى إذا أظلهم الليل فانكشف المشركون وذهبوا ، والمسلمون ملظون ( متابعون لهم ) بهم ملتبسون ، فعمي عليهم قصدهم فتركوه ، وأخذوا نحو اللهب ( الوادي ) الذي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان فوقعوا فيه ، وجعلوا لا يهوي منهم أحد إلا قال : وايه خرد ، فسمى بذلك وايه خرد إلى اليوم . فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة من أعدادهم ، ولم يفلت إلا الشريد !
ونجا الفيرزان بين الصرعى في المعركة ، فهرب نحو همذان في ذلك الشريد فاتبعه نعيم بن مقرن وقَدَّمَ القعقاع قدامه ، فأدركه حين انتهى إلى ثنية همذان ، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلاً ، فحبسه الدواب على أجله فقتله على الثنية بعدما امتنع ، وقال المسلمون : إن لله جنوداً من عسل ، واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال ، فأقبل بها وسميت الثنية بذلك ثنية العسل . وإن الفيرزان لما غشيه القعقاع نزل فتوقل في الجبل ، إذ لم يجد مساغاً ، وتوقل القعقاع في أثره حتى أخذه . ومضى الفُلال حتى انتهوا إلى مدينة همذان والخيل في آثارهم ، فدخلوها فنزل المسلمون عليهم وحووا ما حولها ، فلما رأى ذلك
--------------------------- 22 ---------------------------
خسروشنوم استأمنهم وقبل منهم ، على أن يضمن لهم همذان ودستبى ، وأن لا يؤتى المسلمون منهم ، فأجابوهم إلى ذلك وآمنوهم ، وأمن الناس . وأقبل كل من كان هرب .
ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند مدينة نهاوند ، واحتووا ما فيها وما حولها ، وجمعوا الأسلاب والرثاث إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع . فبينا هم كذلك على حالهم وفي عسكرهم ، يتوقعون ما يأتيهم من إخوانهم بهمذان ، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على أمان ، فأبلغ حذيفة فقال : أتؤمنني على أن أخبرك بما أعلم ؟ قال : نعم . قال : إن النخيرجان وضع عندي ذخيرة لكسرى ، فأنا أخرجها لك على أماني وأمان من شئت ، فأعطاه ذلك فأخرج له ذخيرة كسرى جوهراً كان أعده لنوائب الزمان ، فنظروا في ذلك فأجمع رأى المسلمين على رفعه إلى عمر ، فجعلوه له فأخرجوه حتى فرغوا فبعثوا به مع ما يرفع من الأخماس ، وقسم حذيفة بن اليمان بين الناس غنائمهم ، فكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف وسهم الراجل ألفين . وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند ، ورفع ما بقي من الأخماس إلى السائب بن الأقرع فقبض السائب الأخماس ، فخرج بها إلى عمر ، وبذخيرة كسرى » .
شهادة النعمان بن مقرن رضي الله عنه
في الثقات لابن حبان : 2 / 227 : « ثم نهض إليهم المسلمون يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً ، حتى كثرت القتلى وفشت الجرحى والصرعى في الفريقين جميعاً ، ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون ولهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ، ويبكون حول مصاحفهم .
وبات المشركون في معازفهم وخمورهم . ثم غدوا يوم الخميس فاقتتل المشركون وقاتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى ، وفشت الجرحى في الفريقين جميعاً . ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم ، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم .
ثم غدا النعمان بن مقرن يوم الجمعة ، وكان رجلاً قصيراً أبيض على برذون أبيض ،
--------------------------- 23 ---------------------------
قد أعلم بالبياض ، فجعل يأتي راية راية يحرضهم على القتال ، ويقول : الله الله
في الإسلام أن تخذلوه ، حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء ، هز النعمان الراية هزةً ، فانتزعوا المخالي عن الخيول وقرطوها الأعنة ، وأخذوا أسيافهم بأيمانهم والأترسة بشمائلهم ، وصلى كل رجل منهم ركعتين يبادر بهما ، ثم هز النعمان الراية ثانياً فوضع كل رجل منهم رمحه بين أذني فرسه ، ولزمت الرجال منهم نحور الخيل ، وجعل كل رجل يقول لصاحبه : أي فلان تنحَّ عنى لاأطؤك بفرسي ، إني أرى وجه مقاتلي ، إني غير راجع إن شاء الله حتى أقتل أو يفتح الله عليَّ ! ثم هز الثالثة فكبر فجعل الناس يكبرون الأول فالأول ، الأدنى فالأدنى وقذف الله الرعب في قلوب المشركين حتى أن أرجلهم كانت تخفق في الركب ، فلم يستطع منهم أحد أن يوتر قوسه ، ثم ولوا مدبرين ، وحمل النعمان وحمل الناس ، فكان النعمان أول قتيل قتل من المسلمين جاءه سهم فقتله ، فجاء أخوه معقل بن مقرن فغطى عليه برداً له ، ثم أخذ الراية وإنها لتنضح دماً من دماء من قتله بها النعمان قبل أن يقتل ، فهزم الله المشركين وفتح على المسلمين وبايع الناس لحذيفة بن اليمان »
قيادة حذيفة رضي الله عنه لمعركة نهاوند
في صحيح ابن حبان ( 11 / 68 ) : « فلما فرغنا واجتمع الناس قالوا : أين الأمير فقال معقل : هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح ، وختم له بالشهادة ، فبايع الناس حذيفة » .
وفي الأخبار الطوال للدينوري / 134 : « كان النعمان أول قتيل ، فحمله أخوه سويد بن مقرن إلى فسطاطه ، فخلع ثيابه فلبسها وتقلد سيفه وركب فرسه ، فلم يشك أكثر الناس أنه النعمان ، وثبتوا يقاتلون عدوهم ثم أنزل الله نصره .
وأقبل رجل من أشراف تلك البلاد إلى السائب بن الأقرع ، وكان على المغانم ، فقال له : أتصالحني على ضياعي وتؤمنني على أموالي ، حتى أدلك على كنز لا يدرى ما قدره ، فيكون خالصاً لأميركم الأعظم لأنه شئ لم يؤخذ في الغنيمة فقال له السائب : إن كنت صادقاً فأنت آمن على أولادك وضياعك وأهلك
--------------------------- 24 ---------------------------
وولدك ، فانطلق به حتى استخرجه في سفطين : أحدهما التاج والآخر الحلي . فلما قسم السائب الغنائم بين من حضرالقتال وفرغ ، حمل السفطين في خرجين على ناقته ، وقدم بهما على عمر بن الخطاب فكان من أمرهما الخبر المشهور ، اشتراهما عمرو بن الحارث بعطاء المقاتلة والذرية جميعاً ، ثم حملهما إلى الحيرة فباع بفضل كثير ، واعتقد بذلك أموالاً بالعراق » . أي اشترى عقارات .
أكذوبة : يا سارية الجبل
تعج مصادر السلطة بأكذوبة تقول إن عمر بن الخطاب كان يخطب يوم الجمعة فإذا به ينادي : يا سارية الجبل . فتعجب الناس وقالوا : ما به هل أصيب بالجنون ؟ فقال : إنه رأى القائد سارية بن زنيم في نهاوند يقاتل الفرس ، وخلفهم جبل يأتي منه العدوفناداه يا سارية أقصد الجبل ، فقصده ، فنصرهم الله على الفرس !
وما كان سارية في قادة نهاوند ، ولا كان خلفهم جبل ، ولا كانت معركة يوم جمعة !
قال ابن تيمية في تفسيره ( 2 / 140 ) : ( وعمر رضي الله عنه لما نادى : يا سارية الجبل قال إن لله جنوداً يبلغون صوتي ، وجنود الله هم من الملائكة ومن صالحي الجن وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة ) .
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء / 139 : « أخرج البيهقي وأبو نعيم ، كلاهما في دلائل النبوة ، واللالكائي في شرح السنة ، والدير عاقولي في فوائده ، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء ، والخطيب في رواة مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : وجه عمر جيشاً ورأَّس عليهم رجلاً يدعى سارية . . . » .
أقول : فات الذين وضعوا الحديث أن سارية إن كان في معركة نهاوند فلم يكن قائداً ، وأنه لم يكن في المعركة جبل ، بل كان الفرس في خنادقهم ، وقاتلهم المسلمون يوم الأربعاء والخميس ، وانجحر الفرس في خنادقهم يوم الجمعة !
قال الطبري ( 3 / 215 ) : « وأنشب النعمان بعد ما حط الأثقال القتال فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم في ذاك سجال ، وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة ، وحصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله ) .
--------------------------- 25 ---------------------------
وقال ابن خلدون ( 2 ق 2 / 116 ) : « ثم أحجروهم في خنادقهم يوم الجمعة وحاصروهم أياماً ، وسئم المسلمون اعتصامهم بالخنادق » .
فقد كان الفرس في خنادقهم يوم الجمعة ، ولم يكن هناك جبل ، ولا كان سارية فيها !
وقالت روايتنا : وضعوا هذه المعجزة لعمر ليضاهوا بها معجزة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما وصف وهو على المنبرمعركة مؤتة وشهادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه .
قال محمد بن جرير الطبري ( الشيعي ) في المسترشد / 551 : « وإنما وضعوا هذا الحديث بإزاء حديث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حين رُفع له بمؤتة حتى نظر إلى معترك جعفر بن أبي طالب ، ثم نعى جعفر إلى الناس وأخبرهم أنه أصيب ) .
وقال الكراجكي في التعجب من أغلاط العامة / 148 : ( ومن عجيب كذبهم : روايتهم أن عمر بن الخطاب نادى سارية بن رستم فقال : يا سارية الجبل ! ولهم من هذه الأخبار المفتعلة التي يعارضون بها معجزات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما لا يحصى كثرة ، ولقد سمعت بعض رواتهم يقول : إن عثمان بن عفان سبح الحصى في كفيه جميعاً ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سبح الحصى في كفه !
هذا ، وقد ترجموا لسارية بن زنيم فقالوا : لم يكن صحابياً ، بل كان لصاً في الجاهلية !
قال في الإصابة : 3 / 5 : « كان خليعاً في الجاهلية ، أي لصاً كثير الغارة ، ثم أسلم وحسن إسلامه ، وأمَّره عمر على جيش وسيره إلى فارس سنة ثلاث وعشرين » . أي بعد معركة نهاوند ، التي كانت سنة 21 .
- *
--------------------------- 26 ---------------------------
أهم أبطال معركة نهاوند وشهدائها
القائد حذيفة بن اليمان أمين سرّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
1 . عُرِفَ حذيفة رضي الله عنه بأنه صاحب سِرِّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقج علَّمه بعض المغيبات وأسماء المنافقين ، خاصة الذين حاولوا اغتياله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة العقبة في رجوعه من تبوك . وقد سئل علي ( عليه السلام ) عن حذيفة ( الإحتجاج : 1 / 388 ) فقال : « ذاك امرؤٌ عُلِّم أسماء المنافقين ، إن تسألوه عن حدود الله تجدوه بها عالماً » .
وفي أمالي الطوسي / 222 ، قال حذيفة : « إن الناس كانوا يسألون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن الخير وكنت أساله عن الشر . . فقلت : يا رسول الله ، أيكون بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم . . » .
وفي صحيح البخاري ( 4 / 178 و : 8 / 93 ) : « قال : نعم . قلت : وهل بعد هذا الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دُخْن . قلت : وما دُخْنُهُ ؟ قال : قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر . قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ، دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ! قلت : يا رسول الله صفهم لنا . فقال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا » !
2 . وفي شذرات الذهب ( 1 / 44 ) : « كان عمر لا يصلي على ميت حتى يصلي عليه حذيفة ، يخشى أن يكون من المنافقين » .
وذكر ابن كثير في السيرة النبوية ( 4 / 35 ) أن عمر سأله عن نفسه هل هو من المنافقين ! « قال لحذيفة : أقسمت عليك بالله أأنا منهم ؟ قال : لا . ولا أبري بعدك أحداً . يعني حتى لا يكون مفشياً سر النبي » .
قال حذيفة : ( المنافقون الذين فيكم اليوم شرٌ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال شقيق قلت : يا أبا عبد الله وكيف ذاك ؟ قال : إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم ، وإن هؤلاء أعلنوه ) . ( مصنف ابن أبي شيبة : 15 / 109 )
3 . واشتهرحذيفة بتشيعه لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو أحد الأركان الأربعة للتشيع الذين ثبتوا مع علي ( عليه السلام ) واستعدوا للموت في مواجهة مؤامرة السقيفة .
--------------------------- 27 ---------------------------
قال العلامة في الخلاصة / 131 : « حذيفة بن اليمان العبسي ( رحمه الله ) عداده في الأنصار ، أحد الأركان الأربعة ، من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .
وروى في الكافي ( 8 / 32 ) عن حذيفة أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب بعد السقيفة خطبة بليغة جاء فيها : « أيها الأمة التي خُدعت فانخدعت ، وعرفت خديعة من خدعها ، فأصرت على ما عرفت ! واتبعت أهواءها ، وضربت في عشواء غوايتها وقد استبان لها الحق فصدت عنه ، والطريق الواضح فتنكبته . . .
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد علمتم أني صاحبكم والذي به أمرتم ، وأني عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ، ووصي نبيكم وخيرة ربكم ، ولسان نوركم ، والعالم بما يصلحكم ، فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وُعدتم ، وما نزل بالأمم قبلكم ، وسيسألكم الله عز وجل عن أئمتكم ، معهم تحشرون وإلى الله عز وجل غداً تصيرون .
قال : ثم خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة ، فقال : والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعدد هذه الشياه لأزلت أبن آكلة الذبان عن ملكه . قال : فلما أمسى بايعه ثلاث مائة وستون رجلاً على الموت ، فقال لهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أغدوا بنا إلى أحجار الزيت مُحَلِّقِين ، وحَلَقَ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فما وافى من القوم محلقاً إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وجاء سلمان في آخرالقوم . فرفع يده ( عليه السلام ) إلى السماء فقال : اللهم إن القوم استضعفوني ، كما استضعفت بنو إسرائيل هارون ، اللهم فإنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى عليك شئ في الأرض ولا في السماء ، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين » .
وأحاديث تشيع حذيفة كثيرة في مصادر الطرفين ! قال الباحث حسن بن فرحان المالكي في كتابه : نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي / 184 : « من المعلوم أن أعلم الناس بالفتنة حذيفة بن اليمان ، وقد أوصى باتباع علي في الفتنة ، ولم يأمر بالاعتزال فكان يقول : عليكم بالطائفة التي تدعو إلى أمر علي بن أبي طالب فإنها على الحق . رواه البزار وصححه الحافظ ابن حجر . وحذيفة أعلم بالفتن من
--------------------------- 28 ---------------------------
المعتزلين ، بل هو أعلم الصحابة مطلقاً بأخبار الفتن وما يجب فيها » .
وتقدم في غزوة الخندق قول حذيفة لربيعة الرأي ( مناقب ابن سليمان : 1 / 222 ) :
« يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد في كفة الميزان ، من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل علي يوماً واحداً في الكفة الأخرى لرجح عمله على جميع أعمالهم ! فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد ! فقال حذيفة : وكيف لا يُحتمل هذا يا ملكعان « أحمق » ! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك ، وجميع أصحاب محمد ، يوم عمرو بن عبد ود ينادي للمبارزة ، فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً ،
فقتله الله على يديه ) !
4 . وكانت فرحة حذيفة غامرة ببيعة علي ( عليه السلام ) ، فقد كان حاكم المدائن وكان مريضاً ، فخطب خطبة صريحة ، روى قسماً منها المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 383 ) قال : « أخرجوني وادعوا الصلاةَ جامعةً فوضع على المنبر . . . فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وعلى آله ، ثم قال : أيها الناس ، إن الناس قد بايعوا علياً فعليكم بتقوى الله وانصروا علياً ووازروه ، فوالله إنه لعلى الحق آخراً وأولًا ، وإنه لخير من مضى بعد نبيكم ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم أطبق يمينه على يساره ثم قال : اللهم اشهد أني قد بايعت علياً . وقال : الحمد لله الذي أبقاني إلى هذا اليوم . وقال لابنيه صفوان وسعد : إحملاني وكونا معه ، فستكون له حروب كثيرة فيهلك فيها خلق من الناس ، فاجتهدا أن تستشهدا معه ، فإنه والله على الحق ومن خالفه على الباطل . ومات حذيفة بعد هذا اليوم بسبعة أيام وقيل : بأربعين يوماً » .
وروى خطبته الديلمي في إرشاد القلوب ( 2 / 323 ) قال : « صعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على محمد وآل محمد ، ثم قال : الحمد لله الذي أحيا الحق وأمات الباطل ، وجاء بالعدل ودحض الجور ، وكَبَتَ الظالمين .
أيها الناس ، إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقاً حقاً ، وخير من نعلمه بعد نبينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأولى الناس بالناس ، وأحقهم بالأمر ، وأقربهم إلى الصدق وأرشدهم
--------------------------- 29 ---------------------------
إلى العدل ، وأهداهم سبيلاً ، وأدناهم إلى الله وسيلة ، وأقربهم برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رحماً . أنيبوا إلى طاعة أول الناس سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأصدقهم طريقة ، وأسبقهم إيماناً ، وأحسنهم يقيناً ، وأكثرهم معروفاً ، وأقدمهم جهاداً ، وأعزهم مقاماً . . . فقام الناس بأجمعهم فبايعوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأحسن بيعة وأجمعها .
فلما استتمت البيعة ، قام إليه فتى من أبناء العجم وولاة الأنصار لمحمد بن عمارة بن التيهان أخي أبي الهيثم بن التيهان ، يقال له مسلم متقلداً سيفاً ، فناداه من أقصى الناس : أيها الأمير ، إنا سمعناك تقول في أول كلامك إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقاً حقاً ، تعريضاً بمن كان قبله من الخلفاء أنهم لم يكونوا أمراء المؤمنين حقاً ، فعرِّفنا ذلك أيها الأمير رحمك الله ولا تكتمنا ، فإنك ممن شهد وغبنا ، ونحن مقلدون ذلك في أعناقكم ، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لأمتكم ، وصدق الخبر عن نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال حذيفة : أيها الرجل ، أما إذا سألت وفحصت هكذا فاسمع وافهم ما أخبرك به :
أما من تقدم من الخلفاء قبل علي بن أبي طالب ممن تسمى بأمير المؤمنين ، فإنهم تسموا بذلك وسماهم الناس به . وأما علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فإن جبرائيل سماه بهذا الاسم عن الله تعالى وشهد له الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن جبرائيل بإمرة المؤمنين ، وكان أصحاب رسول الله يدعونه في حياة رسول الله بأمير المؤمنين ) .
أقول سنورد كلام حذيفة في بيعة الأمصار لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
5 . وكان حذيفة يستعمل أسلوب المداراة والتقية مع الحاكم . قال الذهبي في سيره ( 2 / 361 ) : « كان يقول : ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا قد اشترى بعض دينه ببعض ! قالوا : وأنت ؟ قال : وأنا والله ) !
6 . قال حذيفة إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حَذَّرَ من اثني عشر إماماً يدعون إلى النار ، وبَشَّرَ
باثني عشر إماماً يدعون إلى الجنة ! فروى عنه مسلم ( 8 / 122 ) قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
« في أصحابي اثنا عشر رجلاً منافقاً لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها ، حتى يلج
--------------------------- 30 ---------------------------
الجمل في سم الخياط » .
وروى عنه الخزاز في كفاية الأثر / 136 : « قلت : يا رسول الله فكم يكون الأئمة من بعدك ؟ قال : عدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين ، أعطاهم الله علمي وفهمي ) .
7 . وكان حذيفة ( رحمه الله ) يخبر المسلمين بغرائب ستحدث ، فيدهشون ويتحيرون ، فقد روى عنه ابن حماد بسند صحيح في الفتن / 45 : « لو حدثتكم أن أمكم تغزوكم ، أتصدقوني ؟ قالوا أو حقٌّ ذلك ؟ قال : حق » !
8 . رأى حذيفة الصحابة المنافقين الذين شاركوا في مؤامرة اغتيال النبي ، فقد روى مسلم ( 8 / 123 ) عن أبي الطفيل قال : « كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟ قال فقال له القوم : أخبره إذْ سألك ! قال : كنا نُخْبَر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ) !
9 . شارك حذيفة في فتوح الشام ، وجاء ببشارة النصر في اليرموك ، إلى عمر .
10 . قال في الإصابة ( 2 / 40 ) : « وشهد حذيفة فتوح العراق وله بها آثار شهيرة » . ثم ذهب إلى الشام وشارك في معركة اليرموك ، ثم رجع إلى الشام ثم إلى العراق ، فشارك في فتح المدائن ، وما بعدها .
11 . ثم توغل جيش المسلمين داخل إيران ، فشارك حذيفة في معركة تستر . قال ابن الأعثم ( 2 / 277 ) في وصف معركة تستر ، وكانت نهايتها أن أسلم الهرمزان .
12 . ثم قاد حذيفة معركة نهاوند ، أكبرمعارك فتح فارس وحقق فيها النصر .
13 . روى الطبري ( 3 / 203 ) أن النعمان بن مقرن : « عبَّأ كتائبه وخطب الناس فقال : إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان ، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله ، وإن أصيب جرير ، فعليكم قيس بن مكشوح » . وهذا الترتيب من علي ( عليه السلام ) .
14 . ثم قاد حذيفة أغلب معارك فتح إيران ، من الشرق والغرب والوسط ، من نهاوند إلى همدان وأصفهان والري وخراسان وجرجان ، ثم إلى أرمينية وبلاد آسيا !
--------------------------- 31 ---------------------------
ويكفي أن تقرأ قول خليفة بن خياط / 107 : « مضى حذيفة بن اليمان بعد نهاوند . . ثم غزا مدينة الدينور فافتتحها عنوة . ثم غزا حذيفة ماسبدان فافتتحها عنوة . . قال أبو عبيدة : غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة ولم تكن فتحت قبل ذلك . ثم غزا الري فافتتحها عنوة ولم تكن فتحت قبل ذلك ، وإليها انتهت فتوح حذيفة . قال أبو عبيدة : فتوح حذيفة هذه كلها في سنة اثنتين وعشرين » . ويقصد ابن خياط أن فتوح حذيفة وقفت عند الري أي طهران ولم يسمح له عمر بالتقدم إلى خراسان .
15 . قال الطبري ( 3 / 333 و 353 ) : « استعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان ، وكان على ذلك الفرج ( أرمينيا وما حاذاها ) قبل ذلك عبد الرحمن بن ربيعة . . فغزاها حذيفة بن اليمان ثلاث غزوات ، فقتل عثمان في الثالثة ، ولقيهم مقتل عثمان » . أقول : لا يصح قوله في سنة عشر ، بل الصحيح ما رواه في تاريخ دمشق ( 9 / 205 ) : ( سلمان بن ربيع قتل ببلنجرمن بلاد أرمينية ، سنة تسع وعشرين ، ويقولون : سنة ثلاثين ، ويقال : مات سنة إحدى وثلاثين ) .
16 . والنتيجة : أن حذيفة رضي الله عنه قاد جيش المسلمين بعد نهاوند في الفتوحات سنين متطاولة ، حتى أنه عندما قتل عثمان كان يفتح مناطق جديدة في آسيا الوسطى . ومن قبل كان دوره وافراً في معارك فتح إيران : ففي معركة جلولاء التي كان قادها هاشم المرقال ، كان حذيفة فيها قائداً . ثم قاد حذيفة معركة حلوان وفتحها . ثم كان في معركة تستر قائداً .
17 . وكان حذيفة والي المدائن مع سلمان ، ومسح أرض العراق . ففي الطبري ( 3 / 222 ) : « كتب ( عمر ) إلى أهل الكوفة إني بعثت إليكم عمار بن ياسرأميراً ، وجعلت عبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً ، ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها ، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى » .
18 . وكان حذيفة نشيطاً يتردد على الكوفة والمدينة . ففي تاريخ دمشق ( 12 / 294 ) : « سمعت أبا إسحاق يقول : كان حذيفة يجئ كل جمعة من المدائن إلى الكوفة . قال أبو بكر : فقلت له يستطيع أن يجئ من المدائن إلى
--------------------------- 32 ---------------------------
الكوفة ؟ قال : نعم كانت له بغلة فارهة » . والمسافة بين الكوفة والمدائن نحو مئة كيلومتر ، لكن الفرس أو البغلة السريعة تقطعها في بضع ساعات !
19 . كما كان حذيفة بطل توحيد نسخة القرآن ، فعندما كان قائداً في فتح أرمينيا ، وقع اختلاف بين جند الشام وجند العراق في قراءة ألفاظ في القرآن ، فكان بعضهم يقول إن ما تقرأه لم ينزله الله تعالى وليس قرآناً ، ويجيبه الآخر كذلك ، فكادت تقع بينهم حرب ! فهدأهم حذيفة وقصد إلى المدينة يطلب من عثمان توحيد نسخة القرآن ، فكلفه أن يجمع نسخ أبي بن كعب ، ونسخة عمر التي عند حفصة ، ونسخة أبي موسى الأشعري من البصرة ، ونسخة عبد الله بن مسعود في الكوفة ، فنهض حذيفة بذلك . وكلف عثمان سعيد بن العاص أن يكتب النسخة ، فكتب كثيراً منها على نسخة علي ( عليه السلام ) ثم أرسلها إلى الأمصار .
وكان حذيفة يعمل في ذلك بتوجيه علي ( عليه السلام ) . ( راجع : تدوين القرآن للمؤلف / 192 ) .
20 . فاز ابنا حذيفة : صفوان وسعيد ، بالشهادة بين يدي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بوصية أبيهما رضي الله عنهم . وكان عمران بن حذيفة من أصحاب المختار في ثورته لأخذ ثأر الحسين ( عليه السلام ) وقتله مصعب بن الزبير . ( الكامل : 4 / 280 ) .
وله ابن آخر هو ربيعة ، نسب إليه : إبراهيم بن مسلم الحذيفي العبسي ، وهو بغدادي سكن همدان . ( اللباب : 1 / 351 ، وتاريخ بغداد : 6 / 184 ) .
وذكر ابن سعد بنته أم موسى بنت حذيفة ( 6 / 297 ) وبنته أم سلمة ، وأنها روت عن أبيها ( 8 / 477 ) وذكر زوجته جمانة بنت المسيب بن نجبة الفزاري ( 8 / 482 ) .
عمرو بن معدي كرب وعروة بن زيد الخيل وغيرهما
1 . قال البلاذري ( 2 / 316 ) يصف معركة القادسية : « فالتحمت الحرب بينهم ، وذلك بعد الظهر ، وحمل عمرو بن معدي كرب الزبيدي فاعتنق عظيماً من الفرس فوضعه بين يديه في السرج وقال : أنا أبو ثور افعلوا كذا ! ثم حطم فيلاً من الفيلة وقال : إلزموا سيوفكم خراطيمها ، فإن مقتل الفيل خرطومه » .
--------------------------- 33 ---------------------------
2 . « قال عمرو بن معدي كرب : إني حامل على الفيل ومن حوله ، لفيل بإزائهم فلا تدعوني أكثر من جزر جزور ، فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور ، فأنى لكم مثل
أبي ثور ، فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف ! فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم وستره الغبار ، فقال أصحابه : ما تنتظرون ما أنتم بخلقاء أن تدركوه ، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم ! فحملوا حملة فأفرج المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه وإن سيفه لفي يده يضاربهم وقد طعن فرسه !
فلما رأى أصحابه وانفرج عنه أهل فارس ، أخذ برِجل فرس رجل من أهل فارس فحركه الفارسي فاضطرب الفرس ، فالتفت الفارسي إلى عمرو فهمَّ به وأبصره المسلمون فغشوه ، فنزل عنه الفارسي وحاضر ( ركض ) إلى أصحابه فقال عمرو : أمكنوني من لجامه فأمكنوه منه فركبه » . ( تاريخ الطبري : 3 / 61 ) .
أقول : حمل عمرو مثل هذه الحملة في نهاوند وغاص في وسط جيش الفرس ، ويظهر أن المسلمين تأخروا عن نجدته ، فأدركوه وقد استشهد رضي الله عنه !
3 . قال ابن الأعثم ( 2 / 304 ) يصف معركة نهاوند : « ورجعت إليهم الفرس كأنهم السباع الضارية في جموع لم يروا مثلها قبل ذلك ، فصاح عمرو بن معد يكرب : يا معاشر العرب والموالي ! ويا أهل الإسلام والدين والقرآن ! إنه لا ينبغي لكم أن يكون هؤلاء الأعاجم أصبرمنكم على الحرب ، ولا أحرص منكم على الموت ، فتناسوا الأولاد والأزواج ، ولا تجزعوا من القتل فإنه موت الكرام ومنايا الشهداء .
قال : ثم نزل عمرو عن فرسه ونزل معه أبطال بني عمه ، قال : والأعاجم في الآلة والأسلحة وبين أيديهم ثلاثون فيلاً ، على كل فيل منهم جماعة من أساورة الفرس . قال : ونظر عامة المسلمين إلى عمرو بن معد يكرب وأصحابه وقد ترجلوا فنزل الناس وترجلوا ، ثم تقدموا نحو الخيل والفيلة ، فلم يكن إلا ساعة من أول النهار حتى إحمرت الأرض من دماء الفرس . .
فلما كان من غد وذلك في اليوم الرابع من حربهم ثار القوم بعضهم إلى بعض ،
--------------------------- 34 ---------------------------
وزحف أهل نهاوند في جميع عظيم حتى صافوا المسلمين . . .
قال : ثم نزل عمرو عن فرسه وجعل يستوثق من حزامه وثفره ولببه ،
ثم استوى عليه وضرب بيده إلى الصمصامة فجعل يهزها ، قال : ثم كبر عمرو وحمل ، وحمل معه فرسان بني مذحج على جموع الأعاجم ، فلما خالطهم عمرو عثر به فرسه فسقط إلى الأرض وغار فرسه وأحاطت به الفرس من كل جانب ، فلم يزل يقاتل حتى انكسرت الصمصامة في يده ، ثم ضرب بيده إلى السيف ذي النون فلم يزل يضرب به حتى انكسر في يده ، فعند ذلك علم أنه مقتول ، قال : وجعل المسلمون يحملون على الفرس فيقاتلون وليست لهم بهم طاقة لكثرة جمعهم ، وحمل رجل من الفرس يقال له بهرزاد على عمرو بن معد يكرب فضربه على يافوخه ، فخر عمرو صريعاً ، وتكاثرت عليه الفرس بالسيوف فقطعوه إرباً إرباً ، رحمة الله ورضوانه عليه ) .
4 . في الأنساب للسمعاني ( 3 / 136 ) : « استشهد بنهاوند زمن عمر . ومحمية بن جزء الزبيدي ، صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، استعمله على الأخماس » .
وقال الحموي ( 1 / 499 ) : « بندسيان : من قرى نهاوند ، بها قبر النعمان بن مقرن ، استشهد هناك يوم نهاوند وهوأميرالجيوش . وقبرعمرو بن معدي كرب فيما يزعم أهلها . والمشهور أن عمرو بن معديكرب مات بروذه قرب الري » .
قيس بن المكشوح
1 . وهو ابن أخت عمرو بن معدي كرب ، لكنه بجلي حليف بني مراد ، وعمرو زبيدي ، وكانت علاقتهما سيئة بسبب صراع القبيلتين ، وكان قيس مسلماً قبل خاله وأحسن تديناً . وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعتمد عليه فقد كتب له ليساعد في قتل مدعي النبوة الأسود العنسي ففعل ، وكانت له بطولات في الفتوحات ، وشارك في معركة اليرموك ، وسارع مع هاشم المرقال إلى العراق فحضر القادسية وكان قائد ميسرتها ، وكان قائداً فيما بعدها من معارك . وهو من كبار أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد استشهد معه في صفين .
--------------------------- 35 ---------------------------
2 . قال الطبري ( 3 / 203 ) : « فسار النعمان ومعه وجوه أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم حذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وجرير بن عبد الله البجلي ، والمغيرة بن شعبة ، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي ، وطليحة بن خويلد الأسدي ، وقيس بن مكشوح المرادي . . .
ثم عبأ كتائبه وخطب الناس فقال : إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان ، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله ، وإن أصيب جرير بن عبد الله فعليكم قيس بن مكشوح ، فوجد المغيرة بن شعبة في نفسه إذ لم يستخلفه » .
3 . وفي الإستيعاب ( 3 / 1299 ) : « قيس بن المكشوح ، أبو شداد . . حليف مراد ، وعداده فيهم . . وهو أحد الصحابة الذين شهدوا مع النعمان بن مقرن فتح نهاوند . له ذكر صالح في الفتوحات بالقادسية وغيرها زمن عمر وعثمان ، وهو أحد الذين قتلوا الأسود العنسي ، وهم : قيس بن مكشوح ، وذادويه ، وفيروز الديلمي . . ثم قتل قيس بن مكشوح بصفين مع علي ( عليه السلام ) ، وكانت فيه نجدة وبسالة ، وكان قيس شجاعاً فارساً بطلاً شاعراً ، وهو ابن أخت عمرو بن معدي كرب ، وكان يناقضه في الجاهلية ، وكانا في الإسلام متباغضين .
ومن خبره في صفين أن بجيلة قالت له : يا أبا شداد ، خذ رايتنا اليوم فقال : غيري خير لكم . قالوا : ما نريد غيرك . قال : فوالله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب ! قال : وعلى رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب يستر به معاوية من الشمس ، فقالوا له : إصنع ما شئت . فأخذ الراية ثم زحف فجعل يطاعنهم حتى انتهى إلى صاحب الترس ، وكان في خيل عظيمة ، فاقتتل الناس هنالك قتالاً شديداً ، وكان على خيل معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فشد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس فعارضه دونه رومي لمعاوية ، فضرب قدم أبي شداد فقطعها ، وضربه قيس فقتله ، وأشرعت إليه الرماح ،
فقتل رحمة الله تعالى عليه » .
--------------------------- 36 ---------------------------
زيد الخير بن صوحان
1 . في مناقب آل أبي طالب ( 1 / 95 ) : « وذكر ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زيد بن صوحان فقال : زيد وما زيد يسبقه عضو منه إلى الجنة ! فقطعت يده في يوم نهاوند في سبيل الله » .
2 . شارك زيد رضي الله عنه في معركتي الجمل الصغرى والكبرى ، فكان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأبلى بلاء حسناً ، واستشهد فيها ، قتله عمير بن يثربي فارس بني ضبة ) . ( أنساب الأشراف / 244 ) .
وأخذ بثأره من ابن يثربي عمار بن ياسر ( رحمه الله ) ، قال في تاريخ دمشق ( 43 / 464 ) : « فبرز له عمار وهو ابن ثلاث وتسعين ، عليه فروة مشدودة الوسط بشريط ، حمائل سيفه نسعة ، فانتقضت ركبتاه فجثى على ركبتيه فأخذه أسيراً ، فأتى به علياً ( عليه السلام ) » .
أبو عثمان النهدي : عبد الرحمن بن مَلّ
في سير أعلام النبلاء : 4 / 177 : « عن أبي عثمان النهدي ، قال : أتيت عمر بالبشارة يوم نهاوند . . كان أبو عثمان النهدي يصلي حتى يغشى عليه » .
وقال ابن حبان في الثقات : 5 / 75 : « عبد الرحمن بن مَلّ ، أبو عثمان النهدي من قضاعة أدرك الجاهلية . . غزا في عهد عمرالقادسية وجلولاء وتستر ونهاوند وأذربيجان ، وقد قيل مات أبو عثمان النهدي سنة مائة وكان مقيماً بالكوفة ، فلما قتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) انتقل منها إلى البصرة وقال : لا أسكن بلداً قتل فيها ابن بنت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وكان أبو عثمان يقول بلغت ثلاثين ومائة سنة ، كل شئ مني عرفت فيه النقص ، إلا أملي فإني أراه كما هو » . « قال لي سلمان : أتعرف رامهرمز ؟ قلت : نعم . قال : إني من أهلها . قلت : ما أشد حبك لعلي ! قال : كيف لا أحبه وقد سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : الناس من أشجار شتى ، وأنا وعلي من شجرة واحدة » . ( أربعون منتجب الدين / 35 ) .
وروى عنه أبو يعلى عن علي ( 1 / 427 ) : ( أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اعتنقه وأجهش بالبكاء قلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدورأقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي ! قال قلت يا رسول الله في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك » .
--------------------------- 37 ---------------------------
الفصل الثالث والثلاثون: دور علي ( عليهم السلام ) في فتح بقية إيران
قال عمر : مالنا ولخراسان ، وما لخراسان ولنا !
1 . قال الطبري ( 3 / 176 ) : « قال عمر : حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز . وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار ، لا يصلون إلينا منه ولانصل إليهم . وددت أن بينهم وبين الجبل جبلاً من نار ، لا يصلون إلينا منه ولانصل إليهم » !
ونلاحظ أن هذا موقف عمر في كل مراحل فتح إيران ، قبل معركة جلولاء وتستر ونهاوند وبعدها ، بل حتى بعد فتح خراسان ! لكن الواقع الميداني فرض نفسه عليه ، وجرت المعارك بخير في العراق فرضي بها ، ومع ذلك كان يؤكد أن لا يتوغلوا داخل إيران ! وقد توغل هاشم المرقال قائد معركة جلولاء لمطاردة الجيش الفارسي ، فقاد مع حجر بن عدي ، فتح حلوان وغيرها .
وفي فتوح ابن الأعثم ( 2 / 78 ، و 320 ) : « كتب إلى أبي موسى : أما بعد فقد ورود عليَّ كتابك يخبرني بما فتح الله على يديك من أرض فارس وكرمان ، وأنك تريد التقدم إلى بلاد خراسان ، فمهلاً أبا موسى في ذلك ، فانظر إذا ورد عليك كتابي هذا ، فول على كل بلد مما فتح الله عز وجل على يديك رجلاً يرتضيه المسلمون ، وارجع إلى البصرة فأقم بها ، وذر عنك خراسان فلا حاجة لنا بها . يا ابن قيس : مالنا ولخراسان وما لخراسان ولنا ! ولوددت أن بيننا وبين خراسان جبالاً من حديد وبحاراً ، وألف سد كل سد مثل سد يأجوج ومأجوج .
فقال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : ولمَ ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر : لأنها أرض بعدت عنا جداً ، ولا حاجة لنا بها . فقال علي : فإن كانت قد بعدت عنك خراسان ، فإن لله عز وجل مدينة بخراسان يقال لها مرو ، أسسها ذو القرنين وصلى بها عزير ، أرضها فياحة . .
--------------------------- 38 ---------------------------
ثم حدثه عن مدن خراسان وما يجري عليها ، فقال عمر : يا أبا الحسن ، لقد رغبتني في فتح خراسان ! قال علي ( عليه السلام ) : قد ذكرت لك ما علمت منها مما لا شك فيه » .
( ونحوه الطبري : 3 / 246 ) .
وقال ( عليه السلام ) ( الفقيه : 2 / 583 ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ستدفن بضعة مني بخراسان ما زارها مكروب إلا نفس الله عز وجل كربه ، ولامذنب إلا غفر الله له ذنوبه ) .
وهذا إخبار منه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بفتح خراسان ، فلا بد أن علياً ( عليه السلام ) استعمله لإقناع عمر ! وتابع علي ( عليه السلام ) والأحنف محاولتهما مع عمر لتقوية قلبه وإقناعه بفتح خراسان ، حتى سمح بالإنسياح في إيران ، وأرسل الأحنف لفتح خراسان ومطاردة يزدجرد .
2 . قال الطبري ( 3 / 182 و 184 ) قال الأحنف : « يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الإنسياح في البلاد ، وأمرتنا بالإقتصار على ما في أيدينا ، وإن مَلِك فارس حيٌّ بين أظهرهم ، وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام مَلكهم فيهم ، ولم يجتمع مَلِكان فاتفقا حتى يُخرج أحدهما صاحبه ، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً بعد شئ إلا بانبعاثهم ، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم ، ولا يزال هذا دأبهم حتى يأذن لنا في السيح في بلادهم ، حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وعز أمته ، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويربطوا جأشاً . فقال : صدقتني والله ، وشرحت لي الأمر عن حقه ) .
3 . وقال الطبري ( 3 / 244 ) : « وفي هذه السنة ( سنة 21 ) غزا الأحنف بن قيس في قول بعضهم خراسان . فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ حتى نزلها ، ونزل الأحنف مرو الشاهجان ، وكتب يزدجرد وهو بمرو الروذ إلى خاقان يستمده ، وكتب إلى ملك الصغد يستمده ، فخرج رسولاه نحو خاقان وملك الصغد ، وكتب إلى ملك الصين يستعينه .
وخرج الأحنف من مرو الشاهجان ، واستخلف عليها حارثة بن النعمان الباهلي ، بعد ما لحقت به أمداد أهل الكوفة ، على أربعة أمراء : علقمة بن النضر النضري ، وربعي بن عامر التميمي ، وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي ، وابن أم غزال الهمداني . وخرج سائراً نحو مرو الروذ ، حتى إذا بلغ ذلك يزدجرد خرج إلى بلخ ( في أفغانستان )
--------------------------- 39 ---------------------------
ونزل الأحنف مرو الروذ ، وقدم أهل الكوفة فساروا إلى بلخ ، وأتبعهم الأحنف فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ ، فهزم الله يزدجرد ، وتوجه في أهل فارس إلى النهر فعبر ، ولحق الأحنف بأهل الكوفة ، وقد فتح الله عليهم . فبلخ من فتوح أهل الكوفة . . .
وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمروالروذ ، وكان الأحنف حين بلغه عبور خاقان والصغد نهر بلخ غازياً له ، خرج في عسكره ليلاً يتسمع هل يسمع برأي ينتفع به ، فمر برجلين ينقيان علفاً إما تبناً وإما شعيراً ، وأحدهما يقول لصاحبه لو أن الأمير أسندنا إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقاً ، وكان الجبل في ظهورنا من أن نؤتى من خلفنا ، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله . فرجع واجتزأ بها ، وكان في ليلة مظلمة ، فلما أصبح جمع الناس ثم قال : إنكم قليل وإن عدوكم كثير فلا يهولنكم ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين . إرتحلوا من مكانكم هذا فأسندوا إلى هذا الجيل ، فاجعلوه في ظهوركم واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم ، وقاتلوهم من وجه واحد ، ففعلوا ، وقد أعدوا ما يصلحهم ، وهو في عشرة آلاف من أهل البصرة ، وأهل الكوفة نحو منهم .
وأقبلت الترك ومن أجلبت حتى نزلوا بهم ، فكانوا يغادرونهم ويراوحونهم ، ويتنحون عنهم بالليل ما شاء الله .
وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل فخرج ليلةً بعد ما علم علمهم طليعةً لأصحابه ، حتى كان قريباً من عسكر خاقان فوقف ، فلما كان في وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه وضرب بطبله ، ثم وقف من العسكر موقفاً يقفه مثله ، فحمل عليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله . ثم انصرف الأحنف إلى عسكره ، ولم يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد . وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء كلهم يضرب بطبله ، ثم يخرجون بعد خروج الثالث فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث
--------------------------- 40 ---------------------------
فأتوا على فرسانهم مقتلين ، فتشاءم خاقان وتطير ، فقال قد طال مقامنا وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم يصب بمثله قط ! مالنا في قتال هؤلاء القوم من خير ، فانصرفوا بنا . فكان وجوههم راجعين وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئاً وأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ . ولما جمع يزدجرد ما كان في يديه مما وضع بمرو فأعجل عنه ، وأراد أن يستقل به منها ، إذ هو أمرعظيم من خزائن أهل فارس وأراد اللحاق بخاقان فقال له أهل فارس : أي شئ تريد أن تصنع ؟ فقال : أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين . فقالوا له : مهلاً فإن هذا رأي سوء ، إنك إنما تأتي قوماً في مملكتهم وتدع أرضك وقومك ، ولكن إرجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم أوفياء وأهل دين وهم يلون بلادنا ، وإن عدواً يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة عدو يلينا في بلاده ، ولا دين لهم ولا ندري ما وفاؤهم !
فأبى عليهم وأبوأ عليه فقالوا فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها ولا نخرجها من بلادنا إلى غيرها ، فأبى فقالوا : فإنا لا ندعك ! فاعتزلوا وتركوه في حاشيته فاقتتلوا فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها ، ونكبوه .
وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ ، ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع .
كانت نهاية يزدجرد في مطحنة بيد قومه الفرس !
عاش الملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى بعد معركة نهاوند ، نحو اثنتي عشرة سنة ، كان فيها ملكاً مقاتلاً مشرداً ، يستنهض الفرس لقتال المسلمين ، فيتحرك بعضهم ويقاتلون معه ، ويكرهه أكثرهم ، حتى غدربه بعضهم وقتلوه ! وكانت مشكلته التكبر على قومه الفرس ، فهو يراهم عبيداً له ويصرح بذلك ، ويعاملهم بغطرسة ، مع أنه مشرد محتاج إليهم !
قال البلاذري في فتوح البلدان : 2 / 387 : « هرب يزدجرد من المدائن إلى حلوان ثم إلى إصبهان . فلما فرغ المسلمون من أمر نهاوند هرب من إصبهان إلى إصطخر . فتوجه عبد الله بن بديل بن ورقاء بعد فتح إصبهان لاتباعه فلم يقدر عليه . .
ثم بدا له فهرب إلى كرمان ، واتبعه ابن عامرمجاشع بن مسعود السلمي ، وهرم بن
--------------------------- 41 ---------------------------
حيان العبدي ، فمضى مجاشع فنزل بيمنذ من كرمان ، فأصاب الناس الدَّمَق
( ريح وثلج ) وهلك جيشه فلم ينج إلا القليل فسمى القصرقصرمجاشع .
وكان يزدجرد جلس ذات يوم بكرمان ، فدخل عليه مرزبانها فلم يكلمه تيهاً ! فأمر بجر رجله وقال : ما أنت بأهل لولاية قرية فضلاً عن الملك ، ولو علم الله فيك خيراً ، ما صيرك إلى هذه الحال ! فمضى إلى سجستان فأكرمه ملكها وأعظمه ، فلما مضت عليه أيام سأله عن الخراج فتنكر له .
فلما رأى يزدجرد ذلك سار إلى خراسان ، فلما صار إلى حد مرو تلقاه ماهويه مرزبانها معظماً مبجلاً ، وقدم عليه نيزك طرخان فحمله وخلع عليه وأكرمه ، فأقام نيزك عنده شهراً ، ثم شخص وكتب إليه يخطب ابنته فأحفظ ذلك يزدجرد ( أغضَبه ) وقال : أكتبوا إليه إنما أنت عبد من عبيدي ، فما جرأك على أن تخطب إليَّ ؟ وأمر بمحاسبة ماهويه مرزبان مرو ، وسأله عن الأموال ، فكتب ماهويه إلى نيزك يحرضه عليه ويقول : هذا الذي قدم مفلولاً طريداً ، فمننت عليه ليرد عليه ملكه فكتب إليك بما كتب ، ثم تضافرا على قتله ! وأقبل نيزك في الأتراك حتى نزل الجنابذ فحاربوه ، فتكافأ الترك ثم عادت الدائرة عليه فقتل أصحابه ونهب عسكره . فأتى مدينة مرو فلم يفتح له فنزل عن دابته ومشى حتى دخل بيت طحان على المرغاب ، ويقال إن ماهويه بعث إليه رسله حين بلغه خبره فقتلوه في بيت الطحان . ويقال إنه دس إلى الطحان فأمره بقتله فقتله ، ثم قال : ما ينبغي لقاتل ملك أن يعيش ، فأمر بالطحان فقتل ) .
وعقد الطبري ( 3 / 244 ) فصلاً لمصير يزدجرد وهروبه من بلد إلى بلد ، وحملة الأحنف بن قيس على خراسان واشتباكه معه ومطاردته له » .
وكان قتل يزدجرد في خلافة عثمان سنة 31 ، بعد 12 سنة من وقعة نهاوند .
وهكذا تحقق دعاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على كسرى لما مزق كتابه ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « مزق الله ملكه كما مزق كتابي ، أما إنه ستمزقون ملكه » . ( مناقب آل أبي طالب : 1 / 70 ) .
--------------------------- 42 ---------------------------
شهربانويه زوجة الحسين وأم زين العابدين ( ( عليهما السلام ) )
1 . كتبنا في سيرة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ( اسم أمه : شاه زنان ، وقيل شهربانويه ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولَّى حريث بن جابرالحنفي جانباً من المشرق ، فبعث إليه ببنتي يزدجرد بن شهريار ، فنحل ابنه الحسين ( عليه السلام ) إحداهما فأولدها زين العابدين ( عليه السلام ) ونحل الأخرى محمد بن أبيبكر فولدت له القاسم بن محمد بن أبيبكر ، فهما ابنا خالة ) . ( إعلام الورى : 1 / 480 ) . وقد ذكر خؤولته من آل كسرى كل من أرخ له ( عليه السلام ) ! ورووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رغَّب بني هاشم بمصاهرة العجم فقال : فالتمسوا أولادهن ، فإن في أرحامهن البركة ) . ( المغني لابن قدامة الحنبلي ( 7 / 468 ) والكافي ( 5 / 474 ) .
وقال في عمدة الطالب / 192 : ( أغنى الله تعالى علي بن الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما حصل له من ولادة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن ولادة يزدجرد ) .
2 . وهي غير ابنة يزدجرد التي فاوض حراسها سلمان في فتح المدائن على إخراجها من القصر وتسليمه للمسلمين . وقد روى ذلك الواقدي ( 2 / 204 ) وفيه أن سلمان الفارسي رضي الله عنه تقدم إلى حراس القصر وكلمهم بالفارسية وقال لهم إن الملك يزدجرد هرب ، وقد وعدنا الله هذا القصر فسلموه لنا ولا تهلكوا أنفسكم ، فقالوا له إنهم تخلفوا عن كسرى بسبب بنته المريضة ، فسمحوا لهم بأخذها وغادروا » .
ومن البعيد أن تكون ابنة يزدجرد أرسلت أسيرة إلى عمر فصارت زوجة الحسين ( عليه السلام ) ، لأنها أسلمت فلم تكن أسيرة ، ولأن فتح المدائن كان سنة ست عشرة ( الطبري : 3 / 139 ) والإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ولد سنة ثمان وثلاثين ، ومن البعيد أنها ولدته بعد اثنين وعشرين سنة من زواجها من الحسين ( عليه السلام ) ، فلا بد أن تكون أم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) غيرها . فالمرجح رواية حريث بن جابرالوالي من قبل علي ( عليه السلام ) على اللهازم ، وأنه عثر على بنتي يزدجرد فبعثما إلى الإمام ( عليه السلام ) ، وقد كن صغيرات مشردات عند هروبه من المدائن ، وروي أنه لما وصل هارباً إلى مرو خطب حاكم مرو ابنته ، فغضب ! ( البلاذري : 2 / 387 ) .
--------------------------- 43 ---------------------------
3 . وكان حريث بن جابر والياً لعلي ( عليه السلام ) على لهازم البصرة ( شرح النهج : 4 / 37 ) وهي مجموعة قبائل ، نزلوا الكرج بين طهران وهمدان ، وقد مصرها أبودلف العجلي ، ومنهم من سكن قزوين وخراسان ، ويظهرأن يزدجرد أودع بناته أو بنات أخيه في منطقة نفوذ اللهازم ، فعثرعليهن حريث بن جابر .
وتكون نسبة القصة إلى عمر خلطاً بأسيرة أخرى من آل كسرى في زمن عمر .
والمرجح عندي أنها بنت شيرويه أخ يزدجرد ، لقول الشيخ الطوسي في التهذيب ( 6 / 77 ) : ( وأمه شاه زنان بنت شيرويه بن كسرى اپرويز ) .
وكذا في الخرائج ( 2 / 750 ) والتذكرة ( 6 / 198 ) والحدائق : 17 / 435 ) والمفيد في المقنعة / 472 .
ترجمة حريث بن جابر الحنفي البكري
1 . قال محمد هادي الأميني في كتابه أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والراوين عنه ( 1 / 157 ) : ( حريث بن جابر الحنفي البكري . فارس ، شاعر ، رئيس بني حنيفة ، ومن أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المخلصين في ولائه . شهد صفين وأبلى فيها بلاءً حسناً ، وأمَّره علي ( عليه السلام ) على لهازم البصرة يوم صفين . وله أخبار تدل على ثباته في طاعة علي ( عليه السلام ) . إتقان المقال / 79 . الأخبار الطوال / 178 . أعيان الشيعة 4 / 615 . أنساب الأشراف 2 / 325 . الإمامة والسياسة 1 / 105 . تنقيح المقال 1 / 261 . جامع الرواة 1 / 182 . رجال الشيخ الطوسي / 39 . شرح ابن أبي الحديد 5 / 234 و 16 / 197 . قاموس الرجال 3 / 107 . مجمع الرجال 2 / 90 . مروج الذهب 2 / 395 . معجم رجال الحديث 4 / 248 . نقد الرجال / 84 . وقعة صفين / 137 ، 205 ، 299 ، 485 ) .
2 . وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم / 297 : ( بعث عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقال : إن لي إليك حاجة فالقني ، فلقيه الحسن فقال له عبيد الله : إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً ، وقد شنئوه فهل لك أن تخلفه ونوليك هذا الأمر ؟ قال : كلا والله لا يكون ذلك . ثم قال له الحسن : لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك ، أما إن الشيطان قد زين لك وخدعك حتى أخرجك مخلقاً بالخلوق تُري نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً !
--------------------------- 44 ---------------------------
قال : فوالله ما كان إلا كيومه أو كالغد وكان القتال فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء وهي الخضرية ، كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر ، ونظر الحسن فإذا هو برجل متوسد رجلاً قتيلاً قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله ، فقال الحسن لمن معه : أنظروا من هذا ، فإذا هو رجل من همدان ، فإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، قد قتله وبات عليه حتى أصبح ، ثم سلبه ، فسأل الرجل من هو ؟ فقال : رجل من همدان وإنه قتله .
واختلفوا في قاتل عبيد الله ) . وسبب الاختلاف أن قاتله لا يريد أن يعرف ، والظاهر أنه ابن حريث ، وأنه قتله وتركه فادعى غيره قتله . قال ابن العديم في بغية الطلب ( 5 / 2199 ) : ( وقال بعضهم : ما قتله إلا حريث بن جابر الحنفي ) .
3 . وقال حريث بن جابر في التداعي إلى الحكومة :
لعمرو أبيك والأبناء تنمي * وقد يشقي من الخبر الخبير
لقد نادى معاوية بن حرب * لأمر لا تضيق له الصدور
دعانا للتي كنا إليها * دعوناه وذاك لها سرور
فحكمنا للقرآن بغير شك * وكان الله عدلاً لا يجور
ولا تعجل معاوية بن حرب * فإن سرور ما تهوى غرور
فإنك والخلافة يا ابن حرب * لكالحادي وليس له بعير ) .
الأحنف بن قيس رائد فتح خراسان
1 - الضحاك بن قيس . . بن زيد مناة بن تميم . أدرك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يره . ( أسد الغابة : 1 / 55 ) . وقد وفد على عمرفحبسه عنده سنة بدون سبب ، وفهم الأحنف مزاج عمر وكان صبوراً ، فأعجب به عمر . وسماه الأحنف وهو الذي في مشط قدمه مَيْلٌ أو تشوه . ( الصحاح : 4 / 1374 ) .
وقال الحسن البصري : ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف . وقال سفيان : ما وزن عقل الأحنف بعقل إلا وزنه . ( تاريخ دمشق : 4 / 316 ) .
وفي مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 109 : « صعد الأحنف بن قيس فوق بيته فأشرف على جاره ، فقال : سوءةً سوءةً ! دخلت على جاري بغيرإذن ! لاصعدت فوق هذا البيت أبداً » .
--------------------------- 45 ---------------------------
وهذا نبلٌ فريد . وبقي الأحنف سيد بني تميم أربعين سنة . وتوفي في الكوفة سنة سبع وستين . ( الغارات : 2 / 754 ) .
وقال المدائني : كان له ابن وبنت وقد انقرض عقبه . ( معجم البلدان : 1 / 55 )
2 - كان الأحنف من شيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقد روى عن أبي ذر ( رحمه الله ) قوله : « كنا ذات يوم عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مسجد قبا ، ونحن نَفَرٌ من أصحابه فقال : معاشرأصحابي يدخل عليكم من هذا الباب رجل هو أمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، قال فنظروا وكنت فيمن نظر ، فإذا نحن بعلي بن أبي طالب قد طلع فقام ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاستقبله وعانقه وقبَّل ما بين عينيه ، وجاء به حتى أجلسه إلى جانبه ، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم فقال : هذا إمامكم بعدي ، طاعته طاعتي ، ومعصيته معصيتي ، وطاعتي طاعة الله ، ومعصيتي معصية الله عز وجل » .
( أمالي الصدوق / 634 ) .
3 . كان بنو تميم منقسمين في حرب الجمل ، فكتب الأحنف إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه إن معه لكنه إن جاء يأتي معه ألفان أو نحوها ، وإن وقف على الحياد كف عنه عشرة آلاف سيف ، فأمره علي ( عليه السلام ) بأن يعتزل ويكف عنه عشرة آلاف .
4 . وكان أول من أجاب دعوة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما دعا أهل البصرة لقتال معاوية ، فلما قرأ ابن عباس كتاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : « أيها الناس استعدوا للشخوص إلى إمامكم ، وانفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم . . فلما أتمَّ كلامه قام الأحنف فقال : نعم والله لنجيبك ، ونخرج معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الأجر ، ونأمل به من الله الثواب العظيم » .
( شرح النهج : 3 / 187 ) .
5 . اقترح الأحنف على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يكون مندوبه للتحكيم بعد صفين مقابل ابن العاص فقال : « يا أمير المؤمنين : إنك رُميت بحجر الأرض ، ومن حارب الله ورسوله أنف الإسلام ، وإني قد عجمت هذا الرجل ، يعني أبا موسى ، وحلبت شطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر ، وإنه لا يصلح
--------------------------- 46 ---------------------------
لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم ، ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم ، فإن شئت أن تجعلني حكماً فاجعلني ، وإن شئت فاجعلني ثانياً أو ثالثاً ، فإن عمراً لا يعقد عقدة إلا حللتها ، ولا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها ، فعرض الإمام ذلك على الناس فأبوه ! وقالوا لا يكون إلا أبو موسى » .
( شرح النهج : 2 / 230 ) .
ولما أصر أهل الكوفة على تحكيم أبي موسى ، نصحه الأحنف : « يا أبا موسى اعرف خَطْبَ هذا الأمر ، واعلم إن له ما بعده وإنك إن أضعت العراق فلا عراق ، إتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك ، وإذا لقيت غداً عمراً فلا تبدأه بالسلام ، فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس بأهلها ، ولاتعطه يدك فإنها أمانة ، وإياك أن يقعدك على صدرالفراش فإنها خدعة ، ولاتلقه إلا وحده ، وأحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع ، تخبأ لك فيه الرجال والشهود » . ( شرح النهج : 2 / 249 ) .
6 . خطب شاميٌّ في مجلس معاوية : « فكان آخر كلامه أن لعن علياً ( عليه السلام ) فأطرق الناس ! وتكلم الأحنف فقال لمعاوية : إن هذا القائل لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم ، فاتق الله ودع عنك علياً ، فقد لقي ربه وأفرد في قبره وخلا بعمله ، وكان والله المبرز بسبقه ، الطاهر خلقه ، الميمون نقيبته ، والعظيم مصيبته . فقال معاوية : يا أحنف لقد أغضيت العين على القذى ، وقلت بغير ما ترى ، وأيم الله لتصعدنَّ المنبر فلتلعنه طوعاً أو كرهاً ! فقال له الأحنف : إن تعفني فهو خير لك ، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري به شفتاي أبداً .
قال : فاصعد المنبر ! قال الأحنف : أما والله لأنصفنَّك في القول والفعل . قال : وما أنت قائل يا أحنف ؟ قال : أصعد المنبر فأحمد الله بما هو أهله ، وأصلي على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم أقول : أيها الناس إن معاوية أمرني أن ألعن علياً ، وإن علياً ومعاوية اختلفا واقتتلا وادَّعى كل واحد منها أنه بغى على فئته ، فإذا دعوت فأمِّنوا رحمكم الله ، ثم أقول : اللهم ألعن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه ، وألعن الفئة الباغية ، اللهم العنهم لعناً كثيراً !
--------------------------- 47 ---------------------------
يا معاوية : لا أزيد على هذا ولا أنقص حرفاً ، ولو كان فيه ذهاب نفسي ، فسكت معاوية وأعفاه عن ذلك » . ( مواقف الشيعة : 1 / 244 ) .
7 . « قال الأحنف : دخلت على معاوية فقدَّم إليَّ من الحلو والحامض ما كثر تعجبي منه . ثم قدم لوناً ما أدري ما هو فقلت : ما هذا ؟ قال : مصارين البط مَحْشُوَّةٌ بمخاخ العصافير ، قد قُليت بدهن الفستق ، وذُرَّ عليه الطبرزد . فبكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت علياً ، بينا أنا عنده فحضر وقت إفطاره ، فسألني المقام إذ دعا بجراب مختوم ، قلت : ما في الجراب ؟ قال : سويق شعير . قلت : خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟ قال : لا ولا أحدهما ، ولكني خفت أن يَلِتَّهُ الحسن والحسين بسمن أو زيت . قلت : محرم هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ، ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس ، لئلا يطغى بالفقير فقره ! قال معاوية : ذكرت من لا ينكر فضله » . ( التذكرة الحمدونية / 69 ) .
وفي رواية : فبكى معاوية . . ولا بد أن يكون بكاءه تريأثراً ببكاء الأحنف !
8 . كان الأحنف شجاعاً قائداً ، فقد جعله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أميراً على تميم البصرة كلها في معركة صفين . ( شرح النهج : 4 / 27 ) كما كان له دور قيادي في الفتوحات ، فكان أول من توجه إلى فتح خراسان ، وطارد يزدجرد ، وفتح مرو الروذ وغيرها . ( تاريخ دمشق : 24 / 313 ) . وكان على مقدمة الجيش في فتح هرات ، وطخارستان ، وطالقان ، والجوزجان وغيرها . ( شرح النهج : 4 / 27 ) .
وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ( 1 / 330 ) : « كتب معاوية إلى زياد : أنظر رجلاً يصلح لثغر الهند فولَّه ، فكتب إليه إنّ قبلي رجلين يصلحان لذلك : الأحنف بن قيس ، وسنان بن سلمة الهذلي . فكتب إليه معاوية : بأي يومي الأحنف نكافيه ؟ أبخذلانه أمّ المؤمنين ، أم بسعيه علينا يوم صفّين ؟ فوجه سناناً . فكتب إليه زياد : إن الأحنف قد بلغ من الشرف والحلم والسؤدد ، ما لا تنفعه الولاية ، ولا يضرُّه العزل » !
--------------------------- 48 ---------------------------
بقايا بني تميم في خراسان إلى اليوم !
يوجد إلى اليوم خمس قرى في محافظة خراسان سكانها من بني تميم ، ما زالوا يتكلمون العربية ، وأخبرني بعضهم أن لغتهم يكثر فيها الألفاظ الفارسية كأهل الأهواز ، وهم شيعة جعفرية ، ومنهم علماء وطلبة علم ، وقد رأيت أحدهم في قم ونسيت اسمه . والفخر الأكبر لبني تميم لرئيسهم الأحنف بن قيس رضي الله عنه في عقله الوافر ، وحسن إدارته ، وشجاعته التي ظهرت في فتح خراسان وأفغانستان .
- *
--------------------------- 49 ---------------------------
الفصل الرابع والثلاثون: احتجاجات علي ( عليه السلام ) على أبيبكر وعمر وعثمان
1 . حديث الإمتحانات الربانية السبعة
روى الصدوق في الخصال / 365 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عند منصرفه عن وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي . قال : سل عما بدا لك يا أخا اليهود ؟ قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر أمته من بعده ، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذي عليه ويعمل به في أمته من بعده ، وأن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم ( عليهم السلام ) ، فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء ؟ وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم ؟
فقال له علي ( عليه السلام ) : والله الذي لا إله غيره ، الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى ( عليه السلام ) لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه لتقرن به ؟ قال : نعم .
قال : والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى ( عليه السلام ) لئن أجبتك لتسلمن ؟ قال : نعم ، فقال له علي ( عليه السلام ) : إن الله عز وجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ( عليهم السلام ) في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم ، أمرالأنبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم ، ويصير طاعة الأوصياء في أعناق الأمم ممن يقول بطاعة الأنبياء ( عليهم السلام ) ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء في سبعة مواطن ليبلو صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء وقد أكمل لهم السعادة .
--------------------------- 50 ---------------------------
قال له رأس اليهود : صدقت يا أمير المؤمنين ، فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة ؟ وإلى ما يصيرآخر أمرك ؟
فأخذ علي ( عليه السلام ) بيده وقال : إنهض بنا أنبئك بذلك ، فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك معه ، فقال : إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم ، قالوا : ولم ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لأمور بدت لي من كثير منكم .
فقام إليه الأشتر فقال : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك ، فوالله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الأرض وصي نبي سواك ، وإنا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نبياً سواه ، وأن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا ، فجلس علي ( عليه السلام ) وأقبل على اليهودي فقال : يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني في حياء نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن ، من غير تزكية لنفسي ، بنعمة الله له مطيعاً . قال : فيمَ وفيم يا أمير المؤمنين ؟
قال أما أولهن ، فإن الله عز وجل أوحى إلى نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سناً ، أخدمه في بيته وأسعى في قضاء بين يديه في أمره ، فدعا صغير بني عبد المطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه ، وهجروه ونابذوه ، واعتزلوه واجتنبوه ، وسائر الناس مقصين له ومخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لم تحتمله قلوبهم وتدركه عقولهم ، فأجبت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ما دعا إليه مسرعاً مطيعاً موقناً ، لم يتخالجني في ذلك شك ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الأرض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما
آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله ، وقد فعل .
ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار ، دار الندوة ، وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ، ثم يأتي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد
--------------------------- 51 ---------------------------
فيقتلوه ، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها ، فيمضي دمه هدراً ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالخبر ، وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه ، فمضى ( عليه السلام ) لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ، ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس .
ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن ابني ربيعة وابن عتبة وكانوا فرسان قريش ، دعوا إلى البراز يوم بدر ، فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع صاحبيَّ ، رضي الله عنهما ، وقد فعل ، وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بيدي وليداً وشيبة سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم ، وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي ، واستشهد ابن عمي في ذلك رحمة الله عليه .
ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال علي ( عليه السلام ) : وأما الرابعة يا أخا اليهود ، فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم ، قد استجاشوا من يليهم من قبايل العرب وقريش ، طالبين بثأر مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك ، فذهب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعسكر بأصحابه في سد أحد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا إلينا حملة رجل واحد ، واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممن بقي من الهزيمة ، وبقيت مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقتل أصحابه ، ثم ضرب الله عز وجل وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نيفاً وسبعين جرحة منها هذه
--------------------------- 52 ---------------------------
وهذه ، ثم ألقى ( عليه السلام ) رداءه وأمر يده على جراحاته ، وكان مني في ذلك ما على الله
عز وجل ثوابه إن شاء الله .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك ، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار ، فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعوها إلى الله عز وجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى ، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود ، يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضني إليه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا ، وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود ، فقتله الله عز وجل بيدي ، والعرب لا تعدُّ لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة ، وأومأ بيده إلى هامته ، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك ، وبما كان مني فيهم من النكاية .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما السادسة يا أخا اليهود ، فإنا وردنا مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها ، من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى إذا احمرت الحدق ، ودعيت إلى النزال وأهمت كل امرئ نفسه . والتفت بعض أصحابي إلي بعض وكل يقول : يا أبا الحسن إنهض ، فأنهضني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى دارهم ، فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلا طحنته ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ،
--------------------------- 53 ---------------------------
حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها حتى أفتتحها وحدي ، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول لله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما توجه لفتح مكة أحب أن يعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عز وجل آخراً كما دعاهم أولاً فكتب إليهم كتاباً يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم ، ثم عرض على جميع أصحابه المضي به فكلهم يرى التثاقل فيه ، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلاً فوجهه به فأتاه جبرئيل فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فأنبأني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذلك ووجهني بكتابه ورسالته إلى أهل مكة ، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء ويظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم .
ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : يا أخا اليهود ، هذه المواطن التي امتحنني فيه ربي عز وجل مع نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجدني فيها كلها بمنه مطيعاً ، ليس لأحد فيها مثل الذي لي ،
ولو شئت لوصفت ذلك ، ولكن الله عز وجل نهى عن التزكية .
فقالوا : يا أمير المؤمنين : صدقت والله ولقد أعطاك الله عز وجل الفضيلة بالقرابة من نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأسعدك بأن جعلك أخاه ، تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ، وفضلك بالمواقف التي باشرتها ، والأهوال التي ركبتها ، وذخر لك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره ، ومما ليس لأحد من المسلمين مثله ، يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن شهدك بعده .
--------------------------- 54 ---------------------------
فأخبرنا يا أمير المؤمنين ما امتحنك الله عز وجل به بعد نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فاحتملته وصبرت ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علماً منا به وظهوراً منا عليه ، إلا أنا نحب أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته ، فأطعته فيه .
فقال ( عليه السلام ) : يا أخا اليهود إن الله عز وجل امتحنني بعد وفاة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي منه ونعمته صبوراً .
وأما أولهن يا أخا اليهود ، فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة أحد آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه ، أو أتقرب به غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، هو رباني صغيراً ، وبوأني كبيراً ، وكفاني العيلة ، وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ، ووقاني المكسب ، وعال لي النفس والولد والأهل ، هذا في تصاريف أمر الدنيا ، مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحق ، عند الله عز وجل ، فنزل بي من وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوي على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والإسماع ، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معز يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم ، جازع لجزعهم ، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه ، وتغسيله وتحنيطه وتكفينه ، والصلاة عليه ، ووضعه في حفرته ، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ، ولا هائج زفرة ، ولا لاذع حرقة ، ولا جزيل مصيبة حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي ، وبلغت منه الذي أمرني به ، واحتملته صابراً محتسباً .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمَّرني في حياته على جميع أمته ، وأخذ على جميع من حضره منهم البيعة والسمع والطاعة لأمري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدى إليهم عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره إذا حضرته والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي
--------------------------- 55 ---------------------------
في شئ من الأمر في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا بعد وفاته ، ثم أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم ، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمرأمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد ، فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ، قد تركوا مراكزهم ، وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي . فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية ، وفاجع المصيبة ، وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك وتعالى . فصبرت عليها إذا أتت بعد أختها على تقاربها وسرعة اتصالها .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يلقاني معتذراً في
--------------------------- 56 ---------------------------
كل أيامه ويلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ، ويسألني تحليله ! فكنت أقول : تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفواً هنيئاً ، من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثاً في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلاناً يقول فيها : نعم ، وفلاناً يقول : لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، وجماعة من خواص أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الإسلام يأتوني عوداً وبدءاً وعلانيةً وسراً ، فيدعوني إلى أخذ حقي ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلي بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويداً وصبراً قليلاً ، لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل فقال كل قوم : منا أمير ! وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الأمر ، فلما دنت وفاة القائم ، وانقضت أيامه ، صير الأمر بعده لصاحبه ، فكانت هذه أخت أختها ، ومحلها مني مثل محلها ، وأخذا مني ما جعله الله لي ، فاجتمع إلي من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ممن مضى وممن بقي ممن أخره الله من اجتمع ، فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في أختها ، فلم يَعْدُ قولي الثاني قولي الأول صبراً واحتساباً ويقيناً ، وإشفاقاً من أن تفنى عصبة تألفهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) باللين مرة وبالشدة أخرى ، بالنذر مرة وبالسيف أخرى ، حتى لقد كان من تألُّفِهِ لهم أن كان الناس في الكر والفر والشبع والري واللباس والوطاء والدثار ، ونحن أهل بيت محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لاسقوف لبيوتنا ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد وما أشبهها ، ولا وطاء لنا ولا دثار علينا ، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، ونطوي الليالي والأيام جوعاً عامتنا ، وربما أتانا الشئ مما أفاءه الله علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا ، ونحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرباب النعم والأموال تألفاً منه لهم ، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها ، دون بلوغها أو فناء آجالها ، لأني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على إحدى منزلتين : إما متبع مقاتل ، وإما مقتول إن لم يتبع الجميع ، وإما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر في نصرتي ، أو أمسك عن طاعتي ،
--------------------------- 57 ---------------------------
وقد علم الله أني منه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمنزلة هارون من موسى ، يَحُلُّ به في مخالفتي والإمساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته . ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ، ولزوم الصبر حتى يفتح الله أو يقضي بما أحب ، أزيد لي في حظي وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم . وكان أمر الله قدراً مقدوراً . ولو لم أتق هذه الحالة يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه ، لعلم من مضى من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن بحضرتك منهم ، بأني كنت أكثر عدداً وأعز عشيرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجة ، وأكثر في هذا الدين مناقب وآثاراً ، لسوابقي وقرابتي ووراثتي فضلاً عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها ، ولقد قبض محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإن ولاية الأمة في يده وفي بيته لا في يد الأولى تناولوها ولا في بيوتهم ، ولَأَهْلُ بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا أولى بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
وأما الرابعة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ، ولا يطمع في الأمر بعده سواي ، فلما أن أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ولا أمر كان أمضاه ، في صحة من بدنه ، لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، والعاقبة التي كنت ألتمسها ، وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت وأفضل ما أملت ، فكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوماً أنا سادسهم ولم يستوني بواحد منهم ، ولا ذكر لي حالاً في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيرها شورى بيننا وصير ابنه فيها حاكماً علينا ! وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صير الأمر فيهم إن لم ينفذوا أمره ! وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود
--------------------------- 58 ---------------------------
صبراً ، فمكث القوم أيامهم كلها ، كل يخطب لنفسه ، وأنا ممسك عن أن سألوني عن أمري ، فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم ، دعاهم حب الإمارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي والركون إلى الدنيا ، والاقتداء بالماضين قبلهم ، إلى تناول ما لم يجعل الله لهم ، فإذا خلوت بالواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه ، التمس مني شرطاً أن أصيرها له بعدي ! فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله عز وجل ووصية الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له ، ومنعه ما لم يجعل الله له ، أزالها عني إلى ابن عفان طمعاً في الشحيح معه فيها ، وابن عفان رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط فضلاً عمن دونهم . لاببدر التي هي سنا فخرهم ، ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن اختصه معه من أهل بيته ، ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ونكصوا على أعقابهم وأحال بعضهم على بعض ، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه !
ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتى أكفروه وتبرؤوا منه ، ومشى إليَّ أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عامة يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته ، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من أختها وأفظع ، وأحرى أن لا يصبر عليها ، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته ، ولم يكن عندي فيها إلا الصبر على ما أمضَّ وأبلغ منها ، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم كل راجع عما كان ركب مني ! يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقي ويؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي أو يرد الله عز وجل علي حقي ، فوالله يا أخا اليهود ما منعني إلا الذي منعني من أختيها قبلها ، ورأيت الإبقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها ، وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته ، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدي ، ولقد كنت عاهدت الله
--------------------------- 59 ---------------------------
عز وجل ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله ، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل ، فأنزل الله فينا : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا . حمزة وجعفر وعبيدة ، وأنا والله المنتظر يا أخا اليهود وما بدلت تبديلا . وما سكَّتني عن ابن عفان وحثني على الإمساك عنه ، إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتى يستدعي الأباعد إلى قتله وخلعه فضلاً عن الأقارب ، وأنا في عزلة ، فصبرت حتى كان ذلك ، لم أنطق فيه بحرف من لا ونعم . ثم أتاني القوم وأنا علم الله كاره لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقال الأموال والمرح في الأرض وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي ، وشديد عادة منتزعة ، فلما لم يجدوا عندي تعللوا الأعاليل !
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ فقالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن المتابعين لي لما لم يطمعوا في تلك مني ، وثبوا بالمرأة عليَّ وأنا ولي أمرها ، والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري وتنبح عليها كلاب الحوأب ، وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعند كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الأولى في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم ، طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم عازبة آراؤهم ، وهم جيران بدو ووراد بحر ، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم ، ويرمون بسهامهم بغير فهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه ، ممن إن كففت لم يرجع ولم يعقل ، وإن أقمت كنت قد صرت إلى التي كرهت ، فقدمت الحجة بالأعذار والإنذار ، ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها ، والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي ، والترك لنقضهم عهد الله عز وجل فيَّ ، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه ، وناظرت بعضهم فرجع وذكرته فذكر ، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلا جهلاً وتمادياً وغياً ، فلما أبوا إلا هي ، ركبتها منهم فكانت عليهم
--------------------------- 60 ---------------------------
الدبرة ، وبهم الهزيمة ، ولهم الحسرة ، وفيهم الفناء والقتل ، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بداً ، ولم يسعني إذ فعلت ذلك وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني منه أولاً من الإغضاء والإمساك ، ورأيتني إن أمسكت كنت معيناً لهم عليَّ بإمساكي على ما صاروا إليه وطمعوا فيه من تناول الأطراف ، وسفك الدماء وقتل الرعية ، وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال ، كعادة بني الأصفر ، ومن مضى من ملوك سبأ والأمم الخالية ، فأصير إلى ما كرهت أولاً وآخراً ، وقد أهملت المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس ، ولم أهجم على الأمر إلا بعدما قدمت وأخرت ، وتأنيت وراجعت ، وأرسلت وسافرت ، وأعذرت وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شئ يلتمسوه بعد أن عرضت عليهم كل شئ لم يلتمسوه ، فلما أبوا إلا تلك ، أقدمت عليها ، فبلغ الله بي وبهم ما أراد ، وكان لي عليهم بما كان مني إليهم شهيداً .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : وأما السادسة يا أخا اليهود ، فتحكيمهم الحكمين ، ومحاربة ابن آكلة الأكباد وهو طليق معاند لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمؤمنين ، منذ بعث الله محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أن فتح الله عليه مكة عنوة ، فأخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم وفي ثلاثة مواطن بعده ، وأبوه بالأمس أول من سلم عليَّ بإمرة المؤمنين ، وجعل يحثني على النهوض في أخذ حقي من الماضين قبلي ، ويجدد لي بيعته كلما أتاني ، وأعجب العجب أنه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد رد إلي حقي وأقر في معدنه ، وانقطع طمعه أن يصير في دين الله رابعاً وفي أمانة حملناها حاكماً ، كر على العاصي بن العاصي فاستماله فمال إليه ، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر ، وحرام عليه أن يأخذ من الفيئ دون قسمه درهماً ، وحرام على الراعي إيصال درهم إليه فوق حقه ، فأقيل يخبط البلاد بالظلم ، ويطأها بالغشم ، فمن بايعه أرضاه ، ومن خالفه ناواه ، ثم توجه إلي ناكثاً علينا مغيراً في البلاد شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً ، والأنباء تأتيني والأخبار ترد علي بذلك ، فأتاني أعور ثقيف فأشار علي أن أوليه البلاد التي هو بها لأداريه بما أوليه منها ، وفي الذي أشار به الرأي في أمر الدنيا لو وجدت عند الله عز وجل في توليته لي مخرجاً ، وأصبت لنفسي
--------------------------- 61 ---------------------------
في ذلك عذراً ، فأعملت الرأي في ذلك ، وشاورت من أثق بنصيحته لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولي وللمؤمنين ، فإن رأيه في ابن آكلة الأكباد كرأيي ، ينهاني عن توليته ويحذرني أن أدخل في أمر المسلمين يده ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضداً ، فوجهت إليه أخا بجيلة مرة وأخا الأشعريين مرة ، كلاهما ركن إلى الدنيا وتابع هواه فيما أرضاه ، فلما لم أره يزداد فيما انتهك من محارم الله إلا تمادياً ، شاورت من معي من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) البدريين والذين ارتضى الله عز وجل أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم ، وغيرهم من صلحاء المسلمين والتابعين ، فكل يوافق رأيه رأيي في غزوه ومحاربته ومنعه مما نالت يده ، وإني نهضت إليه بأصحابي ، أنفذ إليه من كل موضع كتبي وأوجه إليه رسلي أدعوه إلى الرجوع عما هو فيه ، والدخول فيما فيه الناس معي ، فكتب يتحكم علي ويتمنى علي الأماني ، ويشترط علي شروطاً لا يرضاها الله عز وجل ورسوله ولا المسلمون ، ويشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواماً من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبراراً ، فيهم عمار بن ياسر وأين مثل عمار ؟ والله لقد رأيتنا مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما يعد منا خمسة إلا كان سادسهم ، ولا أربعة إلا كان خامسهم ، اشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم وانتحل دم عثمان ، ولعمر والله ما ألب على عثمان ، ولا جمع الناس على قتله ، إلا هو وأشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن ، فلما لم أجب إلى ما اشترط من ذلك كر مستعلياً في نفسه بطغيانه ، وبغيه بحمير لا عقول لهم ولا بصائر ، فموه لهم أمراً فاتبعوه ، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه ، فناجزناهم وحاكمناهم إلى الله عز وجل بعد الإعذار والإنذار فلما لم يزده ذلك إلا تمادياً وبغياً لقيناه بعادة الله التي عودناه من النصر على أعدائه وعدونا ، وراية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأيدينا ، لم يزل الله تبارك وتعالى يفل حزب الشيطان بها حتى يقضي الموت عليه ، وهو معلم رايات أبيه التي لم أزل أقاتلها مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في كل المواطن ، فلم يجد من الموت منجى إلا الهرب فركب فرسه وقلب رايته ، لا يدري كيف يحتال فاستعان برأي ابن العاص فأشار عليه بإظهار المصاحف ورفعها على الأعلام
--------------------------- 62 ---------------------------
والدعاء إلى ما فيها ، وقال : إن ابن أبي طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة وتقيا ، وقد دعوك إلى كتاب الله أولاً وهم مجيبوك إليه آخراً ، فأطاعه فيما أشار به عليه إذ رأى أنه لا منجى له من القتل أو الهرب غيره ، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه ، فمالت إلى المصاحف قلوب ومن بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم ، وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم ، وظنوا أن ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه ، فأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في إجابته ، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه ، وأنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري ، وأبوا إلا إجابته كرهت أم هويت ، شئت أو أبيت ، حتى أخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان أو ادفعوه إلى ابن هند برمته .
فجهدت علم الله جهدي ، ولم أدع غلة في نفسي إلا بلغتها في أن يخلوني ورأيي فلم يفعلوا ، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس فلم يجيبوا ، ما خلا هذا الشيخ وأومأ بيده إلى الأشتر وعصبة من أهل بيتي ، فوالله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان ، وأومأ بيده إلى الحسن والحسين ( عليه السلام ) فينقطع نسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذريته من أمته ومخافة أن يقتل هذا وهذا ، وأومأ بيده إلى عبد الله بن جعفر ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما فإني أعلم لولا مكاني لم يقفا ذلك الموقف ، فلذلك صبرت على ما أراد القوم مع ما سبق فيه من علم الله عز وجل .
فلما رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الأمور ، وتخيروا الأحكام والآراء ، وتركوا المصاحف وما دعوا إليه من حكم القرآن ، وما كنت أحكم في دين الله أحداً إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شك فيه ولا امتراء ، فلما أبوا إلا ذلك أردت أن أحكم رجلاً من أهل بيتي أو رجلا ممن أرضي رأيه وعقله وأثق بنصيحته ومودته ودينه . وأقبلت لا أسمي أحداً إلا امتنع منه ابن هند ولا أدعوه إلى شئ من الحق إلا أدبر عنه ، وأقبل ابن هند يسومنا عسفاً ، وما ذاك إلا باتباع أصحابي له على ذلك ، فلما أبوا إلا غلبتي على التحكيم تبرأت إلى الله عز وجل منهم وفوضت ذلك إليهم فقلدوه امرءً فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض وغربها وأظهر المخدوع عليها ندماً .
--------------------------- 63 ---------------------------
ثم أقبل ( عليه السلام ) على أصحابه فقال : أليس كذلك قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) وأما السابعة يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان عهد إلي أن أقاتل في آخر الزمان من أيامي قوماً من أصحابي ، يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب ، يمرقون بخلافهم علي ومحاربتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية ، فيهم ذو الثدية ، يختم لي بقتلهم بالسعادة فلما انصرفت إلى موضعي هذا يعني بعد الحكمين أقبل بعض القوم على بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً إلا أن قالوا : كان ينبغي لأميرنا أن لا يبايع من أخطأ وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقد كفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ ، وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه ، فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم : لاحكم إلا لله ، ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة وأخرى بحروراء وأخرى راكبة رأسها تخبط الأرض شرقاً حتى عبرت دجلة ، فلم تمر بمسلم إلا امتحنته ، فمن تابعها استحيته ، ومن خالفها قتلته ، فخرجت إلى الأوليين واحدة بعد أخرى أدعوهم إلى طاعة الله عز وجل والرجوع إليه ، فأبيا إلا السيف لا يقنعهما غير ذلك ، فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عز وجل ، فقتل الله هذه وهذه ، وكانوا يا أخا اليهود لولا ما فعلوا ركناً قوياً وسداً منيعاً ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه . ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تترى ، وكانوا من جلة أصحابي وأهل التعبد منهم ، والزهد في الدنيا ، فأبت إلا اتباع أختيها والاحتذاء على مثالهما وأسرعت في قتل من خالفها من المسلمين ، وتتابعت إليَّ الأخبار بفعلهم ، فخرجت حتى قطعت إليهم دجلة ، أوجه السفراء والنصحاء ، وأطلب العتبي بجهدي بهذا مرة وبهذا مرة ، أومأ بيده إلى الأشتر ، والأحنف بن قيس ، وسعيد بن قيس الأرحبي والأشعث بن قيس الكندي ، فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم ، فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم ، وهم أربعة آلاف أو يزيدون حتى لم يفلت منهم مخبر ، فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترى ،
--------------------------- 64 ---------------------------
له ثدي كثدي المرأة .
ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال ، أليس كذلك ؟ قالوا ، بلى يا أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : قد وفيت سبعاً وسبعاً يا أخا اليهود ، وبقيت الأخرى وأوشكْ بها فكأنْ قَدْ . فبكى أصحاب علي ( عليه السلام ) وبكى رأس اليهود وقالوا : ياأميرالمؤمنين أخبرنا بالأخرى ، فقال : الأخرى أن تخضب هذه وأومأ بيده إلى لحيته ، من هذه وأومأ بيده إلى هامته . قال : وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبكاء حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً ، وأسلم رأس اليهود على يدي علي ( عليه السلام ) من ساعته ، ولم يزل مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأُخذ ابن ملجم لعنه الله . فأقبل رأس اليهود حتى وقف على الحسن ( عليه السلام ) والناس حوله وابن ملجم لعنه الله بين يديه فقال له : يا أبا محمد أقتله قتله الله ، فإني رأيت في الكتب التي أنزلت على موسى ( عليه السلام ) أن هذا أعظم عند الله عز وجل جرماً من ابن آدم قاتل أخيه ، ومن القدار عاقر ناقة ثمود ) .
2 . ملاحظات على حديث الإمتحانات الربانية
1 . يظهر من هذا الحديث سعة اطلاع هذا الحاخام الأكبر عند اليهود ، وصدقه .
2 . دل الحديث على أن إعطاء النبوة والإمامة ، لا تكون إلا بامتحان واستحقاق ، وأن قوله تعالى : وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ للَّنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . قاعدة في جميع الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) .
3 . تضمن كلامه ( عليه السلام ) موجزاً لتاريخ الإسلام ، ولا بد من حمل قوله ( عليه السلام ) : فأجبت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحدي ، على إعلان إسلامه وأن يتفرغ مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للدعوة ، أما أصل الإسلام فقد كان أبو طالب وجعفر وحمزة مسلمين ، لكن لم يعلنوا إسلامهم . لكن يشكل تفسير قوله ( عليه السلام ) : فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الأرض خلق يصلي ، أو يشهد لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله ، وقد فعل . فتكون الرواية متفردة بذلك ، ويعارضها المشهور ، وإسلام أبي ذر رضي الله عنه في تلك السنوات .
--------------------------- 65 ---------------------------
4 . قوله ( عليه السلام ) عن مبيته في فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه . يدل على أنه كان يحتمل أنهم يقتلونه ، وقد بينا في محله أن المشركين كانوا يراقبون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أول الليل ، وتواعدوا أن يقتلوه بعد الفجر وكان المطلوب تطمينهم بأنه ما زال في بيته ، لذلك كان الخطرعلى علي ( عليه السلام ) محققاً بأن يقتل أو يجرح ، ولا يصح القول إنه كان يعلم أنه لا يقتل ، لأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبره بأن قريشاً لا تنال منه ، في رسالته له من المدينة .
5 . يدل قوله ( عليه السلام ) : فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأنبأه بذلك ، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار ، على أن حفرالخندق كان بتعليم جبرئيل ( عليه السلام ) ، وقد اشتهر أنه بإرشاد سلمان رضي الله عنه ، ولعل سلمان حدثهم عن استعمال الفرس للخندق في حروبهم ، فنسبوا الخندق اليه .
6 . قوله ( عليه السلام ) في فتح خيبر : ( ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ، حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها . . يدل على أن مبارزته لمرحب وأصحابه كانت خارج الحصن ، وأن بقيتهم هربوا إلى الحصن وسدوا بابه عليهم فدحاه صلوات الله عليه ، ثم كانت له معركة مع فرسانهم داخل الحصن ، وأخذ منهم أسرى وأسيرات ، ولا بد أنه كتفهم ووضعهم جانباً ، حتى وصل المسلمون ودخلوا الحصن المفتوح .
7 . كلامه ( عليه السلام ) عن مؤامرة السقيفة أدق كلام لخطتهم ، ومخالفتهم للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ونقضهم بيعته ( عليه السلام ) التي بايعوه بها يوم الغدير ، ومسارعتهم إلى اختلاس الخلافة بدون مشورة أحد ، قال ( عليه السلام ) : ( فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ، قد تركوا مراكزهم وأخلوْا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا
--------------------------- 66 ---------------------------
أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاًإلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ) . ففيه مواد شرعية توجب بطلان بيعتهم :
أ - تركهم لمعسكرهم الذي يبعد عن المدينة بضعة كيلومترات بدون إذن أميرهم أسامة ، وهومخالفة تجعل بيعتهم باطلة .
ب - وكذلك تبطل لأنها تناقض بيعتهم لعلي ( عليه السلام ) في الغدير .
ج - وتبطل لأنها بدون مشورة .
د - وتبطل لأنها لم يعلم بها بنو هاشم وأكثر المسلمين .
ه - - مضافاً إلى بطلان البيعة ممن ليس له ولاية على الأمة .
و - ولمن ليس له أهلية للخلافة ، لأن في الأمة من هو أعلم منه .
ز . قوله ( عليه السلام ) : ( فإن القائم بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ، ويلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ، ونقض بيعتي ، ويسألني تحليله ) !
أقول : هذه سياسة من أبيبكر ، لأنه محتاج لعلي ( عليه السلام ) في حرب الردة ، خاصة في دفع جيش طليحة الأسدي الذي هاجم المدينة بعد ستين يوماً من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأرسل أبو بكر عثمان مكرراً إلى علي ( عليه السلام ) يقول له : يا ابن عم إن الناس يقولون لا نخرج حتى يخرج علي ، فنهض الإمام ( عليه السلام ) للدفاع عن الإسلام وعاصمته ، كما بينا . وكان أبو بكر يعتذر له بأن عمر أجبره على قبول الخلافة ، وأنه سيوصي بها اليه لكنه لا يستطيع مخالفة عهده لعمر ومن أتوا به ! على أن اليهود سمُّوه لتصل الخلافة إلى عمر لأنه فضل عندهم .
8 . وكذلك كان عمر بحاجة إلى علي ( عليه السلام ) وهو القائل مراراً : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن ، والقائل مراراً : لولا علي لهلك عمر . فكان يعده بأنه سيوصي له بالخلافة وعداً سياسياً ليستفيد منه في مشكلات الدولة ، قال ( عليه السلام ) : ( فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها
--------------------------- 67 ---------------------------
فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ، ولا يطمع في الأمر بعده سواي ) .
وكان هذا ظاهر الأمر ، وإلا فالإمام ( عليه السلام ) يعلم أن قريشاً واليهود قرروا عزل بني هاشم عن الحكم ، وإيصال الخلافة إلى أعدائهم بني أمية ، المفضلين عند قريش واليهود .
9 . يدل قوله ( عليه السلام ) : ( وثبوا بالمرأة عليَّ وأنا ولي أمرها ، والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري ، وتنبح عليها كلاب الحوأب ، وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة ) ! على أنه ( عليه السلام ) ولي أمر نساء النبي بحكم قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وبوصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) له بالولاية عليهن .
كما يدل قوله ( عليه السلام ) : ( في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الأولى في حياة النبي ) على أن بيعة الغدير قد لزمت أعناق الأمة كلها ، وأن بيعتهم الثانية بعد عثمان مؤكدة لها لا أكثر .
10 . يتضح من وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أتباع الحكام قبله ، أن مستوى الفهم العادي في الأمة كان منخفضاً ، فضلاً عن مستوى الوعي الديني أو السياسي ، ووصفه ( عليه السلام ) أتباع عائشة بأنهم حميرلاعقول لهم ولا بصائر ، قصيرة أيديهم طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم عازبة آراؤهم : يدل على عامية مفرطة ، وجمهور أوباش يساقون على غير هدى ! وهذا يجعلنا نعيد النظر في سلامة التاريخ الذي صنعه هؤلاء العوام بمعاركهم وطاعتهم لقادتهم !
11 . كانت الأمة في أواخرعهده ( عليه السلام ) قد تعبت من الحروب ويبست همتها وإرادتها ، واستسلمت لموجة بني أمية ، ووعود معاوية الكاذبة ، وإلا فلو كان كلامه ( عليه السلام ) مع أمة حية خضراء ، لهبت في طاعته ، وترجمت تصديقها لنبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيه ، بإنهاء أعدائه ، وعزل خصومه . وقد قال علي ( عليه السلام ) لأبيبكرعندما أرادوا إجباره على البيعة ( الإمامة والسياسة ( 1 / 18 ) : « نحن أولى برسول الله حياً وميتاً ، فأنصفونا إن
--------------------------- 68 ---------------------------
كنتم تؤمنون ، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون ! فقال له عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع ، فقال له علي : إحلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً ! ثم قال : والله يا عمرلا أقبل قولك ولا أبايعه . فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك » .
ولما أوصى أبو بكر لعمر قال له علي ( عليه السلام ) : « حلبت حلباً لك شطره ! بايعته عام أول ، وبايع لك العام » . ( أنساب الأشراف : 10 / 375 ) .
3 . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا علم عند الثلاثة ولا جهاد
قال ( عليه السلام ) كما في كتاب سُليم بن قيس الهلالي / 249 : ( ألا إن العجب كل العجب من جهال هذه الأمة ، وضُلالها ، وقادتها وساقتها إلى النار ، لأنهم قد سمعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول عوداً وبدءً : ما ولت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا ! فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ، ما منهم رجل جمع القرآن ، ولا يدعي أن له علماً بكتاب الله ولا سنة نبيه . وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله . وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولا غناء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ، ولا طعن برمح ، ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبة في البقاء . وقد علموا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف ، وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء ، وأحقهم بذلك . وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ، ولايبارز الأبطال ولا يفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شديدة قط ، ولا كربَهُ أمرٌ ، ولا ضيقٌ ، ومستصعبٌ من الأمر ، إلا قال : أين أخي علي ، أين سيفي ، أين رمحي ، أين المفرج غمي عن وجهي ، فيقدمني فأتقدم فأفديه بنفسي ، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه . ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول ، حيث خصني بذلك ووفقني له .
لم يكن لأبيبكر وعمر أي سابقة في الدين ، وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ، ولامبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غير مرة واحدة ، ثم فر ومنح عدوه دبره ، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مراراً ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة
--------------------------- 69 ---------------------------
تكلم وتَغَيَّر ( أظهر الغيرة ) وأمر ونهى . ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه ، فحاد عنه ولاذ بأصحابه ، حتى تبسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما رآى به من الرعب ، وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أين حبيبي علي ؟ تقدم يا حبيبي يا علي .
وهو القائل يوم الخندق لأصحابه الأربعة : والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك ، حين جاء العدو من فوقنا ومن تحتنا . كما قال الله تعالى : وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا . فقال له صاحبه : لا ، ولكن نتخذ صنماً عظيماً نعبده ، لأنا لا نأمن أن يظفر ابن أبي كبشة فيكون هلاكنا ، ولكن يكون هذا الصنم لنا ذخراً ، فإن ظفرت قريش أظهرنا عبادة هذا الصنم ، وأعلمناهم أنا لم نفارق ديننا ) .
4 - خطبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في اليوم السابع لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
في الكافي ( 8 / 18 ) عن جابر بن يزيد الجعفي ( رحمه الله ) قال : « دخلت على أبي جعفر ( عليه السلام ) فقلت : يا ابن رسول الله ، قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها ، فقال : يا جابر ألم أُقِفْكَ على معنى اختلافهم من أين اختلفوا ، ومن أي جهة تفرقوا ؟ قلت : بلى يا ابن رسول الله ، قال : فلا تختلف إذا اختلفوا ! يا جابر : إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أيامه ! يا جابر : إسمع وعِ ، قلت : إذا شئت ، قال : إسمع وعِ وبلغ حيث انتهت بك راحلتك : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وذلك حين فرغ من جمع القرآن ، وتأليفه فقال :
الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي مَنَعَ الأَوْهَامَ أَنْ تَنَالَ إِلَّا وُجُودَه ، وحَجَبَ الْعُقُولَ أَنْ تَتَخَيَّلَ ذَاتَه ، لِامْتِنَاعِهَا مِنَ الشَّبَه والتَّشَاكُلِ ، بَلْ هُوَ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ فِي ذَاتِه ، ولَا يَتَبَعَّضُ بِتَجْزِئَةِ الْعَدَدِ فِي كَمَالِه ، فَارَقَ الأَشْيَاءَ لَا عَلَى اخْتِلَافِ الأَمَاكِنِ ، ويَكُونُ فِيهَا لَا عَلَى وَجْه الْمُمُازَجَةِ ، وعَلِمَهَا لَا بِأَدَاةٍ لَا يَكُونُ الْعِلْمُ إِلَّا بِهَا ، ولَيْسَ بَيْنَه وبَيْنَ مَعْلُومِه عِلْمُ غَيْرِه بِه ، كَانَ عَالِماً بِمَعْلُومِه ، إِنْ قِيلَ كَانَ فَعَلَى تَأْوِيلِ أَزَلِيَّةِ الْوُجُودِ ،
--------------------------- 70 ---------------------------
وإِنْ قِيلَ لَمْ يَزَلْ فَعَلَى تَأْوِيلِ نَفْيِ الْعَدَمِ ، فَسُبْحَانَه وتَعَالَى عَنْ قَوْلِ مَنْ عَبَدَ سِوَاه ، واتَّخَذَ إِلَهاً غَيْرَه ، عُلُوّاً كَبِيراً . نَحْمَدُه بِالْحَمْدِ الَّذِي ارْتَضَاه مِنْ خَلْقِه ، وأَوْجَبَ قَبُولَه عَلَى نَفْسِه . وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه ، شَهَادَتَانِ تَرْفَعَانِ الْقَوْلَ ، وتُضَاعِفَانِ الْعَمَلَ . خَفَّ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْه ، وثَقُلَ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيه ، وبِهِمَا الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ والنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ ، والْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ . وبِالشَّهَادَةِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وبِالصَّلَاةِ تَنَالُونَ الرَّحْمَةَ . أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّكُمْ : إِنَّ الله ومَلائِكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْه وسَلِّمُوا تَسْلِيماً . صَلَّى الله عَلَيْه وآلِه وسَلَّمَ تَسْلِيماً .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه لَا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الإسلام ، ولَا كَرَمَ أَعَزُّ مِنَ التَّقْوَى ، ولَا مَعْقِلَ أَحْرَزُ مِنَ الْوَرَعِ ، ولَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ ، ولَا لِبَاسَ أَجْمَلُ مِنَ الْعَافِيَةِ ، ولَا وِقَايَةَ أَمْنَعُ مِنَ السَّلَامَةِ ، ولَا مَالَ أَذْهَبُ بِالْفَاقَةِ مِنَ الرِّضَا بِالْقَنَاعَةِ ، ولَاكَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقُنُوعِ ، ومَنِ اقْتَصَرَعَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ ، وتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ ، والرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ التَّعَبِ ، والِاحْتِكَارُ مَطِيَّةُ النَّصَبِ ، والْحَسَدُ آفَةُ الدِّينِ ، والْحِرْصُ دَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ ، وهُوَ دَاعِي الْحِرْمَانِ . والْبَغْيُ سَائِقٌ إِلَى الْحَيْنِ ، والشَّرَه جَامِعٌ لِمَسَاوِي الْعُيُوبِ ، رُبَّ طَمَعٍ خَائِبٍ ، وأَمَلٍ كَاذِبٍ ، ورَجَاءٍ يُؤَدِّي إِلَى الْحِرْمَانِ ، وتِجَارَةٍ تَؤُولُ إِلَى الْخُسْرَانِ . أَلَا ومَنْ تَوَرَّطَ فِي الأُمُورِ غَيْرَ نَاظِرٍ فِي الْعَوَاقِبِ ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمُفْضِحَاتِ النَّوَائِبِ ، وبِئْسَتِ الْقِلَادَةُ الذَّنْبُ لِلْمُؤْمِنِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه لَا كَنْزَ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ ، ولَا عِزَّ أَرْفَعُ مِنَ الْحِلْمِ ، ولَا حَسَبَ أَبْلَغُ مِنَ الأَدَبِ ، ولَا نَصَبَ أَوْضَعُ مِنَ الْغَضَبِ ، ولَا جَمَالَ أَزْيَنُ مِنَ الْعَقْلِ ، ولَا سَوْأَةَ أَسْوَأُ مِنَ الْكَذِبِ ، ولَا حَافِظَ أَحْفَظُ مِنَ الصَّمْتِ ، ولَا غَائِبَ أَقْرَبُ مِنَ الْمَوْتِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِه اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرِه ، ومَنْ رَضِيَ بِرِزْقِ الله لَمْ يَأْسَفْ عَلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِه ، ومَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ قُتِلَ بِه ، ومَنْ حَفَرَ لأَخِيه بِئْراً وَقَعَ فِيهَا ، ومَنْ هَتَكَ حِجَابَ غَيْرِه انْكَشَفَت عَوْرَاتُ بَيْتِه ، ومَنْ نَسِيَ زَللَهُ اسْتَعْظَمَ زَلَلَ غَيْرِه ، ومَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِه ضَلَّ ، ومَنِ اسْتَغْنَى بِعَقْلِه زَلَّ ، ومَنْ تَكَبَّرَ عَلَى النَّاسِ ذَلَّ ،
--------------------------- 71 ---------------------------
ومَنْ سَفِه عَلَى النَّاسِ شُتِمَ ، ومَنْ خَالَطَ الأَنْذَالَ حُقِّرَ ، ومَنْ حَمَلَ مَا لَا يُطِيقُ عَجَزَ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه لَا مَالَ هُوَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ ، ولَا فَقْرَ هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ ، ولَا وَاعِظَ هُوَ أَبْلَغُ مِنَ النُّصْحِ . ولَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ ، ولَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ ، ولَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ ، ولَا وَحْشَةَ أَشَدُّ مِنَ الْعُجْبِ ، ولَا وَرَعَ كَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ ، ولَا حِلْمَ كَالصَّبْرِ والصَّمْتِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : فِي الإِنْسَانِ عَشْرُ خِصَالٍ يُظْهِرُهَا لِسَانُه : شَاهِدٌ يُخْبِرُ عَنِ الضَّمِيرِ ، حَاكِمٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخِطَابِ ، ونَاطِقٌ يُرَدُّ بِه الْجَوَابُ ، وشَافِعٌ يُدْرَكُ بِه الْحَاجَةُ ، ووَاصِفٌ يُعْرَفُ بِه الأَشْيَاءُ ، وأَمِيرٌ يَأْمُرُ بِالْحَسَنِ ، ووَاعِظٌ يَنْهَى عَنِ الْقَبِيحِ ، ومُعَزٍّ تُسَكَّنُ بِه الأَحْزَانُ ، وحَاضِرٌ تُجْلَى بِه الضَّغَائِنُ ، ومُونِقٌ تَلْتَذُّ بِه الأَسْمَاعُ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ ، كَمَا أَنَّه لَا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ ، واعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّه مَنْ لَمْ يَمْلِكْ لِسَانَه يَنْدَمْ ، ومَنْ لَا يَعْلَمْ يَجْهَلْ ، ومَنْ لَا يَتَحَلَّمْ لَا يَحْلُمْ ، ومَنْ لَا يَرْتَدِعْ لَا يَعْقِلْ ، ومَنْ لَا يَعْلَمْ يُهَنْ ، ومَنْ يُهَنْ لَا يُوَقَّرْ ، ومَنْ لَا يُوَقَّرْ يَتَوَبَّخْ ، ومَنْ يَكْتَسِبْ مَالاً مِنْ غَيْرِ حَقِّه يَصْرِفْه فِي غَيْرِ أَجْرِه ، ومَنْ لَا يَدَعْ وهُوَ مَحْمُودٌ يَدَعْ وهُوَ مَذْمُومٌ ، ومَنْ لَمْ يُعْطِ قَاعِداً مُنِعَ قَائِماً ، ومَنْ يَطْلُبِ الْعِزَّ بِغَيْرِ حَقٍّ يَذِلَّ ، ومَنْ يَغْلِبْ بِالْجَوْرِ يُغْلَبْ ، ومَنْ عَانَدَ الْحَقَّ لَزِمَه الْوَهْنُ ، ومَنْ تَفَقَّه وُقِّرَ ، ومَنْ تَكَبَّرَ حُقِّرَ ، ومَنْ لَا يُحْسِنْ لَا يُحْمَدْ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّ الْمَنِيَّةَ قَبْلَ الدَّنِيَّةِ ، والتَّجَلُّدَ قَبْلَ التَّبَلُّدِ ، والْحِسَابَ قَبْلَ الْعِقَابِ ، والْقَبْرَ خَيْرٌ مِنَ الْفَقْرِ ، وغَضَّ الْبَصَرِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّظَرِ ، والدَّهْرَ يَوْمٌ لَكَ ويَوْمٌ عَلَيْكَ ، فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلَا تَبْطَرْ ، وإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ ، فَبِكِلَيْهِمَا تُمْتَحَنُ .
أَيُّهَا النَّاسُ : أَعْجَبُ مَا فِي الإِنْسَانِ قَلْبُه ، ولَه مَوَادُّ مِنَ الْحِكْمَةِ وأَضْدَادٌ مِنْ خِلَافِهَا ، فَإِنْ سَنَحَ لَه الرَّجَاءُ أَذَلَّه الطَّمَعُ ، وإِنْ هَاجَ بِه الطَّمَعُ أَهْلَكَه الْحِرْصُ ، وإِنْ مَلَكَه الْيَأْسُ قَتَلَه الأَسَفُ ، وإِنْ عَرَضَ لَه الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِه الْغَيْظُ ، وإِنْ أُسْعِدَ بِالرِّضَى نَسِيَ التَّحَفُّظَ ، وإِنْ نَالَه الْخَوْفُ شَغَلَه الْحَذَرُ ، وإِنِ اتَّسَعَ لَه الأَمْنُ اسْتَلَبَتْه الْغِرَّةُ ، وإِنْ جُدِّدَتْ لَه نِعْمَةٌ أَخَذَتْه الْعِزَّةُ ، وإِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاه الْغِنَى ،
--------------------------- 72 ---------------------------
وإِنْ عَضَّتْه فَاقَةٌ شَغَلَه الْبَلَاءُ ، وإِنْ أَصَابَتْه مُصِيبَةٌ فَضَحَه الْجَزَعُ ، وإِنْ أَجْهَدَه الْجُوعُ قَعَدَ بِه الضَّعْفُ ، وإِنْ أَفْرَطَ فِي الشِّبَعِ كَظَّتْه الْبِطْنَةُ . فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِه مُضِرٌّ ، وكُلُّ إِفْرَاطٍ لَه مُفْسِدٌ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّه مَنْ قَلَّ ذَلَّ ، ومَنْ جَادَ سَادَ ، ومَنْ كَثُرَ مَالُه رَؤُسَ ، ومَنْ كَثُرَ حِلْمُه نَبُلَ ، ومَنْ أَفْكَرَ فِي ذَاتِ الله تَزَنْدَقَ ، ومَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيئٍ عُرِفَ بِه ، ومَنْ كَثُرَ مِزَاحُه اسْتُخِفَّ بِه ، ومَنْ كَثُرَ ضِحْكُه ذَهَبَتْ هَيْبَتُه . فَسَدَ حَسَبُ مَنْ لَيْسَ لَه أَدَبٌ . إِنَّ أَفْضَلَ الْفِعَالِ صِيَانَةُ الْعِرْضِ بِالْمَالِ . لَيْسَ مَنْ جَالَسَ الْجَاهِلَ بِذِي مَعْقُولٍ ، مَنْ جَالَسَ الْجَاهِلَ فَلْيَسْتَعِدَّ لِقِيلٍ وقَالٍ . لَنْ يَنْجُوَ مِنَ الْمَوْتِ غَنِيٌّ بِمَالِه ، ولَا فَقِيرٌ لإِقْلَالِه .
أَيُّهَا النَّاسُ : لَوْ أَنَّ الْمَوْتَ يُشْتَرَى ، لَاشْتَرَاه مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا الْكَرِيمُ الأَبْلَجُ ، واللَّئِيمُ الْمَلَهْوَجُ
[ غير الناضج ] .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَوَاهِدَ : تُجْرِي الأَنْفُسَ عَنْ مَدْرَجَةِ أَهْلِ التَّفْرِيطِ ، وفِطْنَةُ الْفَهْمِ لِلْمَوَاعِظِ مَا يَدْعُو النَّفْسَ إِلَى الْحَذَرِ مِنَ الْخَطَرِ ، ولِلْقُلُوبِ خَوَاطِرَ لِلْهَوَى . والْعُقُولُ تَزْجُرُ وتَنْهَى ، وفِي التَّجَارِبِ عِلْمٌ مُسْتَأْنَفٌ ، والِاعْتِبَارُ يَقُودُ إِلَى الرَّشَادِ ، وكَفَاكَ أَدَباً لِنَفْسِكَ مَا تَكْرَهُه لِغَيْرِكَ ، وعَلَيْكَ لأَخِيكَ الْمُؤْمِنِ مِثْلُ الَّذِي لَكَ عَلَيْه . لَقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِه ، والتَّدَبُّرُ قَبْلَ الْعَمَلِ ، فَإِنَّه يُؤْمِنُكَ مِنَ النَّدَمِ ، ومَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوه الآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأِ ، ومَنْ أَمْسَكَ عَنِ الْفُضُولِ عَدَلَتْ رَأْيَه الْعُقُولُ ، ومَنْ حَصَّنَ شَهْوَتَه فَقَدْ صَانَ قَدْرَه ، ومَنْ أَمْسَكَ لِسَانَه أَمِنَه قَوْمُه ونَالَ حَاجَتَه ، وفِي تَقَلُّبِ الأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِ ، والأَيَّامُ تُوضِحُ لَكَ السَّرَائِرَ الْكَامِنَةَ ، ولَيْسَ فِي الْبَرْقِ الْخَاطِفِ مُسْتَمْتَعٌ لِمَنْ يَخُوضُ فِي الظُّلْمَةِ ، ومَنْ عُرِفَ بِالْحِكْمَةِ لَحَظَتْه الْعُيُونُ بِالْوَقَارِ والْهَيْبَةِ ، وأَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى ، والصَّبْرُ جُنَّةٌ مِنَ الْفَاقَةِ ، والْحِرْصُ عَلَامَةُ الْفَقْرِ ، والْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ ، والْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ ، ووَصُولٌ مُعْدِمٌ خَيْرٌ مِنْ جَافٍ مُكْثِرٍ ، والْمَوْعِظَةُ كَهْفٌ لِمَنْ وَعَاهَا ، ومَنْ أَطْلَقَ طَرْفَه كَثُرَ أَسَفُه ، وقَدْ أَوْجَبَ الدَّهْرُ شُكْرَه عَلَى مَنْ نَالَ سُؤْلَه ، وقَلَّ مَا يُنْصِفُكَ اللِّسَانُ فِي نَشْرِ قَبِيحٍ أَوْ إِحْسَانٍ ، ومَنْ ضَاقَ خُلُقُه مَلَّه أَهْلُه ، ومَنْ نَالَ اسْتَطَالَ ، وقَلَّ مَا تَصْدُقُكَ الأُمْنِيَّةُ ، والتَّوَاضُعُ يَكْسُوكَ الْمَهَابَةَ ، وفِي
--------------------------- 73 ---------------------------
سَعَةِ الأَخْلَاقِ كُنُوزُ الأَرْزَاقِ . كَمْ مِنْ عَاكِفٍ عَلَى ذَنْبِه فِي آخِرِ أَيَّامِ عُمُرِه ، ومَنْ كَسَاه الْحَيَاءُ ثَوْبَه خَفِيَ عَلَى النَّاسِ عَيْبُه . وانْحُ الْقَصْدَ مِنَ الْقَوْلِ ، فَإِنَّ مَنْ تَحَرَّى الْقَصْدَ خَفَّتْ عَلَيْه الْمُؤَنُ ، وفِي خِلَافِ النَّفْسِ رُشْدُكَ . مَنْ عَرَفَ الأَيَّامَ لَمْ يَغْفُلْ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ . أَلَا وإِنَّ مَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقاً ، وإِنَّ فِي كُلِّ أُكْلَةٍ غَصَصاً ، لَا تُنَالُ نِعْمَةٌ إِلَّا بِزَوَالِ أُخْرَى . ولِكُلِّ ذِي رَمَقٍ قُوتٌ ، ولِكُلِّ حَبَّةٍ آكِلٌ ، وأَنْتَ قُوتُ الْمَوْتِ .
إعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ : أَنَّه مَنْ مَشَى عَلَى وَجْه الأَرْضِ فَإِنَّه يَصِيرُ إِلَى بَطْنِهَا ، واللَّيْلُ والنَّهَارُ يَتَسَارَعَانِ فِي هَدْمِ الأَعْمَارِ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ : كُفْرُ النِّعْمَةِ لُؤْمٌ ، وصُحْبَةُ الْجَاهِلِ شُؤْمٌ ، إِنَّ مِنَ الْكَرَمِ لِينَ الْكَلَامِ ، ومِنَ الْعِبَادَةِ إِظْهَارَ اللِّسَانِ ، وإِفْشَاءَ السَّلَامِ . إِيَّاكَ والْخَدِيعَةَ فَإِنَّهَا مِنْ خُلُقِ اللَّئِيمِ . لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ ، ولَا كُلُّ غَائِبٍ يَؤُوبُ . لَا تَرْغَبْ فِيمَنْ زَهِدَ فِيكَ . رُبَّ بَعِيدٍ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ . سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ ، وعَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ . أَلَا ومَنْ أَسْرَعَ فِي الْمَسِيرِ أَدْرَكَه الْمَقِيلُ . أسْتُرْ عَوْرَةَ أَخِيكَ كَمَا تَعْلَمُهَا فِيكَ . اغْتَفِرْ زَلَّةَ صَدِيقِكَ لِيَوْمِ يَرْكَبُكَ عَدُوُّكَ . مَنْ غَضِبَ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرِّه طَالَ حُزْنُه وعَذَّبَ نَفْسَه . مَنْ خَافَ رَبَّه كَفَّ ظُلْمَه . ومَنْ لَمْ يَزِغْ فِي كَلَامِه أَظْهَرَ فَخْرَه ، ومَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ . إِنَّ مِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةَ الزَّادِ . مَا أَصْغَرَ الْمُصِيبَةَ مَعَ عِظَمِ الْفَاقَةِ غَداً ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ . ومَا تَنَاكَرْتُمْ إِلَّا لِمَا فِيكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي والذُّنُوبِ ، فَمَا أَقْرَبَ الرَّاحَةَ مِنَ التَّعَبِ ، والْبُؤْسَ مِنَ النَّعِيمِ . ومَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَه الْجَنَّةُ ، ومَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَه النَّارُ ، وكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ مَحْقُورٌ ، وكُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ . وعِنْدَ تَصْحِيحِ الضَّمَائِرِ تُبْدُو الْكَبَائِرُ . تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَلِ ، وتَخْلِيصُ النِّيَّةِ مِنَ الْفَسَادِ أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِنْ طُولِ الْجِهَادِ . هَيْهَاتَ لَوْ لَا التُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّ الله تَعَالَى وَعَدَ نَبِيَّه مُحَمَّداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الْوَسِيلَةَ ، ووَعْدُه الْحَقُّ ، ولَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَه ، أَلَا وإِنَّ الْوَسِيلَةَ أَعْلَى دَرَجِ الْجَنَّةِ ، وذِرْوَةُ ذَوَائِبِ الزُّلْفَةِ ، ونِهَايَةُ غَايَةِ الأُمْنِيَّةِ ، لَهَا أَلْفُ مِرْقَاةٍ ، مَا بَيْنَ الْمِرْقَاةِ إِلَى الْمِرْقَاةِ حُضْرُ الْفَرَسِ الْجَوَادِ مِائَةَ
--------------------------- 74 ---------------------------
عَامٍ ، وهُوَ مَا بَيْنَ مِرْقَاةِ دُرَّةٍ إِلَى مِرْقَاةِ جَوْهَرَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ زَبَرْجَدَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ لُؤْلُؤَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ يَاقُوتَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ زُمُرُّدَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ مَرْجَانَةٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ كَافُورٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ عَنْبَرٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ يَلَنْجُوجٍ [ عود طيب الريح ] إِلَى مِرْقَاةِ ذَهَبٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ غَمَامٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ هَوَاءٍ ، إِلَى مِرْقَاةِ نُورٍ . قَدْ أَنَافَتْ عَلَى كُلِّ الْجِنَانِ ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يَوْمَئِذٍ قَاعِدٌ عَلَيْهَا مُرْتَدٍ بِرَيْطَتَيْنِ ، رَيْطَةٍ مِنْ رَحْمَةِ الله ، ورَيْطَةٍ مِنْ نُورِالله [ ثوب رقيق لين ] عَلَيْه تَاجُ النُّبُوَّةِ ، وإِكْلِيلُ الرِّسَالَةِ ، قَدْ أَشْرَقَ بِنُورِه الْمَوْقِفُ . وأَنَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ ، وهِيَ دُونَ دَرَجَتِه ، وعَلَيَّ رَيْطَتَانِ : رَيْطَةٌ مِنْ أُرْجُوَانِ النُّورِ ، ورَيْطَةٌ مِنْ كَافُورٍ ، والرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ ( عليهم السلام ) قَدْ وَقَفُوا عَلَى الْمَرَاقِي ، وأَعْلَامُ الأَزْمِنَةِ وحُجَجُ الدُّهُورِ [ الأوصياء ] عَنْ أَيْمَانِنَا ، وقَدْ تَجَلَّلَهُمْ حُلَلُ النُّورِ والْكَرَامَةِ ، لَا يَرَانَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا بُهِتَ بِأَنْوَارِنَا ، وعَجِبَ مِنْ ضِيَائِنَا وجَلَالَتِنَا . وعَنْ يَمِينِ الْوَسِيلَةِ عَنْ يَمِينِ الرَّسُولِ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غَمَامَةٌ بَسْطَةَ الْبَصَرِ ، يَأْتِي مِنْهَا النِّدَاءُ : يَا أَهْلَ الْمَوْقِفِ طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّ الْوَصِيَّ ، وآمَنَ بِالنَّبِيِّ الأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ ، ومَنْ كَفَرَ فَالنَّارُ مَوْعِدُه . وعَنْ يَسَارِ الْوَسِيلَةِ عَنْ يَسَارِ الرَّسُولِ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ظُلَّةٌ ، يَأْتِي مِنْهَا النِّدَاءُ : يَا أَهْلَ الْمَوْقِفِ طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّ الْوَصِيَّ وآمَنَ بِالنَّبِيِّ الأُمِّيِّ ، والَّذِي لَه الْمُلْكُ الأَعْلَى ، لَا فَازَ أَحَدٌ ولَا نَالَ الرَّوْحَ والْجَنَّةَ إِلَّامَنْ لَقِيَ خَالِقَه بِالإِخْلَاصِ لَهُمَا ، والِاقْتِدَاءِ بِنُجُومِهِمَا .
فَأَيْقِنُوا يَا أَهْلَ وَلَايَةِ الله بِبَيَاضِ وُجُوهِكُمْ ، وشَرَفِ مَقْعَدِكُمْ ، وكَرَمِ مَآبِكُمْ ، وبِفَوْزِكُمُ الْيَوْمَ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ . ويَا أَهْلَ الِانْحِرَافِ والصُّدُودِ عَنِ الله عَزَّ ذِكْرُه ، ورَسُولِه وصِرَاطِه وأَعْلَامِ الأَزْمِنَةِ ، أَيْقِنُوا بِسَوَادِ وُجُوهِكُمْ وغَضَبِ رَبِّكُمْ ، جَزَاءً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
ومَا مِنْ رَسُولٍ سَلَفَ ولَا نَبِيٍّ مَضَى ، إِلَّا وقَدْ كَانَ مُخْبِراً أُمَّتَه بِالْمُرْسَلِ الْوَارِدِ مِنْ بَعْدِه ومُبَشِّراً بِرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومُوصِياً قَوْمَه بِاتِّبَاعِه ، ومُحَلِّيَه عِنْدَ قَوْمِه لِيَعْرِفُوه بِصِفَتِه ، ولِيَتَّبِعُوه عَلَى شَرِيعَتِه ، ولِئَلَّا يَضِلُّوا فِيه مِنْ بَعْدِه ، فَيَكُونَ مَنْ هَلَكَ أَوْ ضَلَّ بَعْدَ وُقُوعِ الإِعْذَارِ والإِنْذَارِ ، عَنْ بَيِّنَةٍ وتَعْيِينِ حُجَّةٍ . فَكَانَتِ الأُمَمُ فِي رَجَاءٍ مِنَ الرُّسُلِ ، ووُرُودٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ، ولَئِنْ أُصِيبَتْ بِفَقْدِ نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ ، عَلَى عِظَمِ مَصَائِبِهِمْ وفَجَائِعِهَا بِهِمْ ، فَقَدْ
--------------------------- 75 ---------------------------
كَانَتْ عَلَى سَعَةٍ مِنَ الأَمَلِ ، ولَا مُصِيبَةٌ عَظُمَتْ ولَا رَزِيَّةٌ جَلَّتْ كَالْمُصِيبَةِ بِرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لأَنَّ الله خَتَمَ بِه الإِنْذَارَ والإِعْذَارَ ، وقَطَعَ بِه الِاحْتِجَاجَ والْعُذْرَ بَيْنَه وبَيْنَ خَلْقِه ، وجَعَلَه بَابَه الَّذِي بَيْنَه وبَيْنَ عِبَادِه ، ومُهَيْمِنَه الَّذِي لَا يَقْبَلُ إِلَّا بِه ، ولَا قُرْبَةَ إِلَيْه إِلَّا بِطَاعَتِه ، وقَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِه : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله ، ومَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً . فَقَرَنَ طَاعَتَه بِطَاعَتِه ومَعْصِيَتَه بِمَعْصِيَتِه ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى مَا فَوَّضَ إِلَيْه ، وشَاهِداً لَه عَلَى مَنِ اتَّبَعَه وعَصَاه ، وبَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ ، فَقَالَ تَبَارَكَ وتَعَالَى فِي التَّحْرِيضِ عَلَى اتَّبَاعِه والتَّرْغِيبِ فِي تَصْدِيقِه والْقَبُولِ بِدَعْوَتِه : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ .
فَاتِّبَاعُه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مَحَبَّةُ الله ، ورِضَاه غُفْرَانُ الذُّنُوبِ ، وكَمَالُ الْفَوْزِ ، ووُجُوبُ الْجَنَّةِ . وفِي التَّوَلِّي عَنْه والإِعْرَاضِ مُحَادَّةُ الله وغَضَبُه وسَخَطُه ، والْبُعْدُ مِنْه مُسْكِنُ النَّارِ ، وذَلِكَ قَوْلُه : ومَنْ يَكْفُرْ بِه مِنَ الأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُه ، يَعْنِي الْجُحُودَ بِه والْعِصْيَانَ لَه ، فَإِنَّ الله تَبَارَكَ اسْمُه امْتَحَنَ بِي عِبَادَه ، وقَتَلَ بِيَدِي أَضْدَادَه ، وأَفْنَى بِسَيْفِي جُحَّادَه ، وجَعَلَنِي زُلْفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وحِيَاضَ مَوْتٍ عَلَى الْجَبَّارِينَ ، وسَيْفَه عَلَى الْمُجْرِمِينَ ، وشَدَّ بِي أَزْرَ رَسُولِه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأَكْرَمَنِي بِنَصْرِه ، وشَرَّفَنِي بِعِلْمِه ، وحَبَانِي بِأَحْكَامِه ، واخْتَصَّنِي بِوَصِيَّتِه ، واصْطَفَانِي بِخِلَافَتِه فِي أُمَّتِه ، فَقَالَ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقَدْ حَشَدَه الْمُهَاجِرُونَ والأَنْصَارُ ، وانْغَصَّتْ بِهِمُ الْمَحَافِلُ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ عَلِيّاً مِنِّي كَهَارُونَ مِنْ مُوسَى ، إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي ، فَعَقَلَ الْمُؤْمِنُونَ عَنِ الله نُطْقَ الرَّسُولُ ، إِذْ عَرَفُونِي أَنِّي لَسْتُ بِأَخِيه لأَبِيه وأُمِّه ، كَمَا كَانَ هَارُونُ أَخَا مُوسَى لأَبِيه وأُمِّه ، ولَا كُنْتُ نَبِيّاً فَاقْتَضَى نُبُوَّةً ، ولَكِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْه اسْتِخْلَافاً لِي ، كَمَا اسْتَخْلَفَ مُوسَى هَارُونَ ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حَيْثُ يَقُولُ : أخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأَصْلِحْ ولا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ .
وقَوْلُه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حِينَ تَكَلَّمَتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ نَحْنُ مَوَالِي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فَخَرَجَ رَسُولُ الله إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، ثُمَّ صَارَ إِلَى غَدِيرِخُمٍّ ، فَأَمَرَ فَأُصْلِحَ لَه شِبْه الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ عَلَاه وأَخَذَ بِعَضُدِي حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْه رَافِعاً صَوْتَه قَائِلاً فِي
--------------------------- 76 ---------------------------
مَحْفِلِه : مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه وعَادِ مَنْ عَادَاه . فَكَانَتْ عَلَى وَلَايَتِي وَلَايَةُ الله ، وعَلَى عَدَاوَتِي عَدَاوَةُ الله ، وأَنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ، فَكَانَتْ وَلَايَتِي كَمَالَ الدِّينِ ورِضَا الرَّبِّ جَلَّ ذِكْرُه ، وأَنْزَل الله تَبَارَكَ وتَعَالَى اخْتِصَاصاً لِي وتَكَرُّماً نَحَلَنِيه ، وإِعْظَاماً وتَفْصِيلاً مِنْ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مَنَحَنِيه ، وهُوَ قَوْلُه تَعَالَى : ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَه الْحُكْمُ وهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ .
في مَنَاقِبُ لَوْ ذَكَرْتُهَا لَعَظُمَ بِهَا الِارْتِفَاعُ ، فَطَالَ لَهَا الِاسْتِمَاعُ .
ولَئِنْ تَقَمَّصَهَا دُونِيَ الأَشْقَيَانِ ، ونَازَعَانِي فِيمَا لَيْسَ لَهُمَا بِحَقٍّ ، ورَكِبَاهَا ضَلَالَةً ، واعْتَقَدَاهَا جَهَالَةً ، فَلَبِئْسَ مَا عَلَيْه وَرَدَا ، ولَبِئْسَ مَا لأَنْفُسِهِمَا مَهَّدَا ، يَتَلَاعَنَانِ فِي دُورِهِمَا ، ويَتَبَرَّأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِه يَقُولُ لِقَرِينِه إِذَا الْتَقَيَا : يا لَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ، فَيُجِيبُه الأَشْقَى عَلَى رُثُوثَةٍ : يَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْكَ خَلِيلاً لَقَدْ أَضْلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً .
فَأَنَا الذِّكْرُ الَّذِي عَنْه ضَلَّ ، والسَّبِيلُ الَّذِي عَنْه مَالَ ، والإِيمَانُ الَّذِي بِه كَفَرَ ، والْقُرْآنُ الَّذِي إِيَّاه هَجَرَ ، والدِّينُ الَّذِي بِه كَذَّبَ ، والصِّرَاطُ الَّذِي عَنْه نَكَبَ . ولَئِنْ رَتَعَا فِي الْحُطَامِ الْمُنْصَرِمِ ، والْغُرُورِ الْمُنْقَطِعِ ، وكَانَا مِنْه عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ، لهمَا عَلَى شَرِّ وُرُودٍ ، فِي أَخْيَبِ وُفُودٍ ، وأَلْعَنِ مَوْرُودٍ ، يَتَصَارَخَانِ بِاللَّعْنَةِ ، ويَتَنَاعَقَانِ بِالْحَسْرَةِ ، مَا لَهُمَا مِنْ رَاحَةٍ ، ولَا عَنْ عَذَابِهِمَا مِنْ مَنْدُوحَةٍ . إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَزَالُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ ، وسَدَنَةَ أَوْثَانٍ ، يُقِيمُونَ لَهَا الْمَنَاسِكَ ، ويَنْصِبُونَ لَهَا الْعَتَائِرَ ، ويَتَّخِذُونَ لَهَا الْقُرْبَانَ ، ويَجْعَلُونَ لَهَا الْبَحِيرَةَ والْوَصِيلَةَ والسَّائِبَةَ والْحَامَ ، ويَسْتَقْسِمُونَ بِالأَزْلَامِ ، عَامِهِينَ عَنِ الله عَزَّ ذِكْرُه ، حَائِرِينَ عَنِ الرَّشَادِ ، مُهْطِعِينَ إِلَى الْبِعَادِ ، وقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ، وغَمَرَتْهُمْ سَوْدَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ ، ورَضَعُوهَا جَهَالَةً ، وانْفَطَمُوهَا ضَلَالَةً ، فَأَخْرَجَنَا الله إِلَيْهِمْ رَحْمَةً ، وأَطْلَعَنَا عَلَيْهِمْ رَأْفَةً ، وأَسْفَرَ بِنَا عَنِ الْحُجُبِ نُوراً لِمَنِ اقْتَبَسَه ، وفَضْلاً لِمَنِ اتَّبَعَه ، وتَأْيِيداً لِمَنْ صَدَّقَه ، فَتَبَوَّؤُوا الْعِزَّ بَعْدَ الذِّلَّةِ ، والْكَثْرَةَ بَعْدَ الْقِلَّةِ ، وهَابَتْهُمُ الْقُلُوبُ والأَبْصَارُ ، وأَذْعَنَتْ لَهُمُ الْجَبَابِرَةُ وطَوَائِفُهَا ، وصَارُوا أَهْلَ نِعْمَةٍ مَذْكُورَةٍ ، وكَرَامَةٍ مَيْسُورَةٍ ، وأَمْنٍ
--------------------------- 77 ---------------------------
بَعْدَ خَوْفٍ ، وجَمْعٍ بَعْدَ كَوْفٍ ، وأَضَاءَتْ بِنَا مَفَاخِرُ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ ، وأَوْلَجْنَاهُمْ بَابَ الْهُدَى ، وأَدْخَلْنَاهُمْ دَارَ السَّلَامِ ، وأَشْمَلْنَاهُمْ ثَوْبَ الإِيمَانِ ، وفَلَجُوا بِنَا فِي الْعَالَمِينَ ، وأَبْدَتْ لَهُمْ أَيَّامُ الرَّسُولِ آثَارَ الصَّالِحِينَ ، مِنْ حَامٍ مُجَاهِدٍ ، ومُصَلٍّ قَانِتٍ ، ومُعْتَكِفٍ زَاهِدٍ ، يُظْهِرُونَ الأَمَانَةَ ، ويَأْتُونَ الْمَثَابَةَ . حَتَّى إِذَا دَعَا الله عَزَّ وجَلَّ نَبِيَّه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورَفَعَه إِلَيْه ، لَمْ يَكُ ذَلِكَ بَعْدَه إِلَّا كَلَمْحَةٍ مِنْ خَفْقَةٍ ، أَوْ وَمِيضٍ مِنْ بَرْقَةٍ ، إِلَى أَنْ رَجَعُوا عَلَى الأَعْقَابِ ، وانْتَكَصُوا عَلَى الأَدْبَارِ وطَلَبُوا بِالأَوْتَارِ ، وأَظْهَرُوا الْكَتَائِبَ ، ورَدَمُوا الْبَابَ ، وفَلُّوا الدِّيَارَ ، وغَيَّرُوا آثَارَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ورَغِبُوا عَنْ أَحْكَامِه ، وبَعُدُوا مِنْ أَنْوَارِه ، واسْتَبْدَلُوا بِمُسْتَخْلَفِه بَدِيلاً اتَّخَذُوه ، وكَانُوا ظَالِمِينَ ، وزَعَمُوا أَنَّ مَنِ اخْتَارُوا مِنْ آلِ أَبِي قُحَافَةَ أَوْلَى بِمَقَامِ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مِمَّنِ اخْتَارَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لِمَقَامِه ، وأَنَّ مُهَاجِرَ آلِ أَبِي قُحَافَةَ خَيْرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيِّ الرَّبَّانِيِّ ، نَامُوسِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ .
أَلَا وإِنَّ أَوَّلَ شَهَادَةِ زُورٍ وَقَعَتْ فِي الإسلام شَهَادَتُهُمْ أَنَّ صَاحِبَهُمْ مُسْتَخْلَفُ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مَا كَانَ ، رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وقَالُوا إِنَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مَضَى ولَمْ يَسْتَخْلِفْ ، فَكَانَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الطَّيِّبُ الْمُبَارَكُ ، أَوَّلَ مَشْهُودٍ عَلَيْه بِالزُّورِ فِي الإسلام ، وعَنْ قَلِيلٍ يَجِدُونَ غِبَّ مَا يَعْلَمُونَ ، وسَيَجِدُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أَسَّسَه الأَوَّلُونَ . ولَئِنْ كَانُوا فِي مَنْدُوحَةٍ مِنَ الْمَهْلِ ، وشِفَاءٍ مِنَ الأَجَلِ ، وسَعَةٍ مِنَ الْمُنْقَلَبِ واسْتِدْرَاجٍ مِنَ الْغُرُورِ ، وسُكُونٍ مِنَ الْحَالِ ، وإِدْرَاكٍ مِنَ الأَمَلِ ، فَقَدْ أَمْهَلَ الله عَزَّ وجَلَّ شَدَّادَ بْنَ عَادٍ ، وثَمُودَ بْنَ عَبُّودٍ ، وبَلْعَمَ بْنَ بَاعُورٍ ، وأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَه ظَاهِرَةً وبَاطِنَةً ، وأَمَدَّهُمْ بِالأَمْوَالِ والأَعْمَارِ ، وأَتَتْهُمُ الأَرْضُ بِبَرَكَاتِهَا ، لِيَذَّكَّرُوا آلَاءَ الله ولِيَعْرِفُوا الإِهَابَةَ لَه ، والإِنَابَةَ إِلَيْه ، ولِيَنْتَهُوا عَنِ الِاسْتِكْبَارِ ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْمُدَّةَ ، واسْتَتَمُّوا الأُكْلَةَ ، أَخَذَهُمُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ واصْطَلَمَهُمْ : فَمِنْهُمْ مَنْ حُصِبَ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْه الصَّيْحَةُ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَحْرَقَتْه الظُّلَّةُ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَوْدَتْه الرَّجْفَةُ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَرْدَتْه الْخَسْفَةُ : فَما كانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .
--------------------------- 78 ---------------------------
أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً ، فَإِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَه ، لَوْ كُشِفَ لَكَ عَمَّا هَوَى إِلَيْه الظَّالِمُونَ ، وآلَ إِلَيْه الأَخْسَرُونَ ، لَهَرَبْتَ إِلَى الله عَزَّ وجَلَّ مِمَّا هُمْ عَلَيْه مُقِيمُونَ ، وإِلَيْه صَائِرُونَ .
أَلَا وإِنِّي فِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ كَهَارُونَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ ، وكَبَابِ حِطَّةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وكَسَفِينَةِ نُوحٍ فِي قَوْمِ نُوحٍ ، إِنِّي النَّبَأُ الْعَظِيمُ ، والصِّدِّيقُ الأَكْبَرُ ، وعَنْ قَلِيلٍ سَتَعْلَمُونَ مَا تُوعَدُونَ ، وهَلْ هِيَ إِلَّا كَلُعْقَةِ الآكِلِ ، ومَذْقَةِ الشَّارِبِ ، وخَفْقَةِ الْوَسْنَانِ ، ثُمَّ تُلْزِمُهُمُ الْمَعَرَّاتُ ، خِزْياً فِي الدُّنْيَا ، ويَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ ، ومَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ . فَمَا جَزَاءُ مَنْ تَنَكَّبَ مَحَجَّتَه ، وأَنْكَرَ حُجَّتَه ، وخَالَفَ هُدَاتَه ، وحَادَّ عَنْ نُورِه ، واقْتَحَمَ فِي ظُلَمِه ، واسْتَبْدَلَ بِالْمَاءِ السَّرَابَ ، وبِالنَّعِيمِ الْعَذَابَ ، وبِالْفَوْزِ الشَّقَاءَ ، وبِالسَّرَّاءِ الضَّرَّاءَ ، وبِالسَّعَةِ الضَّنْكَ ، إِلَّا جَزَاءُ اقْتِرَافِه ، وسُوءُ خِلَافِه . فَلْيُوقِنُوا بِالْوَعْدِ عَلَى حَقِيقَتِه ، ولْيَسْتَيْقِنُوا بِمَا يُوعَدُونَ ، يَوْمَ تَأْتِي الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ وإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ، يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) .
5 - ملاحظات على خطبة الوسيلة
1 . هذه الخطبة فوق الوصف ، في معماريتها ، وغنى فصولها ، وعمق معانيها وبلاغة مطالبها . وقد أطلقها الإمام الباقر ( عليه السلام ) عمداً على يد تلميذه جابر بن يزيد الجعفي رضي الله عنه ، وأمره أن يبلغها في طول بلاد الأمة الإسلامية وعرضها فقال له : ( إسمع وعِ ، وبلغ حيث انتهت بك راحلتك ) .
2 . أول ما يطالعك في الخطبة أن أفقها عالٍ ، فهي تتحدث عن الله تعالى وعن الرسول والإسلام ، في قواعد من الحكمة العملية ، ثم تصف المقام المحمود العظيم الذي وعد الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) به ، وأن علياً والعترة ( عليهم السلام ) معه في ذلك المقام ، ثم تصل إلى ما فعله أهل السقيفة مع الله ورسوله وعترته !
3 . عُرفت باسم خطبة الوسيلة ، لأنهاتضمنت وصف درجة الوسيلة التي وعد الله بها رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومعه عترته ( عليهم السلام ) . لاحظ قوله : إِنَّ الله تَعَالَى وَعَدَ نَبِيَّه مُحَمَّداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الْوَسِيلَةَ
--------------------------- 79 ---------------------------
ووَعْدُه الْحَقُّ ولَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَه ، أَلَا وإِنَّ الْوَسِيلَةَ أَعْلَى دَرَجِ الْجَنَّةِ وذِرْوَةُ ذَوَائِبِ الزُّلْفَةِ . . . الخ . وقصده من ذلك أن يبين أن ما ارتكبه أهل السقيفة من عزل أهل البيت ( عليهم السلام ) لا يضر بمقامهم عند الله تعالى ، لأنهم خير البشر ( عليهم السلام ) .
4 . معنى أنها كانت بعد سبعة أيام من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنها كانت يوم الأحد رابع ربيع الأول ، بعد أن انتهى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من جمع القرآن ، وبعد أن هاجموا بيته واعتدوا على الزهراء ( عليها السلام ) ، وأخذوه وأجبروه على البيعة .
5 . لم تكن سيطرة أهل السقيفة يومها على المسجد النبوي كاملة ، وإن سيطروا على القبرالشريف حتى لايستجير به بنو هاشم ، ومنعوا مجلس النوح الذي كانت تقيمه فاطمة ( عليها السلام ) . لكن مع ذلك خطب فيه سلمان الفارسي رضي الله عنه ، في اليوم الثالث لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ولا بد أن أهل السقيفة لم يروا في خطبته وخطبة أبي بن كعب وأمثالهما ، خطراً فعلياً ، فقد قال عمر أما إذا بايعتم فقولوا ما شئتم ! وكان وضعهم يتحمل خطباً لإثبات حق علي ( عليه السلام ) ، ما دامت لا تدعوعملياً إلى رفض بيعة أبيبكر .
6 . كان أول يوم جمعة بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوماً عاصفاً ، فقد اتفق اثنا عشرمن المهاجرين والأنصار ، يتقدمهم خالد بن سعيد بن العاص الأموي رضي الله عنهم ، على أن يواجهوا أبا بكر عندما يجلس على منبرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويحتجوا عليه ويوبخوه على فعلته . فخطبوا ( الإحتجاج : 1 / 97 ) : ( فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يُحِرْ جواباً ، ثم قال : وليتكم ولست بخيركم ، أقيلوني أقيلوني ! فقال له عمر بن الخطاب : إنزل عنها يا لكع ! إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لمَ أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة ! قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ) !
وفي هذه الأيام الثلاثة كانوا يجمعون جنوداً من خارج المدينة ليهددوا بهم من يعترض على خلافتهم . وفي اليوم الثاني كانت خطبة علي ( عليه السلام ) في المسجد ، وكان
--------------------------- 80 ---------------------------
الصحابة يتكلمون في انكسار أهل السقيفة ، وفي ضرورة أن يعيدوا الأمر شورى بين المسلمين ، فأصغوا إلى خطبة علي ( عليه السلام ) بدون تشويش .
7 . فهرس الخطبة الشريفة : أن الإمام ( عليه السلام ) بدأ بحمد الله تعالى وتوحيده ، وأنه فتح لعباده باب معرفة بوجوده ، وحجب العقول عن معرفة ذاته بل عن تخيلها ، ثم بين قواعد في معرفة الله ضل عنها البعض ، وضل فيها البعض .
ثم ركز على قيمة الشهادة بنبوة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفوائدها ، وثواب من شهد بها . ثم انطلق ( عليه السلام ) من قاعدة : لَا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الإِسْلَامِ . إلى بيان مجموعة قواعد في الحكمة العملية ، توجب تأكيد الحالة المنطقية في شخصية الإنسان .
ثم بين مكانة العلم : لَا كَنْزَ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ . وعدد من الصفات المتصلة به .
ثم دعا ( عليه السلام ) إلى أن يشتغل الإنسان بنفسه بدل أن يكون فضولياً يتعرض لما لا يعنيه : إِنَّه مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِه اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرِه .
ثم بين ( عليه السلام ) مكانة العقل والتعقل في الأمور ، وقواعد في فهم ما يكشفه اللسان . وقواعد في السكوت والكلام والحكمة العملية . ثم بين ضرورة حفظ الإعتدال والتوازن في الأمور وخطورة الإفراط والتفريط .
ثم أفاض ( عليه السلام ) في بيان وعد الله تعالى لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمقامه في درجات الوسيلة بأعلى الجنان . وأن مقام العترة ( عليهم السلام ) مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأن الله تعالى خلق علياً ( عليه السلام ) وأعده لهذا المقام وهذه المنزلة ، واستحقها بجهاده مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الدنيا ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكد على مكانته وخلافته بعده .
ثم وصل في خطبته إلى ما فعله أهل السقيفة وسماهما : الأشقيان فقال : ولَئِنْ تَقَمَّصَهَا دُونِيَ الأَشْقَيَانِ ، ونَازَعَانِي فِيمَا لَيْسَ لَهُمَا بِحَقٍّ ، ورَكِبَاهَا ضَلَالَةً ، واعْتَقَدَاهَا جَهَالَةً ، فَلَبِئْسَ مَا عَلَيْه وَرَدَا ، ولَبِئْسَ مَا لأَنْفُسِهِمَا مَهَّدَا . .
وهذا موقف صريح من الشيخين ، وإدانة ما بعدها إدانة ، ثم واصل حملةً شعواء عليهما إلى آخر الخطبة ، لما ارتكباه في حقه ( عليه السلام ) وحق الله تعالى ، وحق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحق الإسلام والأمة . محللاً في ذلك فعلهما ودوافعه الدنيوية ، ومقرراً نتائجه الوخيمة على
--------------------------- 81 ---------------------------
الأمة ، وعليهما من عقوبة الله تعالى وعذابه .
8 . تعمد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يجعل إدانتهم في سياق كلامه الطويل هذا ، يقول بذلك : هذه هي الأرضية العقائدية والعقلانية ، والبنية التحتية التي يفتقدها هؤلاء ، وهذا هو الإطار الصحيح الذي يجب أن يوضع فيه عملهم الخطير .
9 . تعبيره عنهما بالأشقيين ، يربطهما بأشقى الأولين عاقر ناقة صالح ، وأشقى الآخرين ابن ملجم ، وهما صفتان لهما من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وقد جعل علي ( عليه السلام ) هذين أخويهما ، ولا بد أنه سمع وصفهما بذلك من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
10 . الخطبة غنية بقواعد عديدة في علم النفس والاجتماع والحكمة العملية ، تعمد الإمام ( عليه السلام ) إيرادها لارتباط عملهما بها ، ولتحذير الأمة من اتباعهما .
11 . كانت خطبة الزهراء ( عليها السلام ) بعد عشرة أيام لوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( شرح النهج : 16 / 263 ) فتكون يوم الخميس الثاني لوفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد ثلاثة أيام من خطبة الوسيلة هذه .
والفرق بين الخطبتين أن نسيجهما مختلف ومشكاتهما واحدة ، وخطبة الوسيلة أطول وأكثر صراحة في الإدانة ، وإن كانت الإدانة في خطبة الزهراء ( عليها السلام ) أيضاً واضحة ، في مثل قولها ( عليها السلام ) : ( فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير شربكم . هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يُقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) .
وفرق آخر : أن مصب خطبة الزهراء ( عليها السلام ) على إثبات انحراف الأمة بمجرد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وظهور حسيكة النفاق ونخوة الشيطان وأحقاد بدر وأحد ،
--------------------------- 82 ---------------------------
في الذين سيطروا على دولة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد أثبتت أن الحاكم لا أهلية له ، فقد صادر مال بنت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فياويل بنات المسلمين منه ، ودعت الأنصار للثورة على المنحرفين الظالمين للأمة ولأهل بيت نبيها !
أما خطبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتتكلم عن نعمة الإسلام والعقل والعلم والحكمة العملية ، وعن المكانة السامية للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعترته ( عليهم السلام ) في سلم الوجود ، وعن الدركات السفلى لمن خالفهم . وتحذر من آثار الانحراف الذي وقع في الأمة !
6 . الخطبة الشقشقية إدانة صريحة لأهل السقيفة
قال فيها ( عليه السلام ) : ( أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبرعلى طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبرعلى هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً !
حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، ثم تمثل بقول الأعشى :
شتانَ ما يومي على كورها * ويومِ حيانٍ أخي جابر
فيا عجبا ، بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدَّ ما تشطرا ضرعيها ! فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم . فمنيَ الناس لعمر الله بخبطٍ وشماس ، وتلونٍ واعتراض ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة .
حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ! فيا لله وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكني أسففت إذ أسَفُّوا ، وطرت إذ طاروا . فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهن .
إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون
--------------------------- 83 ---------------------------
مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكَبَت به بطنته ، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون عليَّ من كل جانب . حتى لقد وُطئ الحسنان وشُق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون !
كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ للَّمُتَّقِينَ . بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها !
أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ) ! ( نهج البلاغة : 1 / 37 ) .
قال ابن أبي الحديد ( 1 / 205 ) : ( فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وست مائة قال : قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة ، فلما انتهيت إلى هذا الموضع ، قال لي : لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له : وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة ، لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد ! والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين ، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره ) !
7 . أيتها الأمة المخدوعة عن علم وعمد !
روى في الكافي ( 8 / 31 ) : ( عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الهيثم بن التيهان أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب الناس بالمدينة فقال : الحمد لله الذي لا إله إلا هو ، كان حياً بلا كيف ، ولم يكن له كان ، ولا كان لكانه كيف ، ولا كان له أين ، ولا كان في شئ ، ولا كان على شئ ولا ابتدع لكانه مكاناً ، ولا قوي بعد ما كون شيئاً ، ولا كان ضعيفاً قبل أن يكون شيئاً ، ولا كان مستوحشاً قبل أن يبتدع شيئاً ، ولا يشبه شيئاً ، ولا كان خلواً عن الملك قبل إنشائه ، ولا يكون خلواً منه بعد
--------------------------- 84 ---------------------------
ذهابه ، كان إلهاً حياً بلا حياة ، ومالكاً قبل أن ينشئ شيئاً ، ومالكاً بعد إنشائه للكون ، وليس يكون لله كيف ولا أين ولا حد يعرف ، ولا شئ يشبهه ، ولا يهرم لطول بقائه ، ولا يضعف لذعرة ، ولا يخاف كما تخاف خليقته من شئ ولكن سميع بغير سمع ، وبصير بغير بصر ، وقوي بغير قوة من خلقه ، لا تدركه حدق الناظرين ولا يحيط بسمعه سمع السامعين ، إذا أراد شيئا كان بلا مشورة ولا مظاهرة ولا مخابرة ولا يسأل أحدا عن شئ من خلقه أراده ، لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، فبلغ الرسالة
وأنهج الدلالة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
أيها الأمة التي خدعت فانخدعت ، وعرفت خديعة من خدعها فأصرت على ما عرفت ، واتبعت أهواءها ، وضربت في عشواء غوايتها ، وقد استبان لها الحق فصدت عنه ، والطريق الواضح فتنكبته .
أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لو اقتبستم العلم من معدنه ، وشربتم الماء بعذوبته ، وادخرتم الخير من موضعه ، وأخذتم الطريق من واضحه ، وسلكتم من الحق نهجه ، لنهجتْ بكم السبل ، وبدت لكم الأعلام ، وأضاء لكم الإسلام ، فأكلتم رغداً ، وما عال فيكم عائل ، ولاظلم منكم مسلم ولا معاهد .
ولكن سلكتم سبيل الظلام فأظلمت عليكم دنياكم برحبها ، وسدت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهوائكم ، واختلفتم في دينكم فأفتيتم في دين الله بغير علم ، واتبعتم الغواة فأغوتكم ، وتركتم الأئمة فتركوكم ، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم إذا ذكر الأمر ، سألتم أهل الذكر فإذا أفتوكم قلتم هو العلم بعينه ، فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه !
رويداً عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم ، وتجدون وخيم ما اجترمتم وما اجتلبتم !
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد علمتم أني صاحبكم ، والذي به أمرتم ، وأني عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ، ووصي نبيكم وخيرة ربكم ، ولسان نوركم ، والعالم
--------------------------- 85 ---------------------------
بما يصلحكم . فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وُعدتم وما نزل بالأمم قبلكم ، وسيسألكم الله عز وجل عن أئمتكم ، معهم تحشرون وإلى الله عز وجل غداً تصيرون ، أما والله لو كان لي عدة أصحاب طالوت أو عدة أهل بدر وهم أعدادكم ، لضربتكم بالسيف حتى تؤولوا إلى الحق ، وتنيبوا للصدق ، فكان أرتق للفتق ، وآخذ بالرفق . اللهم فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين .
قال ثم خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة ، فقال : والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه ، لأ زلت أبن آكلة الذبان عن ملكه . قال : فلما أمسى بايعه ثلاث مائة وستون رجلاً على الموت فقال لهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلقين ، وحلق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فما وافى من القوم محلقاً إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وجاء سلمان في آخر القوم ، فرفع يده إلى السماء فقال : اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون ، اللهم فإنك تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى
عَلَى اللَّهِ مِنْ شَئْ فِي الأَرْضِ وَلافِي السَّمَاءِ ، تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ . أما والبيت والمفضي إلى البيت ، لولا عهد عهده إلي النبي الأمي لأوردت المخالفين خليج المنية ، ولأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت . وعن قليل سيعلمون ) ( الكافي : 8 / 32 ) .
8 . ما ترك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأحد حجة !
بعد احتجاج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المسجد ودعوته المهاجرين والأنصار لقبول عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قال بشير بن سعد الأنصاري الذي وطأ الأمر لأبيبكر وقالت جماعة من الأنصار : ( يا أبا الحسن لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبيبكر ما اختلف فيك اثنان .
فقال علي ( عليه السلام ) : يا هؤلاء ! أكنت أدع رسول الله مسجى لا أواريه وأخرج أنازع في سلطانه ؟ والله ما خفت أحداً يسموا له وينازعنا أهل البيت فيه ويستحل ما استحللتموه ، ولا علمت أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ترك يوم غدير خم لأحد حجة ، ولا لقائل مقالاً ، فأنشد الله رجلاً سمع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم غدير خم يقول : من كنت
--------------------------- 86 ---------------------------
مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، أن يشهد الآن بما سمع .
قال زيد بن أرقم [ أنس بن مالك ] : فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك ، وكنت ممن سمع القول من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكتمت الشهادة يومئذ فدعا عليٌّ ، فذهب بصري ) . ( الإحتجاج للطبرسي : 1 / 184 ، والإمامة والسياسة / 29 ) .
9 . طلبا مني البيعة لمن سبيله أن يبايعني
عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( لما أتى أبو بكر وعمر إلى منزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وخاطباه في البيعة وخرجا من عنده ، خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى المسجد ، فحمد الله وأثنى عليه بما اصطنع عندهم أهل البيت ، إذ بعث فيهم رسولاً منهم ، وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . ثم قال : إن فلاناً وفلاناً أتياني وطالباني بالبيعة لمن سبيله أن يبايعني ، أنا ابن عم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبوإبنيه ، والصديق الأكبر ، وأخو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يقولها أحد غيري إلا كاذب ، أسلمت وصليت قبل الناس ، وأنا وصيه ، وزوج ابنته سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبوحسن وحسين سبطي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونحن أهل بيت الرحمة ، بنا هداكم الله ، وبنا استنقذكم من الضلالة ، وأنا صاحب يوم الدوح ، وفيَّ نزلت سورة من القرآن ، وأنا الوصي على الأموات من أهل بيته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنا بقيته على الأحياء من أمته ، فاتقوا الله يثبت أقدامكم ويتم نعمته عليكم . ثم رجع ( عليه السلام ) إلى بيته ) .
( أمالي الطوسي / 568 ) .
10 . منشور الإمام حول الخلافة وحول قتاله لمعاوية
كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يرفق بالذين يقدسون أبا بكر وعمر ويسميهم المخدوعين ! وكان بعض خصومه يثيرونهم عليه ، وكان لايعجبه النقاش في ذلك لكنه في نفس الوقت يراه فرصةً لبيان الحق وتوعية الأمة على مؤامرة قريش ، وأنها صادرت السلطة من عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسلمتها إلى بني أمية ، وأن عثمان الذي نقمت عليه الأمة فقتلته ، ومعاوية بعده ، إنما هما ثمرة سقيفة قريش !
--------------------------- 87 ---------------------------
وقد سجل ( عليه السلام ) لأجيال الأمة مواقفه ، وكشف أمر السقيفة وأصحابها ، وبين فداحة ظلامة العترة النبوية ( عليهم السلام ) بيد القرشيين !
من ذلك : منشورٌ كتبه بعد النهروان ، وأمر أن يقرأ على الناس كل أسبوع ، وقد روته مصادرنا ، ومنها كتاب رسائل الأئمة ( عليهم السلام ) للكليني ( قدس سره ) ، وروت مصادرهم أجزاءً منه كالبلاذري وابن قتيبة وغيرهما . وهذا نصه برواية الكليني ، قال :
( كتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد منصرفه من النهروان كتاباً ، وأمر أن يقرأ على الناس ، وذلك أن الناس سألوه عن أبيبكر وعمر وعثمان ، فغضب ( عليه السلام ) لذلك وقال :
قد تفرغتم للسؤال عما لا يعنيكم ، وهذه مصرُقد افتتحت وقَتَل معاوية بن خديج محمد بن أبا بكر ! فيا لها من مصيبة ما أعظمها مصيبتي بمحمد ، فوالله ما كان إلا كبعض بنيَّ . سبحان الله ، بينا نحن نرجو أن نغلب القوم على ما في أيديهم ، إذ غلبونا على ما في أيدينا ، وأنا أكتب لكم كتاباً فيه تصريح ما سألتم إن شاء الله تعالى ، فدعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال له : أدخل عليَّ عشرةً من ثقاتي ، فقال : سمِّهم يا أمير المؤمنين فقال :
أدخل أصبغ بن نباتة ، وأبا الطفيل عامر بن واثلة الكناني ، وزر بن حبيش الأسدي ، وجويرية بن مسهر العبدي ، وخندف بن زهير الأسدي ، وحارثة بن مضرب الهمداني ، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، ومصابيح النخعي ، وعلقمة بن قيس ، وكميل بن زياد ، وعمير بن زرارة ، فدخلوا إليه فقال لهم :
خذوا هذا الكتاب ، وليقرأه عبيد الله بن أبي رافع وأنتم شهود ، كل يوم جمعة ، فإن شغب شاغب عليكم ، فأنصفوه بكتاب الله بينكم وبينه .
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى شيعته من المؤمنين والمسلمين ، فإن الله يقول : وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ، وهو إسمٌ شرفه الله تعالى في الكتاب ، وأنتم شيعة النبي محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما أنه من شيعة إبراهيم . إسمٌ غير مختص ، وأمر غير مبتدع . وسلام الله عليكم ، والله هو السلام ، المؤمِّن أولياءه من العذاب المهين ، الحاكم عليكم بعدله .
--------------------------- 88 ---------------------------
أما بعد ، فإن الله تعالى بعث محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنتم معاشرالعرب على شر حال ، يغذو أحدكم كلبه ويقتل ولده ! ويغير على غيره ، فيرجع وقد أغير عليه ! تأكلون العِلْهِز والهبيد والميتة والدم ! تنيخون على أحجار خُشْن ، وأوثان مضلة ، وتأكلون الطعام الجشب ، وتشربون الماء الآجن ، تَسافكون دماءكم ، ويسبي بعضكم بعضاً !
وقد خص الله قريشاً بثلاث آيات وعمَّ العرب بآية . فأما الآيات اللواتي في قريش فهي قوله تعالى : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
والثانية : وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شيئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
والثالثة : قول قريش لنبي الله تعالى حين دعاهم إلى الإسلام والهجرة ، فقالوا : إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ، فقال الله تعالى : أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيء رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
وأما الآية التي عمَّ بها العرب فهي قوله تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
فيا لها من نعمة ما أعظمها إن لم تخرجوا منها إلى غيرها ، ويا لها من مصيبة ما أعظمها إن لم تؤمنوا بها وترغبوا عنها .
فمضى نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد بلغ ما أرسل به ، فيالها مصيبة خصت الأقربين ، وعمت المؤمنين ، لن تصابوا بمثلها ، ولن تعاينوا بعدها مثلها ! فمضى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لسبيله وترك كتاب الله وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، إمامين لا يختلفان ، وأخوين لايتخاذلان ، ومجتمعين لايتفرقان . ولقد قبض الله محمداً نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولأنا أولى الناس به مني بقميصي هذا ، وما ألقيَ في روعي ولاعرضَ في رأيي أن وجه الناس إلى غيري .
( يقصد ( عليه السلام ) أن ما حدث كان غير منطقي لا يتصور ، وإلا فقد أخبره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما سيجري ) .
--------------------------- 89 ---------------------------
فلما أبطأوا عني بالولاية لهممهم ، وتثبط الأنصار وهم أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وقالوا : أما إذا لم تسلموها لعلي فصاحبنا أحق بها من غيره ! فوالله ما أدري إلى من أشكو ، فإما أن تكون الأنصار ظلمت حقها ، وإما أن يكونوا ظلموني حقي . بل حقي المأخوذ وأنا المظلوم . فقال قائل قريش : الأئمة من قريش ، فدفعوا الأنصار عن دعوتها ومنعوني حقي منها !
فأتاني رهطٌ يعرضون عليَّ النصر ، منهم ابنا سعيد ، والمقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، والزبير بن العوام ، والبراء بن عازب ، فقلت لهم : إن عندي من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهداً وله إليَّ وصية لست أخالفه عما أمرني به ، فوالله لو خزموني بأنفي لأقررت لله تعالى سمعاً وطاعة .
فلما رأيت الناس قد انثالوا على أبيبكر بالبيعة أمسكت يدي ، وظننت
( بمعنى علمت ) أني أولى وأحق بمقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منه ومن غيره ، وقد كان نبي الله أمر أسامة بن زيد على جيش وجعلهما في جيشه ، وما زال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أن فاضت نفسه يقول : أنفذوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أسامة !
فلما رأيت راجعة من الناس قد رجعت عن الإسلام ، تدعو إلى محو دين محمد وملة إبراهيم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، خشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله ، أن أرى فيه ثلماً وهدماً تكون المصيبة علي فيه أعظم من فوت ولاية أموركم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، ثم تزول وتنقشع كما يزول وينقشع السحاب ! فنهضت مع القوم في تلك الأحداث حتى زهق الباطل ، وكانت كلمة الله هي العليا ، وإن رغم الكافرون . فوليَ أبو بكر فقارب واقتصد ، فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً ، حتى إذا احتضرقلت في نفسي ليس يعدل بهذا الأمر عني ، ولولا خاصةٌ بينه وبين عمر ، وأمرٌ كانا رضياه بينهما ، لظننت أنه لا يعدله عني ، وقد سمع قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لبريدة الأسلمي حين بعثني وخالد بن الوليد إلى اليمن ، وقال : إذا افترقتما فكل واحد منكما على حياله وإذا اجتمعتما فعلي عليكم جميعاً ، فغزونا وأصبنا سبياً فيهم خولة بنت جعفر جار الصفا ، فأخذتُ
--------------------------- 90 ---------------------------
الحنفية خولة ، واغتنمها خالد مني وبعث بريدة إلى رسول الله مُحَشِّراً عليَّ ، فأخبره بما كان من أخذي خولة فقال : يا بريدة حظه في الخمس أكثر مما أخذ ، إنه وليكم بعدي !
سمعها أبو بكر وعمر ، وهذا بريدة حي لم يمت ، فهل بعد هذا مقال لقائل !
فبايع عمر دون المشورة ، فكان مرضي السيرة من الناس عندهم ، حتى إذا احتضرقلت في نفسي ليس يعدل بهذا الأمرعني ، للذي قد رأى مني في المواطن وسمع من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجعلني سادس ستة ! وأمر صهيباً أن يصلي بالناس ، ودعا أبا طلحة زيد بن سعد الأنصاري فقال له : كن في خمسين رجلاً من قومك فاقتل من أبى أن يرضى من هؤلاء الستة ! وقال : هؤلاء الرهط الذين قبض رسول الله وهو عنهم راض ، فكيف يأمر بقتل قوم رضي الله عنهم ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن هذا لأمر عجيب ! ولم يكونوا لولاية أحد منهم أكره منهم لولايتي ، كانوا يسمعون وأنا أحاجُّ أبا بكر وأقول : يا معشر قريش إنا أحق بهذا الأمرمنكم ما كان منا من يقرأ القرآن ويعرف السنة ، ويدين بدين الله الحق ، وإنما حجتي أني وليُّ هذا الأمر من دون قريش أن نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : الولاء لمن أعتق ، فجاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعتق الرقاب من النار وأعتقها من الرق ، فكان للنبي ولاء هذه الأمة ، وكان لي بعده ما كان له ، فما جاز لقريش من فضلها عليها بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جاز لبني هاشم على قريش ، وجاز لي على بني هاشم بقول النبي يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، إلا أن تدعي قريش فضلها على العرب بغير النبي ، فإن شاؤوا فليقولوا ذلك !
فخشي القوم إن أنا وليتُ عليهم أن آخذ بأنفاسهم وأعترض في حلوقهم ، ولا يكون لهم في الأمر نصيب ! فأجمعوا عليَّ إجماع رجل واحد ، حتى صرفوا الولاية عني إلى عثمان ، رجاء أن ينالوها ويتداولوها في ما بينهم .
فدعوني إلى بيعة عثمان فبايعتُ مستكرهاً وصبرت محتسباً . فقال عبد الرحمن بن عوف : يا ابن أبي طالب إنك على هذا الأمر لحريص ! فقلت : لست عليه حريصاً وإنما أطلب ميراث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحقه وأن ولاء أمته لي من بعده ، وأنتم أحرص عليه مني إذ تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه بالسيف !
--------------------------- 91 ---------------------------
اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم قطعوا رحمي ، وأضاعوا أيامي ، ودفعوا حقي ، وصغروا قدري وعظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به منهم فاستلبونيه ، ثم قالوا إصبر مغموماً أو مت متأسفاً ! وأيم الله لو استطاعوا أين يدفعوا قرابتي كما قطعوا سببي فعلوا ، ولكنهم لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً ! وإنما حقي على هذه الأمة كرجل له حق على قوم إلى أجل معلوم ، فإن أحسنوا وعجلوا له حقه قبله حامداً ، وإن أخروه إلى أجله أخذه غير حامد ، وليس يعاب المرء بتأخير حقه ، إنما يعاب من أخذ ما ليس له ، وقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد إليَّ عهداً فقال : يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم ، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه ، فإن الله سيجعل لك مخرجاً . فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا معي مساعد إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الهلاك ، ولو كان لي بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمي حمزة وأخي جعفر لم أبايع مكرهاً ، ولكني بليت برجلين حديثي عهد بالإسلام العباس وعقيل ، فضننت بأهل بيتي عن الهلاك ، فأغضيت عيني على القذى ، وتجرعت ريقي على الشجى ، وصبرت على أمَرِّ من العلقم ، وآلم للقلب من حزِّ الشفار .
وأما أمر عثمان فكأنه علم من القرون الأولى عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ، خذله أهل بدر ، وقتله أهل مصر ، والله ما أمرت ولا نهيت ، ولو أني أمرت كنت قاتلاً ، ولو أني نهيت كنت ناصراً ، وكان الأمر لا ينفع فيه العيان ولا يشفى منه الخبر ، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خيرمنه ، ولا يستطيع من خذله أن يقول نصره من هو خير مني . وأنا جامع لكم أمره : إستأثر فأساء الأثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، والله يحكم بينكم وبينه .
والله ما يلزمني في دم عثمان تهمة ، ما كنت إلا رجلاً من المسلمين المهاجرين في بيتي ، فلما قتلتموه أتيتموني تبايعوني فأبيت عليكم وأبيتم عليَّ ، فقبضت يدي فبسطتموها ، وبسطتها فمددتموها ، ثم تداككتم علي تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتى ظننت أنكم قاتليَّ ، وأن بعضكم قاتل بعض ،
--------------------------- 92 ---------------------------
حتى انقطعت النعل وسقط الرداء ووطئ الضعيف ، وبلغ من سرورالناس ببيعتهم إياي أن حُمل إليها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل إليها العليل ، وحسرت لها الكعاب . فقالوا : بايعنا على ما بويع عليه أبو بكر وعمر ، فإنا لا نجد غيرك ولا نرضى إلا بك ، بايعنا لا نفترق ولا نختلف !
فبايعتم على كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعوت الناس إلى بيعتي فمن بايعني طائعاً قبلت منه ، ومن أبى تركته ، فكان أول من بايعني طلحة والزبيرفقالا : نبايعك على أنا شركاؤك في الأمر ! فقلت : لا ، ولكنكما شركائي في القوة ، وعوناي في العجز ، فبايعاني على هذا الأمر ، ولو أبيا لم أكرههما ، كما لم أكره غيرهما !
وكان طلحة يرجو اليمن ، والزبير يرجو العراق ! فلما علما أني غير موليهما استأذناني للعمرة يريدان الغدرة ، فأتيا عايشة واستخفاها مع شئ في نفسها عليَّ ، وقادهما عبد الله بن عامر إلى البصرة ، وضمن لهما الأموال والرجال ، فبيناهما يقودانها إذ هي تقودهما ، فاتخذاها فئة يقاتلان دونها ! فأيُّ خطيئة أعظم مما أتيا ، أخرجا زوجة رسول الله من بيتها فكشفا عنها حجاباً ستره الله عليها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما ، ولا أنصفا الله ولا رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
من أنفسهما !
فمنيتُ بأطوع الناس في الناس : عايشة بنت أبيبكر ، وبأشجع الناس : الزبير ، وبأخصم الناس : طلحة بن عبيد الله ، وأعانهم عليَّ يعلى بن منية بأصوع الدنانير ! والله لئن استقام أمري لأجعلن ماله فيئاً للمسلمين !
ثم أتوا البصرة وأهلها مجتمعون على بيعتي وطاعتي ، وبها شيعتي خزان بيت مال الله ومال المسلمين ، فدعوا الناس إلى معصيتي وإلى نقض بيعتي وطاعتي ، فمن أطاعهم أكفروه ، ومن عصاهم قتلوه ! فناجزهم حكيم بن جبلة فقتلوه في سبعين رجلاً من عُبَّاد أهل البصرة ومخبتيهم ، يسمَّوْنَ المثفَّنين كأن راح أكفهم ثفنات الإبل ، وأبى أن يبايعهم يزيد بن الحارث اليشكري فقال : إتقيا الله ، إن أولكم قادنا إلى الجنة فلا يقودنا آخركم إلى النار ، فلا تكلفونا أن نصدق المدعي ونقضي على الغائب ، أما يميني فشغلها علي بن أبي طالب ببيعتي إياه ، وهذه شمالي فارغة فخذاها إن شئتما !
--------------------------- 93 ---------------------------
فخُنق حتى مات ( رحمه الله ) .
وقام عبد الله بن حكيم التميمي فقال : يا طلحة هل تعرف هذا الكتاب ؟ قال : نعم هذا كتابي إليك . قال : هل تدري ما فيه ؟ قال : إقرأه عليَّ . فقرأه فإذا فيه عيبُ عثمان ودعاؤه إلى قتله ! فسيَّروه من البصرة !
وأخذوا عاملي عثمان بن حنيف الأنصاري غدراً ، فمثلوا به كل مثلة ، ونتفوا كل شعرة في رأسه ووجهه ! وقتلوا شيعتي ، طائفة صبراً وطائفة غدراً ، وطائفة عضوا بأسيافهم حتى لقوا الله !
فوالله لو لم يقتلوا منهم إلا رجلاً واحداً لحلَّ لي به دماؤهم ودماء ذلك الجيش لرضاهم بقتل من قتل ! دع أنهم قد قتلوا أكثر من العدة التي قد دخلوا بها عليهم ، وقد أدال الله منهم ، فبعداً للقوم الظالمين .
فأما طلحة فرماه مروان بسهم فقتله ، وأما الزبير فذكرته قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنك تقاتل علياً وأنت ظالم له ! وأما عايشة فإنها كانت نهاها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
عن مسيرها ، فعضت يديها نادمة على ما كان منها !
وقد كان طلحة لما نزل ذا قار قام خطيباً فقال : أيها الناس إنا أخطأنا في عثمان خطيئة ما يخرجنا منها إلا الطلب بدمه ، وعليٌّ قاتله وعليه دمه ! فلما بلغني قوله وقول كان عن الزبير قبيح ، بعثت إليهما أناشدهما بحق محمد وآله ما أتيتماني وأهل مصر محاصروا عثمان فقلتما : إذهب بنا إلى هذا الرجل فإنا لا نستطيع قتله إلا بك ، لما تعلم أنه سيَّر أبا ذر ( رحمه الله ) ، وفتق عماراً ، وآوى الحكم بن أبي العاص وقد طرده رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبو بكر وعمر ، واستعمل الفاسق على كتاب الله الوليد بن عقبة ، وسلط خالد بن عرفطة العذري على كتاب الله يمزقه ويحرقه . فقلت : كل هذا قد علمت ، ولا أرى قتله يومي هذا ، وأوشك سقاؤه أن يخرج المخض زبدته ! فأقرَّا بما قلت !
وأما قولكما إنكما تطلبان بدم عثمان ، فهذان ابناه عمرو وسعيد ، فخلوا عنهما يطلبان دم أبيهما ، ومتى كان أسد وتيم أولياء بني أمية ، فانقطعا عند ذلك !
--------------------------- 94 ---------------------------
فقام عمران بن حصين الخزاعي صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : يا هذان لاتخرجانا ببيعتكما من طاعة علي ، ولاتحملانا على نقض بيعته فإنها لله رضى ، أما وسعتكما بيوتكما حتى أتيتما بأم المؤمنين ! فالعجب لاختلافها وإياكما ومسيرها معكما فكفَّا عنا أنفسكما وارجعا من حيث جئتما ، فلسنا عبيد من غلب ولا أول من سبق ! فهمَّا به ثم كفَّا عنه !
وكانت عايشة قد شكَّت في مسيرها وتعاظمت القتال ، فدعت كاتبها عبيد الله بن كعب النميري فقالت أكتب : من عايشة بنت أبيبكر إلى علي بن أبي طالب ، فقال : هذا أمر لا يجري به القلم . قالت : ولمَ ؟ قال : لأن علي بن أبي طالب في الإسلام أول ، وله بذلك البدء في الكتاب . فقالت : أكتب : إلى علي بن أبي طالب من عايشة بنت أبيبكر ، أما بعد فإني لست أجهل قرابتك من رسول الله ، ولا قدمك في الإسلام ، ولا غَنَاءك عن رسول الله ، وإنما خرجت مصلحة بين بنيَّ لا أريد حربك ، إن كففت عن هذين الرجلين ، في كلام لها كثير ، فلم أجبها بحرف ، وأخرت جوابها لقتالها . ( لأنه كان أتم عليها الحجة ) .
فلما قضى الله لي الحسنى ، سرتُ إلى الكوفة ، واستخلفت عبد الله بن عباس على البصرة ، فقدِمتُ الكوفة وقد اتسقت لي الوجوه كلها إلا الشام ، فأحببت أن أتخذ الحجة وأفضي العذر ، أخذت بقول الله تعالى : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ، فبعثت جرير بن عبد الله إلى معاوية معذراً إليه ، متخذاً للحجة عليه ، فردَّ كتابي وجحد حقي ودفع بيعتي ، وبعث إليَّ أن ابعث إليَّ قتله عثمان ، فبعثت إليه ما أنت وقتلة عثمان ؟ أولاده أولى به ، فادخل أنت وهم في طاعتي ثم خاصم القوم لأحملكم وإياهم على كتاب الله ، وإلا فهذه خدعة الصبي عن رضاع الملي !
فلما يئس من هذا الأمر بعث إليَّ أن اجعل الشام لي حياتك ، فإن حدث بك حادث من الموت لم يكن لأحد عليَّ طاعة ، وإنما أراد بذلك أن يخلع طاعتي من عنقه ، فأبيتُ عليه ، فبعث إليَّ إن أهل الحجاز كانوا الحكام على أهل الشام ، فلما قتلوا عثمان صار أهل الشام الحكام على أهل الحجاز ! فبعثتُ إليه إن كنت صادقا فسمِّ لي رجلاً من قريش الشام تحل له الخلافة ، ويُقبل في الشورى ، فإن لم تجده سميت لك من قريش الحجاز من يحل له الخلافة ، ويُقبل في الشورى .
--------------------------- 95 ---------------------------
ونظرت إلى أهل الشام فإذا هم بقية الأحزاب ، فراش نار ، وذباب طمع ، تجمَّع من كل أوب ، ممن ينبغي أن يؤدب ويحمل على السنة ، ليسوا مهاجرين ولا أنصار ، ولا تابعين بإحسان ، فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة ، فأبوا إلا فراقي وشقاقي ، ثم نهضوا في وجه المسلمين ينضحونهم بالنبل ويشجرونهم بالرماح ! فعند ذلك نهضت إليهم ، فلما عضتهم السلاح ووجدوا ألم الجراح ، رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ، فأنبأتكم أنهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن ، وإنما رفعوها مكيدة وخديعة فامضوا لقتالهم ، فقلتم إقبل منهم واكفف عنهم فإنهم إن أجابوا إلى ما في القرآن ، جامعونا على ما نحن عليه من الحق ، فقبلت منهم وكففت عنهم ، فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين حكمين ليحييا ما أحياه القرآن ، ويميتا ما أماته القرآن ، فاختلف رأيهما واختلف حكمهما ، فنبذا ما في الكتاب ، وخالفا ما في القرآن وكانا أهله .
ثم إن طائفة اعتزلت فتركناهم ما تركونا ، حتى إذا عاثوا في الأرض يفسدون ويقتلون ، وكان فيمن قتلوه أهل ميرة من بني أسد ، وخباباً وابنه وأم ولده ، والحارث بن مرة العبدي ، فبعثت إليهم داعياً فقلت ادفعوا إلينا قتلة إخواننا ، فقالوا : كلنا قتلتهم ، ثم شدت خيلهم ورجالهم ، فصرعهم الله مصارع الظالمين .
فلما كان ذلك من شأنهم ، أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم فقلتم : كلَّت سيوفنا ونصلت أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصيداً ! فأذن لنا فلنرجع ولنستعد بأحسن عدتنا ، وإذا نحن رجعنا زدنا في مقاتلتنا عدة من قتل منا ، حتى إذا أظللتم على النخيلة أمرتكم أن تلزموا معسكركم ، وأن تضموا إليه نواصيكم ، وأن توطنوا على الجهاد نفوسكم ، ولا تكثروا زيارة أبناءكم ونساءكم ، فإن أصحاب الحرب مصابروها ، وأهل التشمير فيها الذين لا يتوجدون من سهر ليلهم ولا ظمأ نهارهم ، ولا فقدان أولادهم ولا نساءهم ! فأقامت طائفة منكم معدة ، وطائفة دخلت المصرعاصية ، فلا من دخل المصر عاد إليَّ ، ولا من أقام منكم ثبت معي ولا صبر ، فلقد رأيتني وما في عسكري منكم خمسون رجلاً ،
--------------------------- 96 ---------------------------
فلما رأيت ما أنتم عليه دخلتُ عليكم ، فما قُدِّرَ لكم أن تخرجوا معي إلى يومكم هذا !
لله أبوكم ألا ترون إلى مصر قد افتتحت ، وإلى أطرافكم قد انتقصت ، وإلى مسالحكم تُرقى ، وإلى بلادكم تُغزى ، وأنتم ذووا عدد جم ، وشوكة شديدة ، وأولوا بأس قد كان مخوفاً !
لله أنتم أين تذهبون ، وأنى تؤفكون ، ألا وإن القوم قد جدوا وتآسوا وتناصروا وتناصحوا ، وإنكم قد أبيتم وونيتم وتخاذلتم وتغاششتم ، ما أنتم إن بقيتم على ذلك سعداء ، فنبهوا رحمكم الله نائمكم ، وتجردوا وتحروا لحرب عدوكم ، فقد أبدت الرغوة عن الصريح ، وأضاء الصبح لذي عينين ، فانتبهوا إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ، وأهل الجفاء ومن أسلم كرهاً ، وكان لرسول الله آنفاً وللإسلام كله حرباً ! أعداء السنة والقرآن ، وأهل البدع والإحداث ، ومن كانت نكايته تتقى ، وكان على الإسلام وأهله مخوفاً ، وأكلة الرشا ، وعبيد الدنيا !
ولقد أنهيَ إليَّ أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتيَّةً ، هي أعظم مما في يديه من سلطانه ، فصفرتْ يد هذا البائع دينه بالدنيا ، وخزيتْ أمانة هذا المشتري بنصرة فاسق غادر بأموال المسلمين ، وأيُّ سهم لهذا المشتري بنصرة فاسق غادر ، وقد شرب الخمر وضرب حداً في الإسلام ، وكلكم يعرفه بالفساد في الدين .
وإن منهم من لم يدخل في الإسلام وأهله حتى رضخ له عليه رضيخة ! فهؤلاء قادة القوم ، ومن تركت لكم ذكر مساوية أكثر وأبور ! وأنتم تعرفونهم بأعيانهم وأسمائهم كانوا على الإسلام ضداً ، ولنبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حرباً ، وللشيطان حزباً ، لم يقدم إيمانهم ولم يحدث نفاقهم !
وهؤلاء الذين لو ولوا عليكم لأظهروا فيكم الفخر والتكبر ، والتسلط بالجبرية والفساد في الأرض ! وأنتم على ما كان منكم من تواكل وتخاذل خيرمنهم وأهدى سبيلاً ، منكم الفقهاء والعلماء والفهماء ، وحملة الكتاب والمتهجدون بالأسحار ، ألا تسخطون وتنقمون أن ينازعكم الولاية السفهاء البطاء عن الإسلام ، الجفاة فيه ! إسمعوا قولي يهدكم الله إذا قلت ، وأطيعوا أمري إذا أمرت ، فوالله لئن أطعتموني لا تغوون ، وإن عصيتموني لا ترشدون !
--------------------------- 97 ---------------------------
قال الله تعالى : أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ . وقال الله تعالى لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ .
فالهادي بعد النبي هادٍ لأمته على ما كان من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فمن عسى أن يكون الهادي إلا الذي دعاكم إلى الحق ، وقادكم إلى الهدى !
خذوا للحرب أهبتها ، وأعدوا لها عدتها ، فقد شبَّت وأوقدت ، وتجرد لكم الفاسقون لكيما يطفئوا نور لله بأفواههم ، ويغروا عباد الله .
ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والجفاء ، أولى بالحق من أهل البر والإحسان والإخبات في طاعة ربهم ومناصحة إمامهم !
إني والله لو لقيتهم وحدي وهم أهل الأرض ما استوحشت منهم ولا باليت ، ولكن أسفٌ يريبني وجزعٌ يعتريني من أن يلي هذه الأمة فجارها وسفهاؤها ، فيتخذون مال الله دولاً ، وكتاب الله دغلاً ، والفاسقين حزباً ، والصالحين حرباً !
وأيم الله لولا ذلك ما أكثرت تأنيبكم وتحريضكم ، ولتركتكم إذ أبيتم حتى حمَّ لي لقاؤهم ، فوالله إني لعلى الحق ، وإني للشهادة لمحب ، وإني إلى لقاء الله ربي لمشتاق ولحسن ثوابه لمنتظر ، إني نافرٌ بكم فانفروا خفافاً وثقالاً ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ، ولا تثاقلوا في الأرض فتغموا بالذل ، وتقروا بالخسف ، ويكون نصيبكم الأخسر !
إن أخا الحرب اليقظان الأرق ، إن نام لم تنم عينه ، ومن ضعف أوذي ، ومن كره الجهاد في سبيل الله كان المغبون المهين . إني لكم اليوم على ما كنت عليه أمس ، ولستم لي على ما كنتم عليه ، من تكونوا ناصريه أخذ بالسهم الأخيب !
والله لو نصرتم الله لنصركم وثبت أقدامكم ، إنه حقٌّ على الله أن ينصر من نصره ، ويخذل من خذله ، أترون الغلبة لمن صبر بغير نصر ، وقد يكون الصبر جبناً ، ويكون حمية ، وإنما النصر بالصبر ، والورد بالصدر ، والبرق بالمطر .
اللهم اجمعنا وإياهم على الهدى ، وزهدنا وإياهم في الدنيا ، واجعل الآخرة خيراً لنا
من الأولى ) . ( رواه الطبري ابن رستم في المسترشد / 77 ، ونهج السعادة للمحمودي : 5 / 194 ،
--------------------------- 98 ---------------------------
وذكر من مصادره في : 5 / 258 : كشف المحجة للسيد ابن طاووس / 173 ، والبحار : 8 / 184 . الإمامة والسياسة / 154 ، ط . مصر . والثقفي في الغارات ، كما في بحار الأنوار ( 8 / 615 ، وأشار إلىه البلاذري في أنساب الأشراف / 400 ) .
11 . من خطبة له ( عليه السلام ) يصف خلط الولاة قبله الحق بالباطل
روى في الكافي ( 8 / 58 ) بسند صحيح : ( خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان : اتباع الهوى وطول الأمل . أما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة . ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ، ولكل واحدة بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غداً حساب ولا عمل .
وإنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم الله يتولى فيها رجال رجالاً . ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلاف ، ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجللان معاً ، فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى .
إني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة فإذا غيرمنها شئ قيل : قد غيرت السنة ، وقد أتى الناس منكراً !
ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب ، وكما تدق الرحا بثفالها ، ويتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .
ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال :
قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده مغيرين لسنته ولوحملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي
--------------------------- 99 ---------------------------
الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ( عليه السلام ) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ( عليها السلام ) ، ورددت صاع رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأقوام لم تُمض لهم ولم تُنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد ، ورددت قضايا من الجور قضي بها ، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأرحام ، وسبيت ذراري بني تغلب ، ورددت ما قسم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعطي بالسوية ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء ، وألقيت المساحة ، وسويت بين المناكح ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه ، ورددت مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه ، وحرمت المسح على الخفين ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأخرجت من أدخل مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مسجده ممن كان رسول الله أخرجه ، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ممن كان رسول الله أدخله ، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم ، ورددت سبايا فارس وسائرالأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إذاً لتفرقوا عني !
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة ، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر ، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً ! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ! ما لقيتُ من هذه الأمة من الفرقة ،
--------------------------- 100 ---------------------------
وطاعة أئمة الضلالة ، والدعاة إلى النار ! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ، فنحن والله عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال تعالى : فَللَّهِ وَللَّرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، فينا خاصة ، كَىْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ ، في ظلم آل محمد ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، لمن ظلمهم . رحمةً منه لنا ، وغنى أغنانا الله به ، ووصى به نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً ، أكرم الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس ، فكذبوا الله وكذبوا رسوله ، وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ، ومنعونا فرضاً فرضه الله لنا ! ما لقي أهل بيت نبي من أمته ! ما لقينا بعد نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! والله المستعان على من ظلمنا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) .
ملاحظة
يدل كلامه ( عليه السلام ) على أن يرى لزوم إبقاء مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما هو ، وإن شاء المسلمون فليبنوا مسجداً ومساجد أكبر منه ، لكن لايمسوه . وكذلك الأمر في المعالم الأخرى .
12 . احتجاجه ( عليه السلام ) على المفتخرين عليه
ومن احتجاجه ( عليه السلام ) في جمع أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما رواه الواحدي عن أبي هريرة : ( اجتمع عدة من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، والفضل بن عباس ، وعمار ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان ، وعبد الله بن مسعود ، فجلسوا وأخذوا في مناقبهم فدخل عليهم علي ( عليه السلام ) فسألهم : فيمَ أنتم ؟ قالوا : نتذاكر مناقبنا مما سمعنا من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال علي : إسمعوا مني ، ثم أنشأ يقول :
لقد علم الأناس بأن سهمي * من الإسلام يفضل كل سهم
وأحمد النبي أخي وصهري * عليه الله صلى وابن عمي
وإني قائد للناس طراً * إلى الإسلام من عرب وعجم
--------------------------- 101 ---------------------------
وقاتل كل صنديد رئيس * وجبار من الكفار ضخم
وفي القرآن ألزمهم ولائي * وأوجب طاعتي فرضاً بعزم
كما هارون من موسى أخوه * كذاك أنا أخوه وذاك اسمي
لذاك أقامني لهمُ إماماً * وأخبرهم به بغدير خم
فمن منكم يعادلني بسهمي * وإسلامي وسابقتي ورحمي
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ * لمن يلقى الإله غداً بظلمي
وويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ * لجاحد طاعتي ومريد هضمي
وويلٌ للذي يشقى سفاهاً * يريد عداوتي من غير جرمي
( ينابيع المودة للقندوزي الحنفي : 1 / 213 ) .
وروى في الإحتجاج ( 1 / 266 ) عن أبي عبيدة ، قال : ( كتب معاوية إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام )
إن لي فضائل كثيرة ، كان أبي سيداً في الجاهلية ، وصرت ملكاً في الإسلام ، وأنا صهر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وخال المؤمنين ، وكاتب الوحي . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أبالفضائل يبغي عليَّ ابن آكلة الأكباد ؟ أكتب إليه يا غلام :
محمد النبي أخي وصنوي * وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحى * يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي * مسوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها * فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طراً * غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وصليت الصلاة وكنت طفلاً * مقراً بالنبي في بطن أمي
وأوجب لي ولايته عليكم * رسول الله يوم غدير خم
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الإله غداً بظلمي
أنا الرجل الذي لا تنكروه * ليوم كريهة أو يوم سلم
فقال معاوية : أخفوا هذا الكتاب ، لايقرؤه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب ) .
ورواه في تاريخ دمشق ( 42 / 520 ) : وقال في هامشه : ( الخبر والشعر في البداية والنهاية : 8 / 9 . . الأبيات في ديوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه طبعة بيروت / 188 ، ومعجم الأدباء : 14 / 48 .
--------------------------- 102 ---------------------------
ورواها ابن حجر في الصواعق المحرقة : 2 / 386 ، ورواه في سمط النجوم العوالي : 3 / 78 والوافي بالوفيات : 21 / 184 ، ومعجم الأدباء : 4 : 176 ، والحماسة المغربية : 1 / 576 ) .
أقول : أصل الأبيات ثمانية ، روى ابن عساكر منها خمسة ، وكذلك فعل غيره ، لأن فيها احتجاج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ببيعة الغدير !
ورواه من مصادرنا : روضة الواعظين للفتال النيسابوري / 87 ، وشرح الأخبار : 2 / 109 ، والاحتجاج : 1 / 265 ، عن أبي عبيدة ، ومناقب آل أبي طالب : 2 / 19 ، عن المدائني ، وبحار الأنوار : 33 / 132 ، عن الإحتجاج .
وأورد لها الأميني في الغدير ( 2 / 26 ) أحد عشر مصدراً من أصحابنا ، وستاً وعشرين مصدراً من السنيين ، منهم البيهقي رواها برمتها كما نقل عنه ابن حجر في الصواعق المحرقة ، وابن الشيخ في ألف باء : 1 / 439 ، والكندي في المجتنى / 39 ، عن ابن دريد ، والحموي في معجم الأدباء : 5 / 266 ، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول / 11 ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص / 62 ، والشنقيطي كاملة في كفاية الطالب / 36 . . الخ . ) .
13 . من كلماته ( عليه السلام ) في مكانة أهل البيت ( عليهم السلام )
قال ( عليه السلام ) : ( لا يقاس بآل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من هذه الأمة أحد ، ولايُساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً . هم أساس الدين وعماد اليقين . إليهم يفئ الغالي وبهم يلحق التالي . ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ) . ( نهج البلاغة : 1 / 38 )
وقال ( عليه السلام ) : ( هم أساس الدين وعماد اليقين . هم دعائم الإسلام وولائج الإعتصام . هم أزمة الحق وأعلام الدين . هم كنوز الرحمن وفيهم كرائم القرآن . هم أركان الأرض القوامون بالقسط . هم أرسب في الدين من الجبال الرواسي . هم عيش العلم وموت الجهل . هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة . لا تعلموهم فهم أعلم منكم . أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا .
العلم في عترة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . العلم في عقبنا إلى أن تقوم الساعة . إنا أهل بيت من علم الله علمنا . عندنا أهل البيت معاقل العلم . نحن أهل البيت أعلم بما قال الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . عندنا من اسم الله الأعظم اثنان وسبعون حرفاً . إنا أهل بيت علمنا علم المنايا والبلايا . إن الله علمنا منطق الطير . لا تصيب أحداً أعلم منا أهل البيت .
--------------------------- 103 ---------------------------
إنا لأمراء الكلام . عندنا أبواب الحكم وضياء الأمر . ليس منا أحد إلا وهو عالم بجميع أهل ولايته . ( فهرس الدليل على موضوعات نهج البلاغة ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( نحن أهل بيت الرحمة . نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة . نحن معدن الكرامة . نحن أهل البيت اختارنا الله واصطفانا . نحن شهداء الله والرسول شهيد علينا . نحن أنوار السماء وأنوار الأرض . نحن أمان لأهل الأرض . نحن النجباء وأفراطنا أفراط الأنبياء . نحن باب حطة وهو باب الإسلام . نحن ولاة ليلة القدر . نحن النمرقة الوسطى .
وقال ( عليه السلام ) : إنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا . بنا اهتديتم في الظلماء . بنا هداكم الله من الضلالة . بنا تسنمتم الشرفاء . بنا عُبد الله في أرضه . بنا يفتح الله وبنا يختم . مثل آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كمثل نجوم السماء . مثلنا في هذه الأمة كمثل سفينة نوح . ما برأ الله من برية أفضل من محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومني ومن أهل بيتي . شجرة النبي خير شجرة . عترة النبي خير العتر . أنا أحق قريش بالإمامة . لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي . الله الله لا تنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري . ما علمت أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ترك يوم غدير خم لأحد حجة . احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة . أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة .
أكنت أدَعُ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مسجى لا أواريه وأخرج أنازع في سلطانه . أرادوا أن يحرقوا عليَّ بيتي . لو وجدت أربعين رجلاً لما كففت يدي . لو كان لي بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حمزة وجعفر لم أبايع كرهاً . لم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط . يا علي إن وجدت فئة تقاتل بهم فاطلب حقك ، وإن لم تجد أعواناً فبايعهم واحقن دمك . أطعت مخافة أن يرجع الناس كفاراً . لولامخافة الفرقة بين المسلمين لكنا على غير ما كنا . فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول . رأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين . أمسكت يدي ورأيت أني أحق بمقام محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الناس . فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام . خشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً
--------------------------- 104 ---------------------------
وهدماً . صبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى . كظمت غيظي وانتظرت أمر ربي . والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين . اللهم إني أستعديك على قريش .
ما تركت بدرٌ لنا مَذيقا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا .
ومن كلام له ( عليه السلام ) : بنا اهتديتم في الظلماء ، وتسنمتم العلياء ، وبنا إنفجرتم عن السرار . لقد قبض الله نبيه ولأنا أولى الناس به مني بقميصي هذا . وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم . لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة . لم يوجس موسى ( عليه السلام ) خيفة على نفسه ، أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال . ( فهرس موضوعات نهج البلاغة ) .
14 . احتجاج ابن عباس على عمر
في تاريخ الطبري ( 3 / 288 ) عن ابن عباس ، وفي شرح النهج ( 6 / 50 ) عن عبد الله بن عمر ، ولفظهما متقارب ، قال : « كنت عند أبي يوماً وعنده نفر من الناس ، فجرى ذكر الشعر فقال : من أشعر العرب ؟ فقالوا فلان وفلان ، فطلع عبد الله بن عباس فسلم وجلس ، فقال عمر : قد جاءكم الخبير ، من أشعر الناس يا عبد الله ؟ قال : زهير بن أبي سلمى . قال : فأنشدني مما تستجيده له . فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه مدح قوماً من غطفان يقال لهم بنو سنان ، فقال :
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم * قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم * طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا ، جن إذا فزعوا * مرزؤون بها ليلاً إذا جهدوا
محسدون على ما كان من نعم * لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
فقال عمر : والله لقد أحسن ، وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت هاشم لقرابتهم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال ابن عباس : وفقك الله يا أمير المؤمنين ، فلم تزل موفقاً . فقال : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين . قال : لكني أدري ! قال : ما هو يا أمير المؤمنين ؟
--------------------------- 105 ---------------------------
قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجخفوا جخفاً ( تتكبروا تكبراً ) فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت !
فقال ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع ؟ قال : قل ما تشاء . قال : أما قول أمير المؤمنين : إن قريشاً كرهت ، فإن الله تعالى قال لقوم : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ! وأما قولك : إنا كنا نجخف ، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله
الذي قال الله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم ، وقال له : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . وأما قولك : فإن قريشاً اختارت ، فإن الله تعالى يقول : وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت قريش ! فقال عمر : على رسلك يا ابن عباس ، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول ، وحقداً عليها لا يحول !
فقال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين ، لا تنسب هاشماً إلى الغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكاه ، وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا . وأما قولك حقداً ، فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، ويراه في يد غيره !
فقال عمر : أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي ! قال : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ أخبرني به فإن يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقاً فإن منزلتي لا تزول به ! قال : بلغني أنك لا تزال تقول : أخذ هذا الأمر منكم حسداً وظلماً ! قال : أما قولك يا أمير المؤمنين : حسداً ، فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة ، فنحن بنو آدم المحسود ! وأما قولك : ظلماً ، فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو ! ثم قال : يا أمير المؤمنين ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله ، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ! فنحن أحق برسول الله من سائر قريش فقال
--------------------------- 106 ---------------------------
له عمر : قم الآن فارجع إلى منزلك !
فقام ، فلما ولى هتف به عمر : أيها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك ! فالتفت ابن عباس فقال : إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقاً برسول الله ، فمن حفظه فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع ثم مضى ! فقال عمر لجلسائه : واهاً لابن عباس ما رأيته لاحى أحداً قط إلا خصمه » !
- *
أقول : إن احتجاجات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على القوم ، واسعةٌ متتابعة ، كاملةٌ شاملة . .
وما ذكرناه بعضها ، وقد أوردنا عدداً منها في فصول سيرته مع أبيبكر وعمر وعثمان . - *
--------------------------- 107 ---------------------------
الفصل الخامس والثلاثون: كان أبو بكر وعمر صَدَيقين لدودين !
كانا عدوَّىن يعملان لهدف مشترك !
« لما مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشاع بين الناس موته ، طاف عمر على الناس قائلاً : إنه لم يمت ولكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه ! وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات ! فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه مما يتوعد ويقول ! فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعده ، حتى جاء أبو بكر فقال : أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت » ! ( سنن الدارمي : 1 / 39178 ) .
وفي رواية : لا يموت حتى يقتل المنافقين . وفي رواية : حتى يظهر دينه على الدين كله . وفي رواية : حتى يملك المشرق والمغرب ! ( أحمد : 6 / 220 ، وابن أبي شيبة : 8 / 565 ) وغيرها .
وسبب فعل عمر هذا أنه خاف أن يبادر بنو هاشم إلى بيعة علي ( عليه السلام ) ، فأراد كسب الوقت حتى يحضرأبوبكر ! فلما عرف أن علياً ( عليه السلام ) لا يقبل البيعة ، وأن أبا بكر جاء وقال إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات ، قَبِلَ عمر قوله وسكت !
وبقي الخوف من الأنصار أن يبادروا إلى بيعة سعد بن عبادة وكان مريضاً في سقيفته ، فسارعا راكضين ليصفقا على يد أبيبكر في بيت سعد ، بمساعدة الأوس خصوم سعد ، وجمهور الطلقاء !
ففي سنن البيهقي ( 8 / 145 ) : « فقال أبو بكر : دونكم صاحبكم ، لبني عم رسول الله ، يعني في غسله وما يكون من أمره ، ثم خرج » !
وفي سيرة ابن كثير ( 4 / 491 ) : « فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان ! حتى أتوهم » .
ونلاحظ أن أبا بكر وعمر جاءا من معسكر أسامة بدون إجازة ، وأن عمر كان يصرخ إن
--------------------------- 108 ---------------------------
النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يمت فلا تقوموا بأي عمل لخلافته ! ويهدد بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيرجع كما رجع موسى ( عليه السلام ) ويقتل من قال إنه مات ! حتى جاء أبو بكر فدخل وكشف عن وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعلن بأسلوب فج أنه مات ، قال : من كان يعبد هذا فإنه قد مات ، أي فاعلموا ذلك يا عباد محمد ! أما نحن فنعبد رب محمد ولا نعبده هو ! ثم غطى وجهه وقال لبني هاشم : دونكم صاحبكم ، أي خذوا جنازته فغسلوه وادفنوه !
وخرج مع عمر وذهبا راكضين إلى بيت سعد أو سقيفته . وفي الطريق كان ينتظرهم أبو عبيدة واثنان من الأوس ، فهؤلاء كل الذين حضروا في السقيفة !
وكانت الجلسة مختصرة ، بدؤوها بمناقشة حادة مع سعد المريض ، ثم صفقوا على يد أبيبكر ، وجاء الطلقاء وملؤوا السقيفة تأييداً لأبيبكر وعمر !
وفي روايتنا : « اشتدت علة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعت عائشة صهيباً فقالت : إمض إلى أبيبكروأعلمه أن محمداً في حال لاترجى ، فهلموا إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ، ومن رأيتم أن يدخل معكم ، وليكن دخولكم المدينة بالليل سراً . . .
فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلاً المدينة ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد ثقل . قال : فأفاق بعض الإفاقة فقال : لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم ! فقيل له وما هو يا رسول الله ؟ قال فقال : إن الذين كانوا في جيش أسامة قد رجع منهم نفر يخالفون أمري ! ألا إني إلى الله منهم برئ ! ويحكم نفذوا جيش أسامة ! فلم يزل يقول ذلك حتى قالها مرات كثيرة » . ( إرشاد القلوب : 2 / 237 ، والدرجات الرفيعة / 290 ) .
السقيفة ترتيبٌ قرشي عمري مقابل الترتيب الإلهي
الإسلام عِلْمٌ يدير حياة الإنسان ويوجهها إلى هدفها ، ويحتاج إلى متخصص عنده إلهامٌ إلهي ، ولذلك أعدَّ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أول العترة علياً ( عليه السلام ) ، وجعل له جلستين في كل يوم . وأعد الله عترة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهداية الأمة بهذا العلم ، وأورثهم علم الكتاب الذي هو تبيان كل شئ ، فقال : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا .
ثم أمر الصحابة والأجيال بطاعتهم لعصمتهم ، فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ . فالذين أمرالله الأمة بطاعتهم لا بد أن يكونوا علماء ربانيين
--------------------------- 109 ---------------------------
معصومين ، ومحالٌ أن يأمر بطاعة كل من تَغَلَّبَ على الأمة !
وقد أجمع المسلمون على تميُّز علي وأئمة العترة ( عليهم السلام ) في علمهم ، ورووا أن الله تعالى أقْرَأَ رسوله فلا ينسى : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى . أمره أن يعدَّ علياً ( عليه السلام ) ويقرئه فلا ينسى !
قال السيوطي في الدر المنثور ( 6 / 260 ) : ( أخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن مكحول قال : لما نزلت : وَتَعِيَها أذُنٌ وَاعِية ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : سألت ربي أن يجعلها أذن عليّ . قال مك حول : فكان عليٌّ يقول : ما سمعت من رسول الله شيئاً فنسيته !
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والواحدي ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، وابن النجاري ، عن بريدة : قال رسول الله لعلي : إن الله أمرني أن أدنيك ولاأقصيك وأن أعلمك وأن تعي ، وحق لك أن تعي ، فنزلت هذه الآية : وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ .
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي : قال رسول الله : يا علي إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعي ، فأنزلت هذه الآية : وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ، فأنت أذن واعية لعلمي ) .
وقد عرف الجميع سعة علم علي ( عليه السلام ) ، وضآلة علم من أتوا بهم من السقيفة ، ورووا أخطاءهم الفظيعة في تفسيرالقرآن وأحكام الشريعة ، كتفسير آية : وفاكهةً وأبًّا ، وآية الكلالة ، وآية الربا ، وآية التيمم ، وإرث الجدة ، وعشرات الأمثلة !
قال في فتح الباري ( 9 / 323 ) : ( عن ابن عباس ، أن عمر أُتِيَ بمجنونة قد زنت وهي حبلى ، فأراد أن يرجمها ، فقال له علي : أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يدرك ، وعن النائم حتى يستيقظ . أخرجه أبو داود ، وابن حبان من طريقه ، وأخرجه النسائي من وجهين آخرين . وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور ) !
فالذي حدث في السقيفة : أنهم أقصوا الذي عنده علم الكتاب ، وأجبروه على البيعة لجاهل . فأي ظلم أكبر من أن تسجن المتخصص بالقانون ، وتأتي بمن
يجهله ليطبقه !
--------------------------- 110 ---------------------------
الوحيدان اللذان منعا نبيهما ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكتب وصيته !
إن ما فعلوه مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعجب ظلامة في تاريخ الأنبياء والرسل جميعاً ( عليهم السلام ) ، وأسوأ تصرف من صحابتهم معهم ! فلو أن نبي الله موسى ( عليه السلام ) قال لليهود : إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً بل تحكمون العالم إلى يوم القيامة ، فتنطع يهودي وقال له : كلا ، لا نريد عهدك ، حسبنا التوراة ! فأطاعوا المتنطع ، وصاحوا : القول ما قال فلان ، وليس قولك يا موسى ! فماذا نحكم عليهم ؟ لابد أننا سنحكم عليهم بالكفر والإنقلاب على نبيهم ( عليه السلام ) !
لكنا لا نحكم بشئ على عمر ، ولا ندين شعاره الذي رفعه في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : حسبنا كتاب الله ! بل نؤيده في مصادرته حق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في رسم مستقبل أمته !
وفي مصادرته حق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كمسلم في أن يوصي بما يريد !
ومصادرة حقه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كصاحب بيت في أن يتصرف على فراش مرضه كما يريد !
ومصادرة حقه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في تفسير القرآن ، وتسمية أولي الأمر المفسرين الشرعيين !
روحي فداك يا رسول الله ، ما أعجب ظلامتك ! فعندما حان منك وداع أمتك وأردت أن تضعها في المسار الصحيح ، واجهك طلقاء قريش ، فقالوا لك بقيادة عمر : نقبل نبوتك لكن بدون سنتك وعترتك ، فنحن قبائل قريش أولى بدولتك من بني هاشم ، فالدولة لنا ، ومستقبل الأمة بيدنا ، وتفسير القرآن من حقنا ! وإن أبيت ذلك فأنت تهجر وتخرِّف ، وتريد تأسيس ملك لعترتك ، ونعلن الردة عن دينك !
قال عمر : ( لما مرض النبي قال : ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتاباً لا تضلون بعدي أبداً ! فكرهنا ذلك أشد الكراهة ! ثم قال : ادعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً ! فقال النسوة من وراء الستر : ألاتسمعون ما يقول رسول الله ! فقلت : إنكن صواحبات يوسف ، إذا مرض رسول الله عصرتنَّ أعينكن ، وإذا صح ركبتنَّ رقبته ! فقال رسول الله : دعوهنَّ فإنهنَّ خيرٌ منكم ) ! ( مجمع الزوائد : 9 / 33 ، وطبقات ابن سعد : 2 / 244 ، ومعجم الرجال والحديث : 1 / 7 ، ونقل قولهم فيه : إسناده ضعيف فيه الواقدي ،
وقد ضعفه غير واحد ، والمتن صحيح بشواهده ) .
--------------------------- 111 ---------------------------
نعم والله ، إنهن خير منهم ، خاصة أم سلمة ، قالت : ألا تسمعون ما يقول رسول الله !
ومن العجائب موقف عمر الذي وصفه الطبري ( 2 / 618 ) عند وفاة أبيبكر ، وبيده عصا يسكِّت بها الناس ويقول : إسمعوا وأطيعوا ، يريد أن يكتب لكم كتاباً ! قال : ( رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه وبيده جريدة وهو يقول : أيها الناس : إسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله ، إنه يقول : إني لم آلكم نصحاً ! قال : ومعه مولى لأبيبكر يقال له شديد ، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر ) !
أقول : هذا جزءٌ يسير من أخبار رفض قريش للعهد النبوي ، ومسارعتهم في الصفق على يد أبيبكر وإعلانه خليفة ! ثم هجومهم بالحطب والسيوف على أهل البيت النبوي لإجبارهم على البيعة ! ثم مسارعتهم في الوصية لعمر ! ( راجع انقلاب الأمة على رسولها في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 2 مسألة : 159 ) .
أول صحابيين واجها نبيهما : إنا لانطيعك !
روى في شرح النهج ( 12 / 78 ) والتحفة العسجدية / 146 ، عن ابن عباس أن عمر قال له : « يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك ، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجداً ، فيمَ تظن موجدته ؟ قلت : يا أمير المؤمنين إنك لتعلم ! قال : أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة . قلت : هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد الأمر له . فقال : يا ابن عباس ، وأراد رسول الله الأمر له ، فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك ! إن رسول الله أراد أمراً وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله ! أوَكلما أراد رسول الله كان » ؟ !
فعمر يعترف بأن الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد أن يكون الخليفة علياً ( عليه السلام ) ، وأراد أن يكتب ذلك فمنعه ، وزعم أن إرادة الرسول ( عليه السلام ) إرادة شخصية وليست ربانية ، وجعل فعله هو مقابل إرادة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعلَ الله تعالى وإرادتَه ! فهو يقول : أراد رسول الله أمراً ، وأراد الله غيره ، يعني أردتُ أنا غيره ، فوقع ما أراد الله ، أي ما أراده عمر !
--------------------------- 112 ---------------------------
ونتيجة هذا التحريف تصبح طاعة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غير واجبة ، لأن إرادة شخصية بهواه ، ومعصيته مقدسة ، لأنها إرادة الله ! ويصبح معنى قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ، أن معصيته هي إرادة الله لأن الله سمح بها تكويناً فهي جائزة شرعاً ! وهكذا قلَب عمر الأمور وجعل معنى الإرادة التكويني إرادة شرعية !
قال العلامة ( قدس سره ) في كشف اليقين / 470 : « وروى أحمد بن أبي طاهر في تاريخ بغداد بسنده عن ابن عباس ، قال : دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة ، فدعاني للأكل فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ، ثم شرب من جرٍّ كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ، ثم قال : من أين جئت يا عبد الله ؟ قلت : من المسجد . قال : كيف خلفت ابن عمك ؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر فقلت : خلفته يلعب مع أترابه . قال : لم أعن ذلك ، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت . قلت : خلفته يمتح بالغرب ( يسقي بالدلو ) على نخلات له وهو يقرأ القرآن ، فقال : يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، أبقيَ في نفسه شئ من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم . قال : أيزعم أن رسول الله جعلها له ؟ قلت : نعم وأزيدك : سألت أبي عما يدعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ [ غُلُو ] من قول لا يُثبت حجة ولا يقطع عذراً ، وقد كان يربع في أمره وقتاً ما . ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لاورب هذه البينة لا تجتمع عليه قريش أبداً ! ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ! فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم ) !
أشار بذلك إلى قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إئتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده ، فقال عمر : إن الرجل ليهجر !
وانتقضت عليه العرب : أي : نقضناها نحن عليه !
أبو بكر وعمر أسسا فصل الدين عن الدولة
وهذا طبيعي لأن مخالفتهما للنص الرسولي والترتيب الرباني للحكم بعد الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتغليبهما منطق قريش القبلي ، تعني حتماً أنهما أسسا دولة علمانية
--------------------------- 113 ---------------------------
بمنطق قبلي وبفعل بشري ، لا علاقة لها بالوحي والنص الإسلامي .
ولم يدَّع أحد منهما أن خلافته استندت إلى نص النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بل إلى العرف القبلي ! وتسميتها نظام خلافة لا معنى له إلا البعدية الزمنية ، أي نظامٌ خلف نظاماً !
وعليه ، فالحقوق التي افترضها القرشيون لخليفتهم ، لا أساس لها في الإسلام ، إلا ما ثبت لحاكم زمني نصبه متغلبون بالإجبار والإكراه !
حرموا الأمة من ضمان مستقبلها
فقد أنشأ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هذه الأمة وأطلق مدَّها الحضاري في أقصروقت وأقل كلفة ! فلم يزد عدد القتلى في كل حروبه من الطرفين على ست مئة شخص ! ووضع الله تعالى لهذه الأمة برنامجاً بإمامة عترة نبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لتبقى خير أمة ، وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يكرر أنكم إن أطعتموهم لا تضلون بعدي .
لكن عمر وأبا بكر رفضا ذلك وقالا : إذا دخلت الخلافة في بني هاشم فلن تخرج منهم أبداً ، وهذا ظلم لقريش ما بعده ظلم ! فهم يريدون رفع ظلم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والوحي عن قبائل قريش وتحقيق العدل !
ولأن هدفهم رفع الظلم عن قريش ردوا عرض نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وسخروا من وعده بأن يبقوا على الهدى ويسودوا العالم إلى يوم القيامة ! وقاد موقفهم عمر فأطاعوه وصاحوا : لا تقربوا له دواة وقرطاساً ، القول ما قاله عمر !
قال البخاري ( 1 / 36 ) : ( عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا وكثر اللغط قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع ! فخرج ابن عباس يقول : إن الرزيئة كل الرزيئة ، ما حال بين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبين كتابه ) !
وفي مسند أحمد ( 3 / 346 ) : ( دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده ، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها ) !
وسفَّهَ عمر قول النساء قربوا له دواة وقال : استفهموه ، أي سترون أنه يهجر !
--------------------------- 114 ---------------------------
فكانت قريش على خطوة من إعلان الردة ، وكان جبريل حاضراً عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأمره أن لايضغط عليهم فيكفروا ، وينهي المجلس ويطردهم ، فقال : قوموا عني !
وقال البخاري ( 4 / 31 ) إنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لهم : ( دعوني ، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ) !
أي ما أنا فيه من إيمانكم بنبوتي والقرآن ، خيرٌ مما تريدون أن تجرُّوني اليه من إحراجكم لترتدوا وتكفروا ! فالذي ( يدعونه اليه ) أن يصرعلى كتابة العهد ليعلنوا أنه يريد فرض عترته ويعلنوا الردة ! وخففها البخاري فقال ( 4 / 66 ) : ( ماله أهَجَر ، استفهموه ) ! أي لتروا صحة كلامنا ، وأنه يهجر !
وهذه ظلامةٌ للأمة ، فقد عصوا الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومنعوه من تأمين مستقبل أمته من تسلط غيرها ، ومن الضلال . بل انتزعوا قيادة الأمة منه وأعطوها إلى زعيمهم الجديد عمر ! فوضعها في مسار الغلبة القبلي بدل مسار النص النبوي !
وأسس صراعاً دموياً على السلطة ، لم تعرف أمةٌ بعد نبيها أسوأَ منه ! نشبت فيه الحروب وسقط فيه ملايين القتلى ، وخسرت الأمة والعالم فيها خسارات عظيمة !
إن مَثَل الأمة بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كسفينة قال ربانها لركابها : أعطوني عهداً بالتنفيذ لأعطيكم خريطة توصلكم إلى برَّالنجاة ، فقال له أصحابه : لا نريد خريطتك ونحن نقودها إلى بر الأمان ! فقادوها واختلفوا واقتتلوا ، فوصلوا إلى صخور شاهقة وأمواج عاتية ، هي قانون الغلبة والصراع القبلي ، إلى يومنا هذا !
عزلوا العترة النبوية ( عليهم السلام ) واضطهدوهم
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) « نهج البلاغة : 1 / 82 ، و : 2 / 27 » : « أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ، أنْ رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ! بنا يُستعطى الهدى ، ويستجلى العمى .
إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولاتصلح الولاة من غيرهم » . « والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيِّزنا ، فكانوا كما قال الأول :
--------------------------- 115 ---------------------------
أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَاا
ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ * علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا » .
وقد بدأت حساسية قريش من عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما أمره الله أن ينذرعشيرته الأقربين ، فبعثت قريش أبا سفيان فقال : ( يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لِمَنْ ؟ قال : يا صخر ، الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى ) ! « المناقب : 2 / 276 »
وبعد أن صار للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دولة وفتَح مكة ، وأجبر قريشاً على خلع سلاحها ، أخذت تعمل لأخذ خلافته من عترته ! وقد واصل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تبليغ رسالات ربه في عترته وأنهم كالقرآن أمانة الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الأمة ، وكان يؤكد : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . وحدد مصطلح أهل بيته بأنهم : عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين ( عليهم السلام ) ، وبلَّغ أمته أن الله كرَّمهم فحرَّم عليهم الزكاة ، وشرَّع لهم ميزانية خاصة هي الخمس ! وأنهم أولوا الأمرالذين فرض الله طاعتهم . وأولوا القربى ، الذين أمر الله الأمة بمودتهم . وأن علياً أولهم ، وهو الميزان ، فلا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق !
وفي حجة الوداع كان أكبر همِّه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يُركز إمامتهم ، فخطب خمس خطب في مكة وعرفات ومنى ، وبشَّر الأمة بأن الله اختار لهم اثني عشر إماماً ربانياً ، وأنهم الضمانة الوحيدة من بعده !
ثم خطب السادسة في طريق عودته إلى المدينة ، فأصعد علياً ( عليه السلام ) معه على المنبر ورفع بيده ، وبلَّغ الأمة أن الولاية التي له جعلها الله لعلي بعده !
قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( أيها الناس : ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ! فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ) .
--------------------------- 116 ---------------------------
وأمر المسلمين أن يبايعوه فبايعوه ، وأمر زوجاته فجئن إلى خيمته وبايعنه .
وفي مقابل ذلك : واصلت قريش خططها لعزل عترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخذ خلافته ، وقالت لليهود سنطيعكم في بعض الأمر ، وجعلوه سراً بينهم : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا للَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ .
وكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعرف نشاطهم ، وأخبرأن أمته طمعت في خلافته ، وأنها ستظلم أهل بيته ( عليهم السلام ) ظلامة فادحة ! ثم يضرب بعضها بعضاً بالسيف على السلطة ، وأن ظلامة أهل بيته ستطول حتى يبعث الله ولده المهدي ( عليه السلام ) فيرفع الظلم عنهم وعن العالم !
وروى الحاكم ( 4 / 464 ) عن ابن مسعود ، والطبري في دلائل الإمامة / 223 : ( أتينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخرج إلينا مستبشراً يعرف السرور في وجهه ، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به ، ولا سكتنا إلا ابتدأنا ، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين ، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه !
قلت : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : إنا أهل بيت قد اختار الله الآخرة على الدنيا وإنه سيصيب أهل بيتي قتلٌ وتطريدٌ وتشريدٌ في البلاد ، حتى يتيح الله لنا راية تجئ من المشرق من يهزها يهزّ ، ومن يشاقها يشاقّ ، ثم يخرج عليهم رجل من أهل بيتي اسمه كاسمي وخلقه كخلقي ، تؤوب إليه أمتي كما تؤوب الطير إلى أوكارها ، فيملأ الأرض عدلاً ، كما ملئت جوراً ) .
وفي تفسير فرات / 392 ، لما نزل قوله تعالى : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . خرجوا وهم يقولون : ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض ، لبني عبد المطلب !
قال : فبعث رسول الله إلى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار ، ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ، ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار ! قال : فقام رجل وقال : يا أبا الحسن ما لهنَّ من تأويل ؟ فقال : الله ورسوله أعلم . فأتى رسول الله فأخبره فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ويل لقريش من تأويلهن ، ثلاث مرات !
--------------------------- 117 ---------------------------
ثم قال : يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجيرالذي أثبت الله مودته من السماء ، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين ، وأنا وأنت أبَوَا المؤمنين ) !
وهكذا كانت الإرادة الإلهية في هذه الأمة أن يقيم الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليهم الحجة ، وأن يعطيهم الحرية في أن يهتدوا بعده ، أو يضلوا !
وقد أمعنوا في عداوة بني هاشم فأبعدوهم عن كل وظائف الدولة ولم يوظفوا منهم أي موظف طول خلافة أبيبكر وعثمان !
قال ابن عباس ( مروج الذهب : 2 / 222 ) : ( إن عمر أرسل اليه فقال : يا ابن عباس ، إن عامل حمص هلك وكان من أهل الخير ، وأهل الخير قليل ، وقد رجوت أن تكون منهم ، وفي نفسي منك شئ لم أره منك [ بعيني ] وأعياني ذلك ، فما رأيك في العمل ؟ قال : لن أعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك ، قال : وما تريد إلى ذلك ؟ قال : أريده ، فإن كان شئ أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت ، وإن كنت بريئاً من مثله علمت أني لست من أهله ، فقبلت عملك هنالك ، فإني قلما رأيتك طلبت شيئاً إلا عاجلته ، فقال : يا ابن عباس ، إني خشيت أن يأتي عليَّ الذي هو آت وأنت في عملك فتقول : هلم إلينا ، ولا هلم إليكم دون غيركم ، إني رأيت رسول الله استعمل الناس وترككم ، قال : والله قد رأيتُ من ذلك فلمَ تراه فعل ذلك ؟ قال : والله ما أدري أضن بكم عن العمل فأهل ذلك أنتم ، أم خشي أن تبايعوا بمنزلتكم منه فيقع العتاب ، ولا بد من عتاب . وقد فرغت لك من ذلك ، فما رأيك ؟ قال قلت : أرى أن لا أعمل لك ، قال : ولمَ ؟ قلت : إن عملت لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينك ، قال : فأشر عليَّ ، قلت : إني أرى أن تستعمل صحيحاً منك ، صحيحاً لك ) !
يريد أن يتأكد من أن عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى بعدموته لن يكون لهم دور في الحكم !
--------------------------- 118 ---------------------------
وأخرج عمر ضبه ونسف شرعية أبيبكر !
ورد في الإحتجاج ( 1 / 104 ) في حديث احتجاج اثني عشر صحابياً على أبيبكر وعمر : ( قال الصادق ( عليه السلام ) : فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يَحِرْ جواباً ، ثم قال : وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني ، فقال له عمر بن الخطاب : إنزل عنها يا لكع ! إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لمَ أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممتُ أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة !
قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل ، فقال لهم : ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم ؟ وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل ، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل ، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل ، فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال عمر : والله يا أصحاب علي ! لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس ، لنأخذن الذي فيه عيناه ) !
أقول : لاتعجب من توبيخ عمر لأبيبكر ، فقد نصبه قبله لأنه شيبة قرشية ، فهو كالمحلل ليصل به إلى الخلافة ، وكان أبو بكر يعترف بذلك !
ففي فقه السنة لسيد سابق ( 1 / 290 ) : ( جاء عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، وعباس بن مرداس ، وطلبوا من أبيبكر نصبهم فكتب لهم به ، وجاءوا إلى عمر وأعطوه الخط فأبى ومزقه . . فرجعوا إلى أبيبكرفقالوا : الخليفة أنت أم عمر ؟ بذلت لنا الخط فمزقه عمر ، فقال : هو ، إن شاء ) !
ومن عجائب عمر أنه يتكلم عن قريش ويقول إن الخلافة حق لها دون غيرها ، ثم يقول لأبيبكر : والله لقد هممتُ أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة ! وسالم فارسي ، عبدُ أبي حذيفة بن عتبة الأموي ، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو التي اخترعت رضاع الكبير من أجل سالم ، وزعمت أنها قالت للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن بىتهم غرفه واحدة وإن
--------------------------- 119 ---------------------------
سالماً يدخل عليَّ وهو كبير له لحية ، فقال أرضعيه ليكون ابنك من الرضاعة ، ويزول ما في نفس زوجك أبي حذيفة من دخوله عليك ! ( الطبراني : 7 / 121 ) .
فعمر يعطي الخلافة القرشية لغلام فارسي ! لأن قريشاً عنده هي عمر ، ومعنى تختار لنفسها : يختار لها عمر ، حتى لو اختار فارسياً أو هندياً ، أو مشلولاً أعمى !
قال الشريف المرتضى في الشافي ( 4 / 126 ) : « روى الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمداني ، عن سعيد بن جبير قال : ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر فقال رجل : كانا والله شمسي هذه الأمة ونوريها ، فقال له ابن عمر : وما يدريك ؟ فقال له الرجل : أوليس قد إئتلفا ؟ فقال ابن عمر : بل اختلفا لو كنتم تعلمون ، وأشهد أني عند أبي يوماً وقد أمرني أن أحبس الناس عنه ، فاستأذن عبد الرحمن بن أبيبكر ، فقال عمر : دويبة سوء ولهو خير من أبيه ! فأوحشني ذلك منه ، فقلت : يا أبه عبد الرحمن خير من أبيه ! فقال : ومن ليس خيراً من أبيه لا أم لك ! إئذن لعبد الرحمن ، فدخل عليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه ، وكان عمر قد حبسه في شعر قاله ، فقال عمر : إن الحطيئة لبذي ، فدعني أقوِّمه بطول الحبس ، فألح عليه عبد الرحمن وأبى عمر !
وخرج عبد الرحمن فأقبل عليَّ أبي وقال : أفي غفلة أنت إلى يومك هذا على ما كان من تقدم أحيمق بني تيم عليَّ وظلمه لي ؟
فقلت : يا أبه لا علم لي بما كان من ذلك !
فقال : يا بني وما عسيت أن تعلم ! فقلت : والله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم ! قال : إن ذلك لكذلك على رغم أبيك وسخطه !
فقلت : يا أبه أفلا تحكي عن فعله بموقف في الناس تبين ذلك لهم ، قال : وكيف لي بذلك مع ما ذكرت أنه أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم ، إذن يرضخ رأس أبيك بالجندل !
قال ابن عمر : ثم تجاسر والله فجسر ، فما دارت الجمعة حتى قام خطيباً في الناس فقال : يا أيها الناس إن بيعة أبيبكر كانت فلتة وقى الله شرها ، فمن دعاكم
--------------------------- 120 ---------------------------
إلى مثلها فاقتلوه ) !
وقد صرح عمر بعدم شرعية بيعة أبيبكر لأنها بدون مشورة ، وأفتى بأن من دعا إلى مثلها فهو خائن ، يجب على المسلمين قتله !
روى البخاري ( 8 / 25 ) عن عبد الرحمن بن عوف قال : ( رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك في فلان ( الزبير ) يقول : لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً ( علياً ) فوالله ما كانت بيعة أبيبكر إلا فلتة فتمت !
فغضب عمر ثم قال : إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس ، فمحذرهم هؤلاء الذي يريدون أن يغصبوهم أمورهم !
قال عبد الرحمن : فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير ، وأن لايعوها وأن لايضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة ، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً ، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها . فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة .
قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر ، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف ! فأنكر عليَّ وقال : ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله ؟ فجلس عمر على المنبر ، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فاني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي : ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم ( الزبير ) يقول والله لو مات عمر بايعت فلاناً ( علياً ) فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبيبكر فلتة وتمت . ألا وإنها قد كانت كذلك
--------------------------- 121 ---------------------------
ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبيبكر . من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تَغِرَّةَ أن يقتلا .
وإنه قد كان من خبرنا حين توفي الله نبيه أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبيبكر فقلت لأبيبكر : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقيَنا رجلان منهم صالحان فذكرا ماتمالأ عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : لاعليكم أن لا تقربوهم ، إقضوا أمركم . فقلت والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم ، فقلت من هذا ؟ قالوا هذا سعد بن عبادة ، فقلت : ماله ؟ قالوا : يوعك ، فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله كما هو أهله ثم قال : أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دَفَّتْ دافةٌ من قومكم ( الطلقاء ) فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، وأن يغصبونا الأمر .
فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبيبكر ، وكنت أداري منه بعض الحدة ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل ، حتى سكت ، فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولم يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لايقربني ذلك من إثم ، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن . فقال قائل الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش .
--------------------------- 122 ---------------------------
فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار . ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ! فقلت : قتل الله سعد بن عبادة ! قال عمر : وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبيبكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد . فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يُتًابع ، هو ولا الذي بايعه ، تَغِرَّةَ أن يقتلا ) !
ملاحظات على حديث الفلتة
1 . قالوا إن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وهي بيت سعد ، والصحيح أنه لم يكن أي اجتماع للأنصار ولا دعوة لاجتماع ، ولم يكن في السقيفة إلا سعد مريضاً وحوله أهل بيته . فقرر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة أن يذهبوا إلى بيته ويصفقوا على يد أبيبكر هناك ، ويؤيد ذلك الطلقاء .
وقد رووا أن أبا بكر لما كشف عن وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال إنه مات : ( ثم قام فقال : عندكم صاحبكم ، أي خذوه فغسلوه ، ثم خرج ) . ( مجمع الزوائد : 5 / 182 ) .
وفي سيرة ابن كثير ( 4 / 491 ) : ( فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان حتى أتوهم ) .
أي ذهبا إلى السقيفة يتراكضان ، وهي بيت سعد ، وقد اختاروا بيته للصفق على يد أبيبكر لأنه كان قال : إذا لم تعط قريش الخلافة لأهل بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فنحن أولى بها ، ودعا إلى نفسه ، فتخوف الأوس أن يكون الخليفة خزرجياً ، فتعاونوا مع أبيبكر وعمر ، وصفقوا على يد أبيبكر هناك ، رغم رفض سعد ، فكان لهم ما أرادوا .
2 . قوله : من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين ، فلايبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةَ أن يقتلا : أي لايغترا فيقتلا ، وهو من التغرير ، فهو يحكم بوجوب قتل من يبايع بدون مشورة ، وقد بايع هو بدون مشورة !
3 . قوله : وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون
--------------------------- 123 ---------------------------
أن يختزلونا من أصلنا وأن يغصبونا الأمر : يبدو أنه كلام سعد ، والدافة : البدو الذين يأتون يدفون دفيفاً ، أي دخل إلى المدينة بدوٌ مسلحون من قومكم ، يريدون غصب الخلافة ، وهم جمهور الطلقاء .
قوله : جُذيلها المحكك وعُذيقها المرجب ، أي أنا العمود المجرب التي تحك به الإبل نفسها ، وأنا عذق النخل المسند بسند .
قوله : قتلتم سعد بن عبادة ! فقلت : قتل الله سعد بن عبادة ! بل قال : أقتلوا سعداً فإنه صاحب فتنة ، فهددهم ابنه قيس فسكتوا .
وكان في صدر عمر ضبٌّ على أبيبكر !
قال الشريف المرتضى في تلخيص الشافي ( 3 / 161 ) : ( روى الهيثم بن عدي ، عن مجاهد بن سعيد قال : غدوت يوماً إلى الشعبي وأنا أريد أن أسأله عن شئ بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقوله : فأتيته في مسجد حيه ، وفي المسجد قوم ينتظرونه ، فخرج فتعرف إليه القوم . فقلت للشعبي : أصلحك الله كان ابن مسعود يقول : ما كنت محدثاً قوماً حديثاً لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ، قال : نعم ، قد كان ابن مسعود يقول ذلك . وكان ابن عباس يقوله أيضاً ، فكان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها ، ويصرفها عن غيرهم ، فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا ، فأخذنا في ذكر أبيبكر وعمر ، فضحك الشعبي وقال : لقد كان في صدر عمر ضبٌّ ( أي حقدٌ ) على أبيبكر ! فقال الأزدي : والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قط كان أسلس قياداً لرجل ، ولا أقول فيه بالجميل من عمر في أبيبكر . فأقبل عليَّ الشعبي فقال : هذا مما سألت عنه . ثم أقبل على الرجل ، فقال : يا أخا الأزد كيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرها ؟ أترى عدواً يقول في عدوه يريد أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبيبكر ؟
فقال الرجل : سبحان الله يأبى عمر ، وأنت تقول ذلك ! فقال الشعبي : أنا أقوله ! قاله عمر بن الخطاب على رؤوس الأشهاد فلُمْهُ أو دعه ، فنهض الرجل مغضباً وهو يهمهم في الكلام بشئ لم نفهمه . قال مجاهد : فقلت للشعبي : ما أحسب هذا
--------------------------- 124 ---------------------------
الرجل إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس ويبثه فيهم . قال : إذن والله لا أحفل بذلك شيئاً لم يحفل به ابن الخطاب ، حين قام على رؤوس المهاجرين والأنصار ، أحفل به ! وأنتم أيضاً فأذيعوه عني ما بدا لكم ) .
ثم روى صاحب الشافي ( 3 / 162 ) عن أبي موسى الأشعري أن عمر وصف أبا بكر : ( كان والله أحسد قريش كلها ، ثم أطرق طويلاً ، ثم قال : والهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة ، أحسدُ قريش كلها ، لقد تقدمني ظالماً ، وخرج إليَّ منها آثماً ) !
كما كان في صدر أبيبكر ضبٌّ على عمر !
روى الطبري ( 2 / 462 ) أن عمر قال لأبيبكر : ( فإن الأنصار أمروني أن أبلغك ، وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة . فوثب أبو بكر وكان جالساً ، فأخذ بلحية عمر ، فقال له : ثكلتك أمُّكَ وعُدِمَتْكَ يا ابن الخطاب ! استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه » !
وقال مسدد في مسنده : « استشار علياً في أهل الردة فقال : إن الله جمع الصلاة والزكاة ، ولا أرى أن تفرق ، فعند ذلك قال أبو بكر : لو منعوني عقالاً لقاتلتهم عليه » . ( كنز العمال : 6 / 531 ) .
وفي الرياض النضرة ( 1 / 105 ) : ( ارتدت العرب وقالوا لا نؤدي زكاة ، فقال : لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه . فقلت : يا خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تألف الناس وارفق بهم ، فقال : أجَبَّارٌ في الجاهلية وخَوَّارٌ في الإسلام ) !
ونحوه في الدر المنثور ( 3 / 241 ) وحذف منه البخاري ذم أبيبكر لعمر ورواه ( 8 / 140 ) .
- *
--------------------------- 125 ---------------------------
الفصل السادس والثلاثون: نماذج من رجوع أبيبكر وعمر إلي علي ( عليه السلام )
1 . أعلم أمتنا بالكتاب والسنة
روى في ( الكافي ( 1 / 529 ) والخصال / 476 ) : ( قال أبو الطفيل : شهدت جنازة أبيبكر يوم مات ، وشهدت عمرحين بويع وعلي ( عليه السلام ) جالس ناحية ، فأقبل غلام يهودي جميل بهي ، عليه ثياب حسان ، وهو من ولد هارون ، حتى قام على رأس عمر فقال : يا أمير المؤمنين أنت أعلم هذه الأمة بكتابهم وأمر نبيهم ؟ قال : فطأطأ عمر رأسه ، فقال : إياك أعني وأعاد عليه القول ، فقال له عمر : لم ذاك ؟ قال : إنّي جئتك مرتاداً لنفسي شاكّاً في ديني ، إني رجل من اليهود وأنا علاّمتهم ، وقد أردت أن أسألك عن مسائل إن أجبتني فيها أسلمت . قال : ما هي ؟ قال : ثلاث وثلاث وواحدة ، فإن شئت سألتك وإن كان في القوم أحد أعلم منك فأرشدني إليه . قال : عليك بذلك الشاب . قال : ومن هذا الشاب ؟ قال : هذا عليّ بن أبي طالب ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهذا أبو الحسن والحسين ابني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهذا زوج فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فأقبل اليهودي على علي ( عليه السلام ) فقال : أكذاك أنت ؟ قال : نعم ، قال : إنّي اُريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة . قال فتبسم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من غير تبسم وقال : يا هاروني ما منعك أن تقول سبعاً ؟ قال : أسألك عن ثلاث فإن أجبتني سألت عما بعدهن ، وإن لم تعلمهن علمت أنه ليس فيكم عالم . قال علي ( عليه السلام ) : فإنّي أسألك بالإله الذي تعبده لئن أنا أجبتك في كل ما تريد لتدعنَّ دينك ولتدخلنَّ في ديني ؟ قال : ما جئت إلاّ لذاك . قال : فسل . قال :
--------------------------- 126 ---------------------------
أسألك عن أول حجر وضع على وجه الأرض ، وأول عين نبعت وأوّل شجرة نبتت ؟ قال ( عليه السلام ) : يا يهودي ، أنتم تقولون : أول حجر وضع على وجه الأرض في بيت المقدس وكذبتم ، هو الحجر الذي نزل به آدم من الجنة قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى ! قال ( عليه السلام ) : وأنتم تقولون : إن أوّل عين نبعت على وجه الأرض العين التي ببيت المقدس وكذبتم ، هي عين الحياة التي غسل فيها يوشع بن نون السمكة ، وهي العين التي شرب منها الخضر ، وليس يشرب منها أحد إلاّ حيي . قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى ! قال ( عليه السلام ) : وأنتم تقولون : أول شجرة نبتت على وجه الأرض الزيتون وكذبتم ، هي العجوة التي نزل بها آدم ( عليه السلام ) من الجنة معه » . قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى !
فقال له : أخبرني عن الثلاث الأخر : أخبرني عن محمد كم له من إمام عدل ؟ وفي أي جنة يكون ؟ ومن ساكن معه في جنته ؟ فقال ( عليه السلام ) : يا هاروني إن لمحمد اثني عشر إمام عدل ، لا يضرهم خذلان من خذلهم ، ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم ، وإنهم في الدين أرسب من الجبال الرواسي في الأرض ، ومسكن محمد في جنته معه أولئك الاثني عشر الإمام العدل ، فقال : صدقت والله الذي لا اله إلا هو إني لأجدها في كتب أبي هارون ، كتبه بيده وإملاء موسى عمّي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال : فأخبرني عن الواحدة ، أخبرني عن وصي محمد كم يعيش من بعده ؟ وهل يموت أو يقتل ؟ قال ( عليه السلام ) : يا هاروني يعيش بعده ثلاثين سنة ، لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً ، ثم يضرب ضربة ههنا يعني على قرنه فتخضب هذه من هذا . قال : فصاح الهاروني وقطع كستيجه ، وهو يقول : أشهد أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأنك وصيّه ، ينبغي أن تفوق ولا تفاق ، وأن تعظم ولا تستضعف . قال : ثم مضى به علي ( عليه السلام ) إلى منزله
فعلّمه معالم الدين ) .
--------------------------- 127 ---------------------------
2 . صف لنا ابن عمك ؟
في الرياض النضرة ( 3 / 162 ) : ( عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى أبيبكر فقالوا : صف لنا صاحبك فقال : معشر اليهود لقد كنت معه في الغار كإصبعي هاتين ، ولقد صعدت معه جبل حراء وإن خنصري لفي خنصره ، ولكن الحديث عنه شديد ، وهذا علي بن أبي طالب . فأتوا علياً فقالوا : يا أبا الحسن صف لنا ابن عمك فقال : لم يكن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالطويل الذاهب طولاً ، ولا بالقصير المتردد ، كان فوق الربعة ، أبيض اللون مشرباً حمرة ، جعد الشعر ليس بالقطط ، يضرب شعره إلى أرنبته ، صلت الجبين ، أدعج العينين ، دقيق المسربة ، براق الثنايا ، أقنى الأنف ، كأن عنقه إبريق فضة ، له شعرات من لبته إلى سرته كأنهن قضيب مسك أسود ، ليس في جسده ولا في صدره شعرات غيرهن ، وكان شثن الكف والقدم ، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر ، وإذا التفت التفت بمجامع بدنه ، وإذا قام غمر الناس ، وإذا قعد علا الناس ، وإذا تكلم أنصت الناس ، وإذا خطب أبكى الناس ، وكان أرحم الناس بالناس ، لليتيم كالأب الرحيم ، وللأرملة كالكريم الكريم ، أشجع الناس وأبذلهم كفاً ، وأصبحهم وجهاً ، لباسه العباء ، وطعامه خبز الشعير ، وإدامه اللبن ووساده الأدم ، محشو بليف النخل ، سريره أم غيلان مرمل بالشريف ، كان له عمامتان إحداهما تدعى السحاب والأخرى العقاب ، وكان سيفه ذا الفقار ، ورايته الغراء ، وناقته العضباء ، وبغلته دلدل ، وحماره يعفور ، وفرسه مرتجز ، وشاته بركة ، وقضيبة الممشوق ، ولواؤه الحمد ، وكان يعقل البعير ، ويعلف الناضح ، ويرقع الثوب ، ويخصف النعل ) .
3 . أقل الحمل ستة أشهر
روى المفيد في الإرشاد ( 1 / 206 ) : ( أن عمر أُتِيَ بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهمَّ برجمها ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك ، إن الله عز اسمه يقول : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًاً . ويقول تعالى : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
--------------------------- 128 ---------------------------
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ، فإذا تممت المرأة الرضاعة سنتين ، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً ، كان الحمل منها ستة أشهر . فخلّى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك ، يعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إلى يومنا هذا ) .
4 . رفع القلم عن ثلاثة
قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 203 ) وأبو داود ( 4 / 140 ) : ( إن مجنونة على عهد عمر فجر بها رجل ، فقامت البينة عليها بذلك فأمر عمر بجلدها الحد ، فمُرَّ بها على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لتُجلد ، فقال : ما بال مجنونة آل فلان تُعْتَل ؟ فقيل له : إن رجلاً فجربها وهرب وقامت البينة عليها ، فأمر عمر بجلدها ، فقال لهم : ردوها إليه وقولوا له : أما علمتَ أن هذه مجنونة آل فلان ! وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق ، إنها مغلوبة على عقلها ونفسها . فردت إلى عمر وقيل له ما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقال : فرج الله عنه لقد كدت أن أهلك في جلدها ،
ودرأ عنها الحدّ ) .
5 . أي سبيل لك على ما في بطنها ؟
قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 203 ) : ( إن عمر أُتي بحامل قد زنت فأمر برجمها ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هب لك سبيل عليها ، أي سبيل لك على ما في بطنها ؟ والله تعالى يقول : ولا تزر وازرة وزر اُخرى . فقال عمر : لاعشتُ لمعضلة لا يكون لها أبو حسن . ثمّ قال : فما أصنع بها ؟ قال ( عليه السلام ) : إِحتط عليها حتى تلد ، فإذا ولدت ووجدتَ لولدها من يكفله فأقم الحد عليها . فسرّي بذلك عن عمر وعول في الحكم به على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ) .
6 . لا قيمة للاعتراف في جو الخوف
في مناقب الخوارزمي / 88 : ( اُتي بامرأة حامل ، فسألها عمر فاعترفت بالفجور ، فأمر بها عمر أن ترجم ، فلقيها علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال : ما بال هذه ؟ فقالوا : أمر بها أمير المؤمنين أن ترجم ، فردها علي ( عليه السلام ) ، فقال : أمرت بها أن ترجم ؟ فقال : نعم اعترفت
--------------------------- 129 ---------------------------
عندي بالفجور . فقال ( عليه السلام ) : هذا سلطانك عليها ، فما سلطانك على ما في بطنها ؟ وقال علي ( عليه السلام ) : فلعلّك أنتهرتها أو أخفتها ؟ فقال : قد كان ذلك . قال ( عليه السلام ) : أو ما سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : لاحد على معترف بعد بلاء ؟ أنه من قيدت أو حبست أو تهددت ، فلا إقرار له . فخلّى عمر سبيلها ، ثم قال : عجزت النساء أن تلدن مثل علي بن أبي طالب ، لولا علي لهلك عمر ) .
7 . لم يعرف أبو بكر وعمر معنى الكلالة والأبّ
( سُئل أبو بكر عن الكلالة فقال : أقول فيها برأيي فإن أصبتُ فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان . فبلغ ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : ما أغناه عن الرأي في هذا المكان ! أما علم أن الكلالة هم الإخوة والأخوات من قِبَل الأب والأُم ، ومن قبَل الأب على انفراده ، ومن قبَل الأم أيضاً على حِدَتها ، قال الله عزّ قائلاً : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَد . وقال جلت عظمته : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ .
« وسئل أبو بكر عن معنى : وفاكهة وأبّاً ، فلم يعرف معنى الأب وقال : أي سماء تُظلني وأي أرض تُقلني أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله تعالى بما لا أعلم ، أما الفاكهة فنعرفها ، وأما الأب فالله أعلم به . فبلغ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مقاله في ذلك فقال ( عليه السلام ) : يا سبحان الله أما عَلم أنّ الأب هو الكلأ والمرعى ، وأن قوله عز اسمه : وفاكهة وأبّاً ، اعتداد من الله سبحانه بإنعامه على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم ، مما تحيا به أنفسهم وتقوم به أجسادهم » . ( الإرشاد : 1 / 200 ) .
أما عمر فله مع الكلالة قصص ، وقد ألف فيها كتاباً ثم مزقه ، وقال إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دعا عليه أن لا يعرفها ، ثم أوصى المسلمين في خطبة تعيين الشورى أن يحلوا مسألتها ! وقد صحح علماء الحدىث جهل أبي بكر وعمر بمعنى الابّ .
--------------------------- 130 ---------------------------
8 . ألم يقتله مرة ؟
في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 366 ) : ( قال الرضا ( عليه السلام ) : أقر رجل بقتل ابن رجل من الأنصار ، فدفعه عمر إليه ليقتله به ، فضربه ضربتان بالسيف حتى ظن أنه هلك فحمل إلى منزله وبه رمق فبرئ الجرح بعد ستة أشهر ، فلقيه الأب وجره إلى عمر فدفعه إليه عمر ، فاستغاث الرجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقال لعمر : ما هذا الذي حكمت به على هذا الرجل ؟ فقال : النفس بالنفس . قال ( عليه السلام ) : ألم يقتله مرة ؟ قال : قد قتله ثم عاش . قال ( عليه السلام ) : فيقتل مرتين ؟ فبهت ، ثم قال : فاقض ما أنت قاض . فخرج ( عليه السلام ) فقال للأب : ألم تقتله مرّة ؟ قال : بلى فيبطل دم ابني ؟ قال ( عليه السلام ) : لا ولكن الحكم أن تدفع إليه فيقتص منك مثل ما صنعت به ثمّ تقتله بدم ابنك . قال : هو والله الموت ولابد منه . قال ( عليه السلام ) : لابد أن يأخذ بحقه . قال : فإني قد صفحت عن دم ابني ويصفح لي عن القصاص ، فكتب بينهما كتاباً بالبراءة ، فرفع عمر يده إلى السماء وقال : الحمد الله أنتم أهل بيت الرحمة يا أبا الحسن . ثم قال : لولا علي لهلك عمر ) .
9 . لعل لها عذراً
في الإرشاد ( 1 / 206 ) : ( إن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها ليس ببعل لها ، فأمر عمر برجمها وكانت ذات بعل . فقالت : اللهم إنك تعلم أني بريئة ، فغضب عمر وقال : وتجرح الشهود أيضاً ؟
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ردوها واسألوها ، فلعل لها عذراً . فرُدت وسُئلت عن حالها فقالت : كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي وحملتُ معي ماء ولم يكن في أبلي لبن ، وخرج معي خليطنا وكانت في إبله لبن ، فنفذ مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتّى اُمكنه من نفسي فأبيت ، فلما كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرهاً . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الله أكبر : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ . فلما سمع ذلك عمر خلى سبيلها ) .
--------------------------- 131 ---------------------------
10 . زوجت هذا الغلام من هذه الجارية
روى في الكافي ( 7 / 423 ) : ( قال عاصم بن حمزة السلولي : سمعت غلاماً بالمدينة وهو يقول : يا أحكم الحاكمين أحكم بيني وبين اُمي ، فقال له عمر بن الخطاب : يا غلام لم تدعو على أمك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنها حملتني في بطنها تسعة أشهر وأرضعتني حولين ، فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر ويميني عن شمالي طردتني وانتفت مني ، وزعمت أنها لا تعرفني . فقال عمر : أين تكون الوالدة ؟ قال : في سقيفة بني فلان . فقال عمر : علي بأم الغلام . قال : فأتوا بها مع أربعة إخوة لها وأربعين قسامة يشهدون لها أنها لا تعرف الصبي ، وأن هذا الغلام غلام مدع ظلوم غشوم ، يريد أن يفضحها في عشيرتها وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط وأنها بخاتم ربها .
فقال عمر : يا غلام ما تقول ؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذه والله أمي حملتني في بطنها تسعة أشهر ، وأرضعتني حولين فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر ويميني من شمالي طردتني وانتفت مني ، وزعمت أنها لا تعرفني . فقال عمر : يا هذه ما يقول الغلام ؟ فقالت : يا أمير المؤمنين والّذي احتجب بالنور ، فلا عين تراه وحق محمد وما ولد ، ما أعرفه ولا أدري من أي الناس هو وإنه غلام مدع ، يريد أن يفضحني في عشيرتي ، وإني جارية من قريش لم أتزوج قطّ ، وإني بخاتم ربي . فقال عمر : ألك شهود ؟ فقالت : نعم ، هؤلاء ، فتقدم الأربعون القسامة فشهدوا عند عمرأن الغلام مدع يريد أن يفضحها في عشيرتها ، وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قطّ وأنها بخاتم ربها . فقال عمر : خذوا هذا الغلام وانطلقوا به إلى السجن حتى نسأل عن الشهود ، فإن عدلت شهادتهم جلدته حد المفتري ، فأخذوا الغلام ينطلق به إلى السجن ، فتلقاهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في بعض الطريق ، فنادى الغلام : يا ابن عم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنني غلام مظلوم ، وأعاد عليه الكلام الّذي كلم به عمر ، ثم قال : وهذا عمر قد أمر بي إلى الحبس . فقال علي ( عليه السلام ) : ردوه إلى عمر ، فلما ردوه قال لهم عمر : أمرت به إلى السجن فرددتموه
--------------------------- 132 ---------------------------
إليّ ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين أمرنا عليّ بن أبي طالب أن نردّه إليك وسمعناك وأنت تقول : لاتعصوا لعليّ ( عليه السلام ) أمراً ، فبينا هم كذلك إذ أقبل عليّ ( عليه السلام ) فقال : عليّ باُم الغلام فأتوا بها فقال عليّ ( عليه السلام ) : يا غلام ما تقول ؟ فأعاد الكلام ، فقال علي ( عليه السلام ) لعمر : أتأذن لي أن أقضي بينهم ؟ فقال عمر : سبحان الله وكيف لا ؟ وقد سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أعلمكم علي بن أبي طالب . ثم قال للمرأة : يا هذه ألكِ شهود ؟ قالت : نعم ، فتقدم الأربعون قسامه فشهدوا بالشهادة الاُولى ، فقال علي : لأقضين اليوم بقضية بينكما هي مرضاة الرب من فوق عرشه علمنيها حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ثم قال لها : ألكِ وليٌّ ؟ قالت : نعم هؤلاء إخوتي . فقال لإخوتها : أمري فيكم وفي اُختكم جائز ؟ فقالوا : نعم يا ابن عم محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرك فينا وفي اُختنا جائز . فقال علي ( عليه السلام ) : أشهد الله وأشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربع مائة درهم والنقد من مالي ، يا قنبرعليَّ بالدراهم . فأتاه قنبر بها فصبها في يد الغلام قال : خذها فصبها في حجر امرأتك ، ولا تأتنا إلا وبك أثر العرس يعني الغسل ، فقام الغلام فصب الدراهم في حجر المرأة ثم تلببها فقال لها : قومي . فنادت المرأة : النار النار ، يا ابن عم محمد تريد أن تزوجني من ولدي ، هذا والله ولدي ، زوجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا الغلام ، فلما ترعرع وشبَّ أمروني أن أنتفي منه وأطرده وهذا والله ولدي ، وفؤادي يتقلى أسفاً على ولدي . قال : ثم أخذت بيد الغلام وانطلقت ونادى عمر : واعمراه ! لولا عليٌّ لهلك عمر ) .
11 . إيتوني بماء حار
روى في الكافي ( 7 / 422 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( أُتيَ عمر بن الخطاب بامرأة قد تعلقت برجل من الأنصار وكانت تهواه ، ولم تقدر له على حيلة ، فذهبت فأخذت بيضة فأخرجت منها الصفرة وصبت البياض على ثيابها بين فخذيها ، ثمّ جاءت إلى عمر فقالت : يا أمير المؤمنين إن هذا الرجل أخذني في موضع كذا وكذا ففضحني . قال : فهم عمرأن يعاقب الأنصاري فجعل الأنصاري يحلف وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) جالس ويقول : يا أمير المؤمنين تثبت في أمري . فلما أكثرالفتى قال عمرلأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : يا أبا الحسن
--------------------------- 133 ---------------------------
ما ترى ؟ فنظر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى بياض على ثوب المرأة وبين فخذيها فاتهمها أن تكون احتالت لذلك فقال : إيتوني بماء حار قد أغلى غلياناً شديداً . ففعلوا فلما أُتي بالماء أمرهم فصبوا على موضع البياض فاشْتوى ذلك البياض ، فأخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فألقاه في فيه فلما عرف طعمه ألقاه من فيه ، ثم أقبل على المرأة حتى أقرت بذلك ، ودفع الله عز وجل عن الأنصاري عقوبة عمر ) .
12 . إيتوني بمنشار
روى المفيد في الإرشاد ( 1 / 205 ) : ( أن امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما ولداً لها بغير بينة ، ولم ينازعهما فيه غيرهما ، فالتبس الحكم في ذلك على عمر وفزع فيه إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوفهما فأقامتا على التنازع والاختلاف ، فقال ( عليه السلام ) عند تماديهما في النزاع : إيتوني بمنشار . فقالت له المرأتان : ما تصنع ؟ فقال ( عليه السلام ) : أقده نصفين لكل واحدة منكما نصفه . فسكتت إحداهما ، وقالت الأخرى : الله الله يا أبا الحسن ، إن كان لابد من ذلك فقد سمحتُ به لها . فقال ( عليه السلام ) : الله أكبر ، هذا ابنك دونها ، ولو كان ابنها لرقت عليه وأشفقت . فاعترفت المرأة الاُخرى بأن الحق مع صاحبتها والولد لها دونه ، فسرى عن عمر ودعا لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) بما فرج عنه في القضاء ) .
13 . أسئلة أسقف نجران
روى الشريف الرضي في خصائص الأئمة / 90 : ( قدم أسقف نجران على عمر بن الخطاب في صدرخلافته فقال : يا أمير المؤمنين إن أرضنا باردة شديدة المؤنة لا تحتمل الجيش ، وأنا ضامن لخراج أرضي أحمله إليك في كل عام كملاً .
قال : فضمنه إياه فكان يحمل المال ويقدم به في كل سنة ويكتب له عمر البراءة بذلك . فقدم الأسقف ذات مرة ومعه جماعة وكان شيخاً جميلاً مهيباً ، فدعاه عمر إلى الله وإلى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكتابه وذكر له أشياء من فضل الإسلام وما يصير إليه المسلمون من النعيم والكرامة ، فقال له الأسقف : يا عمر ، أنتم تقرؤون
--------------------------- 134 ---------------------------
في كتابكم : وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فأين تكون النار ؟ فسكت عمر وقال لعليّ ( عليه السلام ) : أجبه أنت . فقال له عليّ ( عليه السلام ) : أنا أجيبك يا أسقف أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقال الأُسقف : ما كنت أرى أن أحداً ليجيبني عن هذه المسألة ، مَن هذا الفتى يا عمر ؟ فقال : علي بن أبي طالب ختن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وابن عمه وهو أبو الحسن والحسين . فقال الأسقف : فأخبرني يا عمر ، عن بقعة من الأرض طلعت فيها الشمس مرة واحدة ثم لم تطلع قبلها ولا بعدها ؟ فقال عمر : سل الفتى . فقال ( عليه السلام ) : أنا اُجيبك ، هو البحر حيث انفلق لبني إسرائيل ووقعت فيه الشمس مرة واحدة ولم تقع قبلها ولا بعدها .
فقال الأسقف : أخبرني عن شئ في أيدي الناس شبيه بثمار الجنة ؟ قال عمر : سل الفتى فسأله فقال عليّ ( عليه السلام ) : أنا أجيبك ، هو القرآن يجتمع عليه أهل الدنيا فيأخذون منه حاجتهم فلا ينقص منه شئ فكذلك ثمار الجنة . فقال الأسقف : صدقت . قال : أخبرني هل للسماوات من قفل ؟ فقال عليّ ( عليه السلام ) : قفل السماوات الشرك بالله . فقال الأسقف : وما مفتاح ذلك القفل ؟ قال ( عليه السلام ) : شهادة أن لا إله إلاّ الله لا يحجبها شئ دون العرش . فقال : صدقت . فقال : أخبرني عن أول دم وقع على وجه الأرض ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : أمّا نحن فلا نقول كما تقولون دم الخشاف ولكن أول دم وقع على وجه الأرض مشيمة حواء حيث ولدت هابيل بن آدم . قال : صدقت وبقيت مسألة واحدة ، أخبرني أين الله ؟ فغضب عمرفقال عليّ ( عليه السلام ) : أنا أُجيبك وسل عما شئت ، كنا عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذ أتاه ملك فسلم فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من أين اُرسلت ؟ فقال : من السماء السابعة من عند ربي ، ثم أتاه آخر فسأله فقال : أرسلت من الأرض السابعة من عند ربي ، فجاء ثالث من المشرق ، ورابع من المغرب ، فسألهما فأجابا كذلك ، فالله عز وجل هاهنا وهاهنا :
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ) .
--------------------------- 135 ---------------------------
14 . فأخبرنا أين ربك ؟
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( توحيد الصدوق / 180 ) : ( كان لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صديقان يهوديان قد آمنا بموسى رسول الله وأتيا محمّداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسمعا منه ، وقد كانا قرءا التوراة وصحف إبراهيم وموسى ، وعلما علم الكتب الأولى ، فلما قبض الله تبارك وتعالى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أقبلا يسألان عن صاحب الأمر بعده وقالا : إنه لم يمت نبي قط إلاّ وله خليفة يقوم بالأمر في أُمته من بعده قريب القرابة إليه من أهل بيته ، عظيم الحظر جليل الشأن ، فقال أحدهما لصاحبه : هل تعرف صاحب الأمر من بعد هذا النبي ؟ قال الآخر : لا أعلمه إلاّ بالصفة التي أجدها في التوراة ، وهو الأصلع المصفر ، فإنه كان أقرب القوم من رسول الله . فلما دخلا المدينة وسألا عن الخليفة أُرشدا إلى أبيبكر فلما نظرا إليه قالا : ليس هذا صاحبنا ، ثم قالا له : ما قرابتك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قال : إني رجل من عشيرته ، وهو زوج ابنتي عائشة ، قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا . قالا : ليست هذا بقرابة . قالا : فأخبرنا أين ربك ؟ قال : فوق سبع سماوات . قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا . قالا : دُلنا على من هو أعلم منك ، فإنك أنت لستَ بالرجل الذي نجد صفته في التوراة أنه وصي هذا النبي وخليفته .
قال : فتغيّظ من قولهما وهم بهما ، ثم أرشدهما إلى عمر وذلك أنه عرف من عمر ، أنهما إن استقبلاه بشيء بطش بهما . فلما أتياه قالا : ما قرابتك من هذا النبي ؟ قال : أنا من عشيرته وهو زوج ابنتي حفصة ، قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا . قالا : ليست هذه بقرابة وليست هذه الصفة التي نجدها في التوراة ، ثم قالا له : فأين ربك ؟ قال : فوق سبع سماوات . قالا : هل غيرهذا ؟ قال : لا . قالا : دُلنا على من هو أعلم منك . فأرشدهما إلى علي صلوات الله عليه فلما جاءاه فنظرا إليه قال أحدهما لصاحبه : إنه الرجل الذي نجد صفته في التوراة أنه وصيّ هذا النبي وخليفتهُ وزوج ابنته ، وأبوسبطيه والقائم بالحقِّ من بعده . ثمّ قالا لعليّ ( عليه السلام ) : أيّها الرجل ما قرابتك من رسول الله ؟
--------------------------- 136 ---------------------------
قال ( عليه السلام ) : هو أخي ، وأنا وارثه ووصيه وأول من آمن به ، وأنا زوج ابنته فاطمة ( عليها السلام ) .
قالا له : هذه القرابة الفاخرة والمنزلة القريبة ، وهذه الصفة التي نجدها في التوراة . ثم قالا له : فأين ربك عز وجل ؟ قال لهما عليٌّ ( عليه السلام ) : إن شئتما أنبأتكما بالذي كان على عهد نبيّكما موسى ( عليه السلام ) وإن شئتما أنبأتكما بالذي كان على عهد نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قالا : أنبئنا بالذي كان على عهد نبينا موسى ( عليه السلام ) . قال علي ( عليه السلام ) : أقبل أربعة أملاك : مََلَكٌ من المشرق ، وملك من المغرب ، وملك من السماء ، وملك من الأرض ، فقال صاحب المشرق لصاحب المغرب : من أين أقبلت ؟ قال : أقبلتُ من عند ربّي . وقال صاحب المغرب لصاحب المشرق : من أين أقبلتَ ؟ قال : أقبلتُ من عند ربي . وقال النازل من السّماء للخارج من الأرض : من أين أقبلتَ ؟ قال : أقبلتُ من عند ربّي ، وقال الخارج من الأرض للنّازل من السّماء : مِن أين أقبلتَ ؟ قال : أقبلتُ من عند ربّي . فهذا ما كان على عهد نبيّكما موسى ( عليه السلام ) . وأما ما كان على عهد نبينا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فذلك قوله في محكم كتابه : مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَرَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَسَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَمَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا .
قال اليهوديّان : فما منع صاحبيك أن يكونا جعلاك في موضعك الذي أنت أهله ؟ فوالذي أنزل التوراة على موسى إنك لأنت الخليفة حقاً ، نجد صفتك في كتبنا ونقرأه في كنائسنا ، وإنّك لأحق بهذا الأمر وأولى به ممن قد غلبك عليه !
فقال علي ( عليه السلام ) : قدما وأخرا وحسابهما على الله عز وجل ، يُوقَفان ويُسألان ) .
15 . غلط أصحابك يا كعب وحرّفوا كتب الله
روى المجلسي في البحار ( 36 / 194 ) : ( عن ابن عباس أنه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الحبر ، إذ قال ( عمر ) : يا كعب أحافظ أنت للتوراة ؟ قال كعب : إني لأحفظ منها كثيراً . فقال رجل من جنبة المجلس : يا أمير المؤمنين سله أين كان الله جل ثناؤه قبل أن يخلق عرشه ، ومِمَّ خلق الماء الذي جعل عليه عرشه ؟
فقال عمر : يا كعب هل عندك من هذا علم ؟
فقال كعب : نعم يا أمير المؤمنين ، نجد في الأصل الحكيم أن الله تبارك وتعالى كان
--------------------------- 137 ---------------------------
قديماً قبل خلق العرش ، وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء ، فلما أراد أن يخلق عرشه تَفَلَ تَفَلَةً كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة ، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته ، وآخر ما بقي منها لمسجد قدسه !
قال ابن عباس : وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حاضراً ، فَعَظَّمَ عَلِيٌّ رَبَّهُ وقام على قدميه ونفض ثيابه ! فأقسم عليه عمر لما عاد إلى مجلسه ففعله . قال عمر : غُصْ عليها يا غواص ما تقول يا أبا الحسن ، فما علمتك إلا مفرجاً للغم .
فالتفت علي ( عليه السلام ) إلى كعب فقال : غلط أصحابك وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه ! يا كعب ويحك ! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته ، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره ، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قِدْمته ، وعزّ الله وجل أن يقال له مكان يومى إليه ، والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان ، وقولي كان عجز عن كونه ، وهو مما عَلَّمَ من البيان يقول الله عز وجل : خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ فقولي له كان ، مما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته ، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء ، محيطاً بكل الأشياء ، ثم كَوَّنَ ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد ، وإنه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شئ ، ثم خلق منه ظلمة ، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لامن شئ كما خلق النور من غير شئ ، ثم خلق من الظلمة نوراً ، وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبعٍ أرضين ، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماءً مرتعداً ، ولا يزال مرتعداً إلى يوم القيامة ، ثم خلق عرشه من نوره وجعله على الماء ، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ليس فيها لغة تشبه الأخرى ، وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب ، وذلك قوله : وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ .
يا كعب ويحك ! إن من كانت البحار تفلته على قولك ، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس ، أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه !
--------------------------- 138 ---------------------------
فضحك عمر بن الخطاب وقال : هذا هو الأمر ، وهكذا يكون العلم ، لا كعلمك يا كعب . لا عشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن ) .
16 . في بيته يؤتى الحكم
روى في الكافي ( 7 / 249 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واُفضى الأمر إلى أبيبكر اُتي برجل قد شرب الخمر ، فقال له أبو بكر : أشربت الخمر ؟ فقال الرجل : نعم ، فقال : ولِمَ شربتها وهي محرمة ؟ فقال : إنني لما أسلمت ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمرويستحلونها ، ولم أعلم أنها حرام فأجتنبهَا . قال : فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال : ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل ؟ فقال : معضلة وأبو الحسن لها . فقال أبو بكر : يا غلام أدع لنا عليّاً ، قال عمر : بل يؤتى الحكم في منزله فأتوه ، ومعه سلمان الفارسي فأخبره بقصة الرجل فاقتص عليه قصته ، فقال عليّ ( عليه السلام ) لأبيبكر : ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار ، فمن كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شئ عليه .
ففعل أبو بكر بالرجل ما قال عليّ ( عليه السلام ) فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله . فقال سلمان لعليّ ( عليه السلام ) : لقد أرشدتهم ، فقال علي ( عليه السلام ) : إنما أردت أن اُجدد تأكيد هذه الآية فيَّ وفيهم : أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .
17 . أسئلة الأخوين اليهوديين
روى الصدوق في الخصال / 595 : ( عن عبد الله بن عباس قال : قدم يهوديان أخوان من رؤساء اليهود بالمدينة فقالا : يا قوم إن نبينا حدثنا أنه قد ظهر نبي بتهامة يسفه أحلام اليهود ، ويطعن في دينهم ، ونحن نخاف أن يزيلنا عما كان عليه آباؤنا ، فأيكم هذا النبي ، فإن يكن الذي بشر به داود آمنا به واتبعناه ، وإن لم يكن يورد الكلام على ائتلافه ويقول الشعر ويقهرنا بلسانه ، جاهدناه بأنفسنا وأموالنا ، فأيكم هذا النبي ؟ فقال المهاجرون والأنصار : إن نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد قبض ، فقالا : الحمد لله ، فأيكم وصيه ، فما بعث الله عز وجل نبياً إلى قوم إلا وله وصي يؤدي عنه من بعده ، ويحكي عنه ما أمره
--------------------------- 139 ---------------------------
ربه ، فأومأ المهاجرون والأنصار إلى أبيبكر فقالوا : هو وصيه ، فقالا لأبيبكر : إنا نلقي عليك من المسائل ما يلقى على الأوصياء ، ونسألك عما تسأل الأوصياء عنه ، فقال لهما أبو بكر : ألقيا ما شئتما أخبركما بجوابه إن شاء الله ، فقال أحدهما :
ما أنا وأنت عند الله عز وجل ؟ وما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة ؟ وما قبر سار بصاحبه ؟ ومن أين تطلع الشمس ؟ وفي أين تغرب ؟ وأين طلعت الشمس ثم لم تطلع فيه بعد ذلك ؟ وأين تكون الجنة ؟ وأين تكون النار ؟ وربك يحمل أو يحمل ؟ وأين يكون وجه ربك ؟ وما اثنان شاهدان ؟ وما اثنان غائبان ؟ وما اثنان متباغضان ؟ وما الواحد ؟ وما الاثنان ؟ وما الثلاثة ؟ وماالأربعة ؟ وما الخمسة ؟ وما الستة ؟ وما السبعة ؟ وما الثمانية ؟ وما التسعة ؟ وما العشرة ؟ وما الأحد عشر ؟ وما الاثنا عشر ؟ وما العشرون ؟ وما الثلاثون ؟ وما الأربعون ؟ وما الخمسون ؟ وما الستون ؟ وما السبعون ؟ وما الثمانون ؟ وما التسعون ؟ وما المائة ؟
قال : فبقي أبوبكرلايرد جواباً ، وتخوفنا أن يرتد القوم عن الإسلام ! فأتيت منزل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقلت له : يا علي إن رؤساء اليهود قد قدموا المدينة وألقوا على أبيبكر مسائل فبقي أبوبكرلايرد جواباً ، فتبسم علي ( عليه السلام ) ضاحكاً ثم قال : هو اليوم الذي وعدني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأقبل يمشي أمامي وما أخطأت مشيته من مشية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شيئاً ، حتى قعد في الموضع الذي كان يقعد فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم التفت إلى اليهوديين فقال : يا يهوديان أدْنُوَا مني وألقيا علي ما ألقيتماه على الشيخ ، فقال اليهوديان : ومن أنت ؟ فقال لهما : أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أخو النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زوج ابنته فاطمة وأبو الحسن والحسين ( عليهم السلام ) ووصيه في حالاته كلها ، وموضع سرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فقال له أحد اليهوديين : ما أنا وأنت عند الله ؟ قال : أنا مؤمن منذ عرفت نفسي وأنت كافر منذ عرفت نفسك ، فما أدري ما يحدث الله فيك يا يهودي بعد ذلك . فقال اليهودي : فما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة ؟ قال ذاك يونس ( عليه السلام ) في بطن الحوت . .
--------------------------- 140 ---------------------------
إلى أن قال : صف لي محمداً كأني أنظر إليه حتى أؤمن به الساعة . فبكى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم قال : يا يهودي هيجت أحزاني ! كان حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صلت الجبين ، مقرون الحاجبين ، أدعج العينين ، سهل الخدين ، أقنى الانف ، دقيق المسربة ، كث اللحية براق الثنايا ، كان عنقه إبريق فضة ، كان له شعيرات من لبته إلى سرته ملفوفة كأنه قضيب كافور ، لم يكن في بدنه شعيرات غيرها ، لم يكن بالطويل الذاهب ، ولا بالقصير النزر ، كان إذا مشى مع الناس غمرهم نوره ، وكان إذا مشى كأنه يتقلع من صخر ، أو ينحدر من صبب ، كان مدور الكعبين ، لطيف القدمين ، دقيق الخصر ، عمامته السحاب ، وسيفه ذو الفقار ، وبغلته دلدل ، وحماره اليعفور ، وناقته العضباء ، وفرسه لزاز ، وقضيبه الممشوق ، وكان ( عليه السلام ) أشفق الناس على الناس ، وأرأف الناس بالناس ، كان بين كتفيه خاتم النبوة مكتوب على الخاتم سطران ، أما أول سطر فلا إله إلا الله وأما الثاني فمحمد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . هذه صفته يا يهودي .
فقال اليهوديان : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنك وصي محمد حقاً ، فأسلما وحسن إسلامهما ، ولزما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكانا معه حتى كان من أمر الجمل ما كان ، فخرجا معه إلى البصرة فقتل أحدهما في وقعة الجمل ، وبقي الآخر حتى خرج معه إلى صفين فقتل بصفين ) .
أقول : في هذا الحديث ضعف في سنده ، ويبدو أن الراوي لم يحفظ ، فذكر أشياء من عنده . وقد أوردناه وحديث وفد ملك الروم الآتي على ضعفهما ، لأن فوائدهما متعددة .
18 . وفد ملك الروم
روى الديلمي في إرشاد القلوب ( 2 / 299 ) : بسنده عن سلمان الفارسي ، ملخصاً قال : ( إن ملك الروم لما بلغه خبر وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخبر أمته واختلافهم ، وقولهم إنه لم يوص إلى أحد بعده دعا علماء بلده وأساقفتهم ، فأمر الجاثليق أن يختار من أصحابه وأساقفته فاختار منهم مائة رجل فخرجوا يقدمهم جاثليق لهم قد أقرت العلماء له جميعاً بالفضل والعلم ، متبحراً في علمه يخرج الكلام من تأويله ، ويرد كل فرع إلى أصله ، فقدم المدينة فسأل أهل المدينة عمن أوصى إليه محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن قام مقامه ،
--------------------------- 141 ---------------------------
فدلوهم على أبيبكر فأتوا مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال زعيم القوم : إنا قوم من الروم قدمنا نسأل عن صحة نبوة نبيكم ونسترشد لديننا ، فأيكم صاحب الأمر بعد نبيكم ؟ فقال عمر بن الخطاب : هذا صاحب أمر نبينا بعده .
قال الجاثليق : أيها الشيخ أنت القائم الوصي لمحمد في أمته قال أبو بكر : لا ما أنا بوصي . قال له : فما أنت ؟ قال عمر : هذا خليفة رسول الله . قال النصراني أنت خليفة رسول الله استخلفك في أمته ؟ قال أبو بكر : لا . قال : فما هذا الاسم الذي تسميت به أنبيك سماك به ؟ قال : لا ولكن تراضوا الناس فولوني واستخلفوني . فقال : أنت خليفة قومك لا خليفة نبيك ، ثم التفت الجاثليق إلى أصحابه فقال : إن هؤلاء يقولون إن محمداً لم يأتهم بالنبوة وإنما كان أمره بالغلبة ، ولو كان نبياً لأوصى كما أوصت الأنبياء . ثم التفت فقال : يا شيخ أما أنت فقد أقررت أن محمداً النبي لم يوص إليك ولا استخلفك وإنما تراضى الناس بك ، ولو كان رضا الله لرضا الخلق ما بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . فلا بد لنا أن نحتج عليكم فيما ادعيتم حتى نعرف سبيل ما تدعون إليه .
ثم التفت إلى أبيبكر فقال : يا شيخ أين مكانك الساعة من الجنة وأين مكاني من النار ؟ قال : فالتفت أبو بكر إلى عمر وإلى أبي عبيدة مرة أخرى ليجيبا عنه ، فلم ينطق أحد منهما . قال : إنه قال ما أدري أين مكاني وما حالي عند الله .
قال الجاثليق : يا هذا أخبرني كيف استجزت لنفسك أن تجلس هذا المجلس وأنت محتاج إلى علم غيرك ، ولقد ظلمك القوم وظلموا أنفسهم فيك .
قال سلمان رضي الله عنه : فلما رأيت ما نزل بالقوم من البهت والحيرة والذل والصغار ، وما حل بدين محمد وما نزل بالقوم من الحزن ، نهضت لا أعقل أين أضع قدمي إلى باب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فدققت عليه الباب فخرج ، وهو يقول ما دهاك يا سلمان ؟ قال قلت : هلك دين الله وهلك الإسلام بعد محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وظهر أهل الكفر على دينه وأصحابه بالحجة ، فأدرك يا أمير المؤمنين دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والقوم قد ورد عليهم ما لا طاقة لهم ، فأنت اليوم مفرج كربها وكاشف بلواها .
--------------------------- 142 ---------------------------
قال فقال ( عليه السلام ) : وما ذلك ؟ قال قلت : قدم قوم من ملك الروم يقدمهم جاثليق لم أر مثله يورد الكلام على معانيه ويصرفه على تأويله ، فأتى أبو بكر وهو في جماعة فأورد على أبيبكر مسألة أخرجه بها عن إيمانه وألزمه الكفر والشك في دينه ، فأدرك يا أمير المؤمنين دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فنهض أمير المؤمنين ( عليه السلام ) معي حتى أتينا القوم وقد ألبسوا الذلة والمهانة والصغر والحيرة ، فسلم ثم جلس فقال : يا نصراني أقبل علي وجهك واقصدني بحاجتك فعندي جواب ما يحتاج الناس إليه فيما يأتون ويذرون ، وبالله التوفيق .
قال فتحول النصراني إليه فقال : يا شاب إنا وجدنا في كتب الأنبياء أن الله عز وجل لم يبعث نبياً قط إلا وكان له وصي يقوم مقامه ، فأقدمنا ملكنا وفداً لنبحث عن دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونعرف سنن الأنبياء والاستماع من قومه الذين ادعوا مقامه ، حق ذلك أم باطل ؟ فقدمنا وأرشدونا إلى هذا الشيخ فادعى مقامه فسألنا عن الوصية إليه من نبيه فلم يعرفها . فإن وجدنا لهذا الرسول وصياً قائماً بعده وعنده علم ما يحتاج إليه الناس صدقنا بنبوته وأجبنا دعوته ، وإن يكن غير ذلك رجعنا إلى ديننا وعلمنا أن أحمد لم يبعث . وقد سألنا هذا الشيخ فلم نجد عنده تصحيح نبوة محمد ، وإنما ادعى أنه كان جباراً غلب على قومه بالقهر ، وإنه مضى وتركهم بهم يغلب بعضهم بعضاً ، فهل عندك أيها الشاب شفاء لما في صدورنا ؟
قال علي ( عليه السلام ) : بل عندي شفاء لصدوركم وضياء لقلوبكم ، وإخبار عن أموركم وبرهان لدلالتكم . فاسألني عما يكون إلى يوم القيامة ، وعما كان على عهد عيسى ( عليه السلام ) منذ بعثه الله تبارك وتعالى ، وعن كل وصي ، وكل فئة تضل مائة وتهدي مائة ، وعن سائقها وقائدها وناعقها إلى يوم القيامة ، وكل آية نزلت في كتاب الله في ليل نزلت أم في نهار ، وعن التوراة والإنجيل والقرآن العظيم ، فإنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يكتمني شيئاً من علمه ، ولا شيئاً ما تحتاج إليه الأمم ، من أهل التوراة والإنجيل ، وأصناف الملحدين وأحوال المخالفين .
قال فالتفت الجاثليق إلى أصحابه وقال : هذا والله هو الناطق بالعلم والقدرة ، والفاتق والراتق ، ونرجو من الله أن يكون قد صادفنا حظنا . ثم التفت إلى علي ( عليه السلام ) فقال : كيف
--------------------------- 143 ---------------------------
عدل بك القوم عن قصدهم إياك وادعوا ما أنت أولى به منهم . فأخبرني أيها الحكيم عني وأنت ما أنت عند الله وما أنا عنده ؟
قال علي ( عليه السلام ) : أما أنا فعند الله عز وجل وعند نفسي مؤمن مستيقن بفضله ورحمته وهدايته ونعمه علي . وأما أنت فعند الله كافر بجحودك الميثاق والإقرار الذي أخذ الله عليك ما دمت على هذه الحال كنت في النار لا محالة .
قال : أخبرني عن الله جل وعلا أحمل العرش أم العرش يحمله ؟ قال ( عليه السلام ) الله حامل العرش والسماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما ، وذلك قول الله عز وجل : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً . قال : فأخبرني عن قوله عز وجل وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ فكيف ذلك وقلت إنه يحمل العرش والأرض ؟
قال علي ( عليه السلام ) : إن العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة : نور أحمر احمرت منه الحمرة ، ونور أخضر اخضرت منه الخضرة ، ونور أصفر اصفرت منه الصفرة ، ونور أبيض أبيض منه البياض ، وهو العلم الذي حمله الله الحملة وذلك نور من عظمته ، فبعظمته ونوره ابيضت منه قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة ، بالأعمال المختلفة والأديان المتشتتة ، وكل محمول يحمله الله ، نوره ونور عظمته وقدرته . لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، فكل شئ محمول والله عز وجل الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما وبما فيهما من شئ ، وهو حياة كل شئ سبحانه ، ونور كل شئ ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
قال : فأخبرني عن الله عز وجل أين هو ؟ قال ( عليه السلام ) : هو هاهنا وهاهنا وهاهنا وهاهنا ، وهو فوق وتحت ، ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله تعالى ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
--------------------------- 144 ---------------------------
والكرسي محيط بالسماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم .
قال : والتفت الجاثليق إلى أصحابه فقال : هذا والله الحق من عند الله عز وجل على لسان المسيح والنبيين والأوصياء ( عليهم السلام ) .
قال : أخبرني عن الجنة هل في الدنيا هي أم في الآخرة وأين الآخرة من الدنيا ؟ قال ( عليه السلام ) : الدنيا في الآخرة والآخرة محيطة بالدنيا ، إذ كانت النقلة من الحياة إلى الموت ظاهرة ، وكانت الآخرة هي دار الحيوان .
قال الجاثليق : صدقت أيها الوصي العلي الحكيم الرفيق الهادي ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً ، وأنك وصيه وموضع سره ، وولي المؤمنين من بعده . ثم التفت إلى القوم فقال : يا هؤلاء قد أصبتم أمنيتكم وأخطأتم سنة نبيكم فاتبعوه تهتدوا وترشدوا .
قال وأسلم النصراني ومن كان معه وشهدوا لعلي ( عليه السلام ) بالوصية ولمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) )
بالحق والنبوة .
قال سلمان الخير : فلما خرجوا من المسجد وتفرق الناس ، وأرادوا الرحيل أتوا علياً ( عليه السلام ) مسلمين عليه مودعين له ، واستأذنوا فخرج إليهم علي فجلسوا فقال الجاثليق : يا وصي محمد وأبا ذريته : ما نرى الأمة إلا هلكت كهلاك من مضى من بني إسرائيل ، ونحن أولياؤك وعلى دينك وعلى طاعتك ، فمرنا بأمرك إن أحببت أقمنا معك ونصرناك على عدوك ، وإن أمرتنا بالمسير سرنا وإلى ما صرفتنا إليه صرفنا ، وقد نرى صبرك على ما ارتكب منك وكذلك سيماء الأوصياء ، وسنتهم بعد نبيهم ، فهل عندك من نبيك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد فيما أنت فيه وهم ؟
قال علي ( عليه السلام ) : نعم والله إن عندي لعهداً من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما هم صائرون إليه وما هم عاملون . ألا وقد عهد إلي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن الأمر صائر إلي بعد الثلاثين من وفاته وظهور الفتن ، واختلاف الأمة علي ، ومروقهم من دين الله عز وجل ، وأمرني بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين ، فمن أدرك منكم ذلك الزمان وتلك الأمور ، وأراد أن يأخذ بحظه من الجهاد معي فليفعل . . . ثم بكى وبكى القوم معه ، ثم ودعوه ) .
--------------------------- 145 ---------------------------
19 . وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا
في مناقب آل أبي طالب ( 2 / 194 ) : ( مسند أحمد وأبي يعلى : روى عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي أنه اصطاد أهل الماء حجلاً فطبخوه ، وقدموا إلى عثمان وأصحابه ، فأمسكوا ، فقال عثمان : صيد لم نصده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل فاطعموناه فما به بأس ، فقال رجل : إن علياً يكره هذا ، فبعث إلى علي فجاء وهو غضبان ملطخ بدنه بالخبط فقال له : إنك لكثيرالخلاف علينا . فقال ( عليه السلام ) : أذكرالله من شهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أتى بعجز حمار وحشي وهو محرم فقال : إنا محرمون ، فأطعموه أهل الحل ؟ فشهد اثنا عشر رجلاً من الصحابة ثم قال : أذكر الله رجلاً شهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أتى بخمس بيضات من بيض النعام فقال : إنا محرمون فأطعموه أهل الحل ؟ فشهد اثنا عشر رجلاً من الصحابة ! فقام عثمان ودخل فسطاطه وترك الطعام على أهل الماء . قال أبو الحسن المرادي :
يا سائلي عن علي والأولى عملوا * به من السوء ما قالوا وما فعلوا
لم يعرفوه فعادوه لجهلهم * والناس كلهم أعداء ماجهلوا ) .
- *
--------------------------- 146 ---------------------------
الفصل السابع والثلاثون: مكذوبات السلطة في فضائل أبيبكر وعمر وعثمان
1 . قال معاوية للوضاعين : كفى
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 3 / 595 ) : ( روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب ( علي ( عليه السلام ) ) وأهل بيته ! فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ، ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي ! فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم .
ويضيف المدائني : وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ! وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ، ومحبيه وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته .
ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجئ أحد من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه ، فلبثوا بذلك حيناً .
--------------------------- 147 ---------------------------
وكتب معاوية إلى عماله : إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب إليَّ وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله !
فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى ، حتى أشاروا بذكر ذلك على المنابر ، وألقي إلى معلمي الكتاتيب ، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علموا بناتهم ، ونساءهم ، وخدمهم ، وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله ! .
ثم كتب معاوية نسخة واحدة إلى جميع البلدان : أنظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه !
وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره ! فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما الكوفة ، حتى أن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به فيدخل بيته ، فيلقي إليه سره ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولايحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون ، الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار ، والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها . فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض ) .
--------------------------- 148 ---------------------------
وأضاف سليم بن قيس في روايته / 316 : ( إن معاوية مر بحلقة من قريش ، فلما رأوه قاموا له غير عبد الله بن عباس فقال له : يا ابن عباس ، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا موجدة في نفسك علي بقتالي إياكم يوم صفين . يا ابن عباس إن ابن عمي أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوماً . قال له ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوماً ، أفسلمتم الأمر إلى ولده ، وهذا ابنه ؟ قال : إن عمر قتله مشرك . قال ابن عباس : فمن قتل عثمان ؟ قال : قتله المسلمون . قال : فذلك أدحض لحجتك وأحل لدمه ، إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه ، فليس إلا بحق .
قال معاوية : فإنا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكف لسانك يا ابن عباس وأربع على نفسك . فقال له ابن عباس : أفتنهانا عن قراءة القرآن ؟ قال : لا . قال : أفتنهانا عن تأويله ؟ قال : نعم . قال : فنقرؤه ولا نسأل عما عنى الله به ؟ قال : نعم . قال : فأيما أوجب علينا قراءته أو العمل به ؟ قال معاوية : العمل به . قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا ؟ قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك . قال : إنما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان ، أو أسأل عنه آل أبي معيط ، أو اليهود والنصارى والمجوس ؟
قال له معاوية : فقد عدلتنا بهم وصيرتنا منهم ! قال له ابن عباس : لعمري ما أعدلك بهم ، غير أنك نهيتنا أن نعبدالله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عام أو خاص أو محكم أو متشابه ، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا .
قال معاوية : فاقرؤا القرآن وتأولوه ولا ترووا شيئاً مما أنزل الله فيكم من تفسيره ، وما قاله رسول الله فيكم ، وارووا ما سوى ذلك .
قال ابن عباس : قال الله في القرآن : يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهبِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهإِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . قال معاوية : يا ابن عباس ، إكفني نفسك وكف عني لسانك ، وإن كنت لا بد فاعلاً فليكن ذلك سراً ولا يسمعه أحد منك علانية . ثم رجع إلى منزله ، فبعث إليه بخمسين ألف درهم ) .
--------------------------- 149 ---------------------------
2 . ملاحظات
1 . المدائني عند علماء المذاهب : إمام صدوق موثوق ، من كبار أئمة الحديث والمغازي والسير . قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 10 / 401 ) : ( المدائني : العلامة الحافظ الصادق ، أبو الحسن علي بن محمد ، بن عبد الله بن أبي سيف ، المدائني الأخباري . نزل بغداد ، وصنف التصانيف ، وكان عجباً في معرفة السير والمغازي والأنساب وأيام العرب ، مصدقاً فيما ينقله ، عالي الإسناد ) .
2 . قال معاوية : ( إن رسول الله قال لي إنك ستلي الخلافة من بعدي ، فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب ، فلعنوه ) ( شرح النهج : 4 / 72 ) .
3 . قامت سياسة الحكام في محاربة أهل البيت ( عليهم السلام ) على أربع خطط جهنمية :
الأولى : وضع الأحاديث كذباً متعمداً على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد أعطوا جوائز سخية للوضاعين في مدح أبيبكر وعمر وعثمان ومعاوية ، وبني أمية وقريش ، وفي ذم أهل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم والتنقيص منهم .
الثانية : منع الأحاديث وتفسيرالآيات في مدح العترة ، تحت طائلة العقوبة بالقتل !
الثالثة : منع الكلام ضد أبيبكر وعمر وعثمان ، سواء كان انتقاداً ، أو رواية حديث ، أو لعناً وسباً ، تحت طائلة العقوبة !
الرابع : إجبار الناس على ولاية أبيبكر وعمر وعثمان ، ووجوب مدحهم والترضي عنهم ، خاصة في خطبة صلاة الجمعة . واضطهاد من لا يحبهم !
لهذا تستطيع أن تكتب ثلاث مجلدات :
أولها : في غلو الحكومات في أبيبكر وعمر ، بقصص وأحاديث كاذبة تفضلهما حتى على الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) !
والمجلد الثاني ، في صرفهم الأموال الطائلة لوضع الأحاديث الكاذبة .
والمجلد الثالث : في خطط الحكومات من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى يومنا هذا ، في إجبار
--------------------------- 150 ---------------------------
الناس على ولاية أبيبكر وعمر وعثمان ، واضطهادهم الناس لذلك !
وبذلك صارت ولاية أبيبكر وعمر وعثمان عاملاً أساسياً في صناعة التاريخ .
3 . اعترف علماء السلطة بكثرة المكذوبات في مناقب الحكام
قال العجلوني في كشف الخفاء ( 2 / 419 ) : « وباب فضائل أبيبكرالصديق رضي الله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات ، كحديث : إن الله يتجلى للناس عامة ولأبيبكر خاصة ! وحديث : ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبو بكر ! وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبيبكر ! وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان ! وحديث : إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبيبكر » !
وقال ابن القيم في مناره / 115 : « ومما وضعه جهلة المنتسبين إلى السنة في فضائل الصديق ، حديث : إن الله يتجلى للناس عامة يوم القيامة ولأبيبكر خاصة . وحديث : ما صب الله في صدري شيئاً إلا صببته في صدر أبيبكر ! وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبل شيبة أبيبكر ! وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان ! وحديث : إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبيبكر ! وحديث عمر : كان رسول الله وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما ! وحديث : لو حدثتكم بفضائل عمر عمر نوح في قومه ما فنيت ، وإن عمر حسنة من حسنات أبيبكر ! وحديث : ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ، إنما سبقكم بشئ وقر في صدره . ونحوه القاري في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة / 454 .
وهذا غيضٌ من فيض أقروا بأنه موضوع ، لكنه إقرار في بطون الكتب ، أما على المنابر وفي وسائل الإعلام ، وفي مؤلفات علمائهم ، فهي أحاديث صحيحة يستدلون بها ، ويرفعون بها عقيرتهم ، ويخاصمونك !
قال الفخر الرازي في تفسيره ( 1 / 169 ) : ( إن النبي أعطى أبا بكر خاتماً لينقش عليه لا إله إلا الله ، فأضاف لها : محمد رسول الله أبو بكر الصديق ! فقال له النبي : يا أبا بكر ما هذه الزوائد ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك عن اسم الله ،
--------------------------- 151 ---------------------------
وأما الباقي فما قلته وخجل أبو بكر ! فجاء جبريل وقال : يا رسول الله أما اسم أبيبكر فكتبته أنا لأنه ما رضي أن يفرق اسمك عن اسم الله ، فما رضي الله أن يفرق اسمه عن اسمك ) !
فانظر كيف تحول هذا العقلاني الفيلسوف إلى عامي مفرط ، ولم يذكر سند هذا الحديث المكذوب ولم يسأل نفسه : لو صح هذا الحديث لاحتج به أبو بكر في السقيفة ، أو احتجوا له به ! لكنه لم يحتج في السقيفة إلا بالاستحقاق القبلي وأن محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من قريش ، فيجب أن ترث سلطانه قريش دون الأنصار !
وسيأتي استدلال التفتازاني المتكلم كغيره بهذه الأحاديث ، التي صرحوا بأنها مكذوبة !
4 . المكذوبات في عثمان أكثر إتقاناً !
قال السيد الميلاني : نلاحظ أن المكذوبات في عثمان أكثر دقة وإتقاناً ؟ فقلت له : لأن مرسوم معاوية الأول كان بوضع فضائل لعثمان ، فتسابق رواة السلطة على ذلك وبذلوا أقصى جهدهم في ذلك ليأخذوا جوائز معاوية ، فكثرت مناقب عثمان وتنوعت ، حتى كتب معاوية مرسوماً وعممه ، إنه قد كثر الحديث في عثمان فضعوا مناقب لأبيبكر وعمر . فكانت زهرة جهدهم في المكذوبات لعثمان ، وجاءت مناقب غيره أقل إتقاناً ! فقد كثر الكذابون وتسابقوا لأخذ الجوائز بأي بضاعة !
5 . نماذج من هرطقة رواة السلطة في فضائل أبيبكر
1 . كان لا يصلي في الليل ، لكنه يفكر ، فينشوي كبده حتى يحترق !
« روى المحب الطبري في الرياض النضرة ( 1 / 133 ) أن عمر بن الخطاب أتى إلى زوجة أبيبكر بعد موته فسألها عن أعمال أبيبكر في بيته ما كانت ؟ فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها . ثم قالت : ألا إنه كان في كل ليلة جمعة يتوضأ ويصلي ثم يجلس مستقبل القبلة رأسه على ركبتيه ، فإذا كان وقت السحر رفع رأسه وتنفس الصعداء ويقول : آخ فيطلع الدخان من فيه . فبكى عمر وقال :
--------------------------- 152 ---------------------------
كل شئ يقدر عليه عمر إلا الدخان ! أنى لابن الخطاب بكبد مشوي » ! ( الغدير : 7 / 219 ) .
2 . أبو بكر خير أهل السماوات والأرض !
في الصواعق المحرقة لابن حجر / 252 : عن أبي هريرة ، قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أبو بكر وعمر خير أهل السماء وخير أهل الأرض وخير الأولين وخير الآخرين ، إلا النبيين والمرسلين . وقال : علي وفاطمة والحسن والحسين أهلي ، وأبو بكر وعمر أهل الله ، وأهل الله خير من أهلي » .
3 . أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى !
زعموا أن ابن عباس قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما نفعني في الإسلام مال أحد ما نفعني مال أبيبكر ، منه أعتق بلالاً ، ومنه هاجر نبيه ، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكنه أخي وصاحبي ، وأخوة الإسلام أفضل . أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي . ( تاريخ دمشق : 30 / 60 و 206 ، وتاريخ بغداد : 11 / 383 ) . وضعوه ليقابلوا به الحديث المتواتر : علي مني بمنزلة هارون من موسى !
وقد اعترف ابن حجر والذهبي بأنه موضوع . ( لسان الميزان : 2 / 23 ) .
4 . قال أبو بكر للأعمى : إقبض على لحيتي وتوسل بها !
« فنهض أبو بكر ووضع لحيته في يد الأعمى وقال : أمسك لحيتي في حب محمد وقل : يا رب أسألك بحرمة شيبة أبيبكر ، إلا رددت عليَّ بصري ! قال فرد الله عليه بصره لوقته ! فنزل جبريل على النبي وقال : يا محمد ، السلام يقرؤك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ، ويقول لك : وعزته وجلاله لو أقسم عليَّ كل أعمى بحرمة شيبة أبيبكر الصديق لرددت عليه بصره ، وما تركت على وجه الأرض أعمى » . ( الغدير : 7 / 239 ) .
5 . كلبة جنية تعضُّ من يسب أبا بكر !
زعموا أن أنس بن مالك قال : كنا جلوساً عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذ أقبل إليه رجل من أصحابه وساقاه تشخبان دماً ، فقال النبي : ما هذا ؟ قال : مررت بكلبة فلان المنافق فنهشتني ! ثم أقبل إليه رجل آخر من أصحابه وساقاه تشخبان دماً ، فقال النبي :
--------------------------- 153 ---------------------------
ما هذا ؟ فقال : إني مررت بكلبة فلان المنافق فنهشتني ! فنهض النبي وقال لأصحابه : هلموا بنا إلى هذه الكلبة نقتلها ، فقاموا وأرادوا أن يضربوها فقالت الكلبة بلسان طلق ذلق : لا تقتلني يا رسول الله ، إني كلبة من الجن مأمورة أن أنهش من سب أبا بكر وعمر ! ( الغدير : 7 / 219 ) .
6 . وافتروا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه كان ساذجاً وكان أبو بكر وعمر يوجهانه !
فزعموا أنه أمرَ في خيبر بقطع النخل فسارع المسلمون يقطعون نخل خيبر ، فجاء أبو بكر وقال له : ألم يعدك ربك نخل خيبر ؟ قال بلى . قال : فكيف تقطع نخلك ونخل أصحابك ، فانتبه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لخطئه ، وأمر أن ينادي المنادي : إن رسول الله ينهاكم عن قطع النخل فانتهوا ! ( الواقدي : 2 / 644 ) .
ثم جعلوها فضيلة لعمر فقالوا ( السيرالكبير : 1 / 40 ) : ( إنتهى رسول الله إلى الطائف فأمر بكرومهم أن تقطع . وفي ذلك قصة قد ذكرت في المغازي أنهم عجبوا من ذلك وقالوا : النخلة لا تثمر إلا بعد عشرسنين ، وكيف العيش بعد قطعها ؟ ثم أظهر بعضهم الجلادة فنادوا من فوق الحصن : لنا في الماء والتراب والشمس خلف مما تقطعون . فقال بعضهم : هذا لوتمكنت من الخروج من جحرك .
وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقطع نخيل خيبرحتى مرَّ عمر بالذين يقطعون فهمَّ أن يمنعهم فقالوا : أمر به رسول الله . فأتاه عمر فقال : أنت أمرت بقطع النخيل ؟ قال نعم . قال أليس وعدك الله خيبر ؟ قال : بلى . فقال عمر : إذا تقطع نخيلك ونخيل أصحابك ، فأمر مناديا ينادي فيهم بالنهي عن قطع النخيل .
قال الراوي : فأخبرني رجال رأوا السيوف في نخيل النطاة وقيل لهم : هذا مما قطع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! والنطاة اسم حصن من حصون خيبر . وقد كانت لهم ستة حصون : الشق ، والنطاة ، والقموص ، والكتيبة ، والسلالم ، والوطيحة .
وفي دلائل النبوة للبيهقي ( 5 / 157 ) : ( أمر رسول الله المسلمين حين حاصروا ثقيفاً أن يقطع كل رجل من المسلمين خمس نخلات أو حبلات من كرومهم . . فأتاه عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله إنها عفاء لم تؤكل ثمارها ! فأمرهم أن يقطعوا
--------------------------- 154 ---------------------------
ما أكلت ثماره الأول فالأول ) ! ثم أكملوا الرواية بمدح أبيبكر فقالوا : ( سنن البيهقي : 9 / 90 ) : ( لما بعث أبو بكر يزيد بن أبي سفيان إلى الشام على ربع من الأرباع خرج أبو بكر رضي الله عنه معه يوصيه . فقال : ولا تقتلوا كبيراً هرماً ولا امرأةً ولا وليداً ، ولا تخربوا عمراناً ، ولا تقطعوا شجرةً إلا لنفع ، ولا تعقرن بهيمةً إلا لنفع ، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه ، ولا تغدر ، ولا تمثل ، ولا تجبن ، ولا تغلل ) .
واتهموا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالسذاجة في غزوة تبوك حتى نبهه عمر ، فقال البخاري ( 3 / 109 ) : ( خَفَّت أزواد القوم وأملقوا فأتوا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في نحر إبلهم فأذن لهم ! فلقيهم عمر فأخبروه فقال : ما بقاؤكم بعد إبلكم ! فدخل على النبيِّ فقال : يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعا وبارك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى الناس حتى فرغوا ، ثم قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ) .
6 . رد الإمام الباقر ( عليه السلام ) على بعض هذه المكذوبات
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( كتاب سليم بن قيس / 190 ) : ( وربما رأيت الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعاً صدوقاً ، يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد مضى من الولاة ، لم يخلق الله منها شيئاً قط ، وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد سمعها منه ، ممن لا يُعرف بكذب ، ولا بقلة ورع .
ويروون عن علي ( عليه السلام ) أشياء قبيحة ، وعن الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما يعلم الله أنهم قد رووا في ذلك الباطل والكذب والزور .
قال قلت له : أصلحك الله ، سم لي من ذلك شيئاً . قال : رووا أن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر ، وأن عمر محدث ، وأن الملك يلقنه ، وأن السكينة تنطق على لسانه ، وأن عثمان الملائكة تستحي منه ، وأن لي وزيراً من أهل السماء ووزيراً من أهل الأرض ، وأن اقتدروا بالذين من بعدي ، وأثبت حراء فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد ، حتى عدد أبو جعفر ( عليه السلام ) أكثر من مائة رواية يحسبون أنها حق ! فقال ( عليه السلام ) : هي والله كلها كذب وزور !
--------------------------- 155 ---------------------------
قلت : أصلحك الله لم يكن منها شئ ؟ قال ( عليه السلام ) : منها موضوع ومنها محرف ، فأما المحرف فإنما عنى أن عليك نبي الله وصديقاً وشهيداً ، يعني علياً ( عليه السلام ) . ومثله : كيف لايبارك لك وقد علاك نبي وصديق وشهيد ، يعني علياً ( عليه السلام ) . وعامتها كذب
وزور وباطل ) !
7 . رد الإمام الجواد على بعض هذه المكذوبات
في الإحتجاج ( 2 / 477 ) أن المأمون كان في مجلس وعنده الإمام الجواد ( عليه السلام ) ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة ، فقال له يحيى بن أكثم : « ما تقول يا ابن رسول الله في الخبر الذي روي أنه نزل جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك : سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض ؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : لست بمنكر فضل أبيبكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبرأن يأخذ مثال الخبرالذي قاله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع : قد كثرت عليَّ الكذابة وستكثر بعدي ! فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي ، فما وافق
كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به .
وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله ، قال الله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبيبكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره ! هذا مستحيل في العقول !
ثم قال يحيى بن أكثم : وقد روي أن مَثَل أبيبكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء ! فقال ( عليه السلام ) : وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه ، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما قد أشركا بالله عز وجل وإن أسلما بعد الشرك ، فكان أكثر أيامهما الشرك بالله ، فمحال أن يشبههما بهما !
قال يحيى : وقد روي أيضاً أنهما سيدا كهول أهل الجنة ، فما تقول فيه ؟ فقال ( عليه السلام ) : وهذا الخبرمحال أيضاً لأن أهل الجنة كلهم يكونون شباباً ولا يكون
--------------------------- 156 ---------------------------
فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحسن والحسن ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنهما سيدا شباب أهل الجنة !
فقال يحيى بن أكثم : وروي أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة ؟ فقال ( عليه السلام ) : وهذا أيضاً محال لأن في الجنة ملائكة الله المقربين ، وآدم ومحمد ، وجميع الأنبياء والمرسلين ، لا تضئ الجنة بأنوارهم حتى تضئ بنور عمر !
فقال يحيى : وقد روي أن السكينة تنطق على لسان عمر . فقال ( عليه السلام ) : لست بمنكر فضل عمر ، ولكن أبا بكر أفضل من عمر : فقال على رأس المنبر : إن لي شيطاناً يعتريني ، فإذا ملت فسددوني !
فقال يحيى : قد روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لو لم أبعث لبعث عمر ! فقال ( عليه السلام ) : كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، يقول الله في كتابه : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه ؟ ! وكل الأنبياء ( عليهم السلام ) لم يشركوا بالله طرفة عين ، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله ! وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نبئت وآدم بين الروح والجسد !
فقال يحيى بن أكثم : وقد روي أيضاً أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب ! فقال ( عليه السلام ) : وهذا محال أيضاً لأنه لا يجوز أن يشك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في نبوته ! قال الله تعالى : اللَّه يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ . فكيف يمكن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به !
قال يحيى : روي أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لو نزل العذاب لما نجا منه إلا عمر ! فقال ( عليه السلام ) : وهذا محال أيضاً لأن الله تعالى يقول : وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحداً ما دام فيهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما داموا يستغفرون » .
8 . غارة الحكام والرواة على ألقاب علي ( عليه السلام ) ومناقبه !
في الرياض النضرة للطبري ( 2 / 155 ) : ( عن أبي ذر قال : سمعت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لعلي : أنت أول من آمن بي وصدقني ، وأنت أول من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصديق
--------------------------- 157 ---------------------------
الأكبر ، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظلمة ) . ومناقب علي لابن مردويه / 65 .
وعن معاذة العدوية قالت : ( سمعت علياً ( عليه السلام ) وهو على منبر البصرة يقول : أنا الصديق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم ) .
ونحوه تاريخ دمشق : 1 / 62 ، ومعارف ابن قتيبة / 73 ، وأنساب الأشراف : 2 / 146 ، ومناقب آل أبي طالب : 1 / 289 . وابن ماجة / 1 / 44 ، والحاكم : 3 / 112 ، وابن أبي شيبة : 7 / 498 ، وشرح النهج ( 13 / 200 ) وفيه : لا يقولها غيري إلا كذاب . وفي ( 13 / 200 ) وقال : كأنه ( عليه السلام ) لم يرتض أن يذكر عمر ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه ، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخراً . ومناقب ابن سليمان : 1 / 214 ، وفيه : لا يقولها غيري . وكذا المسترشد / 264 .
وفي كشف اليقين / 168 : ( ومن كتاب مسند أحمد بن حنبل ، وفيه : وأنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كاذب مفترٍ . وقد استبدلوا قوله : لا يقولها غيري ، بعدي ، ليستثنوا أبا بكر وعمر من الكذب والافتراء !
وقالت رواية ابن سعد ( 3 / 120 ) إن الناس سموا أبا بكر بالصديق وليس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال عبد الله بن عمرو : « سميتموه الصديق ، وأصبتم اسمه » .
وقالوا سمى المغيرة بن شعبة عمر بأمير المؤمنين فتبناه ! قال ابن شبة في تاريخ المدينة ( 2 / 677 ) سماه به المغيرة قال له : « نحن المؤمنون وأنت أميرنا ، فأنت أمير المؤمنين . قال : فأنا أمير المؤمنين !
وقال الطبري إن عمر سمى نفسه : « لما ولي أبو بكر قالوا : يا خليفة رسول الله فلما ولي عمر قالوا : يا خليفة خليفة رسول الله ، فقال عمر : هذا أمر يطول ، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم ، فسمي أمير المؤمنين ) . ( النهاية : 7 / 150 ) .
وقال الزهري ( تاريخ المدينة : 2 / 662 ) سماه اليهود الفاروق : « بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر : الفاروق ، وكان المسلمون يؤثرون ذلك من قولهم ، ولم يبلغنا أن رسول الله ذكر من ذلك شيئاً » .
وهذا يرد ما رواه ابن ذكوان قال : « قلت لعائشة : من سمى عمر الفاروق ؟
--------------------------- 158 ---------------------------
قالت : النبي » ! ( تاريخ المدينة : 2 / 662 ) .
بينما فضائل علي ( عليه السلام ) لا يمكنهم ردها ! روى الطبراني في معجمه الكبير : 6 / 269 :
« عن أبي ذر وسلمان قالا : أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد علي فقال : إن هذا أول من آمن بي ، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصديق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالمين » والاستيعاب : 4 / 1744 ، وكنز العمال : 11 / 616 ، و : 13 / 122 ، عن عدة مصادر . ونحوه أمالي الصدوق / 274 . ومجمع الزوائد : 9 / 101 .
قال عنه الذهبي في سيره ( 23 / 79 ) « إسناده واه » . لكنه رواه في ميزان الإعتدال ( 3 / 101 ) عن خصائص النسائي ولم يضعفه . ورواه ابن حجر في الإصابة ( 7 / 293 ) ولم يضعفه . ولا حجة لهم في تضعيفه ، لكنهم يريدون تغطية سرقة ألقاب علي ( عليه السلام ) وصفاته !
ومثله حديث لم يستطيعوا تضعيفه ، رواه ابن ماجة ( 1 / 44 ) عن علي ( عليه السلام ) قال : « أنا عبد الله ، وأخو رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كذاب ! صليت قبل الناس لسبع سنين ) . قال في مجمع في الزوائد ( 9 / 101 ) : هذا إسناد صحيح ، رجاله ثقات ، رواه الحاكم : 3 / 112 ، عن المنهال ، وقال : صحيح على شرط الشيخين . وابن أبي شيبة : 7 / 498 ، والضحاك في الآحاد : 1 / 148 ، و 151 ، وابن أبي عاصم في السنة / 584 ، وسنن النسائي : 5 / 106 ، والخصائص للنسائي / 46 ، وتاريخ دمشق : 42 / 32 ، وكبير البخاري : 4 / 23 ، وتفسير الثعلبي : 5 / 85 .
وقال في شرح النهج ( 4 / 122 ) : « واعلم أن أمير المؤمنين ما زال يَدَّعِي ذلك لنفسه ويفتخر به ويجعله في أفضليته على غيره ويصرح بذلك ، وقد قال غيرمرة : أنا الصديق الأكبر والفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام أبيبكر وصليت قبل صلاته .
وروى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة في كتاب المعارف ( 1 / 167 ) وهوغيرمتهم في أمره . ومن الشعر المروي عنه في هذا المعنى الأبيات التي أولها :
محمدٌ النبيُّ أخي وصهري * وحمزةُ سيدُ الشهداء عمي
سبقتكم إلى الإسلام طراً * غلاماً ما بلغت أوان حلمي » .
- *
--------------------------- 159 ---------------------------
وفي الكافي ( 1 / 197 ) بسند صحيح عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( ما جاء به علي ( عليه السلام ) آخذ به وما نهى عنه أنتهي عنه ، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وآله ولمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الفضل على جميع من خلق الله عز وجل .
المتعقب عليه في شئ من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله . كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) باب الله الذي لا يؤتى إلا منه ، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك ، وكذلك يجري لأئمة الهدى واحداً بعد واحد ، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها ، وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى ، وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيراً ما يقول : أنا قسيم الله بين الجنة والنار ، وأنا الفاروق الأكبر ، وأنا صاحب العصا والميسم ، ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولقد حُملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب . وإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعى فيكسى وادعى فأكسى ، ويستنطق واستنطق فأنطق على حد منطقه . ولقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد قبلي : عُلِّمْتُ المنايا ، والبلايا ، والأنساب ، وفصل الخطاب ، فلم يفتني ما سبقني ، ولم يعزب عني ما غاب عني ، أُبَشِّرُ بإذن الله وأؤدي عنه ، كل ذلك من الله ، مكنني فيه بعلمه ) .
ومعنى حمله على حمولة الرب : أنه ركب البراق الذي بعثه الله عز وجل للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وفي الإحتجاج ( 1 / 97 ) وابن الأعثم ( 1 / 13 ) : قالوا لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) بايعْ أبا بكر فقال : ( أنا أحق بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمرمن الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من الرسول ، وتأخذونه منا أهل البيت غصباً ، ألستم زعمتم للأنصارأنكم أولى بهذا الأمرمنهم لمكانكم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأعطوكم المقادة وسلموا لكم الإمارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار ، أنا أولى برسول الله حياً وميتاً ، وأنا وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه ، وأنا الصديق الأكبر ، والفاروق الأعظم ، وأول من آمن به وصدقه ، وأحسنكم
--------------------------- 160 ---------------------------
بلاء في جهاد المشركين ، وأعرفكم بالكتاب والسنة ، وأفقهكم في الدين ، وأعلمكم بعواقب الأمور ، وأذربكم لساناً وأثبتكم جناناً ، فعلامَ تنازعونا هذا الأمر ؟ أنصفونا إن كنتم تخافون الله على أنفسكم ، ثم اعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفته الأنصار لكم ، وإلا فبوؤوا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون !
فقال عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع طوعاً أو كرهاً !
فقال له علي ( عليه السلام ) : إحلب حلباً لك شطره ، أشدد له اليوم ليرد عليك غداً ، إذاً والله لا أقبل قولك ولا أحفل بمقامك ولا أبايع .
فقال له أبو بكر : مهلاً يا أبا الحسن ، ما نشدد عليك ولا نكرهك ! فقام أبو عبيدة بن الجراح إلى علي ( عليه السلام ) فقال له : يا ابن عم لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك ، ولكنك حدث السن ، وكان لعلي ( عليه السلام ) يومئذ ثلاث وثلاثون سنة ، وأبو بكر شيخ من مشايخ قومك ، وهو أحمل لثقل هذا الأمر ، وقد مضى الأمر بما فيه فسلم له ، فإن عمرك الله يسلموا هذا الأمر إليك ، ولا يختلف فيك اثنان بعد هذا ، ألا وأنت به خليق وله حقيق ، ولا تبعث الفتنة في غير أوانها ، فقد عرفت ما في قلوب العرب وغيرهم عليك .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا معاشرالمهاجرين والأنصار ، الله الله لاتنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري ، ولا تخرجوا سلطان محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم ، ولاتدفعوا أهله عن حقه ومقامه في الناس . فوالله يا معاشر الجمع إن الله قضى وحكم ، ونبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعلم ، وأنتم تعلمون ، أنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، المضطلع بأمر الرعية ؟ والله إنه لفينا لا فيكم ، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعداً ،
وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم .
فقال بشير بن سعد الأنصاري ، الذي وطأ الأرض لأبيبكر ، وقالت جماعة من الأنصار : يا أبا الحسن لو كان هذا الأمر سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبيبكر ، ما اختلف فيك اثنان . فقال علي ( عليه السلام ) : يا هؤلاء كنت أدع رسول الله مسجى لا أواريه
--------------------------- 161 ---------------------------
وأخرج أنازع في سلطانه ، والله ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه ويستحل ما استحللتموه ، ولاعلمت أن رسول الله ترك يوم غدير خم لأحد حجة ، ولا لقائل مقالاً ، فأنشد الله رجلاً سمع النبي يوم غدير خم يقول : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصرمن نصره وخذل من خذله ، أن يشهد الآن بما سمع ! قال زيد بن أرقم : فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك ، وكنت ممن سمع القول من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكتمت الشهادة يومئذ ، فدعا علي عليٌّ فذهب بصري ! قال : وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت ، وخشي عمرأن يصغي الناس إلى قول علي ففسح المجلس وقال : إن الله يقلب القلوب ، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة . فانصرفوا يومهم ذلك ) .
أقول : ورد أن الذي لم يشهد لعلي ( عليه السلام ) فدعا عليه ، هو أنس بن مالك ، وليس زيد بن أرقم . وقال الشريف المرتضى في الشافي ( 4 / 21 ) : ( وقوله لما شاجره عثمان وقال له : أبو بكر وعمر خير منك ، فقال : أنا خيرمنك ومنهما ، عبدت الله قبلهما ، وعبدته بعدهما ) .
راجع في الموضوع كتاب : ألف سؤال ( 3 / 185 ) .
وقول أبي عبىدة : عرفت ما في قلوب العرب وغىرهم علىك : ىقصد الىهود ! لأنه ىرى أن رضاهم عن الخلىفة شرط ! وقد عرف رأىهم لأنه كان من التهوكىن الذىن ىدرسون عندهم !
9 . عمر مهندس نظام الخلافة والمنصور مهندس المذاهب
هندس عمر نظام الخلافة الإسلامية على أساس قبلي قرشي ، ثم قلده المنصور الدوانيقي فهندس المذاهب الإسلامية بمنطق قرشي عباسي ، فقد قامت ثورة العباسيين أول الأمر على الدعوة إلى الرضا من آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والبراءة من بني أمية وتيم وعدي . لكن لما ثار الحسنيون على المنصور وكادوا يهزمونه ، قرر أن يمنع رواية فضائل جدهم علي ( عليه السلام ) حتى لو كان راويها جده ابن عباس ، وأن يعظم أبا بكر وعمر ، وأمر بالترضي عليهما في خطب الجمعة !
--------------------------- 162 ---------------------------
قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة / 69 : ( ابتدعوا أشياء اعترفوا بأنها بدعة وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فإن مصيرها إلى النار ! وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد عليه ! ولو رُدُّوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم ! كذكر الخلفاء في خطبتهم ، مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا في زمن بني أمية ، ولا في صدر ولاية العباسيين ، بل هو شئ أحدثه المنصور لمِا وقع بينه وبين العلوية فقال : والله لأرغمن أنفي وأنوفهم ، وأرفع عليهم بني تيم وعديٍّ ، وذكَرَ الصحابة في خطبته ! واستمرت هذه البدعة إلى هذا الزمان ) .
10 . سليمان الأعمش نموذجٌ لعداوة ( الخلفاء ) لعلي ( عليه السلام ) !
وهو من كبار العلماء والرواة ، وثقه الجميع ورووا عنه . وكان معاصراً للمنصور وصادعاً بفضائل علي ( عليه السلام ) ، فطلب منه أبو حنيفة أن لا يروي ذلك !
قال الطوسي في أماليه / 628 : ( شريك بن عبد الله القاضي قال : حضرت الأعمش في علته التي قبض فيها ، فبينا أنا عنده إذ دخل عليه ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فسألوه عن حاله فذكر ضعفاً شديداً ، وذكر ما يتخوف من خطيئاته وأدركته رنةٌ فبكى ! فأقبل عليه أبو حنيفة فقال : يا أبا محمد إتق الله وانظر لنفسك فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة ، وقد كنت تحدث في علي بن أبي طالب بأحاديث لو رجعت عنها كان خيراً لك ! قال الأعمش : مثلُ ماذا يا نعمان ؟ قال : مثل حديث عباية : أنا قسيم النار . قال : أوَلمثلي تقول هذا يا يهودي ؟ أقعدوني ، سندوني ، أقعدوني : حدثني والذي إليه مصيري موسى بن طريف ، ولم أر أسدياً كان خيراً منه قال : سمعت عباية بن ربعي إمام الحي ، قال : سمعت علياً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : أنا قسيم النار ، أقول هذا وليي دعيه ، وهذا عدوي خذيه ! وحدثني أبو المتوكل الناجي في إمرة الحجاج وكان يشتم علياً شتماً مقذعاً يعني الحجاج ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إذا كان يوم القيامة يأمر الله عز وجل فأقعد أنا وعلي على الصراط
--------------------------- 163 ---------------------------
ويقال لنا : أدخلا الجنة من آمن بي وأحبكما ، وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما ! ثم قال أبو سعيد : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما آمن بالله من لم يؤمن بي ، ولم يؤمن بي من لم يتول أو قال لم يحب علياً ، وتلا : أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ . !
قال فجعل أبو حنيفة إزاره على رأسه وقال : قوموا بنا لايجيؤنا أبو محمد بأطمَّ من هذا ) !
والظاهر أن المنصور أرسل أبا حنيفة إلى الأعمش ، فقد كان أبو حنيفة هارباً من المنصور لأنه أفتى بالثورة عليه ، وكان يسميه لص الخلافة ، فتوسط له بعضهم وأرضوه عنه ، فبايعه وصار مطيعاً للمنصور ، فكان يرسله إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) وغيره ، ويستخدمه لأغراضه ، وأخيراً حبسه ، وقتله ! وإنما وصف الأعمش أبا حنيفة باليهودي لأن مبغض علي والعترة ( عليهم السلام ) يحشر يهودياً ، كما رويَ عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : 2 / 661 ) .
وقال المفيد في تصحيح الإعتقاد / 108 : ( جاء الخبربأن الطريق يوم القيامة إلى الجنة كالجسر يمر به الناس ، وهو الصراط الذي يقف عن يمينه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعن شماله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ويأتيهما النداء من قبل الله تعالى : أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) .
وكان الأعمش ( رحمه الله ) يصدع بمذهبه ، ويواجه المنصور بفضائل علي ( عليه السلام ) !
ففي العمدة لابن البطريق / 378 : ( دخل الأعمش على المنصور وهو جالس للمظالم ، فلما بصر به قال له : يا سليمان تَصَدَّرْ ؟ قال : أنا صدرٌ حيث جلستُ ! ثم قال : حدثني الصادق قال : حدثني الباقر قال : حدثني السجاد قال : حدثني الشهيد أبو عبد الله قال : حدثني أبي وهو الوصي علي بن أبي طالب قال : حدثني النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : أتاني جبرئيل آنفاً فقال : تختموا بالعقيق فإنه أول حجر شهد لله بالوحدانية ، ولمحمد بالنبوة ، ولعلي بالوصية ، ولولده بالإمامة ، ولشيعته بالجنة ! قال : فاستدار الناس بوجوههم نحوه فقيل له : تذكر قوماً فتعلم من لا نعلم ! فقال : الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، والسجاد علي بن الحسين ، والشهيد الحسين بن علي ، والوصي ، وهو التقي
--------------------------- 164 ---------------------------
علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ) .
أخرجه ابن المغازلي الشافعي في مناقبه / 227 ، وبهامشه : أخرجه الحافظ ابن أبي الفوارس في الأربعين / 149 ، على ما في ذيل الإحقاق ( 4 / 88 ) وأخرجه أخطب خوارزم في المناقب / 228 ، وأخرجه الصدوق في علل الشرايع ( 2 / 153 ) .
ويظهرأن المنصور حقد على الأعمش وقرر أن يقتله ، فقد روى ابن المغازلي في كتابه فضائل علي ( عليه السلام ) / 226 ، ( قال الأعمش : وجّه إليَّ المنصورُ فقلت للرسول : لما يريدني أمير المؤمنين ؟ قال : لا أعلم ، فقلت : أبلغه أني آتيه ، ثم تفكرتُ في نفسي فقلت : ما دعاني في هذا الوقت لخير ، ولكن عسى أن يسألني عن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فإن أخبرته قتلني !
قال : فتطهرتُ ولَبستُ أكفاني وتحنطت ثم كتبت وصيتي ، ثمّ صرت إليه فوجدت عنده عمرو بن عُبيد فحمدت الله تعالى على ذلك وقلت : وجدت عنده عون صدق من أهل النصرة .
فقال لي : أدن يا سليمان فدنوت ، فلمّا قرُبتُ منه أقبلتُ على عمرو بن عُبيد أُسائله وفاح مِني ريح الحُنوط . فقال : يا سليمان ما هذه الرائحة ؟ والله لتصْدُقني وإلاّ قتلتُك . فقلت : يا أمير المؤمنين أتاني رسولك في جَوف الليل فقلت في نفسي : ما بعث إليَّ أمير المؤمنين في هذه الساعة إلا ليسألني عن فضائل عليٍّ فإن أخبرته قتلني ، فكتبتُ وصيتي ولبستُ كفني وتحنَّطَتُ !
فاستوى جالساً وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم . ثم قال : أتدري يا سلمان ما اسمي ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين دعنا الساعة من هذا . فقال : ما اسمي ؟ فقلت : عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب . قال : صدقت فأخبرني بالله وقرابتي من رسول الله ، كم رويت من حديث علي بن أبي طالب ، وكم من فضيلة من جميع الفقهاء ؟ قلت : شئ يسير يا أمير المؤمنين . قال : كم ؟ قلت : مقدار عشرة آلاف حديث وما يزداد .
قال : يا سلىمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع
--------------------------- 165 ---------------------------
الفقهاء ، فإن حلفت لاترويها لأحد من الشيعة حدثتك بها ! قال : لا أحلف ولا أحدث بها !
وروى له المنصور روايتين في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ثم قال : يا سليمان سمعت في فضائل علي أعجب من هذين الحديثين ؟ يا سليمان حُبُّ علي إيمان وبُغْضُه نِفاق ، لايحبُّ علياً إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ كافر ! فقلت : يا أمير المؤمنين الأمانَ ؟ قال : لك الأمان ، قلت : فما تقول يا أمير المؤمنين في مَنْ قتل هؤلاءِ ؟ قال : في النار لا أشكُّ ، فقلت : فما تقول فيمن قَتَل أولادهم وأولاد أولادهم ؟ قال : فَنكَّسَ رأسه ثم قال : يا سليمان المُلْكُ عَقيمٌ ، ولكن حَدِّث عن فضائل علي بما شئت ! قال قلتُ : مَن قتل ولده في النار ! فقال عمرو بن عبيد : صدقت يا سليمان ، الويل ثم الويل لمن قتل ولده !
فقال المنصور : يا عمرو إشهد عليه فإنه قال في النار ، فقال قد أخبرني الشيخ الصدوق يعني الحسن بن أنس أن من قتل أولاد علي لا يشم رائحة الجنة . قال : فوجدت المنصور قد غمض وجهه ! فخرجنا . فقال الراوي : لولا مكان عمرو ( بن عبيد ) ما خرج سليمان إلا مقتولاً ) !
11 . من تلبيس علماء السلطة لمدح أبيبكر وانتقاص علي ( عليه السلام )
قال الله تعالى في سورة الليل : فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى . لايَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى . وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى . وقد زور علماء السلطة معنى الآية ففسروا الأتقى بشخص ، وجعلوه أبا بكر ، مع أن الأتقى جماعة ، وأفعل التفضيل فيه نسبي ، والمعنى : الأتقى من غيره .
فلو كان الأتقى واحداً لزم أن يكون أبو بكر أفضل من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن لا يجنَّب النار غيره ! ويكون الأشقى واحداً ولا يَصْلَى النار إلا شخص واحد ! وقد يقال إن الذين فسروا الأتقى بشخص فرس لا يدركون معنى الأتقى في العربية ، لكنه بعيد .
ثم أصروا على خطئهم فالوا : الأتقى أبو بكر ، لأنه اشترى بلالاً وغيره وأعتقهم ،
--------------------------- 166 ---------------------------
وأنفق ماله على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهو الأفضل والأحق بالخلافة ، لأنه ليس للنبي عنده نعمة تجزى ، بينما له على علي ( عليه السلام ) نعمة ويدٌ تجزى ، لأنه رباه وأنفق عليه !
ولو كان أبو بكر يعرف تلبيساتهم لاحتج بآية الأتقى في السقيفة ! لكنه لم يذكرها ولا أنصاره ، حتى جاء مقاتل الفارسي فاخترعها ! ولو كان أبو بكر يعرف أنه الأتقى لما قال : وليتكم ولست بخيركم .
قال مقاتل في تفسيره ( 2 / 493 ) : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . يعني أبا بكر الصديق . . اشترى تسعة نفر يعذبون على الإسلام ، منهم بلال المؤذن وعامر بن فهيرة وأخته ، وزنيرة وابنتها ، وحارثة بن عمر ، وأم كياس ، والنهدية وابنتها ، كانت لامرأة من بني عبد الدار تضربها على الإسلام ، فأعتقهم ) .
وقد نص علماؤهم على أن مقاتلاً كذاب ، ومجسم ! ( تهذيب التهذيب : 10 / 251 ) .
وقال الفخر الرازي ( 21 / 205 ) وهو من ذرية أبيبكر : ( إنما قلنا إنه لا يمكن حملها على علي بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى : وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ، وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي لأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه ، وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها ، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه نعمة دنيوية ، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول ، بل كان للرسول عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين ، إلا أن هذا لا يجُزى لقوله تعالى : مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ . والمذكور هاهنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى ، فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي بن أبي طالب .
وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق ، وثبت أن ذلك الأفضل من الأمة إما أبو بكر أو علي ، وثبت أن الآية غير صالحة لعلي ، تعين حملها على أبيبكر ، وثبت دلالة الآية أيضاً على أن أبا بكر أفضل الأمة ) !
وأخذه منه التفتازاني في شرح المقاصد ( 2 / 298 ) فقال : ( والأخبار الواردة على فضايلهم متعارضة ، لكن الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل ثم عمر ، ثم تتعارض الظنون في عثمان وعلي رضي الله عنهما . وذهب الشيعة وجمهور
--------------------------- 167 ---------------------------
المعتزلة إلى أن الأفضل بعد رسول الله ( عليه السلام ) علي رضي الله عنه . ثم استدل على أن أبا بكر أفضل بالآية : وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . وقال : فالجمهورعلى أنها نزلت في أبيبكر والأتقى أكرم لقوله تعالى : إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ الله أتْقَاكُم . . ثم أورد التفتازاني أحاديث عديدة موضوعة بشهادة علمائهم ! ثم قال :
( تمسكت الشيعة القائلون بأفضلية علي بالكتاب والسنة والمعقول . أما الكتاب فقوله تعالى : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ . الآية . عنى بأنفسنا علياً وإن كان صيغة جمع ، لأنه ( عليه السلام ) حين دعا وفد نجران إلى المباهلة ، وهوالدعاء على الظالم من الفريقين ، خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي ، وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأمِّنوا ، ولم يخرج معه من بني عمه غير علي
رضي الله عنه ، ولا شك أن من كان بمنزلة نفس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان أفضل .
وقوله تعالى : قُلْ لاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى . قال سعيد بن جبير : لما نزلت هذه الآية قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين تودهم ؟ قال : علي وفاطمة وولداها . ولا يخفى أن من وجبت محبته بحكم نص الكتاب كان أفضل ، وكذا من ثبت نصرته للرسول بالعطف في كلام الله تعالى عنه على اسم الله وجبريل مع التعبير عنه بصالح المؤمنين ، وذلك قوله تعالى : فَإِنَّ اللَّه هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ،
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن المراد به علي .
وأما السنة فقوله ( عليه السلام ) : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظرإلى علي بن أبي طالب . ولا خفاء في أن من ساوى هؤلاء الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل . وقوله ( عليه السلام ) : أقضاكم علي . والأقضى أكمل وأعلم . وقوله ( عليه السلام ) : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فجاءه علي فأكل معه . والأحب إلى الله أكثر ثواباً ، وهو معنى الأفضلية . وبقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولم يكن عند موسى أفضل من هارون . وكقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من كنت مولاه فعلي مولاه . . الحديث . وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يوم خيبر لأعطين هذه الراية
--------------------------- 168 ---------------------------
غداً رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ قالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه ، قال : فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله فيهما فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية .
وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنا دار الحكمة وعلي بابها . وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي : أنت أخي في الدنيا والآخرة ، وذلك حين آخى رسول الله بين أصحابه ، فجاء علي تدمع عيناه فقال : آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد !
وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لمبارزة علي عمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة . وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي : أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ، ومن أحبك فقد أحبني وحبيبي حبيب الله ومن أبغضك فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله ، فالويل لمن أبغضك بعدي .
وأما المعقول ، فهوأنه أعلم الصحابة لقوة حدسه وذكائه وشدة ملازمته للنبي واستفادته منه ، وقد قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين نزل قوله تعالى : وَتَعِيَها أُذُنٌ وَاعِيَة : اللهم اجعلها أذن علي . قال علي : ما نسيت بعد ذلك شيئاً ! وقال : علمني رسول الله ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف باب . ولهذا رجعت الصحابة إليه في كثير من الوقايع ، واستند العلماء في كثير من العلوم إليه كالمعتزلة والأشاعرة في علم الأصول ، والمفسرين في علم التفسير ، فإن رئيسهم ابن عباس تلميذ له ، والمشايخ في علم السر وتصفية الباطن ، فإن المرجع فيه إلى العترة الطاهرة ، وعلم النحو إنما ظهر منه ، ولهذا قال : لو كسرت الوسادة ثم جلست عليها ، لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أوسهل أو جبل ، أو سماء أو أرض ، أو ليل أو نهار ، إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وفي أي شئ نزلت .
وأيضاً هوأشجعهم ، يدل عليه كثرة جهاده في سبيل الله وحسن إقدامه في الغزوات ، وهي مشهورة غنية عن البيان ، ولهذا قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو
--------------------------- 169 ---------------------------
الفقار . وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الأحزاب : لضربة علي خير من عبادة الثقلين .
وأيضاً : هو أزهدهم لما تواتر من إعراضه عن لذات الدنيا مع اقتداره عليها لاتساع أبواب الدنيا عليه ، ولهذا قال : يا دنيا إليك عني ، إليَّ تعرضتِ أم إلي تشوفتِ ، لا حان حَيْنُك ، هيهات غري غيري ، لا حاجة لي فيك ، فقد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، فعيشك قصير وحظك يسير وأملك حقير . وقال : والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم . وقال : والله لنعيم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز .
وأيضاً : هو أكثرهم عبادة حتى روي أن جبهته صارت كركبة البعير لطول سجوده . وأكثرهم سخاوة حتى نزل فيه وفي أهل بيته : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . وأشرفهم خلقاً وطلاقة وجه ، حتى نسب إلى الدعابة . وأحلمهم ، حتى ترك ابن ملجم في دياره وجواره يعطيه العطاء ، مع علمه بحاله ، وعفا عن مروان حين أخذ يوم الجمل مع شدة عداوته له ، وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيه : سيلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر .
وأيضاً : هوأفصحهم لساناً على ما يشهد به كتاب نهج البلاغة . وأسبقهم إسلاماً على ما روي أنه بعث النبي يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء . وبالجملة فمناقبه أظهر من أن تخفى ، وأكثر من أن تحصى .
ثم قال التفتازاني : لا كلام في عموم مناقبه ، ووفور فضائله ، واتصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات ، إلا أنه لا يدل على الأفضلية بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله ، بعدما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع ، على أفضلية أبيبكر ثم عمر ، والاعتراف من علي بذلك ) ! وسبب نقص عقله هواه !
وهنا تشك في عقل التفتازاني ، لأنه يقول : نعم إن مقتضى الآيات والنصوص النبوية أن علياً ( عليه السلام ) هو الأفضل وأنه خليفة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لكن إجماع القوم على خلافة أبيبكر وتفضيله ، لا بد أن يكون مستنداً إلى أدلة غابت عنا !
وقد أخذ ابن تيمية تزويرهم وكرره في كتبه ، قال في مجموعة الفتاوى ( 1 / 186 ) :
--------------------------- 170 ---------------------------
( وأما الصِّدِّيق فقد قال الله فيه وفي مثله : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . . . وأما عليٌّ وَزَيْدٌ وغيرهما فإن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان له عندهم نعمة تجزى ، فإن زيداً كان مولاه فأعتقه ) .
ونحوه الفتاوى الكبرى : 2 / 448 ، و : 5 / 244 ، ومجموع الفتاوى : 1 / 31 ، و 75 ، و : 2 / 30 ، و : 7 / 554 ، و : 10 / 273 ، و 480 ، و 495 ، و : 11 / 111 ، و 525 , و : 18 / 321 ، و : 27 / 147 . ومستدرك فتاواه : 1 / 83 !
أما ابن عبد البر ، فتحير ولم يجزم بأن الآية في أبيبكر ، فقال في كتابه الدرر / 46 : ( فقيل : إن فيه نزلت : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . إلى آخر السورة ) .
12 . ملاحظات على آية الأتقى
1 . أصل تزويرهم أنهم جعلوا الأتقى شخصاً واحداً هو أبو بكر ، مع أن المعنى : سِيُجَنَّبُها الأتقى من غيره ، ولايصلاها إلا الأشقى من غيره . فقد حملوا اسم الجنس على الشخص ، والتفضيل على الحقيقي وهو نسبي ، وقد اعترف بذلك الفخر الرازي فقال ( 31 / 203 ) : ( الأشقى بمعنى الشقي كما يقال : لست فيها بأوحد أي بواحد ، فالمعنى لا يدخلها إلا الكافرالذي هو شقي ) .
فقد تناقض ، ففسر الأشقى بنوع من الناس وفسر الأتقى بشخص وجعله أبا بكر !
2 . قد يقال : لو سلمنا أن المقصود نوع الأتقى لاشخصه ، فيدخل في الآية أبو بكر . والجواب : أنه لا يصح أيضاً لأن ثروة أبيبكر وإنفاقه لم يصحا ، بل كان فقيراً وكان أبوه يخدم عند عبد الله بن جدعان بطاعم بطنه ، وفسموه عضروط ابن جدعان .
ومن جهة أخرى إن آية : يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ، نزلت في ابن أبي الدحداح . قال الشهيد التستري في الصوارم المهرقة / 302 : ( لا نسلم صحة الرواية في شأن أبيبكر ، فضلاً عن الإجماع عليه . والسند ما ذكره بعضهم بأنها نزلت في حق أبي الدحداح ، وقد روى هذا أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي في تفسيره الموسوم بأسباب النزول بإسناده المرفوع إلى عكرمة وابن عباس ، أن رجلاً في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ، وصاحب النخلة يصعد ليأخذ منها التمر فربما سقطت تمرة فيأخذها صبيان الفقير ،
--------------------------- 171 ---------------------------
فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ التمر من أيديهم ، فإن وجدها في فِي أحدهم أدخل إصبعه في فيه !
فشكى الفقير إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما يلقى من صاحب النخلة فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذهب ، ولقي صاحب النخلة وقال : أعطني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة . فقال الرجل للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن لي نخلاً كثيراً وما فيها نخلة أعجب إليَّ تمرةً فكيف أعطيك ! ثم ذهب الرجل في شغله فقال رجل كان يسمع كلام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أتعطيني ما أعطيت ، أعني النخلة التي في الجنة إن أنا أخذتها ؟ فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم ، فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه فقال : تعرف أن محمداً أعطاني نخلة في الجنة فقلت له : يعجبني تمرها وإن لي نخلاً كثيراً ، وما فيه كله نخلة أعجب إليَّ تمراً منها ؟ فقال الرجل لصاحب النخلة أتريد بيعها ؟ قال : لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أُعطى . قال فما مُناك ؟ قال : أربعون نخلة . فقال الرجل لصاحب النخلة لقد جئت بعظيم ؟ تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة ؟ ثم قال الرجل أنا أعطيك أربعين نخلة ، فقال صاحب النخلة : أَشْهِدْ لي إن كنت صادقاً ، فمرَّ الرجل على أناس ودعاهم وأشهدَ لصاحب النخلة ، ثم ذهب إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : يا رسول الله إن النخلة صارت في ملكي فهي لك ، فذهب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى الفقير وقال له : النخلة لك ولعيالك ، فأنزل الله تعالى : وَالَّليْل إذَا يَغشى . . السورة !
وعن عطاء أنه قال : اسم الرجل أبو الدحداح . فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى : هو أبو الدحداح وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى : صاحب النخلة ، وهو سمرة ) . وهذا التفسير هو المعقول المنسجم مع الآيات ، وإن كانت روايته ضعيفة عندهم ، فهي صحيحة عندنا كرواية الحميري في قرب الإسناد عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) . قال القمي في تفسيره ( 2 / 426 ) ورواها بنحو ما تقدم وفي روايته : ( فأنزل الله في ذلك : فَأَمَّا مَنْ أَعْطى واتَّقى وصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرى ، يعني ابن الدحداح . . لايَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى . يعني هذا الذي بخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى . ابن الدحداح ) .
--------------------------- 172 ---------------------------
وقال المفيد في تفسيره / 557 : ( ولا فرق بين من ادعاه لأبيبكر ، وبين من ادعاه لأبي هريرة ، أو المغيرة بن شعبة ، أو عمرو بن العاص ، أو معاوية بن أبي سفيان ، في تعري دعواه عن البرهان ، وحصولها في جملة الهذيان ، مع أن ظاهر الكلام يقتضي عمومه في كل معط من أهل التقوى والإيمان . على أن أصحاب الحديث من العامة قد رووا ضد ذلك عن عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وغيرهما من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد ذكروا أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وسمرة بن جندب . . )
ولذلك اختاره القرطبي ( 20 / 90 ) قال : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى : يعني أبا الدحداح . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى : في ثمن تلك النخلة . وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى : يكافؤه عليها ، يعني أبا الدحداح . وَلَسَوْفَ يَرْضَى : إذا أدخله الله الجنة . والأكثر أن السورة نزلت في أبيبكر ) .
وجعل البغوي نزولها في أبيبكر قولاً قالوه ، قال في معالم التنزيل ( 4 / 496 ) : ( قيل نزلت في أبيبكر الصديق اشترى بلالاً من أمية بن خلف ببردة وعشر أواق فأعتقه . . وروى علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء قال : كان لرجل من الأنصار نخلة ، وكان له جار . . الخ ) . فترى بعض عقلائهم لا يوافقون الكذابين على كذبهم في مدح أبيبكر . ويؤيد قولهم أن عائشة نفت أن يكون نزل فيها وفي أبيها شئ من القرآن إلا آية تبرئتها ، قال البخاري ( 6 / 41 ) : « فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري » . فمما نفته مكذوبات السلطة في آية : الْأَتْقَى . ونحن ننفي أن آىة البراءة فىها ،
بل في مارىة . !
13 . تلبيسات الفخر الرازي لمدح جده أبيبكر
الفخر الرازي من ذرية أبيبكر ، من أهل هراة في أفغانستان ، وسكن الري ، ويبدو أن كثيراً من ذرية عمر وأبيبكر سكنوا أفغانستان ، وقد كتبنا فصلاً في المجلد الثالث من كتاب : ألف سؤال وإشكال ، في نقده ، بعنوان : الوجه الآخر للفخر الرازي ، أوردنا فيه من تفسيره نحو ثلاثين تلبيسة في مدح جده أبيبكر وعمر والتنقيص من علي ( عليه السلام ) . وسمينا ذلك تلبيسات ، لأن الفخر الرازي اعترف بأنه قد يرتكب التلبيس والتزوير !
--------------------------- 173 ---------------------------
قال الذهبي في تاريخه ( 43 / 219 ) : « وعظ مرة عند السلطان شهاب الدين فقال : يا سلطان العالم لاسلطانك يبقى ، ولا تلبيس الرازي يبقى ، وأن مردنا إلى الله » !
ومعنى التلبيس أن يرتب كلاماً ظاهره منطقي ، لكنه باطل ، وهذا إقرارٌ منه بأنه قد يستعمل مهارته العقلية لرد الحق ونصرة الباطل ! واعترافٌ بأن آراءه تضمنت تلبيسات باطلة ، ستفنى كما يفنى حكم الخوارزمية !
فمن تلبيساته أن علياً ( عليه السلام ) قاتل الكفار وأبا بكر جاهد بدعوتهم إلى الإسلام ، والجهاد أفضل من القتال ! وأن علياً ( عليه السلام ) جاهد يوم كان الإسلام قوياً ، وأبو بكر جاهد يوم كان الإسلام ضعيفاً ، فهو أفضل !
قال في تفسيره ( 10 / 143 ) : ( جاهد علي يوم أحد ويوم الأحزاب في قتل الكفار ، ولكن جهاد أبيبكر أفضى إلى حصول الإسلام لمثل الذين هم أعيان الصحابة ، وجهاد علي أفضى إلى قتل الكفار ، ولا شك أن الأول أفضل .
وأيضاً فأبو بكر جاهد في أول الإسلام حين كان النبي في غاية الضعف ، وعلي إنما جاهد يوم أحد ويوم الأحزاب ، وكان الإسلام قوياً في هذه الأيام ، ومعلوم أن الجهاد وقت الضعف أفضل من الجهاد وقت القوة ) !
وقال في تفسيره ( 12 / 23 ) في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِى اللَّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ : ( أما قول الروافض لعنهم الله : إن هذه الآية في حق علي رضي الله عنه بدليل أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال يوم خيبر : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، وكان ذلك هوعلي ، فنقول : هذا الخبرمن باب الآحاد وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل ، فكيف يجوز التمسك به في العلم ، وأيضاً إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبيبكر ، وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبيبكر ، ومن جملة تلك الصفات كونه كراراً غير فرار . . ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبيبكر محباً لله ولرسوله ، وكون الله محباً له وراضياً عنه ، قال تعالى في حق أبيبكر : وَلَسَوْفَ يَرْضَى . وقال عليه الصلاة والسلام :
--------------------------- 174 ---------------------------
إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبيبكر خاصة . وقال : ما صب الله شيئاً في صدري إلا وصبه في صدر أبيبكر . وكل ذلك يدل على أنه كان يحب الله ورسوله
ويحبه الله ورسوله ) .
يقول الرازي هذا ، وهو يعلم أن حديث : لأعطين الراية غداً . . صحيح متواتر ، وحديث : إن الله يتجلى لأبيبكر ، و : ما صب الله شيئاً في صدري . . مكذوب بنص علمائهم !
وقال في تفسيره ( 23 / 188 ) : « فعليٌّ أعطى للخوف من العقاب ، وأبو بكر ما أعطى إلا لوجه ربه الأعلى ، فدرجة أبيبكرأعلى ، فكانت عطيته في الإفضال أتم وأكمل » ! ثم استشهد بكلام ابن الباقلاني وارتضاه فقال ( 31 / 206 ) : « ذكرالقاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الإمامة فقال : الآية الواردة في حق علي : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيرا ، والآية الواردة في حق أبيبكر : إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ، فدلت الآيتان على أن كل واحد منهما إنما فعل ما فعل لوجه الله ، إلا أن آية علي تدل على أنه فعل ما فعل لوجه الله ، وللخوف من يوم القيامة على ما قال : إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرا ، وأما آية أبيبكر فإنها دلت على أنه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غيرأن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب ، فكان مقام أبيبكر أعلى وأجل .
وبذلك اعترف الرازي بأن آيات سورة الدهر نزلت في مدح علي ( عليه السلام ) فهي مجمع عليها بيننا وبينهم ، أما الآية التي زعمها في أبيبكر فنحن نطعن في روايتها . فيكون إنفاق علي ( عليه السلام ) متفقاً عليه ، وإنفاق أبيبكر مختلفاً فيه !
14 . زعم ابن تيمية أن أبا بكر وعمر أشجع من علي ( عليه السلام ) !
جعل ابن تيمية أبا بكر وعمرأشجع من علي ( عليه السلام ) ! وأغمض بصره وبصيرته عن بطولات علي ( عليه السلام ) وعن فرار أبيبكر وعمر في أحُد وخيبر وحنين ، وغيرها !
قال في منهاجه ( 8 / 86 ، و 78 ) : « فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة . . وأبو بكر وعمر مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن ! قال أبو محمد بن حزم : وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً
--------------------------- 175 ---------------------------
وطعناً في الكفار وضرباً ، والجهاد أفضل الأعمال . قال : وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة : أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان ، والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير ، والجهاد باليد في الطعن والضرب أقل مراتب الجهاد ) !
ثم تفذلك ابن تيمية فقال : « وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة بشجاعة القلب ، فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير ، وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم ، فإن أبا بكر باشرالأهوال التي كان يباشرها النبي من أول الإسلام إلى آخره ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل ، وكان يقدم على المخاوف يقي النبي بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله ، وهو في ذلك كله مقدم ! وكان يوم بدر مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله ، وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي ويعاونه .
ولما قام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعو ربه ويستغيث ويقول : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبداللهم اللهم . . جعل أبو بكر يقول له : يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك ! وهذا يدل على كمال يقين الصديق ، وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته » ! وكرره في فتاواه : 28 / 257 .
ولو صح قوله إن الشجاعة من صفات النية وقوة القلب ، فكيف عرف أن قلب الشيخين لو سلمنا ثباتهما في العريش مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بدر ، أقوى من قلب علي ( عليه السلام ) الذي غاص في وطيس المعركة ، وجندل نصف عتاة قريش ؟ ! وقد اعترف عمر بأنه هرب من العاص بن سعيد في بدر إلى خلف الصفوف !
وإذا صح أن أبا بكر كان في العريش في بدر مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقد خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من العريش وقاتل فأين ذهب أبو بكر ؟ ! راجع ما كتبناه في بدر في السيرة النبوية .
وقد ردَّ علماء الشيعة تزوير ابن تيمية والفخر الرازي ، وإمامهم ابن حزم ( الفِصَل : 4 / 135 ) راجع الغدير : 7 / 200 ، ومحاضرات في الإعتقادات : 1 / 324 ، ودراسات في منهاج السنة / 214 ، للسيد الميلاني ، والصحيح من السيرة : 5 / 41 .
--------------------------- 176 ---------------------------
ومن أحسن الردود ما كتبه الحافظ محمد بن عقيل مفصلاً ، في كتابه القيم : النصائح الكافية لمن يتولى معاوية / 234 ، قال : ( أنكر معظمهم أيضاً أشجعيته كرم الله وجهه التي ضربت بها الأمثال ، وقالوا إن أبا بكر رضي الله عنه أشجع منه . . إننا أهل السنة بهذه الدعوى صرنا هزؤاً لدى الشيعة ، بل وعند المطلعين من أهل الملل الأخرى على وقائع التأريخ وما جرياته ، وليسوا بملومين . ومكابرة من يكابر في مثل هذا محض تعصب ، لا يرتاب فيه ذو تمييز ) .
أقول : فاته ( رحمه الله ) أن يستدل بنداء جبرئيل ( عليه السلام ) : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى علي ، فكما أن ذا الفقار ، وهو سيف منزل من الله تعالى ، أفضل السيوف ، فكذلك علي ( عليه السلام ) هو الفتى الأول وأشجع الناس بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنص نداء جبريل ( عليه السلام ) .
15 . حفلة خمر شارك فيها الشيخان بسند صحيح !
وقد نسف علماء السلطة كل محاولاتهم لتفضيل أبيبكر وعمر على علي ( عليه السلام ) ، برواية رووها بسند صحيح تقول إنهما شربا الخمر قبيل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغنيا بشعر ينوح على قتلى المشركين في بدر ! فجاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غاضباً وبيده سعفة أو مكنسة ، ليضربهما ، فأعلنا التوبة !
وتتفاجأ بأن الحديث صحيح عندهم ، رواه تمام الرازي المتوفى 414 ، في كتابه الفوائد : 2 / 228 ، برقم : 1593 ، وفي طبعة : 3 / 481 : « بسند صحيح عن أبي القموص قال : « شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم ، فأخذت فيه ، فأنشأ يقول :
تَحَيَّيْ بالسلامة أمَّ بكرٍ * وهل لك بعد رهطك من سلامِ
ذريني أصطبح يا بكر أني * رأيت الموت نقَّبَ عن هشام
فودَّ بنو المغيرة أن فدوْهُ * بألف من رجال أو سوام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من القينات والخيل الكرام
فكائن بالطويِّ طويِّ بدر * من الشيزى تُكلل بالسنام
فبلغ ذلك النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقام معه جريدة يجر إزاره حتى دخل عليه ، فلما نظر إليه قال : أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله ، والله لا يلج لي رأساً أبداً ! فذهب عن رسول الله
--------------------------- 177 ---------------------------
ما كان فيه ، وخرج ونزل عليه : فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون ؟ فقال عمر : انتهينا والله » .
ومعنى قوله : « فقام معه جريدة يجر إزاره أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه خرج غاضباً مسرعاً ولم يسو رداءه ، وبيده سعفة ليضرب بها وجوههم ، وقد تكون مكنسة !
ورواه الثعلبي في تفسيره ( 2 / 142 ) دون أن يسميهما قال : « وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم ، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة ، إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ، ويقول . . . فبلغ ذلك رسول الله فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى انتهى إليه ، ورفع شيئاً كان بيده ( سعفة أو خشبة أو مكنسة ) ليضربه ، فلما عاينه الرجل قال : أعوذ بالله من غضب الله
وغضب رسول الله ، والله لا أطعمها أبداً » .
ورواها ابن هشام ( 2 / 549 ) وفيها أبيات أبيبكر في إنكار الآخرة ، قال :
« يخبرنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداءٍ وهامِ » !
وفي الصحيح من السيرة : 5 / 301 :
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام
أيعجز أن يرد الموت عني * وينشرني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمان عني * بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي * وقل لله يمنعني طعامي »
ورواه ابن حجر في الإصابة : 7 / 39 ، عن الفاكهي في كتاب مكة ، أن الرجل كان أبا بكر ! وفيه : « شرب أبو بكر الخمر فأنشأ يقول : فذكرالأبيات فبلغ ذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقام يجر إزاره حتى دخل فتلقاه عمر وكان مع أبيبكر ، فلما نظر إلى وجهه محمراً قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله ! والله لا يلج لنا رأسا أبداً ! فكان أول من حرمها على نفسه ! واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال : شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم ، ورثى قتلى بدر من المشركين » !
وذكر ابن حجر في فتح الباري ( 10 / 31 ) أن تلك الجلسة كانت حفلة خمر في بيت
--------------------------- 178 ---------------------------
أبي طلحة ، وكانوا عشرة صحابة أو أكثر ، وكان ساقيهم أنس بن مالك !
ثم قال : « ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس : كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ، ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة .
ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس ، أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً ، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم ، وأبهمهم في رواية سليمان التيمي عن أنس . . . ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس ، أن أبا بكر وعمر كانا فيهم ! وهو منكر ، مع نظافة سنده ، وما أظنه إلا غلطاً » !
يقصد أن حديث شرب أبيبكر وعمر للخمر صحيح السند ، لكن معناه مستنكر ! مع أنه إذا صح سند الحديث ، فلا قيمة لاستغرابك معناه !
ووقت هذه القصةكانت عند نزول سورة المائدة قبل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشهر أو شهرين ! لأن آية : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، من سورة المائدة ، وهي آخر سورة نزلت من القرآن ، قرب وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وقالت الروايات إنه انتشر بين المسلمين أن القصيدة من نظم أبيبكر ! فاهتمت عائشة بنفي نظمه لها ، لكنها لم تنف مشاركته في الحفلة وإنشاده لها !
فقد روى بخاري في صحيحه ( 4 / 263 ) دفاعها فقال : « عن عائشة أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب يقال لها أم بكر ، فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، الذي قال هذه القصيدة ورثى كفار قريش :
وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى تزين بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدر * من القينات والشرب الكرام
تحييْ بالسلامة أم بكر * وهل لي بعد قومي من سلام
يحدثنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام »
فنفت عائشة نظم أبيها للقصيدة لا إنشاده لها ! فكأن المهم عندها نفي نظمها لأنها تثبت
--------------------------- 179 ---------------------------
كفر ناظمها وإنكاره النبوة ! أما إنشاده لها فهو أقل مصيبةً !
وروى ابن حجر في الإصابة ( 7 / 39 ) أن عائشة كانت غاضبة لأن الناس يومها لم يصدقوها ! « كانت تدعو على من يقول إن أبا بكر الصديق قال هذه القصيدة ثم تقول : والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام ، ولكن تزوج امرأة من بني كنانة ثم بني عوف ، فلما هاجر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، فقال هذه القصيدة يرثي كفار قريش الذين قتلوا ببدر ، فتحامى الناس أبا بكر من أجل المرأة التي طلقها ، وإنما هو أبو بكر بن شعوب » .
تقصد عائشة أن أم بكر المخاطبة بالقصيدة هي مطلقة أبيها ، وتزوجها ابن شعوب ، وهو الذي نظم القصيدة ! راجع : أمالي الطوسي / 737 ، رواها بسبعة أبيات ، وابن هشام : 2 / 549 ، رواها بتسعة ، والغدير : 6 / 251 ، و 7 / 96 و : 7 / 95 ، وفتح الباري : 10 / 30 ، وقد توسع في الموضوع ودافع بما يستطيع ، لكن كلامه يدل على تحيره ، وسيرة ابن كثير : 2 / 535 ، ومستدرك الوسائل : 17 / 83 ، والسقيفة أم الفتن / 74 ، وفيض القدير : 1 / 117 ، والإصابة : 7 / 38 ، والزوائد : 5 / 51 ، والهداية الكبرى / 106 ، وأمالي المرتضى : 2 / 18 ، والنص والاجتهاد / 311 ، وأحاديث الشعر للمقدسي / 57 ، والنهاية : 3 / 412 ، والثعلبي : 2 / 142 ، والإصابة : 7 / 38 ، والصحيح من السيرة : 5 / 301 و 304 .
ولما رأى رواة السلطة أن علياً ( عليه السلام ) لم يشارك في هذه الحفلة ، افتروا عليه أنه شرب الخمر ، وأنه صلى وهو سكران ، ورووها على عادتهم عن لسان علي ( عليه السلام ) !
قال البيهقي ( 1 / 389 ) : ( عن علي أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر ، فأمهم علي في المغرب وقرأ : قُلْ يَا أيُّهَا الكَافِرُون ، فخلط فيها فنزلت : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) .
لكن الطبري قال : إن صاحب القصة والقائل انتهينا هو عمر ، عند نزول الآية ! ( الدر المنثور : 2 / 318 ) .
--------------------------- 180 ---------------------------
16 . المناقب المكذوبة لغير علي ( عليها السلام ) دليل على صحة مناقبه
فعندما تجد حديث : أن أبا بكر وعمر من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمنزلة هارون من موسى ، فهو دليل على صحة حديث : أنت مني بمنزلة هارون من موسى .
وعندما تجد حديث : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة ، فهو دليل على صحة حديث : الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سيدا شباب أهل الحنة .
وعندما تجد حديث أن أبا بكر باب مدينة علم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دليل على أن علياً ( عليه السلام ) بابها .
وعندما نجد أن الحكمة تجري على لسان عمر ، وأن معه ملكاً يسدد منطقه ، فمعناه أن النبي قال ذلك لعلي ( عليه السلام ) ، فجعلوه لعمر .
وعندما تجد حديث : أن عائشة زوجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الدنيا والآخرة ، فمعناه خديجة ( عليها السلام ) زوجته في الدنيا والآخرة . وعندما تجد أن عائشة أحب نسائه اليه ، فمعناه أنها ليست أحبهن ! وعندما تجد أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : لم ينفعني مال كما نفعني مال أبيبكر ، فمعناه صحة الحديث الذي قال فيه : لم ينفعني مال كما نفعني مال خديجة ( عليها السلام ) . الخ .
- *
--------------------------- 181 ---------------------------
الفصل الثامن والثلاثون: مقارنة بين مالية علي ( عليه السلام ) وأبيبكر وعمر وعثمان
ووجدك عائلاً فأغنى :
أغنى الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمال خديجة ( عليها السلام ) ، وبالدعوة المستجابة فلو دعا الله أن يجعل حجراً ذهباً لاستجاب له ، ثم أغناه بالخمس والغنائم .
ففي أمالي الطوسي / 468 : ( وأمره ( أمرعلياً ) أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم . قال أبو عبيدة : فقلت لعبيد الله يعني ابن أبي رافع : أوَ كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يجد ما ينفقه هكذا ؟ فقال : إني سألت أبي عما سألتني وكان يحدث بهذا الحديث ، فقال : فأين يذهب بك عن مال خديجة ( عليها السلام ) ؟ وقال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة ، وكان رسول الله يفك من مالها الغارم والعاني ، ويحمل الكل ، ويعطي في النائبة ، ويرفد فقراء أصحابه ، إذ كان بمكة ، ويحمل من أراد منهم الهجرة ، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين ، يعني رحلة الشتاء والصيف ، كانت طائفة من العير لخديجة ، وكانت أكثر قريش مالاً ، وكان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينفق منه ما شاء في حياتها ، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها ) .
وروى البخاري ( 5 / 80 ) قال عمر لأسماء بنت عميس : ( سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم ، فغضبت وقالت : كلا والله ، كنتم مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله . وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله ، ونحن كنا نؤذي ونخاف ) . فأيد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قولها .
--------------------------- 182 ---------------------------
زعموا أن أبا بكر كان ينفق على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وضعوا في مقابل قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة ، أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ما نفعني مال قط كما نفعني مال أبيبكر ، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال : ما أنا ومالي إلا لك ! ( ابن حبان : 15 / 273 ، والاستيعاب : 3 / 966 ) .
وقال في فتاوى الشبكة الإسلامية ( 4 / 475 ) : ( أخرج الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة قال . . قال الشيخ الألباني : صحيح ، وهذا الحديث لا يفهم منه أن رسول الله لم ينتفع بمال خديجة رضي الله عنها بل إنها بذلت مالها مواساة لسيد المرسلين ، ولهذا قال عنها : وواستني بمالها إذ حرمني الناس . وهذا بعض حديث رواه أحمد في مسنده ، وصححه الأرناؤوط ) .
فهم يريدون إثبات إنفاق أبيبكر على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكثر من إنفاق خديجة ( عليها السلام ) !
وفي الطرائف / 406 : ( لم يزل قومه وجماعته أهل الثروة والرئاسة ، ولما كان بمكة كان له مع ماله ومال كفيله وعمه أبي طالب مال خديجة ( عليها السلام ) ، التي يضرب بكثرة مالها الأمثال ، ولما هاجر إلى المدينة فتحت عليه الفتوح والغنائم ، ففي أي الوقتين كان لأبيبكر مال يغنيه بماله . ومن طريف ما يؤكد ذلك أن أباه أبا قحافة كان شديد الفقر ، حتى كان يؤجر نفسه للناس في أمور خسيسة ، فأين كان غناه وإيثاره مع سوء حال أبيه ، لولا البهتان الذي لا شبهة فيه ) .
وفي الصراط المستقيم ( 2 / 102 ) عن الكلبي النسابة : ( كان أبو قحافة عضروطاً لابن جذعان ينادي على مائدته كل يوم بمد ) . والعضروط : الذي يخدم بطعام بطنه .
وقد اخترعت عائشة لأبيها ثروة عظيمة زعمت أنه أنفقها على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فتحيرعلماء السلطة فيها لأنها خيالية ! قالت : « فخرتُ بمال أبي في الجاهلية ، وكان قد ألف ألف أوقية ) ! ( رواه النسائي : 5 / 358 ، وروته مصادرهم ووثقه علماؤهم أو صححوه ! كتهذيب الكمال : 23 / 392 ، وميزان الإعتدال : 3 / 375 ، ومجمع الزوائد : 4 / 317 ، وأمثال الحديث للرامهرمزي / 131 ، وفتح الباري : 9 / 222 ، وتاريخ بخاري الكبير : 1 / 224 ، وتهذيب الكمال : 21 / 416 ، وتهذيب التهذيب : 8 / 325 ، وسنة ا بن أبي عاصم / 225 ، وإعانة الطالبين : 4 / 199 / والطبراني الكبير : 23 / 174 .
فتكون ثروة أبيها مليار درهم ، وهو أمرٌ غير معقول ! لهذا اضطرالذهبي لأن يجعل
--------------------------- 183 ---------------------------
المبلغ ألف أوقية بدل مليون أوقية ! قال في سيره ( 2 / 185 ) : « وأعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة . . أما ألف ألف أوقية ، فلا تجتمع إلا لسلطان كبير » .
ولا تصح فذلكته لأن علماءهم صححوه برواية : ألف ألف أوقية ! كما لا يصح فرضه أن أبا بكر أنفق مليون درهم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنه لم يرو أحد أنه أوصل صاع حنطة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في سنوات حصارهم ! ولا دراهم يسيرة أعطاها لمستضعف من المسلمين ، إلا ما زعموه من شرائه بلالاً ولم يثبت ، أما ما زعموه من إنفاقه على ابن خالته مسطح ، فقد كان يعمل معه في الخياطة .
قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة / 187 : « وأما إنفاقه على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فكذب ، لأنه لم يكن ذا مال ، فإن أباه كان فقيراً في الغاية ، وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمُدٍّ في كل يوم يقتات به ! فلو كان أبو بكر غنياً لكفى أباه !
وكان معلماً للصبيان في الجاهلية ، وصار في الإسلام خياطاً ، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس من الخياطة فقال : إني أحتاج إلى القوت ، فجعلوا له في كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال ! والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان قبل الهجرة غنياً بمال خديجة ( عليها السلام ) ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش ، وبعد الهجرة لم يكن لأبيبكر شئ البتة ) .
أقول : لما صار أبو بكر خليفة قال : « إن حرفتي لم تكن لتعجزعن مؤونة أهلي ، وقد شغلت بأمر المسلمين ، وسأحترف للمسلمين في مالهم ، وسيأكل آل أبيبكرمن هذا المال » ( الطبقات : 3 / 184 ) . فجعل له الصحابة كل يوم درهمين ونصف شاة . ( المغني : 11 / 377 ، وفتح الباري : 4 / 258 ) .
ثم جعلوا له ألفي درهم في السنة : « فقال : زيدوني فإن لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة ، فزادوه خمس مائة . وكان يقيم يوم الجمعة في صدرالنهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ، ثم يروح لقدر الجمعة فيُجَمِّع بالناس . وكان رجلاً تاجراً فكان يغدو كل يوم السوق فيبيع ويبتاع ، وكانت له قطعة غنم تروح عليه ، وربما خرج هو نفسه فيها » ! ( الطبقات : 3 / 184 ) .
--------------------------- 184 ---------------------------
ثم أغنى الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المدينة :
وذلك بالأخماس والغنائم والهدايا ، ومنها أموالُ أحد أغنياء اليهود وهو مُخَيْريق رئيس بني النضير ( رحمه الله ) ، فقد أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فأبوا ، وقاتل مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واستشهد في أحُد ، وأوصى بكل أمواله إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يضعها حيث أمره ربه ، وقد أمره ربه أن يجعلها لنفقاته وإنفاقاته ، ثم يوقفها على ذريته الطاهرة ( عليهم السلام ) من بعده .
قال الطبري ( 2 / 209 ) : ( قال : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصرمحمد عليكم لَحَقٌّ ! قالوا : إن اليوم يوم السبت ، فقال : لاسبتَ ! فأخذ سيفه وعدته وقال : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ، ثم غدا إلى رسول الله فقاتل معه حتى قتل ، فقال رسول الله فيما بلغني مخيريق خير يهود ) .
وفي المجموع ( 15 / 327 ) : ( قال الشافعي : وقيل إن أول وقف ما وقفه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أموال مخيريق التي أوصى بها له ) .
وفي الكافي ( 7 / 47 ) : ( سألته ( الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ) عن الحيطان السبعة التي كانت ميراث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لفاطمة ( عليها السلام ) فقال : لا ، إنما كانت وقفاً ، وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يأخذ إليه منها ما ينفق على أضيافه والتابعة يلزمه فيها ، فلما قبض جاء العباس يخاصم فاطمة فيها ، فشهد علي وغيره أنها وقف على فاطمة ( عليها السلام ) وهي : الدلال ، والعواف ، والحسنى ، والصافية ، ومال أم إبراهيم ، والميثب ، والبرقة .
وروى وصية فاطمة ( عليها السلام ) إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فإن مضى عليٌّ فإلى الحسن ، فإن مضى الحسن فإلى الحسين ، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي . شهد الله على ذلك ، والمقداد بن الأسود ، والزبير بن العوام . وكتب علي بن أبي طالب .
ثم أضاف الله تعالى إلى ملكية رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الفئ في قوله تعالى : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ) .
قال الصنعاني في سبل السلام ( 4 / 147 ) : ( كانت لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاث صفايا : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك ) .
وفي صحيح بخاري ( 6 / 190 ) : ( عن عمرأن النبي كان يبيع نخل بني النضير ( غلته )
--------------------------- 185 ---------------------------
ويحبس لأهله قوت سنتهم ) . ونخل بني النضير هو كل بساتينهم بعد إجلائهم .
وفي موطأ مالك ( 2 / 893 ) : ( أما يهود فدك ، فكان لهم نصف الثمر ، ونصف الأرض لأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض ) .
وفي صحيح بخاري ( 5 / 25 ) : ( عن عائشة أن فاطمة ( عليها السلام ) والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت النبي يقول : لا نورث ما تركنا صدقة ) .
وروى الطبري الشيعي في المسترشد / 502 : ( عن أبي سعيد الخدري : لما نزلت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، قال : يا فاطمة لك فدك . فهذه رواياتهم ، ثم يَجْرُونَ إلى العناد والى منع ابنة رسول الله حقها ، تعصباً على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذريته ! ولعمري لقد كان عمر بن عبد العزيز أعرف بحقها حين رد إلى محمد بن علي ( عليه السلام ) فدكاً فقيل له : طعنتَ على الشيخين ! فقال : هما طعنا على أنفسهما ) .
نفقات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
اشترى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مكان مسجده وبيته في المدينة وبناهما ، مما بقي عنده من أموال خديجة ( عليها السلام ) . ثم جاء تشريع الأنفال والخمس الذي جعله الله ملكاً للنبي وعترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حيث نزلت سورة الأنفال بعد بدر : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وعيَّنَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أميناً للأخماس الخاصة ببني هاشم ، هو الصحابي مَحْمِيَّة بن جُزء . ( مسلم : 3 / 119 ) .
وكان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يباري الريح سخاءً وعطاءً ، كما وصفه عمه العباس ، ولا يرى للدنيا قيمة .
ففي الكافي ( 2 / 134 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما لي وللدنيا ! إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رُفعت له شجرةٌ في يوم صائف ، فقالَ ( من القيلولة ) تحتها ، ثم راح وتركها ) .
ومع موارده الواسعة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تُوفي مديوناً ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 236 ) : ( لما حضرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) فقال للعباس : يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟
--------------------------- 186 ---------------------------
فرد عليه فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، إني شيخ كثير العيال قليل المال ، من يطيقك وأنت تباري الريح ؟ ! قال : فأطرق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هنيئة ، ثم قال : يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال : بأبي أنت وأمي شيخ كثيرالعيال قليل المال ، وأنت تباري الريح !
قال : أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ! ثم قال : يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال : نعم بأبي أنت وأمي . قال : ذاك علي وليي ، قال فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال : تختَّم بهذا في حياتي ، قال : فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم . ثم صاح يا بلال عليَّ بالمغفر والدرع والراية والقميص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضيب . قال : فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك ، يعني الأبرقة فجيئ بشقة كادت تخطف الأبصار ، فإذا هي من أبرق الجنة فقال : يا علي إن جبرئيل أتاني بها وقال : يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستذفر بها مكان المنطقة ، ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً ، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف ، والقميصين : القميص الذي أسري به فيه ، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد ، والقلانس الثلاث : قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين والجُمَع ، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه ، ثم قال : يا بلال عليَّ بالبغلتين : الشهباء والدلدل ، والناقتين : العضباء والقصوى ، والفرسين : الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وحيزوم هو الذي كان يقول : أقدم حيزوم ، والحمار عفير ، فقال : إقبضها في حياتي .
فذكرأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن أول شئ من الدواب توفي عفير ، ساعة قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قطع خطامه ثم مر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء ، فرمى بنفسه فيها فكانت قبره ) !
وفي رواية المفيد الإرشاد ( 1 / 185 ) : ( فجئ بها إليه فدفعها إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال له : إمض بها على اسم الله إلى منزلك ) .
أقول : أخرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمه العباس من وصيته على أعين الناس ، لئلا ينازع علياً ( عليه السلام ) في
--------------------------- 187 ---------------------------
ولاية صدقاته وغيرها ، ومع ذلك نازعوه ! وقد قضى علي ( عليه السلام ) ديون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونفذ عداته للناس ، ومنها وعود بأموال جزيلة ، ومنها وعد بمئة ناقة .
كان علي يعيش مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانت نفقته منه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) :
لما نزله قوله تعالى : وأنذرْ عَشِيرَتَك الأقْرَبِين ، جمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بني هاشم ودعاهم إلى الإسلام ، وطلب منهم شخصاً يتفرغ معه للدعوة إلى الإسلام ، ويكون أخاه ووزيره ووصيه وخليفته ، فتقدم علي ( عليه السلام ) فأعلنه بأمر ربه أخاً ووزيراً ووصياً وخليفة ، ومن يومها تفرغ للعمل مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولم يعمل في كسب رزقه ، وتكفل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصارفه وحاجاته .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( الخصال / 371 ) : ( لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة ، أحدٌ آنس به أو أعتمد عليه ، أو أستنيم إليه ، أو أتقرب به ، غير رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، هو رباني صغيراً ، وبوأني كبيراً ، وكفاني العيلة ، وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ، ووقاني المكسب ، وعال لي النفس والولد والأهل .
هذا في تصاريف أمر الدنيا ، مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحق عند الله عز وجل ، فنزل بي من وفاة رسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوي على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام ، والقول والإسماع ، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب ، بين مُعَزٍّ يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم ، جازع لجزعهم ، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت ، والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه ووضعه في حفرته ، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ، ولا هائج زفرة ، ولا لاذع حرقة ، ولاجزيل مصيبة ، حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عز وجل ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علي ، وبلغت منه الذي أمرني به ، واحتملته صابراً محتسباً ) .
--------------------------- 188 ---------------------------
ورث علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مالية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصادرتها السلطة :
أجمع المسلمون على أن الله تعالى جعل للنبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ميزانية خاصة ، ومنعهم أن يأخذوا من الزكاة كعامة الناس ، تشريفاً لهم وتوسعة عليهم ! وهذا تمييز واضح لهم عن المسلمين ، وقد شدد الله فيه فحرم عليهم أن يأكلوا حتى تمرة واحدة من أموال الصدقات ، لأنها أوساخ الناس !
وطبيعي أن يعترض غير المسلم على هذا التمييز الطبقي ، لكن المؤمن يراه شبيهاً بتمييز ملكة النحل في غذائها عن بقية النحل !
روى البخاري ( 2 / 135 ) : ( أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي : كِخْ كِخْ ، ليطرحها ! ثم قال : أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ) و : 4 / 36 ، ومسلم : 3 / 117 ، والبيهقي : 7 / 29 ، وفي أحمد : 2 / 279 : فأدخل النبي يده فانتزعها منه ثم قال : أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد ! والدارمي : 1 / 386 ، والزوائد : 1 / 284 .
وفي مناقب ابن المغازلي / 317 : ( عن أبي هريرة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أُتِيَ بتَمر من تَمر الصدقة ، ومعه الحسن بن علي فقسم التمر فتناول الحسنُ تمرةً فأدخلها فاه ورسول الله لا يراه ، فلما نظر إليه قال له : كِخْ كِخْ ! وأخْرَجَها مِن فِيهِ ، وقال : إن السيد لا يأكل الصدقة ) . وفي هامشه : أخرجه الإمام ابن حنبل في مسنده ( 2 / 348 ) وأخرجه بهذا السند واللفظ في : 2 / 408 و 444 . وقد حذوفوا منه لفظ : السيد !
وفي عمدة القاري بشرح البخاري ( 9 / 87 ) : ( وقد ذكرنا الحكمة في تحريمها عليهم أنها مطهرة للمُلَّاك ولأموالهم ، قال تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ، فهي كغسالة الأوساخ ، وأن آل محمد منزهون عن أوساخ الناس وغسالاتهم ) .
وفي شرح ابن قدامة ( 2 / 711 ) : ( لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة لقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس ! ولأن منعهم من الزكاة لشرفهم ، وشرفهم باق ، فيبقى المنع ) .
وفي مجموع النووي ( 4 / 436 ) : ( كخ كخ : أي ألقها كما يمنعه من شرب الخمر والزنا وغيرهما ) !
--------------------------- 189 ---------------------------
وفي نيل الأوطار ( 2 / 244 ) أنهم أعطوا لعائشة من الصدقة فأقره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ،
ثم قال : ذكر ابن المنير أنها لا تحرم الصدقة على الأزواج ، قولاً واحداً ) .
وقال النووي في شرح مسلم ( 7 / 175 ) : ( قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما علمت أنا لا نأكل الصدقة ! هذه اللفظة تقال في الشئ الواضح التحريم ونحوه ، وإن لم يكن المخاطب عالماً به ، وتقديره : عجبٌ كيف خفي عليك هذا مع ظهورتحريم الزكاة على النبي وعلى آله . .
قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنما هي أوساخ الناس تنبيهٌ على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب ، وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ ، ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم ، كما قال تعالى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ، فهي كغسالة الأوساخ ) .
ورووا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يتحفظ من أكل الصدقة كما يتحفظ من الشيء النجس !
قال في المغني ( 2 / 522 ) : ( قال أبو هريرة : كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا أتيَ بطعام سأل عنه فإن قيل صدقة قال لأصحابه كلوا ولم يأكل ، وإن قيل له هدية ، ضرب بيده فأكل معهم . أخرجه البخاري . وقال ( عليه السلام ) : إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي في بيتي فأرفعها لآكلها ، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها ! لأن النبي كان أشرف الخلق ، وكان له من المغانم خمس الخمس والصُّفَى ) .
وفي فقه السنة ( 1 / 400 ) : ( كما حرم رسول الله الصدقة على بني هاشم ، حرمها كذلك على مواليهم ) .
نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يجوز أن يأكلن من الصدقات !
لم يَشمل حكم تحريم الصدقة وتشريع الخمس نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقد أجاز الله لهن أن يأكلن منها ، أما للنبي وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهو : ( كِخْ كخ ) !
واستدل عليه فقهاء المذاهب بأن أبا رافع مولى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أراد الاستفادة من الصدقات ، فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( إن الصدقة لا تحل لنا ، وإن مولى القول منهم ) .
--------------------------- 190 ---------------------------
( النسائي : 5 / 107 ، والكبرى : 2 / 58 ، والبيهقي : 2 / 151 و : 7 / 32 ، وابن أبي شيبة : 8 / 431 ،
والمحلى : 6 / 147 ) .
وفي المقابل : أُتيَ للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بلحم تصدقوا به على بريرة مولاة عائشة ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنه يحل لها صدقة ويحل له كهدية منها ! فأقر الصدقة على موالي أزواجه ، ومعناه تحليل الصدقة على أزواجه لأن مولى القوم منهم ! ( مسند أحمد : 3 / 117 ، و : 3 / 180 ، و : 6 / 115 ، وصحيح بخاري : 2 / 135 ، و 136 وفتح الباري : 12 / 41 ، والمحلى : 6 / 107 ، وعمدة القاري : 9 / 79 ، وأورد نهي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مولى علي ( عليه السلام ) أن يأكل الصدقة ) .
أما مصادرنا فروته مفصلاً ، كالكافي ( 4 / 58 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ، ولكني قد وعدت الشفاعة . . فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة ، أتروني مؤثراً عليكم غيركم ) .
كما نصت أحاديثنا على أن الصدقة حرام على كل بني هاشم ، لكن آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصطلح خصصه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعلي وفاطمة والحسنين ( عليهم السلام ) وتسعة من ذريته . كالذي رواه في كفاية الأثر / 89 : ( عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي . فقلنا يا رسول الله صلى الله عليك ، ومن آلك من أهل بيتك ؟ قال : أهل بيتي عترتي من لحمي ودمي ، هم الأئمة بعدي ، عدد نقباء بني إسرائيل ) .
شدد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع على ترفع أهل بيته ( عليهم السلام ) عن الصدقات :
ففي مسند أحمد ( 4 / 186 ) : ( قال ليث في حديثه : خطبنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وَبْرَةً من كاهل ناقته فقال : ولا ما يساوي هذه أو ما يزن هذه ! لعن الله من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه . الولد للفراش وللعاهر الحجر ) . وعبد الرزاق ( 9 / 48 ) .
أقول : إن تشريع الخمس لأهل بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتحريم أموال الدولة عليهم ، ولعن من كم ىتولاهم ، من عجائب تشريعات الله تعالى ، لقوم يعقلون .
--------------------------- 191 ---------------------------
أين صارت مالية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد وفاته ؟
أراد الله تعالى من تشريع الخمس أن يُظهر مقام عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن لهم صفو أموال الأرض يتصرفون بها ، وأنهم مأمونون لا يُخاف منهم الظلم والحيف . ولذلك كانت ملكية الإمام ( عليه السلام ) أعظم الملكيات الأربع في الإسلام : ملكية المسلمين ، وملكية الدولة وملكية الأفراد ، ليوازن الإمام من ملكيته بين الملكيات ، ويحفظ دورة الإقتصاد .
وقد أراد الله تعالى أن يكون لهم مصدر مالي يساعدهم على أداء واجبهم إذا حكموا ، وعلى أداء دورهم إذا أقصتهم الأمة عن الحكم ! فأول ما فعله أبو بكر وعمر بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن حرمهم سهمهم الذي فرضه الله ، ثم صادروا أموالهم ، وعملوا لإفقارهم ! أخذوا منهم فدكاً وخيبر وبني النضير ، ولم يسلم لهم إلا بساتين مخيريق كانت بيد فاطمة ( عليها السلام ) .
قال عمر : ( لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله ؟ قال : نحن أحق الناس برسول الله . قال فقلت : والذي بخيبر ؟ قال والذي بخيبر . قلت : والذي بفدك ؟ قال : والذي بفدك . فقلت : أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير ، فلا ) . ( مجمع الزوائد : 9 / 39 ) .
( عن ابن أبي ليلى قال : سألت علياً عن الخمس فقال : إن الله حرم علينا الصدقة وعوضنا منها الخمس ، فأعطانيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى توفاه الله ، ثم أعطانيه أبو بكر حتى مات ، ثم أعطانيه عمر حتى كان فتح السوس ) . ( كنز العمال : 4 / 519 ) .
وفي جامع أحاديث الشيعة ( 8 / 622 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : لما وليَ أبو بكر قال له عمر : إن الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها ، فامنع عن علي الخمس والفئ وفدكاً ، فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا علياً رغبة في الدنيا ) .
وكان عمر متشدداً في مصادرة أموال علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإفقارهما ، قال إن لهم حق الأكل منها ونحن نطعمهم ! ولما قالوا إن الله جعل لرسوله ( عليه السلام ) ما لم يوجف عليها
--------------------------- 192 ---------------------------
بخيل ولا ركاب ، قال لفاطمة بخشونة : ( هذا ( أي رقبته ) لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب ؟ فضعي الحبال في رقابنا ) !
ففي الكافي ( 1 / 543 ) : ( لما ورد أبو الحسن موسى ( الكاظم ( عليه السلام ) ) على المهدي رآه يرد المظالم فقال : يا أمير المؤمنين ، ما بال مظلمتنا لا ترد ؟ فقال له : وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال : إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدك وما والاها ، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأنزل الله على نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّه ، فلم يدر رسول الله من هم ، فراجع في ذلك جبرئيل ، وراجع جبرئيل ( عليه السلام ) ربه فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة ( عليها السلام ) ، فدعاها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال لها : يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك ، فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك . فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاء ها ، فأتته فسألته أن يردها عليها فقال لها : إئتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك ، فجاءت بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأم أيمن فشهدا لها فكتب لها بترك التعرض ، فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر فقال : ما هذا معك يا بنت محمد ؟ قالت : كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة ، قال : أرينيه فأبت ، فانتزعه من يدها ونظر فيه ، ثم تفل فيه ومحاه وخرقه ، فقال لها : هذا ( رقبته ) لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب ؟ فضعي الحبال في رقابنا ) !
وفي سنن النسائي ( 7 / 129 ) أن نجدة رئيس الخوارج كتب إلى ابن عباس يسأله عن الخمس فأجابه : ( كتبت تسألني عن سهم ذي القربى لمن هو ؟ وهو لنا أهل البيت وقد كان عمر دعانا إلى أن يُنكح منه أيِّمنا ، ويخدم منه عائلنا ، ويقضي منه عن غارمنا ، فأبينا إلا أن يُسلمه لنا ، وأبى ذلك ، فتركناه عليه ) . وفي سنن البيهقي : 6 / 345 ، وسننه الكبرى : 3 / 44 ، وابن أبي شيبة : 7 / 699 ، وأبو يعلى : 4 / 423 .
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه : الخطط السياسية لتوحيد الأمة / 261 : ( ومن المثير للإنتباه حسب تحليل هذه البطون أن آية المباهلة الواردة في القرآن الكريم وتطبيقها العملي أمام الصحابة ، حصرت الأبناء والنساء والأنفس بمحمد وعلي وفاطمة وحسن وحسين فقط ! وتلك إشارة ضوء صارخة تعكس نوايا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتعكس توجه
--------------------------- 193 ---------------------------
الترتيبات الإلهية . والأخطر من ذلك : إعلان النبي أن من والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم فقد عادى الله !
ليس هذا فحسب ، بل إن النبي يعلن بأن البطن الهاشمي هو خير بطون الأرض وأن بيت عبد المطلب هو خير بيوت بني البشر ، ثم يضع الكساء على الأبناء والنساء والأنفس ويتلو قول الله تعالى : إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ، ثم يعلن النبي بعد ذلك أن هؤلاء هم أهل بيته !
والأشد خطورة من الجميع : أن النبي قد أعلن بأن الصدقات لا تجوز على آل محمد ، وأن لهم حقاً معلوماً في موارد الدولة وهو خمس الخمس .
ثم إن القرآن طلب من النبي أن يعلن بأنه لا يسأل الناس أجراً على هدايته لهم وإنقاذهم ، إلا المودة في القربى . . إلخ .
ثم عدَّد المحامي الأردني أعمال تحالف طلقاء قريش ضد أهل البيت ( عليهم السلام ) فقال في / 268 : ( الورقة الخامسة : تدمير القاعدة الاقتصادية لبني هاشم وتتبيعهم للدولة ! لقد حرم الله الصدقة على أهل البيت ، وخصص لهم جزءاً ثابتاً من موارد الدولة وهو خمس الخمس ، ليضمن لهم الاستقلال الاقتصادي وعدم التبعية الاقتصادية لأحد لأنهم قيادة الأمة ، وفرض هذا الحق في آية محكمة ، ولما آلت الأمور إلى بطون قريش ألغوا هذا الحق تماماً ، وصار أهل البيت يسألون الحاكم عطاءه كما يسأله عامة الناس ، ولم تكتف البطون بذلك إنما أوجدت قاعدة ( الأنبياء لا يُوَرِّثُون ) فحرموا أهل البيت من تركة النبي ، حتى أن العطاءات والمنح التي أعطاها النبي للمسلمين ، أو أقطعها لغير أهل البيت بقيت على حالها ، أما المنح والعطاءات التي أعطاها النبي لأهل البيت فقد صادرتها البطون ! وقصة الزهراء وفدك خير دليل على ذلك .
وهكذا تحطم الهاشميون من الناحية الاقتصادية ، وتُركوا عالة على الدولة ورُهناء من الناحية الاقتصادية بمشيئة الحاكم ، إن شاء وصلهم وإن شاء قطعهم ) !
أقول : لم يكتفِ زعماء بطون قريش بعزل عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سياسياً ، وإفقارهم اقتصادياً ، بل عملوا لعزلهم اجتماعياً عزلاً تاماً ! ففي الكافي ( 8 / 156 ) عن الإمام
--------------------------- 194 ---------------------------
الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ( كانت امرأة من الأنصار تودنا أهل البيت وتكثر التعاهد لنا ، وإن عمر بن الخطاب لقيها ذات يوم وهي تريدنا فقال لها : أين تذهبين يا عجوز الأنصار ؟ فقالت : أذهب إلى آل محمد أسلم عليهم وأجدد بهم عهداً ، وأقضي حقهم ، فقال لها عمر : ويلك ليس لهم اليوم حق عليك ولا علينا ، إنما كان لهم حق على عهد رسول الله ، فأما اليوم فليس لهم حق ، فانصرفي ! فانصرفت حتى أتت أم سلمة فقالت لها أم سلمة : ماذا أبطأ بك عنا ؟ فقالت : إني لقيت عمر بن الخطاب وأخبرتها بما قالت لعمر وما قال لها عمر ، فقالت لها أم سلمة : كَذِبَ ، لا يزال حق آل محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واجباً على المسلمين إلى يوم القيامة ) .
وقد عمل معاوية كالذين قبله لإفقار بني هاشم ، فنقض الشروط المالية في صلحه مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، واستولى على ما استطاع من ماليتهم
أوقاف النبي وفاطمة وأوقاف علي ( عليهم السلام ) وكمثال على ذلك ، أمر معاوية ابن أخيه والي المدينة بالسيطرة على أملاك للحسين ( عليه السلام ) !
ففي تاريخ دمشق ( 63 / 210 ) : ( تنازع الحسين بن علي والوليد بن عتبة بن أبي سفيان في أرض ، والوليد يومئذ أمير على المدينة ، فبينا حسين ينازعه إذ تناول عمامة الوليد عن رأسه فجذبها ! فقال مروان بن الحكم وكان حاضراً : إنا لله ما رأيت كاليوم جرأة رجل على أميره ! قال الوليد : ليس ذاك بك ولكنك حسدتني على حلمي عنه ! فقال حسين : الأرض لك ! اشهدوا أنها له ) .
لكن الوليد اعترف بأن الأرض كانت للحسين ( عليه السلام ) وأراد أن يغصبها !
ففي مناقب آل أبي طالب ( 3 / 224 ) : ( فقال الوليد : وإنما كانت الضيعة له ! فقال الحسين : الضيعة لك يا وليد ، وقام ) .
ثم حاول معاوية وابن أخيه الوليد والي المدينة مصادرة بساتين ينبع ، وضيعتين لعلي في وادي القرى ، حتى هددهم الحسين ( عليه السلام ) بحلف الفضول ، فسكتوا عنه !
وقد صاغ بخاري ( 5 / 23 ) ومسلم ( 5 / 151 ) مسألة أوقاف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشكل يرفع المسؤولية عن السلطة ويضعها على عاتق علي ( عليه السلام ) والعباس ، فزعم أنهما طالبا بها أبا بكر
--------------------------- 195 ---------------------------
واتَّهَمَاهُ بأنه ( كاذبٌ آثمٌ غادرٌ خائن ) ! فلم يعطهما إياها .
ثم طالبا بها عمر فأعطاهما إياها ، على أن يعملا فيها كما كان يعمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيأخذا منها نفقاتهما ويصرفا الباقي في مصالح المسلمين ، فاختلف العباس وعلي وتشاتما وجاءا إلى عمر يختصمان ! فقال لهما عمر حسب رواية مسلم : طالبتما أبا بكر : ( فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبو بكر وأنا وليُّ رسول الله ووليُّ أبيبكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق ) .
ورفض أن يحكم بينهما ، وقال لهما إما أن تتفقا وتعملا فيها كما كان يعمل النبي ، أو تردَّاها اليَّ لأعمل ذلك !
ثم قال بخاري : ( فكانت هذه الصدقة بيد علي ، منعها علي عباساً فغلبه عليها ! ثم كانت بيد حسن بن علي ، ثم بيد حسين بن علي ، ثم بيد علي بن حسين وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ) .
أقول : كتب بخاري ومسلم ذلك في عصر العباسيين ، وغرضهما تبرئة أبيبكر وعمر من مصادرة أوقاف النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأن يقولا إن متوليها العباس وعلي ، فظلمه عليٌّ وغلبه عليها وشتمه ! فيحق لأولاد العباس أخذها ، وقد رووا هم أن العباس لم يرض أن يأخذها من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مقابل ديونه !
قال ابن حجر في فتح الباري ( 6 / 145 ) : ( الصدقة المذكورة اليوم بيد الخليفة يكتب في عهده فيولي عليها من قبله من يقبضها ، ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة . قلت : كان ذلك على رأس المائتين ، ثم تغيرت الأمور ، والله المستعان ) .
مقابل خطط السلطة قام علي ( عليه السلام ) بتنمية ماليته ، فبارك الله فيها :
قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ( 1 / 221 ) : ( لما أشرف علي رضي الله عنه على ينبع فنظر إلى جبالها قال : لقد وُضِعَتْ على نقيٍّ من الماء عظيم ) .
ومعناه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان خبيراً بأماكن المياه الجوفية ، وغزارتها ، وعذوبتها .
وقد عدَّد عمر ابن شبَّة العيون التي استنبطها والبساتين التي أنشأها ، فقال ( 1 / 219 ) :
--------------------------- 196 ---------------------------
( صدقات علي بن أبي طالب رضي الله عنه : نزل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد علي بالمنجار ، وهو موضع بين حوزة السفلى وبين منحوين ، على طريق التجار في الشام ، حين بعثهما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يترقبان له عن عير أبي سفيان ، فنزلا على كَشَد ( الجهني ) فأجارهما ، فلما أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينبع قطعها لكشد فقال : يا رسول الله إني كبير ، ولكن أقطعها لابن أخي فقطعها له فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري بثلاثين ألف درهم ، فخرج عبد الرحمن إليها فرمى بها وأصابه سافيها وريحها فقَذِرَها ، وأقبل راجعاً فلحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمنزلة ، وهي بلية دون ينبع فقال : من أين جئت ؟ فقال من ينبع وقد شنئتها ، فهل لك أن تبتاعها ؟ قال علي : قد أخذتها بالثمن ، قال : هي لك . فخرج إليها علي رضي الله عنه ، فكان أول شئ عمله فيها البغيبغة وأنفذها . .
عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : بشر علي رضي الله عنه بالبغيبغة حين ظهرت فقال : بشر الوارث . ثم قال : هي صدقة على المساكين وابن السبيل وذي الحاجة الأقرب . . ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وأبناء السبيل القريب والبعيد ، في السلم والحرب ، ليوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه ، ليصرف الله بها وجهي عن النار ، ويصرف النار عن وجهي .
عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما في حديث ساقه ، قال : وكانت أموال علي رضي الله عنه عيوناً متفرقة بينبع ، منها عين يقال لها عين البحير ، وعين يقال لها عين أبي نيزر ( ابن النجاشي ) وعين يقال لها عين نولا ، وهي اليوم تدعي العدر ، وهي التي يقال لها إن علياً رضي الله عنه عمل فيها بيده ، وفيها مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متوجهه إلى ذي العشيرة يتلقى عير قريش .
وفي هذه العيون أشراب بأيدي أقوام ، زعم بعض الناس أن ولاة الصدقة أعطوهم إياها ، وزعم الذين هي بأيديهم أنها ملك لهم ، إلا عين نولا فإنها خالصة ، إلا نخلات فيها بيد امرأة يقال لها بنت يعلى ، مولى علي بن أبي طالب . وعمل علي رضي الله عنه أيضاً بينبع البغيبغات ، وهي عيون منها عين يقال لها : خيف الأراك ، ومنها عين يقال
--------------------------- 197 ---------------------------
لها خيف ليلى ، ومنها يقال لها خيف بسطاس ، فيها خليج من النخل مع العين . وكانت البغيبغات مما عمل علي رضي الله عنه وتصدق به ، فلم تزل في صدقاته حتى أعطاها حسين بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب . . فأقامت في صدقته حتى قبضها أبو جعفر في خلافته ، وكلم فيها الحسن بن زيد المهدي حين استخلف وأخبرته خبرها ، فكتب إلى زفر بن عاصم الهلالي ، وهو والي المدينة ، فردها مع صدقات علي رضي الله عنه .
ولعلي رضي الله عنه أيضاً ساقي على عين يقال لها عين الحدث ، بينبع . وأشرك على عين يقال لها العصبية موات بينبع . وكان له أيضاً صدقات بالمدينة : الفقيرين بالعالية ، وبئر الملك بقناة ، والأدبية بالأُضم . .
ولعلي رضي الله عنه في صدقاته : عين ناقة بوادي القرى ، وعين يقال لها : عين حين بالبيرة من العلا . . وله بوادي القرى أيضاً : عين موات . . ولعلي رضي الله عنه أيضاً : حق على عين سكر . وله أيضاً : ساقي على عين بالبيرة وهو في الصدقة .
وله : بحرة الرجلاء من ناحية شعب زيد واد يدعي الأحمر ، شطره في الصدقة ، وشطره بأيدي آل مناع من بني عدي ، منحة من علي ، وكان كله بأيديهم حتى خاصمهم فيه حمزة بن حسن ، فأخذ منهم نصفه .
وله أيضاً : بحرة الرجلاء ، واد يقال له البيضاء فيه مزارع وعفا وهو في صدقته . وله أيضاً : بحرة الرجلاء أربع آبار ، يقال لها : ذات كمات ، وذوات العشراء وقعين ، ومعيد ، ورعوان ، فهذه الآبُر في صدقته .
وله بناحية فدك : واد بين لابتي حرة يدعى رعية ، فيه نخل ووشل من ماء يجري على سقا بزرنوق ، فذلك في صدقته .
وله أيضاً : بناحية فدك واد يقال له الأسحن ، وبنو فزارة تدعي فيه ملكاً ومقاماً وهو اليوم في أيدي ولاة الصدقة في الصدقة .
وله أيضاً : ناحية فدك مال بأعلى حرة الرجلاء ، يقال له القصيبة . .
قال أبو غسان ( هو المؤلف ابن شبَّه ) : وهذه نسخة كتاب صدقة علي بن أبي طالب
--------------------------- 198 ---------------------------
رضي الله عنه حرفاً بحرف ، نسختها على نقصان هجائها وصورة كتابها ، أخذتها من أبي ، أخذها من حسن بن زيد :
بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أمر به وقضى به في ماله عبد الله علي أمير المؤمنين ، ابتغاء وجه الله ليولجني الله به الجنة ، ويصرفني عن النار ، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .
أن ما كان لي بينبع من ماء يعرف لي فيها وما حوله صدقة ورقيقها ، غير أن رباحاً وأبا نيزر وجبير أعتقناهم ليس لأحد عليهم سبيل ، وهم موالي يعملون في الماء خمس حجج ، وفيه نفقتهم ورزقهم ورزق أهليهم . ومع ذلك ما كان بوادي القرى ، ثلثه مال ابني قطيعة ، ورقيقها صدقة ، وما كان لي بواد ترعة وأهلها صدقة ، غير أي زريقاً له مثل ما كتبت لأصحابه . وما كان لي بإذنية وأهلها صدقة . والفُقَيْر لي كما قد علمتم صدقة في سبيل الله .
وأن الذي كتبت من أموالي هذه صدقة وجب فعله ، حياً أنا أو ميتاً ، ينفق في كل نفقة ابتغى به وجه الله من سبيل الله ، ووجهه وذوي الرحم من بني هاشم ، وبني المطلب والقريب والبعيد ، وأنه يقوم على ذلك حسن بن علي ، يأكل منه بالمعروف وينفق حيث يريه الله في حل محلل لاحرج عليه فيه ، وإن أراد أن يندمل من الصدقة مكان ما فاته ، يفعل إن شاء الله لاحرج عليه فيه ، وإن أراد أن يبيع من الماء فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لاحرج عليه فيه ، وإن شاء جعله يسير إلى ملك ، وإن ولد علي وما لهم إلى حسن بن علي ، وإن كان دار حسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها ، فإنه يبيع إن شاء لا حرج عليه فيه ، فإن يبع فإنه يقسم منها ثلاثة أثلاث ، فيجعل ثلثه في سبيل الله ، ويجعل ثلثه في بني هاشم وبني المطلب ، ويجعل ثلثه في آل أبي طالب ، وأنه يضعه منهم حيث يريه الله . وإن حدث بحسن حدث وحسين حي ، فإنه إلى حسين بن علي ، وأن حسين بن علي يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسناً ، له منها مثل الذي كتبت لحسن منها ، وعليه فيها مثل الذي على حسن ، وإن لبني فاطمة ( عليها السلام ) من صدقة علي مثل الذي لبني علي ، وإني إنما جعلت الذي جعلت إلى ابني فاطمة ( عليها السلام ) ابتغاء وجه
--------------------------- 199 ---------------------------
الله ، وتكريم حرمة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتعظيماً وتشريفاً ورجاء بهما ، فإن حدث لحسن أو حسين حدث ، فإن الآخر منهما ينظر في بني علي ، فإن وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته فإنه يجعله إن شاء ، وإن لم ير فيهم بعض الذي يريد ، فإنه يجعله إلى رجل من ولد أبي طالب يرضاه ، فإن وجد آل أبي طالب يومئذ قد ذهب كبيرهم وذووا رأيهم وذووا أمرهم ، فإنه يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم ، وإنه يشترط على الذي يجعله إليه أن ينزل الماء على أصوله ينفق تمره حيث أمر به من سبيل الله ووجهه ، وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطلب ، والقريب والبعيد لايبع منه شئ ولا يوهب ولا يورث ، وإن مال محمد على ناحية ، ومال ابني فاطمة ومال فاطمة إلى ابني فاطمة ( عليها السلام ) . وإن رقيقي الذين في صحيفة حمزة الذي كتب لي ، عتقاء .
فهذا ما قضى عبد الله علي أمير المؤمنين في أمواله هذه الغد من يوم قدم مكر ، ابتغي وجه الله والدار الآخرة ، والله المستعان على كل حال .
ولا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شئ قبضته في مال ، ولا يخالف فيه عن أمري الذي أمرت به عن قريب ولا بعيد .
فهذا ما قضى به عبد الله علي أمير المؤمنين . . شهد أبوشمر بن أبرهة ، وصعصعة بن صوحان ، ويزيد بن قيس ، وهياج بن أبي هياج . وكتب عبد الله علي أمير المؤمنين بيده لعشرة خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين ) .
أقول : في الكافي ( 7 / 50 ) : ( هذا ما قضى به علي بن أبي طالب في أمواله هذه الغد ، من يوم قدم مسكن بدل مَكر ) ومسكن موضع في الكوفة على الفرات . فالمقصود به نفوذ وقفيته من ذلك اليوم . وفي هذه الأملاك تفاصيل ذكرها ابن شبة وغيره ، لا يتسع لها المجال .
وفي الكافي ( 7 / 54 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( قسَّم نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الفئ فأصاب علياً ( عليه السلام ) أرضاً فاحتفر فيها عيناً فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير ، فسماها يَنْبُع ، فجاء البشير يبشرفقال ( عليه السلام ) : بشِّر الوارث ، هي صدقة بَتَّةٌ بَتْلاً ،
--------------------------- 200 ---------------------------
في حجيج بيت الله وعابري سبيل الله ، لاتباع ولا توهب ولاتورث ، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) .
وفي مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان ( 2 / 81 ) : ( كان أبونيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم فرغب في الإسلام فأتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكان معه ، فلما توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صار مع فاطمة وولدها رحمة الله عليهم .
قال أبونيزر : جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين عين أبي نيزر والبغيبغة فقال : هل عندك من طعام ؟ فقلت : عندنا طعام لا أرضاه لك ، قّرْعٌ من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة ( بسمْن غير جيد - لسان العرب : 3 / 27 ) فقال : عليَّ به ، فقام إلى الربيع وهو الجدول ، فغسل يده فأصاب من ذلك شيئاً ، ثم رجع إلى الربيع فغسل يده بالرمل حتى أنقاها ثم ضم يديه كل واحدة إلى أختها ثم شرب بها حساً من الربيع ، ثم قال : يا أبا نيزر إن الأكف أنظف الآنية ثم مسح من ذلك الماء على بطنه ثم قال : من أدخله بطنه النار فأبعده الله ، ثم أخذ المعول وانحدر إلى العين فأقبل يضرب فيها وأبطأ عليه الماء ، فخرج وقد تفضخت جبهته عرقاً ، فاستشف العرق من جبينه ، ثم أخذ المعول وعاد إلى العين فأقبل يضرب فيها وجعل يهينم ، فانثالت كأنها عنق جزور فخرج مسرعاً فقال : أشهد الله أنها صدقة ، عليَّ بدواة وصحيفة ! قال أبونيزر : فعجلت بها إليه فكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله وجهي حرالنار يوم القيامة ، ولا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين ، إلا أن يحتاج الحسن أو الحسين فهما طلق لهما ليس لأحد غيرهما . قال أبونيزر : فركب الحسين دين فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مئتي ألف دينار فأبى الحسين أن يبيع وقال : إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار ) .
وفي معجم البلدان ( 1 / 469 ) إن أبا نيزر كان ابناً للنجاشي ملك الحبشة الذي هاجر إليه المسلمون لصُلبه ، وأن علياً وجده عند تاجر بمكة ، فاشتراه منه وأعتقه مكافأة بما صنع أبوه مع المسلمين . ونحوه الإصابة ( 7 / 343 ) وتخريج الدلالات للخزاعي / 567 .
--------------------------- 201 ---------------------------
ويدل هذا على أن علياً ( عليه السلام ) أنشأ بساتين في ينبع قبل أن يستنبط عين أبي نيزر ، وقد بلغت عيونها مائة عين ، ولعل بساتينها كانت أضعاف ذلك !
وكان علي ( عليه السلام ) يحدث بنعمة ربه . فقد روى الهيثمي في مجمع الزوائد ( 9 / 123 ) عن أحمد وصححه ، قال تحت عنوان : ( باب فيما بلغت صدقة ماله رضي الله عنه :
عن محمد بن كعب القرظي أن علياً قال : لقد رأيتني مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع ، وإن صدقة مالي لتبلغ أربعين ألف دينار ) .
ونحوه أسد الغابة : 4 / 23 ، والنهاية : 7 / 368 ، وتهذيب الأسماء : 1 / 317 ، والتراتيب الإدارية : 1 / 407 ، ومناقب ابن سليمان : 2 / 66 ، وحلية الأولياء : 1 / 86 ، وكنز العمال : 13 / 179 ،
والسيرة الحلبية : 2 / 473 . . .
ويحتمل أن يكون قصده ( عليه السلام ) أن وارد صدقاته أربعون ألف دينار ، أويقصد زكاة ماله أي العشر أو نصف العشر فيكون وارد ينبع وغيرها نحو أربع مئة ألف دينار ، وهو مبلغ ضخم يومها .
وقد كانت بساتين ينبع مئات آلاف أشجار النخيل ، فقد روى في مناقب آل أبي طالب ( 1 / 388 ) : ( قال له رجل ورأى عنده وَسَقٌ نَوَى : ما هذا يا أبا الحسن ؟ قال : مائة ألف نخلة إن شاء الله ، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة ! ووقف مالاً بخيبر وبوادي القرى . . وأخرج مائة عين بينبع جعلها للحجيج ، وهو باق إلى يومنا هذا ، وحفر آباراً في طريق مكة والكوفة ) .
وما زالت منطقة مسجد الشجرة تعرف باسم : آبار علي ( عليه السلام ) ، لأنه استنبط عيونها . ولم يملك أبو بكر ولا عمر حتى نصف ملكية علي ( عليه السلام ) .
وكان ( عليه السلام ) لا يأكل من بيت المال ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن علياً ( عليه السلام ) كان يؤتى بغَلَّة ماله من ينبع فيُصنع له منها الطعام ، يُثرد له الخبز والزيت وتمر العجوة ، فيجعل له منه ثريداً ، فيأكله ، ويطعم الناس الخبز واللحم ، وربما أكل اللحم ) . ( قرب الإسناد للحميري / 113 ) .
وفي نثر الدرر / 137 : ( قال الأحنف : دخلت على معاوية فقدم إليَّ من الحلو
--------------------------- 202 ---------------------------
والحامض ما كثر تعجبي منه ، ثم قدم لوناً ما أدري ما هو ، فقلت ما هذا ؟ قال : مصارين البط محشوة بمخاخ العصافير قد قليَ بدهن الفستق وذُرَّ عليه الطبرزد ، فبكيت ، فقال ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت علياً ، بينا أنا عنده فحضروقت إفطاره فسألني المقام ، إذ دعا بجراب مختوم ، قلت : ما في الجراب ؟ قال : سويق شعير ، قلت خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟ قال : لا ولا أحدهما ، ولكني خفت أن يَلِتَّهُ الحسن والحسين بسمن أو زيت . قلت : محرم هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس ، لئلا يٌطغي بالفقير فقره ! قال معاوية : ذكرتَ من لا ينكر فضله ) .
أي : ينبغي للحاكم أن يكون مأكله ومعيشته كفقراء شعبه ، فإن أراد رفع مستوى معيشته ، فليرفع مستواهم !
صارت يَنْبُع بلد علي وأهل البيت ( عليهم السلام ) :
فقد أسسها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان يتردد إليها ، ولما حاصرالمسلمون عثمان كانوا يهتفون باسم علي ( عليه السلام ) مطالبين بعزل عثمان ومبايعته مكانه ! فأرسل إليه عثمان أن يذهب إلى أرضه بينبع ، ويغيب عن المدينة حتى لا يهتف الناس باسمه ، فذهب ! ثم أرسل إليه أن يأتي لمساعدته فأتى ، ثم أرسل إليه أن يذهب ثانية : ( إلى ماله بينبع ليقلَّ هَتْفُ الناس باسمه للخلافة ، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل ، فقال ( عليه السلام ) : يا ابن عباس ، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب أقبل وأدبر ! بعث إليَّ أن أخرج ، ثم بعث إلي أن أقدم ، ثم هوالآن يبعث إلي أن أخرج ! والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً ) ! ( نهج البلاغة : 2 / 233 ) .
ولكنه ( عليه السلام ) استجاب أخيراً وذهب إلى ينبع ، ثم أرسل له عثمان لما ضاق الأمر عليه أن يحضرلمساعدته . وروي أنه خرج في المرة الثانىة إلى ماله بوادي القرى .
ثم كانت ينبع بيد الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم بيد الأئمة من أولادهم ( عليهم السلام ) وبيد غير الأئمة من ذريتهم . وكثرت ذرية علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ينبع فكانوا فيها قبائل حسنية وحسينية ، وفيهم العلماء والحكام ، ولهم فيها تاريخ طويل في عصور الإسلام المختلفة ، وما زالت فيها منهم بقية ، بعد أن زال حكمهم ، واضطر أكثرهم إلى مغادرتها بعد
--------------------------- 203 ---------------------------
سيطرة الوهابيين . وينبُع اليوم من أهم موانئ الحجاز .
وقد تولى الإمام الحسن ( عليه السلام ) صدقات أبيه وأمه وما بقي من صدقات جده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد نمى الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مواردهما ، فكان للحسين ( عليه السلام ) عين تدعى بَجنَسْ ، باعها زين العابدين ( عليه السلام ) بعد كربلاء ليوفي دين أبيه ، وكان دينه بضعة وسبعين ألف دينار . ( مناقب آل أبي طالب : 3 / 285 ) .
تركة علي ( عليه السلام ) :
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لما قبض أمير المؤمنين قام الحسن بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مسجد الكوفة ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أيها الناس إنه قد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون ولا يدركه الآخرون ، إنه كان لصاحب راية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، عن يمينه جبرئيل وعن يساره ميكائيل ، لاينثني حتى يفتح الله له . والله ما ترك بيضاء ولا حمراء إلا سبع مائة درهم فضلت عن عطائه ، أراد أن يشتري بها خادماً لأهله . والله لقد قبض في الليلة التي فيها قبض وصي موسى يوشع بن نون ، والليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم ، والليلة التي نزل فيها القرآن ) . ( الكافي : 1 / 457 ) .
أقول : معناه أنه ( عليه السلام ) وهب كل ماليته في حياته ، أو أوقفها على ذريته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمحتاجين . وقد أرجع الإمام الحسن السبع مائة درهم إلى بىت المال ، بوصىه أبىه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 204 ---------------------------
مالية أبيبكر بن أبي قحافة
تقدم في مالية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما يدل على فقر أبيبكر وأبيه ، في الجاهلية والإسلام . قالت عائشة : « لما استخلف أبو بكر قال : قد علم قومي أن حرفتي لم تكن لتعجز عن مؤنة أهلي ، وقد شغلت بأمرالمسلمين فسيأكل آل أبيبكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه ! قالت : لما استخلف عمر بن الخطاب أكل هو وأهله من المال ، وأحترف في مال نفسه » . ( البيهقي : 10 / 107 ، و : 6 / 308 ) .
أي كانت كل نفقات أبيبكر وكل نفقات عمر من بيت المال ، وكان أبو بكر يتاجر لنفسه في مال بيت المال ، أما عمر فكان يأكل من بيت المال ويتاجر بماله الشخصي ، ويستقرض لتجارته من بيت المال ، فقد توفي وعليه لبيت المال ثمانون ألف درهم ، على عكس علي ( عليه السلام ) الذي كان يأكل من ماله ، ولا يأكل من بيت المال ، ولا يستقرض منه لمصرفه أو تجارته !
ويبدو أن عائشة أخفت ثروة أبيبكر بعد موته : ( عن عائشة قالت : والله ما ترك أبو بكر ديناراً ولا درهماً . ضرب الله سِكَّته ) . ( الطبقات : 3 / 195 ، وتاريخ الخلفاء / 94 ) .
تقصد أن الله أزال دراهمه فلم يوجد عنده ولا درهم ! وفي كتاب : ذم الكلام للأنصاري ( 4 / 293 ) أن الحسن البصري : ( سمع رجلاً يقول ما عنده درهم ، ضرب الله سكته ! فقال : أي لكع ، الله يضرب الدراهم ؟ ! ) .
ويؤكد ما قلناه أن أبا بكر أخذ قرضاً من بيت المال لم تعترف به عائشة ! فقد قال أبو بكر عند موته : ( وإني استسلفت من بيت المال مالاً ، فإذا مت فليبع حائطي في موضع كذا ، وليرد إلى بيت المال ) . ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 137 ) .
ولم يبع الورثة الحائط أي البستان ، ولا وفوا دين أبيبكر ولا عمر لبيت المال !
--------------------------- 205 ---------------------------
مالية عمر بن الخطاب
كان ينفق من بيت المال ويضارب بأمواله :
في تاريخ البخاري ( 5 / 442 ) : « عبيد الأنصاري : أعطاني عمر مالاً مضاربة » . « وقد بلغنا عن عمر بن الخطاب وعن عبد الله بن مسعود وعن عثمان بن عفان أنهم أعطوا مالاً مضاربة » . ( الأم للشافعي : 7 / 118 ، وفتاوى السبكي : 1 / 417 ) .
وكان له غلمان يتاجرون له ، وكان يعلمهم :
في تاريخ المدينة ( 2 / 748 ) أنه مرَّ على غلام له فقال له : « إذا نشرت ثوباً كبيراً فانشره وأنت قائم ، وإذا نشرت ثوباً صغيراً فانشره وأنت قاعد ، فقال أبو ذر : اتقوا الله يا آل عمر ! فقال عمر : إنه لا بأس أن تزين سلعتك بما فيها .
وعن أبي موسى الأشعري : قدمت على عمر بن الخطاب فخرجت معه إلى السوق ، فمر على غلام له رَطَّاب يبيع الرطبة فقال : كيف تبيع ؟ أُنْفُشْ فإنه أحسن للسوق ! ثم مر على غلام له يبيع البرود ، فقال : كيف تبيع ؟ » .
وكان يبيع ويشتري بنفسه ، ويماكس في المعاملة :
ففي لسان الميزان ( 2 / 320 ) : « عن أنس أن أعرابياً جاء بإبل يبيعها فساومه عمر ، وجعل عمر ينخس بعيراً بعيراً ، ثم يضربه برجله لينبعث البعير ، لينظركيف فؤاده ؟ فقال : خل عن إبلي لا أباً لك ، فلم ينته ، فقال : إني لأظنك رجل سوء ! فلما فرغ منها اشتراها ، قال : سقها وخذ أثمانها ، فقال الأعرابي : حتى أضع عنها أحلاسها وأقتابها ! فقال عمر : اشتريتها وهي عليها ، فقال الأعرابي أشهد أنك رجل سوء ! فبينما هما يتنازعان أقبل عليٌّ فقال عمر : ترضى بهذا الرجل بيني وبينك ؟ فقال : نعم فقصا عليه القصة فقال علي : يا أمير المؤمنين إنك إن اشترطت عليه أحلاسها وأقتابها فهي لك ، وإلا فالرجل يزين سلعته بأكثر من ثمنها » .
وكان عمر يفضل التجارة على الجهاد ، قال :
« لئن أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ، أحبُّ من أن أجاهد في سبيل الله ! فقيل يا أمير المؤمنين ولم قلتَ ؟ قال : لأن الله تعالى يقول في كتابه : وَآخَرُونَ
--------------------------- 206 ---------------------------
يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ . فقدم بالذكر من كان يضرب في الأرض لابتغاء فضل الله تعالى » . ( السير الكبير : 3 / 1012 ) .
ونهى المسلمين عن أكل البيض لأنه إسراف !
ففي تاريخ المدينة ( 3 / 796 ) أنه خطب على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : « أيها الناس أوفوا الطحين وأملكوا العجين ، وخير الطحين مَلْكُ العجين ( إعجنوه جيداً ) ولا تأكلوا البيض ، فإنما البيضة لقمة ، فإذا تركت كانت دجاجة ثُمْنَ درهم » !
يقصد أن الثمان بيضات بدرهم ، وهذا يدل على تفكيره الاقتصادي المفرط !
وكان يملك أراضيَ زراعية وبساتين :
في صحيح بخاري ( 3 / 68 ) : « وعامل عمرالناس على : إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر ، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا » .
وفي معجم البلدان ( 2 / 128 ) : « والجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام ، به كانت أموال لعمر بن الخطاب ) .
وفي معجم البلدان ( 2 / 84 ) : ثمغ : بالفتح ثم السكون والغين معجمة : موضع مال لعمر بن الخطاب ) .
قال في وفاء الوفا ( 2 / 1241 ) : « الشبعان ، كان من ضمن صدقات عمر » .
واختلف عمر مع أبيّ بن كعب على بستان نخل ! « حلف لأبيٍّ قال : والله الذي لا إله إلا هو إن النخل لنخلي ، وما لأبيٍّ فيها شئ » . ( المغني : 12 / 112 ، و 116 ) .
وضيعة ثَمَغ أعطاها له اليهود ، وكان يملك في خيبرمئة سهم من النخيل ، وهي غير سهمه الذي وصله من فتح خيبر .
ومع أن نفقاته من بيت المال ، فكان يستقرض منه :
روى البخاري ( 4 / 205 ) وصية عمر لابنه : « يا عبد الله بن عمرأنظر ماذا عليَّ من الدين ، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه ، قال : إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم ، وإلا فسل في بني عدي بن كعب ، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ، ولا تَعْدُهُم إلى غيرهم ، فأدِّ عني هذا المال ) .
--------------------------- 207 ---------------------------
وقال في فتح الباري ( 7 / 53 ) : « أنكر نافع مولى ابن عمرأن يكون على عمر دين ، فروى عمر بن شبة في كتاب المدينة بإسناد صحيح أن نافعاً قال : من أين يكون على عمر دين ، وقد باع رجل من ورثته ميراثه بمائة ألف ! وهذا لا ينفي أن يكون عند موته عليه دين ، فقد يكون الشخص كثير المال ولا يستلزم نفي الدين عنه » .
وقد أنكر ورثته دينه لبيت المال ، كما أنكر ورثة أبيبكر ، فلم يوفوا عنهما ما أقرا به !
وقال محمد بن جرير الطبري الشيعي في كتابه المسترشد / 523 : « ومما نقموا عليه : أخذه ثمانين ألف درهم من أموال المسلمين ، ثم أوصى ابنه عبد الله عند موته أن يكسر فيها ماله ويردها ، وقد قتل عثمان في أقل من هذا المقدار . ولا نعلم أحداً روى أن عبد الله ، قضى هذا المال ) !
وكان يعطي من يحبهم غنائم ثمىنة :
فقد جاؤوا بصندوق من الغنائم ( فلم يعرفوا قيمته ، فقال : أتأذنون أن أبعث به إلى عائشة لحب رسول الله إياها ، قالوا نعم . فأتي به عائشة فقالت : ماذا فُتح على ابن الخطاب بعد رسول الله ) . ( كنز العمال : 4 / 540 ) . وهو جواهر لكسرى .
وكانت عائشة تقول : ( زينوا مجالسكم بذكر عمر . . إذا ذكر عمر في المجلس حسن الحديث ) . ( كنز العمال : 12 / 588 ) . حتى قالت : ( أتيت في المنام فقيل لي : عمر بن الخطاب نبي هو ؟ فظننت أني دعوت بذلك ) . ( تاريخ المدينة : 3 / 942 ) .
مبلغ ثروة عمر بعد وفاته :
صحح ابن حجر أن أحد ورثة عمر باع سهمه بمئة ألف درهم . وكان لعمر ستة أبناء هم : عبد الله ، وعبد الرحمن ، وعبيد الله ، وعاصم ، وعياض ، وزيد . وست بنات هن : حفصة ، ورقية ، وفاطمة ، وصفية ، وزينب وأم الوليد . وكان له زوجات وجوار . ( النهاية : 7 / 156 ) .
فتكون ثروته مليوناً ونصف مليون درهم ، وهي ثروة كبيرة ، لأن قيمة الشاة كان أربعة أو خمسة دراهم ، وكانت ثمان دجاجات بدرهم !
لكن المتعصبين لعمر يخفون ثروته ، وىقولون أنه توفي وعليه ديْنٌ لبيت المال ! ولم ىرووا أن ورثته وفوادىنه !
--------------------------- 208 ---------------------------
مالية عثمان بن عفان
1 . ما أن تولى عثمان الخلافة حتى سلط أقاربه ومقربيه على أموال المسلمين وأبدانهم في كل البلاد ! وقد وصفهم علي ( عليه السلام ) فقال : ( إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث فتله وأجهز عليه عمله وكَبَت به بطنته ، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون عليَّ من كل جانب ) . ( نهج البلاغة : 1 / 37 ) .
ولما تمت البيعة لعثمان دخل بيته ودخل إليه بنو أمية : ( حتى امتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا ، قال : يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ، ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة ! قال : فانتهره عثمان ، وساءه بما قال ، وأمر بإخراجه ) . ( تاريخ أبي الفداء / 349 ) .
وكان أبو سفيان أعمى البصر والبصيرة فقال : خذوني إلى قبر حمزة ، حتى إذا لمسه بيده ركله برجله وقال : ( يا أبا عمارة ! إن الأمر الذي اجتلدنا عليه أمس ، صار في يد غلماننا يتلعَّبون به ) ! ( شرح النهج : 4 / 51 ) .
وفي النزاع والتخاصم لمعمر بن عقيل / 227 : ( ركل قبر حمزة برجله اقتداء بإبليس في ركله جسد آدم ( عليه السلام ) . وأراد بمخاطبته حمزة بقوله : إن الأمرالذي كنت تقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم ، مقابلة خطاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأصحاب قليب بدر بقوله : هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ، فإنا وجدنا ما وعد ربنا حقاً ) !
ولا تستبعد أن يكون أبو سفيان وقف على قبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال له كما قال لحمزة ! فقد حلف ابن عباس : ( والله ما كان إلا منافقاً ! ولقد كنا في محفل فيه أبو سفيان وقد كف بصره وفينا علي ( عليه السلام ) فأذن المؤذن فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال أبو سفيان : هاهنا من يحتشم ؟ قال واحد من القوم : لا ، فقال : لله درُّأخي بني هاشم ، أنظروا أين وضع اسمه ! فقال علي ( عليه السلام ) : أسخن الله عينيك يا أبا سفيان ، الله فعل ذلك
--------------------------- 209 ---------------------------
بقوله عز من قائل : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ . فقال أبو سفيان : أسخن الله عين من قال لي : ليس هاهنا من يحتشم ) . ( قصص الأنبياء للراوندي / 293 ) .
وبقي أبو سفيان مجاهراً بنفاقه ، لأنه كان مطمئناً بأن عثمان لا يعاقبه ، بل يعطيه !
قال في شرح نهج البلاغة ( 1 / 67 ) : ( أعطى أبا سفيان بن حرب مئتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر لمروان بن الحكم بمئة . وأعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه في فتح إفريقية بالمغرب ، وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ، من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين ) !
2 . وكوَّنَ عثمان طبقة من الأثرياء المترفين القوارين ، من بني أمية والمقربين منه ، فقد سرقوا أموال الدولة حتى كان بعضهم يكسرالذهب بالفؤوس ! في حين كان عامة المسلمين يعيشون الفاقة والفقر والجوع !
أ . في طبقات ابن سعد ( 3 / 136 ) : ( إن عبد الرحمن بن عوف ( صهرعثمان ) توفي وكان فيما ترك ذهبٌ قُطِّع بالفؤوس ، حتى مَجَلت أيدي الرجال منه ) .
وفي مستدرك الحاكم ( 3 / 209 ) : ( ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير وثلاثة ألاف شاة بالنقيع ، ومائة فرس ترعى بالنقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً ، وكان يدخر قوت أهله من ذلك سنة ) .
ب . وقال ابن سعد ( 3 / 44 ) كتب عثمان لمروان بخمس مصر ، وأعطى أقرباءه المال وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها ، واتخذ الأموال ( العقارات ) واستسلف من بيت المال ) .
وقال ابن الأثير ( 3 / 38 ) : ( أعطى عبد الله بن سعد خمس الغزوة الأولى ، وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية ، التي افتتحت فيها جميع إفريقية ) . وقال ابن كثير ( 7 / 152 ) : ( صالح عثمان خمس إفريقية بطريقها على ألفي ألف دينار ، فأطلقها كلها عثمان في يوم واحد لآل الحكم ) .
وفي تاريخ الطبري ( 5 / 50 ) : ( الذي صالحهم عليه ألفي ألف دينار وخمس مئة
--------------------------- 210 ---------------------------
ألف دينار وعشرين ألف دينار . . . كان الذي صالحهم عبد الله بن سعد على ثلاث مائة قنطار ذهب ، فأمر بها عثمان لآل الحكم ) .
ج . وقال اليعقوبي ( 2 / 145 ) : ( زوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أسيد ، وأمر له بست مائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة ) !
د . وقال ابن سعد ( 3 / 222 ) : ( كانت قيمة ما ترك طلحة بن عبيد الله من العقار والأموال ، وما ترك من الناض ثلاثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ، ومائتي ألف دينار ، والباقي عروض . . . قال عمرو بن العاص : حُدثت أن طلحة بن عبيد الله ترك مائة بهار ، في كل بهار ثلاث قناطر ذهب ، وسمعت أن البهار جلد ثور ) .
وفي تاريخ الذهبي ( 1 / 40 ) : ( قتل طلحة وفي يد خازنه ألف ألف درهم ، ومئتا ألف درهم ) . وقال ابن الجوزي في المنتظم ( 5 / 114 ) : ( وترك عروضاً كثيرة ، وقومت أصوله وعقاره ثمانين ألف ألف درهم ) .
وقال في العقد الفريد ( 5 / 71 ) : ( لما قتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل ، وجدوا في تركته ثلاث مائة بهار من ذهب وفضة . والبهار مزود من جلد عجل ) .
وفي الإكمال في أسماء الرجال / 114 : ( ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، والباقي عروض ، وقالت سعدى بنت عوف : قتل طلحة وفي خازنه ألفا ألف درهم ومائتا ألف درهم ) .
ه - . قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 333 ) : ( وخلف الزبير ألف فرس ، وألف عبد وأمة ، وخططاً بحيث ذكرنا من الأمصار ) .
وفي صحيح البخاري ( 4 / 52 ) : ( ورفع الثلث ، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف ، فجميع ماله خمسون ألف ألف ، ومائتا ألف ) .
وفي الوافي للصفدي ( 14 / 123 ) : ( وكانت له أربع زوجات ، فورثت كل واحدة ألف
--------------------------- 211 ---------------------------
ألف ومئتي ألف وذلك ربع الثمن ، وكان جميع ماله خمسين ألف ألف ومائتي ألف ، وكان يضرب في المغنم بأربعة أسهم سهم له وسهمين لفرسه وسهم لذي القربى أي لأمه ، وكان له بمصر والإسكندرية والكوفة والبصرة خطط ودور . وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجاً ) .
ومع ثروة الزبير وطلحة أخذا لحرب الجمل من يعلى بن أمية قرضاً ، ولم يرداه !
قال ابن حبان في الثقات ( 2 / 279 ) : ( قدم يعلى بن أمية من اليمن وقد كان عاملاً عليها بأربع مائة من الإبل فدعاهم إلى الحِملان ( نقل الجنود إلى البصرة مجاناً ) فقال له الزبير : دعنا من إبلك هذه ، ولكن أقرضنا من هذا المال ! فأعطاه ستين ألف دينار ، وأعطى طلحة أربعين ألف دينار ، فتجهزوا وأعطوا من خفَّ معهم ) !
و . ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات ، خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس ، غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار ) . ( مروج الذهب : 2 / 333 ) .
وقال البيهقي في سننه ( 6 / 348 ) : ( زيد بن ثابت كان في أمارة عثمان على بيت المال فدخل عثمان فأبصر وهيباً يغنيهم ، فقال : من هذا ؟ فقال مملوك لي ، فقال أراه يعينهم ! أفرض له ألفين ، قال ففرض له ألفاً ، أو قال ألفين ) !
وقال ابن أبي شيبة ( 7 / 618 ) : ( فأبصر وهيباً يغنيهم في بيت المال ، فقال : من هذا ؟ فقال زيد : هذا مملوك لي ، فقال عثمان : أراه يعين المسلمين وله حق ، وإنا نفرض له ففرض له ألفين ! فقال زيد : والله لا نفرض لعبد ألفين ففرض له ألفاً ) !
ز . وذكر الأميني ( رحمه الله ) في الغدير ( 8 / 286 ) قائمة بهباته مع مصادرها : ( فقد أعطى لمروان 500000 دينار ذهب ، و 100000 درهم فضة ، ولابن أبي سرح 100000 دينار ، ولطلحة ضعفه مع ثلاثين مليون درهم مرة ، ومليونين ومئتين ألف درهم فضة ، ولعبدالرحمن بن عوف صهره 2560000 دينار ، وليعلي بن أمية نصف مليون دينار ، ولزيد بن ثابت مائة ألف دينار . . وهكذا دواليك للحَكَم وآل الحَكَم ،
--------------------------- 212 ---------------------------
والحارث ، وسعيد ، والوليد ، وعبد الله ، وأبي سفيان ، والزبير وابن أبي الوقاص ، وغيرهم من حزبه وأعوانه ) .
ح - . قال البلاذري ( 5 / 49 ) وابن كثير ( 7 / 157 ) : ( بعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألف درهم وبجمل عليه كسوة ، فأمر فوضع في المسجد وقال : يا معشر المسلمين : ألا ترون إلى عثمان يخادعني عن ديني ويرشوني عليه ) !
وكانت هذه القصة في مصر وكان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة الأموي ( رحمه الله ) من شيعة علي ( عليه السلام ) ، المعارضين لسياسات عثمان .
3 . وكان المسلمون يعيشون في فقر وحاجة : وكان منهم من لا يملك القوت والثياب ، فحالة الغنى واليسر من أموال الفتوحات كانت محصورة بالخليفة وبطانته ، وقادة الفتوحات وبطانتهم . ويكفي مثلاً أويس القرني ، فقد بشر به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل أن يراه المسلمون ، وأوصاهم أن يبلغوه سلامه وأن يحرصوا على أن يستغفر لهم ، وقد دعا لبعض الصحابة فقال : غفر الله لك ، ولم يستغفر لبعضهم ، وهرب من المدينة زمن عمر وسكن الكوفة : ( كان أويس يجالس رجلاً من فقهاء الكوفة يقال له يسير ففقده ، فإذا هو في خُصٍّ له قد انقطع من العري ) ! ( لسان الميزان : 1 / 280 ) .
ولذلك قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( إن من أمتي من لا يستطيع أن يأتي مسجده أو مصلاه من العري ، يحجزه إيمانه أن يسأل الناس ، منهم أويس القرني ) . ( سير الذهبي : 4 / 29 ) .
( إن كان أويس القرني ليتصدق بثيابه ، حتى يجلس عرياناً لا يجد ما يروح فيه إلى الجمعة ) . ( حلية الأولياء : 2 / 83 ) . ويقول : ( اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة وجسد عار ، وليس لي إلا ما على ظهري ، وفي بطني ) . ( الحاكم : 3 / 406 ) .
والأخطر من الجوع والعري الأمن : فلم يكن المسلم آمناً على حياته ودمه من السلطة ، فقد يقتل حتى الصحابي أو التابعي بشكاية عليه بأنه طعن في الخليفة !
قال الحاكم في المستدرك ( 3 / 405 ) : ( جاء رجل من مراد إلى أويس القرني فقال : السلام عليكم ، قال : وعليكم . قال : كيف أنتم يا أويس ؟ قال : الحمد لله . قال : كيف الزمان عليكم ؟ قال : لا تسأل ! الرجل إذا أمسى لم ير أنه يصبح ، وإذا أصبح
--------------------------- 213 ---------------------------
لم ير أنه يمسي ! يا أخا مراد ، إن الموت لم يبق لمؤمن فرحاً . يا أخا مراد ، إن عرفان المؤمن بحقوق الله لم تبق له فضة ولا ذهباً . يا أخا مراد ، إن قيام المؤمن بأمر الله لم يبق له صديقاً ! والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذوننا أعداء ، ويجدون على ذلك من الفاسقين أعواناً ، حتى والله لقد يقذفوننا بالعظائم ، ووالله لا يمنعني ذلك أن أقول بالحق ) !
وقال ابن حبان في المجروحين ( 3 / 151 ) : ( وكان ابن عم له يلزم السلطان تولع به ، فإن رآه مع قوم أغنياء قال ما هو إلا يشاكلهم ! وإن رآه مع قوم فقراء ، قال ما هو إلا يخدعهم ! وأويس لا يقول في ابن عمه إلا خيراً ) !
4 . وكان عثمان يجادل الصحابة ، ويصرعلى سياسته !
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد ( 5 / 56 ) : ( ولما رد عثمان الحكم بن أبي العاص طريد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطريد أبيبكر وعمر إلى المدينة ، تكلم الناس في ذلك ، فقال عثمان : ما ينقم الناس مني ؟ إني وصلت رحماً وقربت قرابة ) .
وفي تاريخ المدينة ( 3 / 1099 ) : ( دعا عثمان ناساً من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفيهم عمار فقال : إني سائلكم ، أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يؤثر قريشاً على سائر الناس ويؤثر بني هاشم على سائر قريش ؟ فسكت القوم ، فقال : لو أن مفاتيح الجنة في يدي لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم ، والله لأعطينهم ولأستعملنهم على رغم أنف من رغم . فقال عمار : على رغم أنفي ؟ قال : على رغم أنفك . قال : وأنف أبيبكر وعمر ! فغضب عثمان فوثب إليه فوطأه وطأً شديداً ، فأجفله الناس عنه ) .
ورواه أحمد ( 1 / 62 ) وابن عساكر ( 39 / 253 ) ناقصاً ، ورواه ابن كثير ( 7 / 192 ) محرفاً ) .
أي داسه عثمان حتى أصاب عمار الفتق وأغمي عليه ، فثارت له بنو مخزوم لأنه حليفهم . وروى ابن إدريس في المستطرفات / 566 ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : ( كان عثمان إذا أتيَ بشئ من الفئ فيه ذهب عزله وقال : هذا لطوق عمرو . فلما كثر ذلك قيل له : كبر عمرو عن الطوق ، فجرى به المثل ) .
--------------------------- 214 ---------------------------
وقد جعلوا : شبَّ عمرو عن الطوق ، مثلاً لعمرو بن عدي جد آل المنذر حكام الحيرة لكنه مثلٌ لعمرو بن عثمان . وطوق الذهب يستعمل للأطفال في أيديهم أو أرجلهم أو وسطهم ، وكان عثمان يجمع الذهب ليصنع منه طوقاً لابنه عمرو ، فقال له أهل المدينة لقد شب عن الطوق ، وصاركبيراً ، لكن بقي عثمان يأخذ الذهب لطوق عمرو !
ودافع ابن كثير ( 7 / 192 ) عن عثمان وتمحل ، ومما قاله : ( وأما توليته الأحداث فلم يول إلا رجلاً سوياً عدلاً ، وقد ولى رسول الله عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة ، وولى أسامة بن زيد بن حارثة . وطعن الناس في إمارته فقال إنه لخليق بالامارة وأما إيثاره قومه بني أمية . فقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يؤثرقريشاً على الناس ، ووالله لو أن مفتاح الجنة بيدي لأدخلت بني أمية إليها ) .
وبذلك تعرف سبب ثورة الصحابة عليه وقتله ، وتحريمهم دفنه في مقابر المسلمين !
- *
--------------------------- 215 ---------------------------
الفصل التاسع والثلاثون: من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع أبيبكر بن أبي قحافة
من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع أبيبكر بن أبي قحافة
1 . نوم علي على فراش النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهجرة أبيبكر معه
1 . من الأسئلة في الهجرة : لماذا احتاج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى مبيت علي ( عليه السلام ) مكانه ، ولماذا بمبيته مكانه فداه بنفسه ؟ وقد كتبنا في هجرة علي ( عليه السلام ) أن المشركين كانوا مرابطين يحرسون النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حول بيته وينتظرون ساعة حددوها لاغتياله ، فكان من المهم إيهامهم أنه ما زال موجوداً نائماً في فراشه ، وأن لا يعرفوا بخروجه من بيته .
2 . ومن الأسئلة أيضاً : كيف التحق به أبو بكر ، فقد رووا الضد والنقيض في ذلك وقالوا إنه اتفق مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مسبقاً ، وخرجا معاً ، وقالوا إنه ذهب إلى بيت أبيبكر ، وقالوا جاءه أبو بكر وخرجا معاً ، لكنهم رووا أن أمر الله بالهجرة جاء إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجأة ، فلم يكن مجال لأن يذهب ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى بيت أبيبكر ، ولا أن يأتي أبو بكر اليه وهو محاصر من المشركين ، فلا وجه لرفقته له إلا أنه رآه في طريقه .
وأصح رواية عندهم : أن أبا بكر جاء يتفقد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوجد علياً نائماً في فراشه ! رواها أحمد ابن حنبل في مسنده ( 1 / 331 ) ، قال : ( وكان المشركون يرومون ( يطلبون ) رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء أبو بكر وعلي نائم ، قال وأبو بكر يحسب أنه نبي الله ، قال فقال : يا نبي الله . قال فقال له علي : إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركْه ، قال فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار ) .
ورواه الحاكم ( 3 / 132 ) والمحب الطبري في الرياض النضرة ( 3 / 175 ) وابن عساكر في تاريخ دمشق : 42 / 100 ، وقال عنه في مجمع الزوائد ( 9 / 119 ) : ( رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح ، غير أبي بلج الفزاري وهو ثقة وفيه لين ) .
--------------------------- 216 ---------------------------
وروى نحوه الحسكاني في شواهد التنزيل ( 1 / 129 ) قال : ( فأتى غار ثور ، وأمر علي بن أبي طالب فنام على فراشه فانطلق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء أبو بكر في طلبه فقال له علي : قد خرج ، فخرج في أثره فسمع النبي وطأ أبيبكر خلفه فظن أنه من المشركين ، فأسرع فكره أبو بكر أن يشق على النبي ، فتكلم فعلم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كلامه ، فانطلقا حتى أتيا الغار ، فلما أراد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يدخل دخل أبو بكر قبله ، فلمس بيده مخافة أن يكون دابة أو حية أو عقرب يؤذي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما لم يجد شيئاً قال لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أدخل فدخل . وكانت عيون المشركين يختلفون ينظرون إلى علي نائماً على فراش رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعليه بُرْدٌ لرسول الله أخضر ، فقال بعضهم لبعض : شدوا عليه ، فقالوا : الرجل نائم ، ولو كان يريد أن يهرب لهرب ، ولكن دعوه حتى يقوم فتأخذوه أخذاً . فلما أصبح قام علي فأخذوه فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : ما أدري . فأيقنوا أنه قد توجه إلى يثرب ، وأنزل الله في علي : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه وَاللَّه رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) .
ولا يصح قول الراوي : جاء أبو بكر في طلب النبي فقال له علي : قد خرج . . فلا يمكن أن يكون أبا بكر جاء وخرق الحصار المحكم ولم يتعرض له أحد ! ولا أن علياً ( عليه السلام ) كشف له نفسه وكلمه وأخبره أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نجا من الحصار وقصد بئر ميمون في جبل الهجرة ، وكل ذلك ولم يلتفت اليه المحاصرون ، ولا سألوه ماذا يريد وأين يريد ؟ !
فمجيئ أبيبكر إذن مكذوب ، وذهاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى بيت أبيبكر مكذوب أيضاً ، وهذه الرواية الصحيحة عندهم تنفيه . فلا مفر من القول بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رآه في طريقه إلى الغار فأخذه معه . راجع : مبيت علي ( عليه السلام ) مكان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من السيرة النبوية .
2 . متى وقع الحسد لعلي ( عليه السلام ) في قلب أبيبكر
روى في الكافي ( 8 / 340 ) حديث هجرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفيه : ( فقال سعيد بن المسيب لعلي بن الحسين ( عليه السلام ) : جعلت فداك ، كان أبو بكر مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أقبل إلى المدينة ، فأين فارقه ؟ فقال : إن أبا بكر لما قدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى قُبا فنزل بهم ينتظر قدوم علي ( عليه السلام ) ، فقال له أبو بكر : إنهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك ،
--------------------------- 217 ---------------------------
وهم يستريثون إقبالك إليهم ، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظرعلياً فما أظنه يقدم عليك إلى شهر ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كلا ، ما أسرعه ، ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل ، وأحب أهل بيتي إليَّ ، فقد وقاني بنفسه من المشركين . قال : فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز ، وداخله من ذلك حسدٌ لعلي ( عليه السلام ) وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في علي ، وأول خلاف على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فانطلق حتى دخل المدينة ، وتخلف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
بقُبا ينتظر علياً ( عليه السلام ) ) .
3 . استرجع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سورة براءة من أبيبكر
في تفسير القمي ( 1 / 281 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، وكان سُنَّة في العرب في الحج أنه من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها ، وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، وكان من وافى مكة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يرده ، ومن لم يجد عارية اكترى ثياباً ، ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلا ثوب واحد ، طاف بالبيت عرياناً . .
وكانت سيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلا من قاتله ، ولا يحارب إلا من حاربه وأراده . حتى نزلت عليه سورة البراءة : فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . ثم يقتلون حيثما وجدوا . فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أبيبكر ، وأمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، فبعث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في طلبه فلحقه بالروحاء فأخذ منه الآيات ، فرجع أبو بكر إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا رسول الله أأنزل الله فيَّ شئ ؟ قال لا ، إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرني أن أبلغ عن الله أن لايطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام ،
--------------------------- 218 ---------------------------
وأقرأ عليهم : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فأحل الله للمشركين الذين حجوا تلك السنة أربعة أشهر » !
وفي الإرشاد ( 1 / 65 ) : ( فلما سار غير بعيد نزل جبرئيل على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك . فاستدعى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) وقال له : إركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر فخذ براءة من يده ، وامض بها إلى مكة ، فانبذ عهد المشركين إليهم ، وخيِّرْ أبا بكر بين أن يسير مع ركابك أو يرجع إلي . فقال : بل أرجع إليه ) .
وفي الخصال / 369 : « فكتب إليهم كتاباً يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ، ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم في آخره سورة براءة . فأتيتُ مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء ويظهر الشحناء ، من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم » .
وفي الإقبال ( 2 / 39 ) : ( وصعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب ، فأذن ثلاث مرات : ألا تسمعون يا أيها الناس أني رسول رسول الله إليكم ، ثم قال : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . . تسع آيات من أولها ، ثم لمع بسيفه فأسمع الناس وكررها ، فقال الناس : من هذا الذي ينادي في الناس ؟ فقالوا : علي بن أبي طالب ، وقال من عرفه من الناس : هذا ابن عم محمد ، وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمد . فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك ، ويقرأ على الناس غدوةً وعشية ، فناداه الناس من المشركين : أبلغ ابن عمك أن ليس له عندنا إلا ضرباً بالسيف ، وطعناً بالرماح ) !
أقول : استكثر جماعة أبيبكر أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سحب منه سورة براءة ، وكبر ذلك عليهم ، فزعموا أنه بعث أبا بكر أميراً على الحج ، وذهب علي بالسورة معه !
فقد روى ابن كثير في سيرته ( 4 / 72 ) عن أحمد بن حنبل : « لما أردف أبا بكر بعلي فأخذ
--------------------------- 219 ---------------------------
منه الكتاب بالجحفة رجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ قال : لا ولكن جبريل جاءني فقال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك . وهذا ضعيف الإسناد ومتنه فيه نكارة ، والله أعلم ) !
فقد زعم أن فيه نكارة لأنه جعل علياً ( عليه السلام ) أميرالحاج وأبا بكر تحت إمرته ، لكن سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه يعطي رايته لعلي ( عليه السلام ) دائماً ويؤمره ولا يؤمر عليه أحداً ! وكان أبو بكر وغيره تحت إمرته ، بل كان تحت إمرة أسامة ، وعمره سبع عشرة سنة ! .
4 . موقف أبيبكر وعمر من بيعة الغدير
اشتهرت تهنئة عمر لعلي ( عليه السلام ) يوم الغدير بقوله : « بخ بخ أصبحت مولاي ومولى كل مسلم » ومن أصح رواياتها عندهم حديث أبي هريرة في فضل صوم يوم الغديرشكراً لله تعالى ، وقد شهد نقادهم بأن رواته ثقات ، ونصه :
« من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهويوم غدير خم لما أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست ولي المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه . فقال عمر بن الخطاب بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ! فأنزل الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا » . » تاريخ دمشق : 42 / 233 ، وتاريخ بغداد : 8 / 248 ، والمنتظم : 5 / 233 «
ورووا أن أبا بكر قال له نحو ذلك ! ففي إحقاق الحق ( 2 / 473 ) عن حبيب السير ( 3 / 144 ) : « ثم جلس أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) في خيمة تزوره الناس ويهنئونه ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فقال عمر : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، ثم أمرأمهات المؤمنين أن يدخلن عليه ويهنئنه » .
وفي نفحات الأزهار ( 6 / 13 ) : « طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد خطبة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويبايعونه بالإمامة ، وفي مقدمهم الشيخان أبو بكر وعمركل يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » !
وروى الخوارزمي في المناقب / 88 ، موقف أبيبكر عن الحارث الهمداني ، قال :
--------------------------- 220 ---------------------------
« بلغنا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان في جمع من أصحابه فقال : يأتيكم آدم في علمه ونوحاً في فهمه وإبراهيم في حكمته ، فلم يكن بأسرع من أن طلع علي ! فقال أبو بكر : يا رسول الله أقِسْتَ رجلاً بثلاثة من الرسل ؟ بخ بخ لهذا الرجل ، من هو يا رسول الله ؟ قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ألا تعرفه يا أبا بكر ؟ قال : الله ورسوله أعلم ! قال : أبو الحسن علي بن أبي طالب . فقال أبو بكر : بخٍ بخٍ لك يا أبا الحسن ، وأين مثلك يا أبا الحسن » .
وقال الغزالي في كتابه سرالعالميْن / 20 : « لكن أسفرت الحجة وجهها ، وأجمع الجماهيرعلى متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع ، وهو يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه . فقال عمر : بخٍ بخٍ يا أبا الحسن ، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، فهذا تسليمٌ ورضىً وتحكيم ! ثم بعد هذا غلب الهوى بحب الرياسة ، وحمْل عمود الخلافة ، وعقْد البنود وخفقان الهوى ، في قعقعة الرايات ، واشتباك ازدحام الخيول ، وفتح الأمصار . وسقاهم كأس الهوى ، فعادوا إلى الخلاف الأول : فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ » !
أقول : صرح الغزالي في كتابه سرُّ العالميْن بأنه ألَّفه لابن تومرت المغربي ، ونراه يُنَظِّر فيه للميكافيلة ، ويعلمه كيف يعمل للوصول إلى الملك بأي طريقة ، ولو كانت مخالفة للقِيم ، كما فعل الشيخان . فالكتاب قبل ميكافيلي يؤسس لقاعدة : الغاية تبرر الوسيلة !
5 . جاءه خبر بيعة أبيبكر وهو يُغسل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
روى الكليني في الكافي ( 8 / 343 ) عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن سليم بن قيس الهلالي قال : ( سمعت سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول : لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصنع الناس ما صنعوا ، وخاصم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح الأنصار ، فخصموهم بحجة علي ( عليه السلام ) قالوا : يا معشرالأنصار قريش أحق بالأمر منكم لأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من قريش والمهاجرين منهم ، إن الله تعالى بدأ بهم في كتابه وفضلهم ، وقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الأئمة من قريش . قال سلمان رضي الله عنه : فأتيت علياً وهو يغسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبرته بما صنع الناس وقلت : إن أبا بكرالساعة على منبر رسول الله ،
--------------------------- 221 ---------------------------
والله ما يرضى أن يبايعوه بيد واحدة إنهم ليبايعونه بيديه جميعاً بيمينه وشماله ، فقال لي : يا سلمان هل تدري من أول من بايعه على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قلت : لا أدري ، إلا أني رأيت في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار ، وكان أول من بايعه بشير بن سعد وأبو عبيدة بن الجراح ثم عمر ثم سالم . قال : لست أسألك عن هذا ، ولكن تدري أول من بايعه حين صعد منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قلت : لا ، ولكني رأيت شيخاً كبيراً متوكئاً على عصاه بين عينيه سجادة ، شديد التشمير ، صعد إليه أول من صعد وهو يبكي ويقول : الحمد لله الذي لم يمتني من الدنيا حتى رأيتك في هذا المكان ، أبسط يدك ، فبسط يده فبايعه ثم نزل ، فخرج من المسجد ! فقال علي ( عليه السلام ) : هل تدري من هو ؟ قلت : لا ولقد ساءتني مقالته كأنه شامت بموت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
فقال : ذاك إبليس لعنه الله ، أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إياي للناس بغديرخم بأمر الله عز وجل ، فأخبرهم أني أولى بهم من أنفسهم وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ، فأقبل إلى إبليس أبالسته ومردة أصحابه فقالوا : إن هذه أمة مرحومة ومعصومة ، ومالك ولا لنا عليهم سبيل ، قد أعلموا إمامهم ومفزعهم بعد نبيهم ، فانطلق إبليس لعنه الله كئيباً حزيناً . وأخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه لو قُبض ، أن الناس يبايعون أبا بكر في ظلة بني ساعدة بعد ما يختصمون ، ثم يأتون المسجد فيكون أول من يبايعه على منبري إبليس في صورة رجل شيخ مشمر يقول كذا وكذا ، ثم يخرج فيجمع شياطينه وأبالسته فينخر ويكسع ويقول : كلا زعمتم أن ليس لي عليهم سبيل ، فكيف رأيتم ما صنعت بهم ، حتى تركوا مَن أمرالله بطاعته وأمرهم رسوله ) . والنخير : صوت الأنف . والكسع : ضرب الشخص مؤخره بقدمه فرحاً .
6 . وجاءه الخبر أيضاً ولم يفرغ من دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 190 ) : ( لما تم لأبيبكر ما تم وبايعه من بايع ، جاء رجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يسوي قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمسحاة في يده فقال له :
--------------------------- 222 ---------------------------
إن القوم قد بايعوا أبا بكر ، ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم ، وبدرَ الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر . فوضع طرف المسحاة في الأرض ويده عليها ، ثم قال : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .
7 . تناقضت أوامر أبيبكر بشأن علي ( عليه السلام )
قال البلاذري في أنساب الأشراف ( 1 / 32 ) : ( عن ابن عباس قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى عليّ حين قعد عن بيعته ، وقال : إئتني به بأعنف العنف ، فلما أتاه جرى بينهما كلام ، فقال له علي ( لعمر ) : إحلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤمرك غداً ) .
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 30 ) : ( فأخرجوا علياً ، فمضوا به إلى أبيبكر فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، قال : إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله ! قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلم ! فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك ! فقال : لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق علي بقبر رسول الله يصيح ويبكي وينادي : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) !
فقد أمر أبو بكر باستعمال أقصى العنف مع علي ( عليه السلام ) : إئتوني به بأعنف العنف !
ولما امتنع عن البيعة وناقشهم ، وطلب عمر من أبيبكر أن يأمر بقتله فقال : لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة ( عليها السلام ) إلى جنبه ، يعني لا أجبره ولا أقتله في حياتها !
وبما أن فاطمة ( عليها السلام ) كانت شابة ولم تكن مريضة ، ربما كان معنى كلامه : أقتلوا فاطمة أولاً ، ثم إن لم يبايع فاقتلوه ! وقد قتلوا أم فروة الأنصارية لاعتراضها ، كما يأتي !
--------------------------- 223 ---------------------------
8 . لماذا وصف علي ( عليه السلام ) أبا بكر بأنه ابن آكلة الذبان
روي أن علياً ( عليه السلام ) على علو أدبه وسمو أخلاقه ، وصف أبا بكر بأنه ابن آكلة الذبان ! ففي كتاب سليم / 160 ، في محاجته ( عليه السلام ) لعمر لما أجبروه على بيعة أبيبكر : ( يا ابن صهاك ، فليس لنا فيها حق ، وهي لك ولابن آكلة الذبان ) !
وفي الكافي ( 8 / 31 ) قال له : ( رويداً ، عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم وتجدون وخيم ما اجترمتم . . والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه ، لأ زلتُ أبن آكلة الذبان عن ملكه ) .
كما روى ابن عساكر ( 77 / 327 ) أن أبا طالب ( عليه السلام ) وصف أبا قحافة بآكل الذبان ، روى عن الثوري ، قال : ( بعث أبو طالب إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال أطعمني من عنب جنتك ، وأبو بكر الصديق جالس عند رسول الله ! فقال أبو بكر : حرمها الله على الكافرين . فقال أبو طالب : فلأبي قحافة آكل الذبان تدخرها ) .
وقد حمل ذلك بعضهم على أكل الذبان الحقيقي ، وقال كانوا في الجاهلية يأكلونه ! قال ابن عساكر ( 25 / 416 ) سئل الشعبي : ( ما تقول في أكل الذبان ؟ قال : إن اشتهيته فكله ) . وقال النووي في المجموع ( 9 / 3 ) : ( لو وقعت ذبابة أو نحلة في قدر طبيخ وتهرأت أجزاؤها فيه ، لم يحرم أكل ذلك الطبيخ ، لأن تحريم أكل الذباب والنمل ونحوه إنما كان للاستقذار ، ولا يعد هذا مستقذراً ) .
وقال الجاحظ في الحيوان ( 3 / 190 ) : ( أنشد ابن داحة في مجلس أبي عبيدة قول السيد :
أترى صهاكاً وابنها وابن ابنها * وأبا قحافة آكل الذبان
كانوا يرون وفي الأمور عجائبٌ * يأتي بهن تصرف الأزمان
إن الخلافة في ذؤابة هاشم * فيهم تصير وهيبة السلطان ؟ !
فقال له : ما عناه في قوله : آكل الذبان ؟ فقال : لأنه كان يذب عن عطر ابن جدعان . قال : ومتى احتاج العطارون إلى المذاب ؟ قال : غلطت إنما كان يذب عن حيسة ابن جدعان . قال : فابن جدعان وهشام بن المغيرة ، كان يحاس
--------------------------- 224 ---------------------------
لأحدهما الحيسة على عدة أنطاع . . الحيس : تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديداً ثم يندر منه نواه ) . والمرجح عندي أن آكل الذبان وصف للضئيل الدنيئ الذي قد يأكله .
9 . كان أبو بكر لَيِّنَ الظاهر بعكس عمر
كان أبوبكرأقل شدة على عترة النبي من عمر ، قال علي ( عليه السلام ) في حديثه لحاخام اليهود ( الخصال / 373 ) : ( وأما الثالثة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يلقاني معتذراً في كل أيامه ، ويلوم غيره لما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله ! فكنت أقول تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفواً هنيئاً من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية ، حدثاً في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلاناً يقول فيها نعم وفلاناً يقول لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، وجماعة من خواص أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الإسلام ، يأتوني عوداً وبدءً وعلانيةً وسراً ، فيدعوني إلى أخذ حقي ويبذلون أنفسهم في نصرتي ، ليؤدوا إليَّ بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويداً وصبراً لعل الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل فقال كل قوم : منا أمير ، وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الأمر . فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صيرالأمر بعده لصاحبه ، فكانت هذه أخت أختها ) .
10 . ولما غزا طليحة المدينة نهض عليٌّ ( عليه السلام ) وصالح أبا بكر
فقد عسكر جيش طليحة قرب المدينة ليغزوها ، والناس يقولون إذا لم يخرج علي لا نخرج . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 3 / 118 ) : « فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فخشيت إن لم أنصرالإسلام وأهله ، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب . فنهضت في تلك الأحداث ، حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتَنَهْنَه » .
--------------------------- 225 ---------------------------
وقال البلاذري في أنساب الأشراف ( 1 / 588 ) : « لما ارتدت العرب مشى عثمان إلى عليّ فقال : يا ابن عم ، إنه لا يخرج أحد إلى هذا العدو وأنت لم تبايع ، فلم يزل به حتى مشى إلى أبيبكر . فقام أبو بكر ، إليه فاعتنقا وبكى كل واحد إلى صاحبه ! فبايعه فسُرَّ المسلمون ، وجدَّ الناس في القتال ، وقطعت البعوث » .
11 . وكان أبو بكر يثق بعلي ( عليه السلام ) أكثر من ثقته بعمر
فقد كان يشعر بالحاجة إلى علي ( عليه السلام ) ولو كان خصمه ، ويثق بكلامه أكثر من عمر ، فقد قال فيه عمر : ( كان والله أحسد قريش كلها ، ثم أطرق طويلاً ثم قال : والهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة ، أحسدُ قريش كلها ، لقد تقدمني ظالماً ، وخرج إلي منها آثماً ) ! ( الشافي : 3 / 162 ) .
كما جعل عمر بيعة أبيبكر فلتة وقى الله المسلمين شرها ، وأمر أن يقتلوا من دعا إلى مثلها لأنها ابتزاز للمسلمين ! ( من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةَ أن يقتلا ) . ( صحيح البخاري : 8 / 25 ) .
وقد خالف أبو بكر نصيحة عمر بأن يقبل شروط طليحة لأنهم يوحدون الله ، قال له عمر : ( كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله ) ! ( البخاري : 8 / 140 ) .
وكانت شروطهم إسقاط الزكاة ، وأن يكون الأذان : أشهد أن محمداً وطليحة رسولا الله ! لكن علياً ( عليه السلام ) نصحه بقتالهم حتى لو منعوه عقالاً من الزكاة ، فعمل أبو بكر بنصيحة علي ( عليه السلام ) ، وقال لعمر : ( رجوتُ نصرك وجئتني بخذلانك ! جَبَّارٌ في الجاهلية خَوَّارٌ في الإسلام ! ماذا عسيتُ أن أتألفهم ، بشعر مفتعل أو بسحر مفترى ، هيهات هيهات مضى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وانقطع الوحي . والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي ، وإن منعوني عقالاً » . ( كنز العمال : 6 / 527 ) .
--------------------------- 226 ---------------------------
12 . حديث توبة أبيبكر وعزمه على إرجاع الخلافة لعلي ( عليه السلام ) !
روى الصدوق في الخصال / 548 : ( عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ( عليهم السلام ) قال : لما كان من أمر أبيبكر وبيعة الناس له وفعلهم بعلي ( عليه السلام ) ، لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ويرى منه الإنقباض ، فكبر ذلك على أبيبكر وأحب لقاءه واستخراج ما عنده ، والمعذرة إليه مما اجتمع الناس عليه ، وتقليدهم إياه أمر الأمة ، وقلة رغبته في ذلك وزهده فيه . أتاه في وقت غفلة وطلب منه الخلوة فقال : يا أبا الحسن ، والله ما كان هذا الأمر عن مواطاة مني ، ولا رغبة فيما وقعت فيه ، ولاحرص عليه ، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأمة ، ولا قوة لي بمال ولا كثرة العشيرة ، ولااستيثار به دون غيري ، فمالك تضمر عليَّ ما لم أستحقه منك ، وتظهر لي الكراهة لما صرت فيه ، وتنظر إلي بعين الشناءة لي ؟
قال : فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه ولاحرصت عليه ، ولاوثقت بنفسك في القيام به ؟ قال فقال أبو بكر : حديث سمعته من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله لا يجمع أمتي على ضلال ، فلما رأيت إجماعهم اتبعت قول النبي وأحلت أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى من الضلال ، فأعطيتهم قود الإجابة ، ولو علمت أن أحداً يتخلف لامتنعت .
فقال علي ( عليه السلام ) : أما ما ذكرت من حديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله لا يجمع أمتي على ضلال ، أفكنتُ من الأمة أم لم أكن ؟ قال : بلى . قال ( عليه السلام ) : وكذلك العصابة الممتنعة عنك من سلمان ، وعمار ، وأبي ذر ، والمقداد ، وابن عبادة ، ومن معه من الأنصار ؟ قال : كلٌّ من الأمة . قال علي ( عليه السلام ) : فكيف تحتج بحديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمثال هؤلاء قد تخلفوا عنك ؟ وليس للأمة فيهم طعن ، ولا في صحبة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منهم تقصير ! قال : ما علمت بتخلفهم إلا من بعد إبرام الأمر ، وخفت إن قعدت عن الأمر أن يرجع الناس مرتدين عن الدين ، وكان ممارستهم إلي إن أجبتهم أهون مؤونة على الدين وإبقاء له ، من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعون كفاراً ! وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم . فقال علي ( عليه السلام ) : أجل ، ولكن أخبرني على الذي يستحق هذا الأمر بِمَ يستحقه ؟ فقال أبو بكر : بالنصيحة ، والوفاء ، ودفع المداهنة ، والمحاباة ،
--------------------------- 227 ---------------------------
وحسن السيرة ، وإظهار العدل ، والعلم بالكتاب والسنة ، وفصل الخطاب ، مع الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها ، وانتصاف المظلوم من الظالم للقريب والبعيد ، ثم سكت . فقال علي ( عليه السلام ) : والسابقة والقرابة ؟ فقال أبو بكر : والسابقة والقرابة .
فقال علي ( عليه السلام ) : أنشدك بالله يا أبا بكر ، أفي نفسك تجد هذه الخصال ، أو فيَّ ؟ قال أبو بكر : بل فيك يا أبا الحسن . قال ( عليه السلام ) : فأنشدك بالله ، أنا المجيب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل ذُكْران المسلمين أم أنت ؟ قال : بل أنت .
قال : فلم يزل ( عليه السلام ) يورد مناقبه التي جعل له ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دونه ودون غيره ، ويقول له أبو بكر : بل أنت . قال ( عليه السلام ) : فبهذا وشبهه يستحق القيام بأمور أمة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فما الذي غرك عن الله تعالى وعن رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودينه ، وأنت خلوٌ مما يحتاج إليه أهل دينه ! قال : فبكى أبو بكر وقال : صدقت يا أبا الحسن ، أنظرني قيام يومي فأدبِّرما أنا فيه ، وما سمعت منك . قال قال : فقال له علي ( عليه السلام ) :
لك ذلك يا أبا بكر .
فرجع من عنده وخلا بنفسه يومه ، ولم يأذن لأحد إلى الليل ، وعمر يتردد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي ، فبات في ليلته فرأى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في منامه متمثلاً له في مجلسه ، فقام إليه أبو بكر ليسلم عليه فولى وجهه فقال أبو بكر : يا رسول الله هل أمرت بأمر فلم أفعل ؟ فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أرد السلام عليك وقد عاديت الله ورسوله ، وعاديت من والى الله ورسوله ! رُدَّ الحق إلى أهله ، قال فقلت : مَن أهله ؟ قال : من عاتبك عليه وهوعلي ، قال : فقد رددت عليه يا رسول الله بأمرك . قال : فأصبح وبكى وقال لعلي ( عليه السلام ) : أبسط يدك فبايعه وسلم إليه الأمر ، وقال له : أَخرجُ إلى مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبر الناس بما رأيت في ليلتي وما جرى بيني وبينك ، فأخرج نفسي من هذا الأمر وأسلم عليك بالإمرة . قال فقال له علي ( عليه السلام ) : نعم . فخرج من عنده متغيراً لونه ، فصادفه عمر وهو في طلبه فقال له : ما حالك يا خليفة رسول الله ؟ فأخبره بما كان منه وما رأى وما جرى بينه وبين علي ، فقال له عمر : أنشدك بالله يا خليفة رسول الله أن تغتر
--------------------------- 228 ---------------------------
بسحر بني هاشم فليس هذا بأول سحر منهم ! فما زال به حتى رده عن رأيه وصرفه عن عزمه ورغبه فيما هو فيه ، وأمره بالثبات عليه والقيام به !
قال : فأتى علي ( عليه السلام ) المسجد للميعاد فلم ير فيه منهم أحداً ، فأحس بالشر منهم ، فقعد إلى قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمر به عمر فقال : يا علي دون ما تروم خرط القتاد ، فعلم بالأمر ، وقام ورجع إلى بيته ) !
ورواه الديلمي في إرشاد القلوب ( 2 / 264 ) بلفظ : ( وروي عن الصادق ( عليه السلام ) أن أبا بكر لقي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في سكة من سكك بني النجار فسلم عليه وصافحه . . وفيه : فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقلتم : نعم يا رسول الله ، وقمتم بأجمعكم تهنون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتهنوني بكرامة الله لنا . فدنا عمر وضرب على كتفي وقال بحضرتكم : بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى المؤمنين .
فقال أبو بكر : ذكرتني أمراً يا أبا الحسن ، لو يكون رسول الله شاهداً فأسمعه منه . فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الله ورسوله عليك من الشاهدين يا أبا بكر إن رأيت رسول الله حياً ، يقول لك إنك ظالم في أخذ حقي الذي جعله الله ورسوله لي دونك ودون المسلمين ، أن تسلم هذا الأمر إلي وتخلع نفسك منه ؟ قال أبو بكر : نعم . فضرب أمير المؤمنين على يده ، وقال تسعى معي نحو مسجد قُبا ، فلما ورده تقدم أمير المؤمنين فدخل المسجد وأبو بكر من ورائه ، فإذا هو برسول الله جالس في قبلة المسجد ! فلما رآه أبو بكر سقط لوجهه كالمغشي عليه فناداه رسول الله : إرفع رأسك أيها الضليل المفتون ! فرفع أبو بكر رأسه وقال : لبيك يا رسول الله ، أحياة بعد الموت يا رسول الله ؟ فقال : ويلك يا أبا بكر ، إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير .
قال : فسكت أبو بكر وشخصت عيناه نحو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ويلك يا أبا بكر أنسيت ما عهدت الله ورسوله عليه في المواطن الأربع لعلي ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله فهل من توبة ، وهل يعفو الله عني إذا سلمت هذا الأمر إلى أمير المؤمنين ؟ قال : نعم يا أبا بكر . .
قال فتشبث أبو بكر بعلي وقال : الله الله فيَّ يا علي ، سرمعي إلى منبر رسول الله حتى
--------------------------- 229 ---------------------------
أعلو المنبروأقص على الناس ما شاهدت ورأيت من أمر رسول الله ، وما قال لي وما قلت له وأمرني به ، وأخلع نفسي من هذا الأمر وأسلمه إليك .
فقال له أمير المؤمنين : أنا معك إن تركك شيطانك ! فقال أبو بكر إن لم يتركني تركته وعصيته . فقال أمير المؤمنين : إذاً تطيعه ولاتعصيه ، وإنما رأيت ما رأيت لتأكيد الحجة عليك . وأخذ بيده وخرجا من مسجد قبا يريدان مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبو بكر يخفق بعضه بعضاً ويتلون ألواناً ، حتى لقيه عمر بن الخطاب فقال له : يا خليفة رسول الله ما شأنك وما الذي دهاك ؟ فقال أبو بكر : خلِّ عني يا عمر فوالله لاسمعت لك قولاً ! فقال له عمر : وأين تريد يا خليفة رسول الله ؟ فقال أبو بكر : أريد المسجد والمنبر . فقال : ليس هذا وقت صلاة ومنبر ، فقال : خل عني فلا حاجة لي في كلامك . فقال عمر : يا خليفة الله أفلا تدخل قبل المسجد منزلك فتسبغ الوضوء ؟ قال : بلى . ثم التفت أبو بكر إلى علي ( عليه السلام ) وقال له : يا أبا الحسن تجلس إلى جانب المنبر حتى أخرج إليك ، فتبسم أمير المؤمنين ثم قال : يا أبا بكر قد قلتُ إن شيطانك لايدعك أو يرديك !
إلى أن قال : فخرج عمر وأمير المؤمنين جالس بجنب المنبر فقال : ما بالك يا علي قد تصديت ، هيهات هيهات دون ما تريد من علو هذا المنبر خرط القتاد ! فتبسم أمير المؤمنين حتى بدت نواجذه ثم قال : ويلك منها والله يا عمر ، إذا أفضت إليك ، والويل للأمة من بلائك . فقال عمر : هذه بشرى يا ابن أبي طالب صدقت ظنونك وحق قولك . وانصرف أمير المؤمنين إلى منزله ) .
وفي بصائر الدرجات / 299 : ( عن معاوية الدهني قال : دخل أبو بكر على علي ( عليه السلام ) فقال له : إن رأيت رسول الله حتى يخبرني ببعض هذا لاكتفيته ، قال : فوافني إذا صليت المغرب ، قال فرجع إلى بعد المغرب فأخذ بيده فخرج به إلى مسجد قبا ، فإذا رسول الله والله جالسٌ في القبلة ، فقال : يا عتيق وثبت على علي وجلست مجلس النبوة ، وقد تقدمت إليك في ذلك ، فانزع هذا السربال الذي تسربلته ، فخله لعلي ( عليه السلام ) وإلا فموعدك النار . قال : فلقي أبو بكر عمر فقال له : أراني عليٌّ
--------------------------- 230 ---------------------------
كذا وكذا ، فقال له عمر : ويلك ما أقل عقلك ، فوالله ما أنت فيه الساعة ليس إلا من بعض سحر ابن أبي كبشة ، قد نسيت سحر بني هاشم ! ومن أين يرجع محمد ولا يرجع من مات . إن ما أنت فيه أعظم من سحر بني هاشم ، فتقلد هذا السربال ومُرَّ فيه ) .
13 . ملاحظات حول توبة أبيبكر
1 . أطمئن بأن الروايتين صحيحتان وهما أطول مما ذكرنا منهما ، فقد أتم الإمام ( عليه السلام ) الحجة على أبيبكر ، وأراه الله النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في منامه ، ولما بقي في شكه ورغبته في الخلافة أراه إياه في اليقظة على نحو المعجزة . وقد رأى أبو بكر وعمر من علي ( عليه السلام ) معجزات في حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبعد وفاته ، وكان عمر يقول إنها من سحر بني هاشم ، وكان أبو بكر يطيع عمر عملياً في أمر الخلافة ، وإن خالفه في أمور أخرى .
2 . كان أبو بكر وعمر يعرفان أن علياً ( عليه السلام ) عنده علم الكتاب ، وأنه مدينة علم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكانا يثقان بإخباره عن المستقبل ، ويسألانه عما يكون ! فلما قال لعمر : ( ويلك منها والله يا عمر ، إذا أفضت إليك ، والويل للأمة من بلائك . فقال عمر : هذه بشرى يا ابن أبي طالب صدقت ظنونك وحق قولك ) .
اعتبر عمر ذلك بشارة بأنه سيحكم ، فهذا المهم عنده ، أما تحذير علي له فليس مهماً !
وقد سمع عمر من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشد من ذلك ، فلم يهتم به ! وأخبره علي ( عليه السلام ) بما قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيهما وأشهد شهوداً ، فلم يهتما به !
وقال له أبو بكر : لا تجادله ، فما دام بايع فليقل هو وأنصاره ما يريدون ! وليحدثوا عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنا في الدرك الأسفل من النار ، فالمهم أنا فزنا ، وخضع علي بالقوة !
3 . كان أبو بكر ألين من عمر مع علي ( عليه السلام ) ليونة سياسية ، فقد كان خاضعاً لعمر ، وقال أهل البيت ( عليهم السلام ) إنه المقصود بقوله تعالى : وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً . يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً . فهل الرسول إلا محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ وهل الذكر الذي أضله خليله عنه إلا القرآن والعترة ! وهل عملهم إلا الانقلاب الموعود بقوله تعالى : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ
--------------------------- 231 ---------------------------
مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ .
14 . أم فروة الأنصارية تُفحم أبا بكر
روى ابن حمزة الطوسي في كتابه القيم : الثاقب في المناقب / 237 : ( عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن سلمان رضي الله عنه في حديث طويل ألخص لك فائدته ، قال : إن امرأة من الأنصار قتلت تجنياً بمحبة علي ( عليه السلام ) يقال لها أم فروة ، وكان علي ( عليه السلام ) غائباً ، فلما وافى ذهب إلى قبرها ورفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم يا محيي النفوس بعد الموت ، ويا منشئ العظام الدارسات بعد الفوت ، أحي لنا أم فروة واجعلها عبرة لمن عصاك . فإذا بهاتف يهتف : يا أمير المؤمنين ، إمض لما سألت فرفس قبرها وقال : يا أمة الله ، قومي بإذن الله تعالى . فخرجت أم فروة من القبر فبكت وقالت : أرادوا إطفاء نورك فأبى الله عز وجل لنورك إلا ضياء ، ولذكرك إلا ارتفاعاً ولو كره الكافرون . فردها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى زوجها ، وولدت بعد ذلك غلامين ، وعاشت بعد أمير المؤمنين ستة أشهر ) !
ورواه القطب الراوندي بتفصيل في الخرائج / 548 ، قال : ( إن امرأة من الأنصار يقال لها أم فروة كانت تحض على نكث بيعة أبي بكر ، وتحث على بيعة علي ( عليه السلام ) . فبلغ أبا بكر ذلك فأحضرها واستتابها فأبت عليه . فقال : يا عدوة الله أتحضين على فرقة جماعة اجتمع عليها المسلمون فما قولك في إمامتي ؟ قالت : ما أنت بإمام ! قال : فمن أنا ؟ قالت أميراختارك قومك وولوك ، فإذا كرهوك عزلوك ، فالإمام المخصوص من الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعلم ما في الظاهر والباطن ، وما يحدث في المشرق والمغرب من الخير والشر ، وإذا قام في شمس أو قمرفلا فئ له ، ولا تجوز الإمامة لعابد وثن ، ولا لمن كفر ثم أسلم ، فمن أيهما أنت يا ابن أبي قحافة ؟ قال : أنا من الأئمة الذين اختارهم الله لعباده ! فقالت : كذبت على الله ولو كنت ممن اختارك الله لذكرك في كتابه كما ذكر غيرك ، فقال عز وجل :
--------------------------- 232 ---------------------------
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ . ويلك إن كنت إماماً حقاً فما اسم السماء الدنيا والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ؟ فبقي أبوبكرلا يحير جواباً ، ثم قال : اسمها عند الله الذي خلقها . قالت : لو جاز للنساء أن يعلمن الرجال لعلمتك . فقال : يا عدوة الله لتذكرن اسم سماء سماء وإلا قتلتك ! قالت : أبالقتل تهددني ؟ والله ما أبالي أن يجري قتلي على يدي مثلك ولكني أخبرك : أما السماء الدنيا الأولى فأيلول ، والثانية زبنول ، والثالثة سحقوم ، والرابعة ذيلول ، والخامسة ماين ، والسادسة ماحيز ، والسابعة أيوث .
فبقي أبو بكر ومن معه متحيرين ، وقالوا لها : ما تقولين في علي ؟ قالت : وما عسى أن أقول في إمام الأئمة ، ووصي الأوصياء ، من أشرقت بنوره الأرض والسماء ، ومن لا يتم التوحيد إلا بحقيقة معرفته ، ولكنك ممن نكث واستبدل ، وبعت دينك بدنياك ! قال أبو بكر : أقتلوها فقد ارتدت ، فقتلت !
وكان علي ( عليه السلام ) في ضيعة له بوادي القرى ، فلما قدم وبلغه قتل أم فروة خرج إلى قبرها ، وإذا عند قبرها أربعة طيور بيض مناقيرها حمر ، في منقار كل واحد حبة رمان كأحمر ما يكون ، وهي تدخل في فرجةٍ في القبر ، فلما نظر الطيور إلى علي ( عليه السلام ) رفرفن وقرقرن ، فأجابها بكلام يشبه كلامها ، وقال : أفعل إن شاء الله . ووقف على قبرها ومد يده إلى السماء وقال : يا محيي النفوس بعد الموت ، ويا منشئ العظام الدارسات ، أحي لنا أم فروة واجعلها عبرة لمن عصاك . فإذا بهاتف يقول : إمض لأمرك يا أمير المؤمنين . [ فرفس قبرها وقال : يا أمة الله ، قومي بإذن الله تعالى ] فخرجت أم فروة متلحفة بريطة خضراء من السندس ، وقالت : يا مولاي أراد ابن أبي قحافة أن يطفئ نورك ، فأبي الله لنورك إلا ضياء ! وبلغ أبا بكر وعمر ذلك فبقيا متعجبين ! فقال لهما سلمان : لو أقسم أبو الحسن على الله أن يحيي الأولين والآخرين لأحياهم . وردها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى زوجها وولدت غلامين له . وعاشت بعد علي ستة أشهر ) .
--------------------------- 233 ---------------------------
15 . ملاحظات على خبر أم فروة الأنصارية
1 . ترجم ابن حجر لأم فروة في الإصابة ( 8 / 449 ) فقال إنها عمة قاسم بن غنام ، بايعت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيعة الرضوان ، وأخرج حديثها أبو داود والترمذي والحاكم والدارقطني أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : الصلاة لأول وقتها .
وعلى مبناهم في أن أهل بيعة الرضوان من أهل الجنة ، يكون أبو بكر خرج من الإيمان لأنه قتل أحد أهل الجنة ! وقد سجلت المصادر حالة اعتراض على أبيبكر كأم فروة وأشد منها ، وهي اعتراض مالك بن نويرة لما جاء إلى المدينة ورأى أبا بكر على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فأرسل أبو بكر خالداً وقتله ، وتزوج زوجته !
2 . وردت روايات في مصادر الطرفين في أسماء السماوات وألوانها ، تشبه خبرأم فروة ، كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور ( 1 / 44 ) : ( عن علي بن أبي طالب قال : اسم السماء الدنيا رقيع ، واسم السابعة الضراح .
أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ ، عن الربيع بن أنس قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية مرمرة بيضاء ، والثالثة حديد ، والرابعة نحاس ، والخامسة فضة ، والسادسة ذهب ، والسابعة ياقوتة حمراء ، وما فوق ذلك صحارى من نور ) . ونحوه الخصال / 593 . والروض الأنف : 2 / 158 .
وفي روضة الواعظين للنيسابوري / 44 : ( قال الرضا ( عليه السلام ) : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الجامع بالكوفة ، فقام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له : يا أمير المؤمنين أخبرني عن ألوان السماوات السبع وأسمائها ، فقال له : اسم سماء الدنيا رقيع وهي من ماء ودخان ، واسم السماء الثانية فيدوم وهي على لون النحاس ، واسم السماء الثالثة المادوم وهي على لون الشبَّه ، واسم السماء الرابعة أرقلون وهي على لون الفضة ، والسماء الخامسة اسمها هيعون ، وهي على لون الذهب ، والسماء السادسة اسمها عروس ، وهي ياقوتة خضراء ، والسماء السابعة اسمها عجماء وهي درة بيضاء .
--------------------------- 234 ---------------------------
وقال زيد بن وهب : سئل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن قدرة الله جلت عظمته فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن لله تعالى ملائكة لو أن ملكاً منهم هبط إلى الأرض ما وسعته ، لعظم خلقة وكثرة أجنحته ! ومنهم من لو كلف الجن والإنس أن يصفوه ما وصفوه ، لبعد ما بين مفاصله وحسن تركيب صورته ! وكيف يوصف من ملائكته من سبع مائة عام ما بين منكبيه وشحمة أذنيه ) !
أقول : تفاوت الرواة في أوصاف السماوات وأسمائها ، يدل على أنهم لم يحفظوا عن المعصوم ( عليه السلام ) وأن بعضهم تكلم من تصوره . ومن حقنا أن نتوقف في قبول هذه الأحاديث عن أسماء السماوات وألوانها ، إلا إذا ثبتت بسند صحيح عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأهل بيته المعصومين ( عليهم السلام ) ، الذين يعرفون الوحي ويحفظونه .
وقد وردت صفات عديدة للسماوات ، ويبدو أن التمييز بينها بالكثافة والشفافية ، فتكون سماؤنا الدنيا أكثرها كثافة ، والسماء السابعة أكثرها شفافية ونورانية .
3 . الأمر المؤكد من حديث أم فروة أنها من شخصيات الصحابة المميزين . وقد اعترضت على أبيبكر فأفحمته فقتلها ، وأحياها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) !
16 . الحسن والحسين ( ( عليهما السلام ) ) يتحديان أبا بكر وعمر !
روت المصادر بسند صحيح أن أبا بكركان على المنبر فجاء الإمام الحسن ( عليه السلام ) وكان في السنة السابعة من عمره الشريف فقال له : « إنزل عن منبر أبي واجلس على منبر أبيك ! فقال له أبو بكر : نعم إنه منبر أبيك وأبي لا منبر له ، وإن كل ما عندنا منكم ، فهل أنبت الشعر على رؤوسنا إلا الله وأنتم » !
« خطب يوماً فجاء الحسن فصعد إليه المنبر فقال : إنزل عن منبر أبي ! فقال علي : إن هذا لشئ عن غير ملامنا » . ( تاريخ دمشق : 30 / 307 ، وكنز العمال : 5 / 616 ) .
وقال ابن حجر الهيتمي ( بالتاء ) في الصواعق المحرقة ( 2 / 515 ) : « وأخرج الدارقطني أن الحسن جاء لأبيبكر وهو على منبر رسول الله فقال : إنزل عن مجلس أبي ! فقال : صدقت والله إنه لمجلس أبيك ! ثم أخذه وأجلسه في حجره وبكى ، فقال علي : أما
--------------------------- 235 ---------------------------
والله ما كان عن رأيي ! فقال صدقت والله ما اتهمتك . فانظر لعظم محبة أبيبكر وتعظيمه وتوقيره للحسن ، حيث أجلسه على حجره وبكى .
ووقع للحسين نحو ذلك مع عمر وهو على المنبر ، فقال له : منبر أبيك والله لا منبر أبي ! فقال علي : والله ما أمرت بذلك ! فقال عمر : والله ما اتهمناك . زاد ابن سعد أنه أخذه فأقعده إلى جنبه وقال : وهل أنبت الشعر على رؤوسنا إلا أبوك ! أي إن الرفعة ما نلناها إلا به » .
وفي سير الذهبي ( 3 / 285 ) : « وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا الله ثم أنتم ! ووضع يده على رأسه وقال : أي بني ! لو جعلت تأتينا وتغشانا . إسناده صحيح » .
راجع المسانيد للأنصاري : 2 / 88 ، والرياض النضرة للطبري : 1 / 561 ، والإصابة : 2 / 69 ، والمراجعات / 396 ، وشرح النهج : 6 / 42 ، ومعرفة الثقات : 1 / 302 ، وتاريخ بغداد : 1 / 151 ، وتاريخ دمشق : 14 / 175 ، وتاريخ المدينة : 3 / 799 ، ومناقب محمد بن سليمان : 2 / 255 .
ومن مصادرنا : علل الشرائع : 1 / 186 ، والغدير : 7 / 126 ، ومستدرك الوسائل : 15 / 165 .
وفي تهذيب التهذيب لابن حجر ( 2 / 300 ) : « الحسين بن علي قال : أتيت على عمر وهو يخطب على المنبرفصعدت إليه فقلت له : إنزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك ! فقال عمر : لم يكن لأبي منبر ! وأخذني فأجلسني معه أقلب حصى بيدي ، فلما نزل انطلق بي إلى منزله فقال لي : من علمك ؟ فقلت : والله ما علمني أحد ! قال : يا بني لو جعلت تغشانا . قال فأتيته يوماً وهو خال بمعاوية وابن عمر بالباب فرجع ابن عمر ورجعت معه ، فلقيني بعدُ فقال لي : لم أرك ! فقلت : يا أمير المؤمنين إني جئت وأنت خال بمعاوية ، وابن عمر بالباب فرجع ورجعت معه ! فقال : أنت أحق بالإذن من ابن عمر ، وإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ، ثم أنتم » ! « ثم نزل عن المنبرفأخذه فأجلسه إلى جانبه على المنبر ، فخطب الناس وهو جالس معه على المنبر ، ثم قال : أيها الناس ، سمعت نبيكم يقول : احفظوني في عترتي وذريتي ، فمن حفظني فيهم حفظه الله ، ألا لعنة الله على من آذاني فيهم ! ثلاثاً » . ورواه الطوسي في أماليه / 703 .
--------------------------- 236 ---------------------------
وروى الطبرسي في الإحتجاج ، احتجاج الحسين ( عليه السلام ) على عمر ( 2 / 13 ) قال : ( إن عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فذكر في خطبته أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) من ناحية المسجد : إنزل أيها الكذاب عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك ! فقال له عمر : فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي ، من علمك هذا أبوك علي بن أبي طالب ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنه لها وأنا مهتد به ، وله في رقاب الناس البيعة على عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، نزل بها جبرئيل ( عليه السلام ) من عند الله تعالى ، لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب ، قد عرفها الناس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم ، وويل للمنكرين حقنا أهل البيت ، ماذا يلقاهم به محمد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الغضب وشدة العذاب ! فقال عمر : يا حسين من أنكر حق أبيك فعليه لعنة الله ، أمَّرَنا الناس فتأمَّرْنَا ، ولو أمروا أباك لأطعنا . فقال له الحسين : يا ابن الخطاب فأي الناس أمَّرك على نفسه قبل أن تؤمر أبا بكر على نفسك ، ليؤمرك على الناس ، بلا حجة من نبي ولا رضا من آل محمد ، فرضاكم كان لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رضاً ، أو رضا أهله كان له سخطاً !
أما والله لو أن للسان مقالاً يطول تصديقه ، وفعلاً يعينه المؤمنون لما تخطيت رقاب آل محمد ، ترقى منبرهم ، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم ، لا تعرف معجمه ، ولا تدري تأويله ، إلا سماع الاذان ! المخطئ والمصيب عندك سواء ، فجزاك الله جزاك ، وسألك عما أحدثت سؤالاً حفياً .
قال : فنزل عمر مغضباً ، فمشى معه أناس من أصحابه حتى أتى باب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فاستأذن عليه فأذن له فدخل فقال : يا أبا الحسن ما لقيت اليوم من ابنك الحسين ، يجهرنا بصوت في مسجد رسول الله ، ويحرض عليَّ الطغام وأهل المدينة ، فقال له الحسن ( عليه السلام ) : على مثل الحسين ابن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يشخب من لاحكم له ، أو يقول بالطغام على أهل دينه ؟ أما والله ما نلت إلا بالطغام ، فلعن الله من حرض الطغام !
فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : مهلاً يا أبا محمد فإنك لن تكون قريب الغضب ولا لئيم الحسب ، ولا فيك عروق من السودان ، إسمع كلامي ولا تعجل بالكلام .
--------------------------- 237 ---------------------------
فقال له عمر : يا أبا الحسن إنهما ليهمان في أنفسهما بما لا يرى بغير الخلافة . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هما أقرب نسباً برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أن يهما ، أما فارضهما يا ابن الخطاب بحقهما يرض عنك من بعدهما . قال : وما رضاهما يا أبا الحسن ؟ قال : رضاهما الرجعة عن الخطيئة ، والتقية عن المعصية بالتوبة .
فقال له عمر : أدب يا أبا الحسن ابنك أن لا يتعاطى السلاطين الذين هم الحكماء في الأرض . فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنا أؤدب أهل المعاصي على معاصيهم ، ومن أخاف عليه الزلة والهلكة ، فأما من والده رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونَحَله أدبه ، فإنه لا ينتقل إلى أدب خير له منه ، أما فارضهما يا ابن الخطاب !
قال : فخرج عمر فاستقبله عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف فقال له عبد الرحمن : يا أبا حفص ما صنعت فقد طالت بكما الحجة ؟ فقال له عمر : وهل حجة مع ابن أبي طالب وشبليه ! فقال له عثمان : يا ابن الخطاب هم بنو عبد مناف الأسمنون والناس عجاف ! فقال له عمر : ما أعد ما صرت إليه فخراً فخرت به بحمقك ، فقبض عثمان على مجامع ثيابه ثم نبذ به ورده ، ثم قال له : يا ابن الخطاب كأنك تنكر ما أقول ! فدخل بينهما عبد الرحمن وفرق بينهما ، وافترق القوم ) .
17 . محمد بن أبيبكر
تزوج أبوبكرأسماء بنت عميس بعد شهادة زوجها جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) فولدت له محمد بن أبيبكر . لكن أكثر زوجة أثرت في نفسه هي أم بكر ، التي قال لها : تَحَيَّيْ بالسلامة أمَّ بكرٍ . . وتقدمت أبياتها . ( ابن هشام : 2 / 549 ) .
وولد محمد بن أبيبكر ( رحمه الله ) في حجة الوداع ، وعاش مع أبيه أقل من ثلاث سنين ، ثم تزوج علي ( عليه السلام ) أمه أسماء بنت عميس ، فكان محمد ربيبه ، وكان يعدُّه كأحد أولاده ، وكان عمره عندما ولاه مصر ستاً وعشرين سنة .
قال اليعقوبي ( 2 / 193 ) : ( وجه معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على مصر على شرطٍ له ، فقدِمها سنة 38 ومعه جيش عظيم من أهل الشام ، فلقيهم محمد بن أبيبكر بموضع يقال له المسنَّاة ، فحاربهم محاربة شديدة ) .
--------------------------- 238 ---------------------------
وفي الغارات للثقفي ( 1 / 301 ) أن جيش الشام غلب أهل مصر ، وقتلوا محمد بن أبيبكر ، ثم ألقوه في جوف حمار ، وأحرقوه بالنار ) !
وفي الغارات للثقفي ( 1 / 285 ) : « فلما بلغ ذلك عائشة أم المؤمنين جزعت عليه جزعاً شديداً ، وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ، وقبضت عيال محمد أخيها وولده إليها ، فكان القاسم بن محمد بن أبيبكر في عيالها » .
وفي الإصابة ( 8 / 16 ) : ( لما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله ، قامت إلى مسجد بيتها وكظمت غيظها ، حتى شخب ثدياها دماً » .
وفي مقابل حزن أسماء وعائشة ، فرحت أم حبيبة بنت أبي سفيان أخت معاوية ، فابتكرت أسلوباً للشماتة !
قال في الغارات ( 2 / 757 ) : « أمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكبش فشُوِيَ ، وبعثت به إلى عائشة وقالت : هكذا قد شُوِيَ أخوك ! فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت ! ووصفت أم حبىبة ببنت العاهرة ( تذكرة الخواض 1 / 101 ) : وما عثرت قط إلا قالت : تعس معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ) .
وقال صالح الورداني في كتابه : الشيعة في مصر / 109 : « مرقده في بلدة ميت دمسيس التابعة للمنصورة ، وهناك قبر ناحية الفسطاط يقال له محمد الصغير ، والعامة يعتقدون أنه محمد بن أبيبكر ، إلا أن الراجح أن مرقده ناحية المنصورة » .
هذا ، وسيأتي المزيد عن محمد بن أبيبكر رضي الله عنه في محله .
18 . موقف علي ( عليه السلام ) من وصية أبيبكر لعمر
قال المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في كتاب : أين سنة الرسول / 151 ، ملخصاً : ( مرض أبو بكر مرضاً شديداً قبل وفاته ، فدعا عثمان قبل وفاته بقليل ليكتب وصيته وتوجيهاته النهائية ، وعندما جلس عثمان بجانب فراش أبيبكر قال له : أكتب : إني قد وليت عليكم . . ثم أغمي عليه من شدة الوجع فكتب عثمان : إني قد وليت عليكم
--------------------------- 239 ---------------------------
عمر ، فلما أفاق أبو بكر من غيبوبته طلب أن يقرأ عليه ما كتب فقرأ ، فَسُرَّ أبو بكر وقال لعثمان : لو كتبت اسمك لكنت أهلاً لها !
لقد أتاح المسلمون لأبيبكر الفرصة ليكتب وصيته وتوجيهاته النهائية ، وعاملوه أثناء مرضه بكل التقديس والاحترام ، ولم يقولوا له أنت تهجر ولا قالوا له : إن المرض قد اشتد به ، ولا قالوا له : حسبنا كتاب الله ، ولا كسروا بخاطره ، ولا أساؤوا كما أساؤوا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
الموقف المناقض لعمر عندما أراد أبو بكر أن يكتب كان يقول : أيها الناس إسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله إنه يقول : إني لم آلكم خيراً .
قارن بربك بين موقفه وحزبه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عندما أراد أن يكتب وصيته أثناء مرضه ، وبين موقفه من أبيبكر يوم كتب وصيته !
لم يقل عمر إن أبا بكر قد اشتد به الوجع ، مع أن وجع أبيبكر كان أشد من وجع الرسول ! ولم يقل إن أبا بكر قد هجر كما قال ذلك لرسول الله مع أن أبا بكر قد أغمي عليه قبل أن يتم الجملة !
ولم يجمع الجموع ويقتحم بيت أبيبكر ، كما جمع الجموع واقتحم بيت النبي ، واتفق معهم على ترديد اللازمة : القول ما قال عمر ! ولم يختلف الحضور ولم يتنازعوا ، ولم يكثر اللغط واللغو ، ولم تتدخل النساء ! لقد وفرت زعامة بطون قريش المناخ الملائم لوصية أبيبكر النهائية لأن أبا بكر وعمر وزعامة قريش من حزب واحد ، أما رسول الله فليس من حزبهم !
وطُعن عمر بن الخطاب وقال طبيبه لا أرى أن تمسي ، فما كنت فاعلاً فافعله وأخذ يتوجع فيقول : لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع ، الويل لعمر ولأم عمر إن لم يغفر الله لعمر ، ويقول لابنه : ضع خدي على الأرض لا أم لك . ومع هذا فقد كتب وصيته وتوجيهاته النهائية وعهد للستة نظرياً ولعثمان عملياً ، وأمر بضرب عنق من يخالف .
لقد كتب عمر أثناء مرضه ما أراد ، ولم يعترضه أحد ، ولم يقل أحد بأن المرض
--------------------------- 240 ---------------------------
قد اشتد به ، ولم يقل أحد بأنه قد هجر كما ردد عمر وزعماء حزبه ومرتزقته هذا القول الفاحش أمام رسول الله !
ولم يقل أحد عندنا كتاب الله وهو يغنينا عن وصيتك يا عمر ! إنما قوبل بكل التوقير والتقديس والاحترام ونفذت وصيته حرفياً كأنها كتاب منزل من عند الله بل وأكثر !
فهل لعمر وأبيبكر قداسة عند القوم أكثر من رسول الله ! وبأي كتاب قد أنزل الله بأن الاثنين أولى بالاحترام والطاعة من رسول الله !
ولن تجرؤ على القول بأن فعلهما هذا يستحق اللوم على الأقل لأن العامة والخاصة من أولياء الخلافة التاريخية الذين أشربوا ثقافة التاريخ ، سيدفنوك حياً إن فعلت ذلك ! فهم يعتقدون أن الولاء للخلفاء جزء لا يتجزأ من الولاء لله ، فلو قمت الليل وصمت النهار أبداً ، وكنت غير موال للخلفاء ، لأحلوا سفك دمك حتى بالأشهر الحرم !
فمن الممكن أن يخطئ النبي بعرفهم فهو بشر ! لكن من غير الجائز أن تقول إن أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية قد أخطأ !
أولياء الخلافة التاريخية يعتقدون أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم قد فعلوا ذلك برسول الله لحكمة كانت خافية على الناس ! أو فعلوا ذلك ( اجتهاداً ) وبالتالي فإنهم مأجورون أجراً واحداً على إهانتهم لرسول الله ، وعقوقهم له ومعصيتهم لأوامره ! إن هذا لهو البلاء المبين !
لم يصدف طوال تاريخ البشر أن عومل ولي أمر ، سواء أكان نبياً أو خليفةً أو ملكاً أو والياً أو عاملاً وهو مريض ، بالقسوة والجلافة والظلم الذي عاملوا به رسول الله أثناء مرضه !
ولم يصدف طوال التاريخ السياسي للمسلمين أن اعترض المسلمون على أي خليفة أو وال أو عامل أو مسلم أراد أن يكتب وصيته أو توجيهاته أثناء مرضه ، بل على العكس فقد اعتبروا أن كتابة الوصية ، والاستخلاف حق للخليفة القائم وواجب عليه .
قال ابن خلدون الذي أشرب ثقافة التاريخ وآمن بفلسفة معاوية وأساتذته :
( إن الخليفة ينظر للناس حال حياته وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته ، ويقيم لهم من يتولى أمورهم من بعده !
--------------------------- 241 ---------------------------
لكن ابن خلدون لايعترف بهذا الحق لرسول الله ، لأن الرسول ليس خليفة ! لقد اخترع ابن خلدون هذا الحق خصيصاً للخلفاء الذين أشرب ثقافتهم ! فهل بعد هذا العجب من عجب ! ألا بعداً لهم كما بعدت ثمود ) !
موقف علي ( عليه السلام ) من وصية أبيبكر بالخلافة لعمر :
في تاريخ المدينة لابن شبَّه ( 2 / 666 ) : ( عن الشعبي قال : بينا طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد جلوساً عند أبيبكر في مرضه عواداً . فقال أبو بكر : إبعثوا إلى عمر ، فأتاه فدخل عليه ، فلما دخل أحست أنفسهم أنه خِيرتُه ، فتفرقوا عنه وخرجوا وتركوهما ، فجلسوا في المسجد وأرسلوا إلى علي ونفر معه فوجدوا علياً في حائط فتوافوا إليه واجتمعوا . وقالوا : يا علي يا فلان ويا فلان ، إن خليفة رسول الله مستخلف عمر ، وقد علم وعلم الناس أن إسلامنا كان قبل إسلام عمر ، وفي عمر من التسلط على الناس ما فيه ولا سلطان له ، فأدخلوا بنا عليه نسأله فإن استعمل عمر كلمناه فيه فأخبرناه عنه ، ففعلوا فقال أبو بكر : إجمعوا لي الناس أخبركم من اخترت لكم ، فخرجوا فجمعوا الناس إلى المسجد . فأمر من يحمله إليهم حتى وضعه على المنبر ، فقام فيهم باختيار عمر لهم !
ثم دخل فاستأذنوا عليه فأذن لهم فقالوا له : ماذا تقول لربك وقد استخلفت علينا عمر ! فقال أقول : استخلفت عليهم خير أهلك ) .
وفي أنساب الأشراف ( 10 / 375 ) : ( عن هشام بن عروة قال : لما بويع عمر قال عليٌّ : حلبت حلباً لك شطره ، بايعته عام أول ، وبايع لك العام ) !
19 . كان أبو بكر يخاف أن يقتلوه بالسم لمصلحة عمر !
كان أبو بكر يرى أن عمر مستعجلٌ لأن يرثه ، وكان يخشى أن يسمه اليهود لمصلحة عمر ، فبمجرد أن بايعوه أحضر طبيب السموم الحارث بن كلدة من الطائف ، وكان لا يأكل إلا معه ، فلم ينفعه الحذر .
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء / 61 : ( أخرج ابن سعد والحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة ( لحم مثروم )
--------------------------- 242 ---------------------------
أهديت لأبيبكر ، فقال الحارث لأبيبكر : إرفع يدك يا خليفة رسول الله ! والله إن فيها لسُمُّ سنة ، وأنا وأنت نموت في يوم واحد ! فرفع يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا ) !
( وتاريخ دمشق : 30 / 409 ، وكنز العمال : 12 / 537 : وقال : ابن سعد ، وابن السني ، وأبو نعيم معاً في الطب . قال ابن كثير : إسناده صحيح . ونحوه في تاريخ مكة لابن الضياء / 233 ، وفتح الباري : 7 / 34 ، وتحفة الأحوذي : 10 / 96 ، والمستدرك : 3 / 64 ، والطبقات : 3 / 198 ، وأسد الغابة : 3 / 223 ، وصفة الصفوة : 1 / 263 ، والرياض النضرة : 2 / 243 ، والمنتظم : 4 / 129 ، ومسائل الإمام أحمد / 75 ، والمصباح المضي : 1 / 33 ، وتخريج الدلالات للخزاعي / 670 ، والتراتيب الإدارية : 1 / 456 ، والصواعق المحرقة : 1 / 253 ، وفوائد ابن القيم / 95 والعقد الفريد / 1010 ، وربيع الأبرار . وغيرها ) .
وقال المسعودي في مروج الذهب ( 3 / 301 ) : ( سَمَّتْهُ اليهود في شئ من الطعام ) !
ونلاحظ أن عمر لم يفتح ملف سُم أبيبكر أبداً ، ومنع النوح عليه ، وذهب بنفسه ليمنع مجلساً أقامته عائشة للنوح على أبيها ، وضرب أخت أبيبكر !
قال ابن حجر في فتح الباري ( 5 / 54 ) : ( وصله ابن سعد في الطبقات : بإسناد صحيح من طريق الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لما توفي أبوبكرأقامت عائشة عليه النوح فبلغ عمر فنهاهن فأبين ، فقال لهشام بن الوليد : أخرج إليَّ بنت أبي قحافة ، يعني أم فروة ، فعلاها بالدرة ضربات ، فتفرق النوائح حين سمعن بذلك ) .
20 . كان لليهود وجود في المدينة وفعاليات !
1 . إن شهادة المسعودي ، وهو مؤرخ موثوق ودقيق ، بأن اليهود دسوا السُّم لأبيبكر ، يدل على وجودهم في المدينة ، ولهم عملاء يمكنهم القيام بمثل هذا العمل الخطير دون أن يشعر بهم أحد ! وقد كانت علاقة اليهود وثيقة بقريش ، فعاونوها في عدائها للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحروبها معه ، ثم واصلوا تعاونهم مع خلفائه القرشيين ، وكان الحاخام كعب الأحبارمستشاراً دينياً للخليفة . وكان عمر يعامله كنبي ويسأله عن أفعال الله تعالى ، وعن الآخرة ، وعن مستقبله الشخصي ، ويثق به ويعمل برأيه !
وكان بعض نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لها صديقات يهوديات تعتقد بهن وتطلب منهن الدعاء والرقية ! قال مالك في الموطأ ( 2 / 943 ) إن أبا بكر : ( دخل على عائشة وهي تشتكي ،
--------------------------- 243 ---------------------------
ويهودية ترقيها ، فقال أبو بكر : إرقيها بكتاب الله ) . أي إرقيها بالتوراة !
وصححه الشافعي في الأم ( 7 / 241 ) والبيهقي في سننه ( 9 / 347 )
ورووا أن امرأة عبد الله بن مسعود كانت تذهب إلى يهودي لرقية عينها . ولا يطلب الإنسان الرقية إلا ممن يعتقد أنه عبد صالح قريب إلى الله تعالى .
كما رووا أن يهودية كانت تخدم عائشة ( مسند أحمد : 6 / 81 ) ويهوديات يختلفن إليها :
( عن عائشة قالت جاءت يهودية فاستطعمت على بابي ) ( أحمد : 6 / 139 ) .
( دخلت يهودية عليها فاستوهبتها شيئاً ، فوهبت لها عائشة ) . ( سنن النسائي : 4 / 105 )
وقد اتهموا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه كذب يهودية في مسألة عذاب القبر ، ثم رجع عن خطئه وصدقها ! قالت عائشة ( المسند الجامع : 19 / 549 ) : ( إن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية : وقاك الله عذاب القبر . قالت : فدخل رسول الله عليَّ فقلت : يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال : لا وعمَّ ذاك ؟ قالت : هذه اليهودية لانصنع إليها من المعروف شيئاً إلا قالت : وقاك الله عذاب القبر ، قال : كذبت يهود وهم على الله عز وجل أكذب لا عذاب دون يوم القيامة ! قال : ثم مكث بعد ذاك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملاً بثوبه محمرة عيناه ، وهو ينادى بأعلى صوته :
أيها الناس أظلتكم الفتن كقطع الليل المظلم . أيها الناس ، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً . أيها الناس ، إستعيذوا بالله من عذاب القبر ، فإن عذاب القبر حق ) .
وقال ابن حجر في فتح الباري ( 3 / 187 ) : ( وفي هذا كله أنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنما علم بحكم عذاب القبر ، إذ هو بالمدينة ) .
ثم أشكل ابن حجر على ذلك بقوله تعالى : النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ . وهي مكية ، وأجاب بجواب ضعيف ، ولم يذكر الإشكال الأساسي كيف نفى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بجزم ، ثم تراجع فأقر وهو مذهول !
وفي اعتقادنا أن هذا كله مكذوب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومثله عندهم كثير .
--------------------------- 244 ---------------------------
2 . هل أن اليهود الذين سموا أبيبكر ، قد سموا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبله ! فقد روى البخاري وغيره أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحس في مرضه أنهم يريدون أن يلدوه ، فنهاهم ، أي صنعوا مرهماً وكانوا ينتظرون أن يغمى عليه ليضعوه في فمه عندما ىغشى علىه .
قال البخاري ( 7 / 17 ) : ( قالت عائشة : لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني ، فقلنا كراهية المريض للدواء . فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ! قلنا : كراهية المريض للدواء ، فقال : لا يبقى في البيت أحد إلا لُدَّ وأنا أنظر ، إلا العباس فإنه لم يشهدكم ) .
وفي رواية الحاكم ( 4 / 202 ) : والذي نفسي بيده لا يبقى في البيت أحد إلا لُدَّ ، إلا عَمِّي . قال فرأيتهم يلدونهم رجلاً رجلاً . فلُدَّ الرجال أجمعون ، وبلغ اللدود أزواج النبي فلددن امرأة امرأة ) !
ثم لا نجد وجهاً لأمره ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نساءه بأخذ الدواء إلا أنه يشك في ذلك الدواء ، وأنه يريد القول للأجيال بأن ما حدث كان محاولة لسمه ! وقد كانت يهوديات يترددن على نسائه فقد تكون إحداهن أعدت اللدود ، فنهى الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن استعماله .
والعجيب أنهم لم يتهموا اليهود في لد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا في سم أبيبكر !
21 . تحريم الوهابية أن تقول لعلي : كرم الله وجهه
حرم الوهابية قول كرم الله وجهه لعلي ( عليه السلام ) لأنه تعريض بأبيبكر وعمر ، وانهما لم يُكَرَّم الله وجهيهما عن السجود الأصنام ، وإشارة إلى أنهما سجدا أكثر عمرهما للأصنام !
قال الوهابية في فتاواهم ( 26 / 42 ) : ( تخصيص علي بن أبي طالب بالدعاء له بكرم الله وجهه هو من صنيع الرافضة الغالين فيه ، فالواجب على أهل السنة البعد عن مشابهتهم في ذلك ، وعدم تخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الدعاء دون سائر إخوانه من الصحابة ، كأبيبكر وعمر وعثمان وغيرهم ، رضي الله عن الصحابة أجمعين ) .
وقالوا في فتاواهم ( 24 / 161 ) : ( الدعاء بكرم الله وجهه ، ليس من الأدعية المأثورة عن السلف الصالح ، ولكن يتخذه بعض أهل البدع وهم الرافضة شعاراً في الدعاء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تمييزاً له عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا التمييز غير مشروع ، فلا يستعمل ) .
--------------------------- 245 ---------------------------
وقال ابن عثيمين في شرح العقيدة السفارينية ( 1 / 604 ) : ( يزعمون أنهم يصفونه بكرم الله وجهه ، لأنه لم يسجد لصنم ، ونقول لهم : إذا كان الأمركذلك فما أكثر الصحابة الذين لم يسجدوا لصنم ، فكل الذين ولدوا في الإسلام لم يسجدوا لصنم ، والذين ولدوا في الجاهلية لا نعلم أنهم سجدوا للأصنام أم لم يسجدوا ) .
وقال سلمان بن عودة في دروسه / 46 : ( لا ينبغي تخصيص علي رضي الله عنه بقول كرم الله وجهه ، ولايخصص بقول : ( عليه السلام ) , كما يفعله بعض الأئمة حتى إن الإمام الصنعاني في سبل السلام لا يذكره إلا ويقول : ( عليه السلام ) ، وهذا لا ينبغي ! لأن علياً رضي الله عنه صحابي ، حكمه حكم غيره من الصحابة ) .
وقد أجابهم جماعة العلماء ، فجاء في كتاب التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني / 87 : ( وقد مرَّ أن الحافظ بن حجر ذكر في الدرر الكامنة أن ابن تيمية خَطَّأ أمير المؤمنين علياً كرم الله وجهه في سبعة عشر موضعاً ، خالف نص الكتاب ، وأن العلماء نسبوه إلى النفاق لقوله هذا في علي كرم الله وجهه ، ولقوله أيضاً فيه إنه كان مخذولاً ، وإنه قاتل للرياسة لا للديانة . فمن شاء فليراجع قول ابن حجر في الدرر الكامنة ( 1 / 114 ) .
وقد ذكر ابن تيمية في حق علي في كتابه منهاج السنة ( 2 / 203 ) ما نصه : وليس علينا أن نبايع عاجزاً عن العدل علينا ، ولا تاركاً له ، فأئمة السنة يسلمون أنه ما كان القتال مأموراً به ، لا واجباً ولا مستحباً ) .
في المصدر السابق ( 3 / 156 ) : فلا رأي أعظم ذماً من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين ، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم ، بل نقص الخير على ما كان وزاد الشرعلى ما كان ) .
قوله : إنه ما كان القتال مأموراً به لا واجباً ولا مستحباً ، غير صحيح ،
وهو مخالف لما رواه النسائي بالإسناد الصحيح في الخصائص عن علي رضي الله عنه أنه قال : أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، فالناكثون هم الذين قاتلوه في وقعة الجمل ، والقاسطون هم الذين قاتلوه في صفين ، والمارقون وهم الخوارج ،
--------------------------- 246 ---------------------------
وهذا الحديث ليس في إسناده كذاب ولا فاسق ، كما زعم ابن تيمية !
ثم إن علياً خليفة راشد واجب الطاعة على المؤمنين لقوله تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ، وقد قال الإمام أبو القاسم الرافعي محرر المذهب الشافعي : وثبت أن أهل الجمل وصفين والنهروان بغاة .
وقد أثبتها الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير ( 4 / 44 ) فقال بعد إيرادها : هو كما قال ، ويدل عليه : أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين . رواه النسائي في الخصائص والبزار والطبراني . والقاسطين أهل الشام لأنهم جاروا عن الحق في عدم مبايعته .
ومثله ذكر الحافظ في فتحه ( 13 / 57 ) : ( وقد ثبت أن من قاتل علياً كانوا بغاة . وأما قوله : إنه لم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم ، فهو باطل . روى الحاكم وابن حبان والنسائي في الخصائص أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فقال أبو بكر : أنا يا رسول الله ؟ قال : لا ، قال عمر : أنا يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل ، وكان علي يخصف النعل . فالرسول زكى قتال عليٍّ في جميع الوقائع ، ومن قاتله كان عاصياً ، ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال للزبير : إنك لتقاتلنه وأنت ظالم له ، فالزبير مع جلالة قدره ظَلَمَ ولكنه ندم ورجع .
ثم يردُّ قوله هذا ، الحديث المتواتر الذي رواه البخاري : ويحُ عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم للجنة ويدعونه إلى النار : فعمار الذي كان في جيش علي كان داعياً إلى الجنة بقتاله مع علي ، فعليٌّ داعٍ إلى الجنة بطريق الأولى ، وعمار ما نال هذا الفضل إلا بكونه مع علي ، فهو وجيشه دعاة إلى الجنة ومقاتلوهم دعاة إلى النار ، فلو لم يكن إلا حديث البخاري لكفى في تكذيب ابن تيمية ، فكيف يقول إن القتال لاواجباً ولا مستحباً ، والرسول زكى قتال علي في جميع الوقائع !
وكيف يقول إنه لم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم وعلي كان داعياً إلى الجنة ، ومن قاتل معه فله أجر ، ومن خالفه فهو باغ ظالم .
وأضاف في التوفيق الرباني : فائدة في الثناء على علي في حروبه الثلاثة :
--------------------------- 247 ---------------------------
ذكر في كتاب الفرق بين الفرق / 350 ، ما نصه : وقالوا بإمامة علي في وقته ، وقالوا بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين وبنهروان . وقالوا بأن طلحة والزبيرتابا ورجعا عن قتال علي ، لكن الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع بعد منصرفه من الحرب ، وطلحة لما هم بالانصراف رماه مروان بن الحكم ، وكان مع أصحاب الجمل ، بسهم فقتله .
وقالوا : إن عائشة رضي الله عنها قصدت الإصلاح بين الفريقين فغلبها بنو ضبة والأزد على رأيها ، وقاتلوا علياً دون إذنها ، حتى كان من الأمر ما كان ) .
أقول : حجتهم في تحريم قولك كرم الله وجهه لعلي ( عليه السلام ) : أنه تمييز له عن غيره من الصحابة ، وأنه يتضمن التعريض بغيره بأنهم سجدوا للأصنام ، فهو حرام !
وأن صح فىحرم أن تذكر خصائص أي صحابي ، لأنك لو قلت علي ( عليه السلام ) شجاع فمعناه أن غيره جبان ، ولو قلنا رباه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فغيره ناقص التربية .
وعليه يحرم عليك أن تمدح أحداً من الصحابة بصفة تخصه بل يجب أن تعمهم ولا تميز بعضهم على بعض ، لكن لو مدحت عائشة وأبا بكر وعمر وفضلتهم فلا بأس ، ولو مدحت ابن تيمية وابن عبد الوهاب وفضلتهم ، فأنت على الصراط المستقيم !
بل على كلامهم يحرم عليك أن تمدح أي إنسان ، فلو قلت هذا أميرٌ لكان تعريضاً بغيره أنه سَوَقة ، ولو قلت هذا طبيبٌ فمعناه أن غيره عامي !
وسبب كل هذا الإفراط بغضهم لعلي ( عليه السلام ) وحسدهم له ، لأن الله تعالى خصه بالكثير الكثير ! وقد قال تعالى : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا .
قال لي أحد الوهابية : لماذا تقولون إن الوهابية نواصب ؟ قلت له : عندكم مدرسة في القطيف سميتموها : مدرسة علي بن أبي طالب ، فكتب مديرها رسالة إدارية إلى وزارة التربية ، وكتب فيها : مدير مدرسة الإمام علي . ففصلتموه من وظيفته وعممتم على الوزارات أنه يحرم توظيفه .
وثانياً : تقولون إنكم حنابلة ، وهذا مسند أحمد مملوء من : كرم الله وجهه ، وأنتم
--------------------------- 248 ---------------------------
تحرمون قول ذلك لعلي ( عليه السلام ) .
وثالثاً : ينبُع أرض أعطاها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي من الغنائم ، فاستنبط فيها مئة عين وغرس فيها مئة ألف نخلة وسماها ينبع ، وهي الآن مدينة ، وقد سميتم فيها : شارع الخليفة أبيبكر الصديق ، وشارع الخليفة عمر الفاروق ، وسميتم شارعاً باسم : شارع علي بن أبي طالب ، بلا إمام ، ولا خليفة ، ولا كرم الله وجهه !
فهل هذا إلا بغضٌ ، وهل البغض أحمر أو أزرق ! ومبغض علي ( عليه السلام ) بالإجماع ناصبي منافق ، فيحق لنا أن نسميكم نواصب .
وأقوى ما قرأت لعالم سني في ذم ابن تيمية ، ما قاله الحافظ المغربي ابن الصديق الغماري في كتابه القول الجلي في انتساب الصوفية لسيدنا علي / 53 ، قال :
( بل بلغت العداوة من ابن تيمية إلى درجة المكابرة وإنكار المحسوس ، فصرح بكل جرأة ووقاحة ولؤم ونذالة ونفاق وجهالة أنه لم يصح في فضل علي ( عليه السلام ) حديث أصلاً ، وأن ما ورد منها في الصحيحين لا يثبت له فضلاً ولا مزية على غيره ، مع أن إمامه وإمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل رحمه الله يقول : لم يرد من الأحاديث بالأسانيد الصحاح في فضل أحد من الصحابة مثل ما ورد في علي ، وهكذا قال غيره من الحفاظ !
بل أضاف ابن تيمية إلى ذلك من قبيح القول في علي وآل بيته الأطهار ما دل على أنه رأس المنافقين في عصره لقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحديث الصحيح المخرج في صحيح مسلم مخاطباً لعلي ( عليه السلام ) : لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق .
كما ألزم ابن تيمية بذلك أهل عصره وحكموا بنفاقه ، فيما حكاه الحافظ في ترجمته في الدرر الكامنة ، وكيف لايُلزم بالنفاق مع نطقه قبحه الله تعالى بما لا ينطق به مؤمن في حق فاطمة سيدة نساء العاملين رضي الله عنها ، وحق زوجها أخي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسيد المؤمنين ، فقد قال في السيدة فاطمة البتول : إن فيها شبهاً من المنافقين الذين وصفهم الله تعالى في قوله : فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ .
قال لعنة الله عليه : فكذلك فعلت هي إذ لم يعطها أبو بكر رضي الله عنه من ميراث والدها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أما علي ( عليه السلام ) فقال : فيه : إنه أسلم صبياً وإسلام الصبي غير مقبول على
--------------------------- 249 ---------------------------
قول ، فراراً من إثبات أسبقيته للإسلام ، وجحوداً لهذه المزية . وأنه خالف كتاب الله تعالى في سبع عشرة مسألة ، وأنه كان مخذولاً أينما توجه ، وأنه يحب الرياسة ويقاتل من أجلها لا من أجل الدين ، وأن كونه رابع الخلفاء الراشدين غير متفق عليه بين أهل السنة ، بل منهم من كان يربع بمعاوية وهم بنو أمية بالأندلس ، سماهم أهل السنة وكذب عليهم عليه لعائن الله تعالى ، فإن هذا لم يحصل من أهل الأندلس أصلاً ، وإنما حكي هذا عن ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد في قصة تزلف فيها لبني أمية ، فذكر معاوية رابع الخلفاء ، فاتفق أهل الأندلس على ذمه وتقبيحه فيما فعل ، فأتى هذا الكذاب ونسب ذلك لأهل السنة من أهل الأندلس كلهم ، وزعم قبحه الله أن علياً ( عليه السلام ) مات ولم ينس بنت أبي جهل التي منعه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الزواج بها !
بل فاه في حقه ( عليه السلام ) بما هو أعظم من هذا ، فحكى عن بعض إخوانه المنافقين أن عليا ( عليه السلام ) حفيت أظاهره من التسلق على أزواج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالليل ، في أمثال هذا من المثالب التي لا يجوز أن يتهم بها مطلق المؤمنين فضلاً عن سادات الصحابة رضي الله عنهم ، فضلاً عن أفضل الأمة بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
فقبح الله ابن تيمية وأخزاه ، وجزاه بما يستحق وقد فعل والحمد لله ، إذ جعله إمام كل ضال مضل بعده ، وجعل كتبه هادية إلى الضلال ، فما أقبل عليها أحد واعتنى شأنها إلا وصار إمام ضلالة في عصره ، ويكفي أن أخرج من صلب أفكاره الخبيثة قرن الشيطان وأتباعه كلاب النار ، وشر من تحت أديم السماء الذين ملأوا الكون ظلمة ، وسودوا وجهه بالجرائم والعظائم في كل مكان .
والكل في صحيفة ابن تيمية إمام الضالين وشيخ المجرمين ، وقد قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة . وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من دعا إلى ضلالة كان عليه إثم من تبعه إلى يوم القيامة ) .
- *
--------------------------- 250 ---------------------------
الفصل الأربعون: من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع عمر بن الخطاب
من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع عمر بن الخطاب
1 . سكن علي ( عليه السلام ) مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسكن عمر قرب اليهود !
بنى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيته في المدينة وبنى معه بيتاً لعلي ( عليه السلام ) وسكن فيه هو وأمه فاطمة بنت أسد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ويظهر أن البيت كان صغيراً لأنه عندما تزوج علي بفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخذ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهما بيتاً ، بعيداً نسبياً عن بيته ، ثم أخذ لهما بيتاً ملاصقاً لبيته .
أما عمر فنزل خارج المدينة في قباء قرب بني قريظة . وكان يأتي إلى مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين يوم وآخر . قال عمر كما في البخاري ( 1 / 31 ) : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك » .
وبنو أمية بن زيد جيران بني قريظة وبني زريق . « تاريخ المدينة : 1 / 170 ، وابن إسحاق ( 3 / 299 ) وابن هشام ( 2 / 569 » وبين قباء والمسجد خمسة أميال . ( البخاري : 3 / 219 )
وبنو زريق هم الذين عربوا لعمر التوراة : « جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله فقال : يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخٍ لي من بني زريق ، فتغير وجه رسول الله » ! « مجمع الزوائد : 1 / 174 ، ووثقه » . ثم جاء بنسخ أخرى وطلب من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يتبناها فغضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وصعد المنبر وحذر من عمر ورفقائه المتهوكين !
--------------------------- 251 ---------------------------
2 . لم يضرب أبو بكر وعمر بسيف ، ولا طعنا برمح ، ولا رمىا بسهم !
فكانا يذهبان معه في غزواته أو مع بعض السرايا جنديين مأمورين ، ولم يكن لهما أي دور قتالي في الحروب ، بل كانا يحفظان نفسيهما في الصف الخلفي أو يفران . ولم يؤمَّرهما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على سرية أو غزوة ، إلا تأميرهما في خيبر فرجعا مهزومين ، والمسلمون يتهمونهما بالجبن ! وقد وصفهما علي ( عليه السلام ) وعثمان بقوله : ( ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولاغَناءٌ معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ، ولا طعن برمح ، ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ورغبةً في البقاء ) .
( كتاب سُليم / 227 ) .
وقال عمر عن نفسه في بدر إنه رأى العاص بن أبي أحيحة فهرب منه ! قال لابنه سعيد بن العاص : « مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك ؟ إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن ! رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه ! فقال : إلى أين يا ابن الخطاب ! وصمد له عليٌّ فتناوله ، فما رمت من مكاني حتى قتله ! فقال له علي : اللهم غفراً ، ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما تقدم ، فما لك تهيِّج الناس عليَّ ؟ فكفَّ عمر .
وقال سعيد : أما إنه ما كان يسرني أن يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب » . « ابن هشام : 2 / 464 ، وكشف الغمة : 1 / 186 » .
فقد اعترف عمر بأنه هرب من قرنه ، فشملته آيات الفرار ! ومع ذلك زعموا أنه وأبا بكر كانا في العريش مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وفضلوهما على علي ( عليه السلام ) الذي تحمل نصف أعباء المعركة ، وجندل بسيفه نصف قتلى بدر من طغاة قريش !
وأجابهم الشريف المرتضى ( قدس سره ) في الفصول المختارة / 34 ، فقال : « إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبيبكر وعمر مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العريش أفضل من جهاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالسيف ، لأنهما كانا مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مستقره يدبران الأمر معه ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه . . إلى أن قال : فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما ، فقد ثبت أنه كان
--------------------------- 252 ---------------------------
كاملاً وأنهما كانا ناقصين عن كماله ، وكان معصوماً وكانا غير معصومين ، وكان مؤيداً بالملائكة وكانا غيرمؤيدين ، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك ، فأي فقريحصل له مع ما وصفناه » !
وقال المفيد في الإفصاح / 198 : « ثم يقال لهم : خبرونا عن حبس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبا بكر وعمر عن القتال في يوم بدر لحاجة إلى مشورتهما عليه ، وتدبيرهما الأمر معه أقلتم ذلك ظناً أو حدساً ، أم قلتموه واعتمدتم فيه على اليقين ؟ فإن زعموا أنهم قالوا ذلك بالظن والحدس والترجيم ، فكفاهم بذلك خزياً في مقالهم وشناعةً وقبحاً ، وإن ادعوا العلم به والحجة فيه طولبوا بوجه البرهان عليه ) .
أقول : من الثابت عند الجميع أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل في بدر قتالاً شديداً ، ولم يكن معه أبو بكر وعمر ، فأين كانا وقت القتال ؟
قال علي ( عليه السلام ) : لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً » ! « مكارم الأخلاق / 18 » ورواه ابن أبي شيبة : 7 / 578 ، وتاريخ دمشق : 4 / 14 ، وكنز العمال : 10 / 397 ، وصححه الطبري ، وحسنه في مجمع الزوائد : 9 / 12 .
فلابد من القول إن أبا بكر كان مثل عمر يحفظ نفسه في الصف الخلفي . وقد اعترف المتعصبون لهما بأنهما لم يقاتلا في أي معركة ، وقالوا إنهما قاتلا بالكلام والدعوة إلى الإسلام ، فهما أشجع من علي ( عليه السلام ) ! وأول من ابتدع ذلك ابن حزم ، وفرح به ابن تيمية فقال في منهاجه ( 8 / 86 ، و 78 ) : فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة . . وأبو بكر وعمرمقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن !
قال أبو محمد بن حزم : وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً ، والجهاد أفضل الأعمال . وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة : أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان ، والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير ، والجهاد باليد في الطعن والضرب أقل مراتب الجهاد !
ثم قال ابن تيمية : « وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة شجاعة القلب ، فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر ، وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير ، وهذا
--------------------------- 253 ---------------------------
يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم ، فإن أبا بكر باشرالأهوال التي كان يباشرها النبي من أول الإسلام إلى آخره ، ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل ، وكان يقدم على المخاوف يقي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله ، وهو في ذلك كله مقدم ! وكان يوم بدر مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله ، وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي ويعاونه » ! وكرر ابن تيمية هذره هذا في كتبه !
ورد عليه علماء الشيعة : الغدير : 7 / 200 ، ومحاضرات الميلاني : 1 / 324 ، ودراساته في منهاج السنة / 214 ، والصحيح من السيرة : 5 / 41 . والظاهر أنه لم ىكن عرىش في بدر أصلاً !
3 . شَبَّهَ عمر هروبه في أحُد بهروب العنزة البرية
فقد انهزم المسلمون عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نحو المدينة أوجبل أحد ، وقال عمر في خطبته عن نفسه كما في تفسير الطبري ( 4 / 193 ) : « لما كان يوم أحد ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد » !
وزعموا أن أبا بكر لم يهرب في أحد ، قال ابن سعد ( 2 / 42 ) : « ثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً ، سبعة من المهاجرين فيهم أبوبكرالصديق وسبعة من الأنصار » .
لكن عائشة كذَّبته فقالت كان أبوها من أوائل الذين رجعوا من الهزيمة ! قال ابن سعد « 3 / 155 » : « عن عائشة قالت : حدثني أبو بكر قال : كنت في أول من فاء إلى رسول الله يوم أحد » .
4 - ولحقهم علي ( عليه السلام ) في أول فرارهم ووبخهم !
في تفسير القمي ( 1 / 114 ) : « وروي عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال : كنت أماشي فلاناً « عمر » إذ سمعت منه همهمة فقلت له مه ، ماذا يا فلان ؟ قال ويحك أما ترى الهزير القضم ابن القضم . فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب ، فقلت له : يا هذا هو علي بن أبي طالب ! فقال : أدن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته ، بايعنا
--------------------------- 254 ---------------------------
النبي يوم أحد على أن لا نفر ومن فر منا فهو ضال ، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي زعيمه ، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون فأزعجونا عن طحونتنا ، فرأيت علياً كالليث يتقي الدَّر ، وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا ثم قال : شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت ، إلى أين تفرون ، إلى النار ! فلم نرجع ، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت فقال : بايعتم ثم نكثتم ؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل ! فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً ، أو كالقدحين المملوين دماً ، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا ، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت : يا أبا الحسن الله الله ، فإن العرب تكر وتفر وإن الكرة تنفي الفرة ، فكأنه استحيا فولى بوجهه عني ، فما زلت أسكن روعة فؤادي ! فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة » !
5 - هرب عُمر من ابن ود ومن ضرار بن الخطاب الفهري !
قال علي ( عليه السلام ) : ( وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غير مرة واحدة ، ثم فر ومنح عدوه دبره ، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مراراً ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتَغَيَّر ( أظهر الغيرة ) وأمر ونهى . ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه ، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مما رآى به من الرعب ! وقال : أين حبيبي علي ؟ تقدم يا حبيبي يا علي . والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا وحمل الناس على رقابنا » . ( كتاب سليم / 347 ) .
وفي تفسير القمي ( 2 / 183 ) : ( وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب ، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال ضرار : ويحك يا ابن صهَّاك أترميني في مبارزة ! والله لئن رميتني لاتركتُ عدوياً بمكة إلا قتلته ! فانهزم عنه عمر ، ومرَّ نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة ثم قال : إحفظها يا عمر . . فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما وليَ ، فولاه ) !
--------------------------- 255 ---------------------------
6 . وهرب عُمر في حرب خيبر !
أبقى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) علياً ( عليه السلام ) في منطقة حصن ناعم ليرتب أمرها ، وجاء بجيشه إلى حصن القموص وهو يبعد بضعة كيلو مترات ، وكان يعطي الراية لبعض أصحابه ، فيوماً لسعد بن عبادة ، ويوماً للزبير ، ويوماً لطلحة ، ويوماً لسعد بن أبي وقاص ، ويوماً لأبيبكر ، ويوماً لعمر بن الخطاب . وكان الجميع يرجعون مهزومين ! ولم يجرؤوا على العبور إلى مرحب لمبارزته ! ولذا قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : « يا علي إكفني مرحباً » . « أمالي الطوسي / 4 ، والخرائج : 1 / 217 » .
وفي رواية مجمع الزوائد : 6 / 151 ، أن هزيمة عمر كانت سريعة قال : « بعث عمر ومعه الناس ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه ) !
ووثق في الزوائد ( 6 / 151 ، و : 9 / 124 ) رواية أحمد : « أن رسول الله أخذ الراية فهزها ثم قال : من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان فقال : أمِطْ » ( إذهب عني ) ! « ثم جاء رجل آخر فقال : أمط ! ثم قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلاً لا يفر ، هاك يا علي ! فانطلق حتى فتح الله عليه ) . وشرح الأخبار : 1 / 321 والعمدة / 139 ، وأبو يعلى : 2 / 499 ، وأحمد : 3 / 16 ، وتاريخ دمشق : 1 / 194 ، ونهاية ابن الأثير : 4 / 381 .
وفي صحيح مسلم ( 7 / 131 ) : ( قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ، قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ، قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها ، قال : فدعا رسول الله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها ، وقال : إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ) .
7 . وكان علي مطيعاً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحديبية بينما انشق عنه عمر
كان علي ( عليه السلام ) في الحديبية صاحب لواء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقائد جيشه ، وقد نفذ مجموعة عمليات ضد جيش قريش ، وأسر منهم نحو ثمانين رجلاً ، وكتب المعاهدة المعروفة بين النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقريش . وكان في كل ذلك مطيعاً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد مدحه وأطلق فيه أقوالاً عظيمة ، كما بينا في السيرة النبوية ، منها ما رواه الخطيب البغدادي في
--------------------------- 256 ---------------------------
ثلاثة مواضع من تاريخه » 2 / 377 ، و : 3 / 181 ، و : 4 / 441 « عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : « سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو آخذ بضبع على يوم الحديبية وهو يقول : هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله . مد بها صوته » .
وروى الخطيب أيضاً قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد البيت فليأت الباب ! وتاريخ دمشق : 42 / 226 ، و 282 ، وفتح الملك العلي لابن الصديق المغربي / 57 ، والحاكم : 3 / 129 ، لكن الأخير لم يذكر أن مناسبته في الحديبية .
وقال الخطيب التبريزي في الإكمال / 111 : « هذا حديث حسن صحيح فقد حسنه ابن حجر والعلائي وجماعة ، وصححه ابن معين وابن جرير والحاكم والسيوطي والعلامة الهندي وجماعة من السلف . وله شاهد من حديث ابن عباس عنه الطبري والطبراني والحاكم والخطيب ، ومن حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عنه الترمذي وابن جرير ، وقد تكلم فيه جماعة من المتعنتين والمتعصبين في الجرح فلا يلتفت إليهم !
ورواه من مصادرنا : الطوسي في الأمالي / 483 ، والطبري الشيعي في المسترشد / 622 ، عن محمد بن المنكدر ، وفيه أنه يوم الحديبية .
وقال العلامة في كشف اليقين / 136 : « وله في هذه الغزاة فضيلتان ، إحداهما : أنه لما خرج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى غزاة الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماء فبعث سعد بن مالك بالروايا فغاب قريباً وعاد وقال : لم أقدر على المضي خوفاً من القوم ! فبعث آخر ففعل كذلك ، فبعث علياً ( عليه السلام ) بالروايا فورد واستسقى وجاء بها إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعا له بخير .
والثانية ، وذكر حديث تهديد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لقريش بعلي ( عليه السلام ) وفيه : « وأومأ إلى علي فإنه يقاتل على التأويل إذا تُركت سنتي ونُبذت ، وحُرِّف كتاب الله ، وتكلم في الدين من ليس له ذلك ، فيقاتلهم على إحياء دين الله » .
أما عمر فأمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يحمل رسالة من الحدىبىة إلى قريش فقال : « إن عشيرتي قليل وإني فيهم على ما تعلم ، ولكني أدلك على عثمان » . « الكافي : 8 / 326 » .
ولما كتب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معهم كتاب الصلح ، غضب عمر على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
--------------------------- 257 ---------------------------
قال الطبري الشيعي في المسترشد / 536 : « فغضب الثاني وقال لصاحبه : يزعم أنه نبي وهو يرد الناس إلى المشركين ! ثم أتى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ألست برسول الله حقاً ؟ قال : بلى قال : ونحن المسلمون حقاً ؟ قال : بلى ، قال : وهم الكافرون ؟ قال : بلى ، قال : فعلى مَ نعطي الدنية في ديننا ؟ !
فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنما أعمل بما يأمرني به الله ربي ، إنه من خرج منها إليهم راغباً فلا خير لنا في مقامه بين أظهرنا ، ومن رغب فينا منهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً .
فقال : والله ما شككت في الإسلام إلا حين سمعت رسول الله يقول ذلك ! وقام من عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متسخطاً لأمر الله وأمر رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غير راض بذلك ، ثم أقبل يمشي في الناس ويؤلب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ويعرض به ويقول : وعدنا برؤياه التي زعم أنه رآها يدخل مكة ، وقد صُددنا عنها ومُنعنا منها ثم ننصرف الآن وقد أعطينا الدنية في ديننا ! والله لو أن معي أعواناً ما أعطيت الدنية أبداً ) !
وقال ابن عباس كما في الواقدي ( 1 / 607 ) : ( قال لي في خلافته وذكر القضية : إرتبت ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمت إلى يومئذ ، ولو وجدت شيعة أخرج معهم رغبة عن القضية لخرجت » !
أي لخرجت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقاتلته ! والسبب أنه بعد الصلح يبقي شخصاً عادياً من بني عدي ! وهو يريد أن يدخل منتصراً على قريش ، ويأخذ بالنبي موقعاً !
قال المحامي الأردني في كتاب المواجهة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) / 369 : « لقد اعتبر عمر هذه المعاهدة ( دنية ) وقال للرسول أمام المسلمين : فعلامَ نعطي الدنية في ديننا ! وظهر الرجل بمظهر من يزاود على الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالدين ، الذي علمه الرسول إياه ! وقبل يوم واحد فقط طلب رسول الله من عمر أن يذهب إلى بطون قريش ليقول لها : بأن رسول الله لم يأت لقتال أحد إنما جئنا زواراً لهذا البيت معظمين لحرمته ، معنا الهدي ننحره وننصرف ، فرفض وقال : يا رسول الله إني أخاف
--------------------------- 258 ---------------------------
قريش على نفسي وليس بها من بني عدي من يمنعني » ( مغازي الواقدي : 2 / 600 ) .
واعتزل عمرجانباً فلم يبايع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبقيت في نفسه عقدة من بيعة المسلمين تحت الشجرة ، فقطعها في خلافته !
8 - وهرب عُمر في غزوة حنين
قال ابن هشام ( 4 / 893 ) : « وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال : أيها الناس هلموا إليَّ ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله ! قال : فلا شئ » .
ولم يقاتل أحدٌ في حنين بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن حوله ، إلا علي ( عليه السلام ) بدليل عدم وجود شهداء للمسلمين ! وعدم وجود قتلى للمشركين إلا من قتلهم علي ( عليه السلام ) !
وفي صحيح بخاري : 4 / 57 ، قال أبو قتادة : « فلحقتُ عمر بن الخطاب فقلتُ : ما بال الناس ؟ قال : أمر الله » ! فإن كان يقصد نسبة الفرار إلى الله تعالى فهو افتراء !
وفي المناقب ( 1 / 355 ) : « وقف ( علي ( عليه السلام ) ) يوم حنين في وسط أربعة وعشرين ألف ضارب سيف ، إلى أن ظهر المدد من السماء . وقتل أربعين رجلاً وفارسهم أباجرول ، قدَّه بنصفين بضربة في الخوذة والعمامة والجوشن والبدن إلى القربوس » .
أقول : كان أبو جرول على جمل فضرب علي ( عليه السلام ) قوائمه فوقع على عجزه ، فعلاه بذي الفقار وقدَّه نصفىن . ولا بدأنه ففز لىعلوه ! وله مع مرحب مثلها !
وفي سيرة ابن هشام : 4 / 896 : « فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) » ! والدرر لابن عبد البر / 227 .
9 . وتخلف عمر عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد حنين
فقد زعم أن عليه نذراً بالإعتكاف من أيام الجاهلية ، فلم يرجع مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى المدينة بل ذهب إلى مكة ليعتكف ، ومعه جارية من غنائم هوازن ، ولما أطلق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) سبي هوازن تركته الجارية ورجعت إلى أهلها .
وقد روى خبر تأخره البخاري ( 4 / 59 ) ومسلم ( 5 / 89 ) . والمرجح أنه ذهب للتشاور مع زعماء قريش الطلقاء ، ووضع الخطط لأخذ خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من أهل بيته .
--------------------------- 259 ---------------------------
10 . هل كان أبو بكر وعمر في مؤامرة العقبة ؟
روت هذه المؤامرة مصادر الجميع ، وتُعرف بليلة العقبة ، ويُعرف منفذوها بأصحاب العقبة ! وقد تلثموا وصعدوا ليلاً إلى الجبل وبدؤوا بإلقاء الصخور على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لما وصل إلى العقبة ، فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) وأضاء بجناحه وكشفهم ، فنزلوا مسرعين واختلطوا بالجيش ، ولم يعلن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسماءهم لخطورة ذلك
على الإسلام !
روى مسلم في صحيحه ( 8 / 123 ) عن أبي الطفيل قال : « كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟ قال فقال له القوم : أخبره إذْ سألك ! قال : كنا نُخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ! وأشهد بالله أن اثني عشرمنهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) !
وتدل هذه الرواية الرسمية على أن المتآمرين كانوا بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين المسلمين وكان حذيفة يعرفهم وكذا عمار ، وكذا أهل البيت ( عليهم السلام ) ! قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ .
قال البيضاوي ( 3 / 158 ) : وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا من الفتك بالرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي ، إذا تسنم العقبة بالليل ! فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها ، وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل ، وقعقعة السلاح فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا » .
قال ابن حزم في المحلى ( 11 / 224 ) : ( وأما حديث حذيفة فساقط لأنه من طريق الوليد بن جُميع ، وهو هالك ، ولا نراه يَعلم من وضع الحديث ، فإنه قد روى
--------------------------- 260 ---------------------------
أخباراً فيها أن أبا بكر وعمروعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أرادوا قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإلقاءه من العقبة في تبوك ! وهذا هو الكذب الموضوع الذي يطعن الله تعالى واضعه فسقط التعلق به ، والحمد لله رب العالمين .
انتهى كلام ابن حزم ، وقد كذَّب الحديث لأن راويه ابن جمُيَعْ ضعيف ، لكنه موثق في مصادرهم ، وقد وثقه ابن حزم نفسه فعده من رجال مسلم ( 11 / 221 ) !
وفي الجرح والتعديل ( 9 / 8 ) : ( كان يحيى بن سعيد لا يحدثنا عن الوليد بن جميع ، فلما كان قبل موته بقليل حدثنا عنه ، وروى عن أحمد قال : ليس به بأس . وعن يحيى بن معين : الوليد بن جميع ثقة . قال سألت أبا زرعة قال : لا بأس به ) . ووثقه آخرون !
11 . علي ( عليه السلام ) وعمر في حجة الوداع
روى الجميع تأكيدات النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حجة الوداع على احترام دماء المسلمين وحرياتهم ، وتحذيره لهم أن ينقلبوا على أعقابهم ويرجعوا كفاراً يتنازعون سلطانه ، ويضرب بعضهم رقاب بعض لأجل السلطة .
ورووا تأكيداته المكررة على اتباع عترته أهل بيته ( عليهم السلام ) وعلى القرآن . وبشارته للمسلمين بأن الله اختار لهم اثني عشر إماماً ربانياً من بعده ، غرسهم الله في هذا البطن من هاشم .
ولم يرق لقريش تأكيده على عترته فقالوا إنه قال إن الأئمة هم القرشيون ، وائتمروا أن يعزلوا عترته ، ويأخذوا قيادة دولته ، ويبايعوا أحد القرشيين المعروفين من صحابته ، وكتبوا بينهم صحيفة بذلك ! فقد قال علي ( عليه السلام ) لأصحاب السقيفة لما طلبوا منه البيعة ( الإحتجاج : 1 / 108 ) : ( لشد ما وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة : إن قتل الله محمداً أو أماته ، أن تزووا هذا الأمر عنا أهل البيت !
فقال أبو بكر : وما علمك بذلك أطلعناك عليها ؟ قال علي يا زبير ويا سلمان وأنت يا مقداد أذكركم بالله وبالإسلام ، أسمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك : إن فلاناً وفلاناً حتى عد هؤلاء الخمسة ، قد كتبوا بينهم كتاباً وتعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا ؟ قالوا : اللهم نعم ، قد سمعناه يقول ذلك لك ، فقلتَ له : بأبي أنت وأمي يا نبي الله فما تأمرني أن أفعل إذا كان ذلك ؟ فقال لك : إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم
--------------------------- 261 ---------------------------
ونابذهم وإن لم تجد أعواناً فبايعهم ، واحقن دمك ) .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( دخلت مع أبي الكعبة فصلى على الرخامة الحمراء بين العمودين ، فقال : في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو قتل ، ألا يردوا هذا الأمر في أحد من أهل بيته أبداً ) ! ( الكافي : 4 / 545 ) .
وفي تاريخ المدينة لابن شبه ( 3 / 942 ) : ( لما أتيَ بجنازة عمر فوضعت فقال علي : ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته ، من أن ألقاه بصحيفة هذا المسجى بينكم ) .
وفي معاني الأخبار / 413 : ( عن مفضل بن عمر قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن معنى قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه لما نظر إلى الثاني وهو مسجى بثوبه : ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفة من هذا المسجى ، فقال : عنى بها الصحيفة التي كتبت في الكعبة ) !
12 . قاد عمر الطلقاء فصاحوا بوجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومنعوه من كتابة عهده !
روت المصادر حديث الانقلاب على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي قاده عمر بن الخطاب بمناصرة طلقاء قريش ، فقد وقف في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه وردَّ عليه ، ومنعه أن يكتب لأمته عهداً يُؤمِّنُها من الضلال ، ويجعلها سيدة العالم ! فصاح في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : حسبنا كتاب الله . وصاح خلفه الطلقاء : القول ما قاله عمر ،
لا تقربوا له شيئاً !
قال البخاري ( 1 / 36 ) : « عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا : وكثر اللغط ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع . فخرج ابن عباس يقول : إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبين كتابه » !
بل قال : إن نبىكم لىهجر ، أي خرفان ! واستفهموه لأثبت لكم !
--------------------------- 262 ---------------------------
13 . وقاد عمر تسويف تحرك جيش أسامة !
وذلك أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه أفرغ المدينة من مخالفي علي ( عليه السلام ) وأرسلهم إلى مؤتة بقيادة أسامة بن زيد ، وهو شاب أسود عمره ثماني عشرة سنة . وصح عنه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه قال : ( أنفذوا بعث أسامة ، لعن الله من تخلف عنه ) !
قال الجرجاني في شرح المواقف ( 8 / 376 ) : ( فقال قوم بوجوب الاتباع لقوله ( عليه السلام ) جهزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عنه . وقال قوم بالتخلف انتظاراً لما يكون من رسول الله ( عليه السلام ) في مرضه ) .
وفي سيرة ابن هشام : « 4 / 1025 ، و 1064 » : « استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه ، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة ( قالها عمر ) : أمَّرغلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار ! فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقاً لها ) !
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لرئيس اليهود ( الخصال / 372 ) : ( ثم أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد ، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ، ممن يخاف عليَّ نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم ، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمرأمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد !
فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ، قد تركوا مراكزهم ، وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أنهضهم له
--------------------------- 263 ---------------------------
وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي .
فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشغول وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ) .
14 . وقاد عمر عمليات السقيفة !
فقد ترك جيش أسامة بدون إذنه ، وأقبل هو وأبو بكر وأبو عبيدة راكضين إلى المدينة ، وما أن توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى قال العباس : مُدَّ يدك يا علي لأبايعك ليقولوا عم رسول الله بايع ابن عمه ، فلا يطمع بها طامع ، فلم يقبل علي ذلك ، عملاً بوصية رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فشهر عمر سيفه وأخذ يمشي في السكك حول المسجد ويقول : من قال إن رسول الله مات ضربته بسيفي هذا ، لم يمت رسول الله بل غاب وسيعود ويقتل من قال إنه مات ، ويقطع أيديهم وأرجلهم .
يريد بذلك منع البيعة لعلي ( عليه السلام ) . حتى جاء أبو بكر وقال : ( إن الله نعى نبيكم إلى نفسه ، قال : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . فقال عمر : هذه الآية في القرآن ؟ والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم ) . ( الدر المنثور : 2 / 81 ) .
واطمأن عمر وأبو بكر إلى أن بيعة علي ( عليه السلام ) لا تحصل اليوم : ( فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان ( سيرة ابن كثير : 4 / 491 ) إلى بيت سعد بن عبادة ، ولقيهم في الطريق أبو عبيدة ، واثنان من خصوم سعد ، فتناقشوا في بيت سعد قليلاً ، وقدم عمر أبا بكر وصفق على يده على أنه خليفة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وتراكض الطلقاء يبايعونه
--------------------------- 264 ---------------------------
ويحيطون به ! وجاؤوا به إلى المسجد يزفونه ،
قال البراء بن عازب : ( فجعلت أتردد بينهم وبين المسجد وأتفقد وجوه قريش ، فإني لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر ، ثم لم ألبث حتى إذا أنا بأبيبكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية ، لا يمر بهم أحد إلا خبطوه ، فإذا عرفوه مدوا يده فمسحوها على يد أبيبكر شاء أم أبى ! فأنكرت عقلي ! وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً وقلت : قد بايع الناس لأبيبكر بن أبي قحافة ، فقال العباس : تربت أيديكم إلى آخر الدهر ، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني ! فمكثت أكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل المقداد ، وسلمان ، وأبا ذر ، وعبادة بن الصامت ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وحذيفة ، وعماراً ، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ! ) . ( السقيفة للجوهري / 48 ، وكتاب سليم / 139 ، وشرح النهج / 219 ) .
ويبدو أن الأزر الصنعانية جاء بها والي اليمن يعلى بن أمية ، وأنه كان من الأول معهم ! وبلغ ذلك علياً ( عليه السلام ) وهو مشغول بتجهيز جنازة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأجاب على فعلهم بما بيناه في محله . ثم كان هجومهم على بيته ( عليه السلام ) لإجباره على البيعة .
15 . واصل عمر هجومه على بيت علي ( عليه السلام ) حتى أخذوه !
قال سُليم / 150 : ( فأرسل عمر يستغيث ، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار وثار علي ( عليه السلام ) إلى سيفه ، فرجع قنفذ إلى أبيبكر وهو يتخوف أن يخرج علي إليه بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدته . فقال أبو بكر لقنفذ : إرجع فإن خرج وإلا فاقتحم عليه بيته ، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم النار .
فانطلق قنفذ الملعون فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وثار علي ( عليه السلام ) إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه وهم كثيرون ، فتناول بعضهم سيوفهم فكاثروه ، وضبطوه فألقوا
في عنقه حبلاً ) !
--------------------------- 265 ---------------------------
16 . وضرب عمر وأصحابه فاطمة الزهراء ( عليها السلام )
فقد كان يحث أبا بكر على مهاجمة بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن اعتصم معهم ، وإجباره على البيعة ، وقاد هو الهجوم على بيت علي أكثر من مرة ، وشاركه في الجرم ثمانية عشر نفراً أو أكثر ، وضرب فاطمة ( عليها السلام ) هو وصاحبه قنفذ بنعل السيف على عضدها وجنبها ، فكسروا ضلعها وأسقطت جنينها ، صلوات الله عليها .
وبعد مدة كانت الزهراء ( عليها السلام ) خارجة من عند أبيبكر وقد كتب لها كتاباً بإرجاع فدك ، فرآها عمر وأخذ منها الكتاب بالقوة ومزقه ! إلى آخر ما ارتكبه في حقها ( عليها السلام ) .
وفي رواية فريدة أن الزهراء ( عليها السلام ) أخذت ذات مرة بتلابيب عمر وجرته ( الكافي ( 1 / 460 ) : ( عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قالا : إن فاطمة ( عليها السلام ) لما أن كان من أمرهم ما كان ، أخذت بتلابيب عمر فجذبته إليها ثم قالت : أما والله يا ابن الخطاب لولا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له ، لعلمت أني سأقسم على الله ثم أجده سريع الإجابة ) !
17 . جَلَدَ علي ( عليه السلام ) بعمر الأرض مرتين أيام السقيفة !
الأولى : لما هاجموا بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل ، فاستقبلته فاطمة ( عليها السلام ) وصاحت : يا أبتاه يا رسول الله ، فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت : يا أبتاه ! فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت : يا رسول الله ، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر !
فوثب علي ( عليه السلام ) فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله فذكر قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما أوصاه به ، فقال : والذي كرم محمداً بالنبوة ، يا ابن صهاك ، لولا كتاب من الله سبق ، وعهد عهده إليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلمت أنك لا تدخل بيتي ) ! ( كتاب سليم / 150 و 387 ) .
والثانية : لما ختم مناقشات أنصاره ( عليها السلام ) لأهل السقيفة في المسجد الإحتجاج : 1 / 105 ) : ( قام إليه سلمان الفارسي فقال : الله أكبر الله أكبر ، سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بهاتين
--------------------------- 266 ---------------------------
الأذنين وإلا صمتا يقول : بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه ، إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل من معه ! فلست أشك إلا وأنكم هم ! فهمَّ به عمر بن الخطاب ، فوثب إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ، ثم قال : يا ابن صهاك الحبشية ، لولا كتاب من الله سبق ، وعهد من رسول الله تقدم ، لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً !
ثم التفت إلى أصحابه فقال : انصرفوا رحمكم الله ، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون ، إذ قال له أصحابه : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا
إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ .
والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو لقضية أقضيها ، فإنه لا يجوز لحجة أقامها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يترك الناس في حيرة ) .
والثالثة : شبيهة بهما ، عندما أراد عمر أن ينبش قبر فاطمة ( عليها السلام ) ليصلي عليها هو وأبو بكر ( كتاب سليم / 393 ) : ( فقال عمر : والله لا تتركون يا بني هاشم حسدكم القديم لنا أبداً . إن هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب . والله لقد هممت أن أنبشها فأصلي عليها . فقال علي ( عليه السلام ) : والله لو رمت ذلك يا ابن صهاك لارجعت إليك يمينك . والله لئن سللت سيفي لا غمدته دون إزهاق نفسك ، فرم ذلك ! فانكسر عمر وسكت ، وعلم أن علياً إذا حلف صدق !
ثم قال علي ( عليه السلام ) : يا عمر ، ألستَ الذي هم بك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأرسل إلي ، فجئت متقلداً بسيفي ، ثم أقبلت نحوك لأقتلك ، فأنزل الله عز وجل : فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ! فانصرفوا ) .
18 . سرقوا مناقب علي ( عليه السلام ) وأعطوها لعمر !
قال المسعودي في التنبيه والإشراف / 200 : « كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر أصحابه قبل هجرته بالهجرة إلى المدينة ، فخرجوا أرسالاً ، فكان أولهم قدوماً أبو سلمة عبد الله بن عبدالأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وعامر بن ربيعة ، وعبد الله بن جحش الأسدي ، وعمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة » .
--------------------------- 267 ---------------------------
فقد كان عمر من أوائل المهاجرين ، قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمدة . وكانت هجرته سراً مفرداً ، قال عمر : « اجتمعنا للهجرة ، أوعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص الميضاة » . ( مجمع الزوائد : 6 / 61 ، ووثقه ونحوه ابن هشام : 2 / 63 ) . أي واعد رفيقيه عند ميضأة بني غفار في المدينة ، لا في مكة ، ولا في الطريق !
وقال البخاري ( 2 / 264 ) : « قال البراء بن عازب : أول من قدم علينا مصعب وبلال وسعد وعمار ، ثم عمر بن الخطاب ، في عشرين من أصحاب النبي
ثم قدم النبي » .
وكانت هجرة علي ( عليه السلام ) الهجرة العلنية الوحيدة ، فسرقوها وأعطوها إلى عمر ، ومن بهتانهم جعلوا روايتها على لسان علي ( عليه السلام ) وأنه قال : « ما علمت أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب » « أسد الغابة : 4 / 58 » .
وهذا لا يتفق مع اختباء عمر حتى أجاره العاص بن وائل كما رووا ! قال البخاري ( 4 / 242 ) : ( بينما هو في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير وهو من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية فقال له : ما بالك ؟ قال : زعم قومك أنهم سيقتلونني إن أسلمت . قال لا سبيل إليك ، أمنت . فخرج العاص فلقي الناس قد سال بهم الوادي فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : نريد هذا ابن الخطاب الذي صبا ، قال لا سبيل إليه ، فكرَّالناس ) .
أما ابن الجوزي فيدهشك في كتابه : المدهش / 224 ، بقوله : « هاتوا لنا مثل عمر ! كل الصحابة هاجروا سراً وعمر هاجر جهراً ، وقال للمشركين قبل خروجه : ها أنا على عزم الهجرة ، فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي » !
وهكذا يتجاهر الشيخ ابن الجوزي بالمكذوبات ، ويزعم أن عمر شجاع ، ولم نره عند أي خطر عرض للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ولاعند نزول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في قباء ولا
في بناء المسجد !
--------------------------- 268 ---------------------------
19 . قرر أبو بكر وعمر تغييب سنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخالفهم علي ( عليه السلام )
أصدر أبو بكر وعمر مراسيم منع تدوين السنة وأحرقا ما كتبه المسلمون منها ، ومنعا الصحابة من التحديث عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تحت طائلة العقوبة والسجن !
قالت عائشة : « جمع أبي الحديث عن رسول الله وكانت خمس مائة حديث ، فبات ليلته يتقلب كثيراً ! قالت : فغمني فقلت : أتتقلب لشكوى أو لشئ بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها فدعا بنار فحرقها ، فقلت لم أحرقتها ؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني » ! ( تذكرة الحفاظ : 1 / 5 ) .
أما عمر فأحرق السنة ولم يتأرق !
قال في الطبقات ( 5 / 140 ) : « أنشد الناس أن يأتوه بها ، فلما أتوه بها أمر بتحريقها » ! وقالوا طلب المهلة شهراً لما طلبوا منه تدوينها ، ثم استخار الله فأمره الله أن يحرقها ، فحرقها ! ( كنز العمال : 10 / 291 ) .
وقد بحث ذلك المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب ، في كتابه القيم : أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها ؟ وعقد فيه ثمانية أبواب :
الباب الأول : مكانة سنة الرسول في دين الإسلام .
والثاني : من يؤدي عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من يبين القرآن ومن يبلغ السنة بعد موته ؟
والثالث : مخططاتهم لنسف الإسلام وتدمير سنة الرسول بعد موته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
والرابع : سنة الرسول بعد موت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
والخامس : منع كتابة سنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل وبعد استيلائهم على الخلافة .
والسادس : استبدال سنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسنة الخلفاء !
والسابع : إباحة كتابة ورواية سنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد مائة عام من تحريمها !
والثامن : أهل بيت النبوة وسنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وقال في / 269 : ( كان لعمر بن الخطاب مفهومه الخاص به عن سنة الرسول بأنواعها
--------------------------- 269 ---------------------------
الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية . وبقي عمر وفياً لهذا المفهوم في صحة النبي وفي مرضه ، وقبل أن يتولى عمرالخلافة وبعد أن تولاها .
والظاهر من أقوال عمر ومن تصرفاته أنه كان لا يعتقد بأن كل ما يقوله الرسول أو يفعله صحيحاً أو من عند الله ! لقد أقنع نفسه بأن له الحق بإبداء مطالعاته على ما يقوله الرسول أو يفعله !
قال عبد الله بن عمرو بن العاص : كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش . فعمر كان على رأس قريش التي نهت عبد الله بن عمرو عن كتابة كل شئ يسمعه من رسول الله ، بدعوى أن الرسول يتكلم في الغضب والرضا . وحسب هذا الخبر الصحيح فإن عمر كان يعتقد بأنه ليس كل ما يقوله الرسول صحيحاً ، وجديراً بالكتابة ) !
وروى الحاكم ( 1 / 110 ) : ( أن عمر قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر : ما هذا الحديث عن رسول الله ! وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب ) .
ومن عجيب ما رأيت قول محمد رشيد رضا في تفسير المنار ( 10 / 766 و : 19 / 511 ) بعد أن ذكر نهيهم عن كتابة الحديث وإحراقهم ما كتبه الناس : ( قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث كلها ديناً عامَّاً دائماً ، كالقرآن ) .
وكلام هذا الناصبي صحيح ، فمذهب هؤلاء ينقض قوله تعالى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا : فهم يقولون : ما آتاكم الرسول فخذوا بعضه ، وما نهاكم عنه فانتهوا عن بعضه ، والذي يعين لكم ما تأخذون وما ترمون :
عمر بن الخطاب !
أما علي ( عليه السلام ) فقد بَلَّغَ أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكتابة سنته لأنها كلها حق ، ووقف ضد سياسة منع الحديث ، وكان يأمر بالتحديث والتدوين ، وعلى خطه سار الأئمة
من أبنائه ( عليهم السلام ) .
قال ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أكتبوا هذا العلم فإنكم تنتفعون به ، إما في دنياكم وإما في آخرتكم ، وإن العلم لا يضيع صاحبه ) . ( كنز العمال : 10 / 262 ) .
--------------------------- 270 ---------------------------
وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( يا معشر المسلمين واليهود : أكتبوا بما سمعتم فقالوا : يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى . فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الكتابة أذكر لكم ) . ( الإحتجاج : 1 / 42 ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا ) . ( الكافي : 1 / 52 )
20 . عمر والقرآن وعلي ( عليه السلام )
بحثنا موقف عمر من القرآن في كتاب : تدوين القرآن ، وكتاب : ألف سؤال وإشكال ، وكتاب : قرآن علي ( عليه السلام ) . وأثبتنا أن عمر كان يرى أن أكثر القرآن قد فُقد ، وكان يقرأ قراءات لم يوافقه عليها أحد من المسلمين ، وكان يُعِدُّ نسخةً عند حفصة لينشرها ويعممها ، لكن عاجله الموت قبل أن ينشرها ، ولله الحمد .
أما علي ( عليه السلام ) فكان رأيه أن القرآن محفوظ بكامله عنده ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمره إذا أكمل مراسم تغسيله وتكفينه ودفنه ، أن يكتب القرآن كما علمه ، ثم يعرضه على الذين يتسلطون على خلافته ، فإن قبلوه فهوالمطلوب ، وتكون نسحته الصحيحة الوحيدة لقرآن المسلمين ، وإن رفضوه فليحتفظ بنسخته عند الأئمة من أولاده ( عليهم السلام ) حتى ينشرها المهدي الموعود الذي يظهرالله به دينه على الدين كله ويملأ به الأرض قسطاً وعدلاً ، بعد أن ملئت ظلماً وجوراً .
وهكذا كان ، فلما أكمل علي ( عليه السلام ) مراسم دفن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه ، فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه ثم خرج إليهم به في إزار يحمله ، وهم مجتمعون في المسجد فأنكروا مصيره بعد انقطاع عن البيعة ، فقالوا : لأمرٍ ما جاء أبو الحسن ، فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم ، ثم قال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب ، وأنا العترة .
فقام إليه الثاني فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله ، فلا حاجة لنا فيكما ، فحمل ( عليه السلام ) الكتاب وعاد ، بعد أن ألزمهم الحجة .
وفي خبر طويل عن الصادق ( عليه السلام ) : أنه حمله وولى راجعاً نحو حجرته وهو يقول :
--------------------------- 271 ---------------------------
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ . ولهذا قال ابن مسعود : إن علياً جمعه وقرأ به ، فإذا قرأه فاتبعوا قراءته ) . ( مناقب آل أبي طالب : 1 / 320 ) .
كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مأموراً أن يعرضه عليهم فإن لم يقبلوه فليجمعوه كما يريدون ، حتى لا يكون للأمة كتابان . ( راجع : تدوين القرآن / 182 ، وألف سؤال : 1 / 243 ) .
ولم تعتمد خلافة قريش نسخة علي ( عليه السلام ) ، ثم طلب الأنصار أن يكتبوا القرآن فمنعوهم ، ووعدوا المسلمين بنسخة رسمية للقرآن ، وشكلوا لجنة لذلك ، لكن عطلوا اللجنة ، ولم يصدر القرآن المدون إلا بعد ربع قرن في خلافة عثمان !
وفي هذه المدة كان المسلمون يكتبون نسخ القرآن في العراق وفارس وخراسان من نسخة عبد الله بن مسعود ، وفي الشام والبلاد المفتوحة من جهتها من نسخة أبي بن كعب ، وفي البصرة والبلاد المفتوحة من جهتها من نسخة أبي موسى الأشعري . . وكانوا يكتبون عن نسخ صحابة آخرين . وكانوا إذا اختلفوا في نصه قال عمر : القرآن كله صواب ، فاقرؤوا ولا حرج وقد نزل على سبعة أحرف !
وقد نشأت بسبب ذلك مشكلة اختلاف القراءات ، وانفجرت بين جيش المجاهدين في فتح أرمينية ، فكان جيش الشام يقرأ بقراءة وجيش الكوفة بقراءة واختلفوا في القراءة ، وأعلن بعضهم كفره بقرآن الآخر ، وكاد يقع قتال ، فأصلح بينهم حذيفة بن اليمان بحكمته ، وجاء إلى المدينة ليعالج المشكلة ، وساعده على ذلك علي ( عليه السلام ) وأقنعوا عثمان بأن تتبنى الدولة نسخة من القرآن ، وتوحدها في جميع البلدان ، فقبل عثمان وأصدرأمره بتدوين النسخة الأم الفعلية .
فالنسخة الفعلية تم تدوينها بطلب حذيفة ، وتدل رسالة عثمان إلى الأمصار على أنها كتبت عن نسخة علي ( عليه السلام ) . ولذلك ترى النسخة الفعلية عن عاصم بقراءة علي ( عليه السلام ) .
--------------------------- 272 ---------------------------
21 . معنى شعار عمر : حسبنا كتاب الله
اتفق الجميع على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرهم في مرض وفاته أن يلتزموا بتنفيذ عهد يكتبه لهم ، وأنه يضمن لهم أن يكونوا على الهدى ويسودوا العالم .
فقال عمر : ( إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ! فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، ومنهم من يقول : القول ما قاله عمر . فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله : قوموا عني ) .
( عدالة الصحابة للمحامي أحمد حسين يعقوب / 182 ، عن بخاري : 7 / 9 ومسلم : 5 / 75 وشرح النووي : 11 / 95 ، ومسند أحمد : 4 / 356 ، وغيرها ) .
وقد بحثنا انقلاب الصحابة على نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في كتبنا ، وغرضنا هنا الإشارة إلى أن موقف عمر من القرآن ، فقد جعله المصدر الرسمي الوحيد للإسلام ، وجعل السنة مصدراً انتقائياً يختار منها ما يناسب ، أو يمنع التحديث بها !
كما جعل نفسه المفسرالرسمي للقرآن ، بصفته الزعيم المقبول من بطون قريش ما عدا بني هاشم ، ووافقته البطون وأعطته الحق في أن يمنع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من كتابة عهد قد يلزمهم بإمام ومفسرللقرآن من بني هاشم !
وقد طبق عمر نظريته : ( القرآن المصدر الوحيد والخليفة مفسره الوحيد ) بأعمال :
1 - رفض نسخة القرآن التي عند علي ( عليه السلام ) .
2 - منع علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبني هاشم وأنصارهم من تعليم القرآن والسنة .
3 - تكذيب أن علياً ( عليه السلام ) عنده من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القرآن كله أو تفسيره ، بل القرآن موزع عند الصحابة ، وجمعه من حق الخليفة فقط !
4 - القرآن برأي عمر ناقص ، ضاع أكثر من ثلثيه بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وتدارك عمر الأمر فكان يجمع ما يرى أنه منه ويضعه عند ابنته حفصة ، وقد أدركه الأجل قبل نشره . ومن باب المثال أنه رفض سورتي المعوذتين ، واخترع بدلهما سورتي الحفد والخلع ، وكان يقرأ بهما في صلاته !
--------------------------- 273 ---------------------------
5 - يوجد برأيه آيات من القرآن أمركاتبه زيد بن ثابت بكتابة بعضها ، وقال عن بعضها : لولا أن يقول المسلمون إن عمر زاد في كتاب الله لأمرت بوضعها فيه !
6 - قول علي وبني هاشم إن القرآن نزل على حرف واحد ، غلط ! فمعنى قول النبي ( نزل القرآن على سبعة أحرف ) أنه يجوز تغيير لفظه وقراءته بالمعنى بأي كلام عربي أو غير عربي ، بشرط أن لا تغير المغفرة منه إلى عذاب والعذاب إلى مغفرة ، فالقرآن كله صواب ، وكل قراءة بهذا الشرط شرعية ، وهي قرآن منزل من
عند الله تعالى !
7 - منعاً لإحراج الخليفة ، يمنع البحث ويعاقب من يسأل عن تفسير آية !
8 - نظراً لتعلق الناس بقراء القرآن ، يجب تقليل عدد القراء إلى أقل حد ممكن .
9 - يحكم القضاة بفهمهم للقرآن إذا لم يتعارض مع فهم الخليفة ، ويحكم القاضي بظنونه ، والأفضل رفع القضية إلى الخليفة !
أما موقفه من السنة فيتكوَّن من خمس قرارات ( راجع كتاب تدوين القرآن ) :
1 - مَنَع رواية سنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منعاً باتاً تحت طائلة العقوبة ! وقد ضرب بعض الصحابة لأنهم حدَّثوا عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وبقي بعضهم في سجنه حتى قتل !
2 - مَنَع تدوين سنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منعاً باتاً ! وطلب أبو بكر من الناس أن يأتوه بما كتبوا من السنة ، فأحرقه ! ثم جمع عمر المكتوب من السنة وأحرقه ! وأصدر مرسوماً إلى الأمصار بإحراق المكتوب من السنة ، أو محوه وإتلافه !
3 - رفض عمر كتاب علي ( الجامعة ) الذي هو بإملاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفيه ما يحتاج إليه الناس ، وقال إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يخص علياً بشئ من العلم ، ولم يترك علماً
غير القرآن .
4 - انتقى عمر روايات من سيرة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعمل على تعليمها للأمة دون غيرها ! وبذلك قبل السنة التي رفضها بالأمس وعدَّل شعاره ( حسبنا كتاب الله ) إلى شعار : حسبنا كتاب الله وسنة نبيه ، التي يختارها الخليفة !
والى جنب هذه القرارات والمواقف ، كان لعمرقراران لهما تأثير واسع ، وهما :
--------------------------- 274 ---------------------------
1 - نشر الثقافة اليهودية والمسيحية بحجة : حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج .
2 - قراره بنشر الشعر الجاهلي ، وأمره بتعلمه وكتابته .
22 . علي ( عليه السلام ) يثأر للقرآن ويوحِّد نسخ الصحابة
أبقى عمر الدولة الإسلامية بدون قرآن رسمي خمس عشرة سنة ، في عهد أبيبكر وعهده ، وشطر من عهد عثمان ! فلم يتبنَّ نسخة علي ( عليه السلام ) ولا مصاحف القراء الأربعة الذين شهدوا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر بأخذ القرآن منهم ، ومَنَعَ حفاظ الأنصار وغيرهم من تدوين القرآن ، ووعد بأن يقوم هو بتدوين القرآن ، ولم يفعل بل كان يأمر زيد بن ثابت بكتابة ما يراه قرآناً ويخبؤه عند حفصة ، ويشدد عليها أن لا تعطيه إلى أحد !
وفي نفس الوقت أعطى الشرعية لكل قراءة ، بل أفتى بجواز قراءة القرآن بالمعنى وقال : كله صواب ! فتمسك كل مقرئ بقراءته ، وانقسم الناس أحزاباً يتعصبون للقراء والقراءات ، حتى كفَّر بعضهم بعضاً بسببها ، ولم يبق إلا أن يقتتلوا بالسلاح !
هنا كان لا بد لعلي ( عليه السلام ) أن يتدخل ، فحرَّك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما جاء يشكو من اختلاف جنود الفتح في قراءة القرآن ، وأقنع عثمان فشكل لجنة وتابع حذيفة عملها ، وكتبوا القرآن عن نسخة علي ( عليه السلام ) وراعوا الجمع بين نسخ الصحابة ، وأخذ حذيفة نسخة محمد بن أبيّ بن كعب ، وذهب إلى البصرة وصادر نسخة أبي موسى الأشعري المحرفة ، وتابع سعيه مع حفصة وعبد الله بن مسعود فلم يسلما نسختيهما ، وكتبوا أربع نسخ وأرسلوها إلى الأمصار ، ومعها رسالة من عثمان تبشر المسلمين بأنه كتب القرآن عن قرآن : ( كتب عن فم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أوحاه الله إلى جبريل ، وأوحاه جبريل إلى محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأنزله عليه ) !
ولم يقل عثمان في رسالته إنه قرآن علي ( عليه السلام ) بل نسبه إلى عائشة ، وعائشة لم يكن عنها هذه النسخة بل كانت تستكتب بعض السور ! وسموا مصحف عثمان المصحف الإمام ، وتعصب له عثمان لأنه منقبة له ، وفرضه على المخالفين .
قال البخاري ( 4 / 156 ) : ( إن عثمان دعا زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن
--------------------------- 275 ---------------------------
العاص ، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا ذلك ) .
وقال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ( 3 / 997 ) : ( إن عثمان بن عفان كتب إلى الأمصار فأرسلت إلى عائشة أم المؤمنين أن ترسل إليَّ بالأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أوحاه الله إلى جبريل ، وأوحاه جبريل إلى محمد وأنزله عليه ، وإذا القرآن غضٌّ ، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك . . فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأدم أربعة مصاحف وأن يتحفظوا ) .
لكن النسخة المكتوبة بإملاء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليست نسخة عائشة وإلا كان فيها آيات رضاع الكبير ، بل هي نسخة علي ( عليه السلام ) ، لأنه فيها كل الأوصاف التي ذكروها لقرآن علي ( عليه السلام ) وقراءاته !
ولذلك كان القراء السبعة يرجعون إلى قراءته ( عليه السلام ) . وبذلك حفظ الله القرآن بنسخة علي ( عليه السلام ) وبطل مشروع عمر الذي فيه قراءاته الشاذة ، التي رواها عنه البخاري وغيره !
وقد رووا بسند صحيح عندهم عن الزهري : ( أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب فيها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها ، فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة ( باليمين المؤكد ) إلى عبد الله بن عمر ليرسل إليه بتلك الصحف ، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر ، فأمر بها مروان فشققت ! وقال مروان : إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالصحف ، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذا المصحف مرتاب ، أو يقول إنه قد كان فيها شئ لم يكتب ) !
ونعم ما فعل عثمان أن أراح المسلمين من نسخة عمر التي روى البخاري بعض قراءاتها ، مثل فامضوا إلى ذكر الله ، والحي القيام ، وصراط من أنعمت عليهم !
فالقرآن الذي بين أيدينا نسخة علي ( عليه السلام ) ، وله نسخة كتبها بأمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعرضها
--------------------------- 276 ---------------------------
عليهم فلم يقبلوها ، فقال لهم : ( أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً ، إنما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه ) ! ( الكافي : 2 / 633 ) .
والفرق بين النسختين إنما هو في الترتيب ، وإن كان مؤثراً في فهم القرآن وتفسيره .
23 . علي ( عليه السلام ) لا يقول إلا بعلم ، وعمر يعترف أن بضاعته الظن !
قال السيوطي في الدر المنثور ( 6 / 127 ) : ( أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال : إحذروا هذا الرأي على الدين ، فإنما كان الرأي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصيباً لأن الله كان يريه ، وإنما هو منا تكلف وظن ، وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً . !
وروى نحوه أبو داود ( 2 / 161 ) والبيهقي ( 10 / 117 ) وتحيرالبيهقي في اعتراف عمر بأن اجتهاداته ظنون لا تغني من الحق شيئاً ! فقال : ( وإنما أراد به والله أعلم الرأي الذي لا يكون مشبهاً بأصل ، وفي معناه ورد ما روي عنه وعن غيره في ذم الرأي فقد روينا عن أكثرهم اجتهاد الرأي في غير موضع النص ، والله أعلم ) .
يزعم البيهقي أن عمر لا يقصد الإجتهاد والرأي المشبه بأصل ، ولا معنى للمشبه بأصل ولا يصح ، لأن قول عمر عام لكل الآراء التي لم يُرِها الله لصاحبها ، كما أرى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقوله اعترافٌ بأن اجتهاده في منع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الوصية ، واجتهاده في تأسيس الخلافة القرشية ، وكل أعماله ، ظنون لا تغني من الحق شيئاً !
ولهذا قال علي ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 33 ) : ( إن الناس آلوا بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى ثلاثة ، آلوا إلى عالمٍ على سبيل هدى من الله ، قد أغناه الله بما علم عن غيره ، وجاهل مدع للعلم لاعلم عنده ، معجب بما عنده ، قد فتنته الدنيا وفتن غيره . ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة . ثم هلك من ادعى وخاب من افترى ) .
كما وصف علي ( عليه السلام ) الذين يقولون في الدين برأيهم بقوله ( نهج البلاغة : 1 / 51 ) : ( إنَّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان : رجلٌ وكله الله إلى نفسِه فهو جائرٌ عن قصد السبيل مشغوفٌ بكلام بدعةٍ ودعاء ضلالةٍ ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالٌّ عن هديِ مَن كان قبله ، مُضِلٌّ لمن اقتدى به في حياتِه وبعد وفاتِه ، حمَّال خطايا غيره ، رهنٌ بخطيئته ! ورجلٌ قمش
--------------------------- 277 ---------------------------
جهلاً موضع في جهال الأمة عاد في أغباش الفتنة ، عمٍ بما في عقد الهدنة ، قد سمَّاه أشباه الناس عالماً وليس به ، بكَّر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن ، واكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضياً ، ضامناً لتخليص ماالتبس على غيره ، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثاً من رأيه ثم قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ، فإن أصاب خاف أن يكون أخطأ وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب ، جاهلٌ خبَّاطُ جهالات ، عاشٍ رَكَّابُ عشوات ، لم يعضَّ على العلم بضرسٍ قاطع ، يذري الروايات إذراء الريح الهشيم . لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه . ولا هو أهل لما فُوِّض إليه لا يحسب العلم في شئ مما أنكره . ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهباً لغيره . وإن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه . تصرخ من جور قضائه الدماء ، وتعج منه المواريث ! إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالاً ويموتون ضلالاً ، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حُرِّفَ عن مواضعه ، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ) !
وقال ( عليه السلام ) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا : ( ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره ، فيحكم فيها بخلافه ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم ، فيصوِّب آراءهم جميعاً ، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ! أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ! أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ! أم أنزل الله سبحانه ديناً تامَّاً فقصرالرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : مَافَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَئٍ . فِيهِ تِبْيَانُ كلِّ شئٍ . وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدَ غَيْر الله لَوَجَدُوا فيه اختلافاً كثيراً ) !
وقال ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 1 / 155 ) : ( فيا عجبي ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق
--------------------------- 278 ---------------------------
على اختلاف حججها في دينها ، لايقتصون أثر نبيٍّ ، ولا يقتدون بعمل وصيٍّ ، ولا يؤمنون بغيبٍ ، ولا يعفون عن عيبٍ ، يعملون في الشُّبُهات ، ويسيرون في الشهوات . المعروف عندهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا !
مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم . وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ! كأنَّ كل امرئٍ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بِعُرى ثقات ، وأسبابٍ محكمات ) !
24 . اعتراف عمر بجهله يرد مكذوباتهم عن علمه
روى البخاري روايات عديدة في علم عمر وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ( بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب ، قالوا فما أولته يا رسول الله ؟ قال : العلم ) .
وروى البخاري من هذه البضاعة : ( 1 / 28 و : 4 / 198 و : 8 / 74 و : 8 / 79 و : 8 / 18 ، ومسلم : 7 / 110 و 112 . وأحمد : 2 / 83 و 108 و 147 و 154 . والدارمي : 2 / 128 . والترمذي : 3 / 367 و : 5 / 278 . والحاكم : 3 / 83 . والبيهقي : 7 / 49 . وأسد الغابة : 4 / 60 . والزوائد : 9 / 69 . وكنز العمال : 11 / 576 .
وجعل البخاري كأس اللبن قميصاً وجعل العلم الدين ، وزعم أن النبي قال : ( بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص ، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ، ومرَّ عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره . قالوا : ما أولت يا رسول الله ؟ قال الدين ) .
وزاد الدارمي ( 1 / 101 ) عليه علاوةً فقال إن عمرو بن ميمون قال : ( ذهب عمر بثلثي العلم ، فذكر لإبراهيم فقال : ذهب عمر بتسعة أعشار العلم ) .
وفي أسد الغابة ( 4 / 60 ) عن ابن مسعود أنه قال : ( لو أن علم عمر وضع في كفه ميزان ووضع علم الناس في كفة ميزان ، لرجح علم عمر ) .
وصححه في الزوائد ( 9 / 69 ) ونقل قول عبد الله بن عمر : ( إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر ) .
وهذا كله وضعوه في مقابل قسم ابن عباس ( الإستيعاب : 2 / 1104 ) : ( والله لقد أعطى علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم ، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر ) .
--------------------------- 279 ---------------------------
وقال علي ( عليه السلام ) ( الكافي : 1 / 64 ) : ( وقد كنت أدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله ، أخلاني وأقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني ( عليهم السلام ) . وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصها وعامها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ، ولا علماً أملاه علي وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا .
وما ترك شيئاً علمه الله من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي كان أويكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً . ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملا قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً ، فقلت : يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً ، ولم يفتني شئ لم أكتبه ، أفتتخوف علي النسيان فيما بعد ؟ فقال : لا ، لست أتخوف عليك النسيان والجهل ) .
ويكفي لتكذيب ما رووا في علم عمر قوله المتقدم : ( فإنما كان الرأي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مصيباً لأن الله كان يريه ، وإنما هو منا تكلف وظن ) !
قال الشريف المرتضى في الشافي ( 3 / 129 ) : ( وأما ما رواه من قوله : إن الحق ينطق على لسان عمر ، فهو مقتضٍ إن كان صحيحاً ، عصمة عمر ، والقطع على أن أقواله كلها حجة ! وليس هذا مذهب أحد في عمر ، لأنه لا خلاف في أنه ليس بمعصوم ، وأن خلافه سائغ ، وكيف يكون الحق ناطقاً على لسان من يرجع في الأحكام من قول إلى قول ، ويشهد على نفسه بالخطأ ، ويخالف في الشئ ثم يعود إلى قول من
--------------------------- 280 ---------------------------
خالفه فيوافقه عليه ويقول : لولا علي لهلك عمر ، ولولا معاذ لهلك عمر ، وكيف لم يحتجّ بهذا الخبر هو لنفسه في بعض المقامات التي احتاج إلى الإحتجاج فيها ، وكيف لم يقل أبو بكر لطلحة لما قال له : ما تقول لربك إذ وليت علينا فظاً غليظاً ؟ أقول له : وليت من شهد الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن الحق ينطق على لسانه .
وليس لأحد أن يدعي في الامتناع من الإحتجاج بذلك سبباً مانعاً كما ندعيه في ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الإحتجاج بذلك بالنص ، لأنا قد بينا فيما تقدم أن لتركه ( عليه السلام ) ذلك سبباً ظاهراً وهو تآمر القوم عليه ، وانبساط أيديهم ، وأن الخوف والتقية واجبان ممن له السلطان ، ولا تقية على عمر وأبيبكر من أحد ، لأن السلطان كان فيهما ولهما ، والتقية
منهما لا عليهما ) .
25 . عمر مؤسس القياس وليس أبو حنيفة !
روى البيهقي في سننه ( 10 / 114 ) : ( أخرج إلينا سعيد بن أبي بردة كتاباً فقال هذا كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى ، فذكر الحديث ، قال فيه : الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن والسنة ، فتعرف الأمثال والأشباه ، ثم قس الأمور عند ذلك ، واعمد إلى أحبها إلى الله ، وأشبهها فيما ترى ) !
فهو يدعوه إلى العمل بالظن والقياس وأن يفتي الناس بها ، فهو مؤسس دين الظنون وشريعة الظنون مع أنه يقول : الرأي منا تكلفٌ وظن و : إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا .
26 . تقديس عمر لكعب الأحبار وتكذيب علي ( عليه السلام ) له
كان عمر يحترم اليهود ويقدس حاخامتهم : ولذلك سكن في المدينة بجوارهم ، وكان يحضردرسهم في المدراس وهو خاص بالتوراة ، ودرسهم في المشناة وهو خاص بالتلمود وبقية كتبهم . ( راجع في ذلك تدوين القرىن / 411 ) .
ولما جاء كعب الأحبار من اليمن خرج عمر لاستقباله إلى خارج المدينة ، احتراماً له : ( أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال : يا كعب أسلم . قال ألستم تقرؤون في كتابكم : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ، وأنا قد حملت التوراة ) . ( الدر المنثور : 2 / 168 ) .
--------------------------- 281 ---------------------------
وملك كعب قلب عمر فجعله مرجعه ، وجعل له يومين في الأسبوع يحدث في مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأحاديث أهل الكتاب ، فصار كعب مصدر التاريخ وتفسير القرآن والفتاوى ، بل مصدر أخبار الغيب ، ومستقبل الأمة ، ومستقبل
عمر شخصياً !
قال له عمر : ( يا كعب كيف تجد نعتي ؟ قال أجد نعتك قرن من حديد . قال وما قرن من حديد ؟ قال أمير شديد لا تأخذه في الله لومة لائم ) . ( مجمع الزوائد : 9 / 65 ) .
وشارك كعب في قتل عمر ، لكنه كان عند عمر فوق الشبهة ، فقال له : ( يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميت في عامك [ بعد ثلاثة أيام ] ! قال عمر : وما يدريك يا كعب ؟ قال : وجدته في كتاب الله . قال : أنشدك الله يا كعب هل وجدتني باسمي ونسبي عمر بن الخطاب ؟ قال : اللهم لا ، ولكني وجدت صفتك وسيرتك وعملك وزمانك . فلما أصبح الغد غدا عليه كعب فقال عمر : يا كعب . فقال كعب : بقيت ليلتان ، فلما أصبح الغد غدا عليه كعب . فأخبرني عاصم بن عمر بن عبيد الله بن عمر قال : قال عمر رضي الله عنه :
يواعدني كعبٌ ثلاثاً يعدُّها * ولا شكَّ أن القولَ ما قاله كعبُ
وما بي لقاء الموت إني لميت * ولكنَّما في الذنبِ يتبعُه الذنبُ ) .
( تاريخ المدينة : 3 / 891 ) .
ومعناه أن كعباً كان في مؤامرة اليهود لقتل عمر ، لتصل الخلافة إلى حلفائهم بني أمية ! وكان شباب شيعة علي ( عليه السلام ) يسخرون من كعب وعلمه المزعوم !
قال في تاريخ المدينة ( 3 / 1117 ) : « ركب كعب الأحبار ومحمد بن أبي حذيفة في سفينة قِبَلَ الشام ، زمن عثمان في غزوة غزاها المسلمون . فقال محمد لكعب : كيف تجد نعت سفينتنا هذه في التوراة تجري غداً في البحر ؟ فقال كعب : يا محمد لا تسخر بالتوراة فإن التوراة كتاب الله . قال : ثم قال له ( محمد ) ذاك ثلاث مرات » !
أي أصرَّمحمد بن أبي حذيفة على السخرية من كعب ، لأنه عنده حاخامٌ كذاب !
--------------------------- 282 ---------------------------
وكان عمر أحياناً يرشد كعب الأحبار إلى علي ( عليه السلام ) ليسأله ، وأحياناً يأخذ من كعب ما يخالف علياً ( عليه السلام ) وكل المسلمين !
روى ابن سعد في الطبقات ( 2 / 262 ) : ( عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن
كعب الأحبار قام زمن عمر فقال ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين : ما كان آخر ما تكلم به رسول الله ؟ فقال عمر : سل علياً ، قال أين هو ؟ قال : هو هنا ، فسأله فقال علي : أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة . فقال كعب : كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا وعليه يبعثون . قال : فمن غسله يا أمير المؤمنين ؟ قال : سل علياً ، قال فسأله فقال : كنت أغسله وكان العباس جالساً ، وكان أسامة وشقران يختلفان إليَّ بالماء ) .
27 . أخذ عمر عقيدة التجسيم من كعب الأحبار !
أول ما ظهرت أحاديث الرؤية بالعين والتشبيه من عمر بن الخطاب ، قال : ( إن كرسيه وسع السماوات والأرض ، وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا رُكِبَ من ثقله . رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ) . ( مجمع الزوائد : 1 / 83 ) .
وفي الدر المنثور ( 1 / 328 ) : ( عن عبد بن حميد ، وابن أبي عاصم في السنة ، والبزار ، وأبي يعلى ، وابن جرير ، وأبي الشيخ ، والطبراني ، وابن مردويه ، والضياء المقدسي في المختارة ، عن عمر . . . وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله ، ما يفضل منه أربع أصابع ) .
وروى ابن خزيمة في توحيده / 225 : ( اجتمع ابن عباس وكعب فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم نزعم أو نقول : إن محمداً رأى ربه مرتين ، قال فكبركعب حتى جاوبته الجبال ! فقال : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ) !
وهذا يدل على أن كعباً كان يتبنى الرؤية ، وكان بنو هاشم ينفونها ، وقد نسبوها إلى بني هاشم ، وزعموا أنهم قبلوا بها ، فكبر كعب ، وهو كذب عليهم !
- *
--------------------------- 283 ---------------------------
وفي تفسير الطبري ( 52 / 12 ) : ( عن كعب الأحبار قال لرجل : سألت أين ربنا ، وهو على العرش العظيم متكئٌ واضعٌ إحدى رجليه على الأخرى ، ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمس مائة سنة ، ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مائة سنة ، وكثافتها خمس مائة سنة ، حتى أتمَّ سبع أرضين ، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة خمس مائة سنة وكثافتها خمس مائة سنة ، والله على العرش متكئ ) !
وقد رد عليٌّ ( عليه السلام ) على كعب ووبخه في مجلس عمر ، كما كذَّب ابن عباس وعائشة وابن مسعود ، وجمهور الصحابة الحديث الذي يزعم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رأى ربه !
وروى المجلسي في البحار ( 36 / 194 ) : ( عن ابن عباس أنه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الحبر ، إذ قال عمر : يا كعب أحافظ أنت للتوراة ؟ قال كعب : إني لأحفظ منها كثيراً . فقال رجل من جنبة المجلس : يا أمير المؤمنين سله أين كان الله جل ثناؤه قبل أن يخلق عرشه ، ومِمَّ خلق الماء الذي جعل عليه عرشه ؟ فقال عمر : يا كعب هل عندك من هذا علم ؟
فقال كعب : نعم يا أمير المؤمنين ، نجد في الأصل الحكيم أن الله تبارك وتعالى كان قديماً قبل خلق العرش ، وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء ، فلما أراد أن يخلق عرشه تَفَلَ تَفَلَةً كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة ، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته ، وآخر ما بقي منها لمسجد قدسه !
قال ابن عباس : وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حاضراً ، فَعَظَّمَ عَلِيٌّ رَبَّهُ وقام على قدميه ونفض ثيابه ! فأقسم عليه عمر لمَّا عاد إلى مجلسه ، ففعله .
قال عمر : غُصْ عليها يا غواص ، ما تقول يا أبا الحسن ، فما علمتك إلا مفرجاً للغم . فالتفت علي ( عليه السلام ) إلى كعب فقال : غلط أصحابك وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه ! يا كعب ويحك ! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته ، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره ، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قِدْمته ، وعزّ الله وجل أن يقال له مكان يومى إليه ،
--------------------------- 284 ---------------------------
والله ليس كما يقول الملحدون ، ولا كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان ، وقولي ( كان ) عجز عن كونه ، وهو مما عَلَّمَ من البيان يقول الله عز وجل : خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ، فقولي له ( كان ) مما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته ، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء محيطاً بكل الأشياء ، ثم كَوَّنَ ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد ، وإنه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شئ ، ثم خلق منه ظلمة ، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لامن شئ كما خلق النور من غير شئ ، ثم خلق من الظلمة نوراً وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبعٍ أرضين ، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماءً مرتعداً ، ولا يزال مرتعداً إلى يوم القيامة ، ثم خلق عرشه من نوره وجعله على الماء ، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ليس فيها لغة تشبه الأخرى ، وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب وذلك قوله : وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ .
يا كعب ويحك ! إن من كانت البحار تفلته على قولك ، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس ، أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه !
فضحك عمر بن الخطاب وقال : هذا هوالأمر ، وهكذا يكون العلم ، لا كعلمك يا كعب . لا عشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن ) .
أقول : مع ذلك بقي عمر متأثراً بتجسيم كعب الأحبار ، وحديث الأطيط مشهور عنه . وكان عمر يتبنى المجسمة !
وقد انتشرت أفكار كعب في المسلمين لأن عمر تبناها ، وكان الأئمة ( عليهم السلام ) يكذبونها ! ففي الكافي ( 4 / 239 ) : ( عن زرارة قال كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر ( الإمام الباقر ( عليه السلام ) ) وهومُحْتبٍ مستقبلَ الكعبة ، فقال : أما إن النظر إليها عبادة ، فجاءه رجل من بجيلة يقال له عاصم بن عمر ، فقال لأبي جعفر : إن كعب الأحبار كان يقول : إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة ، فقال أبو جعفر : فما تقول فيما قال كعب ؟ فقال : صدق ، القول ما قال كعب ! فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : كذبت وكذب كعب الأحبار معك ، وغضب ! قال زرارة : ما رأيته استقبل أحداً بقول كذبت غيره ، ثم قال : ما خلق الله
--------------------------- 285 ---------------------------
عز وجل بقعة في الأرض أحب إليه منها ، ثم أومأ بيده نحو الكعبة ، ولا أكرم على الله عز وجل منها . لها حرَّم الله الأشهرالحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض ، ثلاثة متوالية للحج : شوال وذو العقدة وذو الحجة ، وشهر مفرد للعمرة وهو رجب » .
28 . كعب يصادر عقل عمر في مسألة الجراد !
فقد كان عمر يحب الجراد ويأكله يابساً ( البيهقي : 9 / 257 ) فأفتى له كعب بأن صيد الجراد للمحرم حلالٌ فهو من صيد البحر لأنه يتولد من أنف الحوت ويعطسه من أنفه ، فأطاعه المحرمون وأكلوه ! ( موطأ مالك : 1 / 352 ، وعبد الرزاق : 4 / 435 ) .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( سبحان الله وأنتم محرمون ! قالوا : إنما هو من البحر ، قال : فارمسوه في الماء إذن ) ! ( تهذيب الأحكام : 5 / 363 ) .
بل صارتولد الجراد من الحوت حديثاً نبوياً ! لأن أبا هريرة كان يحول أقوال كعب إلى أحاديث نبوية ! قال ابن كثير في النهاية ( 8 / 117 ) : ( قال يزيد بن هارون : سمعت شعبة يقول : أبو هريرة كان يدلس أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولا يميز هذا من هذا ! ذكره ابن عساكر ) !
وقد ذكرنا مصادره في مواجهة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لهرطقة اليهود !
29 . وأقنع كعب عمر بأن الإسلام سينتهي ويهلك المسلمون
استطاع كعب الأحبار أن يقنع عمر بأن الإسلام كالبعير يكبر ويموت ! وأن قريشاً والعرب سَيُبَادون ! والكعبة ستهدم فلا تبنى أبداً ! ومكة تخرب فلا تعمر أبداً !
ففي مسند أحمد ( 3 / 463 ، و : 5 / 52 ) : « كنت في مجلس فيه عمر بن الخطاب بالمدينة فقال لرجل من القوم : يا فلان كيف سمعت رسول الله ينعتُ الإسلام ؟ قال : سمعت رسول الله يقول : إن الإسلام بدأ جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديسياً ، ثم بازلاً . فقال عمر بن الخطاب : فما بعد البزول ( الكبر ) إلا النقصان » ! ( الصحاح : 4 / 1321 ) .
--------------------------- 286 ---------------------------
وروى أحمد ( 1 / 23 ) عن عمر أنه سمع رسول الله يقول : « سيخرج أهل مكة ثم لا يعبر بها إلا قليل ، ثم تمتلئ وتبنى . ثم يخرجون منها فلايعودون فيها أبداً » ! ورواه مسلم ( 8 / 183 ) وعقد بخاري باباً ( 2 / 159 ) بعنوان : باب هدم الكعبة !
وفي الفتن لنعيم بن حماد / 246 : « لا تستريبوا في هلكة قريش ، فإنهم أول من يهلك حتى أن النعل لتوجد في المزبلة فيقال خذوا هذه النعل إنها لنعل قرشي » !
وقد ردَّ علي ( عليه السلام ) هذه الفرية وروى عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه مع كل ما يفعله العرب وقريش بالأمة ، فإن الله عز وجل سينقذها بالمهدي من أهل البيت ( عليهم السلام )
ففي الخصال للصدوق / 475 : « قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أبشروا ثم أبشروا ، ثلاث مرات ، إنما مثل أمتي كمثل غيث لا يدرى أوله خير أم آخره ، إنما مثل أمتي كمثل حديقة أطعم منها فوج عاماً ، ثم أطعم منها فوج عاماً ، لعل آخرها فوجاً يكون أعرضها بحراً وأعمقها طولاً وفرعاً وأحسنها جَناً ! وكيف تهلك أمة أنا أولها واثنا عشر من بعدي من السعداء وأولي الألباب ، والمسيح عيسى بن مريم آخرها ؟ ولكن يهلك بين ذلك نَتَجُ الهَرَج ، ليسوا مني ولست منهم » .
وفي أمالي المفيد / 288 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : لما نزلت على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ، قال لي : يا علي إنه قد جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ، فإذا رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَابًا . يا علي إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي . . . يا علي إن الهدى هو اتباع أمرالله دون الهوى والرأي ! وكأنك بقوم قد تأولوا القرآن ، وأخذوا بالشبهات ، واستحلوا الخمر بالنبيذ ، والبخس بالزكاة ، والسحت بالهدية ! قلت : يا رسول الله فما هم إذا فعلوا ذلك أهم أهل ردة ، أم أهل فتنة ؟ قال : هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل ! فقلت : يا رسول الله العدل منا أم من غيرنا ؟ فقال : بل منا ، بنا يفتح الله وبنا يختم وبنا ألف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد لله على ما
وهب لنا من فضله ) .
--------------------------- 287 ---------------------------
وقد وصفت الأحاديث الرخاء الذي يحققه الإمام المهدي ( عليه السلام ) في بلاد العرب والعالم ، منها ما رواه أحمد ( 2 / 370 ) : « لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً ، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف ضلال الطريق » .
وهذا يرد زعم كعب بزوال الإسلام ، وفناء العرب .
30 . مقارنة بين كلام علي وأبيبكر وعمر عند الاحتضار
في النهاية لابن الأثير ( 5 / 67 ) : ( في حديث أبيبكر : دُخل عليه وهو ينضنض لسانه ويقول : إن هذا أوردني الموارد . أي يحركه ، يقال بالصاد والضاد معاً ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 137 ) : ( قال : ما آسى إلا على ثلاث خصال صنعتها ليتني لم أكن صنعتها ، وثلاث ماصنعها ليتني كنت صنعتها ، وثلاث ليتني كنت سألت رسول الله عنها ، فأما الثلاث التي صنعتها ، فليت أني لم أكن تقلدت هذا الأمر وقدمت عمر بين يدي ، فكنت وزيراً خيراً مني أميراً ، وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله ( عليها السلام ) وأدخله الرجال ، ولو كان أغلق على حرب ، وليتني لم أحرق الفجاءة السلمي ، إما أن أكون قتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً .
والثلاث التي ليت أني كنت فعلتها : فليتني قدمت الأشعث بن قيس فضربت عنقه ، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شيئاً من الشر إلا أعان عليه ، وليت أني بعثت أبا عبيدة إلى المغرب وعمر إلى أرض المشرق فأكون قدمت يدي في سبيل الله ، وليت أني ما بعثت خالد بن الوليد إلى بزاخة ، ولكن خرجت فكنت ردئاً له . . )
وفي الصراط المستقيم للبياضي ( 2 / 299 ) : ( في تنفيس الكرابيسي وزهرة البستي ومواعظ الكرامي ، أن الأول قال عند موته : يا ليتني كنت طيراً في القفار آكل من الثمار ، وأشرب من الأنهار ، وآوي إلى الأشجار ، ولم أولَّ على الناس ، فدخل عليه الثاني فقال : هذا أوردني الموارد !
وقال محمد : كنت عند أبي أنا وعمر وعائشة وأخي ، فدعا بالويل ثلاثاً ، وقال : هذا رسول الله يبشرني بالنار . فخرجوا دوني وقالوا : يهجر ، فقلت : تهذي ؟ قال : لا والله لعن الله ابن فلانة ، فهو الذي صدني عن الذكر بعد إذ جاءني ،
--------------------------- 288 ---------------------------
ثم أوصوني لا أتكلم ، حذراً من الشماتة ) !
وفي كليات الموطأ للإمام مالك ( 2 / 282 ) أن عمر دخل على أبيبكروهو يجبذ لسانه فقال له عمر : مه غفر الله لك ، فقال أبو بكر : إن هذا أوردني الموارد ) .
وقال عمر عند احتضاره : ( يا ليتني كنت كبش أهلي سمنوني ما بدا لهم ، حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون ، فجعلوا بعضي شواء ، وبعضي قديداً ، ثم أكلوني فأخرجوني عذرة ، ولم أكن بشراً ) ! ( كنز العمال : 12 / 619 ) .
وقال عمر : ( لو أن لي طلاع الأرض ذهباً ، لافتديت به ) ! ( كنز العمال : 12 / 696 ) .
( قال عمر بن الخطاب حين حضر : ضع خدي بالأرض . . ضع خدي بالأرض لا أم لك ثلاثاً ، ثم شبك رجليه فسمعته يقول : ويل لي وويل لأمي إن لم يغفر الله لي . حتى فاضت نفسه ) . ( كنز العمال : 12 / 696 ، وتاريخ المدينة : 3 / 918 ) .
( رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنةً من الأرض فقال : يا ليتني كنت هذه التبنة ! ليتني لم أخلق ، ليتني لم أك شيئاً ، ليت أمي لم تلدني ، ليتني كنت نسياً منسياً ) . ( يا ليتني كنت حائكاً أعيش من عمل يدي ) . ( تاريخ المدينة : 3 / 918 ) .
أما علي ( عليه السلام ) :
ففي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 171 ) : ( أبو بكر الشيرازي في كتابه عن الحسن البصري قال : أوصى علي ( عليه السلام ) عند موته للحسن والحسين وقال لهما : إن أنا مت فإنكما ستجدان عند رأسي حنوطاً من الجنة ، وثلاثة أكفان من إستبرق الجنة فغسلوني وحنطوني بالحنوط وكفنوني ، قال الحسن ( عليه السلام ) : فوجدنا عند رأسه طبقاً من الذهب عليه خمس شمامات من كافور الجنة ، وسدراً من سدر الجنة ) .
( روى الزمخشري عن أسماء بنت عميس : إنا لعند علي بن أبي طالب بعدما ضربه ابن ملجم ، إذ شهق شهقة ثم أغمي عليه ثم أفاق فقال : مرحباً ، مرحباً ، الحمد لله الّذي صدقنا وعده ، وأورثنا الجنة . فقيل له : ما ترى ؟ قال : هذا رسول الله ، وأخي جعفر ، وعمّي حمزة ، وأبواب السماء مفتحة ، والملائكة ينزلون يسلمون علىَّ ويبشروني ، وهذه فاطمة قد طاف بها وصائفها من الحور ، وهذه منازلي في الجنة ، لمثل هذا فليعمل
--------------------------- 289 ---------------------------
العاملون ) . ( ربيع الأبرار للزمخشري : 5 / 156 ) .
( لما ضرب ابن ملجم عليّاً ( عليه السلام ) دخلت عليه أُمّ كلثوم وبكت ، فقال لها : يا بنيَّة ما يبكيك ، لو ترين ما أرى ما بكيت ، إن ملائكة السبع سماوات مواكب بعضهم خلف بعض ، والنبيون خلفهم كل نبي كان قبل محمد .
وها هو ذا رسول الله عندي آخذ بيدي يقول لي انطلق يا علي ، فإن أمامك خيراً لك مما أنت فيه . ثمّ قال ( عليه السلام ) : خلوني وأهل بيتي أعهد إليهم ، فقام الناس إلا اليسير ، فجمع أهل بيته وهم اثنا عشر ذكراً ، وبقي قوم من شيعته ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : إنّ الله تبارك وتعالى أحب أن يجعل فيَّ سنة نبيه يعقوب ، إذ جمع بنيه وهم اثنا عشر ذكراً فقال : إني أوصى إلى يوسف فاستمعوا له وأطيعوا أمره ، وإني أوصي إلى الحسن والحسين فاسمعوا لهما وأطيعوا أمرهما ، فقام إليه عبد الله ( عمر ) فقال : يا أمير المؤمنين أدون محمد ، يعني ابن الحنفية ؟ فقال : أجرأةً عليَّ في حياتي كأني بك وقد وجدت مذبوحاً في خيمتك ! وأوصى إلى الحسن وسلم إليه الاسم الأعظم والنور والحكمة ومواريث الأنبياء ، وقال له : إذا أنا مت فغسلني وكفني وحنطني وأدخلني قبري ، فإذا أشرجت علىَّ اللّبن ، فارفع اللبنة فاطلبني فإنك لن تراني ) . ( إثبات الوصية / 152 ) . أي سيأخذوني موقتاً !
( جعل يعاود مضجعه فلاينام ، ثم يعاود النظر في السماء ويقول : والله ما كذبت ولاكذبت ، وإنها لليلة التي وعدت . فلما طلع الفجر شد إزاره وهو يقول :
أشدد حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا
فلما ضربه ابن ملجم لعنه الله قال : فزت ورب الكعبة ) . ( خصائص الأئمة / 63 ) .
( فخرج علي إلى الفجر ، فأقبل الإوزُّ يصحن في وجهه فطردوهن ، فقال : فإنهن نوائح ، فضربه ابن ملجم قلت له : يا أمير المؤمنين ، خل بينا وبين مراد ، فلا تقوم لهم ثاغية ولا راغية أبداً . قال : لا ، ولكن إحبسوا الرجل ، فإن أنا مت فاقتلوه ، وأن أعش فالجروح قصاص ) . ( الرياض النضرة للطبري : 3 / 234 ) .
--------------------------- 290 ---------------------------
31 . كان عمر يشرب الخمر إلى قرب وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
روى السيوطي في الدر المنثور ( 2 / 318 ) : ( نزلت أربع آيات في تحريم الخمر ، أولهن التي في البقرة ، ثم نزلت الثانية : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ، ثم أنزلت التي في النساء ، بينا رسول الله يصلي بعض الصلوات إذ غنى سكران خلفه فأنزل الله : لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى . . الآية . فشربها طائفة من الناس وتركها طائفة ، ثم نزلت الرابعة التي في المائدة فقال عمر بن الخطاب : انتهينا يا ربنا ) ! والمائدة آخر ما نزل من القرآن قبيل وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وروى الترمذي ( 4 / 319 ) : ( عن عمر بن الخطاب أنه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت التي في البقرة : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ للَّنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا . . الآية ، فدعي عمر فقرئت عليه ، قال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت التي في النساء : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ، فدعي عمر فقرئت عليه ، ثم قال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت التي في المائدة : اِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهوَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : انتهينا انتهينا ) .
وقد تقدم خبر حفلة الخمر التي شارك فيها عشرة من الصحابة وكان ساقيهم أنس بن مالك ، وكانوا ينشدون تحيي بالسلامة أم بكر . . رثاء لقتلى بدر المشركين ، فجاءهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غاضباً وبيده سعفة ، فقالوا : انتهينا انتهينا .
ويظهر أن عمر لم ينته ، فكان يشرب النبيذ ، وقد شرب رجل من إداوته فسكر ، وثبت عن عمر أنه استمر يشرب النبيذ ، قال القاساني في بدائع الصنائع وفي سنن البيهقي ( 8 / 299 ) : ( إنا لنشرب من النبيذ نبيذاً يقطع لحوم الإبل في بطوننا من أن تؤذينا ) .
--------------------------- 291 ---------------------------
32 . وكان يشرب النبيذ وخمر العنب ويحلله
فقد قال كما في البخاري ( 5 / 189 ) : ( نزل تحريم الخمر وإن في المدينة يومئذ لخمسة أشربة ، ما فيها شراب العنب ) .
وفي المبسوط للسرخسي ( 24 / 8 ) : ( عن عمر رضي الله أنه أتي بنبيذ الزبيب فدعا بماء وصبه عليه ، ثم شرب وقال : إن لنبيذ زبيب الطائف غراماً ) !
وفي بدائع الصنائع ( 5 / 116 ) : ( ورويّ هذا المذهب عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال حين سئل عن النبيذ إشرب الواحد والاثنين والثلاثة ، فإذا خفت السكر فدع ! وإذا ثبت الإحلال من هؤلاء الكبار من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم فالقول بالتحريم يرجع إلى تفسيقهم ، وإنه بدعة ولهذا عد أبو حنيفة رضي الله عنه إحلال المثلث من شرائط مذهب السنة والجماعة ، فقال في بيانها : أن يفضل الشيخين ، ويحب الختنين ، وأن يرى المسح على الخفين ، وأن لا يحرم نبيذ الخمر ، لما أن في القول بتحريمه تفسيق كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم ! والكف عن تفسيقهم والإمساك عن الطعن فيهم من شرائط السنة والجماعة ) .
33 . للتغطية على خمر الشيخين اتهموا علياً وحمزة ( ( عليهما السلام ) )
اتهموهما بشرب الخمر ، فروى البيهقي ( 1 / 389 ) : ( أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن يحرم الخمر ، فأمَّهم عليٌّ في المغرب وقرأ : قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُون ، فخلط فيها فنزلت : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) .
وروى مسلم ( 6 / 85 ) أن علياً ( عليه السلام ) قال : ( أصبت شارفاً مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مغنم يوم بدر ، وأعطاني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شارفاً أخرى فأنختهما يوماً عند باب رجل من الأنصار ، وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخراً لأبيعه ، ومعي صائغ من بني قينقاع فأستعين به على وليمة فاطمة . وحمزة بن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت معه قينة تغنيه ، فقالت : ألا ياحمز للشرف النواء . فثار إليهما حمزة بالسيف
--------------------------- 292 ---------------------------
فجب أسنمتهما ، وبقر خواصرهما ثم أخذ من أكبادهما ! قلت لابن شهاب : ومن السنام ، قال : قد جب أسنمتهما فذهب بها .
قال ابن شهاب : قال علي : فنظرت إلى منظرأفظعني فأتيت نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبر ، فخرج ومعه زيد وانطلقت معه ، فدخل على حمزة فتغيظ عليه ، فرفع حمزة بصره فقال : هل أنتم إلا عبيد لآبائي ! فرجع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقهقر حتى خرج عنهم ) .
وهي رواية خشنة ، تزعم أن حمزة كان سكراناً فقطع من سنمي البعيرين ومن كبديهما وأكل ذلك ميتة ، وغضب على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فخاف منه !
والصحيح أن حمزة وعلياً ( عليه السلام ) لم يشربا الخمر لا في الإسلام ولا قبله ، وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حذر من أشخاص يكونون بعده ىستحلون شرب الخمر ، بتسميته النبيذ .
وفي كنز العمال ( 11 / 224 ) : ( عن حذيفة قال : خطب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أربع جمع متواليات يقول في كل مرة : إذا استُحلت الخمر بالنبيذ ، والربا بالبيع ، والسحت بالهدية ، واتجروا بالزكاة ، فعند ذلك يملي لهم ليزدادوا إثماً ) .
34 . سياسة عمر مع عماله ولاة الأمصار
1 . أخذ النصف من الولاة السراق وترك لهم النصف !
فقد اعلن أن ولاة الأمصار خانوا الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمسلمين وسرقوا أموالهم ، فحكم عليهم بأن يدفعوا له نصف ماليتهم ، ويبقوا في مناصبهم ! ولا يستطيع أحد أن يفسرعمله شرعاً وقانوناً ! ومع ذلك يقولون : هذا من عدل عمر !
ورسالته لهم : « أما بعد فإنكم معشر العمال تقدمتم على عيون الأموال فجبيتم الحرام ، وأكلتم الحرام ، وأورثتم الحرام ! وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فيقاسمك مالك ، فأحضره مالك . ( تاريخ دمشق : 55 / 278 ، وابن خياط / 81 ) .
وقال لأبي هريرة : « يا عدو الله وعدو الإسلام خنت مال الله ! قال قلت : لست عدو الله ولا عدو الإسلام ، ولكني عدو من عاداهما ، ولم أخن مال الله ولكنها أثمان إبلي
--------------------------- 293 ---------------------------
وسهام اجتمعت ! قال فأعادها عليَّ وأعدت عليه هذا الكلام ! قال فغرَّمني اثني عشر ألفاً » . ( الحاكم : 2 / 347 ) .
وفي العقد الفريد ( 1 / 45 ) أن عمر عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله ، وعزل الحارث بن وهب وشاطره ماله . وكتب إلى عمرو بن العاص : بلغني أنه قد فشت لك فاشية من خيل وإبل وبقر وعبيد ، فمن أين لك هذا ؟ فكتب : إني أعالج من الزراعة ما لايعالجه الناس ، فشاطره ماله حتى أخذ إحدى نعليه ، فغضب ابن العاص وقال : قبح الله زماناً عمل فيه ابن العاص لابن الخطاب ، والله إني لأعرف الخطاب يحمل على رأسه حزمة من حطب ، في نمرة لا تبلغ رسغيه ، وعلى ابنه مثلها » ! أي في ثوب لا يبلغ ركبتيه !
وقال اليعقوبي في تاريخه ( 2 / 15 ) : « وشاطر عمر جماعة من عماله أموالهم ، قيل إن فيهم سعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة ، وعمرو بن العاص عامله على مصر ، وأبا هريرة عامله على البحرين ، والنعمان بن عدي بن حرثان عامله على ميسان ، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة ، ويعلي بن منية عامله على اليمن ، وامتنع أبو بكرة من المشاطرة وقال : والله لئن كان هذا المال لله ، فما يحل لك أن تأخذ بعضاً وتترك بعضاً ، وإن كان لنا فما لك أخذه » !
وفي النهاية ( 7 / 23 ) : « كتب عمر إلى أبي عبيدة : إن أكذبَ خالد نفسه فهو أميرعلى ما كان عليه ، وإن لم يكذب نفسه فهو معزول فانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله نصفين ! فقاسمه أبو عبيدة حتى أخذ إحدى نعليه وترك له الأخرى » !
ومعنى أكذب نفسه : تراجع عن الطعن في حنتمة أم عمرلأنه كان ينكرأنها من بني مخزوم وىقول لموها عن مزبلة ! ويسميها أم شملة ! وكانت مقاسمته لخالد قبل مقاسمته لعماله ، لأن أول رسالة كتبها بعد استخلافه كانت بعزل خالد !
وخطب خالد بعد عزله فقال : ( استعملني على الشام وهو له مهم ، فلما ألقى الشام بوانيه وصار بثينةً وعسلاً عزلني واستعمل غيري ) . ( معجم البلدان : 1 / 339 ) .
--------------------------- 294 ---------------------------
2 . وسبب مقاسمته لهم قصيدة أعجبته !
فقد نص المؤرخون على أن سبب مقاسمة عمر لعماله أن شاعراً قال قصيدة وصف فيها فسادهم ، وطلب من عمر مناصفتهم ، فركبت في رأس عمر واستحسنها !
ففي فتوح البلدان للبلاذري ( 2 / 473 ) : « كان سبب مقاسمة عمر بن الخطاب مال العمال أن خالد بن الصعق قال شعراً ، كتب به إلى عمر بن الخطاب :
أبلغ أمير المؤمنين رسالة * فأنت ولي الله في المال والأمر
فلا تدعن أهل الرساتيق والجزا * يشيعون مال الله في الأدم الوفر
فأرسل إلى النعمان فاعلم حسابه * وأرسل إلى جزءٍ وأرسل إلى بشر
ولا تنسين النافعيْن كليهما * وصهر بني غزوان عندك ذو وفر
ولا تدعوني للشهادة إنني * أغيب ولكني أرى عجب الدهر
من الخيل كالغزلان والبيض والدمى * وما ليس ينسى من قرام ومن ستر
ومن ريطة مطوية في صوانها * ومن طي أستار معصفرة حمر
إذا التاجر الهندي جاء بفأرة * من المسك راحت في مفارقهم تجري
نبيع إذا باعوا ونغز وإذا غزوا * فأنى لهم مالٌ ولسنا بذي وفر
فقاسمهمُ نفسي فداؤك إنهم * سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
فقال : فإنا قد أعفيناه من الشهادة ، ونأخذ منهم النصف !
فقاسم عمرهؤلاء الذين ذكرهم أبو المختار شطر أموالهم ، حتى أخذ نعلاً وترك نعلاً ، وكان فيهم أبو بكرة فقال : إني لم ألِ لك شيئاً ! فقال له : أخوك على بيت المال وعشور الأبلة ، وهو يعطيك المال تتجر به ! فأخذ منه عشرة آلاف . ويقال : قاسمه شطرماله ! وقال : الحجاج الذي ذكره الحجاج بن عتيك الثقفي ، وكان على الفرات .
وجزء بن معاوية ، عم الأحنف كان على سَرَق .
وبشر بن المحتفز ، كان على جند يسابور .
والنافعان نفيع أبو بكرة ، ونافع بن الحارث بن كلدة أخوه .
--------------------------- 295 ---------------------------
وابن غلاب خالد بن الحارث من بني دهمان ، كان على بيت المال بإصبهان .
وعاصم بن قيس بن الصلت السلمي ، كان على مناذر .
والذي في السوق ، سمرة بن جندب ، على سوق الأهواز .
النعمان بن عدي بن نضلة ، كان على كور دجلة .
وصهر بني غزوان مجاشع بن مسعود السلمي كان على أرض البصرة وصدقاتها .
وشبل بن معبدالبجلي ثم الأحمسي ، كان على قبض المغانم .
وابن محرش أبو مريم الحنفي ، كان على رام هرمز .
فقاسمهم عمر نصف أموالهم ، والنعمان هو النعمان بن بشير ، وكان على حمص .
وصهر بني غزوان أبو هريرة ، كان على البحرين » .
3 . ولم يشمل حكمه القادة من شيعة علي ( عليه السلام ) لأنه ليس فيهم خائن !
ونلاحظ أن أصحاب علي ( عليه السلام ) قادة الفتوحات وعمال الأمصار لم تشملهم المقاسمة ، لأنهم فوق الشبهات ، كعمار ، وسلمان ، وحذيفة ، والنعمان بن مقرن ، وبريدة الأسلمي ، وخالد بن سعيد بن العاص وأخيه أبان ، وعثمان بن حنيف ، وهاشم المرقال ، وعمرو بن الحمق ، والأشتر ، وغيرهم . . فهؤلاء ليس عندهم ما يقاسمهم إياه !
4 . وخصَّ عمر اثنين من عماله بالإعفاء !
فلم يصادر نصف أموالهما ، وهما معاوية بن أبي سفيان لأنه لم يحاسبه أبداً ، ولا يقبل عليه شكوى حتى من الصحابة كبلال وأصحابه الثلاثين ، بل يمدحه ، ويُعده للمستقبل ، ويقول عنه : هذا كسرى العرب ! ( أسد الغابة : 4 / 386 ) .
والثاني قنفذ العدوي ، لم يحاسبه لأنه كلفه بمهمة قلَّ من يجسرعليها ! قال العباس لعلي : « ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذاً ، كما أغرم جميع عماله ؟ فنظرعلي إلى من حوله ثم اغرورقت عيناه بالدموع ثم قال : شكر له ضربةً ضربها فاطمة ( عليها السلام ) بالسوط ، فماتت وفي عضدها أثره كأنه الدملج » . ( كتاب سليم / 223 ) .
- *
--------------------------- 296 ---------------------------
35 . سياسة علي مع عماله ولاة الأمصار
1 . قال ( عليه السلام ) متعجباً من مناصفة عمر عماله الخونة : « العجب مما أشربت قلوب هذه الأمة من حب هذا الرجل وصاحبه من قبله ، والتسليم له في كل شئ أحدثه ! لئن كان عماله خونة ، وكان هذا المال في أيديهم خيانة ، ما كان حل له تركه ، وكان له أن يأخذه كله فإنه فئ المسلمين ، فما له يأخذ نصفه ويترك نصفه ! ولئن كانوا غير خونة فما حل له أن يأخذ أموالهم ولا شيئاً منهم قليلاً ولا كثيراً وإنما أخذ أنصافها ! ولو كانت في أيديهم خيانة ثم لم يقروا بها ولم تقم عليهم البينة ، ما حل له أن يأخذ منهم قليلاً ولا كثيراً !
وأعجب من ذلك إعادته إياهم إلى أعمالهم ! لئن كانوا خونة ما حل له أن يستعملهم ، ولئن كانوا غير خونة ما حلت له أموالهم » ! ( كتاب سليم / 223 ) .
2 . وكانت سياسة علي ( عليه السلام ) أن يتحرى اختيار عماله من خيرة الناس ، ويكفيهم معيشتهم ، ويتفقدهم ، ويتخذهم أصدقاء ، ثم يراقبهم ويصدر توجيهاته لهم إذا لزم الأمر ، وقد كتب برنامجه لمالك الأشتر لما ولاه مصر ، قال . ( نهج البلاغة : 3 / 82 ) : ( ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباةً وأثرةً ، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة ، والقدم في الإسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقاً ، وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع إشرافاً ، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً .
ثم أسبغ عليهم الأرزاق ، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك ، أو ثلموا أمانتك .
ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السرلأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية .
وتحفظ من الأعوان ، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك ، اكتفيت بذلك شاهداً ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة ) .
--------------------------- 297 ---------------------------
3 . وهذه نماذج من رسائله الكثيرة إلى عماله من ولاة النواحي والأمصار :
من كتاب له ( عليه السلام ) إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني : ( بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك ، وأغضبت إمامك : أنك تقسم فئ المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من أعراب قومك !
فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقاً ، لتجدن بك علي هواناً ، ولتخفن عندي ميزاناً ، فلا تستهن بحق ربك . . ) . ( نهج البلاغة : 3 / 67 ) .
ومن كتاب له إلى قثم بن العباس عامله على مكة : ( أما بعد فإن عيني بالمغرب كتب إلي يعلمني أنه وجه على الموسم أناس من أهل الشام ، العمي القلوب ، الصم الأسماع . . . فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصليب ، والناصح اللبيب ، والتابع لسلطانه ، المطيع لإمامه . وإياك وما يعتذر منه ، ولا تكن عند النعماء بطراً ، ولا عند البأساء فشلاً . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 58 ) .
ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى بعض عماله : ( كأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم ، وتنوي غرتهم عن فيئهم ، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة ، وعاجلت الوثبة ، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم ، اختطاف الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة ، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله ، غير متأثم من أخذه ، كأنك لا أباً لغيرك حدرت إلى أهلك تراثاً من أبيك وأمك !
فسبحان الله ، أما تؤمن بالمعاد ، أو ما تخاف نقاش الحساب ! أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب ! كيف تسيغ شراباً وطعاماً ، وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً ، وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال ، وأحرز بهم هذه البلاد . فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار ) ! ( نهج البلاغة : 3 / 66 ) .
--------------------------- 298 ---------------------------
ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى المنذر بن الجارود العبدي ، وقد خان في بعض ما ولاه :
( أما بعد فإن صلاح أبيك غرني منك ، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله ، فإذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواك انقياداً ، ولا تبقي لآخرتك عتاداً ، تعمر دنياك بخراب آخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك . ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك ! ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر ، أو ينفذ به أمر ، أو يعلى له قدر ، أو يشرك في أمانة ، أو يؤمن على خيانة ، فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 132 ) .
ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري ، وهو عامله على البصرة ، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها ، فمضى إليها : ( أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو ، وغنيهم مدعو . فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه .
ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ، ويستضئ بنور علمه ، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، وعفة وسداد . فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادخرت من غنائمها وفراً ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً .
بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء ، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ، ونعم الحكم الله . وما أصنع بفدك وغيرفدك والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها ، وتغيب أخبارها ، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لاضغطها الحجر والمدر ، وسد فرجها التراب المتراكم . وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق .
ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة . ولعل
--------------------------- 299 ---------------------------
بالحجاز أو اليمامة من لاطمع له في القرص ولاعهد له بالشبع ، أوَأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى ! أو أكون كما قال القائل :
وحسبك داء أن تبيتَ ببطنةٍ * وحولَك أكبادٌ تَحِنُّ إلى القِدِّ
أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش . فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها ، أو المرسلة شغلها تقممها ، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها . أو أترك سدى أو أهمل عابثاً ، أو أجر حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة . وكأني بقائلكم يقول إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان ، ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً ، والروائع الخضرة أرق جلوداً ، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً ، وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد . والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها ، ولوأمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها ، وسأجهد في أن أطهرالأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد .
إليك عني يا دنيا ، فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، وأفلتُّ من حبائلك ، واجتنبت الذهاب في مداحضك . أين القرون الذين غررتِهم بمداعبك ، أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك . هاهم رهائن القبور ومضامين اللحود . والله لو كنت شخصاً مرئياً وقالباً حسياً لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني وأمم ألقيتهم في المهاوي ، وملوك أسلمتهم إلى التلف وأوردتهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر ! هيهات من وطئ دحضك زلق ، ومن ركب لججك غرق ، ومن أزور عن حبائلك وفق . والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه ، والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه . أعزبي عني ، فوالله لا أذل لك فتستذليني ، ولا أسلس لك فتقوديني . وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله ،
--------------------------- 300 ---------------------------
لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً ، وتقنع بالملح مأدوماً ، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها . أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك ، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ، ويأكل علي من زاده فيهجع ! قرت إذا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية . طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها ، وعركت بجنبها بؤسها ، وهجرت في الليل غمضها ، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم ، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم ، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم : أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ . فاتق الله يا ابن حنيف ، ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك ) . ( نهج البلاغة : 3 / 70 ) .
- ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى عماله على الخراج : ( من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج . أما بعد فإن من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ما يحرزها . وأعلموا أن ما كلفتم يسير وأن ثوابه كثير ، ولو لم يكن فيما نهى الله عنه من البغي والعدوان عقاب يخاف ، لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه . فأنصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم ، فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة ، وسفراء الأئمة ، ولا تحسموا أحداً عن حاجته ، ولا تحبسوه عن طلبته ، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ، ولا دابة يعتملون عليها ولا عبداً ، ولا تضربن أحداً سوطاً لمكان درهم ، ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد ، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام ، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام ، فيكون شوكة عليه ) . ( نهج البلاغة : 3 / 80 ) .
36 . قامت سياسته على قاعدة : وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا
كان الإمام ( عليه السلام ) يطبق قوله تعالى : وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ، لأن المضل ظالم فاجر ، وإذا فتح الباب لهم سيطروا على مفاصل الدولة ، وجعلوها دولة قبلية فاسدة ، وجبرية ( ديكتاتورية ) باسم الإسلام .
--------------------------- 301 ---------------------------
قال ابن كثير في النهاية ( 8 / 137 ) : ( قال معاوية لجرير : إن ولاني عليٌّ الشام ومصر بايعته على أن لا يكون لأحد بعده عليَّ بيعة ، فقال : أكتب إلى عليٍّ بما شئت وأنا أكتب معك ، فلما بلغ علياً الكتاب قال : هذه خديعة ، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك : وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) .
37 . وقامت سياسة عمر على تولية المنافقين وإثمهم عليهم !
قال عبد الرزاق ( 7 / 269 ) : قال عمر : ( نستعين بقوة المنافق وإثمه عليه ) .
وقال البيهقي في سننه ( 9 / 36 ) : ( نستعين بقوة المنافقين وإثمهم عليهم ) .
قال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه : أين سنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) / 175 ، وكتابه : حقيقة المهدي المنتظر / 28 : ( قال ابن حجر في فتح الباري : والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد ، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين . . . فلأجل ذلك استخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم .
قال حذيفة أمين سر رسول الله على المنافقين ، لعمر بن الخطاب يوماً عندما رأى الفجار والمنافقين يتولون المناصب الحساسة في الدولة : يا عمر إنك تستعين بالرجل الفاجر ! وقال حذيفة نفسه مرة أخرى لعمر : والله يا عمر إنك تستعمل من يخون وتقول ليس عليك شئ ، وعاملك يفعل كذا وكذا ! وكان عمر يعلم أن الذين يستعين بهم ويعينهم أمراء وولاة وقادة ، فجارٌ أو منافقون أو خونةٌ لله ولرسوله ، ولكنه كان يبرر استعماله لهم واستعانته بهم بالقول : نستعين بقوة المنافق وإثمه عليه .
وهكذا وحسب هذه السياسة المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ، ولتحذيرات الرسول المتكررة صار تأمير الفاسقين والمنافقين والفجار والاستعانة بهم هو الأصل ، وهو المبدأ العام ، فأينما وجدت هذه القوة المزعومة استعانوا بها ، بغض النظرعن دين صاحبها أوسابقته أو جهاده أو علمه أو ماضيه ، أو عداوته السابقة لله ولرسوله ، أو تحذير الرسول منه ! والقوة تعني الالتزام بسياسة الدولة العامة ، والولاء
--------------------------- 302 ---------------------------
لها ، وكراهية أعدائها ، وحرمان أولئك الأعداء وأوليائهم ، من كافة الوظائف العامة .
والكارثة حقاً أن ( أعداء ) الدولة ومعارضيها سواء بالعلن أم بالسر ، هم أولياء النبي وقرابته الأدنون ، ومن قام الإسلام كله على أكتافهم !
طواقم جديدة من الولاة : بعد أقل من شهرين على وفاة الرسول الأعظم تم عزل كافة العمال والولاة والأمراء الذين عينهم الرسول ، وقتل بعضهم شرقتلة ، كمالك بن نويرة ، ونجا أسامة بن زيد الذي عينه الرسول أميراً على جيش من العزل بأعجوبة ! وعينت الدولة طواقم جديدة من الولاة والأمراء بدلاً من الذين عينهم رسول الله ، واقتسمت بطون قريش الوظائف العامة ، وحصل البطن الأموي على نصيب الأسد ، لأن هذا البطن قد ساهم مساهمة فعالة بإقامة دولة البطون . وهذا البطن مشهور بعداوته للنبي وببغضه لآل النبي وحقده عليهم ، فالعرب كلهم بل العالم بأسره يعلم بأن أبا سفيان وأولاده خاصة ، والأمويين عامة هم الذين قادوا جبهة الشرك ضد رسول الله طوال فترة ال - 15 سنة التي سبقت الهجرة ، وأنهم هم الذين جيشوا الجيوش وألبوا العرب على رسول الله وحاربوه بكل فنون القتال ، وعادوه بكل وسائل العداء حتى أحيط بهم عندما فتح الرسول مكة ، فاضطروا مكرهين للتلفظ بالشهادتين وكتموا إحباطهم وحقدهم على آل محمد ، لأنهم فئة موتورة ، فما من بيت من بيوت البطن الأموي إلا وأصاب الهاشميون منه مقتلاً ، وقد بين الرسول لأصحابه ، بأن الأمويين هم أكثر بطون قريش بغضاً لآل محمد ، وأنهم طامعون بملك النبوة لأنه رآهم ينزون على منبره نزو القردة ، وطلب من الناس أن يعتزلوهم وأن يحذروا منهم .
وبعد وفاة النبي بفترة وجيزة ولت الدولة يزيد بن أبي سفيان قائداً عاماً لجيش الشام ، ولما مات يزيد عينت أخاه معاوية أميراً على الشام خلفاً لأخيه . ( راجع النهاية : 8 / 118 ، وتاريخ الطبري : 5 / 69 ، والاستيعاب : 3 / 596 ، وكنز العمال : 13 / 606 ) .
وأطلق عمر بن الخطاب يد معاوية في بلاد الشام ، وأعطاه الحرية الكاملة ليفعل ما يشاء ، وليتصرف على الوجه الذي يراه بلا رقيب ولا حسيب ، فقد قال عمر لمعاوية يوماً : لا آمرك ولا أنهاك . ( راجع والنهاية : 8 / 125 ، وتاريخ الطبري : 6 / 184 ) .
--------------------------- 303 ---------------------------
وكان عمر يوطد له بين الناس فيقول عن معاوية : إنه فتى قريش وابن سيدها ! ( راجع البداية والنهاية : 8 / 125 ، والاستيعاب : 8 / 397 ) ! وكان يقول للناس : تذكرون كسرى وعندكم معاوية ! ( راجع الطبري : 6 / 184 ) . وخاطب عمر أصحاب الشورى قائلاً : إذا اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام . ( راجع الطبقات الكبرى : 5 / 535 ) .
وكان عمر يعرف أن معاوية يُعد أهل الشام للخروج وأنه سيخرج ذات يوم ، فقد صرح عمر في يوم من الأيام قائلاً : يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق . ( راجع الدلائل لابن سعد ، وكنز العمال : 12 / 354 ) . وتركه يكمل استعداده ليخرج في الوقت المناسب !
كما كان عمر وراء تأميرعمرو بن العاص ، فقد أعلن عمرأمام علية القوم قائلاً : لا ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً . ( راجع الإصابة : 5 / 3 ) !
واستعان عمر بقوة الوليد بن عقبة ، مع أن الوليد فاسق بنص القرآن ، وكان يسكرعلناً وصلى بالناس وهو سكران . ( راجع الإصابة : 3 / 363 ) .
واستعان عمر بعبد الله بن أبي سرح ، وكان من المقربين إليه ! ( راجع تاريخ الطبري : 5 / 59 ، والبداية والنهاية : 8 / 214 ) . وعبد الله ابن أبي سرح هو الذي افترى على الله الكذب ، وأباح الرسول دمه حتى لو تعلق بأستار الكعبة .
ثم أتمها عمر على بني أمية ، ووضع الأساس المتين لحكمهم يوم عهد عملياً بالخلافة لعثمان .
واستعان عمر بقوة أبي الأعور السلمي الذي شهد حنين مشركاً ! ( راجع الإصابة : 2 / 540 وأسد الغابة : 6 / 16 ) . ولعنه رسول الله ( رواه أبو نعيم ، راجع كنز العمال : 8 / 82 ) . وكان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب ، وقد أمَّرَه عمر ، وجعله على جيش ) . ( راجع الإصابة : 2 / 541 ) .
ثم قال المحامي الأردني : ولم يكتفوا باختراع مقولة : لا يجوز لبني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة ، حتى قرروا عزلهم سياسياً عزلاً كاملاً ، قال : « وعملياً وطوال رئاسة ذلك النفر للأمة لم يصدف أن استعملوا أو استعانوا
--------------------------- 304 ---------------------------
بأي رجل من آل محمد ، ولا بأي رجل يتعاطف مع آل محمد ، وذلك من قبيل سد الذرائع ! قال عبد الله بن عباس : إن عمر قد أرسل إليه وقال له : إن عامل حمص قد هلك وكان من أهل الخير ، وأهل الخير قليل وقد رجوت أن تكون منهم ، وفي نفسي منك شئ لم أره منك وأعياني ذلك فما رأيك بالعمل لي ؟ قال ابن عباس فقلت : لن أعمل لك حتى تخبرني بالذي في نفسك ؟ قال عمر ما تريد إلى ذلك ؟ قال ابن عباس فقلت : أريده فإن كان شئ أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت ، وإن كنت بريئاً من مثله علمت أني لست من أهله فقبلت عملك هنالك ، فإني قلما رأيتك طلبت شيئاً إلا عاجلته ! فقال عمر : يا ابن عباس إني خشيت أن يأتي الذي هو آت ( الموت ) وأنت في عملك فتقول هلم إلينا ، ولا هلم إليكم دون غيركم !
فمن فَرْط حرص عمر على مصلحة المسلمين وكراهيته المطلقة لرئاسة آل محمد ، يريد حتى بعد وفاته أن يتأكد ، بأنه لا يوجد في ولايات الدولة ولا أعمالها رجل واحد يؤيد حق آل محمد بالرئاسة !
وهو يثق بمعاوية ويثق بكل ولاته لأنه وإياهم على خط واحد ، ولهم هدف واحد وهو الحيلولة بين آل محمد وبين الرئاسة العامة للأمة ، لأن ذلك النفر يرون أنه ليس للأمة مصلحة في رئاسة آل محمد ، بل المصلحة كل المصلحة بإبعاد آل محمد عن حقهم برئاسة الأمة ، وإبعاد أولياء آل محمد عن الولايات والإمارات والأعمال !
لهذه الأسباب هان على ذلك النفر تجاهل سنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكافة الترتيبات الإلهية المتعلقة بنظام الحكم أو بمن يخلف الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وأقنعوا أنفسهم بأن الترتيبات الإلهية التي أعلنها الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في هذا المجال ليست في مصلحة الإسلام ، ولا في مصلحة المسلمين ! ومع الأيام أقنعوا الأكثرية التي حكموها بذلك ! إن هذا لهو البلاء المبين ! » . ( الخطط السياسية لتوحيد الأمة الإسلامية / 262 ) .
38 . أويس القرني بين عمر وعلي ( عليه السلام ) وعثمان
1 . بشر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المسلمين بأويس القرني ( رحمه الله ) وأنه رجل يماني يكون بعده ، وأنه من أولياء الله الكبار ، ودعاؤه لا يرد ، فإذا استغفر لشخص غفر الله له لا محالة .
--------------------------- 305 ---------------------------
فكان عمر يبحث عنه في الحج ليستغفر له ، وقالوا جاء إلى المدينة ، واستغفر له لكن الرواية الصحيحة أنه قال له : أنت صحابي فاستغفرلنفسك وانسل منه وتخفى ، حتى كان زمن عثمان فسكن الكوفة وكان له مسجد وأصحاب ، وقد آذاه بعض أقربائه من أعوان والي عثمان على الكوفة . وما أن بايع المسلمون علياً ( عليه السلام ) حتى التحق به أويس وبايعه على الموت ، وأن يبذل دونه مهجته ، وقاتل معه في حرب الجمل ، ثم في صفين حتى استشهد وقبره في صفين مشهد يزوره المسلمون ، رضي الله عنه وأرضاه . وقد حاول الوهابيون هدمه !
2 . قال هرم بن حيان العبدي : ( قدمت الكوفة فلم يكن لي هم إلا أويس ، أسأل عنه فدفعت إليه بشاطئ الفرات يتوضأ ويغسل ثوبه ، فعرفته بالنعت فإذا رجل آدم ، محلوق الرأس كث اللحية مهيب المنظر ) . ( حلية الأولياء : 2 / 84 ) .
وروى ابن حبان ( المجروحين : 3 / 151 ) : ( أخبرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه سيكون في التابعين رجل من قَرَن ، يقال له أويس بن عامر ، يخرج به وضح فيدعو الله أن يذهبه عنه فيذهبه فيقول : اللهم دع لي من جسدي ما أذكر به نعمتك علي ، فيدع الله له ما يذكره نعمته عليه ، فمن أدركه منكم فاستطاع أن يستغفرله فليستغفرله ) .
وروى الحاكم ( 3 / 402 ) : ( عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لما كان يوم صفين نادى مناد من أصحاب معاوية أصحاب علي : أفيكم أويس القرني ؟ قالوا : نعم . فضرب دابته حتى دخل معهم ، ثم قال سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : خير التابعين أويس القرني ) .
3 . وزعم عمر أنه رأى أويساً في الحج فاستغفر له ، قال كما في مسلم ( 7 / 188 ) : ( سمعت رسول الله يقول : إن خير التابعين رجل يقال له أويس ، وله والدة هو بها بر ، لو أقسم على الله لأبره ، وكان به بياض فبرئ . . فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل ، فاستغفر لي ، فاستغفر له ) .
4 . لكن عدة روايات ذكرت أنه أبى أن يستغفر له ! منها ما رواه الحاكم ( 3 / 404 )
قال : ( لما أقبل أهل اليمن جعل عمر يستقري الرفاق فيقول : هل فيكم أحد
--------------------------- 306 ---------------------------
من قرن ؟ حتى أتى عليه قرن فقال : من أنتم ؟ قالوا : قرن . فرفع عمر بزمامه أو زمام أويس فناوله عمر فعرفه بالنعت ، فقال له عمر : ما اسمك ؟ قال أنا أويس . قال : هل كان لك والدة ؟ قال : نعم . قال : هل بك من البياض ؟ قال : نعم ، دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي . فقال له عمر : استغفر لي . قال : أنت أحق أن تستغفر لي ، أنت صاحب رسول الله ) . أي لم يستغفر له !
ومنها ما رواه ابن عساكر ( 9 / 435 ) : ( عن سعيد بن المسيب قال : نادى عمر بن الخطاب وهو على المنبر بمنى : يا أهل قرن ، فقام مشايخ فقالوا : نحن يا أمير المؤمنين . قال : أفي قرن من اسمه أويس ؟ فقال شيخ : يا أمير المؤمنين ليس فينا من اسمه أويس إلا مجنون يسكن القفار والرمال لايألف ولا يؤلف . فقال : ذاك الذي أعنيه ، إذا عدتم إلى قرن فاطلبوه وبلغوه سلامي ، وقولوا له إن رسول الله بشرني بك وأمرني أن أقرأ عليك سلامه . قال : فعادوا إلى قرن فطلبوه فوجدوه في الرمال ، فأبلغوه سلام عمروسلام النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : عرفني أمير المؤمنين وشهر باسمي ! السلام على رسول الله ، وهام على وجهه فلم يوقف له بعد ذلك على أثر دهراً ، ثم عاد في أيام علي فقاتل بين يديه فاستشهد في صفين أمامه ، فنظروا فإذا عليه نيف وأربعون جراحة من طعنة وضربة ورمية ) !
وفي أعلام النبلاء ( 4 / 24 و 27 ) : ( قال عمر : فقدم علينا هاهنا فقلت : ما أنت ؟ قال : أنا أويس . . قلت : استغفر لي . قال : يا أمير المؤمنين أو يستغفر لمثلك ! قلت : أنت أخي لا تفارقني . فانملس مني ، فأنبئت أنه قدم عليكم الكوفة ) .
وهذا صرىح في أنه لم ىستغفر لعمر .
وفي أعلام النبلاء ( 4 / 27 ) : ( فلما كان في آخر السنة التي هلك فيها عمر ، قام على أبي قبيس فنادى بأعلى صوته : يا أهل الحجيج من أهل اليمن ، أفيكم أويس من مراد ؟ فقام شيخ كبير فقال : إنا لا ندري من أويس ، ولكن ابن أخ لي يقال له أويس وهو أخمل ذكراً وأقل مالاً وأهون أمراً من أن نرفعه إليك ، وإنه ليرعى إبلنا بأراك عرفات ، فذكر اجتماع عمر به وهو يرعى فسأله الاستغفار وعرض عليه مالاً ، فأبى ) .
أي لم يستغفر له وانملس منه ، وفي الثانية : أبى أن يستغفر له وأن يأخذ منه مالاً ! ويبدو
--------------------------- 307 ---------------------------
أنه رآه في الجح في كليهما ، وهذايضعف رواية أنه جاء إلى المدينة كما روى مسلم .
بل لو تعددت الروايات بأنه استغفر لأحد ، ووجدنا واحدة تقول إنه امتنع ، لكانت أقوى لكثرة كذب رواة السلطة .
5 . أما حياة أويس في الكوفة ، فكان في زمن عثمان مغضوباً عليه من والي الكوفة
روى الحاكم ( 3 / 405 ) : ( جاء رجل من مراد إلى أويس القرني فقال : السلام عليكم ، قال وعليكم . قال : كيف أنتم يا أويس ؟ قال : الحمد لله . قال : كيف الزمان عليكم ؟ قال : لا تسأل ! الرجل إذا أمسى لم يرأنه يصبح وإذا أصبح لم ير أنه يمسي ! يا أخا مراد ، إن الموت لم يبق لمؤمن فرحاً . يا أخا مراد ، إن عرفان المؤمن بحقوق الله لم تبق له فضة ولا ذهباً . يا أخا مراد ، إن قيام المؤمن بأمر الله لم يبق له صديقاً ! والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذوننا أعداء ، ويجدون على ذلك من الفاسقين أعواناً ، حتى والله لقد يقذفوننا بالعظائم ، ووالله لا يمنعني ذلك أن أقول بالحق ) !
6 . وكان أويس من خواص أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 315 ) عن ابن عباس : ( أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جلس بذي قارلأخذ البيعة فقال : يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً يبايعونني على الموت . قال ابن عباس : فجزعت لذلك أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدون عليه فيفسد الأمر علينا ، ولم أزل مهموماً دأبي إحصاء القوم ، حتى ورد أوايلهم فجعلت أحصيهم فاستوفيت عددهم تسع ماة وتسعة وتسعون رجلاً ، ثم انقطع مجئ القوم ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا حمله على ما قال ! فبينما أنا مفكر في ذلك إذرأيت شخصاً قد أقبل ، حتى إذا دنا وإذا هو رجل عليه قباء صوف ، معه سيفه وترسه وإداوته ، فقرب من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : أمدد يدك أبايعك ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : على مَ تبايعني ؟ قال : على السمع والطاعة ، والقتال بين يديك حتى أموت ، أو يفتح الله عليك . فقال له : ما اسمك ؟ قال : أويس . قال : أنت أويس القرني ؟ قال : نعم . قال : الله أكبر ، أخبرني
--------------------------- 308 ---------------------------
حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أني أدرك رجلاً من أمته يقال له أويس القرني ، يكون من
حزب الله ورسوله ، يموت على الشهادة ، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر ) .
أقول : هذا يدل على عدم معرفة ابن عباس بإمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعصمته .
7 . ثم كان أويس في حرب صفين مسك الختام ، ففي رجال الكشي ( 1 / 315 ) عن الأصبغ بن نباتة قال : ( كنا مع علي ( عليه السلام ) بصفين ، فبايعه تسعة وتسعون رجلاً ، ثم قال : أين المائة ، لقد عهد إليَّ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يبايعني في هذا اليوم مائة رجل . قال :
إذ جاء رجل عليه قباء صوف متقلداً بسيفين فقال : أبسط يدك أبايعك . قال علي : على مَ تبايعني ؟
قال : على بذل مهجة نفسي دونك . قال : من أنت ؟ قال : أنا أويس القرني قال : فبايعه فلم يزل يقاتل بين يديه حتى قتل . فوُجد في الرجَّالة ) .
39 . تمنى علي ( ( عليه السلام ) ) أن يلقى الله بصحيفة عمر !
وقد تقدم تفسيره في الفصل التاسع عشر ، ومن أحاديثه : رواية المفيد في الفصول المختارة / 90 : ( سئل هشام بن الحكم عما ترويه العامة من قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما قبض عمر ، وقد دخل عليه وهو مسجى : لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى ، وفي حديث آخر لهم : إني لأرجو أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى ؟ فقال هشام : هذا حديث غير ثابت ولا معروف الإسناد وإنما حصل من جهة القصاص وأصحاب الطرقات ، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفاً ، وذلك أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالماً مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة ، على كتب صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولم يولوهم مقامه من بعده ، فكانت الصحيفة لعمر ، إذ كان عماد القوم ، والصحيفة التي ود أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ورجا أن يلقى الله بها هي هذه الصحيفة فيخاصمه بها ، ويحتج عليه بمتضمنها ) . وسيأتي اعتراف ابن عمر بها ! ويؤكد وجودها ما روته العامة عن أبيّ بن كعب أنه كان يقول في مسجد رسول الله بعد أن أفضى الأمر إلى أبيبكر بصوت يسمعه أهل المسجد : ألا هلك أهل
--------------------------- 309 ---------------------------
العقدة ، والله ما آسى عليهم إنما آسى على من يضلون من الناس ، فقيل له : يا صاحب رسول الله من هؤلاء أهل العقدة ، وما عقدتهم ؟ فقال : قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولا يولوهم مقامه ، أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاماً أبين به للناس أمرهم ، قال : فما أتت عليه الجمعة ) .
يقصد المفيد أنهم قتلوه بالسم يوم الأربعاء رضي الله عنه . ورواه عبد الرزاق : 11 / 322 و : 8 / 620 ، الحاكم : 2 / 226 ، و : 4 / 527 ، وأحمد : 5 / 140 . ورواه ابن سعد في الطبقات : 3 / 501 و 503 ، وفيه قوله : ( والله لئن عشت إلى هذه الجمعة لأقولن فيهم قولاً لا أبالي أستحييتموني عليه أو قتلتموني ! فمات يوم الأربعاء ، رضي الله عنه ) !
- *
--------------------------- 310 ---------------------------
الفصل الحادي والأربعون: شورى عمر تعيين وليست شورى !
شورى عمر تعيين وليست شورى !
1 . مرسوم الشورى والثوم والبصل والكلالة !
أوصى عمر بالشورى لستة ليختاروا أحدهم خليفة ، وأعطى ابن عوف حق النقض ! وأوصى في خطبته بأن يحلوا مشكلة الذي يورث كلالة ويعرفوا من هو ، لأنه عجز عن تعيينه ، ثم تبرأ من ظلم حكام الولايات ، ونهى عن أكل الثوم والبصل !
ففي صحيح مسلم ( 2 / 81 ) : « إن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذكر أبا بكر ، وقال : إني رأيت كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات ، وأني لا أراه إلا حضور أجلي ، وإن أقواماً يأمرونني أن أستخلف ، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ، ولا الذي بعث به نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإن عجل بي أمر ، فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو عنهم راض ، وإني قد علمت أن أقواماً يطعنون في هذا الأمر ، أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام ، فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال !
ثم إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ! وما راجعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في شئ ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شئ ما أغلظ لي فيه ، حتى طعن بإصبعه في صدري فقال : ياعمرألا تكفيك آية الصيف التي في آخرسورة النساء ! وإني أن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن . وإني أشهد الله على أمراء الأمصار ، أني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم ، ويعدلوا عليهم ويقسموا فيئهم بينهم ، ويرفعوا إلي مما عمي عليهم .
ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم ، لقد رأيت
--------------------------- 311 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً » !
وفي صحيح البخاري ( 2 / 107 ) : ( إني لا أعلم أحداً أحق بهذا الأمرمن هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض ، فمن استخلفوا بعدي فهو الخليفة فاسمعوا له وأطيعوا ، فسمى عثمان ، وعلياً ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ) .
وفي مسند أحمد ( 1 / 20 ) : ( رأيت من أصحابي حرصاً سيئاً ، وإني جاعل هذا الأمر إلى هؤلاء النفر الستة ، الذين مات رسول الله وهو عنهم راض . ثم قال : لو أدركني أحد رجلين ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة ، وأبو عبيدة بن الجراح ) .
ملاحظة
لا أحد يعرف لماذا خلط عمر أموراً صغيرة كالثوم والبصل وحكم إرث الكلالة ، بأمر كبير كالخلافة ! وقد يكون عجزه عن فهم الكلالة سبَّب له عقدة ، لكن
يبقى الثوم !
قال المفيد في الإرشاد ( 1 / 200 ) إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بلغه شك أبيبكر في الكلالة فقال : أما علم أن الكلالة هم الإخوة والأخوات من قبل الأب والأم ، ومن قبل الأب على انفراده ، ومن قبل الأم أيضاً على حدتها ، قال الله عز قائلاً : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ . .
وقال جلت عظمته : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ . . ) . فهي القرابة البعيدة التي ترث .
2 . شورى عمر : فلتة جديدة !
1 . وصف عمر خلافة أبيبكر بأنها فلتة فقال : ( فوالله ما كانت بيعة أبيبكر إلا فلتة فتمت ولكن الله وقى شرها . من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةَ أن يقتلا ) . ( صحيح البخاري : 8 / 25 ) .
--------------------------- 312 ---------------------------
وفي مصنف عبد الرزاق ( 5 / 440 ) وصحيح ابن حبان ( 2 / 152 ) : ( أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إني سمعت فلاناً يقول : لو قد مات أمير المؤمنين قد بايعت فلاناً ، فقال عمر : إني لقائم عشية في الناس ، فنحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين أمرهم ) !
فبيعة أبيبكر فلتة ، ووصية أبيبكر لعمر ثمرة الفلتة ، ونصب عمر لعثمان باسم الشورى فرع فرع الفلتة !
2 . وقد كان عمر بطبيعته فردياً ضد الشورى ، ومن فرديته أنه لا يرى ضرورة طاعة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال لابن عباس : ( يا ابن عباس ، أراد رسول الله الأمر له ( لعلي ) فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك ! إن رسول الله أراد أمراً وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله ! أوَ كلما أراد رسول الله كان !
إن رسول الله أراد أن يذكر علياً للأمر في مرضه فصددته عنه خوفاً من الفتنة وانتشار أمرالإسلام ، فعلم رسول الله ما في نفسي وأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم » . ( رواه في شرح النهج : 12 / 78 ، وفي التحفة العسجدية / 146 ) .
ومعناه أراد رسول الله ، وأردت ، فوقع ما أردت ، وكانت إرادتي إرادة الله !
3 . من فلتات عمر : أنه قال لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً لوليته بعدي ، ولو كان سالم حياً لوليته ، فقد أكذب نفسه في شعاره : الخلافة لقريش ! لأن سالماً غلام فارسي ، وهو الذي أرضعته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، وهو ذو لحية .
4 . ومن فلتات عمر : حكمه بقتل من ابتز المسلمين أمرهم ، وقد ابتزه في السقيفة لأبيبكر ، ثم ابتزه لما ولاه أبو بكر ، ثم ابتزه لما حصر الأمر بأهل الشورى !
5 . ومن فلتات عمر : أنه شهد للستة بالجنة وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مات وهو راض عنهم ، ثم أمر بقتل من خالف منهم ، وبقتلهم جميعاً إن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا !
قال عمر : ( ثم أمرالناس إن مضت ثلاثة أيام ولم يفرغ القوم أن تُضرب رقابهم ، وإن اجتمع أربعة وخالف اثنان أن يقتلوا الاثنين » ! ( كتاب سليم / 438 ) .
--------------------------- 313 ---------------------------
وفي تاريخ المدينة ( 3 / 925 ) والطبري ( 3 / 294 ) : ( قال لصهيب : صل بالناس ثلاثة أيام ، وأدخل علياً وعثمان والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم ، وأحضرعبدالله بن عمر ولا شئ له من الأمر ، وقم على رؤوسهم ، فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه أو اضرب رأسه بالسيف . وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم ، فحكموا عبد الله بن عمر ، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم ، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين ) .
وفي شرح النهج ( 1 / 184 ) وتاريخ دمشق ( 39 / 190 و 197 ) : ( ثم قال : ادعوا إليَّ أبا طلحة الأنصاري فدعوه له فقال : أنظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم . . الخ ) .
3 . طَعَنَ عمر في عدالتهم إلا علياً ( عليه السلام )
في مصنف عبد الرزاق ( 5 / 448 ) : ( قال المغيرة : يا أمير المؤمنين إنك والله ما تدري ما قدر أجلك ، فلما حددت لناس حداً أو عَلَّمْتَ لهم علماً ينتهون إليه .
قال : فاستوى عمر جالساً ثم قال : هيه ! اجتمعتم فقلتم : من ترون أمير المؤمنين مستخلفاً ، فقال قائل علياً ، وقال قائل عبد الله بن عمر فإن فيه خلفاً ، قال : فلا يأمنوا يسأل عنها رجلان من آل عمر . فقلت : أنا لا أعلم لك ذلك ، قال : قلت : فاستخلف ، قال : من ؟ قلت : عثمان ، قال : أخشى عقده وأثرته ، قال قلت : عبد الرحمن بن عوف ، قال : مؤمن ضعيف ، قال قلت : فالزبير ، قال : ضَرِسٌ ، قال قلت : طلحة بن عبيد الله ، قال : رضاؤه رضاء مؤمن وغضبه غضب كافر ، أما إني لو وليتها إياه لجعل خاتمه في يد امرأته ! قال قلت : فعلي ؟ قال : أما إنه أحراهم إن كان أن يقيمهم على سنة نبيهم ، وقد كنا نعيب عليه مِزَاحةً كانت فيه ) .
الضَّرِس : سيئ الخلق . ومعنى أخشى عقده : أخشى من يؤمرهم ويعقد
لهم اللواء .
--------------------------- 314 ---------------------------
وفي نثر الدرر للآبي ( 2 / 35 ) : ( قال الجاحظ : روى الزهري أن عمر نظر إلى أهل الشورى جلوساً فقال : أكلكم يطمع في الخلافة بعدي ؟ فوجموا ، فقال لهم ثانية ، فأجابه الزبير فقال : نعم ، وما الذي يبعدنا عنها وقد وليتها فقمت بها ، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة . فقال عمر : ألا أخبركم عن أنفسكم ؟ قالوا : بلى ، فإنا لو استعفيناك ما أعفيتنا ! فقال عمر : أما أنت يا زبير فوعْقةٌ لَقِس ، مؤمن الرضا كافر الغضب ، يومٌ إنسان ويومٌ شيطان ، ولعلها إن أفضت إليك لظللت يومك تلاطم في البطحاء على مُد من شعير . أفرأيت إن أفضت إليك فمن يكون على الناس يوم تكون شيطاناً ، ومن يكون إذا غضبت إماماً ؟ ما كان الله ليجمع لك أمر أمة محمد وأنت في هذه الصفة !
ثم أقبل على طلحة فقال : أقول أم أسكت ؟ قال : قل ، فإنك لا تقول لي من الخير شيئاً . قال : ما أعرفك منذ ذهبت إصبعك يوم أحد من البأو الذي أحدثت . ولقد مات رسول الله ساخطاً للذي قلت يوم نزلت آية الحجاب ! أفأقول أم أسكت ؟ قال :
بالله أسكت !
ثم أقبل على سعد ، فقال : إنما أنت صاحب قنص وقوس وأسهم ومقنب من هذه المقانب ، وما أنت وزهرة والخلافة وأمور الناس !
ثم أقبل على علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فقال : لله أنت لولا دعابة فيك . أما والله لو وليتهم لحملتهم على المحجة البيضاء ، والحق الواضح ، ولن يفعلوا .
ثم قال : وأنت يا عبد الرحمن لو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجحت ، ولكن فيك ضعفاً ، ولا يصلح هذا الأمر لمن ضعفه مثل ضعفك . وما زهرة وهذا الأمر ؟ ثم أقبل على عثمان فقال : هيهاً إليك ، كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك ، فحملت بني أمية وبني معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفئ ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً . والله لئن فعلوا لتفعلن ولئن فعلت ليفعلن . ثم أخذ بناصيته فناجاه ، ثم قال : إذا كان ذاك فاذكر قولي هذا ، فإنه كائن ) !
وقال العلامة الحلي في نهج الحق / 285 : ( ومنها : قصة الشورى وقد أبدع فيها أموراً
--------------------------- 315 ---------------------------
فإنه خرج بها عن الاختيار والنص جميعاً وحصرها في ستة ، وذم كل واحد منهم بأن ذكر فيه طعناً لا يصلح معه للإمامة ، ثم أهله بعد أن طعن فيه !
وجعل الأمر إلى ستة ، ثم إلى أربعة ، ثم إلى واحد ، وصفه بالضعف والقصور . وقال : إن اجتمع علي وعثمان ، فالقول ما قالاه ، وإن صاروا ثلاثة وثلاثة ، فالقول للذين فيهم عبد الرحمن بن عوف . وذلك لعلمه بأن علياً ( عليه السلام ) وعثمان لا يجتمعان ، وأن عبد الرحمن بن عوف لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمه .
وإنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام . وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم ، أو الذين ليس فيهم عبد الرحمن .
وروى الجمهور أن عمر لما نظر إليهم قال : قد جاءني كل واحد منهم يهز عقيرته ( أي نافجاً نفسه ) يرجو أن يكون خليفةّ ! أما أنت يا طلحة أفلست القائل : إن قبض النبي لننكحن أزواجه من بعده ، فما جعل الله محمداً أحق ببنات عمنا منا ، فأنزل الله فيك : وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ الله عَظِيمًا . وأما أنت يا زبير فوالله ، ما لان قلبك يوماً ولا ليلة ، وما زلت جلفاً جافياً ، مؤمن الرضا كافر الغضب ، يوماً شيطان ويوماً رحمن ، شحيح .
وأما أنت يا عثمان لرَوْثَةٌ خير منك ، ولئن وليتها لتحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ، ولئن فعلتها لتقتلن ، ثلاث مرات .
وأما أنت يا عبد الرحمن ، فإنك رجل عاجز ، تحب قومك جميعاً . وأما أنت يا سعد فصاحب عصبية وفتنة ، ومقنب وقتال ، لا تقوم بقرية لو حملت أمرها .
وأما أنت يا علي ، فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم . فقام علي مولياً يخرج ، فقال عمر : والله إني لأعلم مكان الرجل ، لو وليتموه أمركم حملكم على المحجة البيضاء ، قالوا : من هو ؟ قال : هذا المُولي عنكم ، إن ولوها الأجلح سلك الطريق المستقيم ، قالوا : فما يمنعك من ذلك ؟ قال : ليس إلى ذلك سبيل ! قال له ابنه عبد الله : فما يمنعك منه ؟ قال : أكره أن أتحملها حياً وميتاً ، وفي رواية : لا أجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة !
--------------------------- 316 ---------------------------
وكيف وصف كل واحد بوصف قبيح كما ترى ، رغم أنه يمنع من الإمامة ، ثم جعل الأمر فيمن له تلك الأوصاف ! وأي تقليد أعظم من الحصر في ستة ، ثم تعيين من اختاره عبد الرحمن ، والأمر بضرب رقاب من يخالف منهم !
وكيف أمر بضرب أعناقهم ، إن تأخروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيام ! ومن المعلوم أنهم لا يستحقون ذلك ، لأنهم إن كلفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام ، فربما طال زمان الإجتهاد وربما نقص بحسب ما يعرض فيه من العوارض ، فكيف يسوغ الأمر بالقتل إذا تجاوزت الثلاثة .
ثم أمر بقتل من يخالف الأربعة . ومن يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن ، وكل ذلك مما لا يُستحق به القتل ) ! ( راجع : شرح النهج : 12 / 259 ، والشافي : 4 / 203 ) .
4 . نفذ ابن عوف خطة عمر واختار عثمان !
في شرح النهج ( 1 / 186 ) : ( تكلم القوم وتنازعوا ، فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان ، وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به علياً وعثمان ، وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان ، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكن له منه . فقال الزبير في معارضته : وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي ، وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى علياً قد ضعف وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان ، دخلته حمية النسب لأنه ابن عمة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهي صفية بنت عبد المطلب وأبو طالب خاله . وإنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي باعتبار أنه تيمي وابن عم أبيبكرالصديق ، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة ، وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم ! وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر ، وخصوصاً طينة العرب وطباعها ، والتجربة إلى الآن تحقق ذلك . فبقي من الستة أربعة ، فقال سعد بن أبي وقاص : وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن وذلك لأنهما من بني زهرة ، ولعلم سعد أن الأمر لا يتم له . فلما لم يبق إلا الثلاثة قال عبد الرحمن لعلي وعثمان : أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين ؟ فلم يتكلم منهما أحد ، فقال
--------------------------- 317 ---------------------------
عبد الرحمن : أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة ، على أن أختار أحدهما فأمسكا ، فبدأ بعلي ( عليه السلام ) وقال له : أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله وسيرة الشيخين أبيبكر وعمر . فقال : بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي . فعدل عنه إلى عثمان فعرض ذلك عليه فقال : نعم ، فعاد إلى علي فأعاد قوله ، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثاً ، فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله وأن عثمان ينعِّم له بالإجابة ، صفق على يد عثمان وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فيقال : إن علياً ( عليه السلام ) قال له : والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دقَّ الله بينكما عطر منشم ! قيل : ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن ، فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن ) . ونحوه تاريخ دمشق ( 44 / 439 ) وكنزالعمال ( 5 / 737 ) .
5 . أعطى عمر حق النقض لصهر عثمان ليضمن له البيعة !
قال البلاذري ( 5 / 505 ) : ( إن علياً شكا إلى عمه العباس ما سمع من قول عمر : كونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف . وقال : والله لقد ذهب الأمر منا ، فقال العباس : وكيف قلت ذلك يا ابن أخي ؟ فقال : إن سعداً لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن نظيرعثمان وصهره ، فأحدهما لا يخالف صاحبه لا محالة ، وإن كان الزبيروطلحة معي فلن أنتفع بذلك ، إذْ كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين !
وقال ابن الكلبي : عبد الرحمن بن عوف زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وأمّها أروى بنت كريز ، وأروى أم عثمان . فلذلك قال صهره ) .
وفي شرح النهج ( 1 / 34 ) : ( وكان عمر قد أوصى بأن لا تطول مدة الشورى فوق ثلاثة أيام ، وأن لا يأتي الرابع إلا ولهم أمير ، وقال إذا كان خلاف فكونوا مع الفريق الذي فيه عبد الرحمن ، فأقبل عبد الرحمن على علي وقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملنَّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ فقال علي : أرجو أن أفعل وأعمل على مبلغ علمي وطاقتي . ثم دعا عثمان وقال له مثل ذلك فأجابه بنعم ، فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد حيث كانت المشورة
--------------------------- 318 ---------------------------
وقال : اللهمَّ اسمع واشهد ، اللهمَّ إني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان وصفق بيده في يد عثمان وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، وبايعه !
قالوا وخرج الإمام عليٌّ واجداً ، فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن : والله لقد تركت علياً وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فقال يا مقداد لقد تقصيت الجهد للمسلمين ، فقال المقداد : والله إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أن رجلاً أقضى بالحقِّ ولا أعلم به منه ! فقال عبد الرحمن : يا مقداد إني أخشى عليك الفتنة ، فاتق الله ) .
وقال اليعقوبي ( 2 / 162 ) ونحوه ابن عقدة في فضائل علي ( عليه السلام ) / 64 : ( ثم خلا بعلي فقال له مثل المقالة الأولى ، فقال : إن كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يحتاج معهما إلى إِجَّيرَي أحد ! أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عني . فخلا بعثمان فأعاد عليه القول فأجابه بذلك الجواب ، وصفق على يده ) .
أقول : ابتدع عبد الرحمن بن عوف هذا الشرط ، الذي لم يشترطه أحد في عقد الخلافة ، لأنه يعلم أن علياً ( عليه السلام ) يرفض أن يجعل طريقة الشيخين جزءً من الدين ، وشرطاً في البيعة . فأجابه الإمام ( عليه السلام ) بأنك تحاول بكل ما تسطيع أن تبعد الخلافة عني فتضع شروطاً ما أنزل الله بها من سلطان تعرف أني أرفضها ، وغرضك أن تعطيها لصهرك ، الذي يقبل بها ولو بمئة شرط ، ثم لا ينفذ منها شرطاً واحداً !
ومعنى قوله ( عليه السلام ) : ( إن كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا يحتاج معهما إلى إجِّيري أحد ! أن الكتاب والسنة ليسا ناقصين حتى تكملهما باشتراط طريقة أحد وما تعود عليه في جاهليته ! بل أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما استطعت . ولا علاقة لإجَّيرى أحد بذلك ! وقد تعمد ( عليه السلام ) أن يبعد اسم السنة والسيرة عن طريقة حكم الشيخين ، وسماها الإجِّيري : ( بكسر فتشديد : العادة ، وقيل همزتها بدل من الهاء . وقال ابن السكيت : ما زال ذلك إجِّيراه أي عادته ) . ( تاج العروس : 3 / 8 ) .
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 125 ) إن علياً ( عليه السلام ) قال : ( وما يدخل سنة أبيبكر وعمر مع كتاب الله وسنة نبيه ) !
--------------------------- 319 ---------------------------
أقول : لا يمكن لوصي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يكرز طريقة أحد جزءً من الدين ويضمها إلى سنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهو يرى في حكم أبيبكر وعمر انحرافات وطامات ، كمناصفة عمر لولاته فقد كتب لهم : أكثرتم من أكل الحرام ، فأعطونا نصف أموالكم ونصف لكم وابقوا في مناصبكم ! وهذا سليقة شخصية جاهلية مخالف للإسلام !
وفي مسند أحمد ( 1 / 75 ) : ( عن عاصم عن أبي وائل قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف : كيف بايعتم عثمان وتركتم علياً ! قال : ما ذنبي قد بدأت بعلي فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبيبكر وعمر ، قال فقال : فيما استطعت . قال : ثم عرضتها على عثمان فقبلها ) . ونحوه أسد الغابة ( 4 / 32 ) وتاريخ دمشق ( 39 / 202 ) والفصول للجصاص ( 4 / 55 ) .
وفي فتح الباري ( 13 / 170 ) : ( فلما أصبح عرض على علي فلم يوافقه على بعض الشروط ، وعرض على عثمان فقبل ) . وقد كتم هذه الشروط ، ولعله استحى بها !
وفي أمالي الطوسي / 557 ، من كلام له ( عليه السلام ) في جواب عبد الرحمن بن عوف : ( فأيّكما يتقلد هذا الأمر على أن يسير في الاُمة بسيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبسيرة صاحبيه أبيبكر وعمر فلا يعدوهما ؟ قال علي ( عليه السلام ) : إني آخذها على أن أسير في الاُمة بسيرة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جهدي وطوقي ، وأستعين على ذلك بربي . قال : فما عندك أنت يا عثمان ؟ قال : أسير في الأمّة بسيرة رسول الله وسيرة أبيبكر وعمر . قال : قررها على علي ثلاثاً ، وعلى عثمان ثلاثاً ، كل رجل منهما يقول مثل قوله الأول ) .
فصفق على يد عثمان وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين !
وفي رواية الطبري ( 3 / 301 ) والبلاذري ( 6 / 128 ) : ( على كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفعل أبيبكر وعمر ) . والتعبير بالفعل من عنده ، بينما قال غيره : سنة أبيبكر وعمر .
6 . طمع بها ابن عوف بعد عثمان فقتلوه !
( فيقال : إن علياً ( عليه السلام ) قال له : والله ما فعلتها إلاّ لأنك رجوتَ منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دق الله بينكما عِطر مَنشِم . قيل ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن ، فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن ) ! ( الطبري : 3 / 301 ،
--------------------------- 320 ---------------------------
وأنساب الأشراف : 6 / 128 ، والعقد الفريد : 4 / 279 . وشرح النهج : 1 / 188 ، والكامل : 2 / 223 ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 162 ) : ( وخرج عثمان والناس يهنئونه ، وكان ذلك يوم الاثنين ، مستهل المحرم سنة 24 ، ومن شهور العجم في تشرين الآخر .
فصعد عثمان المنبر ، فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبيبكر بمرقاة ، فتكلم الناس في ذلك ، فقال بعضهم : اليوم ولد الشر ، وكان عثمان رجلا حيياً فأرتج عليه ، فقام ملياً لا يتكلم ، ثم قال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً ، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقق الخطب ، وإن تعيشوا فستأتيكم الخطبة ، ثم نزل ) !
أقول : صار ابن عوف ثرياً يكسر الذهب بالفؤوس ، ثم اختلف مع عثمان حتى وصفه عثمان بأنه منافق ، ثم مات ابن عوف وهو بصحة جيدة وكان أصغر سناً من عثمان ، واتهم أولاده عثمان بأنه سمه ، ففي كتاب سليم بن قيس / 437 :
( ثم إن عثمان غدر بابن عوف وزواها عنه ، فبرئ منه ابن عوف ، وقام خطيباً فخلعه كما خلع نعله ! ثم مات ابن عوف وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان ، وزعم ولد ابن عوف أن عثمان سَمَّه ) ! وهذا طبيعي يومها في جو الحكام !
7 . هدف عمر : نقل الخلافة إلى عثمان وقتل علي إن لم يقبل !
هدف عمر من الشورى نقل الخلافة إلى عثمان ، لكن باسم الشورى ! وهدفه من الأمر بقتل المخالف لعبد الرحمن أن يطمئن إلى وصول الخلافة إلى عثمان ، وأن يقتل علياً ( عليه السلام ) لأنه سيرفض ، وإن كان معه الزبير وطلحة فلا بأس أن يقتلا لأجل قتل علي .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « والله لقد بايع الناس أبا بكر وأنا أولى الناس بهم مني بقميصي هذا ، فكظمت غيظي وانتظرت أمر ربي وألصقت كلكلي بالأرض . ثم إن أبا بكر هلك واستخلف عمر ، وقد علم والله إني أولى الناس بهم مني بقميصي هذا ، فكظمت غيضي وانتظرت أمر ربي ! ثم إن عمر هلك وقد جعلها شورى فجعلني سادس ستة
--------------------------- 321 ---------------------------
كسهم الجدة وقال : أقتلوا الأقل ، وما أراد غيري ! فكظمت غيظي وانتظرت أمر ربي وألصقت كلكلي بالأرض » . ( أمالي المفيد / 154 ) .
ولما خرج علي ( عليه السلام ) من عند عمرقال : ( يا ابن عباس ، إن القوم قد عادوكم بعد نبيكم كمعاداتهم لنبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في حياته ، أما والله لاينيب بهم إلى الحق إلا السيف .
فقال له ابن عباس : وكيف ذاك ؟ قال : أما سمعت قول عمر : إن بايع اثنان لواحد واثنان لواحد ، فكونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن واقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن ! قال : أفلا تعلم أن عبد الرحمن ابن عم سعد ، وأن عثمان صهر عبد الرحمن ؟ قال : بلى ، قال : فإن عمر قد علم أن سعداً وعبد الرحمن وعثمان لا يختلفان في الرأي ، وإنه من بويع منهم كان الاثنان معه ، فأمر بقتل من خالفهم ، ولم يبال أن يقتل طلحة إذا قتلني وقتل الزبير ) . ( الإرشاد : 1 / 285 ) .
أي عرف عمر أن علياً ( عليه السلام ) سيخالف نقل الخلافة إلى بني أمية فاقتلوه ! فإن قتلوه تحرك بنو هاشم والأنصار الذين لم يجعل منهم عمر عضواً في الشورى ! وستضطرب المدينة ! فينفتح الطريق لدخول معاوية بجيشه إلى المدينة ليضمن الخلافة لبني أمية ، وإذا احتاج الأمر ساعده والي اليمن حليف بني أمية ، وأبو موسى والي البصرة !
هذا هو الاحتمال الأقوى في ذهن عمر لأنه قال لأهل الشورى كما في تكملة طبقات ابن سعد / 338 : ( إن اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام ، وبعده عبد الله بن أبي ربيعة من اليمن ، فلايريان لكم فضلاً إلابسابقتكم » . ونحوه شرح النهج : 1 / 184 و : 5 / 735 ، وتاريخ دمشق : 59 / 124 ، والإصابة : 4 / 70 ، والتحفة اللطيفة للسخاوي : 2 / 35 ) .
أي بايعوا عثمان الذي سيختاره ابن عوف ، وإلا فرض عليكم بنو أمية عثمان أو معاوية بالقوة ، فهذه الشام بيد معاوية ، واليمن بيد حليفهم يعلى بن منية ومعاونه عبد الله بن ربيعة ، مضافاً إلى أبي موسى في البصرة ، فلا طاقة لبني هاشم
وأهل المدينة بهم !
--------------------------- 322 ---------------------------
وكان عمر يُعد معاوية من سنين : ( وكان عمر إذا رأى معاوية قال : هذا كسرى العرب ) . ( نثر الدرر للآبي / 255 ، ونحوه أسد الغابة : 4 / 386 ، وفتح الباري : 7 / 311 ) .
ويقول : ( تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية ) ! ( الطبري : 4 / 244 ) !
وفي شرح النهج ( 1 / 185 ) : ( عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل الشورى : إنكم إن تعاونتم وتوازرتم وتناصحتم أكلتموها وأولادكم ، وإن تحاسدتم وتقاعدتم وتدابرتم وتباغضتم ، غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان ، وكان معاوية حينئذ أمير الشام ) . وأي إن لم تعطوها لعثمان جاء معاوية !
8 . كان عمر يعرف هدفه من الشورى جيداً !
قال حذيفة : ( قيل لعمر بن الخطاب وهو بالمدينة : يا أمير المؤمنين من الخليفة بعدك ؟ قال : عثمان بن عفان ) . ( كنز العمال : 5 / 736 ) .
وقال ابن سعد في الطبقات ( 5 / 20 ) إن سعيد بن العاص استزاد عمر أرضاً فقال له : ( حسبك ، واختبي عندك ، إنه سيلي الأمر بعدي من يصل رحمك ، ويقضي حاجتك ) ! واختبي عندك : أي أكتمها عندك .
( إن عمر بدأ بعثمان فقال : إتق الله إن وليت من أمر الناس ) . ( تاريخ المدينة : 3 / 933 ) .
والنصوص كثيرة على أنه كان يريد أن يكون عثمان الخليفة ، ويهدد المسلمين بمعاوية !
9 . وكان اليهود يعملون لخلافة عثمان ثم معاوية
1 . ( أرسل عمر إلى الأسقف فقال : هل تجدنا في كتابكم ؟ قال : نعم . قال : فما تجدني ؟ قال : قرن من حديد ، أمير شديد . قال : فما تجد بعدي ؟ قال : خليفة صدق يؤثر أقربيه . قال عمر : يرحم الله ابن عفان ) . ( تاريخ المدينة : 3 / 1078 ) .
والمقصود بالأسقف هنا كعب الأحبار ، فقد كان عمر يثق به كأنه نبي ، ويسأله عن المستقبل وعن الآخرة ! فكعب مرجع الخلافة في الفتوى وتفسير القرآن ، وأخبار الغيب ، ومعرفة المستقبل السياسي والديني للخليفة والأمة !
روى في مجمع الزوائد ووثقه ( 9 / 66 ) : ( أن عمر سأله : ثم مه ؟ قال : ثم يكون من بعدك
--------------------------- 323 ---------------------------
خليفة تقتله فئة ظالمة ، ثم قال : مه ؟ قال : ثم يكون البلاء ) .
فوظيفة الشورى إيصال الخلافة إلى عثمان ، وتهديد علي بالقتل إن لم يقبل بها !
2 . كان اليهود حريصين على أن لا تحكم عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبداً ، وقد التقوا في هذا الهدف مع قريش وتبانوا معهم على ذلك من حياة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كما قال الله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا للَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَالله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ !
وكانوا يعملون ليأتي حلفاؤهم بنو أمية ، وكان كعب يبشر بخلافة عثمان وبعده معاوية ، فلما تفاقمت الشكوى من ظلم ولاة عثمان دعاهم إلى اجتماع في موسم الحج فجاء معهم كعب ، وفي الطريق إلى مكة كان الحادي يقول :
إن الأمير بعده عليُّ * وفي الزبير خلفٌ رضيُّ
فقال له كعب وكان يسير خلف عثمان : ( كذبت ! الأمير والله بعده صاحب البغلة وأشار إلى معاوية ! فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال : يا أبا إسحاق تقول هذا وهاهنا عليٌّ والزبير وأصحاب محمد ! قال : أنت صاحبها ) . ( الطبري : 3 / 379 ، وتاريخ دمشق : 39 / 123 ) .
فقد غضب كعب على الحادي وقال له كذبت ، وأقسم أن الخليفة بعد عثمان هو معاوية ، وهذا يدل على أن خطة اليهود أن لا تصل الخلافة إلى علي أبداً !
10 . شورى عمر لعبةٌ لا تتفق مع فقه ولا قانون !
1 . إذا كانت خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالنص فقد نص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على علي ( عليه السلام ) بما لا مزيد عليه . وإذا كانت حقاً للمسلمين أن يختاروا حاكمهم ، فهي نوع من الانتخاب ، ولا وجود لانتخاب في شورى عمر ؟ لا من عموم المسلمين ، ولا من المهاجرين والأنصار ، ولا من أهل الحل والعقد ، ولا من هؤلاء الستة ، فليس لهم حق الانتخاب بل هم مجبرون على الموافقة على من اختاره عبد الرحمن بن عوف ، وإلا ضُربت أعناقهم !
إن كل ادعاء للشورى في نظام الخلافة القرشية باطل ، لأن خلافة أبيبكر فلتة سماها عمر ابتزازاً بدون مشورة ، وخلافة عمر بوصية من أبيبكر بدون مشورة
--------------------------- 324 ---------------------------
المسلمين ، وخلافة عثمان بتعيين عمر بواسطة لجنة مسلوبة الاختيار ، فالخلافة القرشية حكم فردي مفروض بالقوة ، تحت تهديد من لم يبايع بالقتل .
نعم يخرج منها خلافة علي ( عليه السلام ) التي كانت بيعة من الناس برغبتهم ، لم يخرج عنها إلا أفراد قليلون ، ولما أراد بعضهم إجبارهم على البيعة منعهم علي ( عليه السلام ) . فعلي ( عليه السلام ) هو الحاكم الوحيد الذي لم يجبر أحداً على بيعته ، ولا على القتال معه ، ولا على اتباع سياسته . والوحيد الذي أعطى الحرية للإنسان المسلم ، واحترم إرادته واختياره .
2 . أصل الشورى آية جعلتها من صفات المؤمنين ، وهي قوله تعالى :
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الآثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ . وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ . لكنها مدح لمن يتشاورون بينهم في أمورهم ، ومجالها مجمل وليس فيها إلزام بالشورى في اختيار الحاكم . وتوجد أحاديث تنص على الشورى في اختيار الحاكم كالذي رواه الترمذي ( 3 / 361 ) قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم ، وأموركم شورى بينكم ، فظهرالأرض خير لكم من بطنها . وإذا كانت أمراؤكم شراركم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، وأموركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ) . وضعفه الألباني : ضعيف الترمذي / 254 ) .
وورد من طرقنا في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 67 ) بإسناده عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ( من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ، ويتولى من غير مشورة فاقتلوه ، فإن الله عز وجل قد أذن ذلك ) . وهذا حصرلشرعية الحاكم بالشورى .
وأصرح منه قول علي ( عليه السلام ) في رسالته لمعاوية ( كتاب سُليم / 292 ) قال ( عليه السلام ) : ( والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً ، مظلوماً كان أو ظالماً ، حلال الدم أو حرام الدم ، أن لايعملوا عملاً ، ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ، ولا يبدؤوا بشئ ، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة ، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ، ويقيم حجهم وجمعتهم ، ويجبي صدقاتهم . ثم يحتكمون إليه في إمامهم المقتول ظلماً ويحاكمون قتلته إليه ،
--------------------------- 325 ---------------------------
ليحكم بينهم بالحق . فإن كان إمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه ، وإن كان قتل ظالماً نظر كيف الحكم في ذلك .
هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه : أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم ، إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه . وإن كانت الخيرة إلى الله عز وجل وإلى رسوله ، فإن الله قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار ، ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته واتباعه .
وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان ، بايعني المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا في ثلاثة أيام ، وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وعقدوا إمامتهم ، وليَ ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والأنصار ، غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة ، وإن بيعتي كانت بمشورة من العامة . فإن كان الله جل اسمه قد جعل الاختيار إلى الأمة ، وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم ، واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار الله ورسوله لهم ، وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدى ، وكان إماماً واجباً على الناس طاعته ونصرته ، فقد تشاوروا فيَّ واختاروني بإجماع منهم . وإن كان الله عز وجل هو الذي يختار وله الخيرة ، فقد اختارني للأمة واستخلفني عليهم ، وأمرهم بطاعتي ونصرتي ، في كتابه المنزل وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي .
ولو أن عثمان قتل على عهد أبيبكر وعمر ، أكان لمعاوية قتالهما والخروج عليهما للطلب بدمه ؟ ! ) . فالشورى إنما تكون مع عدم النص ، أو مع إنكاره .
وإن كانت الشورى محصورة في صدر الإسلام بالمهاجرين والأنصار ، فهي في عصرنا لكل المسلمين ، أو لأهل البلد الذي يريدون انتخاب الحاكم له . وقد أفتى فقهاؤمنا بصحة الانتخابات ، وشرعية الحكومة المنتخبة من الناس .
أما الحاكم فيستحب له أن يشاور ذوي الإختصاص والرأي والحكمة ، لكن لا يكون ملزَماً بمشورتهم ، كما قال الله تعالى لرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الَّله .
--------------------------- 326 ---------------------------
11 . فيا لله وللشورى !
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خطبته الشقشقية : ( فيا عجباً بينَا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدَّ ما تشطرا ضرعيها . حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ! فيا لله وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكني أسففت إذ أسَفُّوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهن ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( فجعلني سادس ستة وأمر صهيباً أن يصلي بالناس ، ودعا أبا طلحة زيد بن سعد الأنصاري فقال له : كن في خمسين رجلاً من قومك فاقتل من أبى أن يرضى من هؤلاء الستة ! فالعجب من خلاف القوم إذ زعموا أن أبا بكر استخلفه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فلو كان هذا حقاً لم يخفَ على الأنصار ، فبايعه الناس على الشورى ، ثم جعلها أبو بكر لعمر برأيه خاصة ، ثم جعلها عمر برأيه شورى بين الستة ، فهذا العجب ! واختلافهم الدليل على ما لا أحب أن أذكر قوله . وهؤلاء الرهط الذين قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو عنهم راض ، فكيف يأمر بقتل قوم رضي الله عنهم ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! إن هذا لأمرٌ عجيب ) ! ( المسترشد / 415 ) .
وقال ( عليه السلام ) في حديثه مع الحاخام : ( وأما الرابعة يا أخا اليهود ، فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور ، فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ، ولا يطمع في الأمر بعده سواي ، فلما أن أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ، ولا أمر كان أمضاه ، في صحة من بدنه ، لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، والعاقبة التي كنت ألتمسها ، وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت وأفضل ما أملت . فكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوماً أنا سادسهم ولم يسوني بواحد منهم ، ولا ذكر لي حالاً في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيرها شورى بيننا وصير ابنه فيها
--------------------------- 327 ---------------------------
حاكماً علينا ! وأمره أن يضرب أعناق النفرالستة الذين صيرالأمر فيهم إن لم ينفذوا أمره ! وكفى بالصبرعلى هذا يا أخا اليهود صبراً ، فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطب لنفسه ، وأنا ممسك عن أن سألوني عن أمري ، فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم ، فدعاهم حب الإمارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي والركون إلى الدنيا ، والاقتداء بالماضين قبلهم ، إلى تناول ما لم يجعل الله لهم ، فإذا خلوت بالواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه ، التمس مني شرطاً أن أصيرها له بعدي ! فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله عز وجل ووصية الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له ، ومنعه ما لم يجعل الله له ، أزالها عني إلى ابن عفان طمعاً في الشحيح معه فيها ، وابن عفان رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط فضلاً عمن دونهم . لاببدر التي هي سنا فخرهم ، ولاغيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن اختصه معه من أهل بيته ( عليهم السلام ) .
ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك ، حتى ظهرت ندامتهم ونكصوا على أعقابهم ، وأحال بعضهم على بعض ، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه ! ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتى أكفروه وتبرؤوا منه ، ومشى إليَّ أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عامة ، يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته ، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من أختها وأفظع ، وأحرى أن لا يصبر عليها ، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته ، ولم يكن عندي فيها إلا الصبر على ما أمضَّ وأبلغ منها ، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم كل راجع عما كان ركب مني ! يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقي ، ويؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي ، أو يرد الله عز وجل علي حقي !
فوالله يا أخا اليهود ما منعني إلا الذي منعني من أختيها قبلها ، ورأيت الإبقاء
--------------------------- 328 ---------------------------
على من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها ، وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته ، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدي ) . ( الخصال / 373 ) .
12 . لماذا حضر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الشورى
قال الصدوق في علل الشرائع ( 1 / 170 ) : ( باب العلة التي من أجلها دخل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الشورى : وروى فيه عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : لما كتب عمر كتاب الشورى بدأ بعثمان في أول الصحيفة ، وأخر علياً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فجعله في آخر القوم ! فقال العباس : يا أبا الحسن أشرت عليك في يوم قبض رسول الله أن تمد يدك فنبايعك فإن هذا الأمر لمن سبق إليه ، فعصيتني ، حتى بويع أبو بكر . وأنا أشير عليك اليوم أن عمر قد كتب اسمك في الشورى وجعلك آخر القوم ، وهم يخرجونك منها ، فأطعني ولا تدخل في الشورى . فلم يجبه بشئ . فلما بويع عثمان قال له العباس : ألم أقل لك ! قال له : يا عم إنه قد خفيَ عليك أمر ، أما سمعت قوله على المنبرما كان الله ليجمع لأهل هذا البيت الخلافة والنبوة ، فأردت أن يكذب نفسه بلسانه ، فيُعلم الناس أن قوله بالأمس كان كذباً باطلاً ، وأنا نصلح للخلافة . فسكت العباس ) !
فغرضه ( عليه السلام ) أن يكسرقرار قريش بعزل عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن الخلافة ووظائف الدولة ، ويثبت كذبهم على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه أخرج عترته ( عليهم السلام ) من الخلافة !
قال ابن عباس لعلي ( عليه السلام ) : ذهب الأمر منا ، الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان ! فقال له علي ( عليه السلام ) : وأنا أعلم ذلك ولكني أدخل معهم في الشورى لأن عمرقد أهَّلني الآن للخلافة ، وكان قبل ذلك يقول : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت ، فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته » ! ( شرح النهج : 1 / 189 ) .
--------------------------- 329 ---------------------------
13 . لماذا كان عمر مصراً على نقل الخلافة إلى بني أمية ؟
عمل أتباع الخلافة القرشية بكل ما قدروا عليه ، لعزل علي ( عليه السلام ) عن الخلافة ، ووضعوا على لسان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تحريم أن يجمع بنو هاشم بين النبوة والخلافة !
وكان من الضروري عندهم نزع التفكير بالخلافة من رؤوس بني هاشم ، وقد تأكد لهم أن علياً ( عليه السلام ) يعمل لها ، وعرفوا أنه إن صار خليفة فسيفضح قريشاً وشخصياتها ، ويظهرأموراً لا يريدون إظهارها ! ولا يوجد في قريش من يقف في وجه بني هاشم إلا بنو أمية ، فهم من بني عبد مناف ولا يستطيع الهاشميون أن يزايدوا عليهم ويقولوا ما قاله أبو سفيان وعثمان وعمر : مالزهرة والخلافة ، وما لتيم وعدي والخلافة ، إنما ملك قريش لبني عبد مناف ! لذلك كان عمر مضطراً لحفظ سمعته وسمعة أبيبكر ، أن يجعل الخلافة لبني أمية ، وهذا هو رأي اليهود ، الذي صرح به كعب الأحبار !
إن من عجائب التاريخ أن الجهود الضخمة المعقدة التي بذلها سهيل بن عمرو وأبو بكر وعمر وبقية زعماء بطون قريش ، لنزع الخلافة من بني هاشم ، كان نتيجتها نقل الخلافة غنيمة باردة إلى بني أمية !
ولم يكن سهم البطون الأخرى منها إلا سهم أبيبكر سنتين ، وسهم عمر عشر سنوات ! وهو شبيهٌ بسهم الزوج المحلل للزوجة المطلقة ثلاثاً !
لقد اتفقت مصلحة قريش ومصلحة اليهود في ذلك ، وقالوا لهم سنطيعكم في بعض الأمر كما نصت الآية ، وعاد الصراع إلى تاريخه بين بني أمية وبني هاشم ! وعاد بنو أمية بيدهم عِنَاجُ أمر قريش ، بتعبير النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وقد أحكم عمر ترتيب الشورى لإيصال الخلافة إلى بني أمية ، فإن حدث خلل ، فقد أعد الشام واليمن والبصرة ، ليتدخل معاوية ويأخذ الخلافة ويبيد بني هاشم ، وقد تقدم قول عمر وقول كعب بأن الخليفة عثمان ، وبعده معاوية !
ومما يؤيد ذلك قول عبد الله بن عامر بن كريز ( الأموي ) لطلحة والزبير : ( بايعتما علي بن أبي طالب ! أما والله لا يزال يُنتظر بها الحبالى من بني هاشم ومتى تصير إليكما ) !
--------------------------- 330 ---------------------------
أي لا تخرج من بني هاشم ، بل سيُنتظر بها المولود أن يولد ! ( خصائص الأئمة للرضي / 61 ) .
وسيأتي خبر تمويل يعلى لحرب الجمل ، وهو تميمي حليف بني أمية ، وكان عاملاً لعمر وعثمان على اليمن . وقد هدد به عمر أهل الشورى ، وأعده لنصرة بني أمية ، ليواجهوا علياً ( عليه السلام ) وبني هاشم ! وقال فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( وأعانهم عليَّ يعلى بن منية بأصوع الدنانير ) ! ( نهج السعادة : 5 / 229 ) .
14 . قال عمر : لا تجتمع النبوة والخلافة لبني هاشم
قال عمر لابن عباس ( الطبري : 3 / 288 ) : « من أشعر الناس يا عبد الله ؟ قال : زهير بن أبي سلمى . قال : فأنشدني مما تستجيده له . فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه مدح قوماً من غطفان يقال لهم بنو سنان ، فقال :
لو كان يَقْعُد فوق الشمس من كرمٍ * قومٌ بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم * طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنسٌ إذا أمنوا ، جنٌّ إذا فزعوا * مرزَّؤون بها ليلاً إذا جهدوا
محسَّدون على ما كان من نعمٍ * لا ينزع الله منهم ما لهُ حسدوا
فقال عمر : والله لقد أحسن ، وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول الله . فقال ابن عباس : وفقك الله يا أمير المؤمنين فلم تزل موفقاً . فقال : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين . قال : لكني أدري . قال : ما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتُجْخفوا ( تتكبروا ) جخفاً ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت !
فقال ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع ؟ قال : قل ما تشاء .
قال : أما قول أمير المؤمنين : إن قريشاً كرهت ، فإن الله تعالى قال لقوم : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ . وأما قولك : إنا كنا نجخف فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، ولكنا قومٌ أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي قال الله تعالى : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، وقال له : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .
--------------------------- 331 ---------------------------
وأما قولك : فإن قريشاً اختارت ، فإن الله تعالى يقول : وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظرالله لها لوفقت وأصابت قريش ! فقال عمر : على رسلك يا ابن عباس ، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول ، وحقداً عليها لا يحول !
فقال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين ، لا تنسب هاشماً إلى الغش ، فإن قلوبهم من قلب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي طهره الله وزكاه ، وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم : إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً .
وأما قولك : حقداً فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، ويراه في يد غيره !
فقال عمر : أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي . قال : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ أخبرني به فإن يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقاً فإن منزلتي لا تزول به . قال : بلغني أنك لا تزال تقول : أخذ هذا الأمر منكم حسداً وظلماً . قال : أما قولك يا أمير المؤمنين : حسداً ، فقد حسد إبليس آدم ، فأخرجه من الجنة فنحن بنو آدم المحسود . وأما قولك : ظلماً ، فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو ! ثم قال : يا أمير المؤمنين ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله ؟ واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فنحن أحق برسول الله من سائر قريش ! فقال له عمر : قم الآن فارجع إلى منزلك !
فقام ، فلما ولى هتف به عمر : أيها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك !
فالتفت ابن عباس فقال : إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقاً برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمن حفظه فحق نفسه حفظ ومن أضاعه فحق نفسه أضاع ، ثم مضى ! فقال عمر لجلسائه : واهاً لا بن عباس ما رأيته لاحى أحداً قط إلا خصمه ) !
وقال البلاذري ( 10 / 378 ) قال عمر لابن عباس : ( فما منع قومكم منكم ؟ قال قلت : لا أدري . قال : لكني أدري ، يكرهون أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة ) .
--------------------------- 332 ---------------------------
قال عمر : ( لو وليتموه أمركم حملكم على المحجة البيضاء . . قالوا : فما يمنعك من ذلك ؟ قال : ليس إلى ذلك سبيل ! قال له ابنه عبد الله : فما يمنعك منه ؟ قال : أكره أن أتحملها حياً وميتاً ، وفي رواية : لا أجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة ) .
وبذلك يتبين أن عمر نسب قوله إلى قريش ، ثم نسبه إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
وقال عبد الله بن عمر لعلي ( عليه السلام ) : « كيف تحبك قريش وقد قتلتَ في يوم بدر وأحُد من ساداتهم سبعين سيداً ، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاهم » ! ( المناقب : 3 / 21 ) .
وقال عثمان بن عفان لعلي ( عليه السلام ) : « ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين ) ! ( نثر الدرر / 259 ، وابن حمدون / 1567 ، وشرح النهج : 9 / 2 ) .
أقول : نسي عثمان أنه يجلس على كرسي الخلافة بقتل أولئك المشركين ، ولولا قتلهم وانتصار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بدر بسيف علي وحمزة وعبيدة وكلهم هاشميون ، لما كان للإسلام دولة ولا خلافة ، ولا كرسي يجلس عليه أبو بكر وعمر وعثمان !
15 . وزعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال ذلك ، وكذَّبهم علي ( عليه السلام ) !
روى الطبرسي في الإحتجاج ( 1 / 210 ) : احتجاج علي ( عليه السلام ) على أهل السقيفة وأهل شورى عمر ، فقال الراوي من حديثه : ( ثم تمادى بعلي ( عليه السلام ) السؤال والمناشدة ، فما ترك شيئاً إلا ناشدهم الله فيه وسألهم عنه ، حتى أتى على أكثر مناقبه ، وما قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل ذلك يصدقونه ويشهدون أنه حق ، ثم قال حين فرغ : اللهم اشهد عليهم . فقال طلحة بن عبد الله : فكيف نصنع بما ادعى أبو بكر وأصحابه الذين صدقوه وشهدوا على مقالته ، يوم أتوه بك تُعْتَلُ وفي عنقك حبلٌ ، فقالوا لك : بايع فاحتججت بما احتججت به ، فصدقوك جميعاً ثم ادعى أنه سمع رسول الله يقول : أبى الله أن يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة ، فصدقه بذلك عمر ، وأبو عبيدة ، وسالم ، ومعاذ .
ثم قال طلحة : كل الذي قلت وادعيت واحتججت به من السابقة والفضل حقٌّ نقر به ونعرفه ، وأما الخلافة فقد شهد أولئك الأربعة بما سمعت !
فقام علي ( عليه السلام ) عند ذلك وغضب من مقالته فأخرج شيئاً قد كان يكتمه ، وفسَّرَ
--------------------------- 333 ---------------------------
شيئاً قاله عمر يوم مات لم يُدْرَ ما عنى به ، فأقبل على طلحة والناس يسمعون فقال : أما والله يا طلحة ما صحيفة ألقى الله بها يوم القيامة أحب إليَّ من صحيفة الأربعة الذين تعاهدوا على الوفاء بها في الكعبة ، إن قتل الله محمداً أو توفاه أن يتوازروا دون عليٍّ ويتظاهروا ، فلا تصل إليَّ الخلافة !
والدليل والله على باطل ما شهدوا وما قلتَ يا طلحة : قول نبي الله يوم غدير خم : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه . فكيف أكون أولى بهم من أنفسهم وهم أمراء عليَّ وحكام !
وقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة ، فلو كان مع النبوة غيرها لاستثناه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وقوله : إني تركت فيكم أمرين كتاب الله وعترتي لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما . لا تَقَدَّمُوهم ولاتَخَلَّفوا عنهم ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .
أفينبغي أن لا يكون الخليفة على الأمة إلا أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، قد قال الله عز وجل : أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ! وقال تعالى : إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ . وقال : ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما ولت أمة قط أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه ، إلا لم يزل يذهب أمرهم سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا ! فما الولاية غير الإمارة .
والدليل على كذبهم وباطلهم وفجورهم : أنهم سلموا عليَّ بإمرة المؤمنين بأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ومن الحجة عليهم وعليك خاصة وعلى هذا معك ، يعني الزبير وعلى الأمة ، وعلى سعد بن أبي وقاص ، وابن عوف ، وخليفتكم هذا القائم ، يعني عثمان ، فإنا معشرالشورى أحياء كلنا ، فلمَ جعلني عمر بن الخطاب في الشورى ؟ !
إن كان قد صدق هو وأصحابه على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أجعلنا في الشورى في الخلافة أم في غيرها ؟ فإن زعمتم أنه جعلها شورى في غيرالإمارة ، فليس لعثمان
--------------------------- 334 ---------------------------
إمارة ، وإنما أمرنا أن نتشاور في غيرها ، وإن كانت الشورى فيها ، فلم أدخلني فيكم ، فهلا أخرجني وقد قال : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخرج أهل بيته من الخلافة ، وأخبر أنه ليس لهم فيها نصيب !
ولمَ قال عمر حين دعانا رجلاً رجلاً فقال لعبد الله ابنه وها هو ذا : أنشدك بالله يا عبد الله بن عمر ما قال لك حين خرجتُ ؟ قال : أما إذ ناشدتني بالله فإنه قال : إن يتبعوا أصلع قريش يحملهم على المحجة البيضاء ، وأقامهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم . قال : يا ابن عمر فما قلتَ له عند ذلك ؟ قال : قلتُ له : فما يمنعك أن تستخلفه ؟ قال : وما رد عليك ؟ قال : رد علي شيئاً أكتمه !
قال علي : فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، خبرني به في حياته ، ثم أخبرني به ليلة مات أبوك في منامي ، ومن رأى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مناماً فقد رآه .
قال : فما أخبرك به ؟ قال ( عليه السلام ) : فأنشدك بالله يا ابن عمر لئن أخبرتك به لتصدقن ؟ قال : إذن أسكت ! قال : فإنه قال لك حين قلت له : فما يمنعك أن تستخلفه ؟ قال : الصحيفة التي كتبناها بيننا والعهد في الكعبة ! فسكت ابن عمر ! فقال : أسألك بحق رسولك إلا ما سكتَّ عني ! قال سليم : فرأيت ابن عمر في ذلك المجلس خنقته العبرة ، وعيناه تسيلان ! وأقبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على طلحة ، والزبير ، وابن عوف ، وسعد ، فقال : لئن كان أولئك الخمسة أو الأربعة كذبوا على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما يحل لكم ولايتهم ، وإن كانوا صدقوا ماحل لكم أيها الخمسة أو الأربعة أن تدخلوني معكم في الشورى ، لأن إدخالكم إياي فيها خلافٌ على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وردٌّ عليه !
ثم أقبل على الناس فقال : أخبروني عن منزلتي فيكم وما تعرفوني به أصادق أنا فيكم أم كاذب ؟ قالوا : صدوق لا والله ما علمناك كذبت قط في الجاهلية ولا الإسلام .
قال : فوالله الذي أكرمنا أهل البيت بالنبوة ، وجعل منا محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأكرمنا بعده بأن جعلنا أئمة للمؤمنين ، لا يبلغ عنه غيرنا ، ولا تصلح الإمامة والخلافة إلا فينا ، ولم يجعل لأحد من الناس فيها معنا أهل البيت نصيباً ولا حقاً .
أما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خاتم النبيين ليس بعده نبي ولا رسول ، ختم برسول الله
--------------------------- 335 ---------------------------
الأنبياء إلى يوم القيامة ، وجعلنا من بعد محمد خلفاء في أرضه وشهداء على خلقه فرض طاعتنا في كتابه وقرننا بنفسه ونبيه ، في غير آية من القرآن ، فالله عز وجل جعل محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نبياً ، وجعلنا خلفاء من بعده في كتابه المنزل . ثم إن الله عز وجل أمر نبيه أن يبلغ ذلك أمته فبلغهم كما أمره الله ، فأيكما أحق بمجلس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومكانه ؟ وقد سمعتم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين بعثني ببراءة فقال : لا يبلغ عني إلا رجل مني ! أنشدتكم بالله أسمعتم ذلك من رسول الله ؟ قالوا : اللهم نعم ، نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين بعثك ببراءة .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا يصلح لصاحبكم أن يبلغ عنه صحيفةً أربع أصابع ، ولن يصلح أن يكون المبلغ عنه غيري ، فأيهما أحق بمجلسه ومكانه الذي سمي بخاصة إنه من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن حضرمجلسه من الأمة ؟ فقال طلحة : قد سمعنا ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ففسرلنا كيف لا يصلح لأحد أن يبلغ عن رسول الله غيرك ؟ وقد قال لنا ولسائر الناس : ليبلغ الشاهد الغائب ؟ فقال بعرفة في حجة الوداع : نضَّر الله امرءً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها غيره ، فرب حامل فقه لا فقه له ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه : ثلاثٌ لا يغلُّ عليهن قلب امرء مسلم : إخلاص العمل لله عز وجل ، والسمع والطاعة والمناصحة لولاة الأمر ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم . وقال في غير موطن : ليبلغ الشاهد الغائب .
فقال علي ( عليه السلام ) : إن الذي قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم غدير خم ، ويوم عرفة في حجة الوداع ، في آخر خطبة خطبها حين قال : إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما ، كتاب الله وأهل بيتي ، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لا يفترقان حتى يردا علي الحوض ، كهاتين ولا أقول كهاتين فأشار إلى سبابته وإبهامه ، لأن أحدهما قدام الآخر ، فتمسكوا بهما لن تضلوا ولا تزالوا ، ولا تقدموهم ولا تخلفوا عنهم ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .
إنما أمر الله العامة جميعاً أن يبلغوا من لقوا من العامة إيجابَ طاعة الأئمة من آل محمد ( عليهم السلام ) ، وإيجاب حقهم ، ولم يقل ذلك في شئ من الأشياء غير ذلك .
--------------------------- 336 ---------------------------
وإنما أمرالعامة أن يبلغوا العامة حجة من لا يبلغ ، عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جميع ما بعثه الله به غيرهم ، ألا ترى يا طلحة أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لي وأنتم تسمعون : يا أخي إنه لا يقضي عني ديني ولايبرئ ذمتي غيرك : تبرئ ذمتي ، وتؤدي ديني وغراماتي ، وتقاتل على سنتي . فلما ولي أبو بكر فاتبعتموه جميعاً ، فقضيت دينه وعداته ! وقد أخبرهم أنه لا يقضي عنه دينه وعداته غيري ، ولم يكن ما أعطاهم أبو بكر قضاء لدينه وعداته ، وإنما كان الذي قضى من الدين والعدة هو الذي أبرأه منه .
وإنما بلغ عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جميع ما جاء به من عند الله من بعد الأئمة الذين فرض الله في الكتاب طاعتهم وأمر بولايتهم ، الذين من أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله .
فقال طلحة : فرجت عني ، ما كنت أدري ما عنى بذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى فسرته لي ، فجزاك الله يا أبا الحسن عن جميع أمة محمد الجنة .
يا أبا الحسن شيئاً أريد أن أسألك عنه ، رأيتك خرجت بثوب مختوم فقلت : أيها الناس إني لم أزل مشتغلاً برسول الله بغسله وكفنه ودفنه ، ثم اشتغلت بكتاب الله حتى جمعته ، فهذا كتاب الله عندي مجموعاً لم يسقط حتى حرف واحد ، ولم أر ذلك الذي كتبت وألفت ، وقد رأيت عمر بعث إليك أن ابعث به إليَّ فأبيت أن تفعل فدعا عمر الناس ، فإذا شهد رجلان على آية كتبها ، وإن لم يشهد عليها غير رجل واحد أرجأها فلم يكتب ، فقال عمر : وأنا أسمع إنه قد قتل يوم اليمامة قوم كانوا يقرؤون قرآناً لا يقرؤه غيرهم ، فقد ذهب ، وقد جاءت شاة إلى صحيفة وكتاب يكتبون فأكلتها وذهب ما فيها ، والكاتب يومئذ عثمان !
وسمعت عمر وأصحابه الذين ألفوا ما كتبوا على عهد عمر ، وعلى عهد عثمان يقولون : إن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ، وإن النور ستون ومائة آية ، والحجر تسعون ومائة آية . فما هذا ، وما يمنعك يرحمك الله أن تخرج كتاب الله إلى الناس ، وقد عهد عثمان حين أخذ ما ألف عمر فجمع الكتاب وحمل الناس على قراءة واحدة ، فمزق مصحف أبي بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنار ؟
--------------------------- 337 ---------------------------
فقال له علي ( عليه السلام ) : يا طلحة إن كل آية أنزلها الله جل وعلا على محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عندي بإملاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخط يدي ، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد وكل حرام وحلال أو حد أو حكم أو شئ تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة ، مكتوب بإملاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخط يدي ، حتى أرش الخدش !
قال طلحة : كل شئ من صغير وكبيرأو خاص أو عام ، كان أو يكون إلى يوم القيامة ، فهو عندك مكتوب ؟ !
قال : نعم . وسوى ذلك ، إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسر إلي في مرضه مفتاح ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب ، ولو أن الأمة منذ قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) اتبعوني وأطاعوني لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم !
يا طلحة ألست قد شهدت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين دعا بالكتف ليكتب فيه ما لا تضل أمته ، فقال صاحبك إن نبي الله يهجر ، فغضب رسول الله وتركها ؟ فقال : بلى قد شهدته .
قال : فإنكم لما خرجتم أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالذي أراد يكتب ويشهد عليه العامة ، فأخبره جبرئيل ( عليه السلام ) أن الله قد قضى على أمتك الاختلاف والفرقة ، ثم دعا بصحيفة فأملى علي ما أراد أن يكتب في الكتف ، وأشهد على ذلك ثلاثة رهط : سلمان ، وأبا ذر ، والمقداد . وسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر الله بطاعتهم إلى يوم القيامة فسماني أولهم ، ثم ابني هذا وأشار بيده إلى الحسن ، والحسين ، ثم تسعة من ولد ابني الحسين ، كذلك كان يا أبا ذر ويا مقداد ؟ فقاما ثم قالا : نشهد بذلك على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فقال طلحة : والله لقد سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق ولا أبرعند الله من أبي ذر ، وأنا أشهد أنهما لم يشهدا إلا بالحق ، ولأنت عندي أصدق وأبر منهما .
ثم أقبل علي ( عليه السلام ) فقال : إتق الله يا طلحة وأنت يا زبير ، وأنت يا سعد ، وأنت يا بن عوف ، اتقوا الله ، وآثروا رضاه ، واختاروا ما عنده ، ولا تخافوا في الله لومة لائم .
--------------------------- 338 ---------------------------
ثم قال طلحة : لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عما سألتك عنه من أمرالقرآن ألا تظهره للناس ؟ قال : يا طلحة ، عمداً كففت عن جوابك . قال : فأخبرني عما كتب عمر وعثمان ، أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن ؟ قال طلحة : بل قرآن كله ، قال : إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ، ودخلتم الجنة ، فإن فيه حجتنا وبيان حقنا ، وفرض طاعتنا . قال طلحة : حسبي ، أما إذا كان قرآن فحسبي .
ثم قال طلحة : فأخبرني عما في يدك من القرآن وتأويله ، وعلم الحلال والحرام ، إلى من تدفعه ومن صاحبه بعدك ؟ قال : إن الذي أمرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن أدفعه إليه وصبي وأولي الناس بعدي بالناس ابني الحسن ، ثم يدفعه ابني الحسن إلى ابني الحسين ، ثم يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين حتى يرد آخرهم حوضه ، هم مع القرآن لا يفارقونه ، والقرآن معهم لا يفارقهم .
أما إن معاوية وابنه سيليان بعد عثمان ، ثم يليها سبعة من ولد الحكم بن أبي العاص ، واحد بعد وأحد ، تكملة اثني عشر إمام ضلالة ، وهم الذين رأى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على منبره يردُّون الأمة على أدبارهم القهقري ، عشرة منهم من بني أمية ورجلان أسسا ذلك لهم ، وعليهما مثل جميع أوزار هذه الأمة إلى يوم القيامة ) !
أقول : يؤيد هذه الرواية قول عمر : ( لو وليتموه أمركم حملكم على المحجة البيضاء . . قالوا : فما يمنعك من ذلك ؟ قال : ليس إلى ذلك سبيل ) !
والسبيل إلى استخلاف علي ( عليه السلام ) مفتوح أمامه ، لكن التزامه بالصحيفة يمنعه منه .
ونلاحظ أن كذبة حديث : لا يجمع الله النبوة والإمامة لبني هاشم ، انتهى مفعولها بترشيح عمر لعلي ( عليه السلام ) في الشورى ، ثم انتهى مفعولها بثورة العباسيين وزوال ملك الأمويين ، فأخذ بنو هاشم الخلافة ، فلم يعد للحديث ذكر ، ولم يعد يجرؤ أحد على القول بأنه حديث صحيح السند ، أثبت من كل أحاديث البخاري ومسلم ! فقد قال أبو بكر إنه سمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أبى الله أن يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة فصدقه بذلك عمر ، وأبو عبيدة ، وسالم ، ومعاذ ، وشهدوا بأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال ذلك ، فلا يمكن لعلي أن يكون خليفة !
--------------------------- 339 ---------------------------
فما على أن يقول أتباع أبيبكر وعمر في هذه الورطة ، وهذا الكذب الصرىح على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) !
16 . جواهر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأصداف غيره
1 . احتج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أيام السقيفة ، وفي عهد أبيبكر وعهد عمر ، وفي أيام الشورى ، وفي عهد عثمان ، وفي عهده هو ( عليه السلام ) ، أكثر من مئة مرة !
وفي كل مرة منها أتم الحجة على مخالفيه ، وكل حججه منطقية قوية مقنعة ، وقد أوردنا بعضها في مناسبته ، ونورد هنا بعض احتجاجه على أهل الشورى .
لكن المشكلة أن الذين كان يحتج عيهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كانوا يقولون له إن كل ما تقوله صحيح ، لكن حدث ما حدث فاقبل به !
وقد تقدم آنفاً قول طلحة : ( كل الذي قلت وادعيت واحتججت به من السابقة والفضل حقٌّ نقر به ونعرفه ، وأما الخلافة فقد شهد أولئك الأربعة بما سمعت !
فكيف نصنع بما ادعى أبو بكر وأصحابه الذين صدقوه وشهدوا على مقالته ) !
وتقدم قوله ( عليه السلام ) في رواية سلمان : ( ويلك يا ابن الخطاب أوَتدري مما خرجت وفيم دخلت ، وماذا جنيت على نفسك وعلى صاحبك ؟ فقال أبو بكر : يا عمر ، أما إذا بايع وأمنا شره وفتكه وغائلته ، فدعه يقول ما شاء . فقال علي ( عليه السلام ) : لست بقائل غير شئ واحد ، أذكركم بالله أيها الأربعة يعنيني والزبير وأبا ذر والمقداد : أسمعتم رسول الله يقول إن تابوتاً من نار فيه اثنا عشر رجلاً ، ستة من الأولين وستة من الآخرين ، في جب في قعرجهنم في تابوت مقفل ، على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر نار جهنم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجب ، فاستعاذت جهنم من وهج ذلك الجب !
وتقدم في حديث ندم أبيبكر قول علي ( عليه السلام ) لعمر : ( ويلك منها والله يا عمر ، إذا أفضت إليك ، والويل للأمة من بلائك . فقال عمر : هذه بشرى يا ابن أبي طالب ، صدقت ظنونك وحق قولك ) . ( إرشاد القلوب ( 2 / 264 ) .
فالحجج والبراهين ، والآيات والأحاديث ، كلها عندهم صحيحة ، لكن المهم لهم
--------------------------- 340 ---------------------------
أن يبايع علي ( عليه السلام ) ولو مكرهاً ، وليقل بعدها ما شاء ، وليُقم عليهم الحجج إلى يوم الدين ، فالقضية هي البيعة ، وليس الإحتجاج بالقرآن والسنة ، ولا القيامة والجنة والنار ! وهذا نفسه منطق معاوية الذي كتب إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في جواب رسالته : ( هنيئاً لك يا أبا الحسن تملك الآخرة ، وهنيئاً لنا نملك الدنيا ) ! ( كتاب سليم / 311 ) .
2 . وفي تاريخ دمشق ( 3 / 118 ) : « قال عامر بن واثلة : كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت علياً يقول : بايع الناس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر وأحق به ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف ! ثم بايع أبو بكر لعمر وأنا والله أولى بالأمر منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفاراً ! ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان ! إن عمر جعلني في خمس أنا سادسهم ، لا يعرف لي فضل في الصلاح ولا يعرفونه لي كما نحن فيه شرع سواء ، وأيم الله لو أشاء أن أتكلم ، ثم لا يستطيع عربيهم ولاعجميهم ولا المعاهد منهم ولا المشرك أن يرد خصلة منها » .
3 . وفي نهج البلاغة ( 1 / 124 ) : ( ومن كلام له ( عليه السلام ) لما عزموا على بيعة عثمان : لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري . ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة ، التماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه ) .
وفي تاريخ الطبري ( 3 / 294 ) : « أما إنّي أعلم أنهم سيولون عثمان ، وليحدثن البدع والأحداث ، ولئن بقي لأذكرنك ، وإن قتل أو مات ليتداولنها بنو أُمية بينهم ، وإن كنت حيّاً لتجدني حيث تكرهون » .
4 . من كلام له ( عليه السلام ) : « إنّي لأعلم ما في أنفسهم ، إن الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر في صلاح شأنها فتقول : إن وليَ الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبداً ، وما كان في غيرهم فهو متداولٌ في بطون قريش » . ( شرح النهج : 1 / 194 ) .
ومن كلامه ( عليه السلام ) : « وقد قال قائل إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريصٌ ، فقلتُ :
--------------------------- 341 ---------------------------
بل أنتم والله لأحرصُ وأبعدُ ، وأنا أخصُّ وأقرب ، وإنّما طلبتُ حقّاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه . فلما قرّعتُه بالحجّة في الملأ الحاضرين ، هبَّ كأنه بُهت لا يدري ما يُجيبني به ! اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم ! فإنهم قطعوا رَحِمي ، وصغروا عظيمَ منزلتي ، وأجمعوا على مُنازَعتي أمراً هو لي ، ثمّ قالوا : ألا إن في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه » ( نهج البلاغة خطبة 172 ) .
5 . لما صفق عبد الرحمن بن عوف على يد عثمان قال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « حركك الصهر وبعثك على ما صنعت ، والله ما أمَّلْتَ منه إلا ما أمل صاحبك من صاحبه ، دَقَّ الله بينكما عِطرَ مَنِشم » . أي العداوة . ( الإرشاد للمفيد : 1 / 286 ) .
وفي رواية : « حَبَوْتَه حَبْوَ دهر ، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون . والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك والله كل يوم هو في شأن . فقال عبد الرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان . فخرج علي ( عليه السلام ) وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله » . ( تاريخ الطبري : 3 / 297 ) .
6 . من كتاب لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يذكر فيه ما وقع في الشورى : « فخشي القوم إن أنا وليتُ عليهم أن آخذ بأنفاسهم ، وأعترض في حلوقهم ، ولا يكون لهم في الأمر نصيب ، فأجمعوا عليَّ إجماع رجل واحد منهم ، حتى صرفوا الولاية عني إلى عثمان ، رجاء أن ينالوها ويتداولوها فيما بينهم . فبينا هم كذلك إذ نادى مناد لا يُدرى من هو ، فأسمع أهل المدينة ليلة بايعوا عثمان ، فقال :
يا ناعي الإسلام قم فانعَهُ * قد مات عرفٌ وبدا منكرُ
ما لقريش لا على كعبُها * من قدموا اليوم ومن أخروا
إنّ علياً هو أولى بها * منهم فولوه ولا تنكروا
فكان لهم في ذلك عبرة ، ولولا أن العامة قد علمت بذلك لم أذكره ، فدعوني إلى بيعة عثمان فبايعتُ مستكرهاً وصبرت محتسباً ، وعلَّمْتُ أهل القنوت أن يقولوا :
--------------------------- 342 ---------------------------
اللهمَّ لك أخلصت القلوب ، وإليك شخصت الأبصار ، وأنت دُعيت بالألسن وإليك تُحوكم في الأعمال . فافتح بيننا وبين قومنا بالحق . اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا ، وكثرة عدونا ، وقلة عددنا ، وهواننا على الناس ، وشدة الزمان بنا ، ووقوع الفتن فينا ، اللهم ففرج ذلك بعدل تظهره وسلطان حق تعزه . .
وقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد إلي عهداً فقال : يا ابن أبي طالب لك ولاء أُمّتي ، فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا ، فقم بأمرهم ، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه ، فإن الله سيجعل لك مخرجاً .
فنظرت فإذا ليس لي رافد ، ولا معي مساعد ، إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الهلاك ، ولو كان لي بعد رسول الله عمي حمزة وأخي جعفر لم أُبايع كرهاً ، ولكني بليتُ برجلين حديثي عهد بالإسلام : العباس وعقيل ، فضننت بأهل بيتي عن الهلاك ، فأغضيتُ عيني على القذى ، وتجرعت ريقي على الشجا ، وصبرت على أمرِّ من العلقم ، وآلم للقلب من حز الشفار » ( كشف المحجة / 246 ) .
وفي رواية : ( فدعوني إلى بيعة عثمان ، فبايعت مستكرهاً ، وصبرت محتسباً . فقال عبد الرحمن بن عوف : يا ابن أبي طالب إنك على هذا الأمرلحريص ، فقلت : لست عليه حريصاً وإنما أطلب ميراث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحقه وأن ولاء أمته لي من بعده ، وأنتم أحرص عليه مني إذ تحولون بيني وبينه وتصرفون وجهي دونه بالسيف . اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم قطعوا رحمي وأضاعوا أيامي ، ودفعوا حقي ، وصغروا قدري وعظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به منهم فاستلبونيه ، ثم قالوا : إصبر مغموماً أو مت متأسفاً ! وأيم الله لو استطاعوا أن يدفعوا قرابتي كما قطعوا سببي فعلوا ، ولكنهم لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً .
وإنما حقي على هذه الأمة كرجل له حق على قوم إلى أجل معلوم ، فإن أحسنوا وعجلوا له حقه قبله حامداً ، وإن أخروه إلى أجله أخذه غيرحامد ، وليس يعاب المرء بتأخير حقه ، إنما يعاب من أخذ ما ليس له ، وقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد إلي عهدا فقال : يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي . . ) .
--------------------------- 343 ---------------------------
7 . قال جندب بن عبد الله : ( دخلت على علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بالمدينة بعد بيعة الناس لعثمان ، فوجدته مطرقاً كئيباً ، فقلت له : ما أصاب قومك ؟ قال ( عليه السلام ) : صبر جميل . فقلت له : سبحان الله ، والله إنك لصبور . قال ( عليه السلام ) : فأصنع ماذا ؟ فقلت : تقوم في الناس وتدعوهم إلى نفسك وتخبرهم أنك أولى بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالفضل والسابقة ، وتسألهم النصر على هؤلاء المتمالئين عليك ، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة ، فإن دانوا لك كان ذلك على ما أحببتَ ، وإن أبوا قاتلتهم ، فإن ظهرتَ عليهم فهو سلطان الله الذي آتاه نبيّه وكنتَ أولى به منهم ، وإن قُتلت في طلبه قُتلتَ شهيداً ، وكنتَ أولى بالعذر عند الله ، وأحق بميراث رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال ( عليه السلام ) : أتراه يا جندب يُبايعني عشرة من مائة ؟ قلت : أرجو ذلك . قال ( عليه السلام ) : لكني لا أرجو ولا من كل مائة اثنين ، وسأخبرك من أين ذلك ، إنما ينظر الناس إلى قريش ، وإن قريشاً تقول : إن آل محمد يرون لهم فضلاً على سائر الناس ، وإنّهم أولياء الأمردون قريش . وإنهم إن ولوه لم يخرج منهم هذا السلطان إلى أحد أبداً ، ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم ، ولا والله لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان طائعين أبداً !
قال جندب : فقلت له : أفلا أرجع فأُخبر الناس بمقالتك هذه وأدعوهم إليك ؟ فقال لي : يا جندب ، ليس هذا زمان ذاك » . ( الإرشاد : 1 / 241 ) .
8 . قال حذيفة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في زمن عثمان : ( إني والله ما فهمت قولك ولا عرفت تأويله ، حتى بلغت ليلتي أتذكر ما قلت لي بالحرة ، وإني مقيل : كيف أنت يا حذيفة إذا ظلمت العيون العين والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين أظهرنا ، ولم أعرف تأويل كلامك إلا البارحة : رأيت عتيقاً ثم عمرتقدما عليك وأول إسمهما عين ، فقال : يا حذيفة نسيت عبد الرحمن حيث مال بها إلى عثمان ) . ( المناقب : 2 / 103 ) .
17 . حديث مناشدة أهل الشورى بمئة حجة !
روى بعضهم أطرافاً من احتجاجه ( عليه السلام ) وأنهم استمعوا له إلى قريب صلاة الظهر ، وهو يقيم الحجة بعد الحجة على أنه صاحق الحق في الخلافة بالنص وبالصفات .
--------------------------- 344 ---------------------------
وبعد الاستماع اليه تداولوا بينهم ، فأقروا بصحة حججه ، لكنهم خافوا من عدالته وأنه يسوي بينهم وبين غلمانهم في العطاء ، وخافوا من أن الخلافة إذا وصلت إلى بني هاشم لا تخرج منهم ولا تصل إلى أعضاء الشورى ولا غيرهم من بطون قريش ، فقرروا أن يبايعوا عثمان !
وقد روى حديث المناشدة ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 3 / 113 ) وأورد فيه ثمانية عشرة مناشدة أو حجة . ورواه الخوارزمي / 313 ، في مناقب علي ( عليه السلام ) وأورد فيه اثنتين وعشرين مناشدة . ورواه الطوسي في أماليه / 545 ، وأورد فيه خمساً وسبعين مناشدة . ونجد في روايات المناشدة تفاوتاً لا يضر بأصل المعنى .
قال الطبري ( 3 / 300 ) : ( ثم تكلم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقال : الحمد لله الذي اختار محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منا نبياً ، وابتعثه إلينا رسولاً ، فنحن أهل بيت النبوة ، ومعدن الحكمة ، أمان لأهل الأرض ، ونجاة لمن طلب . إن لنا حقاً إن نُعطه نأخذه ، وإن نُمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السُّرى . لو عهد إلينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهداً لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولاً لجالدنا عليه حتى نموت . لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق وصلة رحم ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم .
إسمعوا كلامي وعُوا منطقي ، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا الجمع ، تُنتضى فيه السيوف وتخان فيه العهود ، حتى لا يكون لكم جماعة ، وحتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة ، وشيعة لأهل الجهالة » !
وفي مناقب علي ( عليه السلام ) للخوارزمي / 299 : ( قال أبو ذر رضي الله عنه : لما كان أول يوم من البيعة لعثمان : لِيَقْضِيَ الَّله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، فاجتمع المهاجرون والأنصار في المسجد ونظرت إلى أبي محمد عبد الرحمن بن عوف وقد اعتجر بريطة ، وقد اختلفوا إذ جاء أبو الحسن ، بأبي هو واُمي . قال : فلما بصروا بأبي الحسن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، سُرّ القوم طراً ، فأنشأ عليّ ( عليه السلام ) يقول : إن أحسن ما ابتدأ به المبتدئون ونطق به الناطقون وتفوّه به القائلون ، حمد الله والثناء عليه بما هو أهله ، والصلاة على النبي محمد وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
--------------------------- 345 ---------------------------
الحمد لله المتفرد بدوام البقاء ، المتوحد بالملك ، الذي له الفخر والمجد والثناء ، خضعت له الآلهة بجلاله ، ووجلت القلوب من مخافته . فلا عدل له ولاند ، ولا يشبهه أحد من خلقه . ونشهد له بما شهد به لنفسه وأولوا العلم من خلقه : لا إله إلاّ الله ، ليس له صفة تنال ، ولا حد تضرب له الأمثال ، المُدِرُّ صوبَ الغمام ، ببنات نطاف ، ومتهطل الرباب ، بوابل الطل ، فرش الفيافي والآكام بشقيق الدمن ، وأنيق الزهر ، وأنواع النبات المبجس . بثق العيون الغزار من صُم الأطواد ، يبعث الزلال حياة للطير والهوام والوحش ، وسائر الأنعام والأنام . فسبحان من يدان لدينه ، ولا يدان لغير دينه دين ، وسبحان الذي ليس لصفته نعت موجود ، ولا حد محدود .
ونشهد أن محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عبده المرتضى ونبيه المصطفى ورسوله المجتبى ، أرسله الله إلينا كافة ، والناس أهل عبادة الأوثان وجموع الضلالة ، يسفكون دمائهم ، ويقتلون أولادهم ، ويخيفون سبلهم ، عيشهم الظلم ، وأمنهم الخوف ، وعزهم الذل ، مع عنجهية عمياء وحمية ، حتى استنقذنا الله بمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الضلالة ، وهدانا بمحمد من الجهالة ، وانتاشنا بمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الهلكة ، ونحن معاشر العرب أضيق العرب معاشاً ، وأخشنهم رياشاً ، جِلُّ طعامنا الهبيد ، وجلّ لباسنا الوبر والجلود ، مع عبادة الأوثان والنيران ، فهدانا الله بمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى صالح الأديان ، وأنقذنا من عبادة الأوثان ، بعد أن أمكنه الله من شعلة النور ، فأضاء لمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مشارق الأرض ومغاربها ، فقبضه الله إليه ، فإنا لله وإنا إليه راجعون فما أجل رزيته وأعظم مصيبته ، فالمؤمنون فيه طراً مصيبتهم واحدة » .
أقول : هذا الكلام في مطلع مناشدته لأهل الشورى . ولعل كلامه ( عليه السلام ) استغرق ساعتين وأكثر ، وقد ورد أنه خطب في أوله بحمد الله تعالى والثناء عليه .
وأكمل رواية للمناشدة رواها الصدوق في الخصال ( 2 / 553 ) والطبرسي في الإحتجاج ( 1 / 320 ) من حديث الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، وقد أورد فيه مئة مناشدة . قال :
( إن عمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة وأجمع على الشورى ، بعث إلى ستة نفر
--------------------------- 346 ---------------------------
من قريش : إلى عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) وإلى عثمان بن عفان ، وإلى زبير بن العوام ، وإلى طلحة بن عبيد الله ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص ، وأمرهم أن يدخلوا إلى بيت ولا يخرجوا منه حتّى يبايعوا لأحدهم ، فإن اجتمع أربعة على واحد ، وأبى واحد أن يبايعهم قتل ، وإن امتنع اثنان وبايع ثلاثة قتلا . فاجتمع رأيهم على عثمان .
فلمّا رأى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ما همّ القوم به من البيعة لعثمان ، قام فيهم ليتّخذ عليهم الحجة فقال ( عليه السلام ) لهم : إسمعوا مني كلامي فإن يك ما أقول حقاً فاقبلوا ، وإن يك باطلاً فأنكروا . ثم قال لهم :
1 . أنشدكم بالله الذي يعلم صدقكم إن صدقتم ، ويعلم كذبكم إن كذبتم ، هل فيكم أحد صلى القبلتين كلتيهما غيري ؟ قالوا : لا .
2 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم من بايع البيعتين كلتيهما : بيعة الفتح وبيعة الرضوان غيري ؟ قالوا : لا .
3 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أخوه المزين بالجناحين في الجنة غيري ؟ قالوا : لا .
4 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد عمّه سيد الشهداء غيري ؟ قالوا : لا .
5 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد زوجته سيدة نساء العالمين غيري ؟ قالوا : لا .
6 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد إبناه ابنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهما سيدا شباب أهل الجنّة غيري ؟ قالوا : لا .
7 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد عرف الناسخ من المنسوخ غيري ؟ قالوا : لا .
8 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً غيري ؟ قالوا : لا .
9 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد عاين جبرئيل في مثال دحية الكلبي غيري ؟ قالوا : لا . ( يقصد في الموجودين وقد رآه غيرهم كأبي ذر ) .
10 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أدى الزكاة وهو راكع غيري ؟ قالوا : لا .
11 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد مسح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عينيه ، وأعطاه الراية
--------------------------- 347 ---------------------------
يوم خيبر ، فلم يجد حرّاً ولا برداً ، غيري ؟ قالوا : لا .
12 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد نصبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم غدير خم بأمر الله تعالى فقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، غيري ؟ قالوا : لا .
13 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد هو أخو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غيري ؟ قالوا : لا .
14 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ود يوم الخندق وقتله غيري ؟ قالوا : لا .
15 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي ، غيري ؟ قالوا : لا .
16 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد سماه الله تعالى في عشر آيات من القرآن مؤمناً ، غيري ؟ قالوا : لا .
17 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد ناول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوه الكفار ، فانهزموا ، غيري ؟ قالوا : لا .
18 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد وقفت الملائكة معه يوم اُحد حتى ذهب الناس ، غيري ؟ قالوا : لا .
19 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قضى دَين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غيري ؟ قالوا : لا .
20 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد اشتاقت الجنة إلى رؤيته ، غيري ؟ قالوا : لا .
21 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد شهد وفاة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غيري ؟ قالوا : لا .
22 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد غسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكفنه ولحده ، غيري ؟ قالوا : لا .
--------------------------- 348 ---------------------------
23 . قال ( عليه السلام ) : هل فيكم أحد ورث سلاح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورايته وخاتمه ، غيري ؟ قالوا : لا .
24 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد جعل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طلاق نسائه بيده غيري ؟ » قالوا : لا .
25 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد حمله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على ظهره حتّى كسر الأصنام على باب الكعبة ، غيري ؟ قالوا : لا .
26 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد نودي باسمه من السماء يوم بدر : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ ، غيري ؟ قالوا : لا .
27 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أكل مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الطائر المشويّ الذي أُهدي إليه ، غيري ؟ قالوا : لا .
28 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت صاحب رايتي في الدنيا ، وصاحب لوائي في الآخرة ، غيري ؟ قالوا : لا .
29 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قدم بين يدي نجواه صدقة ، غيري ؟ قالوا : لا .
30 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد خصف نعل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غيري ؟ قالوا : لا .
31 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا أخوك وأنت أخي ، غيري ؟ قالوا : لا .
32 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أحبّ الخلق إلي وأقولهم بالحق ، غيري ؟ قالوا : لا .
33 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد استقى مائة دلو بمائة تمرة وجاء بالتمر ، فأطعمه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو جائع ، غيري ؟ قالوا : لا .
34 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد سلم عليه جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في ثلاثة آلاف من الملائكة يوم بدر ، غيري ؟ قالوا : لا .
35 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد غمض عين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غيري ؟ قالوا : لا .
--------------------------- 349 ---------------------------
36 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد وحَّد الله قبلي ، غيري ؟ قالوا : لا .
37 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد كان أول داخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وآخر خارج من عنده ، غيري ؟ قالوا : لا .
38 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد مشى مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فمر على حديقة فقلت : ما أحسن هذه الحديقة ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وحديقتك في الجنة أحسن من هذه ، حتى مررت على ثلاث حدائق ، كل ذلك يقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : حديقتك في الجنة أفضل وأحسن من هذه ، غيري ؟ قالوا : لا .
39 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أوّل من آمن بي وصدّقني ، وأوّل من يرد عليّ الحوض يوم القيامة ، غيري ؟ قالوا : لا .
40 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده ويد امرأته وابنيه ، حين أراد أن يباهل نصارى أهل نجران ، غيري ؟ قالوا : لا .
41 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أوّل طالع يطلع عليكم من هذا الباب يا أنس ، فإنه أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وخير الوصيين ، وأولى الناس بالناس ، فقال أنس : اللهم اجعله رجلاًمن الأنصار ، فكنت أنا الطالع ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لأنس : ما أنت يا أنس بأول رجل أحب قومه ، غيري ؟ قالوا : لا .
42 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . غيري ؟ قالوا : لا .
43 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أنزل الله فيه وفي ولده : إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا . إلى آخر السورة ، غيري ؟ قالوا : لا .
44 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أنزل الله تعالى فيه : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله لا يَسْتَوُونَ
عِنْدَ الله ، غيري ؟ قالوا : لا .
45 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد علّمه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ألف كلمة ، كل كلمة مفتاح ألف كلمة ، غيري ؟ قالوا : لا .
--------------------------- 350 ---------------------------
46 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد ناجاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم الطائف ، فقال أبو بكر وعمر : يا رسول الله ناجيت علياً دوننا ، فقال لهما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أنا ناجيته بل الله أمرني بذلك ؟ غيري ؟ قالوا : لا .
47 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد سقى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من المهراس غيري ؟ قالوا : لا . ( أي جاء له بالماء لغسل جراحه ) .
48 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أقرب الخلق مني يوم القيامة ، يدخل بشفاعتك الجنة أكثر من عدد ربيعة ومضر غيري ؟ قالوا : لا .
49 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عليّ أنت تكسى حين اُكسى ، غيري ؟ قالوا : لا .
50 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت وشيعتك الفائزون يوم القيامة ، غيري ؟ قالوا : لا .
51 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغض علياً ، غيري ؟ قالوا : لا .
52 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من أحبّ شعراتي هذه فقد أحبّني ، ومن أحبني فقد أحبّ الله ، فقيل له : وما شعراتك يا رسول الله ؟ قال : عليّ والحسن والحسين وفاطمة ، غيري ؟ قالوا : لا .
53 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت خير البشر بعد النبيين غيري ؟ قالوا : لا .
54 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت الفاروق تفرّق بين الحقّ والباطل ، غيري ؟ قالوا : لا .
55 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أفضل الخلايق عملاً يوم القيامة بعد النبيين ، غيري ؟ قالوا : لا .
56 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كساءه عليه وعلى زوجته وعلى ابنيه ثم قال : اللهم أنا وأهل بيتي إليك لا إلى النار ، غيري ؟ قالوا : لا .
--------------------------- 351 ---------------------------
57 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد كان يبعث إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الطعام وهو في الغار ويخبره الأخبار غيري ؟ قالوا : لا .
58 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لا سرَّ دونك ، غيري ؟ قالوا : لا .
59 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أخي ووزيري وصاحبي من أهلي ، غيري ؟ قالوا : لا .
60 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أقدمهم سلماً ، وأفضلهم علماً ، وأكثرهم حلماً ، غيري ؟ قالوا : لا .
61 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله هل فيكم أحد قتل مرحباً اليهودي فارس اليهود مبارزة ، غيري ؟ قالوا : لا .
62 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد عرض عليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الإسلام فقلت : فقد أسلمت ، غيري ؟ قالوا : لا .
63 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد احتمل باب خيبر حين فتحها فمشى به مائة ذراع ثم عالجه بعده أربعون رجلاً فلم يطيقوه ، غيري ؟ قالوا : لا .
64 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ، فكنت أنا الذي قدم الصدقة ، غيري ؟ قالوا : لا .
65 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله ، غيري ؟ قالوا : لا .
66 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : منزلي مواجه منزلك في الجنة ، غيري ؟ قالوا : لا .
67 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قاتل الله من قاتلك وعادى الله من عاداك ، غيري ؟ » قالوا : لا .
68 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد اضطجع على فراش رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
--------------------------- 352 ---------------------------
حين أراد أن يسير إلى المدينة ووقاه بنفسه من المشركين حين أرادوا قتله ، غيري ؟ قالوا : لا .
69 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أولى النّاس بأُمّتي بعدي ، غيري ؟ قالوا : لا .
70 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت يوم القيامة عن يمين العرش والله تعالى يكسوك ثوبين : أحدهما أخضر والآخر ورديّ ، غيري ؟ قالوا : لا .
71 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد صلى قبل الناس بسبع سنين وأشهر ، غيري ؟ قالوا : لا . ( أي أربع سنىن قبل البعثة وثلاث بعدها ) .
72 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا يوم القيامة آخذ بحجزة ربّي ( والحجزة النور ) وأنت آخذ بحجزتي وأهل بيتي آخذون بحجزتك ، غيري ؟ قالوا : لا . ( والحجزة النور ) .
73 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت كنفسي وحبك حبي وبغضك بغضي ، غيري ؟ قالوا : لا .
74 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ولايتك كولايتي عهد عهده إليّ ربي ، وأمرني أن أبلّغكموه ، غيري ؟ قالوا : لا .
75 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : اللهمّ اجعله لي عوناً وعضداً وناصراً ، غيري ؟ قالوا : لا .
76 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : المال يعسوب الظلمة وأنت يعسوب المؤمنين ، غيري ؟ قالوا : لا .
77 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لأبعثنّ إليكم رجلاً امتحن الله قلبه للإيمان ، غيري ؟ قالوا : لا .
78 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أطعمه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رمانة وقال : هذه من رمّان الجنة لا ينبغي أن يأكل منه إلا نبي أو وصي نبي ، غيري ؟ قالوا : لا .
79 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما سألت ربّي شيئاً
--------------------------- 353 ---------------------------
إلاّ أعطانيه ، ولم أسأل ربي شيئاً إلا سألت لك مثله ، غيري ؟ قالوا : لا .
80 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت أقومهم بأمر الله ، وأوفاهم بعهد الله ، وأعلمهم بالقضية ، وأقسمهم بالسوية ، وأعظمهم عند الله عز وجل مزية ، غيري ؟ قالوا : لا .
81 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فضلك على هذه الاُمّة كفضل الشمس على القمر ، وكفضل القمر على النجوم ، غيري ؟ قالوا : لا .
82 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عليّ يدخل الله وليّك الجنّة ، وعدوّك النار ، غيري ؟ قالوا : لا .
83 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الناس من أشجار شتّى ، وأنا وأنت من شجرة واحدة ، غيري ؟ قالوا : لا .
84 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا سيّد ولد آدم ، وأنت سيّد العرب ولا فخر ، غيري ؟ قالوا : لا .
85 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد رضي الله عنه في آيتين من القرآن ، غيري ؟ قالوا : لا .
86 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : موعدك موعدي وموعد شيعتك الحوض إذا خافت الاُمم ووضعت الموازين ، غيري ؟ قالوا : لا .
87 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : اللّهم إني اُحُبُّه فأَحبَّه ، اللّهم إني أستودعكه ، غيري ؟ قالوا : لا .
88 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت تحاجّ النّاس فتحجهم بإقامة الصّلاة ، وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقام الحدود ، والقسم بالسوية ، غيري ؟ قالوا : لا .
89 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده يوم غدير خم فرفعها حتّى نظر الناس إلى بياض إبطيه وهو يقول : ألا إنّ هذا ابن عمّي
--------------------------- 354 ---------------------------
ووزيري فوازروه وناصحوه وصدّقوه فإنّه وليّكم من بعدي ، غيري ؟ قالوا : لا .
90 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، غيري ؟ قالوا : لا .
91 . قال ( عليه السلام ) : نشدتكم بالله ، فهل فيكم أحد كان جبرئيل ( عليه السلام ) أحد ضيفانه ، غيري ؟ قالوا : لا .
92 . قال ( عليه السلام ) : فهل فيكم أحد أعطاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حنوطاً من حنوط الجنّة ثمّ قال : أقسمه ثلاثاً : ثلثاً لي تحنّطني به ، وثلثاً لابنتي فاطمة ، وثلثاً لك ، غيري ، ؟ قالوا : لا .
93 . قال ( عليه السلام ) : فهل فيكم أحد كان إذا دخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حياه وأدناه ورحب به وتهلّل له وجهه ، غيري ؟ قالوا : لا .
94 . قال ( عليه السلام ) : فهل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنا أفتخر بك يوم القيامة إذا افتخرت الأنبياء بأوصيائها ، غيري ؟ قالوا : لا .
95 . قال ( عليه السلام ) : فهل فيكم أحد سرحه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بسورة براءة إلى المشركين من أهل مكة بأمر الله ، غيري ؟ قالوا : لا .
96 . قال ( عليه السلام ) : فهل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنّي لأرحمك من ضغائن في صدور أقوام عليك لا يظهرونها حتّى يفقدوني ، فإذا فقدوني خالفوا فيها ، غيري ؟ قالوا : لا .
97 . قال ( عليه السلام ) : فهل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أدى الله عن أمانتك كما أدىت أمانتي ، أدّى الله عن ذمّتك كما أدىت عن ذمتي ، غيري ؟ قالوا : لا .
98 . قال ( عليه السلام ) : فهل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أنت قسيم النار ، تخرج منها من زكا وتذر فيها كلّ كافر ، غيري ؟ قالوا : لا .
99 . قال ( عليه السلام ) : فهل فيكم أحد فتح حصن خيبر وسبى بنت مرحب فأداها إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، غيري ؟ قالوا : لا .
100 . قال ( عليه السلام ) : فهل فيكم أحد قال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ترد عليّ الحوض أنت وشيعتك رواءً مرويين مبيضةً وجوههم ، ويرد عليَّ عدوك ظماءً مظمئين مقتحمين مسودّة وجوههم ، غيري ؟ قالوا : لا .
--------------------------- 355 ---------------------------
ثمّ قال لهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أما إذا أقررتم على أنفسكم ، واستبان لكم ذلك من قول نبيّكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فعليكم بتقوى الله وحده لا شريك له ، وأنهاكم عن سخطه ولا تعصوا أمره ، وردوا الحق إلى أهله ، واتبعوا سنة نبيّكم ، فإنكم إن خالفتم خالفتم الله ، فادفعوها إلى من هو أهلها وهي له !
قال : فتغامزوا فيما بينهم وتشاوروا وقالوا : قد عرفنا فضله وعلمنا أنه أحقّ الناس بها ، ولكن رجل لا يفضل أحداً على أحد ، فإن ولّيتموها إياه جعلكم وجميع الناس فيها شرعاً سواء ، ولكن ولوها عثمان ، فإنه يهوى الذي تهوون ، فدفعوها إليه ) !
18 . صعد عثمان المنبر فأرتج عليه من الفرح !
قال في بدايع الصنايع ( 1 / 262 ) : ( إن عثمان لما استخلف خطب في أول جمعة فلما قال : الحمد لله . أُرتج عليه . . ونزل وصلى بهم الجمعة ) .
وفي تاريخ أبي الفدا ( 1 / 166 ) : ( فحمد الله وتشهد ثم أرتج عليه فقال : إن أول كل أمر صعب ، وإن أعش فستأتيكم الخطب على وجهها ، ثم نزل ) .
19 . احتفل بنو أمية بخلافة عثمان وخطب أبو سفيان خطبة الكفر !
كانت بيعة عثمان يوم الجمعة قبيل الظهر ، وصعد عثمان المنبر وأرتج عليه فلم يخطب الجمعة ثم ذهب إلى بيته ، فاجتمع بنو أمية ، واحتفلوا ببيعته :
قال الجوهري في السقيفة / 87 : ( قال الشعبي : فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار ، ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا ، قال : يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ، ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة ! قال : فانتهره عثمان وساءه با قال ، وأمر بإخراجه ) .
وقال أبو الفرج في الأغاني ( 6 / 371 ) : ( ولأبي سفيان أخبار من هذا الجنس ونحوه كثيرة يطول ذكرها ) .
وقال الطبري ( 8 / 185 ) : ( وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت
--------------------------- 356 ---------------------------
الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ( عليهم السلام ) ) .
وفي جمهرة الأمثال / 423 ، والسقيفة / 39 : ( إن أبا سفيان قال لما بويع عثمان : كان هذا الأمر في تَيْم ، وأنَّى لتيم وهذا الأمر ، ثم صار إلى عُدَي فأبعِدْ وأبعدْ ، ثم رجعت إلى منازلها واستقر الأمر قراره ! فتلقفوها تلقف الكرة ) !
وفي تاريخ دمشق ( 23 / 471 ) : ( دخل على عثمان بعدما عمي فقال : ها هنا أحد ؟ قالوا : لا . قال : اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية ، والملك ملك غاصبية ، واجعل أوتاد الأرض بني أمية ) .
وقال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 342 ) : ( كان عمار حين بويع عثمان بلغه قول أبي سفيان صخر بن حرب في دارعثمان عقيب الوقت الذي بويع فيه عثمان ودخل داره ومعه بنو أمية ، فقال أبو سفيان : أفيكم أحد من غيركم ، وقد كان عَميَ ، قالوا : لا ، قال : يا بني أمية تَلَقَّفُوها تلقُّفَ الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ، ولتصيرَنَّ إلى صبيانكم وراثة ، فانتهره عثمان وساءه ما قال . فقام عمار في المسجد فقال : يا معشر قريش ، أما إذ صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم هاهنا مرة وهاهنا مرة ، فما أنا بآمن من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم ، كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله .
وقام المقداد فقال : ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وما أنت وذاك يا مقداد بن عمرو ؟ فقال : إني والله لأحبهم لحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إياهم ، وإن الحق معهم وفيهم ، يا عبد الرحمن أعجب من قريش وإنما تطولهم على الناس بفضل أهل هذا البيت ، قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعده من أيديهم !
أما وأيم الله يا عبد الرحمن لو أجد على قريش أنصاراً لقاتلتهم كقتالي إياهم مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم بدر ! وجرى بينهم من الكلام خطب طويل ، قد أتينا على ذكره في كتابنا : أخبار الزمان في أخبار الشُّورَى والدار ) .
--------------------------- 357 ---------------------------
وفي تذكرة ابن حمدون / 2088 : ( دخل عليه فقال له : إن الخلافة صارت في تيم وعدي حتى طمعت فيها ، وقد صارت إليكم فتلقفوها تلقف الكرة ، فوالله ما من جنة ولا نار ، هذا أو نحوه . فصاح به عثمان : قم عني فعل الله بك وفعل ) .
أقول : يدل كلام أبي سفيان على أنه كان يظهرالإسلام والإيمان بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ويظهر احترامه ، لكنه مسكون بالكفر والجاهلية والمادية .
وهذه حال ابنه معاوية وكثير من بني أمية . أما سبب حفظهم للإسلام في الظاهر فهو أنهم يحكمون دولة باسم الإسلام وباسم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأن عامة المسلمين مؤمنون بهذا الدين ، فهم يخشون المسلمين ويخشون أن يفقدوا مناصبهم ودنياهم .
وقد أقسم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنهم ما أسلموا ، ولكن استسلموا .
وبهذا تعرف الحكمة من أمر الله تعالى لنبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن يداري بني أمية ويعمل لجذبهم وتحبيبهم به وبالإسلام وفصلهم عن قريش ، وقد نجح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في فصلهم عنها ، وظهر ذلك في فتح مكة ، فاتهم رؤساء بطون قريش أن أبا سفيان أخذته المنافية وسلم مكة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فعزلوه عن رئاستهم ورأسوا سهيل بن عمرو ، وذهب أبو سفيان إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عاطلاً عن العمل ، فعينه جابياً لصدقات نجران .
فبهذه السياسة النبوية تقبَّلَ بنو أمية الإسلام ، ولولاها لقضوا عليه من أساسه .
ولما صار عثمان الأموي رئيس دولة محمد الهاشمي ، فَقَدَ أبو سفيان توازنه من الفرح فقد انتصرعلى محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ونسي أنه أعلن إسلامه وأن عثمان يجلس على كرسي دولة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فأعلن كفره بالله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وانتصاره عليه !
وقيل إن عثمان أخرجه من الدار ، ولم يثبت ذلك ، بل الثابت أنه أعطاه مئات الألوف !
وحاول علماء السلطة تبرئة عثمان فقال أحد قضاتهم : ( أُنكرُ أن يكون سمعه عثمان ، ولم يضرب عنقه ) . ( شرح النهج : 2 / 45 ) .
يقول : محال أن يسمع عثمان أبا سفيان يقول ذلك ، ولا يقيم عليه الحد ! لكن روايتهم المتواترة تكذب هذا القاضي !
--------------------------- 358 ---------------------------
الفصل الثاني والأربعون: سياسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في جذب بني أمية
سياسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في جذب بني أمية
1 . عمل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لفصل بني أمية عن قريش
قامت سياسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مواجهة قريش على جذب بني أمية وفصلهم عن قريش ، لأنهم في النسب مع بني هاشم من بني عبد مناف . ولذلك قرَّب عثمان وزوجه بنته ( ربيته ) رقية ، ولما توفيت زوجه أختها أم كلثوم .
قال البلاذري ( 5 / 8 و 429 ) : ( لطم أبو جهل فاطمة بنت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فرأت أبا سفيان فشكت إليه ، فرجع معها إليه وقال : ألطميه قبحه الله ، فلطمته فقال : أدركتكم المنافية يا أبا سفيان !
دخل أبو جهل على أبي أحيحة فقال له : والله ما أدري أضعفتَ أم ضجِعت الرأي أم أدركتك المنافية ! فقال أبوأحيحة : والله لقد غاظني أمرمحمد وإنه لأوسطنا نسباً ، ولقد نشأ صادق الحديث مؤدياً للأمانة ، ولقد جاء بدين محدث فرق به جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وأذهب بهاءنا ، ولئن صدقني ظني فيه ليخرجن إلى قوم يقوى بهم علينا ) .
وقال عتبة بن ربيعة لأبي جهل المخزومي في بدر : ( أما ترى هذا البغي ، والله ما أبصر موضع قدمي ! خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت ، فجئنا بغياً وعدواناً . إرجعوا . فقال أبو جهل : إن عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام ويتعصب لمحمد ، فإنه من بني عبد مناف وابنه معه ، ويريد أن يخذل الناس ! لا واللات والعزى حتى نقتحم عليهم بيثرب ونأخذهم أسارى ) .
( تفسير القمي : 1 / 260 ) .
--------------------------- 359 ---------------------------
ولما حاصر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مكة بجيش كبير أعلن أبو سفيان استسلام قريش ، فخونوه واتهموه بأنه أخذته المنافية واتفق مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ضدهم ، وتأكد عندهم ذلك لما عيَّن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حاكماً أموياً على مكة ، فخلعوا أبا سفيان عن رئاسة قريش ونصبوا بدله سهيل بن عمر السهمي الجمحي ، لأنه كان صلباً في المفاوضات مع محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في الحديبية ، فصار سهيل الحاكم الفعلي لمكة ، وهمشوا الحاكم الأموي المعين من قبل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، واضطر أبو سفيان أن يذهب إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعينه جابياً للزكوات على زبيد ونجران . ( تاريخ الطبري : 2 / 532 ) .
وكان أبو سفيان يتصور أن الحكم سيستمر بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بقيادة عترته ( عليهم السلام ) ، ولم يخبره سهيل وأهل السقيفة أول الأمر بخطتهم في عزل العترة وأخذ الخلافة ! لذلك كانت ردة فعله عنيفة لما تفاجأ بخلافة أبيبكر وعزل بني هاشم !
( جاء إلى باب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي والعباس متوفران على النظر في أمره ، فنادى :
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم * ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم * وليس لها إلا أبو حسن علي
أبا حسن فاشدد بها كفَّ حازم * فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي
ثم نادى بأعلى صوته : يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبوفصيل الرذل بن الرذل ، أما والله لئن شئتم لأملأنها خيلاً ورجلاً !
فناداه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إرجع يا أبا سفيان فوالله ما تريد الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلى كل امرئ ما اكتسب ، وهو ولي ما احتقب ) ! ( الإرشاد : 1 / 190 ) .
وسرعان ما انكشفت نية أبي سفيان وأنه يريد دفع بني هاشم إلى حرب قريش ! ليتصيد بذلك له ولأولاده !
ففي العقد الفريد / 1005 : ( فقال عمر لأبيبكر : إن هذا قد قدم وهو فاعلٌ شراً ، وقد كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يستألفه على الإسلام ، فدع له ما بيده من الصدقة ففعل ، فرضي أبو سفيان وبايعه ) !
--------------------------- 360 ---------------------------
وكان مذهب معاوية كأبي سفيان فكان يرى أن أكبر جريمة فرقت العرب هي شورى عمر ، لأنه أدخل فيها قبائل لاحق لهم في الملك ، وجرَّأهم على بني عبد مناف .
ففي تاريخ دمشق ( 19 / 97 ) : ( أرسل معاوية إلى حضين بن المنذر الذهلي فدعاه وأدناه حتى كان قريباً منه ، ثم أجلسه وألقيت تحته وسادة ، ثم قال له معاوية : بلغني أن لك عقلاً ورأياً وعلماً بالأمور ، فأخبرني ما فرَّقَ بين هذه الأمة ومن سفك دمائها وشق عصاها وفرق ملأها ؟
قال : قتل أمير المؤمنين عثمان . قال : ما صنعت شيئاً . قال : مسيرعلي إلى عائشة وطلحة والزبير ، ومسير علي إليك وقتالكم بصفين والذي كان بينكم من سفك الدماء والاختلاف ! قال : ما صنعت شيئاً !
قال : فأخبرني يا أمير المؤمنين ! فقال معاوية : استخلف أبو بكر على المسلمين عمر ، فعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسنة أبيبكر ، حتى أصاب عمر من قضاء الله ما أصابه ، فخيَّر بين ستة فجعلها شورى ، ولم يَجب إلا بجعلها بينهم ، وكانوا خير من تعلم على الأرض ، فلما جلسوا لها وتنازعوها دعا كل رجل منهم إلى نفسه . فما زال كل رجل من أهل الشورى يطمع فيها ويطمع له فيها أحباؤه حتى وثبوا على عثمان فقتلوه ، واختلفوا بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً ! فهذا الذي سفك دماء هذه الأمة ، وشق عصاها وفرق ملأها ) !
وكان عثمان يرى أن الملك لبني عبد مناف ، وعارٌ عليهم أن يبتزهم بنو تيم !
قال البلاذري ( 5 / 568 ) : ( كان طلحة قد استولى على أمرالناس في الحصار فبعث عثمان عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطَّلب إلى علي بهذا البيت :
فإن كنتُ مأكولاً فكن أنت آكلي * وإلا فأدركني ولما أُمَزَّقِ
وقال هشام بن الكلبي : هذا البيت للممزق العبدي ، وبه سمي الممزق . ففرق عليٌّ الناس عن طلحة ، فلما رأى ذلك طلحة دخل على عثمان فاعتذر ! فقال له عثمان : يا ابن الحضرمية ألَّبْتَ عَلَيَّ الناس ودعوتهم إلى قتلي ، حتى إذا فاتك ما تريد جئت معتذراً ، لاقبل الله ممن قبل عذرك ) .
--------------------------- 361 ---------------------------
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 2 / 147 ) : ( قال أبو جعفر : فجاء عثمان إلى علي بمنزله ليلاً فاعتذر إليه ووعد من نفسه الجميل وقال : إني فاعل ، وإني غيرفاعل فقال له علي ( عليه السلام ) : أبعد ما تكلمت على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك ، وخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك !
ولم يغدُ علي إلى نصرعثمان إلى أن منع الماء لما اشتد الحصار عليه ، فغضب عليٌّ من ذلك غضباً شديداً وقال لطلحة : أدخلوا عليه الروايا ، فكره طلحة ذلك وساءه فلم يزل علي ( عليه السلام ) حتى أدخل الماء إليه .
وروى أبو جعفر أيضاً أن علياً ( عليه السلام ) كان في ماله بخيبر لما حصر عثمان ، فقدم المدينة والناس مجتمعون على طلحة ، وكان لطلحة في حصار عثمان أثر ، فلما قدم علي ( عليه السلام ) أتاه عثمان ، وقال له : أما بعد فإن لي حق الإسلام وحق الإخاء والقرابة والصهر ، ولو لم يكن من ذلك شئ وكنا في جاهلية ، لكان عاراً على بني عبد مناف أن يبتز بنو تيم أمرهم ، يعني طلحة !
فقال له علي : أنا أكفيك فاذهب أنت ، ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة بن زيد ، فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة وهي مملوءة من الناس ، فقال له : يا طلحة ما هذا الأمر الذي صنعت بعثمان ؟ فقال : يا أبا حسن أبعد أن مس الحزام الطبيين !
فانصرف علي حتى أتى بيت المال فقال : إفتحوه فلم يجدوا المفاتيح فكسرالباب وفرق ما فيه على الناس ، فانصرف الناس من عند طلحة حتى بقي وحده ، وسُرَّ عثمان بذلك !
وجاء طلحة فدخل على عثمان فقال : يا أمير المؤمنين ، إني أردت أمراً فحال الله بيني وبينه وقد جئتك تائباً . فقال : والله ما جئت تائباً ولكن جئت مغلوباً ، الله حسيبك يا طلحة ) .
ورواه عمر بن شبَّه في تاريخ المدينة ( 4 / 1199 ) وقال : ( أرسل عثمان إلى علي وهو محصور : إن كنت مأكولاً فكن خير آكل . ولا تخل بينها وبين ابن فلانة يريد طلحة . .
--------------------------- 362 ---------------------------
وكتب إلى علي : أما بعد فقد بلغ السيل الزبى ، وجاوز الحزام الكتفين ، وارتفع أمر الناس في أمري فوق قدره ، وطمع في من لم يدفع عن نفسه :
وإنك لم يفخر عليك كفاخر * ضعيفٌ ولم يغلبك مثلُ مغلب
فأقدم ، عليَّ ، أو لي :
فإن كنتُ مأكولاً فكن خير آكل * وإلا فأدركني ولما أمزق
قال والشعر للممزق الفيدي . إن ابن عمك مقتول ، وإنك مسلوب ) .
2 . قال عثمان عن نفسه : كنت مستهتراً !
قال ابن الأثير في أسد الغابة ( 5 / 459 ) : ( كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد زوج ابنته رقية من عتبة بن أبي لهب ، وزوج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب ، فلما نزلت سورة تبت قال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب : فارقا ابنتي محمد ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما ، كرامة من الله تعالى لهما وهواناً لابني أبي لهب ، فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة ، وهاجرت معه إلى الحبشة ) .
وتحدث عثمان عن إسلامه فقال كما في تاريخ دمشق ( 39 / 23 ) : ( كنت رجلاً مستهتراً ، قال وكان عثمان وضيئاً جميلاً ، أبيض مشرباً صفرة ، جعد الشعر حسن الثغر ، له جمة أسفل من أذنيه ، خدل الساقين ، طويل الذراعين أقنى ، قال عثمان : إني ذات ليلة بفناء الكعبة قاعد في رهط من قريش إذ أتينا فقيل لنا إن محمداً قد أنكح عتبة بن أبي لهب من رقية ابنته ، وكانت رقية ذات جمال رائع .
قال عثمان : فدخلتني الحسرة لمَ لا أكون أنا سبقت إلى ذلك . قال : فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي فأصبت خالة لي سعدى بنت كريز ، وكانت قد طَرقت وتكهنت عند قومها ( أي بصارة تطرق الحصى وتتنبأ ) فلما أتتني قالت :
أبشر وحييت ثلاثاً تترى ، ثم ثلاثاً ، وثلاثاً أخرى . .
قال عثمان : فعجبت من قولها وقلت : يا خالة ما تقولين فقالت : عثمان ، لك الجمال ، ولك اللسان ، هذا نبي معه البرهان ، أرسله بحقه الديان ، وجاءه التنزيل والفرقان ، فاتبعه لا تغنى لك الأوثان .
--------------------------- 363 ---------------------------
وكان لي مجلس عند أبيبكر - فأتيته فأصبته في مجلس ليس عنده أحد ، فجلست إليه فرآني مفكراً فسألني عن أمري ، وكان رجلاً متأنياً فأخبرته بما سمعت من خالتي ، فقال : ويحك يا عثمان إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل ، هذه الأوثان التي يعبدها قومنا أليست من حجارة صم لاتبصر ولا تسمع ، ولا تضر ولا تنفع ؟ قال قلت : بلى والله إنها كذلك . قال : فقد والله صدقتك خالتك ، هذا رسول الله محمد بن عبد الله قد بعثه الله تعالى برسالته إلى خلقه فهل لك أن تأتيه فتسمع منه ؟ قال قلت : بلى . فوالله ما كان أسرع من أن مر رسول الله ومعه علي بن أبي طالب يحمل ثوباً ، فلما رآه أبو بكر قام إليه فساره في أذنه بشئ ، فجاء رسول الله فقعد ، ثم أقبل عليَّ فقال : يا عثمان أجب الله إلى جنته فإني رسول لله إليك وإلى خلقه . قال : فوالله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله فكان يقال أحسن زوج رقية وعثمان ) .
والنهاية : 7 / 222 ، ونهاية الأرب : 3 / 130 ، والإكمال للخطيب التبريزي / 133 :
وكلام عثمان عن شخصيته المترفة ، لا ىصح لأن أسرته من أقل فروع بني أمية شأناً ومالاً ، فزعامة أمية كانت لعتبة بن ربيعة والد هند ، ويليه أبوأحيحة سعيد بن العاص ، ثم أبو سفيان بن حرب ، ثم يأتي فرع العاص جد عثمان بن عفان بن العاص .
وتجد في أخبار عثمان أنه كان يسب من يغضب عليه سباً عامياً بذيئاً ، كما سب عمار فقال له : يا عاض كذا أبيه ، ويا بن المَتْكَاء ، وسب غيره بنحو ذلك !
وهذا يفسر لك أنهم كذبوا له على لسان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأنه رجلٌ حيي ، وأن الملائكة تستحي منه ! ( فتح الباري : 7 / 44 ) ليغطوا بذلك على بذاءة لسانه !
ومعنى قوله عن نفسه إنه كان رجلاً مستهتراً ، أي مغرماً بالنساء راكضاً وراءهن ، وقد أسلم ليتزوج برقية بنت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أو ربيبته .
ومن ترفه أنه كان عند بناء مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يضع كمه على أنفه من الغبار
فقال عمار :
--------------------------- 364 ---------------------------
لا يستوي من يعمر المساجدا * يضل فيها راكعاً وساجداً
ومن يُرى عن الغبار حائدا ! ( تفسير القمي : 2 / 323 ) .
فقال له عثمان : يا بن السوداء إياي تعني ! ثم أتى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال له : لم ندخل معك لتُسب أعراضنا ! فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قد أقلتك إسلامك فاذهب ، فأنزل الله : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للَّإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، أي لستم صادقين ) .
وقد وصفه علي ( عليه السلام ) بقوله : ( إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه . وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع . إلى أن انتكث عليه فَتْلُه ، وأجهز عليه عمله ، وكَبَت به بطنته ) . ( نهج البلاغة : 1 / 37 ) .
وهو وصف يدل على أن اهتمام عثمان مادي حيواني يتركز على أكله وشأنه الشخصي .
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 9 / 24 ) : ( وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ ، عن زيد بن أرقم ، قال : سمعت عثمان وهو يقول لعلي ( عليه السلام ) : أنكرت عليَّ استعمال معاوية ، وأنت تعلم أن عمراً استعمله ؟ قال علي ( عليه السلام ) : نشدتك الله ألا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه ! إن عمركان إذا استعمل عاملاً وطئ على صماخه ، وإن القوم ركبوك وغلبوك واستبدوا بالأمر دونك . فسكت عثمان .
حدثني جعفر بن مكي الحاجب قال : سألت محمد بن سليمان حاجب الحجاب ،
وقد رأيت أنا محمداً هذا ، وكانت لي به معرفة غير مستحكمة ، وكان ظريفاً أديباً ، وقد اشتغل بالرياضيات من الفلسفة ، ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه . قال جعفر : سألت عما عنده في أمر عليٍّ وعثمان فقال : هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن أمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية . .
وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلم عنانه إلى مروان يصرفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الاسم ، فلما انتقض على عثمان
--------------------------- 365 ---------------------------
أمره استصرخ علياً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذب عنه حين لا يغني الذب ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه .
قال جعفر فقلت له : أتقول إن علياً وجد من خلافة عثمان أعظم مما وجده من خلافة أبيبكر وعمر ؟ فقال : كيف يكون ذلك وهو فرع لهما ، ولولاهما لم يصل إلى الخلافة ، ولا كان عثمان ممن يطمع فيها من قبل ولا يخطر له ببال ، ولكن هاهنا أمر يقتضي في عثمان زيادة المنافسة ، وهو اجتماعهما في النسب وكونهما من بني عبد مناف ، والإنسان ينافس ابن عمه الأدنى أكثر من منافسة الأبعد ، ويهون عليه من الأبعد مالايهون عليه من الأقرب .
قال جعفرفقلت له : أفتقول لو أن عثمان خلع ولم يقتل ، أكان الأمر يستقيم لعلي إذا بويع بعد خلعه ؟ فقال : لا ، وكيف يتوهم ذلك بل يكون انتقاض الأمور عليه وعثمان حيٌّ مخلوع أكثر من انتفاضها عليه بعد قتله ، لأنه موجود يرجى ويتوقع عوده ، فإن كان محبوساً عظم البلاء والخطب ، وهتَف الناس باسمه في كل يوم بل في كل ساعة ، وإن كان مخلى سربه وممكناً من نفسه ، وغير محول بينه وبين اختياره ، لجأ إلى بعض الأطراف وذكر أنه مظلوم غصبت خلافته ، وقهر على خلع نفسه ، فكان اجتماع الناس عليه أعظم ، والفتنة به أشد وأغلظ ) !
فعثمان شخص يهتم ببطنه ورغباته ويحب قبيلته بني أمية إلى حد العبادة ، فكان يقول : ( ما ينقم الناس مني ! أني وصلت رحماً ، وقربت قرابة ) . ( العقد الفريد : 5 / 56 ) .
ويقول : ( لو أن مفاتيح الجنة في يدي لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم ، والله لأعطينهم ولأستعملنهم على رغم أنف من رغم ) .
( تاريخ المدينة : 3 / 1099 ) .
3 . لماذا اجتهد عمر لتكون الخلافة لبني أمية
لم يصف علي ( عليه السلام ) عثمان بأنه شريك في خطة عزل بني هاشم ، لأن عثمان وأبا سفيان لم يكونا من أول الأمر مع الذين خططوا لإبعادهم ، ولا اطلعا على صحيفتهم التي كتبوها في حجة الوداع ، واتفاقهم مع سهيل بن عمرو وقريش ، واتفاقهم مع
--------------------------- 366 ---------------------------
اليهود ، الذي قال عنه الله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا للَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَالله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . فقد خشي مهندس السقيفة ومعاونوه أن تأخذ بني أمية المنافية فلم يخبروا أحداً منهم بخطتهم حتى أبا سفيان وعثمان !
وفي المقابل لم يبايعهم هؤلاء حتى وعدوهم بمناصب مهمة ، وأعطوهم قيادة جيش الشام ليزيد بن أبي سفيان ، ولا بد أنهم وعدوا عثمان بن عفان بشئ ، لأنه كان أول من بايع أبا بكر من قريش بعد السقيفة ، وكسر مقولة المنافية .
لقد وجد أهل السقيفة أنفسهم مضطرين إلى إعطاء بني أمية مزيداً من مناصب الدولة ، لأن هدفهم عزل بني هاشم ، وبنو أمية الوحيدون من قريش الذين فيهم شخصيات تقف في وجه بني هاشم . أما بقية بطون قريش فلم يكن فيها شخصيات تذكر ، فقد قطع الله طرفاً منها وأبادهم كبني عبد الدار ، كما قال تعالى عن بدر : لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ . فقُطع بنو عبد الدار وقتلوا في بدر وأحد ، ولم يكن في بني سهم غير سهيل ، وكان كبير السن ، ولم يكن في بني عدي شاخص غير عمر ، وكان شاخص بني تيم بعد أبيبكر طلحة وهو شديد عنيف . أما بنو أسد عبد العزى ففيهم الزبير وهو مع علي ، على أنه مصري كان يعوم في النبيل وتحالف مع بني أسد . وأما بنو زهرة فليس فيهم إلا عبد الرحمن بن عوف وهو ضعيف ، وسعد بن وقاص يعدونه من بني بني عذرة وليس من قريش . وأما بنو مخزوم فقتل رئيسهم أبو جهل ، وخالد أبوه الوليد وهو ليس من بني مخزوم ! وقال عنه أبو طالب ( عليه السلام ) :
وليد أبوه كان عبداً لجدنا * إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
( ابن هشام : 1 / 173 وابن إسحاق : 2 / 133 )
فلم يبق إلا بنو أمية وبنو هاشم ، وكان اليهود يصرون على استخلاف بني أمية لأنهم حلفاؤهم من الجاهلية ، وهذا ما فعله عمر !
روى المسعودي في مروج الذهب ( 3 / 14 ) عن الطبري وابن إسحاق : ( لما حج معاوية طاف بالبيت ومعه سعد ، فلما فرغ انصرف معاوية إلى دار النَّدْوَة ، فأجلسه معه على سريره ، ووقع معاوية في علي وشرع في سَبَّه ، فزحف سعد ثم قال : أجلستني معك
--------------------------- 367 ---------------------------
على سريرك ثم شرعت في سب علي ، والله لأن يكون فيَّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس : والله لأن أكون صهراً لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن لي من الولد ما لعلي أحب إلى من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لأن يكون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لي ما قاله يوم خيبر : لأعطيَنَّ الراية غداً رجلا يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله ، ليس بِفَرَّار يفتح الله على يديه ، أحبُّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لأن يكون رسول الله قال لي ما قال له في غزوة تبوك : ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ، أحبُّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت ، ثم نهض !
ووجدت في وجه آخر من الروايات ، وذلك في كتاب علي بن محمد بن سليمان النوفلي في الأخبار ، عن ابن عائشة وغيره ، أن سعداً لما قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضَرَطَ له معاوية ( أي نفخ ) وقال له : أقعد حتى تسمع جواب ما قلت : ما كُنْتَ عندي قط ألأم منك الآن فهلا نصرته ! ولم قعدت عن بيعته ؟ فاني لو سمعت من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعلي ما عشت .
فقال سعد : والله إني لأحق بموضعك منك ، فقال معاوية : يأبى عليك ذلك بنو عذرة ، وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة ! قال النوفلي : وفي ذلك يقول السيد بن محمد الحميري :
سائل قريشاً بها إن كنت ذا عَمَهٍ * من كان أثْبَتَها في الدين أوتادا
من كان أقدمها سلماً ، وأكثرها * علماً ، وأطهرها أهلاً وأولادا
من وحَّد الله إذ كانت مكذبةً * تدعو مع الله أوثاناً وأندادا
من كان يُقْدِمُ في الهيجاء إن نكلوا * عنها وإن بخلوا في أزمة جادا
من كان أعدلها حكماً وأقسطها * حلماً ، وأصدقها وعداً وإيعادا
إن يَصْدُقُوك فلم يَعْدُوا أبا حسن * إن أنت لم تلق للأبرار حسادا
إن أنت لم تلق من تيم أخا صَلَف * ومن عديٍّ لحق الله جُحَّادا
--------------------------- 368 ---------------------------
أو من بني عامر أو من بني أسد * رَهْطِ العبيد ذوي جهل وأوغادا
أو رهط سعد وسعدكان قدعلموا * عن مستقيم صراط الله صَدَّادا
أقول : هكذا ، شاء الله تعالى بحكمته أن تنتهي بطون من قريش ، ولا يبقى لها وجود يذكر ، ويتناقص عدد بني هاشم بعد أن كانوا أربعين رجلاً عند البعثة ، ثم يتكاثروا من ذرية علي ( عليه السلام ) وعقيل . ويبقوا هم وبنو أمية أهم بطون قريش ، وجهاً لوجه !
وكأن دور أبيبكر وعمر دور المحلل ، ليوصلوا الخلافة إلى بني أمية ، ويوقفوهم على أرجلهم ضد بني هاشم ، ويعيدوا لهم الكرة على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! !
4 . أبو سفيان بكفر بالله جهاراً وعثمان يسكت !
تواترت الرواية بأن أبا سفيان كان ممتلئاً بالكفر ، فكان كلماته الخبيثة تطفح كما رأيت في احتفال بني أمية بخلافة عثمان !
وقد تقدمت رواىة ذلك .
وتكلم أبو سفيان بلغة المنافية المشتركة مع بني هاشم مقابل بني تيم وعدي قبيلتي أبيبكر وعمر فقال : ( يا بني عبد مناف ! تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ، ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة ) ! ( الطبري : 11 / 357 ) ، وفائق الزمخشري : 2 / 88 ، وأبا الفداء : 1 / 350 ، والسقيفة للجوهري / 87 ، وشرح النهج : 9 / 53 و : 15 / 175 ، وسبل الهدى : 10 / 91 ، ونفحات الأزهار : 3 / 13 ، وعين العبرة / 55 ) .
وقال في شرح نهج البلاغة ( 1 / 67 ) : ( أعطى أبا سفيان بن حرب مئتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر لمروان بن الحكم بمئة ألف ) .
5 . عثمان تأخذه المنافية أمام عائشة !
قطع عثمان مخصصات عائشة وحفصة فجاءتاه ، فقال لعائشة : « لا أجد لك موضعاً في الكتاب ولا في السنة وإنما كان أبوك وعمر يعطيانك بطيبة من أنفسهما ، وأنا لا أفعل ! قالت له : فأعطني ميراثي من رسول الله ) ! ( أمالي المفيد / 125 ) .
--------------------------- 369 ---------------------------
« وكان متكئاً فجلس وقال : ستعلم فاطمة أي ابن عم لها أنا اليوم ! ثم قال لهما : ألستما اللتين شهدتما عند أبويكما ، ولفقتما معكما أعرابياً يتطهر ببوله ، مالك بن أوس بن الحدثان ، فشهدتما معه أن النبي قال : لا نُوَرِّث » . ( المسترشد / 508 ) .
وفي كتاب سُليم بن قيس / 242 : « لا والله ولا كرامة لكما ولا نَعِمْتُ عنه ، ولكن أجيز شهادتكما على أنفسكما فإنكما شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله يقول : النبي لا يورث ، ما تركه فهو صدقة ! ثم لقنتما أعرابياً جلفاً يبول على عقبيه ويتطهر ببوله فشهد معكما ! ولم يكن في أصحاب رسول الله من المهاجرين ولا من الأنصارأحد شهد بذلك غيركما وغير أعرابي ! أما والله ما أشك أنه قد كذب على رسول الله وكذبتما عليه معه ، ولكني أجيز شهادتكما على أنفسكما ، فاذهبا فلاحق لكما ! فانصرفتا من عنده تلعنانه وتشتمانه » !
وفي رواية شرح النهج ( 9 / 5 ) أنهما تكلمتا في المسجد تحركان الناس على عثمان فقال : ( إن هاتين لفتانتان يحل لي سَبُّهُمَا ، وأنا بأصلهما عالم ! فقال له سعد بن أبي وقاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله ؟ فقال : وفيم أنت وما هاهنا ! ثم أقبل نحو سعد عامداً ليضربه ، فانسلَّ سعد فخرج من المسجد فاتبعه عثمان ، فلقي علياً بباب المسجد فقال له : أين تريد ؟ قال : أريد هذا الذي كذا وكذا يعنى سعداً يشتمه ، فقال له علي ( عليه السلام ) : أيها الرجل دع عنك هذا . قال فلم يزل بينهما كلام ، حتى غضبا ، فقال عثمان : ألست الذي خلفك رسول الله له يوم تبوك ! فقال علي : ألست الفار عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم أحد . قال : ثم حجز الناس بينهما ) .
وقول عثمان : « ولفقتما معكما أعرابياً » يكشف حديثهم المزعوم الذي انفرد به أبو بكر في نفي توريث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فجاؤوا ببدوي هو ابن الحدثان فشهد بقول أبيبكر ، فقال عثمان إنه جلفٌ لقنوه ما شهد به !
- *
--------------------------- 370 ---------------------------
الفصل الثالث والأربعون: نقمة المسلمين العامة على عثمان
نقمة المسلمين العامة على عثمان
1 . نقم المسلمون عامةً على عثمان
حكم عثمان بن عفان اثنتي عشرة سنة ، من أول سنة 24 إلى آخر سنة 35 هجرية . ( التنبيه والإشراف / 252 ) . وكان يفتخر بأنه يميز بني أمية ، فيسمي ذلك صلة رحم ويقول : لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها لبني أمية ليدخلوا الجنة كلهم !
وقد نقم عليه المسلمون تسليطه أقاربه على مقدرات الدولة ، فصاروا طبقة متحكمة مترفة مسرفة ، يكَسِّرُ بعضهم الذهب بالفؤوس ، بينما كثير من الناس يحتاجون القوت ليبقوا أحياء ، ويحتاجون الثوب ليستروا أنفسهم من العري ! وجاءت وفود المسلمين من الأمصار تشكو إلى عثمان ولاته ، وتطلب أن يكفهم عن ظلمهم ، فردهم عثمان !
وأخيراً جاؤوا من مصر وفداً من 700 رجل مرتين في سنتين ، بقيادة عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وهو من أصحاب بيعة الرضوان ، وجاء من البصرة مئتان ، ومن الكوفة مئتان ، وانضم إليهم ناس من المدينة ، وحاصروه وتفاوضوا معه شهراً أو أكثر وطلبوا منه تغيير ولاته أو خلع نفسه فلم يفعل ، فقتلوه ومنعوا دفنه في مقابرالمسلمين . وبعد مقتله خرج الثوار وأهل المدينة يهتفون لعلي ( عليه السلام ) قائلين : مالها غيرك يا أبا الحسن !
وبمجرد بيعة علي ( عليه السلام ) استنفرت قريش والأمويون فشنوا عليه حربين بشعار المطالبة بدم عثمان ، ولما حكم معاوية عمل لإعادة اعتبار عثمان وتعظيمه ، بحجة أنه قتل مظلوماً وهو يقرأ القرآن ، وأمر الرواة أن يضعوا أحاديث في مناقبه ، ثم كتب لهم : كثرت الأحاديث في عثمان فضعوا أحاديث في مناقب أبيبكر وعمر !
--------------------------- 371 ---------------------------
لهذا تبنى التاريخ الرسمي الدفاع عن عثمان ، فترى الطبري في الرياض النظرة ( 3 / 82 ) يكتب : ( ذكر ما نقم على عثمان مفصلاً ، والاعتذار عنه ، بحسب الإمكان ) .
وقوله حسب الإمكان ، يعني أن له أعمالاً لا يمكن تبريرها . ثم عدَّدَ ما نقم عليه المسلمون ومنه : عزله الولاة الصحابة وتوليته أشخاصاً من بني أمية منهم المنافق والفاسق ، ومن طرده النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وجعله بيت المال نهباً لهم ، وكان إذا رأى في الغنائم ذهباً يبعث به إلى نسائه وبناته .
وذكر مما نقموا عليه : أنه حبس عبد الله بن مسعود وأهانه ، ونفى جماعة من أعلام الصحابة منهم أبو ذر الغفاري ، وأنه قال لعبد الرحمن بن عوف إنه منافق ، وذلك عندما عاتبه الصحابة لماذا اختاره عثمان للبيعة فقال لهم : إني لا أعلم ما يكون ، والآن الأمر إليكم ، فبلغ قوله عثمان فقال إن عبد الرحمن منافق ، وإنه لا يبالي ما قال ! فحلف ابن عوف لا يكلمه ما عاش ومات وهو مهاجر له ! فقال الناس إن كان ابن عوف منافقاً كما قال عثمان فما صح اختياره له ولا بيعته ، وإن لم يكن منافقاً فقد فسق عثمان بهذا القول ، وخرج عن أهليته للإمامة .
ثم ذكر مما نقموا عليه : ضربه عمار بن ياسر لما جاء بكتاب الصحابة ينتقدونه .
وتركه إقامة حد الله تعالى على عبيد الله بن عمر ، لما قتل الهرمزان وقتَل جفينة وبنتاً صغيرة لأبي لؤلؤة ، فاجتمعت الصحابة عند عثمان ، وأمروه بقتل عبيد الله بن عمر قصاصاً بمن قتل ، وأشار علي بذلك ، فلم يقبله .
وذكر من مطاعنه : أنه خالف الجماعة بإتمام الصلاة بمنى ، مع علمه بأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبا بكر وعمر قصروا الصلاة فيها .
ثم ذكر مما نقموا عليه : أنه كان غادراً يخلف وعده ، فقد شكى اليه أهل مصر عامله ابن أبي السرح ، فولى عليهم من ارتضوه وهو محمد بن أبيبكر ، وتوجهوا إلى مصر ، ثم كتب إلى عامله ابن أبي سرح يأمره أن يأخذ محمد بن أبيبكر فيقطع يديه ورجليه ، فكان هذا سبب رجوعهم إلى المدينة ، وحصارهم عثمان وقتله .
وقد تقدم في فصل مالية عثمان اعتراض المسلمين على تبذيره الملايين ، بل المليارات !
--------------------------- 372 ---------------------------
2 . وكتبت له أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها
في نثر الدرر للآبي ( 2 / 45 ) : ( رويَ أن أم سلمة أرسلت إليه : يا بني ، ما لي أرى رعيتك عنك مزورين وعن جنابك نافرين ! لا تَعَف سبيلاً كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لحَبَها ، ولا تقدح بزند كان أكباها . توخَّ حيث توخى صاحباك ، فإنهما ثكما الأمر ثكماً ولم يظلماه ( اعتدلا ) . فأجابها عثمان : [ أما بعد فقد قلت ووعيت ، ووصيت فاستوصيت ، ولي عليك حق النصتة ، إن هؤلاء النفر رعاع غثرة ، تطأطأت لهم تطأطأ الدلاة ، وتلددت تلدد المضطر ، أرانيهم الحق إخواناً ، وأراهموني الباطل شيطاناً ، أجررت المرسون رسنه ، وأبلغت الراتع مسقاته ، فتفرقوا علي فرقاً ثلاثاً : فصامت صمته أنفذ من صول غيره ، وساع أعطاني شاهده ومنعني غائبه ، ومرخص له في مدة زينت في قلبه . فأنا منهم بين ألسن لداد ، وقلوب شداد ، وسيوف حداد ، عذيري الله منهم ، لاينهى عالم جاهلاً ، ولايردع أو ينذر حليم سفيهاً ، والله حسبي وحسبهم : يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) . وبلاغات النساء / 7 ، ومجمع الأمثال ( 2 / 363 ) وأمالي البغدادي ( 1 / 197 )
وتثبيت دلائل النبوة ( 1 / 241 ) .
3 . نَقَمَ عليه صهره ابن عوف الذي اختاره للخلافة !
في شرح النهج ( 9 / 56 ) : ( فقاموا إلى علي ، فقالوا : قم فبايع عثمان ، قال : فإن لم أفعل ، قالوا : نجاهدك ، قال : فمشى إلى عثمان حتى بايعه وهو يقول : صدق الله ورسوله . فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف فاعتذر إليه وقال : إن عثمان أعطانا يده ويمينه ولم تفعل أنت ، فأحببت أن أتوثق للمسلمين فجعلتها فيه . فقال : إيهاً عنك ، إنما آثرته بها لتنالها بعده ، دقَّ الله بينكما عطر منشم ) . يعني العداوة !
قال أبو الصلاح الحلبي في تقريب المعارف / 282 : ( ذكرالثقفي في تاريخه ، عن بلال بن الحارث قال : كنت مع عبد الرحمن جالساً فطلع عثمان حتى صعد المنبر ، فقال عبد الرحمن : فقدت أكثرك شعراً .
وذكر فيه : أن عثمان أنفد المسور بن مخرمة إلى عبد الرحمن يسأله الكف عن التحريض
--------------------------- 373 ---------------------------
عليه ، فقال له عبد الرحمن : أنا أقول هذا القول وحدي ! ولكن الناس يقولون جميعاً : إنه غير وبدل ! قال المسور : قلت : فإن كان الناس يقولون فدع أنت ما تقول فيه ، فقال عبد الرحمن : لا والله ما أجده يسعني أن أسكت عنه ، ثم قال له : قل له يقول لك خالي : إتق الله وحده لا شريك له في أمة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وما أعطيتني من العهد والميثاق : لتعملن بكتاب الله وسنة صاحبيك ، فلم تفِ . وذكر فيه : أن ابن مسعود قال لعبد الرحمن : هذا مما عملت ! فقال عبد الرحمن : قد أخذت إليكم بالوثيقة ، فأمركم إليكم ) .
وقال البلاذري ( 5 / 545 ) : ( لما توفّي أبو ذر بالربذة تذاكر علي وعبد الرحمن بن عوف فعل عثمان فقال علي : هذا عملك ! فقال عبد الرحمن : إذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي ، إنّه قد خالف ما أعطاني ! فقال عبد الرحمن : عاجلوه قبل أن يتمادي في ملكه ، فبلغ ذلك عثمان ، فبعث إلى بئركان يسقي منها نعم عبد الرحمن بن عوف فمنعه إياها . وإن عبد الرحمن بن عوف كان حلف ألَّا يكلَّم عثمان أبداً . أوصى أن لايصلِّي عليه عثمان ، فصلَّى عليه الزبير ، أو سعد بن أبي وقاص ، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ) .
وفي المعارف لابن قتيبة / 550 : ( أن عائشة كانت مهاجرة لحفصة حتى ماتتا . وكان عثمان بن عفان مهاجراً لعبد الرحمن بن عوف حتى ماتا ) .
واتهم أولاد عبد الرحمن عثمان بأنه سمه !
4 . ونَقَمَ عليه طلحة والزبير وعائشة وحفصة
تقدم غضب عائشة وحفصة عليه لما قطع عثمان مخصصاتهما ، ورده لهما لما طالبتا بإرثهما من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وكانت عائشة تجهر بالنقمة عليه وتصفه بأوصاف سيئة ، وتخرج قميض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو نعله وتقول إنهما لم يبليا وقد أبلى عثمان سنته !
فمن ذلك ما رواه عبد الرزاق في المصنف ( 11 / 355 ) : ( أقيمت الصلاة فتقدم عثمان فصلى ، فلما كبر قامت امرأة من حجرتها فقالت : أيها الناس إسمعوا ، قال : ثم تكلمت فذكرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما بعثه الله به ثم قالت : تركتم
--------------------------- 374 ---------------------------
أمر الله وخالفتم رسوله ، أو نحو هذا ، ثم صمتت فتكلمت أخرى مثل ذلك ، فإذا هي عائشة وحفصة . قال : فلما سلم عثمان أقبل على الناس فقال : إن هاتان لفتانتان ، فتنتا الناس في صلاتهم ، تنتهيان أو لأسبنكما ما حل لي السباب ، وإني لأصلكما لعالم قال : فقال له سعد بن أبي وقاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ قال : وفيمَ أنت وما هاهنا ؟ قال : ثم أقبل على سعد عامداً إليه ، قال : وانسل سعد ، فخرج من المسجد ) !
وروى الطبري ( 3 / 477 ) : ( أن عائشة لما انتهت إلى سَرَف ، راجعةً في طريقها من مكة ، لقيها عبد بن أم كلاب وهو عبد بن أبي سلمة ينسب إلى أمه ، فقالت له : مهيم ؟ قال : قتلوا عثمان فمكثوا ثمانياً . قالت : ثم صنعوا ماذا ؟ قال : أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز ، اجتمعوا على علي بن أبي طالب .
فقالت : والله ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك ! ردوني ردوني ! فانصرفت إلى مكة وهي تقول : قُتِلَ والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبن بدمه ! فقال لها ابن أم كلاب : ولم َ ، فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين : أقتلوا نعثلاً فقد كفر ! قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأول ! فقال لها ابن أم كلاب :
فمنك البداء ومنك الغِيَر * ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقنا * ولم ينكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا تدرإٍ * يزيل الشبا ويقيم الصعر
ويلبس للحرب أثوابها * وما من وفى مثل من قد غدر
فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحِجر فسترت ، واجتمع
إليها الناس فقالت : يا أيها الناس إن عثمان قتل مظلوماً ، ووالله لأطلبن بدمه ) !
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 3 / 3 ) : ( أما بعد فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى
--------------------------- 375 ---------------------------
يكون سمعه كعيانه : إن الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلاً من المهاجرين أكثر استعتابه وأقل عتابه ، وكان طلحة والزبيرأهون سيرهما فيه الوجيف ، وأرفق حدائهما العنيف ، وكان من عائشة فيه فلتة غضب . فأتيح له قوم فقتلوه ) .
5 . واجه علي ( عليه السلام ) ظلم عثمان لأبي ذر
1 . شهد الجميع أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه من خيرة أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال أبو ذر : ( كنت رابع الإسلام ، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع » . ( الحاكم : 3 / 341 ، وصححه ، ومجمع الزوائد : 9 / 327 ، ووثقه ) . ( وكان أبو ذر طويلاً عظيماً ) . ( الحاكم : 3 / 51 ) .
( آدم ، أبيض الرأس واللحية ) . ( الطبقات : 4 / 230 ) .
2 . وكان قائداً شجاعاً وعالماً تقياً ، شارك في فتح فلسطين والشام وقبرص ومصر ، وقد طمس رواة السلطة سيرته ودوره في الفتوحات ، لأنه واجه معاوية وعثمان ، وكان له نفوذ على جيش الفتح واحترام عند الجنود .
( كتب معاوية إلى عثمان : إن أبا ذر قد حرَف قلوب أهل الشام وبغَّضَكَ إليهم ، فما يستفتون غيره ، ولا يقضي بينهم إلا هو . فكتب عثمان إلى معاوية : أن احمل أبا ذر على ناب صعبة ) . ( تقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي / 266 ) .
3 . زعم معاوية أنه خليفة الله في ماله ، يقسمه ولايُسأل عما يفعل ! فواجهه أبو ذر قال ابن شهرآشوب في متشابه القرآن ( 1 / 123 ) : ( أول من أظهر الجبر في هذه الأمة معاوية ! ذلك أنه خطب فقال : يا أهل الشام أنا خازن من خزان ربي ، أعطي من أعطاه الله وأمنع من منعه الله بالكتاب والسنة ، فقام أبو ذر ( رحمه الله ) وقال : كذبت ! والله إنك لتعطي من منعه الله بالكتاب والسنة ، وتمنع من أعطاه الله !
فقام عبادة بن الصامت ثم أبو الدرداء وقالا : صدق أبو ذر ، صدق أبو ذر ! فنزل معاوية عن المنبر ، وقال : فنعم إذاً ، فنعم إذاً ) .
أي : كلامكم صحيح ، سأعمل به . لكن معاوية واصل نشر مذهب الجبر ونسبة أفعاله إلى الله تعالى ، وقد تبع في ذلك عثمان وعمر وأبا بكر !
--------------------------- 376 ---------------------------
وقد غطى بخاري على معاوية ، وروى الحديث مبتوراً ( 1 / 25 ) قال : ( سمعت معاوية خطيباً يقول : سمعت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : من يرد الله به خيراً يفقهه
في الدين ) . وقصده : يتفقه في الدين بطاعة معاوية ، لأنه خليفة الله في ماله !
وروى الثقفي في الغارات ( 2 / 639 ) وصف معاوية غارته على الحجاز واليمن : ( فقال : يا أمير المؤمنين أحمد الله فإني سرت في هذا الجيش أقتل عدوك ذاهباً وراجعاً ، لم ينكب رجل منهم نكبة ! فقال معاوية : اللهُ فعل ذلك لا أنت ! وكان الذي قتل بُسْر في وجهه ذاهباً وراجعاً ثلاثين ألفاً ) .
4 . قال ابن الأثير في النهاية ( 1 / 88 ) : ( في حديث أبي ذر أنه قال لفلان : أشهد أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إني أو إياك فرعون هذه الأمة ! يريد أنك فرعون هذه الأمة ، ولكنه ألقاه إليه تعريضاً لاتصريحاً كقوله تعالى : وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ . وهذا كما تقول : أحدنا كاذب ، وأنت تعلم أنك ، صادق ولكنك تعرض به ) . وكتم ابن كثىر اسم معاوىة !
5 . قال الطبري في تاريخه ( 3 / 335 ) : ( وفي هذه السنة أعني سنة 30 ، كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية ، وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب إشخاصه إياه منها إليها أمورٌ كثيرة ، كرهتُ ذكر أكثرها !
فأما العاذرون معاوية في ذلك فإنهم ذكروا في ذلك قصة ، كتب إلي بها إليَّ السري يذكر أن شعيباً حدثه عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال : لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول : المال مال الله ! ألا إن كان كل شئ لله كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ، ويمحو اسم المسلمين ، فأتاه أبو ذر فقال : ما يدعوك إلى أن تسمى مال المسلمين مال الله ؟ قال : يرحمك الله يا أبا ذر ، ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره ؟ قال : فلا تقله . قال : فإني لا أقول إنه ليس لله ، ولكن سأقول مال المسلمين . . وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول : يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء . بشر الَّذِيَن يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ ، بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ! فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك ، وأوجبوه على الأغنياء ، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس !
--------------------------- 377 ---------------------------
فكتب معاوية إلى عثمان إن أبا ذر قد أعضل بي ! وقد كان من أمره كيت وكيت ! فكتب إليه عثمان إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها فلم يبق إلا أن تثب ، فلا تنكأ القرح ، وجهز أبا ذر إليَّ وابعث معه دليلاً ، وزوده وارفق به وكفكف الناس ونفسك ما استطعت ، فإنما تمسك ما استمسكت ! فبعث بأبي ذر ومعه دليل ، فلما قدم المدينة ورأى المجالس في أصل سلع قال : بشرأهل المدينة بغارة شعْواء وحرب مِذْكار ! ودخل على عثمان فقال : يا أبا ذر ما لأهل الشام يشكون ذَرْبَك ( لسانك ) ؟ فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال مال الله ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالاً ! ثم كتب الطبري صفحتين في خلاف أبي ذر وعثمان ، ونفيه إلى الشام ثم إلى الربذة ، وكلها تدور حول اسم : مال الله وبعض إنفاقات عثمان !
واكتفى الطبري عن إبداء الرأي بقوله : ( وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة ، وأموراً شنيعة كرهتُ ذكرها ) .
أقول : منها : انتقاد أبي ذر إسراف معاوية ، وشربه الخمر ، وتجارته بالخمر .
ومنها : انتقاده تبذير عثمان في غنائم المسلمين المليونية والمليارية ، بينما كان بعض المسلمين يموت من الجوع والعري ! وكان أبو ذر يروي تحذير النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من بني أمية ، ويفسر ببني أمية قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . . ويفسر بهم آية الشجرة الملعونة في القرآن ، والقردة الذين رآهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ينزون على منبره يضلون الناس !
ويروي حديث : إذا بلغت بنو أمية ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دَخَلا .
وحديث : أول من يثلم الإسلام رجل من بني أمية .
وحديث : أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية .
وحديث : أكثر ما أتخوف على أمتي . . من يدعي أنه أحق بهذا الأمر من غيره .
وحديث : إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرقوا بينهما .
وحديث : أن معاوية يموت على غير ملتي ، يحشر يوم القيامة أسود الوجه .
ومنها : أن أبا ذر كان يَصْدَع بأحاديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في فضل عترته وإمامتهم ( عليهم السلام ) .
--------------------------- 378 ---------------------------
6 . في الدرجات الرفيعة / 243 : ( روى أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية عن جلام بن جندب الغفاري قال : كنت عاملاً لمعاوية على قنسرين والعواصم ، في خلافة عثمان ، فجئت يوماً أسأله عن حال عملي ، إذ سمعت صارخاً على باب داره يقول : أتتكم القطار تحمل النار ، اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له ! فارتاب معاوية وتغير لونه ، وقال : يا جلام أتعرف الصارخ ؟ فقلت : اللهم لا . قال : من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم ، فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ! ثم قال أدخلوه عليَّ فجئ بأبي ذر بين قوم يقودونه حتى وقف بين يديه ، فقال له معاوية : يا عدوَّ الله وعدو رسوله ، تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع ! أما أني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ! ولكني أستأذنه فيك !
قال جلام : وكنت أحب أن أرى أبا ذر ، لأنه رجل من قومي ، فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال خفيف العارضين في ظهره حناء ، فأقبل على معاوية وقال : ما أنا بعدوِّ الله ولا رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل أنت وأبوك عدوُّان لله ولرسوله ، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودعا عليك مرات أن لا تشبع ! سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : إذا ولي الأمة الأعين الواسع البلعوم الذي يأكل ولايشبع ، فلتأخذ الأمة حذرها منه .
فقال معاوية : ما أنا ذلك الرجل ! قال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ! أخبرني بذلك رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسمعته يقول وقد مررتَ به : اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب ! وسمعته يقول : إستُ معاوية في النار ! فضحك معاوية وأمر بحبسه ، وكتب إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية أن احمل جندباً إليَّ على أغلظ مركب وأوعره ، فوجه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف ليس عليها قتب ، حتى قدم به إلى المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد !
فلما قدم بعث إليه عثمان أن الحق بأي أرض شئت ! قال : بمكة . قال : لا . قال : بيت المقدس . قال : لا . قال : بأحد المصرين . قال : لا ، ولكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها
--------------------------- 379 ---------------------------
فلم يزل بها حتى مات ) ! ( شرح النهج : 8 / 257 ) .
وفي مروج الذهب ( 2 / 339 ) : ( فكتب معاوية إلى عثمان : إن أبا ذرتجتمع اليه الجموع ولا آمن أن يفسدهم عليك ، فإن كان لك في القوم حاجة فاحمله إليك ، فكتب اليه عثمان بحمله ، فحمله على بعيرعليه قتَبٌ يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به ( أي يسيرون بعنف . والصقلبي البلغاري - معجم البلدان : 3 / 416 ) . حتى أتوا به المدينة وقد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف ، فقيل له : إنك تموت من ذلك ، فقال : هيهات لن أموت حتى أنفى ! وذكر جوامع ما ينزل به بعدُ ، ومن يتولى دفنه ! فأحسن اليه عثمان في داره أياماً ، ثم دخل اليه فجلس على ركبتيه وتكلم بأشياء ، وذكر الخبر في ولد أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خَوَلًا ، وتكلم بكلام كثير ، وكان في ذلك اليوم قد أتيَ عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال ، فنثرت البِدَر حتى حالت بين عثمان وبين الرجل القائم ، فقال عثمان : إني لأرجو لعبد الرحمن خيراً ، لأنه كان يتصدق ويَقري الضيف وترك ما ترون .
فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين ، فشال أبو ذر العصا فضرب بها رأس كعب ، ولم يشغله ما كان فيه من الألم ، وقال : يا ابن اليهودي تقول لرجل مات وترك هذا المال : إن الله أعطاه خيرالدنيا وخيرالآخرة ، وتقطع على الله بذلك ، وأنا سمعت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً ! فقال له عثمان : وارِ عني وجهك ! فقال : أسيرالى مكة ، قال : لا والله ، قال : فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت ؟ قال : إي والله ، قال : فإلى الشام ، قال : لا والله . قال : البصرة ؟ قال : لا والله ، فاخترغير هذه البلدان ، قال : لا والله ما أختار غير ما ذكرت لك ، ولو تركتني في دار هجرتي ما أردتُ شيئاً من البلدان ، فسيرني حيث شئت من البلاد .
قال : فإني مسيرك إلى الربذة ، قال : الله أكبر ، صدق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد أخبرني بكل ما أنا لاق ! قال عثمان : وما قال لك ؟ قال : أخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة
--------------------------- 380 ---------------------------
وأموت بالربذة ، ويتولى مواراتي نفرممن يردون من العراق نحو الحجاز . وبعث أبو ذر إلى جمل له فحمل عليه امرأته وقيل ابنته ، وأمر عثمان أن يتجافاه الناس حتى يسير إلى الربذة ) .
وقد سأله عثمان أي البلاد أبغضها إليك ؟ فقال : الربذة ، فاستغل صدقه وسيره إليها !
7 . خرج جماعة من أهل الشام في وداع أبي ذر ، وعرضوا عليه النصرة ومنع معاوية من تسفيره ، ففي أمالي المفيد / 161 : ( فكتب معاوية إلى عثمان : أما بعد فإن أبا ذر يصبح إذا أصبح ويمسي إذا أمسى وجماعة من الناس كثيرة عنده ، فيقول كيت وكيت ، فإن كان لك حاجة في الناس قبلي فأقدم أبا ذر إليك ، فإني أخاف أن يفسد الناس عليك ، والسلام .
فكتب إليه عثمان : أما بعد فأشخص إليَّ أبا ذر حين تنظر في كتابي هذا ! فبعث معاوية إلى أبي ذر فدعاه وأقرأه كتاب عثمان وقال له : النجا الساعة ! فخرج أبو ذر إلى راحلته فشدَّها بكورها وأنساعها . فاجتمع إليه الناس فقالوا له : يا أبا ذر رحمك الله أين تريد ؟ قال : أخرجوني إليكم غضباً عليَّ ، وأخرجوني منكم إليهم الآن عبثاً بي ، ولا يزال هذا الأمر فيما أرى شأنهم فيما بيني وبينهم حتى يستريح بَرٌّ أو يُستراح من فاجر ، ومضى .
وسمع الناس بمخرجه فاتبعوه حتى خرج من دمشق ، فساروا معه حتى انتهى إلى دير مُرَّان ( خارج دمشق ) فنزل ونزل معه الناس ، فاستقدم فصلى بهم ثم قال :
أيها الناس إني موصيكم بما ينفعكم ، وتارك الخطب والتشقيق ، أحمدوا الله عز وجل ، قالوا : الحمد لله ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فأجابوه بمثل ما قال ، فقال : أشهد أن البعث حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأقرُّ بما جاء من عند الله ، فاشهدوا عليَّ بذلك ، قالوا : نحن على ذلك من الشاهدين . قال : ليُبَشَّر من مات منكم على هذه الخصال برحمة الله وكرامته ، ما لم يكن للمجرمين ظهيراً ، ولا لأعمال الظلمة مصلحاً ، ولا لهم معيناً !
أيها الناس : إجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضباً لله عز وجل إذا عُصِيَ في الأرض ولا تُرْضوا أئمتكم بسخط الله ، وإن أحدثوا ما لا تعرفون فجانبوهم وأزروا عليهم ، وإن عذبتم وحرمتم وسُيِّرْتم ( نفيتم ) حتى يرضى الله عز وجل ، فإن الله أعلا وأجل ، لا ينبغي أن يُسخط برضا المخلوقين .
--------------------------- 381 ---------------------------
غفر الله لي ولكم أستودعكم الله ، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله .
فناداه الناس أن سلام الله عليك ورحمك يا أبا ذر ، يا صاحب رسول الله ، ألا نردك إن كان هؤلاء القوم أخرجوك ، ألا نمنعك ؟ فقال لهم : إرجعوا رحمكم الله فإني أصبر منكم على البلوى ، وإياكم والفرقة والاختلاف .
فمضى حتى قدم على عثمان فلما دخل عليه قال له : لاقرَّب الله بعمرو عيناً ، فقال أبو ذر : والله ما سماني أبواي عمرواً ، ولكن لا قرَّب الله من عصاه ، وخالف أمره وارتكب هواه . فقام إليه كعب الأحبار فقال له : ألا تتقي الله يا شيخ تُجيب أمير المؤمنين بهذا الكلام ! فرفع أبو ذر عصاً كانت في يده فضرب بها رأس كعب ثم قال له : يا ابن اليهوديين ما كلامك مع المسلمين ! فوالله ما خرجت اليهودية من قلبك بعد ! فقال عثمان : والله لاجمعتني وإياك دار ! قد خرفت وذهب عقلك ! أخرجوه من بين يدي حتى تركبوه قتب ناقته بغير وطاء ، ثم أنخسوا به الناقة وتعتعوه حتى توصلوه الربذة ، فنزِّلوه بها من غير أنيس ، حتى يقضي الله فيه ما هو قاض . فأخرجوه متعتعاً ملهوزاً بالعصا ، وتقدم أن لايشيعه أحد من الناس ! فبلغ ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فبكى حتى بل لحيته بدموعه ، ثم قال : أهكذا يصنع بصاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إنا لله وإنا إليه راجعون !
ثم نهض ومعه الحسن والحسين وعبد الله بن العباس والفضل وقثم وعبيد الله ، حتى لحقوا أبا ذر فشيعوه ، فلما بصر بهم أبو ذر ( رحمه الله ) حنَّ إليهم وبكى عليهم وقال : بأبي وجوه إذا رأيتها ذكرت بها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وشملتني البركة برؤيتها . ثم رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إني أحبهم ولو قطعت إرباً إرباً في محبتهم ما زلتُ عنها ابتغاء وجهك والدار الآخرة ، فارجعوا رحمكم الله ، والله أسأل أن يخلفني فيكم أحسن الخلافة . فودعه القوم ورجعوا وهم يبكون على فراقه ) .
أقول : كان الذين عرضوا عليه أن يمنعوه في الشام قلة ، وكان مأموراً بعدم الثورة .
8 . وفي شرح النهج ( 3 / 57 ) : ( عن صهبان مولى الأسلميين ، قال : رأيت أبا ذر
يوم دخل به على عثمان ، فقال له : أنت الذي فعلت وفعلت ! فقال له أبو ذر :
--------------------------- 382 ---------------------------
نصحتك فاستغششتني ونصحت صاحبك فاستغشني ! فقال عثمان : كذبت ، ولكنك تريد الفتنة وتحبها ، قد أنغلت الشام علينا ! فقال له أبو ذر : اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام . قال عثمان : ما لك وذلك لا أم لك ! قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذراً إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فغضب عثمان وقال : أشيروا على في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنه قد فرق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الإسلام . فتكلم علي ( عليه السلام ) وكان حاضراً وقال : أشيرعليك بما قاله مؤمن آل فرعون : وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) .
ونحوه الحاكم : 4 / 480 .
وفي تفسير القمي ( 1 / 53 ) : ( فقال عثمان : يا أبا ذر إنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك ! ولولا صحبتك لرسول الله لقتلتك . فقال : كذبت يا عثمان أخبرني حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : لايفتنونك يا أبا ذر ولا يقتلونك . وأما عقلي فقد بقي منه ما أحفظه حديثاً سمعته من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيك وفي قومك . فقال : وما سمعت من رسول الله فيَّ وفي قومي ؟ قال : سمعت يقول إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثون رجلاً صيروا مال الله دُولاً ، وكتاب الله دََغلاً ، وعباده خَوَلاً ، والفاسقين حزباً ، والصالحين حرباً . فقال عثمان : يا معشرأصحاب محمد ، هل سمع أحد منكم هذا من رسول الله ؟ فقالوا : لا ، ما سمعنا هذا من رسول الله . فقال عثمان : أدع علياً فجاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له عثمان : يا أبا الحسن أنظر ما يقول هذا الشيخ الكذاب ! فقال أمير المؤمنين : مه يا عثمان لا تقل كذاب فإني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر . فقال أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صدق أبو ذر ، وقد سمعنا هذا من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فبكى أبو ذر عند ذلك فقال : ويلكم كلكم قد مد عنقه إلى هذا المال ، ظننتم أني أكذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ثم نظر إليهم فقال : من خيركم ؟ فقالوا : من خيرنا ؟ فقال : أنا . فقالوا : أنت تقول إنك خيرنا ؟ قال : نعم ، خلفت حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في هذه الجبة وهو عني راض ، وأنتم قد أحدثتم أحداثاً كثيرة ، والله سائلكم عن ذلك ولايسألني .
--------------------------- 383 ---------------------------
فقال عثمان : يا أبا ذر أسألك بحق رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا ما أخبرتني عن شئ أسألك عنه ، فقال أبو ذر : والله لو لم تسألني بحق محمد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أيضاً لأخبرتك . فقال : أي البلاد أحب إليك أن تكون فيها ؟ فقال : مكة حرم الله وحرم رسول الله أعبدالله فيها حتى يأتيني الموت . فقال : لا ولا كرامة لك . قال المدينة حرم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال : لا ولا كرامة لك . فسكت أبو ذر فقال عثمان : أي البلاد أبغض إليك أن تكون فيها ؟ قال : الربذة التي كنت فيها على غير دين الاسلام . فقال عثمان : سر إليها . فقال أبو ذر : قد سألتني فصدقتك وأنا أسألك فأصدقني ، قال : نعم . قال : أخبرني لو بعثتني في بعث من أصحابك إلى المشركين فأسروني فقالوا لا نفديه إلا بثلث ما تملك ؟ قال : كنت أفديك . قال : فإن قالوا لانفديه إلا بنصف ما تملك ؟ قال : كنت أفديك . قال : فإن قالوا لا نفديه إلا بكل ما تملك ؟ قال : كنت أفديك . قال أبو ذر : الله أكبر ، قال حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوماً : يا أبا ذر ، كيف أنت إذا قيل لك أي البلاد أحب إليك أن تكون فيها ؟ فتقول مكة حرم الله وحرم رسوله أعبدالله فيها حتى يأتيني الموت ، فيقال لك : لا ولا كرامة لك . فتقول : فالمدينة حرم رسول الله ، فيقال لك : لا ولا كرامة لك . ثم يقال لك : فأي البلاد أبغض إليك أن تكون فيها ؟ فتقول : الربذة التي كنت فيها على غير دين الإسلام ، فيقال لك : سر إليها ، فقلت : إان هذا لكائن ، فقال : إي والذي نفسي بيده إنه لكائن . فقلت : يا رسول الله أفلا أضع سيفي هذا على عاتقي فاضرب به قدماً قدماً ؟ قال : لا ، إسمع واسكت ولو لعبد حبشي ، وقد أنزل الله فيك وفي عثمان آية ، فقلت : وما هي يا رسول الله ؟ فقال : قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالآثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَاتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَمُحَرَّمٌ عَلَيْكُمُ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ . . ) .
--------------------------- 384 ---------------------------
9 . وروى في الكافي ( 8 / 206 ) ونهج البلاغة ( 2 / 12 ) عن أبي جعفر الخثعمي قال : ( لما سَيَّرَ عثمان أبا ذر إلى الربذة شيعه أمير المؤمنين وعقيل والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وعمار بن ياسر رضي الله عنه . فلما كان عند الوداع قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
يا أبا ذر ، إنك إنما غضبت لله عز وجل فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ! فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عما منعوك ، وستعلم من الرابح غداً والأكثر حُسَّداً . ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقاً ، ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً . فلا يؤنسك إلا الحق ، ولا يوحشك إلا الباطل . فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضتَ منها لأمنوك .
ثم تكلم عقيل فقال : يا أبا ذر أنت تعلم أنا نحبك ، ونحن نعلم أنك تحبنا ، وأنت قد حفظت فينا ما ضيع الناس إلا القليل ، فثوابك على الله عز وجل ، ولذلك أخرجك المخرجون وسيرك المسيرون ، فثوابك على الله عز وجل ، فاتق الله واعلم أن استعفاءك البلاء من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس ، فدع اليأس والجزع وقل : حسبي الله ونعم الوكيل .
ثم تكلم الحسن ( عليه السلام ) فقال : يا عماه إن القوم قد أتوا إليك ما قد ترى ، وإن الله عز وجل بالمنظر الأعلى ، فدع عنك ذكر الدنيا بذكر فراقها ، وشدة ما يرد عليك لرخاء بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو عنك راض إن شاء الله .
--------------------------- 385 ---------------------------
ثم تكلم الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا عماه إن الله تبارك وتعالى قادر أن يغير ما ترى وهو كل يوم في شأن . إن القوم منعوك دنياهم ومنعتهم دينك ، فما أغناك عما منعوك وما أحوجهم إلى ما منعتهم ، فعليك بالصبر فإن الخير في الصبر ، والصبر من الكرم ، ودع الجزع فإن الجزع لا يغنيك .
ثم تكلم عمار رضي الله عنه فقال : يا أبا ذر أوحش الله من أوحشك ، وأخاف من أخافك ، إنه والله ما منع الناس أن يقولوا الحق إلا الركون إلى الدنيا والحب لها ، ألا إنما الطاعة مع الجماعة ، والملك لمن غلب ، وإن هؤلاء القوم دعوا الناس إلى دنياهم فأجابوهم إليها ، ووهبوا لهم دينهم فخسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين .
ثم تكلم أبو ذر رضي الله عنه فقال : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي هذه الوجوه ، فإني إذا رأيتكم ذكرت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكم ومالي بالمدينة شجن لأسكن اليه غيركم ، وإنه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام ، فآلى أن يسيرني إلى بلدة ، فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة ، فزعم أنه يخاف أن أفسد على أخيه الناس بالكوفة ، وآلى بالله ليسيرني إلى بلدة لا أرى فيها أنيساً ولا أسمع بها حسيساً ، وإني والله ما أريد إلا الله عز وجل صاحباً وما لي مع الله وحشة ، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين ) .
10 . وفي شرح نهج البلاغة ( 8 / 252 ) عن الجوهري ، عن عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس : ألا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه . وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به ، وتحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً وعماراً ، فإنهم خرجوا معه يشيعونه فجعل الحسن يكلم أبا ذر ، فقال له مروان : إيهاً يا حسن ! ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ! فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك ، فحمل علي ( عليه السلام ) على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته ، وقال : تنح لحاك الله إلى النار !
فرجع مروان مغضباً إلى عثمان فأخبره الخبرفتلظى على علي ( عليه السلام ) . إلى أن قال : فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار وإلى بني أمية يشكو إليهم علياً ( عليه السلام ) فقال القوم : أنت الوالي عليه وإصلاحه أجمل . قال : وددت ذاك ، فأتواعلياً فقالوا : لو اعتذرت إلى مروان وأتيته ! فقال : كلا ، أما مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه ولكن إن أحب عثمان أتيته . فرجعوا إلى عثمان ، فأخبروه فأرسل عثمان إليه فأتاه ومعه بنو هاشم ، فتكلم علي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما ما وجدتَ عليَّ فيه من كلام أبي ذر ووداعه فوالله ما أردت مساءتك ، ولا الخلاف عليك ، ولكن أردت به قضاء حقه .
--------------------------- 386 ---------------------------
وأما مروان فإنه اعترض يريد ردي عن قضاء حق الله عز وجل ، فرددته رد مثلي مثله ، وأما ما كان مني إليك ، فإنك أغضبتني فأخرج الغضب مني ما لم أرده . فتكلم عثمان ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما ما كان منك إليَّ فقد وهبته لك ، وأما ما كان منك إلى مروان ، فقد عفا الله عنك ، وأما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق ، فأدن يدك فأخذ يده فضمها إلى صدره .
فلما نهض قالت قريش وبنو أمية لمروان : أأنت رجل ؟ جبهك عليٌّ وضرب راحلتك وقد تفانت وائل في ضرع ناقة ، وذبيان وعبس في لطمة فرس ، والأوس والخزرج في نسعة ! أفتحمل لعلي ما أتاه إليك ! فقال مروان : والله لو أردت ذلك ، لما قدرت عليه ) !
11 . في أمالي الطوسي / 710 : ( فخرج إلى الربذة وأقام مدة ثم أتى إلى المدينة ، فدخل على عثمان والناس عنده سماطين ، فقال : يا أمير المؤمنين إنك أخرجتني من أرضي إلى أرض ليس بها زرع ولا ضرع إلا شويهات ، وليس لي خادم إلا محررة ، ولا ظل يظلني إلا ظل شجرة ، فأعطني خادماً وغنيمات أعش فيها ، فحول وجهه عنه فتحول عنه إلى السماط الآخر فقال مثل ذلك ، فقال له حبيب بن سلمة : لك عندي يا أبا ذر ألف درهم وخادم وخمس مائة شاة . قال أبو ذر : أعط خادمك وألفك وشويهاتك من هو أحوج إلى ذلك مني ، فإني إنما أسال حقي في كتاب الله !
فجاء علي ( عليه السلام ) فقال له عثمان : ألا تغني عنا سفيهك هذا ! قال : أي سفيه ؟ قال : أبو ذر . قال علي : ليس بسفيه سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ، أصدق لهجة من أبي ذر ! أنزلْه بمنزلة مؤمن آل فرعون : وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ . قال عثمان : التراب في فيك . قال علي ( عليه السلام ) : بل التراب في فيك ! أنشد الله من سمع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول ذلك لأبي ذر ، فقام أبو هريرة وعشرة فشهدوا بذلك ، فولى علي ( عليه السلام ) ولم يجلس ) !
12 . أقوى روايات وفاته رواية إبراهيم بن هاشم القمي في تفسيره ( 1 / 294 ) قال : ( كان أبو ذر ( رحمه الله ) تخلف عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاثة أيام ، وذلك أن جمله كان أعجف فلحق بعد ثلاثة أيام به ، وقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره ، فلما
--------------------------- 387 ---------------------------
ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كن أبا ذر ، فقالوا : هو أبو ذر ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أدركوه بالماء فإنه عطشان ، فأدركوه بالماء ، ووافى أبو ذر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومعه إداوة فيها ماء ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أبا ذر معك ماء وعطشت ؟ فقال نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد ، فقلت لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا أبا ذر رحمك الله ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، يسعد بك قوم من أهل العراق ، يتولون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك .
فلما سير به عثمان إلى الربذة فمات بها ابنه ذر ، فوقف على قبره فقال :
رحمك الله يا ذر ، لقد كنت كريم الخلق باراً بالوالدين ، وما عليَّ في موتك من غضاضة ، وما بي إلى غير الله من حاجة ، وقد شغلني الاهتمام لك عن الإغتمام بك ، ولولا هول المطلع لأحببت أن أكون مكانك . فليت شعري ما قالوا لك وما قلت لهم ؟ ثم رفع يده فقال : اللهم إنك فرضت لك عليه حقوقاً ، وفرضت لي عليه حقوقاً ، فإني قد وهبت له ما فرضت لي عليه من حقوقي ، فهب له ما فرضت عليه من حقوقك ، فإنك أولى بالحق وأكرم مني .
وكانت لأبي ذر غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء يقال له النقار فماتت كلها ، فأصاب أبا ذر وابنته الجوع فماتت أهله ، فقالت ابنته : أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً فقال لي أبي : يا بنية قومي بنا إلى الرمل نطلب القتَّ وهو نبت له حب ، فصرنا إلى الرمل فلم نجد شيئاً ، فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينه قد انقلبت فبكيت وقلت له : يا أبت كيف أصنع بك وأنا وحيدة ؟ فقال : يا بنتي لا تخافي ، فإني إذا مت جاءك من أهل العراق من يكفيك أمري ، فإنه أخبرني حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في غزوة تبوك فقال : يا أبا ذر تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، يسعد بك أقوام من أهل العراق يتولون غسلك وتجهيزك ودفنك . فإذا أنا متُّ فمُدي الكساء
--------------------------- 388 ---------------------------
على وجهي ، ثم اقعدي على طريق العراق ، فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد توفي ، قال فدخل إليه قوم من أهل الربذة فقالوا : يا أبا ذر ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي . قالوا : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . قالوا : فهل لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني .
قالت ابنته : فلما عاين الموت سمعته يقول : مرحباً بحبيب أتى على فاقة ، لا أفلح من ندم ، اللهم خنقني خناقك ، فوحقك إنك لتعلم أني أحب لقاءك .
قالت ابنته : فلما مات مددت الكساء على وجهه ، ثم قعدت على طريق العراق ، فجاء نفر فقلت لهم : يا معشر المسلمين هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد توفي ، فنزلوا ومشوا يبكون ، فجاءوا فغسلوه وكفنوه ودفنوه ، وكان فيهم الأشتر ، فروي أنه قال : دفنته في حلة كانت معي قيمتها أربعة آلاف درهم .
فقالت ابنته : فكنت أصلي بصلاته وأصوم بصيامه ، فبينما أنا ذات ليلة نائمة عند قبره ، إذ سمعته يتهجد بالقرآن في نومي ، كما كان يتهجد به في حياته ، فقلت : يا أبة ماذا فعل بك ربك ؟ فقال : يا بنية ، قدمت على رب كريم ، فرضي عني ورضيت عنه ، وأكرمني وحباني ، فاعملي فلا تغتري ) .
وقال ابن الأعثم في الفتوح ( 2 / 372 ) : « فلما سووا عليه التراب قام الأشتر على قبره فحمد الله وأثنى عليه وذكر نبيه محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : اللهم هذا أبو ذر جندب بن جنادة بن سكن الغفاري صاحب رسولك محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، اتبع ما أنزلت من آياتك ، وجاهد في سبيلك ، ولم يغير ولم يبدل ، ولكن رأى منكراً فأنكره بلسانه وقلبه ، فحُقِّرَ وحُرم حتى افتقر ، وضُيع حتى مات غريباً في أرض غربة . اللهم فأعطه من الجنة حتى يرضى ، واقصم من طرده وحرمه ونفاه من مهاجره ، حرم رسولك محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
أقول : المرجح عندي رواية تفسير القمي ، وأن ذر ابن أبي ذر توفي ( رحمه الله ) في منفاهم بالربذة ، ثم توفيت زوجة أبي ذر ، وبقي هو مع ابنته ، رضي الله عنهم ، ثم هلكت أغنامه كما روت ابنته ، ثم توفي ودفنه مالك الأشتر وجماعته ، رضي الله عنهم .
--------------------------- 389 ---------------------------
6 . وواجه علي ( عليه السلام ) ظلم عثمان لعمار بن ياسر
1 . غضب عثمان على عمار وضربه مرتين ، وكانت الغضبة الثانية على أثر وفاة أبي ذر رضي الله عنه سنة 32 ، كما هو المشهور في وفاة أبي ذر ( تاريخ دمشق : 66 / 223 ) . فأمرعثمان غلمانه فضربوه ضرباً شديداً ، ثم داس هو بحذائه على بطنه وخصييه حتى أغمي عليه ، فغضب له علي ( عليه السلام ) وبنومخزوم ، فأحس عثمان بخطورة ما ارتكبه في حقه ، فتراجع عن قراره بنفيه .
قال ابن الأعثم ( 2 / 372 ) : لما بلغ عثمان وفاة أبي ذر رضي الله عنه ، قال : ( رحم الله أبا ذر ! فقال عمار بن ياسر : فرحم الله أبا ذر من كل قلوبنا ! فغضب عثمان ثم قال : يا كذا وكذا ( كلمة بذيئة نقلها البلاذري ) أتظن أني ندمت على تسييره إلى الربذة ! قال عمار : لا والله ما أرى ذلك ! قال عثمان : ادفعوا في قفاه ، وأنت فالحق بالمكان الذي كان فيه أبو ذر ، ولا تبرحه أبداً ما بقيت وأنا حي .
فقال عمار : والله إن جوار السباع لأحب إلي من جوارك ، ثم قام عمار فخرج من عنده . قال : وعزم عثمان على نفي عمار ، وأقبلت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالوا : إنه يا أبا الحسن قد علمت بأنا أخوال أبيك أبي طالب ، وهذا عثمان بن عفان قد أمر بتسييرعمار بن ياسر ، وقد أحببنا أن نلقاه فنكلمه في ذلك ونسأله أن يكف عنه ولا يؤذينا فيه ، فقد وثب عليه مرة ففعل به ما فعل وهذه ثانية ، ونخاف أن يخرج معه إلى أمر يندم ونندم نحن عليه . فقال ( عليه السلام ) : أفعل ذلك ، فلا تعجلوا ، فوالله لو لم تأتوني في هذا لكان ذلك من الحق الذي لا يسعني تركه ولا عذر لي فيه . قال : ثم أقبل علي رضي الله عنه حتى دخل على عثمان فسلم وجلس فقال : إتق الله أيها الرجل ، وكُفَّ عن عمار وغير عمار من الصحابة ، فإنك قد سيرت رجلاً من صلحاء المسلمين وخيار المهاجرين الأولين حتى مات في تسييرك إياه غريباً ، ثم إنك الآن تريد أن تنفي نظيره من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال عثمان : لأنت أحق بالمسير منه ، فوالله ما أفسد عليَّ عماراً وغيره سواك ! فقال علي رضي الله عنه : والله يا عثمان ! ما أنت بقادر
--------------------------- 390 ---------------------------
على ذلك ولا إليه بواصل ، فَرُمْ ذلك إن شئت ! وأما قولك : إني أفسدتهم عليك ، فوالله ما يفسدهم عليك إلا نفسك ، لأنهم يرون ما ينكروه فلايسعهم إلا تغيير ما يرون .
قال : ثم وثَبَ علي رضي الله عنه فخرج ، واستقبله الناس فقالوا له : ما صنعت يا أبا الحسن ؟ فقال : صنعت إنه قال لي كذا وكذا وقلت له كذا ، فقالوا له : أحسنت والله وأصبت يا أبا الحسن ! فوالله لئن كان هذا شأن عثمان ورأيه فينا ، كلما غضب على رجل منا نفاه إلى بلد غير بلده ، فلايموت أحد منا إلا غريباً في غير أهل ولا عشيرة ، وإلى من يوصي الرجل عند موته وبمن يستعين فيما ينويه !
والله لئن نموت في رحالنا خير لنا من حياة الأبد بالمكان الذي مات فيه أبو ذر .
قال : ثم أقبل علي ( عليه السلام ) على عمار بن ياسرفقال له : أجلس في بيتك ولاتبرح منه ، فإن الله تبارك وتعالى مانعك من عثمان وغير عثمان ، وهؤلاء المسلمون معك .
فقالت بنو مخزوم : والله يا أبا الحسن ! لئن نصرتنا وكنت معنا ، لاوصل إلينا عثمان بشئ نكرهه أبداً . وبلغ ذلك عثمان فكف عن عمار وندم على ما كان منه .
قال : وجعل لا يدخل عليه أحد من وجوه المسلمين إلا شكا إليه علي بن أبي طالب ، فقال له زيد بن ثابت : يا أمير المؤمنين ! أفلا أمشي إليه فأخبره بموجدتك عليه ؟ فقال عثمان : بلى إن شئت ذلك . قال فأقبل زيد بن ثابت ومعه المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي حتى دخلوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسلموا وجلسوا ، وبدأ زيد بن ثابت بالكلام فقال : أما بعد يا أبا الحسن ! فإن لك سلفاً صالحاً في الإسلام وأنت من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالمكان الذي لايعدله أحد فأنت للخير كله أهل ومعدن ، وأمير المؤمنين أصلحه الله عثمان بن عفان ابن عمك وولي أمر هذه الأمة ، وله عليك حقان ، حق القرابة وحق الولاية ، وقد شكاك إلينا وذكر أنك تعترض عليه في أمره ، وقد مشينا إليك نصحاً لك وكراهة أن يقع بينك وبين ابن عمك أمر نكرهه وتكرهه لكم صلحاء المسلمين .
فقال علي رضي الله عنه : والله ما أريد الاعتراض عليه في أمر من الأمور إلا أن يأتي منكراً ، فلا يسعنا أن نقول فيه إلا بالحق ، ولكن والله لأكفن عنه ما وسعني الكف .
--------------------------- 391 ---------------------------
قال : فتكلم المغيرة بن الأخنس فقال : والله لتكفَّن عنه شئت أو أبيت ، وهو والله أقدر عليك منك عليه ، وإنما بعثنا إليك لنكون له شهوداً عليك ، وليعذر فيما بينك وبينه ، فيكون له عليك الحجة بعد هذا اليوم .
قال : فغضب علي من كلام المغيرة ثم قال : يا ابن المغيرة الأبتر والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع ، يا ابن العبدالآبق ، أنت تكفني عنه !
فوالله ما أعز الله من أنت ناصره ! أخرج أبعد الله نواءك وأجهد بلاءك ، ثم أجهد بعدها جهدك ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت !
قال : فسكت المغيرة لا يقول شيئاً ! وتكلم زيد بن ثابت فقال : لا والله يا أبا الحسن ! ما جئناك لنكون عليك شهوداً ، ولكننا مشينا إليك التماساً للأجر في أن يصلح الله تبارك وتعالى بينك وبين ابن عمك ، وأن يجمع كلمتكم على أحسن الأحوال ، قال : فدعا له علي ولقومه بخير . ثم قام زيد بن ثابت والمغيرة بن الأخنس إلى عثمان ، فأخبراه بما كان من الكلام ) .
2 . ثم غضب عثمان على عمار بعد مدة من وفاة أبي ذر ، لما جاءه عمار بكتاب الصحابة الذين كتبوا فيه مخالفات عثمان للإسلام ، وهددوه إن لم يتب أن يخلعوه وروي أنهم كانوا خمسين ، لم يجرؤوا أن يأخذوا الكتاب إلى عثمان فانتدبوا عماراً !
قال ابن الأعثم : ( واجتمع نفر من أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم إنهم كتبوا كتاباً ، وذكروا فيه كل حدث أحدثه عثمان منذ يوم ولي الخلافة إلى ذلك اليوم ، ثم إنهم خوفوه في الكتاب ، وأعلموه أنه إن لم ينزع عما هو عليه خلعوه واستبدلوا به غيره . ثم أقبلوا على عمار بن ياسر وقالوا له : يا أبا اليقظان ! هل لك أن تكفينا هذا الأمر وتنطلق بالكتاب إلى عثمان ؟ فقال عمار : أفعله ، ثم أخذ الكتاب وانطلق إلى عثمان ، فإذا عثمان وقد لبس ثيابه وخفيه في رجليه ، فلما خرج من باب منزله نظر إلى عمار واقفاً والكتاب في يده فقال له : حاجة يا أبا اليقظان ؟ فقال عمار : مالي حاجة ، ولكنا اجتمعنا فكتبنا كتاباً نذكر فيه أموراً من أمورك لا نرضاها لك ، قال : ثم دفع إليه الكتاب فأخذه عثمان فنظر فيه حتى قرأ سطراً منه ثم غضب
--------------------------- 392 ---------------------------
ورمى به من يده ، فقال له عمار : لا ترم بالكتاب وانظر فيه حسناً ، فإنه كتاب أصحاب رسول الله وأنا والله ناصح لك ! فأمر عثمان غلمانه فضربوه ضرباً شديداً حتى وقع لجنبه ، ثم تقدم إليه عثمان فوطأ بطنه ومذاكيره حتى غشي عليه وأصابه الفتق ، فسقط لما به لا يعقل من أمر شيئاً ! واتصل الخبر ببني مخزوم فأقبل هشام بن الوليد بن المغيرة في نفر من بني مخزوم ، فاحتملوا عماراً من موضعه ذلك ، وجعلوا يقولون : والله لئن مات الآن لنقتلن به شيخاً عظيماً ) !
وقال البلاذري ( 5 / 537 ) : ( فأمرغلماناً له فمدوا بيديه ورجليه ثم ضربه عثمان برجليه وهي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق ، وكان ضعيفاً كبيراً .
وروى البلاذري : كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فأخذ منه عثمان ما حلَّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلَّموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه ، فخطب فقال : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيئ وإن رغمت أنوف أقوام ، فقال له عليٌّ : إذاً تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه ، وقال عمار بن ياسر : أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك ، فقال عثمان : أعليَّ يا ابن المَتْكَاء تجترئ ؟ خذوه فأخذ ودخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه ثم أخرج فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة زوج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلم يصل الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق توضأ وصلَّى وقال : الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله ، وقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي وكان عمار حليفاً لبني مخزوم فقال : يا عثمان أما علي فاتقيته وبني أبيه ، وأما نحن فاجترأت علينا وضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف ، أما والله لئن مات لأقتلن به رجلاً من بني أمية عظيم السرة ، فقال عثمان : وإنك لها هنا يا ابن القسرية ، قال : فإنهما قسريتان وكانت أمّه وجدته قسريتين من بجيلة ، فشتمه عثمان وأمر به فأخرج ، فأتى أم سلمة وإذا هي غضبت لعمار .
وبلغ عائشة ما صنع بعمار فغضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله ثم قالت : ما أسرع ما تركتم سنة نبيّكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد ، فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درى ما يقول فالتجَّ المسجد
--------------------------- 393 ---------------------------
وقال الناس : سبحان الله سبحان الله ، وكان عمرو بن العاص واجداً على عثمان لعزله إياه عن مصروتوليته إياها عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فجعل يكثر التعجب والتسبيح ، وبلغ عثمان مصير هشام بن الوليد ومن مشى معه من بني مخزوم إلى أم سلمة وغضبها لعمار ، فأرسل إليها : ما هذا الجمع ؟ فأرسلت اليه : دع ذا عنك يا عثمان ، ولا تحمل الناس في أمرك على ما يكرهون . واستقبح الناس فعله بعمار وشاع فيهم فاشتد إنكارهم له ) .
أقول : يبدو أن ضرب عثمان لعمار كان مرتين ، وأن الرواة خلطوا بينهما . ومهما يكن ، فقد اضطر تحت الضغط للتراجع عن قراره بنفي عمار .
3 . كان ياسر والد عمار من قبيلة عنس اليمنية ، وسكن مكة وتحالف مع بني مخزوم ،
وكان وزوجته وابنهما عمار من أوائل المسلمين ، فعذبهم أبو جهل رئيس مخزوم وجماعته وقالوا لهم : لاينجيكم منا إلا أن تنالوا محمداً وتبرؤوا من دينه ! فأما عمار فإنه أعطاهم بلسانه كل ما أرادوا منه ، وأما أبواه فامتنعا فقتلا ، وجاء عمار وهو يبكي فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما خبرك ؟ فقال : يا رسول الله ما تُركتُ حتى نلتُ منك وذكرت آلهتهم بخير ، فصار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يمسح عينيه فأنزل الله عز وجل فيه : مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان . فقال له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عمار إن عادوا فعد . فقد أنزل الله عز وجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا » . ( الكافي : 2 / 219 ) .
« صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ فأعطوهم ما سألوا . فلما كان العشي جاء أبو جهل فجعل يشتم سمية ويرفث ثم طعنها فقتلها » ! ( ابن شيبة : 8 / 448 ) .
4 . ومن كرامة عمار رضي الله عنه : أن قريشاً ألقته في النار فقال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : « يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم ، فلم يصله منها مكروه ! وقتلت قريش أبويه ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : صبراً آل ياسر موعدكم الجنة . ما تريدون من عمار ! عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان . عمار جلدة بين عيني وأنفي ، تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار » . ( رجال الطوسي : 1 / 127 ، والطبقات : 3 / 248 ) .
--------------------------- 394 ---------------------------
5 . غيَّبَ رواة السلطة دور عمار في مواجهة السقيفة ، ثم في حرب اليمامة والفتوحات ! على عادتهم تجاه علي ( عليه السلام ) وأصحابه وشيعته ! لكن النصوص القليلة التي وصلتنا تدل على أدواره . وكان والي الكوفة فنبه عمر إلى خطر الفرس وحثه على مواجهتهم ! فقد روى ابن الأعثم ( 2 / 290 ) ونحوه الطبري ( 3 / 209 ) رسالة عمار التاريخية إلى عمر الخليفة ، ينذره بأن الفرس جمعوا مئة وخمسين ألف جندي : « وأنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتكاتبوا وتواصوا وتواثقوا ، على أنهم يخرجوننا من أرضنا ويأتونكم من بعدنا . . . فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب وقرأه وفهم ما فيه ، وقعت عليه الرِّعدة والنَّفْضة حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه ! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد وجعل ينادي : أين المهاجرون والأنصار ! ألا فاجتمعوا رحمكم الله وأعينوني أعانكم الله » .
ووصفوا مجئ الصحابة وكلامهم وإعجاب عمر بكلام علي ( عليه السلام ) وقال : « ويحكم عجزتم كلكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن . . يا أبا الحسن ! فأشرعليَّ الآن برجل ترتضيه ويرتضيه المسلمون أجعله أميراً وأستكفيه من هؤلاء الفرس . فقال علي : قد أصبته ، قال عمر : ومن هو ؟ قال : النعمان بن مقرن المزني . فقال عمر وجميع المسلمين : أصبت يا أبا الحسن وما لها من سواه .
ثم أدار علي ( عليه السلام ) جبهة فارس وكان لحذيفة وسلمان وعمار أدوار أساسية فيها .
6 . وتنفس عمار الصعداء لما بايعت الأمة علياً ( عليه السلام ) ، فلازمه في خلافته حتى استشهد بين يديه في صفين ! وفي صفين ناظر عمرو بن العاص في يوم مشهود وأفحمه وفضحه وفضح إمامه معاوية ! وكان ينادي : « أيها الناس ! والله ما أسلم القوم ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر فلما وجدوا لهم أعواناً أظهروه » ! ( الجمل للمفيد / 19 ، ومناقب ابن سليمان : 2 / 356 ، ووقعة صفين / 216 ، بسند صحيح عندهم ) .
وفي شرح الأخبار ( 2 / 15 ) : « دعا عمار يوم صفين بشراب ، فأتي بضياح من لبن فشربه ثم قال : اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه . سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول لي : تقتلك الفئة الباغية ويكون آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن ، ثم تقدم إلى القتال فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه ) .
--------------------------- 395 ---------------------------
وفي الإحتجاج ( 1 / 266 ) عن الصادق ( عليه السلام ) : لما قتل عمار بن ياسر ارتعدت فرائص خلق كثير وقالوا : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : عمار تقتله الفئة الباغية ، فدخل عمرو على معاوية وقال : يا أمير المؤمنين قد هاج الناس واضطربوا ، قال : لماذا قال :
قتل عمار ! فقال قتل عمار فماذا ؟ قال : أليس قال رسول الله : تقتله الفئة الباغية ؟ فقال معاوية : دحضت في بولك ! أنحن قتلناه ؟ إنما قتله علي بن أبي طالب لما ألقاه بين رماحنا ، فاتصل ذلك بعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، قال : فإذاً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) هو الذي قتل حمزة لمَّا ألقاه بين رماح المشركين ) !
7 . قال الصدوق في كمال الدين / 531 : « وكيف يُصدق ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيما أخبر به في أمر عمار
بن ياسر أنه تقتله الفئة الباغية ، وفي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه تخضب لحيته من دم رأسه وفي الحسن بن علي ( عليه السلام ) أنه مقتول بالسم ، وفي الحسين بن علي ( عليه السلام ) أنه مقتول بالسيف ؟ ولا يصدق فيما أخبر به من أمر القائم ( عليه السلام ) ووقوع الغيبة به والتعيين عليه باسمه ونسبه ! بلى هو ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صادق في جميع أقواله ، مصيبٌ في جميع أحواله ، ولا يصح إيمان عبد حتى لا يجد في نفسه حرجاً مما قضى ، ويسلم له في جميع الأمور تسليماً » .
7 . واجه علي ( عليه السلام ) ظلم عثمان لابن مسعود
1 . اتفق المسلمون على جلالة الصحابي عبد الله بن مسعود الهذلي ، وروى السنة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرالمسلمين أن يأخذوا منه القرآن ، وروينا فيه مدحاً وذماً ، فهو أحد السبعة الذين شهدوا جنازة الزهراء ( عليها السلام ) ، وأحد الذين خطبوا في المسجد في وجه أبيبكر وأدانوا بيعته في السقيفة .
وقد روى عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أصول مذهب التشيع . وقبل علماؤنا فيه قول الفضل بن شاذان ( رحمه الله ) ( رجال الخوئي : 11 / 344 ) : ( لم يكن حذيفة مثل ابن مسعود ، لأن حذيفة كان ركناً ، وابن مسعود خلط ، ووالى القوم ومال معهم وقال بهم .
وقال ابن حجر في تقريبه : من السابقين الأولين ، ومن كبار العلماء من
--------------------------- 396 ---------------------------
الصحابة ، مناقبه جمة ، وأمره عمر على الكوفة ، ومات سنة اثنتين وثلاثين ، أو في التي بعدها بالمدينة . ثم قال السيد الخوئي : ويدل على أنه لم يتبع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولم يشايعه بل استقل في أمره : ما نقل من فتاواه في الفقه ، وما ورد من الروايات في تخطئته . . على هذا الأساس أثنى عليه السيد المرتضى في الشافي واستدل برواياته على المخالفين جدلاً ) .
2 . كان ابن مسعود والياً على بيت المال في الكوفة في زمن عمر ، وأول خلافة عثمان ، فاختلف مع واليه الوليد بن عقبة الأموي ، وأخذ ينتقد عثمان علناً ويذمه ، فعزله عثمان وأحضره إلى المدينة وضربه وكسر ضلعه ، ولم يكلم عثمان حتى مات ، وأوصى أن لا يصلي عثمان على جنازته .
قال البلاذري ( 5 / 516 ) : ( لما قدم الوليد الكوفة ألفي ابن مسعود على بيت المال ، فاستقرضه مالاً وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثم ترد ما تأخذ ، فأقرضه عبد الله ما سأله ، ثم إنه اقتضاه إياه فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود : إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال !
فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظن أني خازن للمسلمين ، فأما إذ كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك ، وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال ) .
قال المحب الطبري في الرياض النضرة / 363 : ( رأى صنيع الوليد في جوره وظلمه ، فعاب ذلك وجمع الناس بمسجد الكوفة ، وذكر لهم أحداث عثمان ثم قال : أيها الناس ، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم ، ثم يدعو خياركم فلايستجاب لهم !
وبلغه خبر نفي أبي ذر إلى الربذة فقال في خطبته بمحفل من أهل الكوفة : هل سمعتم قول الله تعالى : ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وعرَّض بذلك بعثمان ! فكتب الوليد بذلك إلى عثمان فأشخصه من الكوفة ، فلما دخل مسجد النبي أمر عثمان غلاماً له أسود فدفع ابن مسعود ! وأخرجه من المسجد ورمى به الأرض ! وأمر بإحراق مصحفه وجعل منزله حبسه ، ومنع عطاءه أربع سنين إلى أن مات ! وأوصى الزبير بأن لا يترك عثمان يصلي عليه .
--------------------------- 397 ---------------------------
وذكر المحب الطبري أنه نفاه إلى الربذة ثم أعاده : ( أخرج ابن مسعود إلى الربذة . وأشخصه إلى المدينة ، وهجره أربع سنين إلى أن مات مهجوراً ) .
3 . وكان له أتباع في الكوفة فعرضوا عليه الثورة على عثمان ، قالوا له : ( ألا تخرج فنخرج معك ؟ فقال لأن أزاول جبلاً راسياً أهون عليَّ من أن أزاول ملكاً مؤجلاً ) .
( الفتن لنعيم : 1 / 139 ) . وقد أخذ ذلك من علي ( عليه السلام ) فقد قال إن لبني أمية ملكاَ مؤجلاً ، وإنهم يغلبون في مدته من يخرج عليهم ) .
وقال ابن حجر في الإصابة ( 4 / 201 ) : ( لما بعث عثمان إلى بن مسعود يأمره بالقدوم إلى المدينة ، اجتمع الناس فقالوا أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شئ تكرهه ، فقال إن له على حق الطاعة ، ولا أحب أن أكون أول من فتح باب الفتن ) .
وقال الشريف المرتضى في الشافي ( 4 / 279 ) ملخصاً : ( ولا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود عليه ، وقوله فيه أشد القول وأعظمه ، كان يقول : ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب . قال لما حضره الموت : من يتقبل مني وصية أوصيه بها ، على ما بها ؟ فسكت القوم ، وعرفوا الذي يريد ، فأعادها فقال عمار بن ياسر : فأنا أقبلها ، فقال : ابن مسعود : لا يصلي عليَّ عثمان ، فقال ذلك لك . فيقال : إنه لما دفن جاء عثمان منكراً لذلك ، فقال له قائل : إن عماراً وليَ هذا الأمر ، فقال لعمار : ما حملك على أن لم تؤذني ؟ فقال له : إنه عهد إلي ألا أؤذنك !
ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه فأتاه عثمان عائداً فقال : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي . قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . قال ألا أدعو لك طبيباً ؟ قال : الطبيب أمرضني ، قال : أفلا آمر لك بعطائك ؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغن عنه ، قال : يكون لولدك ، قال : رزقهم على الله . قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمن ، فقال أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي !
وروى الواقدي بإسناده وغيره أن عثمان لما استقدمه المدينة دخلها ليلة جمعة ، فلما علم عثمان بدخوله ، قال : أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة ! من يمشي على طعامه يقئ ويسلح ! فقال ابن مسعود : لست كذلك ، ولكنني صاحب
--------------------------- 398 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم بدر ، وصاحبه يوم أحد ، وصاحبه يوم بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم الخندق ، وصاحبه يوم حنين . قال : فصاحت عائشة : أيا عثمان أتقول هذا لصاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال عثمان : أسكتي . ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود : أخرجه إخراجاً عنيفاً ، فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد فضرب به الأرض ، فكسر ضلعاً من أضلاعه ، فقال ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان .
قال الراوي : فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبد الله بن مسعود ورجلاه يختلفان على عنق مولى عثمان ، حتى أخرج من المسجد ، وهو الذي يقول فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : لساقا ابن أم عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أُحُد ) .
وقال أبو الصلاح الحلبي في تقريب المعارف / 275 : ( عن قيس بن أبي حازم وشقيق بن سلمة : قال عبد الله بن مسعود : لوددت أني وعثمان برمل عالج ، فنتحاثى التراب حتى يموت الأعجز منا . وقال : لا يعدل عثمان عند الله جناح بعوضة . . عن عبيدة السلماني قال : سمعت عبد الله يلعن عثمان ، فقلت له في ذلك فقال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يشهد له بالنار . بينا نحن في بيت ونحن اثنا عشر رجلاً نتذاكر أمر الدجال وفتنته ، إذ دخل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما تتذاكرون من أمر الدجال ، والذي نفسي بيده إن في البيت لمن هو أشد على أمتي من الدجال ، وقد مضى من كان في البيت يومئذ غيري وغيرعثمان ) !
وفي أنساب الأشراف ( 5 / 539 ) : ( وقد قيل أيضاً إن عثمان مرَّ بقبر جديد فسأل عنه فقيل قبر عبد الله بن مسعود ، فغضب على عمار لكتمانه إياه موته ، إذ كان المتولَّي للصلاة عليه والقيام بشأنه ، فعندها وطأ عماراً حتى أصابه الفتق ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 170 ) : ( فأقام ابن مسعود مغاضباً لعثمان حتى توفي وصلى عليه عمار بن ياسر ، وكان عثمان غائباً فسترأمره . فلما انصرف رأى عثمان القبر ، فقال : قبر من هذا ؟ فقيل : قبر عبد الله بن مسعود . قال : فكيف دفن قبل أن أعلم ؟ فقالوا : ولي أمره عمار بن ياسر ، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به ، ولم يلبث إلا يسيراً حتى مات المقداد ، فصلى عليه عمار ، وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به ، فاشتد غضب عثمان على عمار ، وقال : ويلي على ابن السوداء ! أما لقد كنت به عليماً ) .
--------------------------- 399 ---------------------------
وقال البلاذري ( 5 / 556 ) : ( فلم يبق أحد من أهل المدينة إلَّا حنق على عثمان ، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، حنقاً وغيظاً ) .
وقال الحاكم ( 3 / 313 ) : ( مات عبد الله ابن مسعود بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين وكان أوصى الزبير بن العوام فصلى عليه وقد قيل إن عمار بن ياسرصلى عليه ، ودفن بالبقيع ليلاًوهو ابن بضع وستين سنة ) .
4 . روى ابن مسعود أحاديث الشجرة الملعونة ، ففي الفتن لابن حماد ( 1 / 139 ) : ( سمعت عبد الله بن مسعود يقول : إن لكل شئ آفة تفسده ، وآفة هذه الدين بنو أمية ) .
كما روى عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أصول التشيع ، ففي الخصال للصدوق / 469 : ( جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال : يا أبا عبد الرحمن هل حدثكم نبيكم كم يكون بعده من الخلفاء ؟ فقال : نعم ، وما سألني أحد قبلك ، وإنك لأحدث القوم سناً ، نعم قال : يكون بعدي عدة نقباء موسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) )
وفي كفاية الأثر / 23 : ( عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر : تسعة من صلب الحسين ، والتاسع مهديهم ) .
وفي شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ( 1 / 153 ) : ( عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : من زعم أنه آمن بي وما أنزل علي وهو يبغض علياً ، فهو كاذب ليس بمؤمن ) .
وفي كامل الزيارات / 114 : ( عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : من كان يحبني فليحب ابني هذين ، فإن الله أمرني بحبهما ) .
وفي العمدة لابن البطريق / 55 : ( عن أبي وائل قال : قرأت في مصحف عبد الله ابن مسعود : إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل محمد على العالمين ) .
أقول : هذا من ابن مسعود تفسير ، ورواية .
وفي كمال الدين / 261 : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعلي ( عليه السلام ) : ( يا علي لا يحبك إلا من طابت ولادته ولا يبغضك إلا من خبثت ولادته ، ولا يواليك إلا مؤمن ، ولا يعاديك إلا كافر . فقام إليه عبد الله بن مسعود فقال : يا رسول الله قد عرفنا علامة
--------------------------- 400 ---------------------------
خبيث الولادة والكافر في حياتك ببغض علي وعداوته ، فما علامة خبيث الولادة والكافر بعدك إذا أظهرالإسلام بلسانه وأخفى مكنون سريرته ؟
فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا ابن مسعود علي بن أبي طالب إمامكم بعدي وخليفتي عليكم ، فإذا مضى فابني الحسن إمامكم بعده وخليفتي عليكم ، فإذا مضى فابني الحسين إمامكم بعده وخليفتي عليكم ، ثم تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد أئمتكم وخلفائي عليكم ، تاسعهم قائم أمتي ، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، لا يحبهم إلا من طابت ولادته ولا يبغضهم إلا من خبثت ولادته ، ولا يواليهم إلا مؤمن ، ولا يعاديهم إلا كافر . من أنكر واحداً منهم فقد أنكرني ، ومن أنكرني فقد أنكر الله عز وجل ، ومن جحد واحداً منهم فقد جحدني ، ومن جحدني فقد جحد الله
عز وجل ، لأن طاعتهم طاعتي وطاعتي طاعة الله ، ومعصيتهم معصيتي ومعصيتي معصية الله عز وجل .
يا ابن مسعود ! إياك أن تجد في نفسك حرجاً مما أقضي فتكفر ، فوعزة ربي ما أنا متكلف ولا ناطق عن الهوى في علي والأئمة من ولده . ثم قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو رافع يديه إلى السماء : اللهم وال من والى خلفائي ، وأئمة أمتي بعدي ، وعاد من عاداهم ، وانصر من نصرهم ، واخذل من خذلهم ، ولا تخل الأرض من قائم منهم بحجتك ظاهراً مشهوراً أو خافياً مغموراً ، لئلا يبطل دينك وحجتك وبرهانك وبيناتك .
ثم قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا ابن مسعود ، قد جمعت لكم في مقامي هذا ما إن فارقتموه هلكتم ، وإن تمسكتم به نجوتم ، والسلام على من اتبع الهدى ) .
5 . واجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عثمان واعترض عليه لظلمه عبد الله بن مسعود ، وأخذ ابن مسعود وهومغمى عليه إلى منزله : قال البلاذري ( 5 / 525 ) : ( احتمله يحموم غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه ، حتى ضرب به الأرض فدق ضلعه ! فقال علي ( عليه السلام ) : يا عثمان أتفعل هذا بصاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بقول الوليد بن عقبة ؟ فقال : ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة . فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال ، فقال علي ( عليه السلام ) : أحلت من زبيد على غير ثقة .
--------------------------- 401 ---------------------------
وقام عليٌّ بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله ، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي . وأراد حين برئ الغزوَ فمنعه من ذلك وقال له مروان : إن ابن مسعود أفسد عليك العراق أفتريد أن يفسد عليك الشام ؟ فلم يبرح المدينة حتى توّفي قبل مقتل عثمان بسنتين ، وكان مقيماً بالمدينة ثلاث سنين ) .
أقول : ساعد الله قلب علي ( عليه السلام ) على عثمان ، الذي كان يعبد بني أمية ، ويظلم المسلمين !
8 . اعترض علي ( عليه السلام ) على إبطال دم الهرمزان
1 . كان الهرمزان من خاصة كسرى ، وكان حاكم الأهواز ، فأسلم وسلم منطقته إلى المسلمين وساعدهم على فتح إيران . وهو أخ زوجة كسرى أم يزدجرد ، وقد سكن المدينة لمدة خمس سنين . وقد أسلم على يد علي ( عليه السلام ) وأعتقه ، فولاؤه له ، وكانت علاقته وثيقة مع عمر ، وحج معه ، وكان يستشيره في فتح إيران ، وقد شهد علي ( عليه السلام ) بأنه حسن إسلامه .
أما أبو لؤلؤة فهو مولى المغيرة بن شعبة ، ومن أقارب موالي عثمان بن عفان ، وكان من أهل نهاوند يصنع الأرحية ، أي دواليب المطاحن . وقد يذهب إلى بيت الهرمزان ، لكن لم يدع أحد أن الهرمزان له يد في قتل عمر !
وكان الهرمزان شخصية محترمة في المدينة ، قال ابن شبة في تاريخ المدينة ( 3 / 857 ) : « قال الهرمزان لعمر : إيذن لي أصنع طعاماً للمسلمين ؟ قال : إني أخاف أن تعجز ، قال : لا ، قال : فدونك . قال : فصنع لهم ألواناً من حلو وحامض ، ثم جاء إلى عمر فقال : قد فرغت فأقبل ، فقام عمر وسط المسجد فقال : يا معشر المسلمين أنا رسول الهرمزان إليكم ! فاتَّبعه المسلمون ، فلما انتهى إلى بابه قال للمسلمين : مكانكم ، ثم دخل فقال : أرني ما صنعته ، ثم دعا أحسبه قال بأنطاع ، فقال : ألق هذا كله عليها واخلطوا بعضه ببعض ! فقال الهرمزان : إنك تفسده ، هذا حلو وهذا حامض ! فقال عمر : أردت أن تفسد عليَّ المسلمين ! ثم أذن للمسلمين فدخلوا فأكلوا !
وكذلك فعل عمر مع راهب بصرى الشام ! ( تاريخ المدينة : 3 / 828 ) .
--------------------------- 402 ---------------------------
ولما طعن أبو لؤلؤة عمر ، سارع ابنه عبيد الله ، فقتل الهرمزان ، لمجرد أن أبا لؤلؤة فارسي من قومه ، وقتل جفينة وهو معلم نصراني ، وقتل طفلة أبي لؤلؤة !
روى عبد الرزاق في المصنف ( 5 / 478 ) عن عبد الرحمن بن أبيبكر قال : « فخرج عبيد الله ابن عمر مشتملاً على السيف حتى أتى الهرمزان فقال : إصحبني حتى ننظر إلى فرس لي ، وكان الهرمزان بصيراً بالخيل ، فخرج يمشي بين يديه فعلاه عبيد الله بالسيف ، فلما وجد حرَّ السيف قال : لا إله إلا الله ، فقتله .
ثم أتى جفينة ، وكان نصرانياً فدعاه فلما أشرف له علاه بالسيف ، فَصَلَّبَ بين عينيه ، ثم أتى ابنة أبي لؤلؤة جارية صغيرة تدعي الإسلام فقتلها ، فأظلمت المدينة يومئذ على أهلها ، ثم أقبل بالسيف صلتاً في يده وهو يقول : والله لا أترك في المدينة سبياً إلا قتلته وغيرهم ، وكأنه يعرض بناس من المهاجرين ، فجعلوا يقولون له : ألقِ السيف ويأبى ويهابون أن يقربوا منه ، حتى أتاه عمرو بن العاص فقال : أعطني السيف يا ابن أخي ! فأعطاه إياه ، ثم ثار إليه عثمان فأخذ برأسه فتناصيا حتى حجز الناس بينهما .
فلما وليَ عثمان قال : أشيروا عليَّ في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق ، يعني عبيد الله بن عمر فأشارعليه المهاجرون أن يقتله . وقال جماعة من الناس : أقُتِلَ عمر أمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم ، أبعد الله الهرمزان وجفينة ! قال : فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ، إنما كان هذا الأمر ولا سلطان لك ، فاصفح عنه يا أمير المؤمنين ! قال : فتفرق الناس على خطبة عمرو ، وودى عثمان الرجلين والجارية » .
2 . قال عبد الرزاق وابن سعد ( 3 / 356 ) إن حفصة دفعت أخاها عبيد الله إلى قتل الهرمزان ، فكان يقول : « يرحم الله حفصة فإنها ممن شجع عبيد الله على قتلهم » ! وقال ابن حزم ( المحلى : 11 / 395 ) قتلت جاريتين لها زعمت أنهما كتبتا لها سحراً !
3 . قال في الخرائج ( 1 / 212 ) : ( فلما قتل أبو لؤلؤة عمر ظن عبيد الله بن عمر أن الهرمزان قتل أباه ، فدخل المسجد وقتله فعرَّفوا عمر حاله فقال : أخطأ ، قتلني أبو لؤلؤة ، الهرمزان مولى علي بن أبي طالب ، ولا يرضى إلا بقتل عبيد الله فتوفي عمر وقام عثمان فلم يقتل عبيد الله . وقال علي ( عليه السلام ) : إن مكنني الله منه لأقتله . فلما قتل عثمان
--------------------------- 403 ---------------------------
هرب عبيد الله إلى معاوية وظفر به بصفين فقتله وهو مقلد بسيفين ) .
وقال اليعقوبي في تاريخه ( 2 / 163 ) : وأكثرَ الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر ، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ثم قال : ألا إني وليُّ دم الهرمزان وقد وهبته لله ولعمر وتركته لدم عمر ! فقام المقداد بن عمرو فقال : إن الهرمزان مولى لله ولرسوله وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله ! قال : فننظر وتنظرون ! ثم أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة وأنزله داراً » !
وقال البلاذري ( 6 / 130 ) : « فقال علي : أقد الفاسق فإنه أتى عظيماً ! قتل مسلماً بلا ذنب ! وقال لعبيد الله : يا فاسق لئن ظفرت بك يوماً لأقتلنك بالهرمزان » .
وقال المفيد في كتاب الجمل / 94 : ( ولما طالبه القوم للقود منه تعلل عثمان تارة بأن أباه قُتل ولا يرى قتله اليوم . . فلما رأى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دفْع عثمان الحد الواجب في حكم الله وتعلله في ذلك قال له : أما أنت فمطالب بدم الهرمزان يوم يعرض الله الخلق للحساب ! وأما أنا فأقسم بالله لئن وقعت عيني على عبيد الله بن عمر لأخذت حق الله منه ، وإن رغم آنف من رغم ، فاستدعى عثمان عبيد الله ليلاً ، وأمره بالهرب من أمير المؤمنين ، فخرج من المدينة ليلاً وقد أصحبه عثمان كتاباً أقطعه فيه قرية من قرى الكوفة وهي : كويفة ابن عمر ، فلم يزل بها حتى ولي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكان من جملة المعاندين له ، واجتهد في حربه مع جند الشام ، فقتله الله بغيضه ولقاه أعماله ، وكفى المسلمين شره ) .
أقول : صرح عمر بن الخطاب بأن علياً ( عليه السلام ) ولي دم الهرمزان ، لأنه مولاه ، وأشار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في هذا النص إلى ذلك ، وقال ( عليه السلام ) لما بلغه أن عثمان عفا عن دم الهرمزان ! ( سبحان الله لقد بدأ بها عثمان ! أيعفو عن حق امرئ ليس بوليه ، تالله إن هذا لهو العجب ! قالوا : فكان ذلك أول ما بدا من عثمان مما نُقم عليه ) . ( شرح النهج ( 9 / 55 ) .
ولم أجد متى أسلم الهرمزان على يد علي ( عليه السلام ) ، وذكرت رواية الخرائج أنه كان من سهم علي ( عليه السلام ) من غنائم تستر ، ولعله أسلم على يد سلمان في تستر وسلمان مولى علي ( عليه السلام ) ، ولعله طلب من حذيفة وكان قائد فتح تستر ، أن يرسله إلى علي ( عليه السلام ) .
--------------------------- 404 ---------------------------
4 . قال نصر بن مزاحم في وقعة صفين / 82 : ( لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام ، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص فقال : يا عمرو ، إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله ابن عمر ، وقد رأيت أن أقيمه خطيباً فيشهد على علي بقتل عثمان وينال منه .
فقال : الرأي ما رأيت ، فبعث إليه فأتى فقال له معاوية : يا ابن أخي إن لك اسم أبيك ، فانظر بملء عينيك ، وتكلم بكل فيك فأنت المأمون المصدق ! فاصعد المنبر واشتم علياً واشهد عليه أنه قتل عثمان . فقال : يا أمير المؤمنين ، أما شتميه فإنه علي بن أبي طالب ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، فما عسى أن أقول في حسبه . وأما بأسه فهو الشجاع المطرق . وأما أيامه فما قد عرفت : ولكني ملزمه دم عثمان . فقال عمرو : إذاً والله قد نكأت القرحة .
فلما خرج عبيد الله قال معاوية : أما والله لولا قتله الهرمزان ومخافة عليٍّ على نفسه ما أتانا أبداً ، ألم تر إلى تقريظه علياً ! فقال عمرو : يا معاوية إن لم تغلب فاخلب . فلما قام خطيباً تكلم بحاجته ، حتى إذا أتى إلى أمر عليٍّ أمسك ولم يقل شيئاً ، فقال له معاوية : ابن أخي إنك بين عيٍّ أو خيانة ! فبعث إليه : كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان ، وعرفت أن الناس محتملوها عني ، فهجره معاوية واستخف بحقه وفسَّقه ، فقال عبيد الله :
معاوي لم أخرص بخطبة خاطب * ولم أك عياً في لؤي بن غالب
ولكنني زاولت نفساً أبية * على قذف شيخ بالعراقين غائب
وقذفي علياً بابن عفان جهرة * يجدع بالشحنا أنوف الأقارب
فأما ابن عفان فأشهد أنه * أصيب بريئاً لابساً ثوب تائب
حرام على آهاله نتف شعره * فكيف وقد جازوه ضربة لازب
وقد كان فيها للزبير عجاجة * وطلحة فيها جاهد غير لاعب
وقد أظهرا من بعد ذلك توبةً * فيا ليت شعري ما هما في العواقب
فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه وقربه ، وقال : حسبي هذا منك ) .
--------------------------- 405 ---------------------------
5 . وجعله معاوية قائداً في صفين ، وله فيها أخبار ، منها :
( ثم نادى عمار عبيد الله بن عمر ، وذلك قبل مقتله فقال يا ابن عمر صرعك الله ! بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإسلام . قال : كلا ، ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم . قال : كلا ، أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشئ من فعلك وجه الله ، وإنك إن لم تقتل اليوم فستموت غداً . فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك ) . ( وقعة صفين / 320 ) .
وفي الفتوح لابن الأعثم ( 3 / 45 ) : ( وخرج الأشتر فجعل يجول في الميدان ويقول :
أرجو إلهي وأخاف ذنبي * وليس شيء مثل عفو ربي
قل لابن هند بغضكم في قلبي * أعظم من أحد ورب الحجب
قال : فخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطاب وهو يقول :
أنعي ابن عفان وأرجو ربي * ذاك الذي يخرجني من ذنبي
إن ابن عفان عظيم الخطب * أعظم من أحد ورب الحجب
إلا طعاني دونه وضربي * حسبي الذي أنوي به وحسبي
قال : ثم دنا الأشتر وليس يعرفه ، فقال له : من أنت أيها الفارس ! فإني لا أبارز إلا كفؤاً ، قال : أنا مالك بن الحارث النخعي ، قال : فصمت عبيد الله بن عمر ساعة ثم قال : يا مالك ! والله لو علمت أنك الداعي إلى البراز لما خرجت إليك ، فإن رأيت أن أرجع عنك فعلتَ مُنْعِماً ، فقال الأشتر : ألا تخاف العار أن ترجع عني وأنا رجل من اليمن وأنت فتى من قريش ! فقال : لا والله ما أخاف العار إذا رجعت عن مثلك ، فقال له الأشتر : فارجع إذاً ، ولا تخرج إلا إلى من تعرفه . قال : فرجع عبيد الله بن عمر إلى معاوية مذعوراً ، فقال له معاوية : ما شأنك يا ابن عمر ! فقال : لا تسأل عن شئ فإني انفلت من مخاليب الأسد الأسود الأشتر النخعي !
فقال معاوية : وهل هو إلا رجل مثلك ! قال : فأخرج أنت إليه ، فقال : أما إنه لو كان واقفاً في موضعه لخرجت إليه ، ولكنه قد انصرف إلى عسكره وأنت تعلم أني قد برزت إلى سعيد بن قيس وهو نظير الأشتر في الشجاعة والشدة ، فقال ابن عمر :
--------------------------- 406 ---------------------------
صدقت يا معاوية ! قد برزت إلى سعيد بن قيس ، ولكنك لم تثبت له ولو ثبت لما نجوت . فقال معاوية : والله لو برزت إلى صاحبه علي بن أبي طالب لما كعت عنه ! قال : فبينما هما كذلك وإذا بعلي بن أبي طالب قد برز حتى وقف بين الصفين على فرس رسول الله ثم نادى : يا ابن هند ! إني قد أقبلت إليك ، أسألك أن تحقن هذه الدماء وتبرز إلي وأبرز إليك فيكون الأمر لمن غلب ، قال : فسكت معاوية ولم ينطق بشئ ، فقال له ابن عمر : هذا ما كنا فيه ، فابرز الآن إلى علي كما زعمت ! قال : فما نطق معاوية !
وجال عليٌّ حوله ثم حمل على ميمنة معاوية فأزال الرجال ، ثم حمل على ميسرته فطحنها وكسر بعضهم على بعض ، وقتل منهم جماعة ، ثم رجع إلى موضعه ، ونظر عبيد الله بن عمر إلى معاوية فإذا هو قد أزبد وتغير ، وأنشأ عبيد الله يقول :
برزت إلى ابن ذي يزَنٍ سعيدٍ * وتترك في العجاجة من دعاكا
فهل لك في أبي حسنٍ عليٍّ * لعل الله يمكن من قفاكا
دعاك إلى البراز فكِعْتَ عنه * ولو بارزته تربت يداكا
وكنت أصمَّ إذ ناداك عنها * وكان سكوته عنها مناكا
فإن الكبش قد طحنت رحاه * بخطوتها ولم تطحن رحاكا
فما أنصفتَ صحبك يا ابن هندٍ * أترهبه وتغضب من كفاكا
فلا والله ما أضمرت خيراً * ولا أظهرت لي إلا جفاكا
قال : فغضب معاوية من كلام عبيد الله بن عمر ثم قال لعمرو : أبا عبد الله ، ألا تسمع كلام ابن عمر ! فقال عمرو : والله لقد صدق ابن عمر ولا يجمل بك ألا تبارز علياً إذا دعاك إلى المبارزة ، فقال معاوية : أظنك قد طمعت فيها يا عمرو !
فقال عمرو : ما طمعت فيها ، ولو طمعت فيها لكنت أهلاً لها ، ولكني أعلم أنه لا يجمل بك أن يكون ابن عمك يدعوك إلى البراز ، فلم تبرز إليه ) !
6 . جاء عبيد الله بن عمر رسولاً من معاوية إلى علي ( عليه السلام ) كما في وقعة صفين / 186 :
( فدخل على علي ( عليه السلام ) في عسكره فقال : أنت قاتل الهرمزان ، وقد كان أبوك فرض له في الديوان وأدخله في الإسلام ؟ فقال له ابن عمر : الحمد لله الذي جعلك تطلبني
--------------------------- 407 ---------------------------
بدم الهرمزان ، وأطلبك بدم عثمان بن عفان . فقال له على : لا عليك ، سيجمعني وإياك الحرب غداً ) .
( وبعث عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقال : إن لي إليك حاجة فالقني فلقيه الحسن ( عليه السلام ) فقال له عبيد الله : إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً ، وقد شنئوه فهل لك أن تخلفه ونوليك هذا الأمر ؟ قال : كلا والله ، لا يكون ذلك . ثم قال له الحسن ( عليه السلام ) : لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك ! أما إن الشيطان قد زين لك وخدعك ، حتى أخرجك مخلقاً بالخلوق ترى نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً .
قال : فوالله ما كان إلا كيومه أو كالغد وكان القتال ، فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء وهي الخضرية ، كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر ، ونظر الحسن ( عليه السلام ) فإذا هو برجل متوسد رجل قتيل قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله فقال الحسن ( عليه السلام ) لمن معه : أنظروا من هذا . فإذا هو برجل من همدان ، فإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، قد قتله وبات عليه حتى أصبح ثم سلبه ! فسأل الرجل من هو ؟ فقال : رجل من همدان وإنه قتله ، فحمد الله . وحِزْنا القوم حتى اضطررناهم إلى معسكرهم ) . ( وقعة صفين / 297 ) .
وروى ابن الأعثم ( 3 / 128 ) برواية أخرى فقال : ( أقبل معاوية على عبيد الله بن عمر بن الخطاب فقال له : يا ابن أخي ، هذا يوم من أيامك فلا عليك أن يكون منك اليوم بما يسر به أهل الشام ، قال : فخرج عبيد الله بن عمر وعليه درعان سابغان ، وعلى رأسه بيض وعمامة حمراء ، وهو متقلد سيف أبيه عمر بن الخطاب حتى وقف بين الجمعين ودعا إلى البراز قال : فذهب محمد بن الحنفية ليخرج إليه فصاح به علي : مكانك يا بني ! لا تخرج إليه فقال له : ولمَ ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فوالله إن لو دعاني إلى البراز أبوه لخرجت إليه . قال : ونظر عبيد الله بن عمر أنه ليس يخرج إليه أحد ، فحمل على ميسرة علي وفي الميسرة يومئذ ربيعة بن القيس وغيرهم من الناس ، فجعل يطعن في خيلهم وهو يقول :
--------------------------- 408 ---------------------------
أنا عبيد الله سماني عمر * خير قريش من مضى ومن عبر
إلا رسول الله والشيخ الأغر * قد أبطأت عن نصر عثمان مضر
وسارع الحي اليمانون الغرر * والخير في الناس قديما يبتدر
قال : فخرج إليه عبد الله بن سوار العبدي وهو يقول :
قد سارعت في حربها ربيعهْ * في الحق والحق لهم شريعهْ
ما نهتك الأستار كالقطيعه * في العصبة السامعة المطيعه
حتى تذوق كأسها القطيعة
ثم طعنه العبدي طعنة في خاصرته جدله قتيلاً . قال : واختلفوا في قتله فقال قوم : قتله حريث بن خالد ، وقالت همذان : بل قتله هانئ بن الخطاب .
وقالت حضرموت : بل قتله هانئ بن عمرو السبيعي ، وقالت بنو بكر : بل قتله محرز بن الصحصح ، وأخذ سيفه ذا الوشاح .
والخبر الصحيح أن الذي قتله عبد الله بن سوار العبدي ، وصار سيفه إلى معاوية ) .
- *
--------------------------- 409 ---------------------------
الفصل الرابع والأربعون: أصول سياسة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع عثمان
1 . مبدأ إدانة المخالفات والانحرافات
كان موقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ضد سياسات عثمان وانحرافاته واضحاً صريحاً ، لكنه لم يعلن الثورة عليه ، ولا شجع المعترضين على العنف كما فعل طلحة ، وكان يعالج الأمر ، يريد من عثمان أن يستجيب لهم ، ويريد منهم أن لايعنفوا .
وكان ( عليه السلام ) موضع ثقة الطرفين ، يوسطونه بينهم ، وكان عثمان يطلب منه أن يقنعهم أو يسكتهم . ولما رأى عثمان أنهم يهتفون باسم علي ويقولون : مالها غيرك يا أبا الحسن ، طلب منه أن يُغَيِّب وجهه عن المدينة حتى يقلَّ هتف الناس باسمه فخرج من المدينة ، ثم تأزم الأمر ونشط طلحة في الاستيلاء على بيت المال وخيل الصدقة وإبلها ، وتزعم المحاصرين لعثمان ، وهو يقول لهم : لا تمهلوه !
فأرسل عثمان إلى علي ( عليه السلام ) أن يحضرليساعده على المشكلة فجاء علي ( عليه السلام ) ونصح عثمان بتدابير منها عزل الولاة الذين نقم المسلمون عليهم ، ومنها اتخاذ قرارات تطمئن الناس ، لكن مروان خالف ذلك ، وأخذ الناس يهتفون باسم علي ( عليه السلام ) ، فطلب منه عثمان أن يخرج من المدينة ، فخرج . ثم تفاقم عمل طلحة والزبير والمحاصرين ، فأرسل عثمان إلى علي ببيت الممزق . قال البلاذري : ( كان طلحة قد استولى على أمر الناس في الحصار ، فبعث عثمان عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطَّلب إلى علي بهذا البيت :
فإن كنتُ مأكولاً فكن أنت آكلي * وإلا فأدركني ولما أُمَزَّقِ
--------------------------- 410 ---------------------------
وقال هشام بن الكلبي : هذا البيت للممزق العبدي ، واسمه شأس بن نهار بن الأسود بن حزيل ، وبه سمي الممزق . ففرق عليٌّ الناس عن طلحة .
فلما رأى ذلك طلحة دخل على عثمان فاعتذر ! فقال له عثمان : يا ابن الحضرمية ألَّبْتَ عَلَيَّ الناس ودعوتهم إلى قتلي ، حتى إذا فاتك ما تريد جئت معتذراً ، لا قبل الله ممن قبل عذرك ) . ( أنساب الأشراف : 5 / 568 ) .
2 . سياسة علي ( عليه السلام ) المركبة مع عثمان
وقد وصفها الشيخ المفيد في كتاب الجمل / 106 ، فقال : ( وأما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلم يكن تفرده عن نصرته وترك النهوض بالدفاع عنه خذلاناً له ، لرأي يستصوبه في خلعه وقتله ، بل كان رأيه ( عليه السلام ) تابعاً في ذلك لعقيدته فيمن تقدم عليه من الأمراء من كافة القوم ، وكان عالماً بعواقب الأمور ، غير شاك في المصالح ، يرى الموادعة والمهادنة والرقود والمسالمة إلى انقضاء المدة التي يعلم صواب التدبير فيها بذلك .
هذا مع أن المحفوظ من قوله فيه بعد قتله مما تختلف ظواهره وتشتبه معانيه ، كقوله ( عليه السلام ) وقتاً : والله ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله . وقوله ( عليه السلام ) حيناً : الله قتل عثمان . وقوله ( عليه السلام ) وقتاً آخر : والله ماغاضني قتل عثمان ولا سرني ، ولا أحببت ذلك ولا كرهته . وقوله ( عليه السلام ) حيناً آخر : أكبت الله قتلة عثمان . وقوله ( عليه السلام ) عند مطالبة القوم بقتلة عثمان : من قتل عثمان فليقم ، فقام أربعة آلاف من الناس المتحيزين إليه ، فقال : هؤلاء قتلة عثمان .
فصل : قد زعم الجاحظ أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان ممتحناً بعد قتل عثمان بمحن عظيمة ، قال : إن أقوال علي في عثمان إنما اختلفت وتناقضت بزعمه لأنه كان محتاجاً إلى التبرؤ من دمه لكف أهل البصرة وأهل الشام عنه بذلك ، وكان محتاجاً إلى إضافة دم عثمان إليه ، لاستصلاح رعيته وارتباطهم لنصرته .
وليس الأمر كما زعمه الجاحظ ولا القصد فيه كما توهمه ، وإنما حمل الجاحظ حال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيما زعمه على أحوال أهل الدنيا ومن لا دين له ولا يقين ولا تقوى ، بل كانت أفعال علي ( عليه السلام ) وأقواله التي أثبتناها فيما تقدم على الأغراض التي أنبأنا عنها
--------------------------- 411 ---------------------------
وأوضحنا عن اتفاقها ووفاقها للدين ) .
وروى ابن أبي الحديد ( 9 / 22 ) عن الجاحظ : ( أن علياً ( عليه السلام ) اشتكى فعاده عثمان من شكايته ، فقال علي :
وعائدة تعود لغير وُدٍّ * تودُّ لو أن ذا دَنَفٍ يموتُ
فقال عثمان : والله ما أدري أحياتك أحب إليَّ أم موتك ! إن مت هاضني فقدك ،
وإن حييت فتنتني حياتك ، لا أعدم ما بقيت طاعناً يتخذك رديئة يلجأ إليها . فقال علي ( عليه السلام ) : ما الذي جعلني رديئة للطاعنين العائبين ! إنما سوء ظنك بي أحلني من قلبك هذا المحل ، فإن كنت تخاف جانبي فلك على عهد الله وميثاقه أن لا بأس عليك مني ما بلَّ بحر صوفة ، وإني لك لراع ، وإني منك لمحام ، ولكن لاينفعني ذلك عندك . وأما قولك : إن فقدي يهيضك ، فكلا أن تهاض لفقدي ، ما بقي لك الوليد ومروان ) !
3 . استعمل علي ( عليه السلام ) النصح والتوبيخ لعثمان
قال ابن أبي الحديد ( 9 / 14 ) : ( وروى أبو العباس المبرد في الكامل عن قنبر مولى علي ( عليه السلام ) قال : دخلت مع علي على عثمان ، فأحبا الخلوة ، فأومأ إلى علي ( عليه السلام ) بالتنحي فتنحيت غير بعيد ، فجعل عثمان يعاتبه وعليٌّ مطرق ، فأقبل عليه عثمان وقال : مالك لا تقول ! قال : إن قلت لم أقل إلا ما تكره ، وليس لك عندي إلا ما تحب ! قال أبو العباس : تأويل ذلك : إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به عليََّ ، فلذعك عتابي ، وعقدي ألا أفعل وإن كنت عاتباً إلا ما تحب .
وعندي فيه تأويل آخر وهو : أني إن قلت واعتذرت فأي شئ حسنته من الأعذار لم يكن ذلك عندك مصدقاً ، ولم يكن إلا مكروهاً غير مقبول ، والله تعالى يعلم أنه ليس لك عندي في باطني وما أطوى عليه جوانحي إلا ما تحب ، وإن كنت لاتقبل المعاذير التي أذكرها ، بل تكرهها وتنبو نفسك عنها ) .
وفي أنساب الأشراف ( 5 / 532 ) : ( قالوا : وكتب عثمان إلى أمرائه في القدوم عليه
--------------------------- 412 ---------------------------
للذي رأى من ضجيج الناس وشكيتهم ، فقدم عليه معاوية من الشام ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح من المغرب ، وعبد الله بن عامر بن كريز من البصرة ، وسعيد بن العاص من الكوفة ، فأما معاوية فقال له : أعدني وعمالك إلى أعمالنا وخذنا بما تحت أيدينا ، وأشار عليه أيضاً بالمسير إلى الشام فأبى وقال : لا أخرج من مهاجر رسول الله وجوار قبره ومسكن أزواجه ، فعرض عليه أن يوجه اليه جيشاً يقيم معه فيمنع منه فقال : لا أكون أول من وطأ أصحاب رسول الله وأنصاره بجيش .
وأما سعيد بن العاص فقال له : إنما دعا الناس إلى الشكية وسوء القول الفراغ فاشغلهم بالغزو .
وأما ابن عامر فقال : إن الناس نقموا عليك في المال فأعطهم إياه ، فردهم إلى أعمالهم .
وقال علي : يا عثمان إن الحقّ ثقيلٌ مريئ ، وإن الباطل خفيفٌ وبيئ ، وإنك متى تُصدق تَسخط ، ومتى تُكذب تَرض .
وقال له طلحة : إنك قد أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها ، فقال عثمان : ما أحدثت حدثاً ، ولكنكم أظناء تفسدون عليَّ الناس وتؤلَّبونهم ) .
4 . محاولة عثمان شراء علي ( عليه السلام ) !
روى الزبير بن بكار عن علي ( عليه السلام ) ، قال : ( أرسل إليَّ عثمان في الهاجرة فتقنعت بثوبي وأتيته ، فدخلت عليه وهو على سريره وفى يده قضيب ، وبين يديه مال دثر : صبرتان من ورِق وذهب ، فقال : دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك ، فقد أحرقتني .
فقلت : وصلتك رحم ! إن كان هذا المال ورثته أو أعطاكه معطٍ ، أو اكتسبته من تجارة ، كنتُ أحد رجلين : إما آخذُ وأشكر ، أو أوفر وأجهد .
وإن كان من مال الله وفيه حق المسلمين واليتيم وابن السبيل ، فوالله مالك أن تعطينيه ولا لي أن آخذه ! فقال : أبيت والله إلا ما أبيت . ثم قام إليَّ بالقضيب فضربني ! والله ما أرد يده حتى قضى حاجته ! فتقنعت بثوبي ورجعت إلى منزلي وقلت : الله بيني وبينك إن كنت أمرتك بمعروف أو نهيتك عن منكر ) !
ونتحفظ على روايات ابن بكار لكن رواها أبو الصلاح في تقريب المعارف بنحوه / 261 ،
--------------------------- 413 ---------------------------
عن الثقفي وهو صاحب الغارات ومن أجلاء علمائنا ، ولم نجدها في كتابه الغارات ، وله كتب غيره ، قال : ( عن علي ( عليه السلام ) قال : دعاني عثمان فقال : أغن عني نفسك ولك عير أولها بالمدينة وآخرها بالعراق ، فقلت : بخ بخ قد أكثرت لو كان من مالك ، قال : فمن مال من هو ؟ قلت : من مال قوم ضاربوا بأسيافهم ، قال لي : أوَهناك تذهب ، ثم قام إلي فضربني حتى حجزه عني الربو ، وأنا أقول له : أما أني لو شئت لانتصفت ) .
أقول : الرواية مرسلة ، لكن توجد قرائن على صحتها ، ولا عجب من سلوك عثمان في الضرب بالدرة ، لكن العجب من علي ( عليه السلام ) كيف سكت هنا ولم يسكت في المسجد ورفع العصا على عثمان كما يأتي ؟
والجواب : أن القاعدة في سلوكه مع الذين أخذوا الخلافة فقال : ( لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري . ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جًوْرٌ إلا عليَّ خاصة ، التماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه ) . ( نهج البلاغة : 1 / 124 ) .
وفي هذه القصة جَوْرُ عثمان عليه خاصة ، وكأني به يضحك من ضربه حتى ضاق نَفَسه ، لأنه أبى أن يأخذ مما سرقه عثمان من بيت المال ! يضاف إلى ذلك أن غضب عثمان منه وضربه له كان في غرفة لم يره أحد ، وقد رواه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نفسه ، فهو شخصي محض ، وكان يردد على عثمان قوله : ولو شئت لانتصفت منك ، أي لاتضرب ، فلو شئت لضربتك .
ويدل قول ( عليه السلام ) : حَجَزَه عني الربو ، على أن عثمان كان مريضاً بالربو ، وأن الله لطف بعلي ( عليه السلام ) فضاق نفس عثمان وكف عن ضربه !
وكان عثمان في الثمانين من عمره ، لكنه وصف نفسه كما تقدم بأنه كان مستهتراً أي مولعاً بالنساء ، ولعله كان مدمن الزواج بالصغيرات ، فقد قال لابن مسعود : ( ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك ) ! ( مسلم : 4128 ) .
--------------------------- 414 ---------------------------
5 . علي ( عليه السلام ) يرفع العصا على عثمان !
روى الطبراني في الأوسط ( 7 / 367 ) : ( عن سعيد بن المسيب قال : كان لعثمان بن عفان آذن ، فكان يخرج بين يديه إلى الصلاة . قال : فخرج يوماً فصلى والآذن بين يديه ، ثم جاء فجلس الآذن ناحية ولف رداءه فوضعه تحت رأسه واضطجع ، ووضع الدرة بين يديه ، فأقبل علي في إزار ورداء وبيده عصا ، فلما رآه الآذن من بعيد قال : هذا علي قد أقبل ، فجلس عثمان فأخذ عليه رداءه فجاء حتى قام على رأسه وقال : اشتريت ضيعة آل فلان ولوقف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مائها حق ، أما إني قد علمت أنه لا يشتريها غيرك ! فقام عثمان وجرى بينهما كلام لا أورده حتى ألقى الله ! وجاء العباس فدخل بينهما ، ورفع عثمان على علي الدرة ، ورفع علي على عثمان العصا ، فجعل العباس يسكنهما ويقول لعلي : أمير المؤمنين ، ويقول لعثمان : ابن عمك فلم يزل حتى سكنا . فلما أن كان بالعشي من الغد رأيتهما وكل واحد منهما آخذ بيد صاحبه ، وهما يتحدثان ) !
أقول : اشترى عثمان حق السقي لأوقاف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفيه ظلم وجَوْرٌ على من يستفيد من الوقف ، فلا يصح السكوت عليه ، ولذلك لما رفع عثمان السوط ليضربه رفع علي ( عليه السلام ) العصا وهدده بأن يضربه إذاضربه ، فتراجع عثمان ! فالجور في القصة الأولى ظلم شخصي . وهنا ظلم على المستفيدين من الوقف النبوي .
وفرقٌ آخر : أن الأولى كانت في غرفة في بيت عثمان لم يحضره غيرهما . وهذه في المسجد أمام الناس ، وهذا جور عليه بعنوانه وشخصيته التي جعلها الله له وصياً للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإماماً وحجة على الأمة ، فلا يصح السكوت عليه . وهذا تمييز دقيق بين الجور على الشخص محضاً ، وعلى الشخص بالعنوان الشرعي ، وفقاهة من علي ( عليه السلام ) .
ويدل اصطحابه للعصا على أنه يعرف أخلاق عثمان جيداً ، وأنه إن طالبه بحق الوقف سيشتمه ويضربه على عادته ، فأحضرالعصا ليمنع عثمان من حماقته .
كما يدلك قول ابن المسيب إنه لن يقول كلام عثمان وجواب علي ( عليه السلام ) إلى آخر عمره ، على أن عثمان شتمه شتماً بذيئاً على عادته ، وقد تكرر ذلك من عثمان عند غضبه وقد روى عنه البلاذري وغيره السب بألفاظ قبيحة صريحة ! وهذا هو السبب في كذبهم في حديث
--------------------------- 415 ---------------------------
البخاري بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصفه بالحياء ، تغطية لبذاءة لسانه وعدم حيائه !
أما جواب علي ( عليه السلام ) فقد يكون تذكيراً لعثمان بأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعنه وحذر
من فتنته !
6 . حَمَّالُ الخطايا ، لا أعود اليه أبداً !
قال إسماعيل بن أبي خالد : جاء رجل إلى علي ( عليه السلام ) يستشفع به إلى عثمان ، فقال : حمال الخطايا ! لا والله لا أعود إليه أبداً . فآيسه منه ) . ( شرح النهج : 9 / 17 ) .
وجعل الإمام ( عليه السلام ) ( حمال الخطايا ) علماً لعثمان ففي الغارات ( 1 / 40 ) : ( عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت علياً على منبرالكوفة وهو يقول : يا معشر المسلمين يا أبناء المهاجرين ، انفروا إلى أئمة الكفر وبقية الأحزاب وأولياء الشيطان ، انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة ، لا ينقص من أوزارهم شيئاً ) .
وسماه به الإمام الحسين ( عليه السلام ) يوم منع بنو أمية دفن الإمام الحسن ( عليه السلام ) عند جده ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( قالوا : أيدفن أمير المؤمنين عثمان الشهيد القتيل ظلماً بالبقيع بشر مكان ، ويدفن الحسن مع رسول الله ! والله لا يكون ذلك أبداً حتى تكسر السيوف بيننا وتنقصف الرماح وينفد النبل . فقال الحسين ( عليه السلام ) : أما والله الذي حرم مكة لَلحسن بن علي بن فاطمة ( عليهم السلام ) أحق برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ، وهو والله أحق به من حمال الخطايا ، مُسَيِّر أبي ذر ( رحمه الله ) ، الفاعل بعمار ما فعل ، وبعبد الله ما صنع ، الحامي الحمى ، المؤوي لطريد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لكنكم صرتم بعده الأمراء ، وبايعكم على ذلك الأعداء وأبناء الأعداء ) !
7 . إن القوم ركبوك وغلبوك !
روى ابن أبي الحديد ( 9 / 24 ) : ( عن زيد بن أرقم قال : سمعت عثمان وهو يقول لعلي : أنكرت عليَّ استعمال معاوية ، وأنت تعلم أن عمراً استعمله !
قال علي : نشدتك الله ! ألا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه !
--------------------------- 416 ---------------------------
إن عمر كان إذا استعمل عاملاً وطأ على صماخه ، وإن القوم ركبوك وغلبوك ، واستبدوا بالأمر دونك . فسكت عثمان !
وأضاف ابن أبي الحديد : وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلم عنانه إلى مروان يصرفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ، ولعثمان في الاسم ، فلما انتقض على عثمان أمره استصرخ علياً ولاذ به وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذب عنه حين لا يغني الذب ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه ) .
8 . لماذا لا تطيعني كما أطعت عتيقاً وابن الخطاب ؟
وأضاف في شرح النهج : روى الواقدي في كتاب الشورى عن ابن عباس قال : شهدت عتاب عثمان لعلي ( عليه السلام ) يوماً ، فقال له في بعض ما قاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً ! فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ولست بدون واحد منهما ، وأنا أمسُّ بك رحماً ، وأقرب إليك صهراً ، فإن كنت تزعم أن هذا الأمر جعله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لك ، فقد رأيناك حين توفى نازعت ثم أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الأمر جدداً ، فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليا ، ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي ، فكن لي كما كنت لهما .
فقال علي ( عليه السلام ) : أما الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً ، وأسهل إليها سبيلاً ، ولكني أنهاك عما ينهاك الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنه ، وأهديك إلى رشدك . وأما عتيق وابن الخطاب فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، ومالي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين ! فإما ألا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع فقد أصاب السهم الثغرة . وإما أن يكون حقي دونهم فقد تركته لهم ، طبت به نفساً ، ونفضت يدي عنه استصلاحاً .
وأما التسوية بينك وبينهما فلست كأحدهما ، إنهما وليا هذا الأمرفظلفا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعِمْتَ فيه وقومك عَوْم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو ، وانظر هل بقي من عمرك إلا كَظِمْءِ الحمار ( مدة قصيرة ) فحتى متى وإلى متى ! ألا تنهى
--------------------------- 417 ---------------------------
سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم ! والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس ، لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك .
قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى وافعل واعزل من عمالي كل من تكرهه ويكرهه المسلمون . ثم افترقا ، فصده مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجترئ عليك الناس ، فلا تعزل أحداً منهم ) !
قوله ( عليه السلام ) : وليا هذا الأمر فظلفا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعِمْتَ فيه وقومك عَوْم السابح في اللجة : معناه أن أبا بكر وعمر لم يمعنا في الإسراف والبذخ مثلك ، ولم يسلطا أقاربهما وعشيرتهما على أموال المسلمين كما فعلت ، فسبحت أنت وعشيرتك في أموال المسلمين وغرقتم في لجة بحر إثمكم ، وسرقة الأموال .
يضاف إلى ذلك : أن أبا بكر وعمر سمعا كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حرب طليحة ومسيلمة ، وأطلقا يده في كثىر من الأمور ، بينما لم يكن عثمان يسمع كلامه ، وكان يقلد مناصب الدولة وبيوت الأموال للفاسق والجاهل والأموي السخيف ، ويسلطه على مقدرات المسلمين !
9 . نموذج من الليونة السياسية بين عثمان وعلي ( عليه السلام )
روى الزبير بن بكار في الموفقيات ( 1 / 342 ) : ( عن ابن عباس قال : صليت العصر يوماً ، ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه ، فقال لي : هل رأيت علياً ؟ قلت : خلفته في المسجد ، فإن لم يكن الآن فهو في منزله ، قال : أما منزله فليس فيه ، فابغه لنا في المسجد ، فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا علي يخرج منه .
قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند علي ، فذكر عثمان وتجرمه عليه ، وقال : أما والله يا ابن عباس إن من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه . فقلت له : يرحمك الله كيف لك بهذا ! فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع ؟ قال : أعتل وأعتل فمن يقسرني ؟ قال : لا أحد . قال ابن عباس : فلما تراءينا له وهو
--------------------------- 418 ---------------------------
خارج من المسجد ، ظهر منه التفلت والطلب للانصراف ما استبان لعثمان ، فنظر إلي عثمان وقال : يا ابن عباس ، أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا ! فقلت له : ولم وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم . فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام ، فرد عليه ، فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا . فقال علي : أي ذلك أحببت ؟ قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده ، فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه فنكصت عنهما فدعواني جميعاً فأتيتهما ، فحمد عثمان الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ثم قال : أما بعد يا ابني خالي وابني عمي ، فإذا جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية عن رضاي على أحدكما ، ووجدي على الآخر . إني أستعذركما من أنفسكما ، وأسألكما فيئتكما ، وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس ما انتصرت إلا بكما ، ولو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما . ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره ، ويعظم الخطر فيه ، ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما فمنعني الله والرحم مما أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله إلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما فيَّ ، وما تنطويان لي عليه ، وتصدقا فإن الصدق أنجى وأسلم ، وأستغفر الله لي ولكما .
قال ابن عباس : فأطرق علي ( عليه السلام ) وأطرقت معه طويلاً ، أما أنا فأجللته أن أتكلم قبله ، وأما هو فأراد أن يجيب عني وعنه ، ثم قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك ؟ قال : بل تكلم عني وعنك ، فحمدت الله وأثنيت عليه وصليت على رسوله ، ثم قلت : أما بعد ، يا ابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا ، وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك ، زعمت ، عن أحدنا ، ووجدك على الآخر ، وسنفعل في ذلك ، فنذمك ونحمدك اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذم مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلا ظناً ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فيئتك استيهابك إيانا فيئتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنا معا أيما حمدت وذممت منا ، كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا اختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله .
فوالله ما تعلمنا غيرمعذرين فيما بيننا وبينك ولا تعرفنا غير قانتين عليك ، ولا تجدنا
--------------------------- 419 ---------------------------
غير راجعين إليك ، فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا .
وأما قولك : لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما ، أو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ، ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :
بدا بحترٌ ما رام نالَ وإن يرمْ * نخض دونه غمراً من العز رائمه
لنا ولهم منا ومنهم على العدى * مراتب عز مصعدات سلالمه
وأما قولك في هيج العدو إياك علينا ، وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلا وقد أتانا بأعظم منه ، مما أراد منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلا أدياننا وأعراضنا ومروءاتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوفنا منه على أنفسنا ، وراقبنا منه ما راقبت .
وأما مساءلتك إيانا فيك ، وما ننطوي عليه لك ، فإنا نخبرك أن ذلك إلى ما تحب ، لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به . وقد برأت أحدنا وزكيته ، وأنطقت الآخر وأسكته ، وليس السقيم منا مما كرهت بأنطق من البرئ فيما ذكرت ، ولا البرئ منا مما سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت . فإما جمعتنا في الرضا ، وإما جمعتنا في السخط لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك ، مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا ، وأظهرنا لك ذات أنفسنا ، وصدقناك ، والصدق كما ذكرت أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقض والغدر مسجد رسول الله وموضع قبره ، واصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك .
قال ابن عباس : فنظر إليَّ علي نظرة هيبة وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه ، فوالله لو ظهرت له قلوبنا ، وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه ، كما يسمع الخبر عنه بأذنه ، ما زال متجرماً منتقماً ، والله ما أنا مَلْقىً على وضمة ، وإني لمانع ما وراء ظهري ، وإن هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة .
فقال عثمان : مهلاً أبا حسن ، فوالله إنك لتعلم أن رسول الله وصفني بغيرذلك يوم يقول وأنت عنده : إن من أصحابي لقوماً سالمين لهم ، وإن عثمان لمنهم ، إنه
--------------------------- 420 ---------------------------
لأحسنهم بهم ظناً وأنصحهم لهم جيباً ، فقال علي : فصدِّق قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بفعلك ، وخالف ما أنت الآن عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت .
قال عثمان : تثق يا أبا الحسن ؟ قال : نعم ، أثق ولا أظنك فاعلاً . قال عثمان : قد وثقت ، وأنت ممن لا يخفر صاحبه ، ولا يكذب لقيله . قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثم افترقا ، فوالله ما مرت ثالثة حتى لقيني كل واحد منهما يذكر من صاحبه ما لاتبرك عليه الإبل . فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها ) .
أقول : كلام ابن عباس فىه مدح لنفسه ، وهو مجمل مبهم ، على عادته فيما يتعلق بشخص الخليفة ، وقول عثمان إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وصفه بأنه من صحابته السالمين ، لا يصح ، فقد روى أبو ذر وعلي وعائشة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لعنه وذمه . وسبب حرص عثمان على إرضاء علي ( عليه السلام ) مكانة علي ( عليه السلام ) العظيمة عند الناس ، كما يتضح منه يأس الإمام ( عليه السلام ) من إصلاح عثمان فهو يعد ولا يفي ، لأن مروان سيطر عليه ، والوليد بن عقبة الخمار !
10 . تحير عثمان في علي ( عليه السلام )
في الموفقيات ( 1 / 345 ) : ( مرض عليٌّ فعاده عثمان ومعه مروان بن الحكم ، فجعل عثمان يسأل علياً عن حاله وعلي ساكت لا يجيبه ، فقال عثمان : لقد أصبحت يا أبا الحسن مني بمنزلة الولد العاق لأبيه ، إن عاش عقه وإن مات فجعه . فلو جعلت لنا من أمرك فرجاً ، إما عدواً أو صديقاً ، ولم تجعلنا بين السماء والماء .
أما والله لأنا خير لك من فلان وفلان ، وإن قتلت لا تجد مثلي .
فقال مروان : أما والله لا يرام ما وراءنا حتى تتواصل سيوفنا وتقطع أرحامنا . فالتفت إليه عثمان وقال : أسكت لا سكتَّ ، وما يدخلك فيما بيننا ) !
( اشتكى فعاده عثمان فقال : ما أراك أصبحت إلا ثقيلاً ! قال : أجل ، قال : والله ما أدري أموتك أحب إلي أم حياتك ! إني لأحب موتك ، وأكره أن أعيش بعدك ، فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجاً ، إما صديقاً مسالماً وإما عدواً مغالباً ، وإنك لكما قال أخو إياد :
--------------------------- 421 ---------------------------
جَرَّت لما بيننا حبلُ الشموس فلا * يأساً مبيناً نرى منها ولا طمعا
فقال علي ( عليه السلام ) : ليس لك عندي ما تخافه وإن أجبتك لم أجبك إلا بما تكرهه ) . ( شرح النهج : 9 / 23 ) .
أقول : كان عثمان أكبر سناً من علي ( عليه السلام ) بنحو 25 سنة ، فقد توفي عثمان سنة 35 هجرية وعمره اثتان وثمانون سنة ، وقيل ست وثمانون . ( الإستيعاب : 3 / 1048 ) واستشهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سنة 40 ، وعمره ثلاث وستون سنة . ويدل وصفه لعلي ( عليه السلام ) بأنه كالولد العاق على شعوره بقرابة علي ( عليه السلام ) لأنهما من بني عبد مناف ، وعلى تبرمه من انتقاده لمخالفاته لأحكم الإسلام ، كما يؤكد تحيره في علي ( عليه السلام ) هل هو عدو أو صديق ، على السياسة المركبة التي اعتمدها علي ( عليه السلام ) معه ، فهو يدافع عنه ما استطاع ، ولا يقبل بقتله ، وينتقده ويطلب منه تصحيح وضعه وسياساته .
وفي تثبيت دلائل النبوة ( 1 / 241 ) : ( ولما تكلم من تكلم في عثمان لأنه ولى أقاربه وآثرهم ، وقالوا لعلي إن عمر لم يفعل مثل هذا بأقاربه ، فقصده علي وقال له : ورائي قوم وقد كلموني فيك وما أدري ما أقول لك ؟ ما نعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلك على أمر لا تعرفه ، ما سبقناك إلى أمر فنبلغكه ولا خلونا بأمر فنخبرك به ، ولا خصصنا بأمر دونك ، وإنك لتعلم ما نعلم . والله ما ابن أبي قحافه بأولى من عمل الحق منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشئ من الخير منك ، أنت أقرب إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رحماً ، وقد نلت من صهره ما لم ينالاه ، فالله الله في أمرك ، فإنك والله ما تعلم من جهل ، ولا تبصرمن عمى ، وإن الحق لواضح بيِّن ، وإن أعلام الدين لقائمة . فقال له عثمان : لقد علمت لتقولن الذي قلت ، ولو كنت مكاني ما عتقتك ولا أسلمتك ، ولا جئت منكراً إن وصلت رحماً ، وسددت خلة ، وآويت ضائعاً ، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي . أنشدك الله يا علي ، هل علمت أن المغيرة بن شعبة ليس هناك ؟ قال : نعم ، قال : فهل علمت أن عمر كان يوليه ؟ قال : نعم ، قال : فلم تلومني أنت إن وليت ابن عامر مع رحمه
--------------------------- 422 ---------------------------
وقرابته ؟ فقال له علي : سأخبرك ، إن عمر كان من ولاه فإنما يطأ على صماخه ، إن بلغه حرف جلبه وبلغ منه الغاية ، وأنت لا تفعل ذلك ، ضعفت ورفقت على أقاربك !
فقال له عثمان : وهم أقاربك أيضاً ، فقال له علي : أجل إن قرابتهم مني لقريبة ولكن الفضل في غيرهم ! قال له عثمان : هل تعلم أن عمر استخلف معاوية ؟ قال : نعم ، قال : فقد استخلفته كما استخلفه . قال له علي : أنشدك الله ، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر من عمر ؟ قال عثمان : نعم . قال له علي : فإن معاوية لا يخافك ويقتطع الأمور دونك ، ويقول للناس : هذا أمر أمير المؤمنين عثمان . وكان علي يعنفه في أقاربه ويقول له في وجوههم : لا يغلب عليك مروان والوليد وسعيد لا تطعهم ! فيقول أهله له : هذا قوله لك في وجهك ووجوهنا ، فكيف بما يقوله للناس من ورائك وأنت إمامه وابن عمه ، فيقول لهم عثمان : هو أنصح لي منكم .
وكان علي يواقفه على صغار الأمور وكبارها ويدبر أمره ، فإذا لم يقبل منه في أمر من الأمور عنفه ولامه وقعد عنه ، فيرسل اليه عثمان ويجئ به ، فيقول له : قعدت عني وكنت لأبيبكر وعمر أنصح ، وأنا أولى بذلك منك ، وأنا إمامك وابن عمك ، فيقول له علي : كانا يقبلان ولا تقبل ، أكون معك على أمر فيجيؤك مروان والوليد وسعيد فيزيلانك عنه . ثم يقول للناس : من عذيري من هذا ؟ أكون معه على أمر فيدع رأيي ويأخذ برأي مروان والوليد ، فإن قعدت عنه يشكوني ويقول : قطعت رحمي ولم تقض حق بيعتي ) .
أقول : يدل قول عثمان لبني أمية : إن علياً أنصح لي منكم ، على أن عثمان كان على يقين من إخلاص علي ( عليه السلام ) ونصحه ، وأن تحيره في علي ( عليه السلام ) إنما هو لعجزه عن تطويعه لهواه .
11 . تهديد عثمان لعلي ( عليه السلام ) وممالأة العباس لعثمان !
في أنساب الأشراف ( 5 / 499 ) : ( عن صهيب مولى العباس أن العباس قال لعثمان : أذكرك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك وصاحبك مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقد بلغني أنك تريد أن تقوم به وبأصحابه ، فقال : أول ما أجيبك به أني قد شفعتك ، إن علياً لو شاء لم يكن أحد عندي إلا دونه ، ولكنه أبى إلا رأيه .
--------------------------- 423 ---------------------------
ثم قال لعلي مثل قوله لعثمان فقال علي : لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت [ ولكن أبى أن يقيم كتاب الله ] . وتقريب أبي الصلاح / 261 .
12 . سوء ظن عثمان بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) !
قال أبو الصلاح في التقريب / 261 : ( ذكر الواقدي في كتاب الدار قال : دخل سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة وعلي بن أبي طالب على عثمان ، فكلموه في بعض ما رأوا منه ، فكثر الكلام بينهم ، وكان علي ( عليه السلام ) من أعظمهم عليه ، فقام علي ( عليه السلام ) مغضباً فأخذ الزبير بثوبه ، فقال : أجلس فأبى ، فقال عثمان : دعه فوالله ما علمت أنه لما يكل ، والله لقد علم أنها لا تكون فيه ولا في واحد من ولده ) .
مقصود عثمان : أن علياً ( عليه السلام ) لا يكل من انتقاده وعمله ضده ، وأنه يريد أن يكون خليفة بدله أو بعده ، لكنه يعلم أنه لن يصل إلى الخلافة ، ولا أحد من أولاده !
وهذه تهمة من عثمان وسوء ظن ، وإخبار منه بقرار قريش بعزل العترة النبوية ( عليهم السلام ) عن الخلافة ! وعثمان يقول ذلك للزبير ومن حضر ، وهو يعلم أن انتقاد علي ( عليه السلام ) إنما هو لأجل مصلحة الإسلام والمسلمين ، ولو كان غرض علي ( عليه السلام ) الحكم لقبل بشروط عبد الرحمن بن عوف ثم خالفها ، كما فعل عثمان !
13 . رفض علي ( عليه السلام ) متابعة عثمان في تحريف الصلاة
قال الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) ( الكافي : 4 / 518 ) : ( حج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأقام بمنى ثلاثاً يصلي ركعتين ، ثم صنع ذلك أبو بكر ، وصنع ذلك عمر ، ثم صنع ذلك عثمان ستة سنين ، ثم أكملها عثمان أربعاً فصلى الظهر أربعاً ، ثم تمارض ليشد بذلك بدعته فقال للمؤذن : إذهب إلى علي فقل له فليصل بالناس العصر ، فأتى المؤذن علياً ( عليه السلام ) فقال له : إن أمير المؤمنين عثمان يأمرك أن تصلي بالناس العصر فقال : إذن لا أصلي إلا ركعتين كما صلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فذهب المؤذن فأخبر عثمان بما قال علي ( عليه السلام ) فقال : إذهب إليه فقل له : إنك لست من هذا في شئ ، إذهب
--------------------------- 424 ---------------------------
فصل كما تؤمر ، قال علي ( عليه السلام ) : لا والله لا أفعل . فخرج عثمان فصلى بهم أربعاً . فلما كان في خلافة معاوية واجتمع الناس عليه وقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، حج معاوية فصلى بالناس بمنى ركعتين الظهر ثم سلم ، فنظرت بنو أمية بعضهم إلى بعض ، وثقيف ومن كان من شيعة عثمان ، ثم قالوا : قد قضى على صاحبكم وخالف وأشمت به عدوه ، فقاموا فدخلوا عليه فقالوا : أتدري ما صنعت ما زدت على أن قضيت على صاحبنا ، وأشمت به عدوه ، ورغبت عن صنيعه وسنته ، فقال : ويلكم أما تعلمون أن رسول الله صلى في هذا المكان ركعتين وأبوبكروعمر ، وصلى صاحبكم ست سنين كذلك ، فتأمروني أن أدع سنة رسول الله وما صنع أبو بكر وعمر وعثمان قبل أن يحدث ؟ فقالوا : لا والله ما نرضى عنك إلا بذلك . قال : فأقيلوا فإني مشفعكم ، وراجع إلى سنة صاحبكم ! فصلى العصر أربعاً ، فلم يزل الخلفاء والأمراء على ذلك إلى اليوم ) !
هذا ، وقد تقدم أن الأمركان ىحتدم بىنه وبىن عثمان ، فقد رد علىه في قضىة أبيذر وقال له : بل بفىك التراب !
- *
--------------------------- 425 ---------------------------
الفصل الخامس والأربعون: انتفاضة المسلمين على عثمان وولاته
1 . تفضيل عثمان لسفهاء بني أمية على خيرة الصحابة
اتفق المؤرخون على أن مشكلة عثمان عشيرته ، فهو ذائب فيهم حتى كأنه يعبدهم ، وكان يدافع عن تسليطهم على المسلمين بأن ذلك صلة رحم ! وكان يفضل سفهاء بني أمية وفساقهم ومنافقيهم وملعونيهم ، على خيار الصحابة ، ويفضل الشاب الأموي الأهوج السكران عديم الخبرة ، على غير الأموي وإن كان تقياً مديراً حكيماً .
ونتج عن ذلك أن طفح ظلم بني أمية وارتفع صراخ الناس ، واستعمل الأمويون الشدة مع المعترضين والسجن والنفي فزادت النقمة علىهم ، خاصة قادة الفتوحات الذين رأوا أنهم فتحوا البلاد فسلمها عثمان إلى ولاة فاسدين غيرأكفاء من أقاربه وأصهاره !
2 . بدأت الإنتفاضة من السنة الثانية لخلافته
كانت الإنتفاضة ضد ولاة عثمان سنة ست وعشرين ، بعد خلافته بسنة وشهور ، وبدأت في الكوفة على يد عبد الله بن مسعود وكان والي بيت المال ، لما رأى تصرفات الوليد بن عقبة فاعترض عليه مراراً ، ثم جمع الناس في المسجد ودعاهم إلى إنكار المنكر فاستجاب له الناس وكان مطلبهم تغييرالوالي ، أخ عثمان لأمه ، لسوء سيرته وفساده .
وتلتها الثورة في البصرة ، وكانت محدودة لكثرة العثمانية فيها ، وكانت بقيادة حمران بن أبان ، على الوالي عبد الله بن عامر بن كريز الأموي ، ابن خال عثمان .
ثم كانت انتفاضة مصرالعارمة على الوالي عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، أخ عثمان من الرضاعة ، بقيادة محمد بن أبي حذيفة الأموي ، ومحمد بن أبيبكر ، وعبد الرحمن بن عديس
--------------------------- 426 ---------------------------
البلوي ، وتصاعدت حتى وصلت إلى ثورة حقيقية ، فكاتبوا المرابطين في الثغور بأن الجهاد في المدينة وليس عندكم ، وقصدوا المدينة بسبع مئة مقاتل وقيل أكثر .
وذكر بعضهم أن النقمة على عثمان بدأت في الست سنوات الثانية من خلافته ، وهذا لا يصح ، لأن عثمان قام من أول خلافته بتجميع بني أمية حوله : الحكم الملعون وأولاده ، وأبي سفيان وأولاده ، وغيرهم . ثم ولى عشيرته أهم مناصب الدولة وهي : ولاية الكوفة ، والشام وما إليها ، ومصر ، وإفريقيا ، والبصرة ، وخراسان وما إليها . ونحن نقتصر من أخبار ذلك على ما يتصل بسيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
3 . نفى عثمان قادة الثورة في الكوفة والبصرة إلى الشام
استبدل عثمان واليه على الكوفة الوليد بن عقبة الأموي بسعيد بن العاص الأموي فأظهر سعيد التقى وطهَّر منبر المسجد من خمر ابن معيط ! وحاول أن يتألف المسلمين لكن تعصبه الأموي واستهتاره أغضب أهل الكوفة عليه !
قال الطبري ( 3 / 365 ) : ( قدم سعيد بن العاص الكوفة فجعل يختار وجوه الناس يدخلون عليه ويسمرون عنده ، وأنه سمر عنده ليلة وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب الأرحبي ، والأسود بن يزيد ، وعلقمة بن قيس النخعيان ، وفيهم مالك الأشتر في رجال ، فقال سعيد : إنما هذا السواد ( العراق ) بستانٌ لقريش ! فقال الأشتر : أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك ! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيباً ، إلا أن يكون كأحدنا ) !
وقال الطبري ( 3 / 365 ) إن سعيد بن العاص كتب إلى عثمان : ( إن رهطاً من أهل الكوفة سماهم له عشرة ، يؤلبون الناس ، ويجتمعون على عيبك وعيبي ، والطعن في ديننا ! وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا ! فكتب عثمان إلى سعيد أن سَيِّرهم إلى معاوية ، ومعاوية يومئذ على الشام ، فسيرهم وهم تسعة نفر إلى معاوية ، فيهم مالك الأشتر ، وثابت بن قيس بن منقع ، وكميل بن زياد النخعي ، وصعصعة بن صوحان . ولما وصلوا إلى دمشق زارهم معاوية ، ثم عاد إليهم من القابلة وقال : ( وإني والله ما آمركم بشئ إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصتي ! وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان
--------------------------- 427 ---------------------------
أكرمها وابن أكرمها ، إلا ما جعل الله لنبيه نبي الرحمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازماً !
قال صعصعة : كذبت ! قد ولدهم خير من أبي سفيان مَن خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البر والفاجر ، والأحمق والكيِّس ! فخرج تلك الليلة من عندهم . ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلاً ، ثم قال : أيها القوم ردوا عليَّ خيراً أو اسكتوا ، وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم ، وينفع عشائركم وينفع جماعة المسلمين ، فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم .
فقال صعصعة : لست بأهل ذلك ، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله ! فقال : أوليس ما ابتدأتكم به إن أمرتكم بتقوى الله وطاعته وطاعة نبيه وأن تعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرقوا ؟ قالوا : بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال : فإني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ولزوم الجماعة وكراهة الفرقة ، وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم ، وتعظوهم في لين ولطف .
فقال صعصعة : فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك ! قال : من هو ؟ قال من كان أبوه أحسن قدماً من أبيك ، وهو بنفسه أحسن قَدماً منك في الإسلام ! فقال : والله إن لي في الإسلام قَدماً ولغيري كان أحسن قَدماً مني ، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب ، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمرهوادة . . الخ . ) !
وذكر البلاذري وابن الأعثم أنه حبس الأشتر وأصحابه ، فتحرك لذلك بعض رؤساء القبائل ، فأخرجهم من السجن ، فاحتفَّ بهم المسلمون يستمعون إلى أحاديثهم :
( وبلغ معاوية أن قوماً من أهل دمشق يجالسون الأشتر وأصحابه ، فكتب إلى عثمان : إنك بعثت إلي قوماً أفسدوا مصرهم وأنغلوه ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قبل ويعلِّموهم ما لا يحسنونه ، حتى تعود سلامتهم غائلة ) . ( أنساب الأشراف : 5 / 532 ) .
يدل هذا النص على تدني مستوى الوعي الديني في أهل الشام ، وأنهم لا يعرفون
--------------------------- 428 ---------------------------
إلا القليل من أحاديث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسيرته ومكانة عترته الطاهرين ( عليهم السلام ) ، وموقفه من قريش وبني أمية ! ولذلك كان معاوية حريصاً على منع التحديث عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لئلايرتفع التعتيم والتجهيل عن أهل الشام ، ويفتحوا عقولهم على الإسلام !
4 . ناقش الثوار المنفيون معاوية وأفحموه !
روى ابن الأعثم تفاصيل مناقشاتهم مع معاوية ، وروى الطبري ( 3 / 365 ) آخر مناقشة لهم معه فقال : ( فوثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته ! فقال : مهْ إن هذه ليست بأرض الكوفة ، والله لو رأى أهل الشأم ما صنعتم بي وأنا إمامهم ، ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً ! ثم قام من عندهم فقال : والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت ! ثم كتب إلى عثمان : لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك بعثت إليَّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يُمْلون عليهم ، ويأتون الناس زعموا من قبل القرآن ، فيشبهون على الناس ! وليس كل الناس يعلم ما يريدون ، وإنما يريدون فرقة ويقربون فتنة ! قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم ، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم ! فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشأم أن يغروهم بسحرهم وفجورهم ، فارددهم إلى مصرهم ، فلتكن دراهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم . والسلام .
فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم إليه ، فلم يكونوا إلا أطْلَقَ ألسنةً منهم حين رجعوا ! وكتب سعيد إلى عثمان يضجُّ منهم فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرْهُمْ إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وكان أميراً على حمص ، وكتب إلى الأشتر وأصحابه : أما بعد ، فإني قد سيرتكم إلى حمص ، فإذا أتاكم كتابي هذا فأخرجوا إليها ، فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شراً ، والسلام . فلما قرأ الأشتر الكتاب قال : اللهم أسوأنا نظراً للرعية ، وأعملنا فيهم بالمعصية فعجل له النقمة ! فكتب بذلك سعيد إلى عثمان ، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص ، فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل ) . في معرض هجمات الروم .
--------------------------- 429 ---------------------------
وتدل الرواية على قوة شخصياتهم ومنطقهم ، وتأثيرهم على الناس ، واحتقارهم لمعاوية وبني أمية ، وأنهم كانوا أصحاب ثقافة قرآنية وحديثية عبَّر عنها معاوية بقوله الجاهلي : ( قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم ، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم ، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم ) !
وقال الطبري ( 3 / 367 ) : ( فكتب سعيد بن العاص إلى عثمان يخبره بأمرهم ، فكتب إليه أن سيرهم إلى الشام وألْزِمْهُمْ الدروب ) .
أي : ضعهم في الطرق التي يَغِيرُ منها الروم على المسلمين ، لعلهم يُقتلون !
5 . طلب عثمان الأشتر فذهب اليه
للمنفيين القادة قصص مع عبد الرحمن بن خالد كقصصهم مع معاوية في تبعيدهم الأول ، وقد شكاهم عبد الرحمن لعثمان أيضاً ، فطلب عثمان أن يرسل اليه الأشتر فذهب اليه وناقشه ، فقال له عثمان : إذهب حيث شئت ، فرجع إلى الكوفة ، ورأى أن الثورة قد تفاقمت فالتف المسلمون حوله ، وأرسلوا كتاباً إلى عثمان ، فعنف رسولهم وأهانه ، فتدخل علي ( عليه السلام ) .
ثم ذهب الأشتر إلى عثمان مطالباً بإصلاح الوضع وتغييرالوالي سعيد بن العاص فلم يستجب عثمان وكان سعيد في المدينة ، فرجع مالك قبله إلى العراق : ( فسبق سعيداً ، وصعد المنبر وسيفه في عنقه ما وضعه بعد ، ثم قال : أما بعد فإن عاملكم الذي أنكرتم تعديه وسوء سيرته ، قد رُدَّ عليكم وأمر بتجميركم في البعوث ! فبايعوني على أن لا يدخلها ، فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة ، وخرج راكباً متخفياً يريد المدينة أو مكة ، فلقي سعيداً بواقصة فأخبره بالخبر فانصرف إلى المدينة ، وكتب الأشتر إلى عثمان : إنا والله ما منعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك ، ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه ، فابعث إلى عملك من أحببت ! فكتب إليهم : أنظروا من كان عاملكم أيام عمر بن الخطاب فولوه ، فنظروا فإذا هو أبو موسى الأشعري ، فولوه ) . ( مروج الذهب : 2 / 338 ) .
--------------------------- 430 ---------------------------
6 . المنفيون من شيعة علي ( عليه السلام ) قادة الفتوحات وأبطالها
أسماء المنفيين حسب رواية الطبري ( 3 / 367 ) : « مالك بن الحارث الأشتر ، وثابت بن قيس النخعي ، وكميل بن زياد النخعي ، وزيد بن صوحان العبدي ، وجندب بن زهير الغامدي ، وجندب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي » .
ونلاحظ أنهم شيعة وأنهم أبطال الفتوحات ، وقد عجز معاوية أمام منطقهم ، ورآهم لايقيمون له وزناً ولا لعثمان وبني أمية ، ويرونه غاصباً لحكم بلد فتحوه بأسيافهم !
7 . عقد عثمان مؤتمراً لولاة الأمصار بلا نتيجة
قال الطبري ( 4 / 333 ) : ( عن العلاء بن عبد الله بن زيد العنبري أنه قال : اجتمع ناس من المسلمين ، فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلاً يكلمه ويخبره بأحداثه ، فأرسلوا اليه عامر بن عبد الله التميمي ثم العنبري وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس فأتاه ، فدخل عليه فقال له : إن ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً ، فاتق الله عز وجل وتب إليه ، وانزع عنها . قال له عثمان : أنظر إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ، ثم هو يجئ فيكلمني في المحقرات ، فوالله ما يدري أين الله ! قال عامر : أنا لا أدري أين الله ! قال : نعم والله ما تدري أين الله ، قال عامر : بلى والله إني لأدري أن الله بالمرصاد لك ! فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان ، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإلى سعيد بن العاص ، وإلى عمرو بن العاص بن وائل السهمي ، وإلى عبد الله بن عامر ، فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه ، وما بلغه عنهم ، فلما اجتمعوا عنده قال لهم : إن لكل امرئ وزراء ونصحاء ، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناس ما قد رأيتم ، وطلبوا إليَّ أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون ، فاجتهدوا رأيكم وأشيروا علي .
فقال له عبد الله بن عامر : رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه ، وما هو فيه من دَبَرة دابته ، وقَمْل فروه !
--------------------------- 431 ---------------------------
ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له : ما رأيك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن كنت ترى رأينا فاحسم عنك الداء ، واقطع عنك الذي تخاف ، واعمل برأيي تصب ، قال : وما هو ؟ قال : إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ، ولا يجتمع لهم أمر ، فقال عثمان : إن هذا الرأي لولا ما فيه .
ثم أقبل معاوية فقال : ما رأيك ؟ قال : أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عمالك على الكفاية لما قبلهم ، وأنا ضامن لك قبلي .
ثم أقبل على عبد الله بن سعد ، فقال : ما رأيك ؟ قال : أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع ، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم .
ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له : ما رأيك ؟ قال : أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتدل ، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل فاعتزم عزماً ، وامض قدماً . فقال عثمان : ما لك قَمِلَ فروك ، أهذا الجد منك !
فأسكت عنه دهراً حتى إذا تفرق القوم قال عمرو : لا والله يا أمير المؤمنين ، لأنت أعز علي من ذلك ، ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا ، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي ، فأقود إليك خيراً أو أدفع عنك شراً !
فرد عثمان عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم ، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث ، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه ، ورد سعيد بن العاص أميراً على الكوفة ، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح ، فتلقوه فردوه ، وقالوا : لا والله لا يلي علينا حاكماً ما حملنا سيوفنا ) . ( الطبري : 3 / 374 ) .
وقال ابن الأعثم ( 2 / 389 ) : ( فلم يزدادوا على الناس إلا غلظة وجنفاً ، وجوراً في الأحكام ، وعدولاً عن السنة ) !
8 . عثمان يتهم علياً ( عليه السلام ) بأنه وراء الثورة عليه
قال ابن الأعثم ( 2 / 397 ) ملخصاً : ( ثم خرج الأشتر فعسكر بالجرعة بين الكوفة والحيرة ، وبعث بعائذ بن حملة الظهري فعسكر في طريق البصرة في خمس مائة فارس ، وبعث حمزة بن سنان الأسدي إلى عين التمر فعسكر هنالك ، ليكون
--------------------------- 432 ---------------------------
مسلحة فيما بينه وبين أهل الشام في خمس مائة فارس ، وبعث بعمرو بن أبي حنة الوداعي إلى حلوان وما والاها في ألف فارس ، وبعث يزيد بن حجية التيمي إلى المدائن وكوخى وما والاها في سبعمائة فارس . كما أرسل كعب بن مالك الأرحبي إلى مكان يدعى العذيب مع خمس مائة فارس ، وأمره قائلاً : إن جاء سعيد بن العاص من المدينة أميراً على الكوفة ، فأعده ولا تسمح له بدخول الكوفة ، وخذ كل ما معه من مال ومتاع ، وضعه أمانة في منزل الوليد بن عقبة في الكوفة .
فتقدم الأشتر عندما سمع الخبر ومعه ثلاث مائة فارس وجاء إلى باب المنزل ، وأمرهم بأن ينهبوا ما في البيت ، فدخل الناس وأخذوا كل ما وجدوه وأخرجوها ، ثم قلعوا الأبواب وأحرقوها . وحين علم عثمان بذلك ضاق صدره واعتبره بتحريض علي رضي الله عنه ، وقال : لا أعلم ماذا أفعل مع علي الذي يظهر محاسني للناس على شكل نقائص ، ويحرض الناس عليَّ وعلى عمالي .
ثم استدعى سعيد بن العاص وأعاده إلى الكوفة وقال له : إذا وصلت إليها تقرب من الناس وعِدْهم مواعيد حسنة ، وقل للأشتر بأن يتخلى عن تلك الأعمال ولايثيرن الفتنة ، وغالب ظني أن الناس حين يرونك سيتخلون عن الأشتر ويأتون إليك . فذهب سعيد وحين اقترب من العذيب تصدى له عبد الله بن كنانة بن الخطاب ، ومعه ثلاث مائة فارس وقالوا له : يا عدو الله أين تذهب ، عد من حيث أتيت ، فوالله لن ندعك تشرب من ماء الفرات قطرة واحدة ، فأيقن سعيد أنه لا قبل له بهم ، فعاد .
وأرسل عثمان رسالة إلى الأشتر والثائرين مع عبد الرحمن بن أبيبكر :
من عبد الله عثمان بن عفان أمير المؤمنين إلى مالك بن حارث وأصحابه الذين معه . أما بعد ، فاعلموا بأن الاعتراض على الخليفة ذنب عظيم ، وليس له جزاء إلا العذاب والنكال ، وقد علمت بما فعلتموه مع عاملي ونائبي لديكم ، وبذلك فتحتم على أنفسكم باب سخط الله وغضبه ، كما فتحتم للعامة باب الفتنة ، فأنتم أول من بدأ بالعصيان وسننتم سنة الفرقة ، وكل من يرغب من هذه الأمة بالعصيان فسيوافقكم ويقتدي بكم ويكون وبال ذلك في أعناقكم . فاتقوا الله يا عباد الله ، وعودوا إلى الحق ،
--------------------------- 433 ---------------------------
وتوبوا عن أعمالكم المنكرة لعلكم تنجوا . وإذا لم ترضوا عن أمير أرسلته إليكم ، فإني أعزله وأبعث شخصاً آخر مكانه . ولما وصل عبد الرحمن بن أبيبكر وأبلغهم رسالة عثمان ، تداعى أهل الكوفة وقالوا للأشتر : أجب عن الرسالة ، فكتب الأشتر الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم . هذه رسالة من مالك بن الحارث وجماعة المسلمين إلى الخليفة المتنكب عن سنة نبيه محمد ، أما بعد فاعلم بأن رسالتك قد وصلت ، وما ذكرته فيها بأن الاعتراض على الخليفة ومفارقة الجماعة والطعن في الأئمة أمر عظيم وخسارة ظاهرة ، فإن هذا الكلام صحيح ، شرط أن يكون الخليفة عادلاً ، وأن يسير الأمور على سبيل الحق ، أما إذا سارالخليفة على غير طريق السداد والصلاح ، فإن الاعتراض عليه وسيلة وقربة عظيمة إلى الله ، وما ذكرته عن الوالي بأننا ظلمناه ، فإنا لم نظلم عاملك بل دفعناه عن ظلم نفسه وظلم عباد الله تعالى ، ويجب عليك أن تنهي نفسك وعمالك عن الظلم والعدوان ، لنطيع أمرك ونعينك في سبيل الحق . وإننا بحمد الله على الطريق المستقيم ولن نبدل موقفنا ، وإن أول مطلب لنا أن تستغفر الله من ذنبك وتسليطك الظالمين والفاسقين على رقاب المسلمين . فإن أصلحت نفسك فنحن من المطيعين لك ، وإلا سنبقى على عصياننا إلى أن يحكم الله بيننا وبينك . فأرسل إلينا عبد الله بن قيس ليسير بالعدل ويقيم شرائع الإسلام ، وانصب حذيفة بن اليمان لتحصيل أموال الخراج وحقوق بيت المال . وأما سعيد بن العاص ووليد بن عقبة وأمثالهما من أقاربك وأهل بيتك ، فاحتفظ بهم لك ! فإن وافقت على هذا فنحن مطيعون لأمرك ، وإلا فاتق الله ودع هذه الولاية . والسلام ) .
وكانت نتيجة موقفهم القوي الحازم ، أن خضع عثمان ، وولى أبا موسى وحذيفة .
- *
--------------------------- 434 ---------------------------
الفصل السادس والأربعون: ثورة المصريين على عمر وعثمان
1 . ثار المصريون على عمر فقمعهم !
كتم التاريخ أن أول ثورة على الخلافة القرشية بعد أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ثورة المصريين ، فقد جاءوا إلى عمر وطالبوه بتطبيق الفرائض التي نص عليها القرآن ، فهددهم وطردهم !
قال السيوطي في الدر المنثور ( 2 / 145 ) : « وأخرج ابن جرير بسند حسن عن الحسن أن ناساً لقوا عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها لا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه ، فلقي عمر فقال : يا أمير المؤمنين إن ناساً لقوني بمصرفقالوا : إنا نرى أشياء من كتاب الله أمرأن يعمل بها لا يعمل بها ، فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال : إجمعهم لي ، فجمعهم له فأخذ أدناهم رجلاً فقال : أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله ؟ فقال : نعم . قال فهل أحصيته في نفسك ؟ قال : لا ، قال فهل أحصيته في بصرك ؟ قال : لا ، قال فهل أحصيته في لفظك ، هل أحصيته في أثرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ، قال : ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أنه سيكون لنا سيئات ، وتلا : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ . هل علم أهل المدينة فيمَ قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم » !
أي : لو أخبرتم أحداً بإشكالكم عليَّ لضربتكم وجعلتكم موعظة للآخرين ، حتى لا يفكروا كتفكيركم ! وهذه الرواية مجتزأة لأنها لم تذكر ما قالوه لعمر ! فقد جاؤوا وفداً ليسألوه عن آيات من القرآن فيها أوامر إلهية في الأمورالإدارية والسياسية والمالية والاجتماعية ، ولا يرون تطبيقها في دولته ، بل يرون عكسها !
--------------------------- 435 ---------------------------
فلم يعطهم عمر فرصةً للكلام ، وهاجمهم بالجواب بأنهم مخطئون يطلبون منه تطبيق القرآن على نفسه وولاته ، والقرآن عظيم عظيم ، لا يمكن لأحد أن يطبقه كاملاً بل يطبق بعضه ! واستدل عمر على ذلك بأنه لا يمكن لأحد أن يحصي كلماته وحروفه فيراها كلها دفعة واحدة ، أو يستحضرها في ذهنه دفعة واحدة ! فكل دستور لا يرى الحاكم مواده وسطوره وكلماته وحروفه دفعة واحدة ، يسقط عنه تطبيقه كله ، ويكفيه تطبيق جزء منه ، والله يعفو عن الباقي كما يعفو عن السيئات . وهذا الجزء يختاره الخليفة نفسه !
ثم حكم على المصريين بأنهم مفسدون في الأرض ، جاؤوا ليحركوا المسلمين عليه بمطالبتهم بتطبيق القرآن ، لكنه أحضرهم قبل أن يعرف بهم أحد من أهل المدينة ، وإلا لجعلهم عبرة لمن اعتبر وأقام عليهم الحد وقد يكون ضرْب أعناقهم ! ولهذا قال لهم : إرضوا بما ترونه مني ومن عمالي يخالف القرآن ، ولا تثيروا علينا مشاكل !
وأمام هذه الشطارة العمرية داخَ الوفد المصري ، فجمعوا متاعهم وغادروا إلى مصر ، ليستعيدوا هدوءهم من صدمتهم !
ويوجد في عصرنا من يبرر لعمر بأنه لا يجب على الخليفة أن يطبق القرآن حتى يحيط بعلمه ، فإن لم يحط به علماً سقط عنه تطبيقه !
فقد نظَّرَ له سيد قطب فقال في ظلاله ( 2 / 642 ) : ( فهكذا كان عمر المتحرج الشديد الحساسية يسوس القلوب والمجتمع وقد قَوَّمَ القرآن حسه وأعطاه الميزان الدقيق . قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ولن نكون غيرما علم ربه أن نكون ! إنما المعول عليه هوالقصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالإلتزامات ، وبذل الجهد في هذا الوفاء . إنه التوازن والجد واليسر ) !
وكلام سيد قطب إنشائي غيرمفهوم ككلام عمر ، والعجيب أنه يقبل من عمر التطبيق الجزئي للإسلام ولا يقبله من حكام عصرنا ، بل أفتى بكفرهم وكفر مجتمعهم ، ودفع الشباب الأغرار إلى تشكيل منظمات التكفير والهجرة ، والإرهاب باسم الجهاد !
--------------------------- 436 ---------------------------
ثم لم يفت سيد قطب بجلد من يسأل عن كلمة من القرآن ، مع أنه تواتر عن عمر فكان يضرب الشخص الذي يبحث في معنى كلمة من القرآن !
قال السيوطي في الدر المنثور ( 6 / 317 ) : ( عن عبد الرحمن بن يزيد أن رجلاً سأل عمر عن قوله : وأبّاً ، فلما رآهم يقولون ، أقبل عليهم بالدرة ) !
2 . ثم ثار المصريون على عثمان وقمعوه !
عزل عثمان الولاة من الصحابة وأهل الكفاءة والخبرة ، وعيَّن أمويين أغراراً . قال في النجوم الزاهرة ( 1 / 78 ) عن ابن أبي سرح ، أخ عثمان من الرضاعة : ( ولي إمرة مصر بعد عزل عمرو بن العاص في سنة خمس وعشرين ) .
وقال عنه الإمام الباقر ( عليه السلام ) ( الكافي : 8 / 201 ) في قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيئٌ : « نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر ، وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم فتح مكة هدر دمه ، وكان يكتب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإذا أنزل الله عز وجل : إن الله عزيز حكيم . كتب : إن الله عليم حكيم » !
وقال ابن حبان في لثقات ( 3 / 214 ) : « وكان أبوه سعد بن أبي سرح من المنافقين الكبار ، وهو أخو عثمان من الرضاعة » .
وقال عنه النسائي ( 7 / 107 ) وأبو داود ( 2 / 328 ) : ( كان يكتب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأزله الشيطان فلحق بالكفار ، فأمر به رسول الله أن يقتل يوم الفتح ) .
( فأتى به عثمان وسأله أن يهبه له ، فوهب له جرمه وأسلم ) . ( الإمتاع : 1 / 399 ) .
وقال في شرح النهج ( 18 / 12 ) : ( قال الواقدي : فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فكان قد أسلم ، وكان يكتب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الوحي ، فربما أملى عليه رسول الله : سميع عليم ، فيكتب عزيز حكيم ، ونحو ذلك ، ويقرأ على رسول الله فيقول : كذلك قال الله ويقرأ ، فافتتن وقال : والله ما يدري ما يقول : إني لأكتب له ما شئت فلا ينكر ، وإنه ليوحى إليَّ كما يوحى إلى محمد ! وخرج هارباً من المدينة إلى مكة مرتداً ، فأهدر رسول الله دمه وأمر بقتله يوم الفتح .
فلما كان يومئذ جاء إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة فقال : يا أخي ، إني قد أجرتك
--------------------------- 437 ---------------------------
فاحتبسني هاهنا واذهب إلى محمد فكلمه فيَّ ، فإن محمداً إن رآني ضرب عنقي ، إن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائباً .
فقال عثمان : قم فاذهب معي إليه ، قال : كلا ، والله إنه إن رآني ضرب عنقي ولم يناظرني ، قد أهدر دمى وأصحابه يطلبونني في كل موضع ، فقال عثمان : انطلق معي فإنه لايقتلك إن شاء الله ، فلم يرع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا بعثمان آخذاً بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه ، فقال عثمان : يا رسول الله ، هذا أخي من الرضاعة إن أمه كانت تحملني وتمشيه ، وترضعني وتفطمه ، وتلطفني وتتركه ، فهبه لي .
فأعرض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنه وجعل عثمان كلما أعرض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنه استقبله بوجهه ، وأعاد عليه هذا الكلام ، وإنما أعرض ( عليه السلام ) عنه إرادة لأن يقوم رجل فيضرب عنقه ، فلما رأى ألا يقوم أحد وعثمان قد انكب عليه يقبل رأسه ويقول : يا رسول الله بايعه فداك أبي وأمي على الإسلام !
فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم ، فبايعه . قال الواقدي : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد ذلك للمسلمين : ما منعكم أن يقوم منكم واحد إلى هذا الكلب فيقتله ، أو قال : الفاسق ! فقال عباد بن بشر : والذي بعثك بالحق ، إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى فأضرب عنقه .
ويقال : إن أبا البشيرهو الذي قال هذا ، ويقال بل قاله عمر بن الخطاب ، فقال : إني لا أقتل بالإشارة ، وقيل إنه قال : إن النبي لا يكون له خائنة الأعين .
قال الواقدي : فجعل عبد الله بن سعد يفر من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كلما رآه ، فقال له عثمان : بأبي أنت وأمي ! لو ترى ابن أم عبد يفر منك كلما رآك ! فتبسم رسول الله فقال : أوَلم أبايعه وأؤمنه ؟ قال : بلى ، ولكنه يتذكر عظم جرمه في الإسلام ، فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الإسلام يجب ما قبله ) .
3 . سلوك ابن أبي سرح مع الأفارقة
قال الطبري ( 3 / 312 ) ملخصاً : ( فأمَّر عبد الله بن سعد على جنده ورماه بالرجال وسرحه إلى إفريقية ، وسرح معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس ، وعبد الله بن نافع
--------------------------- 438 ---------------------------
بن الحصين الفهريين ، وقال لعبد الله بن سعد : إن فتح الله عز وجل عليك غدا إفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلاً . .
وفتح إفريقية سهلها وجبلها ، ثم اجتمعوا على الإسلام وحسنت طاعتهم . . فشكوا عبد الله فيما أخذ فقال لهم : أنا نفلنه ، وذاك إليكم الآن فإن رضيتم فقد جاز وإن سخطتم فهو ردٌّ ، قالوا فإنا نسخطه ، قال : فهو رد ، وكتب إلى عبد الله برد ذلك واستصلاحهم ، قالوا : فاعزله عنا فإنا لا نريد أن يتأمر علينا . .
فما زالوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك ، أحسن أمة سلاماً وطاعة حتى دب إليهم أهل العراق ، فلما دب إليهم دعاة أهل العراق واستثاروهم شقوا عصاهم وفرقوا بينهم إلى اليوم ، وكان من سبب تفريقهم أنهم ردوا على أهل الأهواء فقالوا : إنا لانخالف الأئمة بما تجني العمال ولانحمل ذلك عليهم ، فقالوا لهم : إنما يعمل هؤلاء بأمرأولئك ! فقالوا لهم : لا نقبل ذلك حتى نبورهم ( نختبرهم ) فخرج ميسرة في بضعة عشر إنساناً حتى يقدم على هشام فطلبوا الإذن فصعب عليهم ، فأتوا الأبرش فقالوا أبلغ أمير المؤمنين أن أميرنا يغزو بنا وبجنده ، فإذا أصاب نَفَلَهم دوننا وقال : هم أحق به ، فقلنا : هو أخلص لجهادنا ، لأنا لا نأخذ منه شيئاً ، إن كان لنا فهم منه في حل ، وإن لم يكن لنا لم نرده . وقالوا : إذا حاصرنا مدينة قال تقدموا وأخرجنده فقلنا : تقدموا فإنه ازدياد في الجهاد ومثلكم كفى إخوانه ، فوقيناهم بأنفسنا وكفيناهم ، ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرونها عن السخال ، يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين فيقتلون ألف شاة في جلد ! فقلنا : ما أيسر هذا لأمير المؤمنين ، فاحتملنا ذلك وخليناهم وذلك ! ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا فقلنا : لم نجد هذا في كتاب ولا سنة ، ونحن مسلمون ، فأحببنا أن نعلم أعن رأى أمير المؤمنين ذلك أم لا ؟ ! قال : نفعل .
فلما طال عليهم ونفدت نفقاتهم كتبوا أسماءهم في رقاع ورفعوها إلى الوزراء ، وقالوا هذه أسماؤنا وأنسابنا ، فإن سألكم أمير المؤمنين عنا فأخبروه ، ثم كان وجههم إلى إفريقية ، فخرجوا على عامل هشام فقتلوه ، واستولوا على إفريقية ، وبلغ هشاماً
--------------------------- 439 ---------------------------
الخبر وسأل عن النفر ، فرفعت إليه أسماؤهم فإذا هم الذين جاء الخبرأنهم صنعوا ما صنعوا ) !
أقول : هؤلاء الأفارقة الطيبون ، مثال على حكم الخلافة الأموية البغيض !
4 . المحمدان يقودان معركة ذات الصواري
عرف أهل مصرمحمد بن أبيبكر رضي الله عنه وأحبوه من أول فتح مصر ، ثم كان يتردد إليها مع صديقه الشاب محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة الأموي رضي الله عنهما ، ويشاركان في فتح إفريقيا الذي انطلق من مصر . وكان أهل مصر يحبانهما ، ويكرهان الوالي الأموي عبد الله بن أبي سرح لسوء إدارته ولأنه وأباه عدوان لله ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وفي عهد عثمان طمع الروم باسترجاع مصر ، فكان المحمدان القائدين الميدانيين لجيش المسلمين ، وعرفت بغزوة ذات الصواري . وكانت على أثر فتح المسلمين لأفريقيا وتحريرها من النفوذ الرومي ، فغزا قسطنطين الإسكندرية بخمس مئة سفينة وقيل بألف ، وفي السفينة نحو خمسين مقاتل ، فخرج إليهم المسلمون في ساحل الإسكندرية في مئتي سفينة واشتبكوا مع بعض سفنهم ، وكان القائد الرسمي للمسلمين ابن أبي سرح ، وكان المحمدان القائدين الميدانيين !
لكن سبب انتصار المسلمين في ذات الصواري كان بالدرجة الأولى : الريح التي أرسلها الله تعالى على الروم ، فحطمت بعض سفنهم ، وشتتت بقيتها !
قال القرشي المصري في فتوح مصر / 323 : ( مشت الروم إلى قسطنطين بن هرقل في سنة خمس وثلاثين ( وقيل سنة 31 وهو الأصح ) فقالوا : تترك الإسكندرية في أيدي العرب وهي مدينتنا الكبرى ! فقال : ما أصنع بكم ما تقدرون أن تتمالكوا ساعة إذا لقيتم العرب ! قالوا : فأخرُج على أنا نموت ، فتبايعوا على ذلك فخرج في ألف مركب يريد الإسكندرية ، فسار أياماً غالبة من الريح ، فبعث الله عليهم ريحاً فغرقتهم إلا قسطنطين نجا بمركبه فألقته الريح بسقلية ، فسألوه عن أمره فأخبرهم ، فقالوا : أشمتْتَ بالنصرانية أعداءها وأفنيت رجالها ، لو دخل العرب
--------------------------- 440 ---------------------------
علينا لم نجد من يردهم ! فقال : خرجنا مقتدرين فأصابنا هذا ! فصنعوا له الحمَّام ودخلوا عليه فقال : ويلكم تذهب رجالكم ، وتقتلون ملككم ؟ قالوا : كأنه غرق معهم ، ثم قتلوه ، وخلوا من كان معه في المركب » !
5 . المحمدان يحركان أهل مصر على عثمان !
قال الطبري ( 3 / 340 ) : ( لما صلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالناس العصركبَّر محمد بن أبي حذيفة تكبيراً ورفع صوته ، حتى فرغ الإمام عبد الله بن سعد بن أبي سرح ! فلما انصرف سأل ما هذا ؟ فقيل له : هذا محمد بن أبي حذيفة يُكَبِّر ، فدعاه عبد الله بن سعد فقال له : ما هذه البدعة والحدث ؟ فقال له : ما هذه بدعة ولا حدث ، وما بالتكبير بأس ! قال : لا تعودن . قال : فسكت محمد بن أبي حذيفة ، فلما صلى المغرب عبد الله بن سعد كبرمحمد بن أبي حذيفة تكبيراً أرفع من الأول ، فأرسل إليه إنك غلام أحمق ، أما والله لولا أني لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لقاربت بين خطوك ! فقال محمد بن أبي حذيفة : والله مالك إلى ذلك سبيل ، ولو هممت به ما قدرت عليه ! قال : فكُفَّ خيرٌ لك ، والله لاتركب معنا . قال : فأركب مع المسلمين . قال : إركب حيث شئت . وجعل محمد بن أبي حذيفة يقول للرجل : أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقاً ، فيقول الرجل : وأي جهاد ؟ فيقول : عثمان بن عفان فعل كذا وكذا ، وفعل كذا وكذا . . حتى أفسد الناس فقدموا بلدهم وقد أفسدهم ، وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به . . فأظهرا عيب عثمان وما غيَّر ، وما خالف به أبا بكر وعمر وأن دم عثمان حلال . ويقولان : استعمل عبد الله بن سعد رجلاً كان رسول الله أباح دمه ونزل القرآن بكفره ! وأخرج رسول الله قوماً وأدخلهم ( الحَكَم وولده ) ونزع أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واستعمل سعيد بن العاص ، وعبد الله بن عامر ) .
وفي أنساب الأشراف ( 5 / 540 ) : ( فكتب ابن أبي سرح إلى عثمان إن محمد بن أبيبكر ومحمد بن أبي حذيفة ، قد أنغلا عليَّ المغرب وأفسداه ، فكتب اليه عثمان : أما محمد بن أبيبكر فإني أدعه لأبيبكر الصديق وعائشة أم المؤمنين ، وأما محمد بن أبي حذيفة فإنه ابني وابن أخي ، وأنا ربيته وهو فرخ قريش . . فلما وافى ابن أبي سرح مصر وافاه كتاب
--------------------------- 441 ---------------------------
عثمان بالمصير اليه ، فشخص إلى المدينة وخلَّف على مصر رجلاً كان هواه مع ابن أبيبكر وابن أبي حذيفة ، فكان ممن شايعهم وشجعهم على المسير إلى عثمان ) .
وفي الإصابة ( 6 / 10 ) : ( بايع أهل مصرمحمد بن أبي حذيفة بالإمارة ، إلا عصابة منهم معاوية بن حديج وبسر بن أرطاة ، فقدم عبد الله بن سعد حتى إذا بلغ القلزم ، وجد هناك خيلاً لابن أبي حذيفة فمنعوه أن يدخل ، فانصرف إلى عسقلان ، ثم جهز ابن أبي حذيفة الذين ثاروا على عثمان وحاصروه » .
6 . رد ابن أبي سرح أمر عثمان وقتل الرسول !
قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 39 ) : ( وذكروا أن أهل مصر جاءوا يشكون ابن أبي سرح عاملهم ، فكتب إليه عثمان كتاباً يتهدده فيه ، فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان ، وضرب بعض من أتاه به من قبل عثمان من أهل مصر حتى قتله ، فخرج من أهل مصر سبع مئة رجل ، فنزلوا المسجد وشكوا إلى أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن أبي سرح ، فقام طلحة فتكلم بكلام شديد ، وأرسلت عائشة إلى عثمان فقالت له : قد تقدم إليك أصحاب رسول الله وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت إلا واحدة ، فهذا قد قتل منهم رجلاً ، فأنصفهم من عاملك .
ودخل عليه علي ( عليه السلام ) وكان متكلم القوم ، فقال له : إنما يسألونك رجلاً مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دماً فاعزله عنهم واقض بينهم ، فإن وجب لهم عليه حق فأنصفهم منه ، فقال اختاروا رجلاً أوليه عليهم . فقالوا : استعمل محمد بن أبيبكر ، فكتب عهده وولاه . ( تأتي بقية خبره ) وخرج معه عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين ابن أبي سرح وأهل مصر ، فخرج محمد ومن معه حتى إذا كانوا على مسيرة ثلاث ليال من المدينة : إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير ، كأنه رجل يطلب أو يطلب ، فقال له أصحاب محمد : ما قصتك وما شأنك ! كأنك طالب أو هارب ؟ فقال أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر ، فقال له رجل : هذا عامل مصر معنا ، قال : ليس هذا أريد ، فأخبر
--------------------------- 442 ---------------------------
محمد بأمره فبعث في طلبه رجلاً فجاء به إليه ، فقال له : غلامُ من أنت ؟ فأقبل مرة يقول أنا غلام مروان ومرة يقول أنا غلام أمير المؤمنين ، حتى عرفه رجل أنه لعثمان : فقال له محمد : إلى من أرسلك ؟ قال : إلى عامل مصر ، قال : بماذا ؟ قال : برسالة . قال أما معك كتاب ، قال : لا ، ففتشوه : فلم يجدوا معه كتاباً ، قال وكانت معه إداوة قد يبست : فيها شئ يتقلقل ، فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا إداوته ، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى عبد الله ابن أبي سرح ، فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار ، ثم فك الكتاب بمحضر منهم ، فقرأه ، فإذا فيه : إذا أتاك محمد بن أبيبكر وفلان وفلان فاقتلهم وأبطل كتابهم ، وقرَّ على عملك حتى يأتيك رأيي . فلما رأوا الكتاب فزعوا منه ، ورجعوا إلى المدينة ) !
7 . نجحت ثورة المصريين على عثمان
قال الأتابكي في النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ( 1 / 94 ) : ( هو محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، وثب على مصر وملكها من غير ولاية من خليفة ، فلذلك لم يعده المؤرخون من أمراء مصر ، وكان من خبره أنه جمع جمعاً وركب بهم على عقبة بن عامر الجهني خليفة عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقاتله وهزمه ، وأخرجه من الفسطاط ، ثم دعا الناس لخلع عثمان من الخلافة وصار يعدد أفعاله بكل شئ يقدر عليه ، فاعتزله شيعة عثمان وقاتلوه وهم : معاوية بن حديج ، وخارجة بن حذافة السهمي ، وبسر بن أبي أرطاة ومسلمة بن مخلد ، في جمع كثير من الناس ، وبعثوا إلى عثمان بذلك ) .
8 . أرسل عثمان سعد بن أبي وقاص إلى مصر فأهانوه
قال في النجوم الزاهرة ( 1 / 94 ) : ( وبينا أن يأتي الخبر من عثمان ، قويت شوكة محمد هذا ، ثم حضر من عند عثمان سعد بن أبي وقاص ليصلح أمرهم ويتألف الناس ، فخرج إليه جماعة من أعوان محمد بن أبي حذيفة المذكور وكلموه وخاشنوه ، ثم قلبوا عليه فسطاطه وشجوه ونهبوه ، فركب من وقته وعاد راجعاً ودعا عليهم لما فعلوه به ، ثم
--------------------------- 443 ---------------------------
عاد إلى مصر عبد الله بن أبي سرح راجعاً فمنعه أن يدخل إلى مصر وقاتلوه ، فكر راجعاً إلى عسقلان ) .
9 . ثم أرسل عماراً وغيره إلى مصر فانحازوا إلى الثوار
تميز محمد بن أبي حذيفة بأنه من علياء بني أمية ، فهو حفيد زعيمهم الكبير عتبة بن ربيعة ، الذي قتل في بدر ، وبيته عندهم أشرف من بيت أبي سفيان ، فضلاً عن بيت بني العاص فرع عثمان . لذلك كانت عين محمد بن أبي حذيفة بن عتبة قوية على عثمان ، وعلى واليه ابن أبي سرح ، فعجزا عن إخضاعه . وقد حاول عثمان كسبه فأرسل له إلى مصر ثلاثين ألف درهم وهدايا ، فوضعها محمد في المسجد وقال للمسلمين : إن عثمان يرشوه ليسكت عن انحرافه عن الإسلام ! فزادت نقمة المصريين على عثمان .
قال البلاذري ( 5 / 538 ) : ( بعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألف درهم ، وبجمل عليه كسوة ، فأمر به فوضع في المسجد وقال : يا معشر المسلمين ، ألا ترون إلى عثمان يخاد عني عن ديني ويرشوني عليه ، فازداد أهل مصرعيباً لعثمان وطعناً عليه ، واجتمعوا إلى ابن أبي حذيفة فرأسوه عليهم . فلما بلغ عثمان ذلك دعا بعمار بن ياسرفاعتذر اليه مما فعل به واستغفرالله منه وسأله أن لا يحقده عليه وقال : بحسبك من سلامتي لك ثقتي بك ، وسأله الشخوص إلى مصرليأتيه بصحة خبر ابن أبي حذيفة ، وحق ما بلغه عنه من باطله وأمره أن يقوم بعذره ويضمن عنه العتبى لمن قدم عليه ، فلما ورد عمار مصرحرض الناس على عثمان ودعاهم إلى خلعه وأشعلها عليه ، وقَوَّى رأي ابن أبي حذيفة وابن أبيبكر ، وشجعهما على المسير إلى المدينة ! فكتب ابن أبي سرح إلى عثمان يعلمه ما كان من عمار ويستأذنه في عقوبته ( قتله ) فكتب اليه : بئس الرأي رأيت يا ابن أبي سرح ، فأحسن جهاز عمار واحمله إلي ، فتحرّك أهل مصر وقالوا : سيَّر عمار ! ودبَّ فيهم ابن أبي حذيفة ، ودعاهم إلى المسير فأجابوه ) .
--------------------------- 444 ---------------------------
10 . الجيش المصري يحاصر عثمان
قال البلاذري ( 5 / 549 ) : ( فخرج عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وسودان بن حمران المرادي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وعروة بن شييم الليثي ، في خمس مائة ، وأظهروا أنهم يريدون العمرة ، وكان خروجهم في رجب ) .
وقال الطبري ( 4 / 373 ) : ( وكان رؤساؤهم أربعة : عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وسودان بن حمران المرادي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وابن النباع ) .
والظاهر أن عدد المحاصرين لعثمان كان دون الألف مقاتل ، وأن الناس بالغوا في أعدادهم على عادتهم ، لذلك نستبعد رواية الواقدي بأنهم كانوا ألوفاً ، قال : ( خرج ناس من مصر منهم عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وكنانة بن بشر الليثي ، وسودان بن حمران السكوني ، وقتيرة بن وهب السكسكي ، وعليهم جميعاً أبو حرب الغافقي ، وكانوا في ألفين . وخرج ناس من الكوفة ، منهم زيد بن صوحان العبدي ، ومالك الأشتر النخعي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الأصم الغامدي ، في ألفين . وخرج ناس من أهل البصرة ، منهم حكيم بن جبلة العبدي ، وجماعة من أمرائهم ، وعليهم حرقوص بن زهير السعدي ، وذلك في شوال من سنة خمس وثلاثين ) . ( شرح النهج : 2 / 140 )
11 . عثمان يلوذ بعلي ( عليه السلام ) وبالأنصار
في أنساب الأشراف ( 5 / 553 ) : ( وأتى المغيرة بن شعبة عثمان فقال له : دعني آتي القوم فأنظر ما يريدون ، فمضى نحوهم فلما دنا منهم صاحوا به : يا أعور وراءك ! يا فاجر وراءك ! يا فاسق وراءك ! فرجع !
ودعا عثمان عمرو بن العاص فقال له : إئت القوم فادعهم إلى كتاب الله والعتبى مما ساءهم ، فلما دنا منهم سلَّم فقالوا : لا سلَّم الله عليك ، إرجع يا عدو الله ! إرجع يا ابن النابغة ! فلست عندنا بأمين ولا مأمون !
فقال له ابن عمر وغيره : ليس لهم إلَّا عليُّ بن أبي طالب ، فبعث عثمان إلى علي فلما أتاه قال : يا أبا الحسن أئت هؤلاء القوم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، قال : نعم
--------------------------- 445 ---------------------------
إن أعطيتني عهد الله وميثاقه على أنك تفي لهم بكل ما أضمنه عنك ، قال : نعم ، فأخذ عليٌّ عليه عهد الله وميثاقه على أوكد ما يكون وأغلظ .
وخرج إلى القوم فقالوا : وراءك . قال : لا بل أمامي ! تُعطون كتاب الله وتُعتبون من كل ما سخطتم ، فعَرض عليهم ما بذل عثمان فقالوا : أتضمن ذلك عنه ؟ قال : نعم ، قالوا : رضينا ، وأقبل وجوههم وأشرافهم مع علي حتى دخلوا على عثمان وعاتبوه فأعتبهم من كل شئ ، فقالوا : أكتب بهذا كتاباً فكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين . إن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ، يُعطى المحروم ويُؤمن الخائف ، ويُرد المنفي ، ولاتُجمَّر البعوث ، ويُوفر الفئ ، وعليُّ بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء بما في هذا الكتاب .
شهد الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن مالك بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيوب خالد بن زيد ، وكتب في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين ، فأخذ كل قوم كتاباً ، فانصرفوا .
وقال علي بن أبي طالب لعثمان : أخرج فتكلَّم كلاماً يسمعه الناس ويحملونه عنك ، وأشهد الله على ما في قلبك ، فإن البلاد قد تمخضت عليك ، ولا تأمن أن يأتي ركب آخر من الكوفة أو من البصرة أو من مصر ، فتقول : يا علي إركب إليهم فإن لم أفعل قلت : قطع رحمي ، واستخف بحقي ! فخرج عثمان فخطب الناس ، فأقر بما فعل واستغفر الله منه ، وقال : سمعت رسول الله يقول : من زل فلينب فأنا أول من اتعظ ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم ، فوالله لو ردني إلى الحق عبد لاتبعته ، وما عن الله مذهب إلَّا اليه ، فَسُرَّ الناس بخطبته واجتمعوا إلى بابه مبتهجين بما كان منه . فخرج إليهم مروان فزبرهم وقال : شاهت وجوهكم ، ما اجتماعكم ! أمير المؤمنين مشغول عنكم ، فإن احتاج إلى أحد منكم فسيدعوه ، فانصرِفوا .
وبلغ عليّاً الخبر فأتى عثمان وهو مغضب فقال : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلَّا بإفساد دينك وخديعتك عن عقلك ، وإني لأراه سيوردك ثم لا
--------------------------- 446 ---------------------------
يصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك .
وقالت له امرأته نائلة بنت الفرافصة : قد سمعت قول علي بن أبي طالب في مروان ، وقد أخبرك أنه غير عائد إليك ، وقد أطعت مروان ولا قدر له عند الناس ولا هيبة ، فبعث إلى عليٍّ فلم يأته .
سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ذكرمروان فقال : قبحه الله ، خرج عثمان على الناس فأعطاهم الرضا وبكى على المنبر حتى استهلَّت دموعه ، فلم يزل مروان يفتله في الذروة والغارب حتى لفته عن رأيه .
قال : وجئت إلى عليِّ فأجده بين القبر والمنبر ومعه عمار بن ياسر ومحمد بن أبيبكر وهما يقولان صنع مروان بالناس وصنع وانتهرهم وأغلظ لهم ، حتى ردهم عن باب عثمان على أقبح الوجوه ، فأقبل عليٌّ عليَّ فقال : أحضرت خطبة عثمان ؟ قلت نعم ، قال أفحضرت مقالة مروان للناس ؟ قلت نعم ) !
12 . محاصرة المصريين لعثمان برواية الطبري
تضمنت رواية الطبري ( 3 / 393 ) حقائق مهمة ، لذلك نوردها ، قال : ( كان محمد بن أبيبكر ومحمد بن أبي حذيفة بمصر يحرضان على عثمان ، فقدم محمد بن أبيبكر ، وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر ، فلما خرج المصريون خرج عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمس مائة وأظهروا أنهم يريدون العمرة ، وخرجوا في رجب وبعث عبد الله بن سعد رسولاً سار إحدى عشرة ليلة ، يخبر عثمان أن ابن عديس وأصحابه قد توجهوا نحوه ، وأن محمد بن أبي حذيفة شيعهم إلى عجرود ثم رجع ، وأظهرمحمد أن قال خرج القوم عُمَّاراً ، وقال في السر : خرج القوم إلى إمامهم فإن نزع وإلا قتلوه . وسار القوم المنازل لم يعدوها حتى نزلوا ذا خشب ، وقال عثمان قبل قدومهم حين جاءه رسول عبد الله بن سعد : هؤلاء قوم من أهل مصر يريدون بزعمهم العمرة ، والله ما أراهم يريدونها ، ولكن الناس قد دخل بهم وأسرعوا إلى الفتنة وطال عليهم عمري . أما والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم بسنة ، مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة ، والأحكام المغيَّرة .
--------------------------- 447 ---------------------------
فلما نزل القوم ذا خشب جاء الخبر أن القوم يريدون قتل عثمان إن لم ينزع ، وأتى رسولهم إلى علي ليلاً ، وإلى طلحة ، وإلى عمار بن ياسر ، وكتب محمد بن أبي حذيفة معهم إلى علي كتاباً ، فجاؤوا بالكتاب إلى علي فلم يظهر على ما فيه ، فلما رأى عثمان ما رأى جاء علياً فدخل عليه بيته فقال : يا ابن عم إنه ليس لي مترك ، وإن قرابتي قريبة ، ولي حق عظيم عليك وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم ، وهم مصبحيَّ وأنا أعلم أن لك عند الناس قدراً ، وأنهم يسمعون منك ، فأنا أحب أن تركب إليهم فتردهم عني ، فإني لا أحب أن يدخلوا علي ، فإن ذلك جرأة منهم علي ، ويسمع بذلك غيرهم .
فقال علي : علامَ أردهم ؟ قال : على أن أصير إلى ما أشرت به علي ورأيته لي ، ولست أخرج من يديك . فقال علي : إني قد كنت كلمتك مرة بعد مرة ، فكل ذلك نخرج فنتكلم ونقول وتقول ، وذلك كله فعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وابن عامر ومعاوية ، أطعتهم وعصيتني !
قال عثمان : فإني أعصيهم وأطيعك . قال : فأمر الناس فركبوا معه المهاجرون والأنصار . قال : فمكث عثمان ذلك اليوم حتى إذا كان الغد جاءه مروان فقال له : تكلم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا ، وأن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً فإن خطبتك تسير في البلاد ، قبل أن يتحلب الناس عليك من أمصارهم ، فيأتيك من لا تستطيع دفعه . قال : فأبى عثمان أن يخرج . قال : فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم . قال فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد : إتق الله يا عثمان ، فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب . قال فناداه عثمان : وإنك هناك يا ابن النابغة ! قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل !
قال : فنودي من ناحية أخرى : تب إلى الله وأظهرالتوبة يكف الناس عنك . قال : فرفع عثمان يديه مدا واستقبل القبلة فقال : اللهم إني أول تائب تاب إليك
--------------------------- 448 ---------------------------
ورجع إلى منزله ، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل منزله بفلسطين فكان يقول : والله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه عليه !
ثم إن علياً جاء عثمان بعد انصراف المصريين ، فقال له : تكلم كلاماً يسمعه الناس منك ويشهدون عليه ، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوغ والإنابة ، فإن البلاد قد تمخضت عليك ، فلا آمن ركباً آخرين يقدمون من الكوفة فتقول يا علي إركب إليهم ، ولا أقدر أن أركب إليهم ، ولا أسمع عذراً ، ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول يا علي إركب إليهم ، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك !
قال فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة فقام : فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد أيها الناس فوالله ما عاب من عاب منكم شيئاً أجهله ، وما جئت شيئاً إلا وأنا أعرفه ، ولكني مننتني نفسي وكذبتني ، وضل عني رشدي ! ولقد سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول من زل فليتب ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة ، إن من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق ، فأنا أول من اتعظ : أستغفر الله مما فعلت ، وأتوب إليه فمثلي نزع وتاب ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم ، فوالله لئن ردني الحق عبداً لأستنن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد ، ولأكونن كالمرقوق إن ملك صبر وإن عتق شكر ، وما عن الله مذهب إلا إليه ، فلايعجزن عنكم خياركم أن يدنوا إلي ، لئن أبت يميني لتتابعني شمالي . قال فرق الناس له يومئذ ، وبكى من بكى منهم .
وقام إليه سعيد بن زيد فقال : يا أمير المؤمنين ليس بواصل لك من ليس معك ، الله الله في نفسك فأتمم على ما قلت ، فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيداً ونفراً من بني أمية لم يكونوا شهدوا الخطبة ، فلما جلس قال مروان : يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت ؟ فقالت نائلة ابنة الفرافضة امرأة عثمان الكلبية : لا بل أصمت ، فإنهم والله قاتلوه ومؤثموه ، إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها ، فأقبل عليها مروان فقال : ما أنت وذاك فوالله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ ، فقالت له : مهلاً يا مروان عن ذكر الآباء ، تخبر عن أبي وهوغائب تكذب عليه ، وإن أباك لا تستطيع أن تدفع عنه . أما
--------------------------- 449 ---------------------------
والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمه ، أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه . قال فأعرض عنها مروان ، ثم قال : يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت ؟ قال : بل تكلم فقال مروان : بأبي أنت وأمي والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع ، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها ، ولكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطبيين وخلف السبيل الزبى ، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل ، والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها ، وإنك إن شئت تقربت بالتوبة ولم تقرب بالخطيئة ، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس ، فقال عثمان : فأخرج إليهم فكلمهم فإني أستحيي أن أكلمهم . قال : فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً فقال : ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب ! شاهت الوجوه ، كل إنسان آخذ بإذن صاحبه إلا من أريد ، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ، أخرجوا عنا ! أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ، ولا تحمدوا غب رأيكم ! إرجعوا إلى منازلكم ، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا !
قال فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتى علياً فأخبره الخبر ، فجاء علي مغضباً حتى دخل على عثمان فقال : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك ، وعن عقلك مثل جمل الظعينة ، يقاد حيث يسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه . وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهلت شرفك ، وغلبت على أمرك !
فلما خرج على دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته فقالت : أتكلم أو أسكت ؟ فقال تكلمي ، فقالت : قد سمعت قول علي لك وإنه ليس يعاودك ، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء ! قال : فما أصنع ؟ قالت : تتقى الله وحده لا شريك له وتتبع سنة صاحبيك من قبلك ، فإنك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة ، وإنما تركك الناس لمكان مروان . فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى .
--------------------------- 450 ---------------------------
قال فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه ، وقال قد أعلمته إني لست بعائد ، قال فبلغ مروان مقالة نائلة فيه ، قال : فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه ، فقال : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلم ، فقال : إن بنت الفرافصة ، فقال عثمان : لا تذكرنها بحرف فأسوء لك وجهك ، فهي والله أنصح لي منك . قال : فكف مروان ) .
وقال الطبري ( 3 / 398 ) : ( قال علي : عياذ الله يا للمسلمين ! إني إن قعدت في بيتي قال لي تركتني وقرابتي وحقي ، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد ، يلعب به مروان فصار سيقة له يسوقه حيث شاء ، بعد كبر السن وصحبة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال عبد الرحمن بن الأسود : فلم يزل حتى جاء رسول عثمان يقول إئتني ، فقال علي بصوت مرتفع عالٍ مغضب : قل له ما أنا بداخل عليك ولا عائد ! قال فانصرف الرسول قال : فلقيت عثمان بعد ذلك بليلتين خائباً فسألت ناتلاً غلامه : من أين جاء أمير المؤمنين ؟ فقال كان عند علي ، فقال عبد الرحمن بن الأسود : فغدوت فجلست مع علي فقال لي : جاءني عثمان البارحة فجعل يقول إني غيرعائد وإني فاعل ، فقلت له : بعد ما تكلمت به على منبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك ، وخرج مروان إلى الناس فشتمهم على بابك !
قال : فرجع وهو يقول : قطعت رحمي وخذلتني وجرأت الناس عليَّ ! فقلت : والله إني لأذب الناس عنك ، ولكني كلما جئتك بهنة أظنها لك رضاً ، جاء بأخرى فسمعت قول مروان عليَّ ، واستدخلت مروان . قال : ثم انصرف إلى بيته .
قال عبد الرحمن بن الأسود : فلم أزل أرى علياً منكباً عنه لا يفعل ما كان يفعل ، إلا أني أعلم أنه قد كلم طلحة حين حصر في أن يدخل عليه الروايا وغضب في ذلك غضباً شديداً ، حتى دخلت الروايا على عثمان .
عن إسماعيل بن محمد : أن عثمان صعد يوم الجمعة المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، فقام رجل فقال : أقم كتاب الله ، فقال عثمان : أجلس فجلس حتى قام ثلاثاً ، فأمر به عثمان فجلس ، فتحاثوا بالحصباء حتى ما ترى السماء ، وسقط عن المنبر وحمل فأدخل داره مغشياً عليه ، فخرج رجل من حجاب عثمان ومعه مصحف في يده وهو ينادي :
--------------------------- 451 ---------------------------
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَئٍْ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ .
ودخل علي بن أبي طالب على عثمان رضي الله عنهما وهو مغشيٌّ عليه وبنو أمية حوله فقال : مالك يا أمير المؤمنين ؟ فأقبلت بنو أمية بمنطق واحد فقالوا : يا علي أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع بأمير المؤمنين ! أما والله لئن بلغت الذي تريد لتمرن عليك الدنيا . فقام عليٌّ مغضباً ) .
13 . مرسوم ولاية محمد بن أبيبكر على مصر
قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 39 ) : ( فقال : اختاروا رجلاً أوليه عليهم . فقالوا : استعمل محمد بن أبيبكر ، فكتب عهده وولاه ، وخرج معه عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين ابن أبي سرح وأهل مصر ، فخرج محمد ومن معه حتى إذا كانوا على مسيرة ثلاث ليال من المدينة : إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير ، كأنه رجل يطلب أو يطلب ، فقال له أصحاب محمد : ما قصتك وما شأنك ! كأنك طالب أو هارب !
فقال ، أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر ، فقال له رجل : هذا عامل مصر معنا ، قال : ليس هذا أريد ، فأخبر محمد بأمره . . فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار ، ثم فك الكتاب بمحضر منهم ، فقرأه ، فإذا فيه : إذا أتاك محمد بن أبيبكر وفلان وفلان فاقتلهم وأبطل كتابهم ، وقرَّ على عملك حتى يأتيك رأيي . فلما رأوا الكتاب فزعوا منه ، ورجعوا إلى المدينة ) .
وفي تاريخ المدينة ( 4 / 1154 ) : ( فرجعوا فبدأوا بعلي فسألوه ، فجاء معهم إلى عثمان فقالوا : فمن تتهم ؟ قال : أظن كاتبي غدر أو أظنك به يا علي ! قال علي : فلم تظنني ! قال : لأنك مطاع في القوم فلم تردهم عني ! قال : أنت أول من أتهم ، قال : فغضب علي رضي الله عنه فقام وقال : والله لا أعينك ولا أعين عليك حتى التقي أنا وأنت عند رب العالمين ) .
وفي أنساب الأشراف ( 5 / 555 ) : ( قال عليّ : فمن تتهم ؟ قال أتهمك وأتهم
--------------------------- 452 ---------------------------
كاتبي ، فخرج عليّ مغضباً وهو يقول : بل هو أمرك ! قال أبو مخنف : وكان خاتم عثمان بدياً في يد حمران بن أبان ثم أخذه مروان حين شخص حمران إلى البصرة فكان معه . وجاء المصريون إلى دار عثمان فأحدقوا بها وقالوا لعثمان وقد أشرف عليهم : يا عثمان أهذا كتابك ؟ فجحد وحلف فقالوا : هذا شر ، يُكتب عنك بما لا تعلمه ، ما مثلك يلي أمور المسلمين ، فاختلع من الخلافة ، فقال : ما كنت لأنزع قميصاً قمصنيه الله ، أو قال سربلنيه الله !
قال : وكتب عثمان حين حصروه كتاباً قرأه ابن الزبير على الناس يقول فيه : والله ما كتبت الكتاب ولا أمرت به ولاعلمت بقصته ، وأنتم معتبون من كلّ ما ساءكم ، فأمروا على مصركم من أحببتم ، وهذه مفاتيح بيت مالكم فادفعوها إلى من شئتم ، فقالوا : قد اتهمناك بالكتاب فاعتزلنا ) .
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 3 / 22 ) : ( وأعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين : إني أتهمك ! وتظاهره بذلك وتلقيه إياه في وجهه بهذا القول ، مع بعده من التهمة والظنة في كل شئ ، وفي أمره خاصة ، فإن القوم في الدفعة الأولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه ، حتى قام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأمره وتوسطه وأصلحه ، وأشار عليه بأن يقاربهم ويعينهم حتى انصرفوا عنه ، وهذا فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن . فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في هذا المكان ، لولا العداوة وقلة الشكر للنعمة ! ولقد قال له المصريون لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئاً لا زيادة عليه في باب الحجة لأنهم قالوا له : إذا كنت ما كتبت ولا أمرت به فأنت ضعيف ، من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك ، وينفذه بيد غلامك وعلى بعيرك بغير أمرك ، ومن تم عليه ذلك لا يصلح أن يكون والياً على أمور المسلمين ، فاختلع عن الخلافة على كل حال ) .
14 . استنجد عثمان بمعاوية وولاة الأمصار فلم ينجدوه !
قال ابن شبة في تاريخ المدينة ( 4 / 1288 ) : ( أرسل عثمان إلى معاوية يستمده ، فبعث معاوية يزيد بن أسد جد خالد القسري وقال له : إذا أتيت ذا خُشب فأقم بها ولا
--------------------------- 453 ---------------------------
تتجاوزها ( قرب المدينة : معجم البلدان : 2 / 372 ) ولا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، قال : أنا الشاهد وأنت الغائب ! فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان ! فقلت لجويرية : لم صنع هذا ؟ قال : صنعه عمداً ليقتل عثمان فيدعو إلى نفسه ) !
قال الحافظ محمد عقيل في النصائح الكافية لمن يتولى معاوية / 40 : ( إن معاوية لما استصرخه عثمان تثاقل عنه ، بعث إليه يزيد بن أسد القسري . . فكان في الظاهر نصرةً لعثمان ببعث الجيش وهو في الحقيقة خذلان له لحبسه الجيش كي يقتل عثمان ، فيدعو إلى نفسه كما وقع بالفعل ) !
وكان عثمان يعرف هدف معاوية ففي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 175 ) أن القسري قائد جيش معاوية قال لجنده : ( كونوا بمكانكم حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره ، فأتى عثمان فقال : قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيؤك بهم . قال : لا والله ، ولكنك أردت أن أقتل فتقول أنا ولي الثأر ، إرجع فجئني بالناس ! فرجع فلم يعد إليه حتى قتل ) !
وقال الطبري ( 3 / 402 ) ملخصاً : ( كتب إلى معاوية : أما بعد فإن أهل المدينة قد كفروا وخلعوا الطاعة ونكثوا البيعة ، فابعث إليَّ من قبلك من مقاتلة أهل الشأم على كل صعب وذلول . فتربص معاوية فلما أبطأ كتب عثمان إلى يزيد بن أسد بن كرز وإلى أهل الشأم يستنفرهم ، ويذكرهم صنيعه إليهم ، فقام يزيد بن أسد بن كرز البجلي وحضهم على نصره وأمرهم بالمسير إليه ، فتابعه ناس كثير وساروا معه حتى إذا كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان ، فرجعوا .
وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر أن اندب إليَّ أهل البصرة ، فجمع عبد الله بن عامر الناس فقرأ كتابه عليهم فقامت خطباء من أهل البصرة يحضونه على نصر عثمان ، فيهم مجاشع بن مسعود السلمي ، فسار بهم حتى إذا نزل الناس عند صرار ناحية من المدينة ، أتاهم قتل عثمان ) .
--------------------------- 454 ---------------------------
15 . واستنجد عثمان بعائشة فلم تنجده !
في تاريخ اليعقوبي ( 2 / 175 ) : ( وصار مروان إلى عائشة ، فقال : يا أم المؤمنين ! لو قمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس ؟ قالت : قد فرغت من جهازي وأنا أريد الحج . قال : فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين ! قالت : لعلك ترى أني في شك من صاحبك ؟ أما والله لوددت أنه مقطع في غرارة من غرائري ، وأني أطيق حمله ، فأطرحه في البحر ! وكان بين عثمان وعائشة منافرة ، وذلك أنه نقصها مما كان يعطيها عمر بن الخطاب ، وصيرها أسوة غيرها من نساء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فإن عثمان يوماً ليخطب إذ دلت عائشة قميص رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ونادت : يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يبل ، وقد أبلى عثمان سنته ! فقال عثمان : ربِّ اصرفْ عني كيدهن ، إن كيدهن عظيم ) .
وقال عبد الرزاق في المصنف ( 8 / 689 ) : ( وناشد عثمان الناس أن لا تراق فيه محجمة من دم ، فلقد رأيت ابن الزبير يخرج عليهم في كتيبة حتى يهزمهم ، لو شاؤوا أن يقتلوا منهم لقتلوا ، قال : ورأيت سعيد بن الأسود البختري ، وإنه ليضرب رجلاً بعرض السيف لو شاء أن يقتله لقتله ، ولكن عثمان عزم على الناس فأمسكوا ، قال : فدخل عليه أبو عمرو بن بديل الخزاعي التجيبي ، قال فطعنه أحدهما بمشقص في أوداجه وعلاه الآخر بالسيف فقتلوه ، ثم انطلقوا هراباً يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار حتى أتوا بلداً بين مصر والشام ، قال فمكنوا في غار ، قال : فجاء نبطي من تلك البلاد معه حمار ، قال : فدخل ذباب في منخر الحمار ، قال : فنفر حتى دخل عليهم الغار ، وطلبه صاحبه فرآهم : فانطلق إلى عامل معاوية قال : فأخبره بهم ، قال : فأخذهم معاوية فضرب أعناقهم ) .
أقول : منع عثمان خاصته والمستعدين لنصرته أن يقاتلوا المصريين ، لأنه يعرف ميزان القوة عليه وليس له . وإلا فقد طلب إرسال مقاتلين من الشام والبصرة !
--------------------------- 455 ---------------------------
الفصل السابع والأربعون: معاناة علي ( عليه السلام ) مع طاقم عثمان ووزرائه !
1 . طاقم : كلمة تركية
( طاقم ) معربة عن التركية ، ومعناها المجموعة العاملة في أمر واحد ، ويستعمل لطاقم السفينة والطائرة ، بمعنى قائدها وخدمتها ، وطاقم الجيش أقل من السرية .
ومقصودنا به الجهاز الإداري الذي اختاره عثمان من وزراء ومستشارين ، وكان يدير بهم شؤون العباد والبلاد . ونذكر ترجمة موجزة لكل منهم ورأي علي ( عليه السلام ) فيه ، لتعرف مدى الكارثة التي أحلها عثمان بالأمة ، ومدى معاناة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) منهم !
وقد خص علي ( عليه السلام ) منهم مروان فقال لعثمان : إنه لا دين له ، ولا قيمة له عند الله ، وإنه سيوردك ثم لايصدرك ، أي يدخلك في أمر ولا يستطيع إخراجك منه .
وعندما طلب منه عثمان أن ىقنع المصريين ويردهم ، شكى له أربعة ، فقال ( عليه السلام ) : ( إني قد كنت كلمتك مرة بعد مرة ، فكل ذلك نخرج فنتكلم ونقول وتقول ، وذلك كله فعل مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، وابن عامر ، ومعاوية ، أطعتهم وعصيتني ! قال عثمان : فإني أعصيهم وأطيعك ) . ( الطبري : 3 / 393 ) .
ونورد هنا تراجم سبعة منهم ، وبعضهم اتضحت شخصيته من فصول الكتاب ، مثل
ابن سرح والي مصر ، وبعضهم كنا أفردناه بمجلد ، كأبي سفيان ومعاوية .
--------------------------- 456 ---------------------------
2 - الحَكَم بن العاص ، الوزغ أبوالوزغ ، عم عثمان
1 . هو الحكم بن أبي العاص بن أمية ، عم عثمان ، ووالد صهره مروان . كان من أشد مشركي قريش عداوة لله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال ابن سعد في الطبقات ( 1 / 200 ) : ( كان أهل العداوة والمبادأة لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أبو جهل بن هشام ، وأبو لهب بن عبد المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن قيس بن عدي وهو بن الغيطلة والغيطلة أمه ، والوليد بن المغيرة ، وأمية وأبيٌّ ابنا خلف ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والنضر بن الحارث ، ومنبه بن الحجاج ، وزهير بن أبي أمية ، والسائب بن صيفي بن عابد ، والأسود بن عبدالأسد ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، والعاص بن سعيد بن العاص ، والعاص بن هاشم وعقبة بن أبي معيط ، وابن الاصدى الهذلي وهو الذي نطحته الأروى ، والحكم بن أبي العاص ، وعدي بن الحمراء . وذلك أنهم كانوا جيرانه ) .
وكان أحد التسعة عشر الذين انتدبتهم بطون قريش لقتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة هجرته ، ففي المنتظم ( 3 / 49 ) : ( روى الواقدي عن أشياخه أن الذين كانوا ينتظرون رسول الله تلك الليلة : أبو جهل ، والحكم بن أبي العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وابن العيطلة ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وأبو لهب ،
وأبيّ بن خلف ، ونبيه وأبيّ ، ابنا الحجاج ) .
وقال عبد الله بن عمر : ( هجَّرتُ الرواح إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء أبو الحسن فقال له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أدن ، فلم يزل يدنيه حتى التقم أذنيه ، فبينما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يسارُّه إذ رفع رأسه كالفزع ، قال : قرع بسمعه الباب ! فقال لعلي : إذهب فقده كما تقاد الشاة إلى حالبها ، فإذا عليٌ يدخل الحكم بن العاص آخذاً بإذنه ولها زنمة ، حتى أوقفه بين يدي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلعنه نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثلاثاً ثم قال : أحِلْهُ ناحية ، حتى راح إليه قوم من المهاجرين والأنصار ، ثم دعا به فلعنه ، ثم قال : إن هذا سيخالف كتاب الله وسنّة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء . فقال ناس من القوم : هو أقل وأذلُّ من أن يكون هذا منه ! قال علي : وبعضكم يومئذ من شيعته ) . وابن عساكر ( 11 / 507 ) وكنز
--------------------------- 457 ---------------------------
العمال ( 6 / 39 و 90 ) وقال : أخرجه الطبراني والدارقطني . وضعفه في الزوائد ( 5 / 242 ) وقال : رواه الطبراني وفيه حسين بن قيس الرحبي وهو ضعيف . لكن لوصح تضعيفه للرحبي فله طرق أخرى ومؤيدات عديدة .
2 . كان الحَكَم من الذين هدر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دمهم فخبأه عثمان ( شرحالأخبار : 2 / 151 ) .
وعفا عنه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجاء إلى المدينة وواصل أذاه للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكان يسخر به : ( كان يجلس عند النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإذا تكلم النبي اختلج بوجهه ، فبصر به النبي فقال : أنت كذاك ! فما زال يختلج حتى مات ) . ( الطبراني الكبير : 3 / 214 ) .
وفي لسان العرب ( 2 / 258 ) ونهاية ابن الأثير ( 2 / 60 ) : ( كان يحرك شفتيه وذقنه استهزاء وحكاية لفعل سيدنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فبقي يرتعد إلى أن مات ) . ( ورواه الحاكم وصححه : 2 / 621 ، وفي الخرائج : 1 / 168 : يحرك كتفيه ويكسر يديه ) .
وكان يجلس تحت نافذة بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يتجسس عليه ، وتسلق ذات مرة وأطل من النافذة والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مع إحدى زوجاته ، فأراد أن يفقأ عينه بالمشقص فهرب ! ( غوامض الأسماء لابن بشكوال : 2 / 587 . وراجع الغدير : 1 / 260 ) .
3 . وعندما لم يرتدع الحكم دعا عليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولعنه ، ونفاه مع أولاده إلى
( بطن وجّ ) من بادية الطائف ! ( البدء والتاريخ : 5 / 199 ، وأنساب الأشراف : 5 / 480 ) .
وقال في الإستيعاب ( 1 / 359 ) : ( اختُلف في السبب الموجب لنفي رسول الله إياه فقيل كان يتحيل ويستخفي ويتسمع ما يُسِرُّه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى كبارالصحابة في مشركي قريش وسائر الكفار والمنافقين ، فكان يفشي ذلك عنه حتى ظهر ذلك عليه ، وكان يحكيه في مشيته وبعض حركاته ، إلى أمور غيرها كرهت ذكرها ! ذكروا أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان إذا مشى يتكفأ وكان الحكم بن العاص يحكيه ، فالتفت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوماً فرآه يفعل ذلك فقال : فكذلك فلتكن ! فكان الحكم مختلجاً ، لم يرتعش إلا من يومئذ ، فعيَّره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت ، فقال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه :
--------------------------- 458 ---------------------------
إن اللعين أبوك فارمِ عظامه * إن ترمِ ترمِ مُخَلَّجاً مجنونا
يمسي خميصَ البطن مَن عَمِلَ التقى * ويظلُّ مَن عَمِلَ الخبيثَ بطينا ) .
فأما قول عبد الرحمن بن حسان : إن اللعين أبوك ، فروي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره ، أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن ما قال : أمّا أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه ) .
ومعنى البيت الأخير أنه كان بطيناً وشاذاً جنسياً يلاط به !
وفي وفيات الأعيان ( 2 / 226 ) : ( كان يرعى الغنم ويأوي إلى حبيلة وهي الكرمة ولم يزل كذلك حتى ولي عثمان بن عفان الخلافة فرده ، وكان الحكم عمه ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 164 ) : ( قال بعضهم : رأيت الحكم بن أبي العاص يوم قدم المدينة عليه فِزْر خَلِق ( ثوب بالٍ متهرئ ) وهو يسوق تيساً ، حتى دخل دار عثمان والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه ، ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان ) . وذكر الأميني ( رحمه الله ) في الغدير : 8 / 241 ، أن عثمان أعطاه ملايين
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب : ( الحكم بن العاص ، اللعين ، طريد رسول الله وعدوه ، عينه عثمان على جمع الصدقات ، فبلغت ثلاث مئة ألف درهم ، فأعطاها عثمان له كلها وفيها حق الفقراء والمساكين ، وهنا سار عثمان بسيرة الشيخين ، إذ ترك أبو بكر بإيعاز من عمر لأبي سفيان ما بيده من الصدقات ، ليضمن رضا أبي سفيان وتعاونه مع السلطة ، مع أن فيها حق فقراء المسلمين . ولم يكتف عثمان بذلك بل زوج الحارث بن الحكم بن العاص أخا مروان ، ابنته عائشة ، وأعطاه ثلاث مئة ألف درهم
دفعةً واحدة .
ولما قدمت إبل الصدقة أعطاها عثمان للحكم بن العاص ، وكان رسول الله قد تصدق على المسلمين بموقع في المدينة ، فأعطاه عثمان للحكم بن العاص ) .
( المواجهة مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) للمحامي أحمد حسين يعقوب / 583 .
--------------------------- 459 ---------------------------
3 - مروان بن الحكم ( أمير المؤمنين ! ) الوزغ بن الوزغ !
1 . ولد مروان بن الحكم في المدينة فجاؤوا به إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليدعو له ، فقرَّبته منه عائشة قال : ( أخرجوا عني الوزغ ابن الوزغ ، ولعنه ) . رواه الحاكم ( 4 / 479 ) وصححه ، قال : ( هو الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون ) .
( ونعيم في الفتن ( 1 / 131 ) وجواهر المطالب ( 2 / 191 ) وفيض القدير ( 2 / 76 ) والسيرة الحلبية ( 1 / 509 ) وينابيع المودة ( 2 / 469 ) والنزاع والتخاصم / 199 ، وخزانة الأدب / 932 .
ورواه ابن كثير في النهاية ( 6 / 272 ) بلفظ : فأبى أن يفعل ، ثم قال : ابنُ الزرقاء ! هلاك أمتي على يديه ويدي ذريته ، وزعم أنه مرسل ، مع أنه مسند صحيح السند .
( وقال الشعبي : سمعت ابن الزبير يقول : ورب هذه الكعبة إن الحكم ابن أبي العاص وولده ملعونون على لسان محمد ، وقد كان للحكم عشرون ابناً وثمانية بنات ) . ( سير الذهبي : 2 / 108 ، وتاريخ دمشق : 57 / 271 ، بسند صحيح ) .
وفي عمدة القاري ( 19 / 169 ) : ( أراد معاوية أن يستخلف يزيد فكتب إلى مروان وكان على المدينة ، فجمع الناس فخطبهم وقال : إن أمير المؤمنين قد رأى رأياً حسناً في يزيد ، ودعا إلى بيعة يزيد ، فقال عبد الرحمن بن أبيبكر : ما هي إلاَّ هرقلية ، إن أبا بكر والله لم يجعلها في أحد من ولده ولا من أهل بلده ولا من أهل بيته ، فقال مروان : ألست الذي قال الله فيه : وَالَّذي قَالَ لِوَالِدَيْه أُفٍّ لكما . . قال فسمعتها عائشة فقالت : يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ، والله ما أنزلت إلاَّ في فلان بن فلان الفلاني ، وفي لفظ والله لوشئت أن أسميه لسميت ، ولكن رسول الله لعن أبا مروان ومروان في صلبه ، فمروان فَضَضٌ ، أي قطعة ، من لعنة الله عز وجل ) !
2 . روى الحاكم ( 4 / 480 ) قوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( إني أريت في منامي كأن بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة ! قال : فما رؤيَ النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مستجمعاً ضاحكاً حتى توفي ! هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
--------------------------- 460 ---------------------------
كان أبغض الأحياء إلى رسول الله بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف . هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) .
3 . قال في شرح النهج ( 4 / 70 ) : ( كان مجاهراً بالإلحاد هو وأبوه الحكم بن أبي العاص وهما الطريدان اللعينان ! كان أبوه عدو رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يحكيه في مشيه ويغمز عليه عينه ويدلع له لسانه ويتهكم به ويتهافت عليه ( يقهقه رافعاً صوته سخريةً ) ! هذا وهو في قبضته وتحت يده وفي دار دعوته بالمدينة ، وهو يعلم أنه قادر على قتله أي وقت شاء من ليل أو نهار ! فهل يكون هذا إلا من شأن شديد البغضة ومستحكم العداوة ؟ حتى أفضى أمره إلى أن طرده رسول الله عن المدينة وسيره إلى الطائف ! وأما مروان ابنه فأخبث عقيدة وأعظم إلحاداً وكفراً ) .
4 . وكان مروان يلقب : خيطُ باطل ، لطول قامته واضطراب خلقه ، وفيه يقول أخوه :
لحى الله قوماً أمَّروا خيط باطلٍ * على الناس يعطي من يشاء ويمنع ) .
والقائل أخوه عبد الرحمن وكان ظريفاً . ( البدء والتاريخ : 6 / 19 ، وأسد الغابة : 4 / 348 ) .
5 . قال ابن حجر في الصواعق ( 2 / 527 ) : ( ومن أشد الناس بغضاً لأهل البيت مروان بن الحكم ! وكأن هذا هو سرالحديث الذي صححه الحاكم أن عبد الرحمن بن عوف قال : كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي فيدعو له فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال : هذا الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون .
ثم روى عن عمرو بن مرة الجهني وكانت له صحبة أن الحكم بن أبي العاص استأذن على رسول الله فعرف صوته فقال : إئذنوا له عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم وقليل ما هم ! يُشَرَّفون في الدنيا ويُصَغَّرون في الآخرة ، ذووا مكر وخديعة ، يُعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق ! قال ابن ظفر : وكان الحكم هذا يرمى بالداء العضال وكذلك أبو جهل ( أي بالأُبنة كما ورد في شعر حسان ) كذا ذكر ذلك كله الدميري في حياة الحيوان ( ص 100 ) .
ولعنته للحكم وابنه لاتضرهما ! لأنه تداركَ ذلك بقوله مما بينه في الحديث الآخر :
--------------------------- 461 ---------------------------
إنه بشرٌ يغضب كما يغضب البشر ! وأنه سأل ربه أن من سبه أو لعنه أو دعا عليه أن يكون ذلك رحمة له وزكاة وكفارة وطهارة ! وما نقله عن ابن ظفر في أبي جهل لايلامُ عليه فيه ، بخلافه في الحكم فإنه صحابي وقبيحٌ أيُّ قبحٍ أن يرمى صحابي بذلك ، فليحمل على أنه إن صح ذلك كان يرمى به قبل الإسلام ) !
فاعجب لابن حجر عابد الصحابة ! كيف أبطل قوله تعالى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهوَى ، وطعن برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجعله ينطق عن غضب وهوى ! كل ذلك لكي ىبرئ الوزغ ابن الوزغ ويجعله صحابياً عادلاً !
والعجب أن ابن حجر الثاني وافق الأول فقال في مقدمة فتح الباري / 443 : ( يقال له رؤية ، فإن ثبتت فلا يُعَرَّجْ على من تكلم فيه ) !
فاعجب لدفاعهم عن الملعونين وتحايلهم لرفع اللعن عنهم ! والملعون مطرود من رحمة الله فجعلوا لعنته زكاة ورحمة له وبركة ! ( راجع : ألف سؤال وإشكال - المسألة 145 ) .
وكان ابن عبد البر أعقل من ابني حجر ، فشكك في صحبته ، قال في الإستيعاب ( 3 / 1387 ) : ( ولم يره ، لأنه خرج إلى الطائف طفلاً لا يعقل ) .
6 . أخبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عمر بقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بني أمية فلم يقبله ! ففي الكافي بسند صحيح ( 8 / 238 ) قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( إن عمر لقيَ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : أنت الذي تقرأ هذه الآية : بأيِّكُمُ المفْتُون ، تعرض بي وبصاحبي ؟ قال : أفلا أخبرك بآية نزلت في بني أمية : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَّلْيُتمْ أن تُفْسٍدُوا في الأرض وتُقَطِّعُوا أرحَامكم ؟ فقال : كذبت ! بنو أمية أوصل للرحم منك ، ولكنك أبيت إلاعداوة لبني تيم وعدي وبني أمية ) !
فبنو هاشم عنده أعداء وبنو أمية حلفاء ، ولذلك أوصى بالخلافة لعثمان !
7 . صار مطرود النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حامل أختام الخليفة ومقدرات الأمة ! فقد تخوف أبو بكر وعمرأن يلغيا قرار الطرد ، وألغاه عثمان وأتى بعمه الحكم وأعطاه ملايين من بيت المال فصار من الأثرياء ، وزوج مروان ابنته وجعله وزيره الخاص وأعطاه خاتم الخلافة ! فكانت سىطرته علىه السبب في نقمة الصحابة على عثمان !
--------------------------- 462 ---------------------------
ومن أفعاله الشيطانية أن عثمان اتفق مع المصريين على عزل ابن أبي سرح ، وكتب مرسوم محمد بن أبيبكر وذهبوا إلى مصر ، فرأوا في الطريق رسولاً من عثمان يحمل رسالة إلى الوالي الأموي بأن يقتلهم ويبقى في منصبه ! فرجعوا وحاصروا عثمان وطلبوا أن يسلمهم مروان أو يعزل نفسه ، فلم يفعل ، فقتلوه !
في تارىخ دمشق ( 39 / 415 ) بسند صحىح ملخصاً : ( قال الزهري : فرجعوا إلى المدينة فجمعوا طلحة والزبير وعلياً وسعداً ومن كان من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأخبروهم بقصة الغلام وأقرؤوهم الكتاب ، فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان ، وحاصر الناس عثمان وأجلب عليه محمد بن أبيبكر ببني تيم وغيرهم ، فلما رأى ذلك عليٌّ بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كلهم بدري ، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير فقال له علي ( عليه السلام ) : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم ، قال والبعير بعيرك ؟ قال : نعم ، قال : فأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا ، وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمر به ولا علم به ! قال له علي : فالخاتم خاتمك ؟ قال : نعم . قال : فكيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلم به ! فعرفوا أنه خط مروان وسألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى ، وكان مروان عنده في الدار ! فقالوا : لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحثه ونعرف حال الكتاب ، وكيف يأمر بقتل رجال من أصحاب محمد بغير حق ! فإن يكن عثمان كتبه عزلناه ، وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر مروان . . إلى آخر الرواية ) ! ( ورواها السيوطي في تاريخ الخلفاء / 123 ، والبلاذري في أنساب الأشراف / 1467 ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة : 1 / 42 ، وابن حجر في الصواعق المحرقة : 1 / 342 ، والحلبي في السيرة الحلبية : 2 / 271 ، والعصامي في سمط النجوم العوالي / 730 ، وناقش الشريف المرتضى في الشافي في الإمامة ( 4 / 256 ) محاولتهم تبرئة عثمان ومروان من وِزرها ) .
8 . كان مروان مع عائشة في حرب الجمل فقتَل طلحة غيلةً لأنه حرَّض على عثمان ، قال في مجمع الزوائد ( 9 / 150 ) : ( عن قيس بن أبي حازم قال : رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم فوقع في عين ركبته فما زال يسيح إلى أن مات .
رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ) . ( ورواه ابن سعد : 5 / 38 ، والحاكم : 3 / 370 ) .
--------------------------- 463 ---------------------------
ولما انهزم جيش الجمل أُخِذ مروان أسيراً ، فاستشفع بالحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكلماه فيه فخلى سبىله ! ويأتي ذكره في حرب الجمل .
9 . ثار أهل المدينة على يزيد وطردوا بني أمية من المدينة ، وأخذوا عليهم المواثيق : ( أن لا يدلوا على عورة لهم ولايظاهروا عليهم عدواً ، فلما لقيهم مسلم بن عقبة بوادي القرى قال مروان لابنه عبد الملك : أدخل عليه قبلي لعله يجتزئ بك مني فدخل عليه عبد الملك فقال له مسلم : هات ما عندك أخبرني خبرالناس وكيف ترى ؟ فقال : نعم ثم أخبره بخبر أهل المدينة ، ودله على عوراتهم وكيف يؤتون ، ومن أين
يدخل عليهم ) . ( الطبقات : 5 / 225 ) .
ودخل مروان مع جيش يزيد ، فقال ابن سعد : ( فتصايح الناس وجعلوا ينالون من مروان ويقولون الوزغ بن الوزغ . . ثم وصف مذبحة جيش يزيد بأهل المدينة وكيف تجوُّل مروان مع قائد هم يزيد مسرف بن عقبة ، فقال له مسرف : والله ما أرى هؤلاء إلا أهل الجنة ! قال مروان : إنهم بدلوا وغيروا ) . ( الطبقات : 5 / 66 ) .
وقال ابن سعد ( 5 / 38 ) : ( فشكر ذلك له يزيد وقربه وأدناه ) .
ولما طردهم أهل المدينة طلب مروان من ابن عمرأن يحمي نسائه وأطفاله ، فقال : ( إني لا أقدر على مصاحبة النساء ! قال : فتجعلهم في منزلك مع حرمك . قال : لا آمن أن يدخل على حريمي من أجل مكانكم . فكلم مروان علي بن الحسين ( عليه السلام ) فقال : نعم ، فضمهم علي إليه وبعث بهم مع عياله قال : ثم ارتحل القوم من ذي خشب على أقبح إخراج ) . ( الإمامة والسياسة : 1 / 229 ) .
10 . بعد هلاك يزيد دخل الناس في تسع سنوات من الفوضى والاضطراب والحروب : ( وثب أهل خراسان بعمالهم فأخرجوهم ، وغلب كل قوم على ناحية ، ووقعت الفتنة ، وغلب ابن خازم على خراسان ) . ( تاريخ الطبري : 4 / 420 ) .
( وكانت الفتنة من يوم مات معاوية بن يزيد إلى أن استقام الناس لعبد الملك تسع سنين وإحدى وعشرين ليلة ) . ( تاريخ دمشق : 28 / 251 ) .
وبعد يزيد جاءت الفرصة لابن الوزغ فأراد أن يجعل الخلافة شورى بين بني أمية
--------------------------- 464 ---------------------------
ليدخل فيها ، فزجره الخليفة المبايع معاوية بن يزيد ، وطلب منهم تخويله ليعيد الخلافة إلى آل علي ( عليه السلام ) فانتقموا منه وقتلوه ، وقتلوا أستاذه الذي علمه التشيع عمر بن نعيم ، ودفنوه حياً .
وبعد قتله دعا الضحاك بن قيس الفهري حاكم دمشق إلى بيعة ابن الزبير ، فاستجاب له أهل الشام ، وعارضه الأمويون ورؤساء قبائل الشام حتى لاتنتقل الخلافة من بلدهم ، قال رئيسهم رَوْح بن الزنباع : ( إن الملك كان فينا أهل الشام فينتقل إلى الحجاز لا نرضى بذلك ) . ( الزوائد : 7 / 257 ، والطبراني الكبير : 5 / 80 ) .
وفصَّل ذلك الطبري ( 3 / 378 ) وابن عساكر ( 24 / 292 ) ووصفا انهيار مروان أمام موجة ابن الزبير ، فتوجه إلى مكة ليبايعه ويأخذ الأمان لبني أمية ، فرده عبيد الله بن زياد من أذرعات وقال له : أنت سيد قريش وشيخ بني عبد مناف . . الرأي أن ترجع وتدعو إلى نفسك وأنا أكفيك قريشاً ومواليها فلا يخالفك منهم أحد ، فرجع مروان وفاوض رؤساء قبائل الشام وقبل بشروطهم ! وبايعه ابن بحدل الكلبي ، وقاتلوا الضحاك في مرج راهط وانتصروا عليه .
قال الطبري ( 3 / 281 ) : ( قاتل مروان الضحاك عشرين ليلة ، ثم هزم أهل المرج وقُتلوا وقتل الضحاك ، وقتل يومئذ مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط ) .
11 . قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن مروان : ( لا حاجة لي في بيعته إنها كف يهودية أما إن له إمْرَةً كلعْقة الكلبِ أنفَه ، وهو أبوالأكبش الأربعة ، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر ) . ( نهج البلاغة : 1 / 123 ) . وفي رواية : ( ليحملن راية ضلالة بعدما يشيب صدغاه ، وله إمرة كلحسة الكلب أنفه ) . ( الطبقات : 5 / 43 ) .
وكانت مدة لعقته بضعة أشهر ، ربح فيها معركة مرج راهط ضد الضحاك ، ثم ربح الأردن وفلسطين بدون معركة ، ثم ربح مصر بأنصار معاوية وبني أمية فخضعت له ، ونصب عليها ولده عبد العزيز حاكماً .
وعاد إلى دمشق فنكث بيعته معهم وكانوا شرطوا عليه أن يكون خالد بن يزيد ولي عهده ، ثم عمرو بن سعيد بن العاص ( مروج الذهب / 738 ) فخلعما وعهد إلى ولديه عبد الملك وعبد العزيز ، وتزوج أم خالد ليكسر شخصيته ) . ( العقد الفريد / 1101 ) .
--------------------------- 465 ---------------------------
وقال لخالد ذات مرة وكان مروان فحاشاً : يا ابن رطبة الاست ! فدخل إلى أمه فبكى عندها وشكا إليها ما قاله مروان على رؤوس أهل الشام ، فقالت له : لا عليك فإنه لا يعود إليك بمثلها ! فجاء إلى أم خالد فرقد عندها ، فأمرت جواريها فطرحن عليه الوسائد ثم غمته حتى قتلته ، ثم شقت جيبها عليه وأمرت جواريها فشققن وصحن : مات أمير المؤمنين فجأة ) . ( المنتظم : 6 / 50 ) .
قال اليعقوبي في تاريخه ( 2 / 275 ) : ( فصيرت له سُمَاً في لبن ، فلما دخل سقته إياه ) .
وقام بالأمر بعده ابنه عبد الملك وقال لأم خالد : لولا أن يقول الناس إني قتلت بأبي امرأة لقتلتك ) . ( وذلك في هلال شهر رمضان سنة خمس وستين . وكانت ولايته على الشام ومصر ثمانية أشهر ويقال ستة أشهر ) . ( تاريخ دمشق : 57 / 263 ) .
4 - الشاعر الأموي الساخر : عبد الرحمن بن الحكم
1 . كان عبد الرحمن بن الحكم يهجو أخاه مروان ، وقد هجا معاوية ويزيداً أيضاً وذكر ظلمهما لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، ولم يبلغ بذلك أن يكون من الطيبين ، بل كان أقل خبثاً من أبيه وأخيه وأسرته : ( لما أدخل ثقل الحسين بن علي على يزيد بن معاوية ، ووضع رأسه بين يديه ، بكى يزيد ، وقال :
نُفَلِّقُ هاماً من رجال أحبة * إلينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
أما والله لو كنت صاحبك ما قتلتك أبداً . فقال علي بن الحسين : ليس هكذا ! قال يزيد : كيف يا ابن أم ؟ قال : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . وعنده عبد الرحمن بن أم الحكم ، فقال عبد الرحمن :
لَهامٌ بجنب الطف أدنى قرابةً * من ابن زياد العبد ذي النسب الوغلُ
سمية أمسى نسلها عدد الحصى * وبنتُ رسول الله ليس لها نسلُ
فرفع يزيد يده فضرب صدر عبد الرحمن ، وقال : أسكت ) . ( كبيرالطبراني : 3 / 116 ) .
وعبد الرحمن بن أم الحكم بنت أبي سفيان ثقفي . ( الإستيعاب : 4 / 1933 ) والصحيح :
--------------------------- 466 ---------------------------
أن القائل عبد الرحمن بن الحكم . ( تاريخ دمشق : 34 / 316 ، وأنساب الأشراف : 3 / 222 ) .
كما نسبه الطبري ( 4 / 352 ) وبعض المصادر إلى أخيه يحيى بن الحكم ، وهو اشتباه أيضاً لأن يحيى هذا كان متعصباً ضد بني هاشم ، بعكس عبد الرحمن .
قال البلاذري ( 2 / 50 ) : ( جرى بين يحيى بن الحكم بن أبي العاص وبين عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كلام ، فقال له يحيى : كيف تركت الخبيثة ؟ يعني المدينة ! قال عبد الله : سماها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طيبة وتسميها خبيثة ! قد اختلفتما في الدنيا وستختلفان في الآخرة . فقال : والله لأن أموت وأدفن بالشام الأرض المقدسة أحب إليَّ من أن أدفن بها ! فقال عبد الله : اخترت مجاورة اليهود والنصارى على مجاورة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والمهاجرين والأنصار !
قال يحيى : ما تقول في عثمان وعلي ؟ قال : أقول ما قال من هوخير مني لمن هو شر منهما : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »
2 . وقال البلاذري ( 6 / 305 ) : ( عبد الرحمن بن الحكم . . هاجى عبد الرحمن بن حسان ، وهو الذي يقول لمروان بن الحكم :
تجبّرت واستكبرت حتى كأنماا * نرى بك فينا قيصراً وابن قيصرا
فذا العرش لا يغفر لمروان إنني * أراه بأخلاق المكارم أعسرا )
وفي الإستيعاب ( 3 / 1388 ) : ( كان مروان يقال له خيط باطل . فلما بويع له بالإمارة قال فيه أخوه عبد الرحمن بن الحكم ، وكان لا يرى رأى مروان :
فوالله ما أدري وإني لسائلٌ * حليلة مضروب القفا كيف يصنع
لحا الله قوماً أمروا خيط باطل * على الناس يعطي ما يشاء ويمنع
وكان كثيراً ما يهجوه ، ومن قوله فيه :
وهبت نصيبي فيك يا مرو كلَّه * لعمرو ومروان الطويل وخالد
فكل ابن أم زائد غير ناقص * وأنت ابن أم ناقص غير زائد )
3 . وكان أبو سفيان أعجبه زياد بن سمية ، فقال إنه زنا بأمه في الطائف فهو ابنه مع أن أمه سمية متزوجة بعبيد ، فهو زياد بن عبيد ، وقد قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الولد للفراش
--------------------------- 467 ---------------------------
وللعاهرالحجر ، فاستلحقه معاوية وجعله زياد بن أبي سفيان وأطاعه علماء البلاط ! وصار اسمه عند البخاري ( 2 / 183 ) ( زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه ) !
وفي الإستيعاب ( 2 / 526 ) : ( لما ادعى معاوية زياداً دخل عليه بنو أمية وفيهم عبد الرحمن بن الحكم فقال له : يا معاوية لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلةً وذلة ! فأقبل معاوية على مروان وقال : أَخرج عنا هذا الخليع ! فقال مروان : والله إنه لخليع إنه ما يطاق . فقال معاوية : والله لولاحلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق . ألم يبلغني شعره في زياد ، ثم قال لمروان أسمعنيه فقال :
ألا أبلغ معاوية بن صخر * فقد ضاقت بما تأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ * وترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد أن رحمك من زياد * كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها حملت زياداً * وصخر من سمية غير دان
ثم ذكر أن عبد الرحمن نفسه نسب أبياته ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر !
وقال له معاوية : أعزب فلا عفا الله عنك ، قد عفوت عن جرمك . ولو صحبت زياداً لم يكن شئ مما كان ، إذهب فأسكن أي أرض أحببت ، فاختار الموصل ) .
4 . لكن ظهر خبث عبد الرحمن بن الحكم بقتله الصحابي عمرو بن الحمق في الموصل ! قال الطبراني في كتاب الأوائل / 107 : ( إن أول رأس ثقف في الإسلام وأرسل إلى معاوية هو رأس محمد بن أبيبكر من مصر ثم قال : وقالوا أول رأس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق . قالوا : لما قتل علي رضي الله عنه بعث معاوية في طلب عمرو بن الحمق ففاته ، فأخذ امرأته فحبسها ، ثم ظفر عبد الرحمن بن الحكم بعمرو فقتله وبعث رأسه إلى معاوية ، فكان أول رأس حمل في الإسلام ) .
5 . فكتب الحسين ( عليه السلام ) إلى معاوية : ( وأما ما ذكرت أنه انتهى إليك عني ، فإنه
إنما رقاه إليك الملاقون المشاؤن بالنميم ، وما أريد لك حرباً ، ولا عليك خلافاً ،
--------------------------- 468 ---------------------------
وأيم الله إني لخائف لله في ترك ذلك ، وما أظن الله راضياً بترك ذلك وعاذراً بدون الإعذار فيه إليك ، وفي أوليائك القاسطين الملحدين ، حزب الظلمة وأولياء الشياطين . ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة ، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة ، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، ولا بإحنة تجدها في نفسك .
أولستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) العبدالصالح الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه ، وصفرت لونه بعدما آمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ، ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل ، ثم قتلته جرأة على ربك ، واستخفافاً بذلك العهد . أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فتركت سنة رسول الله تعمداً ، وتبعت هواك بغير هدى من الله ، ثم سلطته على العراقين ، يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم ويسمل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنك لست من هذه الأمة ، وليسوا منك ) ! ( الإحتجاج : 2 / 20 ) .
5 - نائلة بنت الفراصفة الكلبية زوجة عثمان
1 . ( الفُرافصة بالضم : اسم الأسد ، وبالفتح اسم الرجل ، وقد قيل : كل فرافصة في العرب بالضم إلا الفرافصة أبا نائلة صهر عثمان بن عفان فإنه بالفتح ) . ( الروض الأنف : 1 / 98 ) . ( آل الفرافصة : فيهم العدد : الإيناس للوزير المغربي : 1 / 41 ) .
2 . كانت نائلة نصرانية وكان أهلها يسكنون في بادية السماوة ، وقد أسلمت .
قال النويري في نهاية الإرب ( 19 / 507 ) : ( فلما أرادوا حملها قال لها أبوها : يا بنتي إنك تقدمين على نساء من نساء قريش ، هن أقدر على الطَّيب منك ، فاحفظي عني خصلتين : تكحلي وتطيبي بالماء حتى تكون ريحك ريح من أصابه مطر . فلما قدمت على عثمان . . كانت من أحظى نسائه عنده ) .
--------------------------- 469 ---------------------------
3 . وكانت قوية الشخصية على عثمان ( ابن الأعثم : 2 / 351 ) ووفية له : قال البلاذري
( 5 / 497 ) : ( خطب معاوية نائلة وألح عليها ، فنزعت ثنيتين من ثناياها فأمسك عنها ) . أي كسرت أسنان مقدم فمها لتشوه شكلها ، فلا يرغب بها !
4 . ومن وفائها لعثمان قبَّلت رجل ابن حديج قاتل محمد بن أبيبكر في مصر ! لأن محمداً شارك في قتل عثمان ! كما سُرَّت بقتل محمد أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأمرت بكبش فشوي وبعثت به إلى عائشة وقالت : هكذا قد شُوِيَ أخوك ! فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت !
قالت هند بنت شمر الحضرمية : رأيت نائلة زوجة عثمان تقبل رجل معاوية بن حديج ، وتقول : بك أدركت ثأري . ولما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله كظمت الغيظ حتى شخبت ثدياها دماً ! ووجد عليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وجداً عظيماً وقال : كان لي ربيباً ، وكنت أعده ولداً ولبنيَّ أخاً ، وذلك لأن علياً قد تزوج أمه أسماء بنت عميس بعد وفاة أبيبكر ) . ( الغارات : 2 / 757 ) .
5 . كانت نائلة تقول لمروان ومستشاري عثمان إنكم ستقتلون عثمان وتيتمون أولاده ! وكانت تشجع عثمان على العمل بنصائح علي ( عليه السلام ) .
قال الطبري ( 3 / 397 ) : ( فلما خرج علي دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته فقالت : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلمي ، فقالت : قد سمعتَ قول علي لك وإنه ليس يعاودك ، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء ! قال : فما أصنع ؟ قالت : تتقى الله وحده لا شريك له وتتبع سنة صاحبيك من قبلك ، فإنك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة ، وإنما تركك الناس لمكان مروان ! فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لايُعصى . قال فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه وقال : قد أعلمته إني لست بعائد ) .
6 . وضع علي ( عليه السلام ) على باب عثمان حماية تمنع غوغاء المصريين ، منهم الحسنان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقنبر وغيرهم ، وألزم طلحة والزبيرأن يرسلوا أولادهم وجماعتهم للحماية ، فتراشقت الحماية مع المصريين وجُرح الحسن ( عليه السلام ) وقنبر !
--------------------------- 470 ---------------------------
قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 62 ) ملخصاً : ( وذكروا أن محمد بن أبيبكر لما جُرِحَ الحسن بن علي أخذ بيد رجلين فقال لهما : إن جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن ، كشفوا الناس عن عثمان وبطل ما تريدون ، ولكن قوموا حتى نتسور عليه فنقتله من غير أن يعلم أحد ، فتسور هو وصاحباه من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان ، وما يعلم أحد ممن كان معه ، لأن كل من معه كان فوق البيت ، ولم يكن معه إلا امرأته ، فدخل عليه محمد بن أبيبكر فصرعه وقعد على صدره ، وأخذ بلحيته وقال : يا نعثل ما أغنى عنك معاوية ، وما أغنى عنك ابن عامر وابن أبي سرح . فقال له عثمان : لو رآني أبوك لساءه مكانك مني ، فتراخت يده عنه وقام عنه وخرج ! ودخل عليه رجل من أهل الكوفة بمشقص في يده فوجأ به منكبه ، ثم دخل رجل من أهل مصر فعلاه بالسيف ، ثم دخل رجل أزرق قصيرمجدر وضربه بالجرز على صدغه الأيسر فخر على وجهه ، وحالت نائلة بنت الفرافصة زوجته بينه وبينه وكانت جسيمة وألقت بنت شيبة نفسها عليه ، ودخل عليه رجل من أهل مصر ، فضربه وردت نائلة السيف فقطع أناملها فقالت يا رباح ، غلام لعثمان أسود ومعه سيف ، أغن عني هذا فضربه الأسود فقتله ، ثم دخل آخر فوضع ذباب السيف في بطن عثمان فقتله ، فخرجت وهي تصيح ، وخرج القوم هاربين من حيث دخلوا ، فلم يسمع صوت نائلة لما كان في الدار من الجلبة ، فقالت : إن أمير المؤمنين قد قتل !
فدخل الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن كان معهما ، فوجدوا عثمان مقتولاً قد مُثِّل به فأكبوا عليه يبكون ، فبلغ علياً الخبر فدخل فقال لابنيه : كيف قتل وأنتما على الباب ؟ !
وكتبت نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية تصف دخول القوم على عثمان ، وأرسلت بقميص عثمان مضرجاً بالدم ممزقاً ، وبالخصلة التي نتفها الرجل المصري من لحيته ، فعقدت الشعر في زر القميص ، ثم دعت النعمان بن بشير الأنصاري فبعثته إلى معاوية . ثم دخل أهل مصر الدار وثار أهل الدار في وجوههم فأخرجوهم ثم اقتتلوا عند الباب ، فضُرب مروان بالسيف فصرع ) .
وقال الباقلاني في التمهيد / 526 : ( ولما رأت نائلة بنت الفرافصة وقع السيف ، برزت
--------------------------- 471 ---------------------------
وألقت نفسها عليه ، فأصابتها ضربة أندرت من يدها ثلاث أصابع ) .
7 . قال ابن عساكر ( 59 / 117 ) : ( لما قتل عثمان كتبت نائلة ابنة الفرافصة إلى معاوية كتاباً تصف فيه كيف دخل على عثمان وكيف قتل ، وبعثت إليه بقميصه الذي قتل وهو عليه فيه دمه ، فقرأ معاوية الكتاب على أهل الشام وأمر بقميص عثمان فطيف به في أجناد الشام ونعا إليهم عثمان ، وأخبرهم بما أُتي إليه واستُحل من حرمته ، وحرضهم على الطلب بدمه ، فبايعوه على الطلب بدم عثمان ، وبويع علي بن أبي طالب بالمدينة ) .
6 - الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي الكوفة
1 . كان آل أبي مُعَيْط خمارين ، وكان عُقبة خماراً مغنياً ملحداً ونديماً لأبيّ بن خلف ،
قال ابن حبيب في المنمق / 388 : ( زنادقة قريش : صخر بن حرب ، أسلم . وعقبة بن أبي معيط ، ضرب عنقه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) صبراً منصرفه من بدر بالصفراء . وأبيُّ بن خلف ، قتله رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده يوم أحد ، طعنه بالحربة ) .
ومعيط هو ابن ذكوان بن أمية بن عبد شمس . وذكوان كان مولى لأمية فتبناه ، وهو من أهل صفورية ، فأبناؤه ليسوا من بني أمية لصلبه . ( شرح النهج : 2 / 116 ) .
قال في السيرة الحلبية ( 1 / 508 ) : ( قال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : كنت بين شر جاريْن : أبي لهب وعقبة بن أبي معيط ، إن كانا يأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي . وكان عقبة صديقاً لأبي بن خلف فقال له : وجهي ووجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأه وتبزق في وجهه وتلطم عينه . فقال له عقبة : لك ذلك ! ثم إن عقبة لقي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ففعل به ذلك . قال الضحاك لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار ، فاحترق مكانها ) !
وفي الدر المنثور ( 5 / 68 ) عن ابن مردويه وصححه : ( التفت إليه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبراً . فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال له أصحابه : أخرج معنا قال : قد وعدني هذا الرجل
--------------------------- 472 ---------------------------
إن وجدني خارجاً من جبال مكة أن يضرب عنقي صبراً ، فقالوا : لك جملٌ أحمر لا يُدرك فلو كانت الهزيمة طِرْتَ عليه ! فخرج معهم فلما هزم الله المشركين حل به جمله في جدد من الأرض ، فأخذه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسيراً ) .
2 . وأُخذ عقبة في بدر أسيراً ، وفي الطريق إلى المدينة نزل جبرئيل ( عليه السلام ) فأمرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يقتله فقال : ( قدمه يا علي فاضرب عنقه ، فقال عقبة : يا محمد ألم تقل لا تُصبر قريش أي لا يقتلون صبراً ، قال أفأنت من قريش ؟ إنما أنت علج من أهل صفورية ، لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له ، لستَ منها ! قدمه يا علي فاضرب عنقه ) . ( تفسير القمي : 1 / 269 ) .
قال ابن قتيبة في المعارف / 319 : « فوقع ( أمية ) على أمة للخم يهودية من أهل صفورية يقال لها تِرْنَا ، وكان لها زوج من أهل صفورية يهودي ، فولدت له ذكوان ، فادعاه أمية واستلحقه ) .
وفي المنمق / 97 ، أن ذكوان تزوج امرأة أبيه فأولدها أبا معيط ! وقيل استحلقه ) .
فهذا أصل بني المعيط ، أولاد عم عثمان الذين سلطهم على المسلمين !
6 . واشتهر الوليد باسم الفاسق لأنه نزل فيه قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىمَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ . وذلك لما أسلم بنو المصطلق وبعثوا إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بإسلامهم ، فبعث الوليد بن عقبة ليقبض صدقاتهم : ( فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم . . فأنزل الله تعالى فيه وفيهم : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ . . ) . ( ابن هشام : 3 / 763 ) .
وفي شرح النهج ( 4 / 80 ) : ( فكان لا يعرف إلا بالوليد الفاسق ) .
7 . استغل عثمان خلاف ابن مسعود وابن أبي وقاص ، فعزل سعداً ونصب عقبة بن أبي معيط مكانه . وسبب خلافهما أن سعداً اقترض من ابن مسعود مبلغاً كبيراً من بيت المال ولم يسدده ، فطالبه به سنين فلم يوفه سعد فوقع بينهما خلاف ! قال قيس بن
--------------------------- 473 ---------------------------
حازم : ( كنت جالساً عند سعد وعنده ابن أخيه هاشم بن عتبة ، فأتى ابن مسعود سعداً فقال له : أدِّ المال الذي قبلك . فقال له سعد : ما أراك إلا ستلقى شراً ، هل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل . فقال أجل والله إني لابن مسعود وإنك لابن حمينة . فقال هاشم : أجل والله إنكما لصاحبا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يُنظر إليكما ) . ( الطبري : 3 / 311 ) .
وهذه عقلانية من هاشم المرقال رضي الله عنه ، أراد أن يرتفع مستواهما عن الشتم ، وهو ابن أخ سعد وصهره ، ومن قادة الفتوحات ، وخواص علي ( عليه السلام ) .
8 . وقف ابن مسعود في وجه الوليد بن عقبة : ( رأى صنيع الوليد في جوره وظلمه ،
فعاب ذلك وجمع الناس بمسجد الكوفة ، وذكر لهم أحداث عثمان ، ثم قال : أيها الناس ، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم ، ثم يدعو خياركم فلايستجاب لهم ) ! ( الرياض النضرة / 363 )
فعزل عثمان ابن مسعود وأحضره إلى المدينة وضربه وكسر ضلعه ، فأوصى أن لا يصلي عليه . واعترض علي ( عليه السلام ) على عثمان بشدة ، وأخذ ابن مسعود إلى بيته وعالجه !
9 . وكان الوليد بن عقبة مدمن خمر حتى مطلع الفجر ، ففي مروج الذهب ( 2 / 334 ) :
( كان يشرب مع ندمائه ومغنيه من أول الليل إلى الصباح ، فلما آذنه المؤذنون بالصلاة خرج متفضلًا في غلائله ، فتقدم إلى المحراب في صلاة الصبح فصلى بهم أربعاً ، وقال : أتريدون أن أزيدكم ؟ وقيل إنه قال في سجودِه وقد أطال ، إشرب واسقني ، فقال له بعض من كان خلفه في الصف الأول : ما تزيد لا زادك الله من الخير ، والله لا أعجب إلا ممن بعثك إلينا والياً وعلينا أميراً ، وكان هذا القائل عتاب بن عيلان الثقفي . وخطب الناس الوليد فحصبه الناس بحصباء المسجد ، فدخل قصره يترنح ، ويتمثلُ بأبيات لتأبط شَرّاً :
ولست بعيداً عن مدامٍ وقيْنةٍ * ولا بصفا صلدٍ عن الخير معزل
ولكنني أروي من الخمر هامتي * وأمشي المَلا بالساحب المتسلسل
--------------------------- 474 ---------------------------
وفي ذلك يقول الحطيئة :
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * أن الوليد أحَقُّ بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم * أأزيدكم ثِملًا وما يدري
ليزيدهم أخرى ، ولو قبلوا * لقرنت بين الشفع والوتر
حبسوا عنانك في الصلاة ولو * خَلَّوْا عنانك لم تزل تجري
وأشاعوا بالكوفة فعله ، وظهر فسقه ومداومته شرب الخمر ، فهجم عليه جماعة من المسجد منهم أبو زينب بن عوف الأزدي وجندب بن زهير الأزدي وغيرهما فوجدوه سكران مضطجعاً على سريره لا يعقل ، فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ ثم تقايأ عليهم ما شرب من الخمر ، فانتزعوا خاتمه من يده وخرجوا من فورهم إلى المدينة ، فأتوا عثمان بن عفان فشهدوا عنده على الوليد أنه شرب الخمر ، فقال عثمان : وما يدريكما أنه شرب خمراً ؟ فقالا : هي الخمرالتي كنا نشربها في الجاهلية ، وأخرجا خاتمه فدفعاه اليه فزجرهما ودفع في صدورهما وقال : تنحَّيا عني ، فخرجا من عنده وأتيا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخبراه بالقصة فأتى عثمان وهو يقول : دفعت الشهود وأبطلت الحدود ! فقال له عثمان : فما ترى ؟ قال : أرى أن تبعث إلى صاحبك فتحضره ، فإن أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدرأ عن نفسه بحجة أقمت عليه الحد ! فلما حضرالوليد دعاهما عثمان فأقاما الشهادة عليه ولم يُدْل بحجة ، فألقى عثمان السوط إلى علي ، فقال علي لابنه الحسن : قم يا بني فأقم عليه ما أوجب الله عليه ، فقال : يكفينيه بعض من ترى ، فلما نظر إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحد عليه توَقياً لغضب عثمان لقرابته منه ، أخذ علي السوط ودنا منه ، فلما أقبل نحوه سبه الوليد وقال : يا صاحب مكس ، فقال عقيل بن أبي طالب وكان ممن حضر : إنك لتتكلم يا ابن أبي مُعَيْط كأنك لا تدري من أنت ، وأنت علج من أهل صفورية ، وهي قرية بين عكاء واللجون من أعمال الأردن من بلاد طبرية ، كان ذكر أن أباه كان يهودياً منها !
فأقبل الوليد يَرُوغ من علي فاجتذبه علي فضرب به الأرض وعلاه بالسوط ، فقال عثمان : ليس لك أن تفعل به هذا ، قال : بل وشراً من هذا إذا فسق ومنع حق الله تعالى
--------------------------- 475 ---------------------------
أن يؤخذ منه ! والوليد هذا ، أخ عثمان لأمه .
10 . وجاء الوليد بن عقبة عند بيعة المسلمين لعلي ( عليه السلام ) ، فقال : يا أبا الحسن إنك
قد وترتنا جميعاً ، أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً ، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش . . . وسيأتي ذكره في بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . ( شرح النهج : 7 / 38 ، وتاريخ اليعقوبي : 2 / 167 ) .
11 . وفي شرح النهج ( 8 / 94 ) من خبر صفين ، لما برز لعلي ( عليه السلام ) فرسان فقتلهم ، قال : ومعاوية واقف على التل يبصر ويشاهد ، فقال : تباً لهذه الرجال وقبحاً ، أما فيهم من يقتل هذا مبارزةً أو غيلةً ! فقال الوليد بن عقبة : أبرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته ! فقال : والله لقد دعاني إلى البراز حتى لقد استحييت من قريش ! فقال عتبة بن أبي سفيان : لا أرى أحداً يتحكك به إلا قتله ) .
12 . قال الله تعالى : وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً . يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً . . فحاول مفسروا السلطة إبعادهاعن الصحابة ، فجعلوا الخليلين : عقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ! مع أنهما لم يتخذوا القرآن فهجروه ! فقد قتل أحدهما في بدر والآخر في أحد !
13 . روى ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 6 / 285 ) مناظرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) للوليد بن عقبة وغيره في مجلس معاوية ، عن كتاب المفاخرات للزبير بن بكار ، وجاء فيها : ثم تكلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال : يا بني هاشم ، إنكم كنتم أخوال عثمان ، فنعم الولد كان لكم فعرف حقكم ، فكنتم أول من حسده ، فقتله أبوك ظلماً لاعذر له ولا حجة ، فكيف ترون الله طلب بدمه ، وأنزلكم منزلتكم !
ثم تكلم عتبة بن أبي سفيان فقال : يا حسن ، كان أبوك شر قريش لقريش ، أسفكها لدمائها ، وأقطعها لأرحامها ، طويل السيف واللسان . .
فتكلم الحسن بن علي ( عليه السلام ) فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
ثم قال : أما بعد يا معاوية ، فما هؤلاء شتموني ولكنك شتمتني ، فحشاً ألفته
--------------------------- 476 ---------------------------
وسوء رأيٍ عرفت به ، وخلقاً شيناً ثبت عليه ، وبغياً علينا ، عداوةً منك لمحمد وأهله ، ولكن إسمع يا معاوية ، واسمعوا فلأقولن فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم . . .
إلى أن قال : وأما أنت يا وليد ، فوالله ما ألومك على بغض علي وقد جلدك ثمانين في الخمر ، وقتل أباك بين يدي رسول الله صبراً ، وأنت الذي سماه الله الفاسق ، وسمى علياً ( عليه السلام ) المؤمن ، حيث تفاخرتما فقلت له : أسكت يا علي ، فأنا أشجع منك جناناً وأطول منك لساناً ، فقال لك علي ( عليه السلام ) : أسكت ، يا وليد فأنا مؤمن وأنت فاسق . فأنزل الله تعالى في موافقة قوله : أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ ،
ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضاُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا . . ويحك يا وليد ! مهما نسيت ، فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه :
أنزل الله والكتاب عزيز * في علي وفى الوليد قرانا
فتبّوا الوليد إذ ذاك فسقاً * وعلى مبوأ إيمانا
ليس من كان مؤمناًعمرك الله * كمن كان فاسقا خوانا
سوف يدعى الوليد بعد قليل * وعليٌّ إلى الحساب عيانا
فعليٍّ يجزى بذاك جناناً * ووليد يجزى بذاك هوانا
رب جد لعقبة بن أبانٍ * لابس في بلادنا تبانا
وما أنت وقريش ! إنما أنت علج من أهل صفورية ! وأقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد ، وأسن ممن تدعى إليه .
وأما فخركم علينا بالأمارة : فإن الله تعالى يقول : وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا . ثم قام الحسن فنفض ثوبه وانصرف ، فتعلق عمرو بن العاص بثوبه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، قد شهدت قوله في وقذفه أمي بالزنا . . فقال معاوية : قد أنبأكم أنه ممن لا تطاق عارضته ، ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني ، والله ما قام حتى أظلم على البيت ، قوموا عني ، فلقد فضحكم الله وأخزاكم ) .
--------------------------- 477 ---------------------------
7 - سعيد بن العاص بن أبي أحيحة
1 . هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية . وجده سعيد يلقب بأبي أحيحة ، وكان من أثرياء قريش وألد أعداء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . والأحيحة : الضغينة .
وقد كتبنا في ترجمة ابنه خالد بن سعيد رضي الله عنه : أن الله عز وجل شاء أن يجعل من أبناء الفرعون أبي أُحَيْحَة مسلمين مؤمنين ! وكان أبوأحيحة من كبار أثرياء قريش ، وروي أن ابنه أحيحة قتل في حرب الفِجار . والمعروف من أبنائه : العاص والد سعيد ، الذي شهد بدراً مع المشركين فقتله علي ( عليه السلام ) ، وخالد ، قائد فتح فلسطين ، وعمرو ، وأبان ، والحكم ، وسعيد ، وقد أسلموا وختم الله لهم بالشهادة ، وأفضلهم خالد .
وانحصرت ذرية أبي أحيحية بسعيد بن العاص ، ولم ىثبت أن خالداً عقب .
« كان أبوأحيحة إذا اعْتَمَّ بمكة لايعتم أحد بلون عمامته إعظاماً له ، وكان يقال له : ذو التاج . وكان شديداً على المسلمين ، وكان أعز من بمكة فمرض فقال :
لئن الله رفعني من مرضي هذا ، لا يعبد إلهُ ابن أبي كبشة بمكة ! فقال ابنه خالد عند ذلك : اللهم لا ترفعه . فتوفي في مرضه ذلك » . ( أسد الغابة : 2 / 82 ) .
2 . كان أبوأحيحة سعيد بن العاص في بدر شيخاً كبيراً ، فأرسل بدله ابنه العاص ،
فقتله علي ( عليه السلام ) وكان عمر ابنه سعيد هذا نحو سنتين .
وكان سعيد غلاماً فقال له عمر ذات يوم إنه في بدر رأى أباه فهرب منه ! فبرز له علي ( عليه السلام ) وقتله ، قال : « مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك ؟ إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن ! رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه ، فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه فقال : إلى أين يا ابن الخطاب ! وصمد له عليٌّ فتناوله ، فما رمت من مكاني حتى قتله ! فقال له علي : اللهم غفراً ، ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما تقدم فما لك تهيِّج الناس عليَّ ؟ فكفَّ عمر . وقال سعيد : أما إنه ما كان يسرني أن يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي » . « سيرة ابن هشام : 2 / 464 ) .
--------------------------- 478 ---------------------------
فاعترف عمر بأنه هرب من قرنه وشملته آيات الفرار ! لكنهم زعموا أنه كان وأبا بكر في العريش مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وفضلوهما على علي ( عليه السلام ) الذي تحمل أعباء المعركة ، وقتل نصف قتلى المشركين في بدر !
3 . قال ابن سعد ( 5 / 31 ) إن سعيداً طلب من عمر إعطاءه أرضاً لتوسيع داره ، قال : ( فقلت يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد وأهل ، فقال : حسبك واختبئ عندك أنه سيلي الأمر بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك . قال : فمكث خلافة عمر بن الخطاب حتى استخلف عثمان فوصلني وأحسن ) .
أقول : هذا دليل على خطة عمر لنقل الخلافة إلى بني أمية . وقد تمت خطته .
4 . في مروج الذهب ( 2 / 334 و 338 ) : ( كان عماله جماعة منهم الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط على الكوفة ، وهو ممن أخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه من أهل النار ، وعبد الله بن أبي سرح على مصر ، ومعاوية بن أبي سفيان على الشام ، وعبد الله بن عامرعلى البصرة ، وصرف عن الكوفة الوليد بن عُقبة ، وولاها سعيد بن العاص .
فلما دخل سعيد الكوفة والياً أبى أن يصعد المنبرحتى يُغسل وأمر بغسله وقال : إن الوليد كان نجساً رجساً ، فلما اتصلت أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه أمور منكرة ، فاستبد بالأموال ، وقال في بعض الأيام أو كتب به إلى عثمان : إنما هذا السواد قطين لقريش ، فقال له الأشتر ، وهو مالك بن الحارث النخعي : أتجعل ما أفاء الله علينا بظلال سيوفنا ومراكز رماحنا ، بستاناً لك ولقومك ؟ !
ثم ذكرت الرواية أن عثمان أعاد سعيداً على الكوفة ، فسبقه مالك الأشتر وبايعه الناس على منعه من دخولها ، فمنعوه ، وكتب الأشتر إلى عثمان : ( إنا والله ما منعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك ، ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه ، فابعث إلى عملك من أحببت . فكتب إليهم : أنظروا من كان عاملكم أيام عمر بن الخطاب فولوه ، فنظروا فإذا هو أبو موسى الأشعري ، فولوه ) .
وقال ابن سعد ( 5 / 31 ) : ( فأضر بأهلها إضراراً شديداً وعمل عليها خمس سنين إلا شهراً ) . ثم ذكرأن رفض عثمان عزله ومنع أهل الكوفة له من دخولها !
--------------------------- 479 ---------------------------
5 . كان سعيد مستشاراً لعثمان ، ولما شكى حذيفة اختلاف القراء في نص القرآن
وأقنع عثمان بتوحيد نسخته ، عين عثمان سعيداً مسؤولاً لتدوين القرآن ، وضم معه زيد بن ثابت والزبير وعبد الرحمن بن الحرث كما قالوا . فكتبوا القرآن وأرسلوا نسخته إلى الأمصار . ( تدوين القرآن للمؤلف / 319 ) .
6 . رغم تشيع أعمامه فقد كان سعيد متعصباً لبني أمية ، وكان في نفسه أحيحة على علي ( عليه السلام ) لأنه قتل أباه ! قال ابن سعد ( 5 / 31 ) : ( قدم سعيد بن العاص المدينة وافداً على عثمان ، فبعث إلى وجوه المهاجرين والأنصار بصلات وكسى ، وبعث إلى علي بن أبي طالب أيضاً فقبل ما بعث إليه ، وقال علي ( عليه السلام ) : إن بني أمية ليفوقوني تراث محمد ( عليه السلام ) تفوقاً ، والله لئن بقيت لهم لأنفضنهم من ذلك نفض القصاب التراب الوذمة ) ! شرح النهج ( 6 / 174 ) وابن أبي شيبة ( 8 / 622 ) والطبقات ( 5 / 32 ) . والمعنى : يعطوني من حقي في أموال النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قليلاً قليلاً كفواق الناقة ، وإن بقيتُ لأنفض أموال الإسلام منهم ، كما ينفض اللحم إذا وقع على التراب .
7 . تخلف الأمويون عن بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليأخذوا منه امتيازات ! وقد تقدم قول اليعقوبي ( 2 / 167 ) : ( بايع الناس إلا ثلاثة نفر من قريش ، مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، والوليد بن عقبة وكان لسان القوم ، فقال : يا أبا لحسن إنك وترتنا جميعاً ، أما أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر وكان أبوه ثور قريش . . . الخ ) . وسيأتي في بيعته ( عليه السلام ) .
8 . ووقف سعيد بقوة إلى جانب عثمان لما حاصره المصريون وقاتلهم . قال ابن سعد في الطبقات ( 5 / 33 ) : ( ولم يزل سعيد رجع عن الكوفة بالمدينة حتى وثب الناس بعثمان فحصروه فكان معه في الدار . . وخرج فقاتل فضربه رجل ضربة مأمومة ، فلقد رأيته وإنه ليسمع الرعد فيغشى عليه ) .
9 . وقف على الحياد في حرب الجمل ، وقال لهم : ( زعمتم أنكم إنما تخرجون تطلبون بدم عثمان ، فإن كنتم ذلك تريدون فإن قتلة عثمان على صدور هذه المطي
--------------------------- 480 ---------------------------
وأعجازها ، فميلوا عليهم بأسيافكم ، وإلافانصرفوا إلى منازلكم ) .
وقد روى الطبري ( 3 / 472 ) السبب الحقيقي لاعتزاله ، قال : ( فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال : إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر أصدقاني ؟ قالا : لأحدنا أينا اختاره الناس ، قال : بل اجعلوه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه . قالا : ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم [ لأيتام ] قال : فلا أراني أسعى لأخرجها من بني عبد مناف ! فرجع ) .
10 . واعتزل حرب علي ( عليه السلام ) مع عائشة ثم مع معاوية ، وقد وبخه معاوية فقال : ( لو دعوتني لوجدتني قريباً ، ولكني جلست مجلس عقيل وغيره من بني هاشم ، ولو أوعبنا لأوعبوا ) . ( شرح النهج ( 10 / 250 ) . أي لو استقصينا في الحضور معك ، لاستقصى بنو هاشم مقابلنا . والصحيح أنه كان يرى نفسه أكبر قدراً من معاوية : ( دخل على معاوية فقال : السلام علكيم . فقال له معاوية : ما يمنعك أن تقول : السلام عليك يا أمير المؤمنين ؟ فقال له سعيد : لست بأمير المؤمنين ، والله ما رضيناك ) . ( شرح الأخبار للقاضي النعمان : 2 / 158 ) .
11 . وصار عاملاً لمعاوية على المدينة ، ولم يكن حاقداً على بني هاشم كمروان ! ( قال له بنو أمية : ما أنت صانع في ذلك ؟ هؤلاء يريدون أن يدفنوا الحسن مع رسول الله وهم قد منعوا عثمان من ذلك ! فقال سعيد : ما كنت بالذي أحول بينهم وبين ذلك . فغضب مروان بن الحكم وقال : إن لا تصنع في هذا شيئاً فخلِّ بيني وبينهم . فقال : أنت وذلك . فجمع مروان بني أمية وحشمهم ومواليهم وأخذوا السلاح ، فبلغ ذلك الحسن فقال للحسين : أناشدك الله أن تهيج في هذا الأمر وادفني مع أمي . وأكد ذلك عليه واستحلفه فيه ) . ( شرح الأخبار : 3 / 126 ) . راجع تفصيله في سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) .
فقد روى ابن عساكر بسند صحيح في تاريخ دمشق ( 13 / 289 ) : ( عن عبيد الله بن علي بن أبي رافع ، أن حسن بن علي بن أبي طالب أصابه بَطَن ( ! ) فلما عرف بنفسه الموت أرسل إلى عائشة زوج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن تأذن له أن يدفن مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بيتها فقالت : نعم ، بقي موضع قبر واحد ، قد كنت أحب أن أدفن فيه ، وأنا أؤثرك به . فلما سمعت بنو أمية ذلك لبسوا السلاح فاستلأموا بها ، وكان الذي قام بذلك مروان بن الحكم
--------------------------- 481 ---------------------------
فقال : والله لا يدفن عثمان بن عفان بالبقيع ويدفن حسن مع رسول الله ، ولبست بنو هاشم السلاح وهموا بالقتال ، وبلغ ذلك الحسن بن علي فأرسل إلى بني هاشم فقال لهم رسوله : يقول لكم الحسن إذا بلغ الأمر هذا فلا حاجة لي به ، أدفنوني إلى جنب أمي فاطمة بالبقيع ، فدفن إلى جنب فاطمة ابنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وقد حرَّف ابن عساكر والذهبي وابن كثير روايات المسألة وبتروها ، فقد أورد ابن سعد في الجزء المتمم لطبقاته ، طبع السعودية / 340 ، أكثر من عشرين نصاً تكشف حقيقة ما جرى ، ومنها أن عائشة قبلت وأعطتهم وعداً ، ولما أدخلوا الجنازة إلى المسجد ، أسرع إليها مروان وكان بيتها في عوالي المدينة ، فثناها عن ذلك وجاء بها على بغل ودخلت في زحام الناس ، ولو طرحت إبرة ما وقعت إلا على إنسان . فدخلت عائشة المسجد وهي تصيح : نحوا ابنكم عن بيتي ! هذا الأمر لا يكون أبداً . والله أنه لبيتي أعطانيه رسول الله في حياته . ثم انبطحت على الأرض وأخرجت شعرها وأمسكته بيدها وقالت : والله لا تدفنونه هنا حتى تجزوا هذه الناصية ! وذكر أن سعيد بن العاص اعتزل ، فوالله ما نازعنا في الصلاة عليه ، وقال : أنتم أحق بميتكم ، فإن قدمتموني تقدمت . فقال الحسين بن علي : ( تقدم فلولا أن الأئمة تقدم ما قدمناك ) .
أقول : تأمل في فعل عائشة برواية ابن سعد : ثم انبطحت على الأرض وأخرجت شعرها وأمسكته بيدها ! وهل ترضى لأمك أن تطرح نفسها في زحام الناس وتخرج شعرها ! وهل قرأت أن امرأة فعلته غير عائشة ؟ !
12 . قال في الإستيعاب ( 3 / 1389 ) : ( عزله ( معاوىة ) عن المدينة سنة ثمان وأربعين ، وولَّاها سعيد بن أبي العاص ، فأقام عليها أميراً إلى سنة أربع وخمسين ، ثم عزله وولَّى مروان ، ثم عزله ، وولَّى الوليد بن عتبة ، فلم يزل والياً على المدينة حتى مات معاوية ووليَ يزيد ، فلما كلف الوليد بن عتبة عن الحسين وابن الزبير في شأن البيعة ليزيد ، وكان الوليد رحيماً حليماً سرياً ، عزله وولَّى يزيد عمرو بن سعيد الأشدق ، ثم عزله وصرف الوليد بن عتبة ، ثم عزله ، وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان ، وعليه قامت الحرّة ) .
--------------------------- 482 ---------------------------
13 . أمر معاوية سعيد بن العاص أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لابنه يزيد ، وأن : ( يكتب إليه بمن سارع ممن لم يسارع ، فلما أتى سعيد بن العاص الكتاب دعا الناس إلى البيعة ليزيد وأظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة ، وسطا بكل من أبطأ عن ذلك ، فأبطأ الناس عنها إلاّ اليسير ، لا سيما بني هاشم فإنه لم يجبه منهم أحد ، وكان ابن الزبير من أشد الناس إنكاراً لذلك ورداً له ، فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية : أما بعد فإنك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وأن أكتب إليك بمن سارع ممن أبطأ ، وإني أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء ، لا سيما أهل البيت من بني هاشم ، فإنه لم يجبني منهم أحد وبلغني عنهم ما أكره . وأما الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبد الله بن الزبير ، ولست أقوى عليهم إلاّ بالخيل والرجال ، أو تقدم بنفسك ، فترى رأيك في ذلك ، والسلام ) . ( الإمامة والسياسة لابن قتيبة / 153 ) .
14 . استشار معاوية سعيداً في الحسين ( عليه السلام ) ففي مناقب آل أبيطالب ( 3 / 235 ) : ( دعا معاوية مروان بن الحكم فقال له أشرعليَّ في الحسين فقال : أرى أن تخرجه معك إلى الشام وتقطعه عن أهل العراق وتقطعهم عنه ، فقال أردت والله أن تستريح منه وتبتليني به ، فإن صبرتُ عليه صبرت على ما أكره ، وإن أسأتُ إليه قطعت رحمه . فأقامه وبعث إلى سعيد بن العاص فقال له : يا أبا عثمان أشرعلي في الحسين ، فقال : إنك والله ما تخاف الحسين إلا على من بعدك ، وإنك لتخلف له قرناً إن صارعه ليصرعنه ، وإن سابقه ليسبقنه ، فذر الحسين بمنبت النخلة يشرب الماء ، ويصعد في الهواء ، ولا يبلغ إلى السماء ) .
أقول : مع أن سعيد بن العاص عدو خبيثٌ لأهل البيت ( عليهم السلام ) لكن فيه صفات فيها بقية من العقل والنبل ترجع إلى عائلته ، فهو حفيد أبي أحيحة الشخصية الإجتماعيه ، وقد توفق عدد من أولاده للدخول في لإسلام ، وخيرهم ابنه خالد بن سعيد رضي الله عنه . بعكس أولاد أبي سفيان فإن مستواهم هابط وفيهم رقاعة ، وبعكس أولاد الحكم فإنهم أوزاغ حاقدون ، ومستواهم منحط !
--------------------------- 483 ---------------------------
15 . توفي سعيد سنة تسع وخمسين وصلى عليه الإمام الحسين ( عليه السلام ) ودعا عليه : روى زيد بن علي أن الإمام الحسين ( عليهم السلام ) : ( صلى على سعيد بن العاص حين ألجئ إلى ذلك ، فلعنه في الصلاة وقال في دعائه : اللهم العنه لعناً وبيلاً ، وعجل بروحه إلى جهنم تعجيلاً ، فإنه كان يوالي عدوك ، ويعادي وليك ، ويبغض أهل بيت نبيك ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال له من سمعه : أهكذا صلاتكم على موتاكم يا ابن رسول الله ؟ قال ( عليه السلام ) : بَلْ صَلاتُنا عَلى أعْدائِنا ) . ( شرح الأزهار : 1 / 431 ) .
وذكرت رواية أن سعيداً هدم دار علي والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغيرهما بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ولا يصح ذلك لأنه توفي قبلها ، بل هو الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، والي المدينة .
8 - عبد الله بن خالد بن أسيد
1 . صهر عثمان : عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية . فهو ابن عم عثمان
من الأعياص ، وأقرب اليه من أبي سفيان ومعاوية .
قال في شرح النهج ( 1 / 336 ) : ( بنو أمية صنفان : الأعياص والعنابس . فالأعياص : العاص ، وأبو العاص ، والعيص ، وأبوالعيص . والعنابس : حرب ، وأبو حرب ، وسفيان ، وأبو سفيان . فبنو مروان وعثمان من الأعياص ، ومعاوية وابنه من العنابس . ولكل واحد من الصنفين وشيعتهم اختلاف شديد ) . ( والعيص : الشجر الملتف . يقال : فلان في عيص أشْب . إذا كان في عزة ومنعة ) . ( الإشتقاق : 1 / 54 ) .
2 . قال المؤرخ محمد بن حبيب البغدادي في كتابه المحبر / 55 : ( أصهار عثمان بن عفان : عبد الرحمن بن هشام بن المغيرة ، كانت تحته مريم بنت عثمان بن عفان وخلف عليه عبد الملك بن مروان بن الحكم . وقد أنكر ذلك قوم . وعبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص ابن أمية ، كانت تحته أم عثمان بنت عثمان . والحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، كانت تحته أم أبان بنت عثمان . ثم خلف عليها عبد الله بن الزبير بن العوام . ومروان بن الحكم بن أبي العاص ، كانت تحته أم أبان بنت عثمان . وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ابن أمية ، كانت تحته أم عمرو بنت عثمان .
--------------------------- 484 ---------------------------
وصاهره عبد الله بن خالد بن أسيد مرة أخرى : تزوج أم خالد بنت عثمان بعد أختها أم عثمان . وخالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط كانت تحته أروى بنت عثمان . وأبو سفيان بن عبد الله بن خالد بن أسيد ، كانت تحته أم البنين بنت عثمان ) .
3 . كان عثمان يعتبر بيت المال ملكاً خاصاً له ! ففي أمال المفيد / 71 : ( إن عثمان بن عفان بعث إلى الأرقم بن عبد الله ، وكان خازن بيت مال المسلمين فقال له : أسلفني مائة ألف درهم ، فقال له الأرقم : أكتب عليك بها صكاً للمسلمين ؟ قال : وما أنت وذاك لا أم لك ، إنما أنت خازن لنا ! قال : فلما سمع الأرقم ذلك خرج مبادراً إلى الناس فقال : أيها الناس عليكم بمالكم فإني ظننت أني خازنكم ، ولم أعلم أني خازن عثمان بن عفان حتى اليوم ، ومضى فدخل بيته ، فبلغ ذلك عثمان فخرج إلى الناس حتى دخل المسجد ثم رقي المنبر وقال : أيها الناس إن أبا بكركان يؤثر بني تيم على الناس ، وإن عمر كان يؤثر بني عدي على كل الناس ، وإني أوثروالله بني أمية على من سواهم . ولو كنت جالساً بباب الجنة ثم استطعت أن أدخل بني أمية جميعاً الجنة لفعلت ، وإن هذا المال لنا فإن احتجنا إليه أخذناه وإن رغم أنف أقوام . فقال عمار بن ياسر ( رحمه الله ) : معاشر المسلمين ، اشهدوا أن ذلك مرغم لي ، فقال عثمان : وأنت ههنا ! ثم نزل من المنبر فجعل يتوطأه برجله حتى غُشي على عمار ) ! ونحوه اليعقوبي ( 2 / 168 ) .
4 . وكان بن أُسَيْد والياً على الكوفة لمعاوية فعزله عنها سنة ثلاث وخمسين ) .
( تاريخ خليفة / 165 ) . وكان والياً لمعاوية على الطائف . ( المنمق / 397 ) .
5 . واشتكى عليه عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى معاوية ، لأنه شرب الخمر فأقام عليه عبد الله بن خالد الحد ، فلم يقبل معاوية شكايته ، لأنه اشتكى على أموي ، وابن سعد زهري وبرأي معاوية من بني عذرة . ( المنمق لابن حبيب / 398 ) .
6 . وأرسله ابن الزبير إلى قائد جيش يزيد الذي حاصر مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق :
( فأرسل ابن الزبير رجالاً من أهل مكة من قريش وغيرهم فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد ، فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة ، وقالوا : إن ذلك كان منكم رميتموها
--------------------------- 485 ---------------------------
بالنفط ، فأنكروا ذلك ، وقالوا قد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا تقاتل ! إرجع إلى الشام حتى تنظرماذا يجتمع عليه رأي صاحبك يعنون معاوية بن يزيد ، وهل يجمع الناس عليه ) . ( أخبار مكة للأزرقي : 1 / 203 ) .
7 . وكان عبد الله بن عمر صديقه ، فمات سنة 74 ، وأوصى أن يدفن في مقبرة آل أسيد
ولا يصلي عليه الحجاج وكان والي مكة بعد مقتل ابن الزبير فصلى عليه عبد الله بن خالد بن أسيد ليلاً ، ودفن في مقبرتهم . ( أخبار مكة للأزرقي : 1 / 209 ) .
8 . كان عبد الله هذا صديق الخبيث زياد بن عبيد ، وأوصى له أن يصلي عليه ! قال اليعقوبي ( 2 / 236 ) : ( فلما توفي زياد ووضع نعشه ليصلى عليه ، تقدم عبيد الله ابنه ، فنحاه وتقدم خالد بن عبد الله فصلى عليه ) .
- *
--------------------------- 486 ---------------------------
الفصل الثامن والأربعون: مقتل عثمان بن عفان
1 . تنمر المحاصرون وحصبوا عثمان بالحصى !
قال الطبري ( 4 / 366 ) : ( عبد الرحمن بن يسار قال : لما رأى الناس ما صنع عثمان ، كتب من بالمدينة من أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى من بالآفاق منهم ، وكانوا قد تفرقوا في الثغور : إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل ، تطلبون دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك ، فهلموا فأقيموا دين محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فأقبلوا من كل أفق حتى قتلوه . خطب عثمان الناس في بعض أيامه ، فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين ، إنك قد ركبت نهابير وركبناها معك ، فتب نتب ! فاستقبل عثمان القبلة وشهر يديه ! قال أبوحبيبة : فلم أر يوماً أكثر باكياً ولا باكية من يومئذ ! ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس ، فقام إليه جهجاه الغفاري فصاح : يا عثمان ، ألا إن هذه شارف قد جئنا بها ، عليها عباءة وجامعة ، فانزل فلندرعك العباءة ، ولنطرحك في الجامعة ، ولنحملك على الشارف ، ثم نطرحك في جبل الدخان !
فقال عثمان : قبحك الله وقبح ما جئت به ! قال أبوحبيبة : ولم يكن ذلك منه إلا عن ملإ من الناس ( تشاورمعهم ) وقام إلى عثمان خيرته وشيعته من بني أمية فحملوه فأدخلوه الدار . فكان آخر ما رأيته فيه ) .
وقال الطبري ( 3 / 390 ) : ( ولما جاءت الجمعة التي على أثر نزول المصريين مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خرج عثمان فصلى بالناس ، ثم قام على المنبر فقال : يا هؤلاء العدى ، الله الله ، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ، فامحوا الخطايا بالصواب فإن الله عز وجل لا يمحو السئ إلا بالحسن . . وثارالقوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى
--------------------------- 487 ---------------------------
أخرجوهم من المسجد ، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشياً عليه ، فاحتمل فأدخل داره . . وشمرأناس من الناس فاستقتلوا ، منهم سعد بن مالك ، وأبو هريرة ، وزيد بن ثابت ، والحسن بن علي ( عليه السلام ) ، فبعث إليهم عثمان بعزمةٍ لمَا انصرفوا ، فانصرفوا .
وأقبل علي ( عليه السلام ) حتى دخل على عثمان وأقبل طلحة حتى دخل عليه وأقبل الزبير حتى دخل عليه يعودونه من صرعته ، ويشكون بثهم ، ثم رجعوا إلى منازلهم ) .
1 . شارك الصحابة في المدينة في الثورة
قال الطبري ( 3 / 403 ) : ( وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ، ويحتجون ويقسمون له بالله لايمسكون عنه أبداً حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حق الله . فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته فقال لهم : قد صنع القوم ما قد رأيتم فما المخرج ؟ فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي بن أبي طالب فيطلب إليه أن يردهم عنه ، ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه أمداد ، فقال : إن القوم لن يقبلوا التعليل وهم محمليَّ عهداً ، وقد كان مني في قدمتهم الأولى ما كان ، فمتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء به ! فقال مروان بن الحكم : يا أمير المؤمنين مقاربتهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب ، فأعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك ، فإنما هم بغوا عليك فلا عهد لهم .
فأرسل إلى علي فدعاه فلما جاءه قال : يا أبا حسن ، إنه قد كان من الناس ما قد رأيت ، وكان مني ما قد علمت ، ولست آمنهم على قتلي ، فارددهم عني ، فإن لهم الله عز وجل أن أعتبهم من كل ما يكرهون ، وأن أعطيهم الحق من نفسي ومن غيري ، وإن كان في ذلك سفك دمي .
فقال له علي : الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ، وإني لأرى قوماً لا يرضون إلا بالرضا ، وقد كنت أعطيتهم في قدمتهم الأولى عهداً من الله لترجعن عن جميع ما نقموا فرددتهم عنك ، ثم لم تف لهم بشئ من ذلك ، فلا تغرني هذه المرة من شئ فإني معطيهم عليك الحق . قال : نعم ، فأعطهم فوالله لأفين لهم ،
--------------------------- 488 ---------------------------
فخرج علي إلى الناس ، فقال : أيها الناس ، إنكم إنما طلبتم الحق فقد أعطيتموه ، إن عثمان قد زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره ، وراجع عن جميع ما تكرهون فاقبلوا منه ووكدوا عليه .
قال الناس : قد قبلنا فاستوثق منه لنا ، فإنا والله لا نرضى بقول دون فعل ، فقال لهم علي : ذلك لكم . ثم دخل عليه فأخبره الخبر ، فقال عثمان : اضرب بيني وبينهم أجلاً يكون لي فيه مهلة ، فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد ، قال له علي : ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك ، قال : نعم ، ولكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام ، قال علي : نعم ، فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك ، وكتب بينهم وبين عثمان كتاباً أجله فيه ثلاثاً ، على أن يرد كل مظلمة ، ويعزل كل عامل كرهوه ، ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق ، وأشهد عليه ناساً من وجوه المهاجرين والأنصار ، فكف المسلمون عنه ورجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه ، فجعل يتأهب للقتال ويستعد بالسلاح وقد كان اتخذ جنداً عظيماً من رقيق الخمس ، فلما مضت الأيام الثلاثة وهو على حاله لم يغير شيئاً مما كرهوه ، ولم يعزل عاملاً ، ثار به الناس ) !
2 . واصل علي ( عليه السلام ) فعالياته لحل مشكلة عثمان
قال الطبري ( 4 / 373 ) : ( فقال علي : فأدخلهم عليك ، فليسمعوا عذرك ، قال : ثم أقبل عثمان على علي فقال : إن لي قرابة ورحماً ، والله لو كنت في هذه الحلقة لحللتها عنك ، فأخرج إليهم فكلمهم فإنهم يسمعون منك .
قال علي : والله ما أنا بفاعل ولكن أدخلهم حتى تعتذر إليهم ، قال : فأدخلوا . قال محمد بن مسلمة : فدخلوا يومئذ فما سلموا عليه بالخلافة ، فعرفت أنه الشر بعينه قالوا : سلام عليكم ، فقلنا : وعليكم السلام ، قال : فتكلم القوم وقد قدموا في كلامهم ابن عديس ، فذكر ما صنع ابن سعد بمصر ، وذكرتحاملاً منه على المسلمين وأهل الذمة ، وذكر استئثاراً منه في غنائم المسلمين ، فإذا قيل له في ذلك قال : هذا كتاب أمير المؤمنين إلي ، ثم ذكروا أشياء مما أحدث بالمدينة ،
--------------------------- 489 ---------------------------
وما خالف به صاحبيه قال : فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلا دمك أو تنزع ، فردنا علي ومحمد بن مسلمة ، وضمن لنا محمد النزوع عن كل ما تكلمنا فيه ، ثم أقبلوا على محمد بن مسلمة ، فقالوا : هل قلت ذاك لنا ؟ قال محمد : فقلت : نعم . ثم رجعنا إلى بلادنا نستظهر بالله عز وجل عليك ويكون حجة لنا بعد حجة ، حتى إذا كنا بالبويب أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد ، تأمره فيه بجلد ظهورنا ! والمثل بنا في أشعارنا ، وطول الحبس لنا ، وهذا كتابك !
قال : فحمد الله عثمان وأثنى عليه ثم قال : والله ما كتبت ولا أمرت ، ولا شورت ولا علمت . قال : فقلت وعلي جميعاً : قد صدق . قال : فاستراح إليها عثمان .
فقال المصريون : فمن كتبه ؟ قال : لا أدري ، قال : أفيجتَرأ عليك فيبعث غلامك وجمل من صدقات المسلمين ، وينقش على خاتمك ، ويكتب إلى عاملك بهذه الأمور العظام وأنت لا تعلم ! قال : نعم ، قالوا : فليس مثلك يلي ، إخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك الله منه . قال : لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله عز وجل ! قال : وكثرت الأصوات واللغط ، فما كنت أظن أنهم يخرجون حتى يواثبوه قال : وقام علي فخرج ، قال : فلما قام علي قمت ، قال وقال للمصريين : أخرجوا فخرجوا . قال : ورجعت إلى منزلي ورجع علي إلى منزله ، فما برحوا محاصريه حتى قتلوه ) !
قال له المصريون : ( كيف نقبل توبتك وقد بلونا منك أنك لا تعطي من نفسك التوبة من ذنب إلا عدت إليه ، فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك ، فإن حال من معك من قومك وذوي رحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم ، حتى نخلص إليك فنقتلك ، أو تلحق أرواحنا بالله !
فقال عثمان : أما أن أتبرأ من الإمارة ، فأن تصلبوني أحب إلي من أن أتبرأ من أمر الله عز وجل وخلافته . . قال : ثم انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب ، وأرسل إلى محمد بن مسلمة فكلمه أن يردهم ، فقال : والله لا أكذب الله في سنة مرتين !
فخرج سعد حتى أتى علياً وهو بين القبروالمنبرفقال : يا أبا حسن ، قم فداك أبي وأمي ! جئتك والله بخير ما جاء به أحد قط إلى أحد ، تصل رحم ابن عمك ،
--------------------------- 490 ---------------------------
وتأخذ بالفضل عليه وتحقن دمه ، ويرجع الأمر على ما نحب ، قد أعطى خليفتك من نفسه الرضا . فقال علي : تقبل الله منه يا أبا إسحاق ! والله ما زلت أذب عنه حتى إني لأستحي ، ولكن مروان ومعاوية وعبد الله بن عامر وسعيد بن العاص هم صنعوا به ما ترى ، فإذا نصحته وأمرته أن ينحيهم استغشني حتى جاء ما ترى !
قال : فبينا هم كذلك جاء محمد بن أبيبكر فسارَّ علياً ، فأخذ علي بيدي ونهض علي وهو يقول : وأي خير توبته هذه ! فوالله ما بلغت داري حتى سمعت الهائعة ، أن عثمان قد قتل ! فلم نزل والله في شر إلى يومنا هذا ) .
3 . منع طلحة الماء عن عثمان فسقاه علي ( عليه السلام )
( أتاه كتاب عثمان وهو محصور : أما بعد إذا أتاك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل . . أرسل عثمان إلى علي يقرؤه السلام ويقول : إن فلاناً يعني طلحة قد قتلني بالعطش ، والقتل بالسلاح أجمل من القتل بالعطش . فخرج علي يتوكأ على يد المسور بن مخرمة حتى دخل على ذلك الرجل وهو يترامى بالنبل عليه قميص هروي ، فلما رآه تنحى عن صدر الفراش ورحب به فقال له علي : إن عثمان أرسل إليَّ أنكم قد قتلتموه بالعطش ، وإن ذلك ليس يحسن ، وأنا أحب أن تدخل عليه الماء . فقال : لا والله ولا نعمة عين ، لا نتركه يأكل ويشرب !
فقال علي : ما كنت أرى أني أكلم أحداً من قريش في شئ فلا يفعل ! فقال : والله لا أفعل ، وما أنت من ذلك في شئ يا علي ! فقام علي غضبان ، وقال : ستعلم يا ابن الحضرمية أكون في ذلك من شئ أم لا . . فأمهل حتى أتت روايا الناس ، ثم خرج بسيفه حتى يصرفها إليه ، ثم إنهم عطفوا الثانية ، فقام طلحة ليصرفها إليه ، فأبى عمار بن ياسر وقال : والذي نفسي بيده لاتصل إليه حتى تقتلني أو أقتلك . فقال طلحة : ما أحب أن تقتلني ولا أقتلك ، فتركها ) . ( تاريخ المدينة : 4 / 1203 ) .
أقول : ثلاحظ أن الإمام ( عليه السلام ) ذهب إلى طلحة وطلب منه السماح لهم بالماء فأبى ، ثم أرسل الماء مع عمار شاهراً سيفه مستقتلاً ، ولا بد أنه جعل خلفه ردءاً
إذا نشب قتال .
--------------------------- 491 ---------------------------
أما رواية الطبري ( 3 / 416 ) التي تقول : ( فكان أولهم إنجاداً له علي وأم حبيبة جاء علي في الغلس فقال : يا أيها الناس إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ، ولا أمر الكافرين ، لا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي ، وما تعرض لكم هذا الرجل ، فبم تستحلون حصره وقتله .
قالوا : لا والله ولا نعمة عين ، لا نتركه يأكل ولا يشرب فرمى بعمامته في الدار ، بأني قد نهضت فيما أنهضتني ) . وفي الرواية خلل لأنها أخفت طلحة الذي منعهم الماء ، وجعلت علياً ( عليه السلام ) عامياً يضرب عمامته بالأرض ، وليس ذلك من أخلاقه ( عليه السلام ) .
4 . برأ المؤرخون الأشتر وأهل البصرة من دم عثمان
قال الطبري ( 3 / 418 ) : ( وقدم حكيم بن جبلة من البصرة في ركب ، وقدم الأشتر في أهل الكوفة ، فتوافوا بالمدينة فاعتزل الأشتر ، فاعتزل حكيم بن جبلة ، وكان ابن عديس وأصحابه هم الذين يحصرون عثمان ، فكانوا خمس مائة ، فأقاموا على حصاره تسعة وأربعين يوماً ، حتى قتل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ) .
أقول : المرجح أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نهى الأشتر عن المشاركة في حصار عثمان وقتله .
5 . حاصروه أربعين يوماً وقتلوه وألقوه على مزبلة !
قال المسور بن مخرمة : ( كان المصريون كافين حتى بلغهم أن الأمداد قد أقبلت إلى عثمان من قبل عماله ، فعند ذلك عاجلوه ) . ( البلاذري : 5 / 590 )
وروى ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1047 ) : ( عن مالك بن أنس قال : لما قتل عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام ! فلما كان من الليل أتاه اثنا عشر رجلاً فيهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير وجدي فاحتملوه ، فلما صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ناداهم قوم من بني مازن : والله لئن دفنتموه هنا لنخبرن الناس غداً ! فاحتملوه وكان على باب وإن رأسه على الباب ليقول طَقْ
--------------------------- 492 ---------------------------
طق ! حتى صاروا به إلى حش كوكب ( مقبرة اليهود ) فاحتفروا له . . فدفن ) .
لكن ابن الأعثم ( 2 / 434 ) قال : ( أمر عليٌّ بدفن عثمان ، فحمل وقد كان مطروحاً على مزبلة ثلاثة أيام ، حتى ذهبت الكلاب بفرد رجليه ، فقال رجل من المصريين : لاندفنه إلا في مقابر اليهود ! قال حكيم بن حزام : كذبت أيها المتكلم ! لا يكون ذلك أبداً ما بقي رجل من ولد قصي ، فحمل عثمان على باب صغير قد جازت رجلاه من الباب وإن رأسه ليتقعقع ، وأوتي به إلى حفرته ، فتقدم حكيم بن حزام فصلى عليه ، ودفن في بقيع الغرقد ) .
6 . دافع عنه الحسن والحسين ( ( عليهما السلام ) ) وجماعة
رووا أن الحسنين ( ( عليهما السلام ) ) وجماعة كانوا عند باب دار عثمان يمنعون المصريين من دخوله : ( بلغ عليّاً أن القوم يريدون قتل عثمان فقال : إنما أردنا مروان ، فأما قتل عثمان فلا . وقال للحسن والحسين ( ( عليهما السلام ) ) : إذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعىا أحداً يصل إليه ، وبعث الزبير ابنه عبد الله ، وبعث طلحة ابنه على كره ، وبعث عدّة من أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبناء هم ليمنعوا الناس من الدخول على عثمان ويسألوه إخراج مروان ، فلما رأى ذلك محمد بن أبيبكر ، وقد رمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء على بابه ، وأصاب مروان سهم وهو في الدار ، وخضب محمد بن طلحة وشج قنبر مولى علي ، خشي محمد بن أبيبكر أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيثيروها فتنة ، وأخذ بيد رجلين فقال لهما : إن جاءت بنو هاشم فرأت الدماء على وجه الحسن كشفوا الناس عن عثمان وبطل ما تريدون ، ولكن مروا بنا حتى نتسوّر عليه الدار فنقتله من غيرأن يعلم أحد ، فتسورمحمد وصاحباه من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان وما يعلم أحد ممن كان معه ، لأنهم كانوا فوق البيوت ولم يكن معه إلَّا امرأته . فقال محمد بن أبيبكر : أنا أبدأكما بالدخول ، فإذا أنا ضبطته فادخلا فتوجآه حتى تقتلاه ، فدخل محمد فأخذ بلحيته فقال له عثمان : والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني فتراخت يده ، ودخل الرجلان عليه فتوجآه حتى قتلاه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا ، وصرخت امرأته إلى الناس فلم يسمع صراخها
--------------------------- 493 ---------------------------
لما كان في الدار من الجلبة ، وصعدت امرأته إلى الناس فقالت : إن أمير المؤمنين قد قتل ، فدخل الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومن كان معهما فوجدوا عثمان مذبوحاً ، فانكبوا عليه يبكون وخرجوا ودخل الناس فوجدوه مذبوحاً ، وبلغ عليّ بن أبي طالب الخبر وطلحة والزبير وسعداً ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبرالذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولاً فاسترجعوا ، وقال عليّ لابنيه : كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب ! ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين ، وشتم محمد بن طلحة ، ولعن عبد الله بن الزبير ، وخرج علي وهو غضبان يرى أن طلحة أعان على ما كان ، فلقيه طلحة فقال : ما لك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين ، فقال : عليك لعنة الله أبيت إلَّا أن يسوءني ذلك ، يُقتل أمير المؤمنين ، رجل من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بدري لم يقم عليه بينة ولا حجة ! فقال طلحة : لودفع مروان لم يقتل ، فقال علي : لوأخرج إليكم مروان لقتل قبل أن يثبت عليه حكومة ) . ( البلاذري : 5 / 558 ) .
أقول : كثرت المكذوبات في قصة قتل عثمان ، ومنها أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لطم الحسن لماذا لم يعرف بالذين تسوروا من بيت الجيران وقتلوا عثمان ، ولعنه ابن الزبير . ومنها مدحه لعثمان بأنه بدري ، وأنه لم يثبت عليه مخالفة شرعية . ولم يكن عثمان بدرياً ، وثبتت عليه انحرافات بنص أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . . الخ .
وقال البلاذري ( 5 / 560 ) : ( وخرج عليّ فأتى منزله وجاء الناس يهرعون إلى علي ، أصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وغيرهم وهم يقولون : إن أمير المؤمنين علي ، حتى دخلوا داره فقالوا له : نبايعك فمد يدك فإنه لا بد من أمير ، فقال علي ( عليه السلام ) : ليس ذاك إليكم ، إنما ذاك إلى أهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة .
فلم يبق أحد من أهل بدر إلَّا أتى عليّاً فقالوا : ما نرى أحداً أحق بها منك فمد يدك نبايعك ، فقال : أين طلحة والزبير ؟ وكان طلحة أول من بايعه بلسانه وسعد بيده ، فلما رأى علي ذلك صعد المنبر وكان أول من صعد إليه فبايعه طلحة بيده ، وكانت إصبع طلحة شلَّاء ، فتطيَّر منها عليٌّ وقال : ما أخلقه أن ينكث ! ثم
--------------------------- 494 ---------------------------
بايعه الزبير وسعد ، وأصحاب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جميعاً ، ثم نزل ، فدعا الناس وطلب مروان
وبني أبي معيط فهربوا منه ) !
7 . من كلمات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في قتل عثمان
1 . ( ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى أهل الكوفة ، عند مسيره إلى حرب الجمل في البصرة : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار ، وسنام العرب ، أما بعد فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه : إن الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلاً من المهاجرين أكثر استعتابه وأقل عتابه ، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف ، وأرفق حدائهما العنيف ، وكان من عائشة فيه فلتة غضب فأتيح له قوم فقتلوه ، وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيرين . واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها ، وجاشت جيش المرجل ، وقامت الفتنة على القطب ، فأسرعوا إلى أميركم وبادروا جهاد عدوكم ، إن شاء الله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 2 ) .
2 . روى البلاذري بسند صحيح ، عن المدائني ، قال علي : ( لو أعلم أن بني أمية يذهب ما في أنفسها أن أحلف لها لحلفت خمسين يميناً مرددة ، بين الركن والمقام ، أني لم أقتل عثمان ، ولم أمالئ على قتله ) . ( أنساب الأشراف : 5 / 573 ) .
3 . ( ومن كلام له ( عليه السلام ) لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان : أو لم ينه أمية علمها بي عن قرفي . أوما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي ، ولما وعظهم الله به أبلغ من لساني . أنا حجيج المارقين ، وخصيم المرتابين . وعلى كتاب الله تعرض الأمثال ، وبما في الصدور تجازى العباد ) . ( نهج البلاغة : 1 / 125 ) .
4 . ( ومن كلام له ( عليه السلام ) في طلحة بن عبيد الله : والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان إلا خوفاً من أن يطالب بدمه لأنه مظنته ، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه ، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلبس الأمر ويقع الشك . ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث : لئن كان ابن عفان ظالماً كما كان يزعم لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه ، أو ينابذ ناصريه . ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين
--------------------------- 495 ---------------------------
عنه والمعذرين فيه . ولئن كان في شك من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانباً ويدع الناس معه ، فما فعل واحدة من الثلاث ، وجاء بأمر لم يعرف بابه ولم تسلم معاذيره ) . ( نهج البلاغة : 2 / 88 ) .
5 . سأله الأشعث بن قيس : لماذا لم يقاوم أبا بكر وعمر ويأخذ حقه ؟ فأجابه ( عليه السلام ) : ( وقد كان مع عثمان من أهل بيته ومواليه وأصحابه أكثر من أربعة آلاف رجل ، ولو شاء أن يمتنع بهم لفعل ، فلمَ نهاهم عن نصرته ؟ ولو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم تتمة أربعين رجلاً مطيعين لي لجاهدتهم ، وأما يوم بويع عمر وعثمان فلا ، لأني قد كنت بايعت ، ومثلي لا ينكث بيعته ) . ( كتاب سُليم / 217 ) .
6 . ( لو أمرت به لكنت قاتلاً ، أو نهيت عنه لكنت ناصراً ، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه ، ومن خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير مني ، وأنا جامع لكم أمره : استأثر فأساء الأثرة . وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع ) . ( نهج البلاغة : 1 / 75 ) .
7 . من جواب رسالة له إلى معاوية : ( ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك
أن تجاب عن هذه لرحمك منه فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله . أمَن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه ، أمن استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه . كلا والله ، لقد علم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا . وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فرب ملوم لا ذنب له . وقد يستفيد الظنة المتنصح وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت ) . ( نهج البلاغة : 3 / 34 ) .
8 . ( فأما إكثارك الحجاج في عثمان وقتلته ، فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر
لك ، وخذلته حيث كان النصر له . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 62 ) .
( وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه الناس ، ثم حاكم القوم إلي
--------------------------- 496 ---------------------------
أحملك وإياهم على كتاب الله تعالى . وأما تلك التي تريد ، فإنها خدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال ، والسلام لأهله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 124 ) .
9 . وكتب ( عليه السلام ) إلى معاوية : ( وأما قولك : إدفع إلينا قتلة عثمان ، فما أنت وعثمان ؟ إنما أنت رجل من بني أمية ، وبنو عثمان أولى بذلك منك ، فإن زعمت أنك أقوى على دم أبيهم منهم فادخل في طاعتي ثم حاكم القوم إليَّ أحملك وإياهم على المحجة . وأما تمييزك بين الشام والبصرة ، وبين طلحة والزبير ، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلاواحد لأنها بيعة عامة لا يثني فيها النظر ، ولايستأنف فيها الخيار . وأما ولوعك بي في أمر عثمان فما قلت ذلك عن حق العيان ، ولا يقين الخبر . وأما فضلي في الإسلام وقرابتي من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشرفي في قريش فلعمري لو استطعت دفع ذلك لدفعته ) ! ( صفين / 58 ) .
10 . وفي مناقب آل أبي طالب ( 2 / 350 ) : وأما تلك التي تريدها فإنها خدعة الصبي عن اللبن ، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لعلمت أني من أبرأ الناس من دم عثمان ، وقد علمت أنك من أبناء الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ) .
11 . كتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى طلحة والزبير ( الإمامة والسياسة : 1 / 60 ) : ( أما بعد ، فقد علمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى بايعوني ، وإنكما لممن أراد وبايع ، وإن العامة لم تبايعني لسلطان خاص ، فإن كنتما بايعتماني كارهين ، فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية ، وإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا إلى الله من قريب . إنك يا زبير لفارس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحواريه ، وإنك يا طلحة لشيخ المهاجرين ، وإن دفاعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه ، كان أوسع عليكما من خروجكما منه إقراركما به . وقد زعمتما أني قتلت عثمان فبيني وبينكما فيه بعض من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة . وزعمتما أني آويت قتلة عثمان فهؤلاء بنوعثمان ، فليدخلوا في طاعتي ثم يخاصموا إلى قتلة أبيهم ، وما أنتما وعثمان إن كان قتل ظالماً أو مظلوماً ، وقد بايعتماني ! وأنتما بين خصلتين قبيحتين : نكث بيعتكما ،
وإخراجكما أمكما ) .
--------------------------- 497 ---------------------------
12 . وزعمت عائشة أنها تطلب بدم عثمان ! قال ابن الأعثم في الفتوح ( 2 / 465 ) :
( كتب ( عليه السلام ) إلى عائشة : أما بعد فإنك قد خرجت من بيتك عاصية لله تعالى ولرسوله محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً ، ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين ، فأخبريني ما للنساء وقود العساكر والإصلاح بين الناس . فطلبتِ زعمتِ بدم عثمان وعثمان رجل من بني أمية ، وأنت امرأة من بني تيم بن مرة ، ولعمري إن الذي عرضك للبلاء وحملك على المعصية ، لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان ! وما غضبت حتى أغضبت ، ولا هجت حتى هيجت ، فاتقي الله يا عائشة وارجعي إلى منزلك ، واسبلي عليك بسترك . والسلام ) .
14 . ورد حجة معاوية في حربه علياً ( عليه السلام ) بأنه آوى قتلة عثمان ! ففي النهاية لابن كثير : ( 7 / 288 ) والأخبار الطوال / 175 ، وغيرهما : ( خرج أبو الدرداء وأبو أمامة فدخلا على معاوية فقالا له : يا معاوية على مَ تقاتل هذا الرجل ؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً ، وأقرب منك إلى رسول الله ، وأحق بهذا الأمر منك ؟ فقال : أقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته ، فاذهبا إليه فقولا له فليُقدنا من قتلة عثمان ، ثم أنا أول من بايعه من أهل الشام ! فقال له شبيث بن ربعي :
أنشدك الله يا معاوية ، لو تمكنت من عمار أكنت قاتله بعثمان ؟ قال معاوية : لو تمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان ، ولكني كنت قتلته بغلام عثمان ! فقال له شبيث بن ربعي : وإله الأرض والسماء لا تصل إلى قتل عمار حتى تندر الرؤوس عن كواهلها ، ويضيق فضاء الأرض ورحبها عليك ! فقال معاوية : لو قد كان ذلك كانت عليك أضيق ! فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال : هؤلاء قتلته الذين تريان ، فخرج خلق كثير فقالوا : كلنا قتلة عثمان فمن شاء فليَرُمْنَا ) .
وقال عمار : « إنما قتله الصالحون ، المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان » . ( صفين لنصر بن مزاحم / 38 2 ) .
--------------------------- 498 ---------------------------
8 . شهد سعيد بن العاص بأن طلحة والزبير قتلا عثمان
قال ابن قتيبة ( 1 / 60 ) : ( أقبل عليهم سعيد بن العاص على نجيب له ، فأتى عائشة فقال لها : أين تريدين يا أم المؤمنين ؟ قالت : أريد البصرة ، قال : وما تصنعين بالبصرة ؟ قالت : أطلب بدم عثمان . قال : فهؤلاء قتلة عثمان معك ! ثم أقبل على مروان فقال له : وأنت أين تريد أيضاً ؟ قال : البصرة . قال : قال : فهؤلاء قتلة عثمان معك ، إن هذين الرجلين قتلا عثمان : طلحة والزبير ، وهما يريدان الأمرلأنفسهما ، فلما غُلبا عليه قالا : نغسل الدم بالدم ، والحوبة بالتوبة ) .
9 . وقتل مروان طلحة بعثمان !
قال البلاذري ( 2 / 246 ) : ( فلما رأى مروان الناس منهزمين قال : والله لا أطلب ثاري بعثمان بعد اليوم أبداً ، فانتحى لطلحة بسهم فأصاب ساقه فأثخنه ، والتفت إلى أبان ابن عثمان فقال له : قد كفيتك أحد قتلة أبيك ! وأدخل داراً من دور بني سعد بالبصرة فمات فيها . . فرمى طلحة بسهم فأصاب ركبته ، فكان الدم يسيل منها ، فإذا أمسكوا ركبته انتفخت ) .
وقال المفيد في كتاب الجمل / 107 ملخصاً : ( وأما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلم يكن تفرده عن نصرته وترك النهوض بالدفاع عنه خذلاناً له . . فلذلك التبس الأمر على الجمهور في رأيه ( عليه السلام ) في عثمان وقاتليه ، فنسبه بعض الناس إلى الرضا بما صنعه القوم بعثمان ، ونسبه آخرون إلى المواطاة عليه والتأليب ، ثم أكد الشبهة عليهم فيما ذكرناه أفعاله المختلفة مع عثمان تارة ينكر عليه ما أنكره المسلمون ، وتارة يدفع عنه وينهي عن قتله ، وتارة ينكر على من منعه الماء ويغلظ لذلك ويغضب من خلافه فيه ، وتارة يجلس في بيته وهو يرى الناس يهرعون إلى قتله ، هذا مع هجره لعثمان أحياناً ومنازعته له حيناً ، وصلحه أحياناً ، ومسالمته له حيناً ، وتغليظ القول عليه أحياناً ، وسعيه في الصلح بينه وبين الناس زماناً ، وترك ذلك إلى الكف عنه زماناً .
--------------------------- 499 ---------------------------
هذا مع أن المحفوظ من قوله ( عليه السلام ) فيه بعد قتله مما تختلف ظواهره وتشتبه معانيه . كقوله ( عليه السلام ) وقتاً : والله ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله .
وقوله ( عليه السلام ) حيناً : الله قتل عثمان .
وقوله ( عليه السلام ) وقتاً آخر : لو لم يدخل الجنة إلا قاتل عثمان لما دخلها ، ولو لم يدخل النار إلا قاتل عثمان لما دخلها .
وقوله ( عليه السلام ) وقتاً آخر : والله ما غاضني قتل عثمان ولا سرني ، ولا أحببت ذلك ، ولا كرهته . وقوله ( عليه السلام ) حيناً آخر : أكبت الله قتلة عثمان .
وقوله ( عليه السلام ) عند مطالبة القوم بقتلة عثمان : من قتل عثمان فليقم ، فقام أربعة آلاف من الناس المتحيزين إليه فقال هؤلاء قتلة عثمان .
وقوله ( عليه السلام ) : اللهم اقتل قتلة عثمان في بر الأرض وبحرها .
ولكن الأفعال والأقوال التي ذكرناها منه متلائمة غيرمختلفة في معناها . إذا حمل بعضها على بعض في الرأي الذي تقتضيه الأحوال ويوجبه النظر ) .
- *
--------------------------- 500 ---------------------------
الفصل التاسع والأربعون: مبايعة علي ( عليه السلام ) بالخلافة
1 . رُعْب قريش من خلافة علي ( عليه السلام ) !
جاءت خلافة علي ( عليه السلام ) بعد ربع قرن من عزل قريش لبني هاشم عن الخلافة ، وعن جمىع وظائف الدولة ، فكانت خلافته صاعقة على قريش ، لأنها تعني عند علي ( عليه السلام ) وشيعته : رجوع الحق إلى نصابه ، وانتهاء المؤامرة القرشية على العترة النبوية . وإبطال الثقافة القرشية التي حرفت الإسلام ، وإلغاء سياساتها القبلية ، وإعادة الإسلام الصحيح ، والعهد النبوي الرباني إلى الحكم .
بينما تعني عند قريش : عودة علي ( عليه السلام ) بعد إبعاده عن الخلافة لمدة ربع قرن ، ولا بد أنه سينتقم من بطون قريش ويدينها بتحريف الإسلام ، ويبطل سياساتها ، ويهدم ما بنته .
وقد أعلن علي ( عليه السلام ) الاستنفار لتصحيح الانحراف ، وإعادة العهد النبوي .
وأعلنت قريش الاستنفار لتحفظ ما أنجزته بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وإسقاط حكم علي ( عليه السلام ) الذي فرضه عليها ضغط الجمهور المتضرر من سياسة عثمان !
نعرف ذلك من اصطفاف بطون قريش مع معاوية لقتال علي ( عليه السلام ) . واصطفاف الأنصار كلهم والصحابة المتدينين مع علي ( عليه السلام ) لقتال معاوية وقريش .
قال معاوية يوماً لعقيل بن أبي طالب : ( يا أبا يزيد ، أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك فقد وردت عليهما ؟ قال : أخبرك ، مررت والله بعسكر أخي ، فإذا ليلٌ كليل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ونهارٌ كنهار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، إلا أن رسول الله ليس في القوم ، ما رأيت إلا مصلياً ، ولا سمعت إلا قارئاً . ومررت بعسكرك ، فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نَفَّرَ برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليلة العقبة !
ثم قال : من هذا عن يمينك يا معاوية ؟ قال : هذا عمرو بن العاص ، قال : هذا الذي اختصم
--------------------------- 501 ---------------------------
فيه ستة نفر فغلب عليه جزار قريش !
فمن الآخر ؟ قال : الضحاك بن قيس الفهري قال : أما والله لقد كان أبوه جيد الأخذ لعسب التيوس !
فمن هذا الآخر ؟ قال : أبو موسى الأشعري ، قال : هذا ابن السراقة !
فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه ، علم أنه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءً فأحب أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء ، فيذهب بذلك غضب جلسائه ، قال : يا أبا يزيد ، فما تقول فيَّ ؟ قال : دعني من هذا ! قال : لتقولن ، قال : أتعرف حمامة ؟ قال : ومن حمامة يا أبا يزيد ؟ قال : قد أخبرتك ، ثم قام فمضى !
فأرسل معاوية إلى النسابة فدعاه فقال : من حمامة ؟ قال ولي الأمان ! قال : نعم ، قال : حمامة جدتك أم أبي سفيان ، كانت بغياً في الجاهلية صاحبة راية ، فقال معاوية لجلسائه : قد ساويتكم وزدت عليكم فلا تغضبوا ) . ( شرح النهج : 2 / 125 ) .
لقد عادت جبهة الشرك باسم الإسلام ، وعاد أبو سفيان بشخص ابنه معاوية ، وجمع معه الأشرار ، وعاد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشخص علي ( عليه السلام ) وجمع معه الأخيار .
وهذا معنى قوله ( عليه السلام ) بعد بيعته بالخلافة : ( ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ، ولتغربلن غربلة ، ولتُسَاطُنَّ سوط القدر ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقن سابقون كانوا قصروان وليقصرن سباقون كانوا سبقوا . والله ما كتمت وشمة ، ولا كذبت كذبة ، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم ) .
وقد عهد اليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن الأمة ستغدر بك ، وتجبرك على بيعة شيوخ البطون ، فإن لم تجد أنصاراً فاحقن دمك ودم أهل بيتك حتى يجعل الله فرجاً ، وتأتيك الأمة وتبايعك ! قالت أم سلمة ( أمالي الصدوق / 463 ) : ( فدخلتُ وعليٌّ جاثٍ بين يديه وهو يقول : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، إذا كان كذا وكذا ، فما تأمرني ؟ فقال له : يا علي يا أخي ، إذا كان ذاك منهم فسُلَّ سيفك وضعه على عاتقك واضرب به قُدُماً قدماً ، حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم ) !
--------------------------- 502 ---------------------------
2 . الموجة الشعبية لعليً ( عليه السلام ) ألزمت طلحة والزبير أن يبايعاه
قال ابن الجوزي ( المنتظم : 5 / 65 ) : ( بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي ( المصري ) يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمرفلا يجدونه ، يأتي المصريون علياً فيختبئ منهم ، ويلوذ بحيطان المدينة ، فإذا لقوهُ باعدهم وتبرأ منهم ومن مقالتهم ، مرة بعد مرة ) .
وقال المفيد في كتاب الجمل / 65 : ( عن زيد بن أسلم قال : جاء طلحة والزبير إلى علي وهو متعوذ بحيطان المدينة ، فدخلا عليه وقالا : أبسط يدك نبايعك فإن الناس لا يرضون إلا بك ، فقال لهم : لا حاجة لي في ذلك ، ولئن أكون لكما وزيراً خير لكما من أن أكون أميراً ، فليبسط قرشيٌّ منكما يده أبايعه .
فقالا : إن الناس لا يؤثرون غيرك ولايعدلون عنك إلى سواك ، فابسط يدك نبايعك أول الناس ، فقال : إن بيعتي لا تكون سراً فأمهلا حتى أخرج إلى المسجد . فقالا : بل نبايعك هاهنا ثم نبايعك في المسجد ، فبايعاه أول الناس ،
ثم بايعه الناس على المنبر أولهم طلحة بن عبيد الله ، وكانت يده شلاء ، فصعد المنبر إليه فصفق على يده ، ورجل من بني أسد يزجرالطير قائم ينظر إليه ، فلما رأى أول يده صفقت على يد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يد طلحة وهي شلاء ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أول يد صفقت على يده شلاء ، يوشك أن لا يتم هذا الأمر ! ثم نزل طلحة والزبير وبايعه الناس بعدهما .
وهذه الأخبار مع كثرتها وانتشارها في كتب السير وكافة كتب العلماء ، وظهورها واستفاضتها ، تتضمن نقيض ما ادعاه المخالف من إكراه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على البيعة ، ويبطل ما تعلق به من ذلك من شك في الخبرالذي أورده الواقدي ، عن العثمانية المتظاهرة بعداوة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
على أن الواقدي قد أثبت في كتابه الذي صنفه في حرب البصرة ما يوافق الأخبار التي قدمنا ذكرها ، ويضاد ما خالفها في معناه ، فقال : لما قتل عثمان أقبل الناس على علي ( عليه السلام ) ليبايعوه فتأبى عليهم وقالوا : بايعنا لا نخالف أمرك ،
فأبى عليهم ، فمدوا يده وبسطوها ، فقالوا : بايعنا لا نجد غيرك ، ولا نرضى إلا بك ) .
--------------------------- 503 ---------------------------
3 . بايعه المهاجرون والأنصار إلا نفر قليل
قال اليعقوبي ( 2 / 178 ) : ( بايعه طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار ، وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحة بن عبيد الله ، فقال رجل من بني أسد : أول يد بايعت يد شلاء أو يد ناقصة . وقام الأشتر فقال : أبايعك يا أمير المؤمنين على أن عليَّ بيعة أهل الكوفة ،
--------------------------- 504 ---------------------------
ثم قام طلحة والزبير فقالا : نبايعك يا أمير المؤمنين على أن علينا بيعة المهاجرين ، ثم قام أبو الهيثم بن التيهان وعقبة بن عمرو وأبو أيوب ، فقالوا : نبايعك على أن علينا بيعة الأنصار ، وسائر قريش .
وبايع الناس إلا ثلاثة نفر من قريش : مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، والوليد بن عقبة ، وكان لسان القوم ، فقال : يا هذا إنك قد وترتنا جميعاً ، أما أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر ، وكان أبوه ثور قريش ، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه ، فتُبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا ، وتعفي لنا عما في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا .
فغضب علي وقال : أما ما ذكرت من وتري إياكم ، فالحق وتركم ، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله تعالى ، وأما إعفائي عما في أيديكم ، فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم . وأما قتلي قتلة عثمان ، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً ، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه ، فمن ضاق عليه الحق فالباطل عليه أضيق . وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم . فقال مروان : بل نبايعك ، ونقيم معك ، فترى ونرى !
وقام قوم من الأنصار فتكلموا ، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وكان خطيب الأنصار فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين ، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ، ولا يجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون ، وما احتجت إلى أحد مع علمك !
ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري وهو ذو الشهادتين ، فقال : يا أمير المؤمنين ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك ، ولا كان المنقلب إلا إليك ، ولئن صدقنا أنفسنا فيك فلأنت أقدم الناس إيماناً ، وأعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لك ما لهم ، وليس لهم ما لك .
وقام صعصعة بن صوحان فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لقد زينت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ، ولهي إليك أحوج منك إليها .
ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال : أيها الناس ، هذا وصي الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء ، الحسن الغناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ، ورسوله بجنة الرضوان . من كملت فيه الفضائل ، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل .
ثم قام عقبة بن عمرو فقال : من له يوم كيوم العقبة ، وبيعة كبيعة الرضوان ، والإمام الأهدى ، الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله ) .
4 . الخليفة الوحيد الذي لم يجبر أحداً على بيعته !
كل خلفاء قريش أجبروا الناس على بيعتهم بالتهديد بالسيف ، إلا علي ( عليه السلام ) فهوالوحيد الذي لم يجبرأحداً ! فلم يهدد بسيف ، ولا بحطبَ وحرق بيوت ! لأن واجبه إعادة الإرادة الحرة للإنسان المسلم ، التي صادرها زعماء قريش بمجرد أن أغمض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عينيه !
وكيف يجبر عليٌّ أحداً على بيعته وهوالإنسان الصافي الإنسانية ، أباً عن جد من أبي طالب إلى إبراهيم إلى آدم ( عليهم السلام ) والمؤمن بمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما أنزل عليه من فرض احترام الإنسان ، وحقوقه في الإسلام .
كيف يجبر أحداً على بيعته ، وهو التقي الذي يخاف من معصية ربه في نملة يسلبها جلب شعير ، فكيف يتعدى على حق إنسان له كرامته وحرمته عند الله !
وهو الصادق عندما قصَّ للمسلمين على المنبر قصة الأشعث زعيم كندة ، الذي أراد أن يرشيه ليوليه على منطقة من مناطق المسلمين ، فوسط له الوسطاء ، وتملق إليه بالكلام ، وجاءه بطبق حلوى ! قال ( عليه السلام ) :
--------------------------- 505 ---------------------------
( وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ، ومعجونة شنئتها ، كأنما عجنت بريق حية أوقيئها ( قطر السكَّر ) فقلت أصلةٌ أم زكاةٌ أم صدقة ، فذلك محرم علينا أهل البيت . فقال : لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية . فقلت : هبلتك الهبول ، أعن دين الله أتيتني لتخدعني ، أمختبط أنت أم ذو جنة أم تهجر ! والله لوأعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ! ما لعليٍّ ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى ) ! ( نهج البلاغة : 2 / 18 ) .
ولأنه الوحيد الذي لم يجبر أحداً على بيعته ، فضح اضطهاد مَن قبله ومَن بعده للمسلمين ومصادرتهم لحرياتهم !
قالوا له : إن عبد الله بن عمر وسعد بن وقاص وأسامة بن زيد تخلفوا عن بيعته ، واستأذنه عمار بن ياسرأن يأتي بهم ليجبرهم على البيعة كما جرت سنة قريش !
فقال له : ( دع عنك هؤلاء الرهط الثلاثة ، أما ابن عمر فضعيف في دينه ، وأما سعد بن أبي وقاص فحسود ، وأما محمد بن مسلمة فذنبي إليه أني قتلت قاتل أخيه ، مرحباً يوم خيبر ) . ( المعيار والموازنة للإسكافي / 108 ) .
وهو الوحيد الذي لم يجبر أحداً على القتال معه ، فقد تعلم من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن القتال يحتاج إلى قناعة وإيمان ! وتعلم منه احترام الإنسان ، فلم يجبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحداً على بيعته ولا على الإسلام ، إلا إذا أمره خالقه ومالكه بإجباره .
وبذلك فضح علي ( عليه السلام ) إجبار من قبله ومن بعده على القتال معهم والجندية !
وعلي ( عليه السلام ) الخليفة الوحيد الذي أعطى الحرية لمعارضيه وناقديه والثائرين عليه ، ولم ينقص من حقوقهم من بيت المال ولا غيره شيئاً ، فلهم حرية العمل ضده وجمع الناس للثورة عليه ، مالم يباشروا في الاعتداء على المجتمع والدولة !
( كان ( عليه السلام ) جالساً في أصحابه ، فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم ! فقال ( عليه السلام ) : إن أبصار هذه الفحول طوامح ، وإن ذلك سبب هُبابها ، فإذا نظر
--------------------------- 506 ---------------------------
أحدكم إلى امرأة تعجبه ، فليلامس أهله ، فإنما هي امرأة كامرأة ! فقال رجل من الخوارج : قاتله الله كافراً ما أفقهه ! فوثب القوم ليقتلوه ، فقال ( عليه السلام ) : رويداً ، إنما هو سبٌّ بسب ، أو عفوٌ عن ذنب ) . ( نهج البلاغة : 4 / 98 )
وبهذه الحرية التي منحها لخصومه ، فضح الحكام قبله الذين بطشوا بالناس للتهمة والظنة ، وقتلوهم على الكلمة ، وجعلوا رئيس الدولة أعظم حرمةً من الله ورسله ( عليهم السلام ) !
5 . الإمام ( عليه السلام ) يصف بيعته بأنها ليست كبيعة الفلتة
1 . قال ( عليه السلام ) : ( دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول . وإن الآفاق قد أغامت ، والمحجة قد تنكَّرت . واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب . وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلَّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولَّيتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً ، خير لكم مني أميراً ) . ( نهج البلاغة : 1 / 181 ) .
وفي رواية البلاذري ( 2 / 210 ) : ( فأتاه الناس فقالوا : إنه لا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك . فقال لهم : لاتريدوني فإني لكم وزيراً خير منى أميراً ! قالوا : والله ما نعلم أحداً أحق بها منك . قال : فإذ أبيتم فإن بيعتي لا تكون سراً ، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء بايعني . فخرج إلى المسجد فبايعه الناس ) .
يقصد ( عليه السلام ) أنهم إن بايعوه يمتحنون به ، وسيسقط بعضهم في الامتحان ، ولو كان وزيراً لسقط عنهم الامتحان به ( عليه السلام ) .
2 . وقال ( عليه السلام ) : ( لم تكن بيعتكم إيَّاي فلتة ( ! ) وليس أمري وأمركم واحداً . إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم . أيها الناس : أعينوني على أنفسكم ، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ، ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً ) . ( نهج البلاغة : 2 / 19 ) .
3 . من كلام له ( عليه السلام ) في وصف بيعة الأمة له : ( وبسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتى انقطعت
--------------------------- 507 ---------------------------
النعل ، وسقطت الرداء ، ووطئ الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب ) . ( نهج البلاغة : 2 / 222 ) .
4 . وقال ( عليه السلام ) في الخطبة الشقشقية : ( فما راعني إلَّا والنَّاس كعرف الضبع إليَّ ينثالون عليَّ من كل جانب ، حتى لقد وُطئ الحسنان ، وشُقَّ عِطفاي ، مجتمعين حولي
كربيضة الغنم ) .
5 . وقال ( عليه السلام ) : ( بايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين ، بل طائعين مخيَّرين ) . وقال في كتابه ( عليه السلام ) إلى معاوية : ( إنه بايعني القوم الَّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد . وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان
ذلك لله رضا ، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ، ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولَّاه الله ما تولَّى ) .
وهذا على فرض أن الخلافة لىست بتعىىن الله تعالى .
6 . وقال ( عليه السلام ) : ( أيها الناس إن لي عليكم حقاً ولكم علي حق . فأما حقكم عليَّ فالنصيحة لكم . وتوفير فيئكم عليكم ، وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا . وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب . والإجابة حين أدعوكم . والطاعة حين آمركم ) . ( نهج البلاغة : 1 / 84 ) .
7 . ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى طلحة والزبير : ( أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما ، أني لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى بايعوني . وإنكما ممن أرادني وبايعني . وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ، ولا لعرض حاضر ) . أي خوفاً أو طمعاً !
6 . خطبة البيعة
نوردها برواية الشريف الرضي فقد روى بعضها ، وبرواية الكليني ، والمفيد ، وغيرهما . روى الرضي أنه ( عليه السلام ) قال : ( ذمتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم : إن من
--------------------------- 508 ---------------------------
صرحت له العبر عما بين يديه من المثُلات ، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات .
ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ، ولتغربلن غربلة ، ولتُسَاطُنَّ سوط القدر ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقن سابقون كانوا قصروا ، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا . والله ما كتمت وشمة ، ولا كذبت كذبة ، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم ! ألا وإن الخطايا خيلٌ شُمُسٌ حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار ، ألا وإن التقوى مطايا ذُلَلٌ حمل عليها أهلها ، وأُعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة . حق وباطل ولكل أهل ، فلئن أمرَالباطل لقديماً فعل ، ولئن قل الحق فلربما ولعل ، ولقلَّما أدبر شئ فأقبل .
ثم قال الشريف الرضي : ( ومن هذه الخطبة : شُغِلَ مَنِ الجنة والنار أمامه . ساعٍ سريعٌ نجا ، وطالبٌ بطئ رجا ، ومقصرٌ في النار هوى . اليمين والشمال مَضَلة ، والطريق الوسطى هي الجادة ، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة ، ومنها منفذ السنة ، وإليها مصير العاقبة . هلك من ادعى وخاب من افترى . من أبدى صفحته للحق هلك وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره . لا يهلك على التقوى سنخُ أصلٍ ، ولا يظمأ عليها زرعُ قوم . فاستتروا ببيوتكم ، وأصلحوا ذات بينكم ، والتوبة من ورائكم ولا يحمد حامد إلا ربه ، ولا يَلُمْ لائم إلا نفسه ) . ( نهج البلاغة : 1 / 46 ) .
7 . الخطبة برواية المفيد ؟ رح ؟
قال ( رحمه الله ) : ( روت العامة والخاصة عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وذكر ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره ممن لايتهمه خصوم الشيعة في روايته : أن أمير المؤمنين قال في أول خطبة خطبها بعد بيعة الناس له على الأمر ، وذلك بعد قتل عثمان بن عفان :
« أما بعد ، فلا يرعينَّ مُرْعٍ إلا على نفسه ، شُغِل من الجنة والنار أمامه : ساعٍ مجتهد ، وطالبٌ يرجو ، ومقصرٌ في النار . ثلاثة واثنان ، ملكٌ طار بجناحيه ، ونبيٌّ أخذ الله بيديه ، لاسادس . هلك من ادعى ، ورديَ من اقتحم . اليمين والشمال مضلة والوسطى الجادة . منهجٌ عليه باقي الكتاب والسنة وآثار النبوة .
إن الله تعالى داوى هذه الأمة بدوائين : السوط والسيف ، لا هوادة عند الإمام فيهما ،
--------------------------- 509 ---------------------------
فاستتروا ببيوتكم ، وأصلحوا فيما بينكم ، والتوبة من ورائكم . من أبدى صفحته للحق هلك . قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها معذورين ، أما إني لو أشاء أن أقول لقلت : عفا الله عما سلف . سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همته بطنه . ويله لو قُص جناحاه وقُطع رأسه كان خيراً له .
أنظروا ، فإن أنكرتم فأنكروا ، وإن عرفتم فبادروا ، حق وباطل ولكل أهل ، ولئن أمر الباطل فلقديماً فعل ، ولئن قل الحق فلربما ولعل . وقل ما أدبر شئ فأقبل . ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم سعداء ، وإني لأخشى أن تكونوا في فترة ، وما علي إلا الإجتهاد . ألا وإن أبرار عترتي ، وأطائب أرومتي ، أحلم الناس صغاراً ، وأعلم الناس كباراً . ألا وإنَّا أهل البيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، وبقول صادق أخذنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا . معنا راية الحق من تبعها لحق ، ومن تأخر عنها غرق . ألاوبنا تدرك ترة كل مؤمن ، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقكم ، وبنا فتح الله لا بكم ، وبنا يختم لابكم » . ( الإرشاد : 1 / 239 ، وراجع نص الخطبة برواية مستدرك النهج : 2 / 11 ) .
8 . الخطبة برواية الكليني ؟ رح ؟
رواها في الكافي ( 8 / 67 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) بتفاوت ، فقال : ( إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما بويع بعد مقتل عثمان صعد المنبرفقال : الحمد لله الذي علا فاستعلى ، ودنا فتعالى ، وارتفع فوق كل منظر ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وحجة الله على العالمين ، مصدقاً للرسل الأولين ، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ، فصلى الله وملائكته عليه وعلى آله .
أما بعد أيها الناس ، فإن البغي يقود أصحابه إلى النار [ وإن أول من بغى على الله جل ذكره عناق بنت آدم ، وأول قتيل قتله الله عناق ، وكان مجلسها جريباً من الأرض في جريب ، وكان لها عشرون إصبعاً في كل إصبع ظفران مثل المنجلين ، فسلط الله عز وجل عليها أسداً كالفيل وذئباً كالبعير ونسراً مثل البغل ، فقتلوها ] وقد قتل الله الجبابرة على أفضل أحوالهم وآمَنَ ما كانوا ، وأمات هامان ، وأهلك
--------------------------- 510 ---------------------------
فرعون ، وقد قتل عثمان .
ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطن سوطة القدر ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقن سابقون كانوا قصروا ، وليقصرن سابقون كانوا سبقوا . والله ما كتمت وَشْمَة ولا كذبت كذبه ، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم . ألا وإن الخطايا خيل شُمُسٌ . . إلى أن قال : عفا الله عما سلف ، سبق فيه الرجلان ، وقام الثالث كالغراب همه بطنه ، ويله لو قص جناحاه وقطع رأسه كان خيراً له ، شُغل عن الجنة والنار أمامه .
ثلاثة واثنان خمسة ليس لهم سادس : ملك يطير بجناحيه ، ونبي أخذ الله بضبعيه ، وساع مجتهد ، وطالب يرجو ، ومقصر في النار . اليمين والشمال مضلة والطريق الوسطى هي الجادة ، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة ، هلك من ادعى وخاب من افترى .
إن الله أدب هذه الأمة بالسيف والسوط ، وليس لأحد عند الامام فيهما هوادة ، فاستتروا في بيوتكم وأصلحوا ذات بينكم ، والتوبة من ورائكم ، من أبدى صفحته للحق هلك ) .
9 . فقرات أخرى من خطبه ( عليه السلام ) أيام بيعته
1 . في رواية ابن ميثم : « ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان أو مال أخذه من بيت مال المسلمين ، فهو مردود عليهم في بيت مالهم ، ولو وجدته قد تزوج به النساء وفرق في البلدان ، فإنه إن لم يسعه الحق فالباطل أضيق عليه ) .
2 . وفي رواية : ( فقام إليه الناس فبايعوه ، فأول من قام فبايعه طلحة والزبير ، ثم قام المهاجرون والأنصار وسائر الناس حتى بايعه الناس .
وكان الذي يأخذ عليهم البيعة عمار بن ياسر ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وهما يقولان : نبايعكم على طاعة الله وسنة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإن لم نف لكم ، فلا طاعة لنا عليكم ولا بيعة في أعناقكم . والقرآن إمامنا وإمامكم .
--------------------------- 511 ---------------------------
ثم التفت علي ( عليه السلام ) عن يمينه وعن شماله وهو على المنبر وهو يقول : ألا لايقولن رجال منكم غداً ، قد غمرتهم الدنيا ، فاتخذوا العقار ، وفجروا الأنهار ، وركبوا الخيول الفارهة ، واتخذوا الوصائف الروقة ، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً ، إن لم يغفر لهم الغفار ، إذا منعوا ما كانوا به وصيروا إلى حقوقهم التي يعلمون ، يقولون : حَرَمنا ابن أبي طالب ، وظلمنا حقوقنا ، ونستعين بالله ونستغفره .
وأما من كان له فضل وسابقة منكم ، فإنما أجره فيه عند الله ، فمن استجاب لله
ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودخل في ديننا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده . فأنتم أيها الناس عباد الله المسلمون ، والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية ، وليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى ، وللمتقين عند الله خير الجزاء وأفضل الثواب ، لم يجعل الله الدنيا للمتقين جزاءً ، وما عند الله خيرٌ للأبرار . إذا كان غداً فاغدوا ، فإن عندنا مال اجتمع ، فلا يتخلفن أحد كان في عطاء أو لم يكن ، إذا كان مسلماً حراً . أحضروا رحمكم الله ) .
3 . وفي رواية شرح النهج ( 7 / 36 ) : ( لما اجتمعت الصحابة بعد قتل عثمان في مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في أمر الإمامة أشار أبو الهيثم بن التيهان ، ورفاعة بن رافع ، ومالك بن العجلان ، وأبو أيوب الأنصاري ، وعمار بن ياسر بعلي ( عليه السلام ) ، وذكروا فضله وسابقته وجهاده وقرابته ، فأجابهم الناس إليه . فقام كل واحد منهم خطيباً ، يذكر فضل علي ( عليه السلام ) ، فمنهم من فضله على أهل عصره خاصة ، ومنهم من فضله على المسلمين كلهم كافة . ثم بويع .
وصعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة ، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة فحمد الله وأثنى عليه ، وذكرمحمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصلى عليه ، ثم ذكر نعمة الله على أهل الإسلام ، ثم ذكر الدنيا ، فزهدهم فيها ، وذكر الآخرة فرغبهم إليها ، ثم قال : « أما بعد ، فإنه لما قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استخلف الناس أبا بكر ، ثم استخلف أبو بكر عمر ، فعمل بطريقه ، ثم جعلها شورى بين ستة ، فأفضى الأمر منهم إلى عثمان ، فعمل ما أنكرتم وعرفتم ، ثم حصر وقتل . ثم جئتموني
--------------------------- 512 ---------------------------
فطلبتم إلي ، وإنما أنا رجل منكم ، لي ما لكم وعلي ما عليكم . وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة ، فأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، ولا يحمل هذا الأمر إلا أهل الصبر والبصر والعلم بمواقع الأمر . وإني حاملكم على منهج نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ومنفذٌ فيكم ما أمرت به ، إن استقمتم لي ، والله المستعان .
ألا إن موضعي من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته ، فامضوا لما تؤمرون به ، وقفوا عندما تنهون عنه ، ولا تعجلوا في أمر حتى نبينه لكم ، فإن لنا عن كل أمر تنكرونه عذراً . ألا وإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه ، أني كنت كارهاً للولاية على أمة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى اجتمع رأيكم على ذلك ، لأني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : أيما والٍ وليَ الأمر من بعدي ، أقيم على حد الصراط ، ونشرت الملائكة صحيفته ، فإن كان عادلاً أنجاه الله بعدله ، وإن كان جائراً انتفض به الصراط حتى تتزايل مفاصله ، ثم يهوي إلى النار ، فيكون أول ما يتقيها به أنفه ، وحر وجهه .
قال شيخنا أبو جعفر : وكان هذا أول ما أنكروه من كلامه ( عليه السلام ) وأورثهم الضغن عليه ، وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية . فلما كان من الغد ، غدا وغدا الناس لقبض المال ، فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه : إبدأ بالمهاجرين فناداهم ، واعط كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير ، ثم ثنِّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ، ومن يحضر من الناس كلهم ، الأحمر والأسود ، فاصنع به مثل ذلك .
فقال سهل بن حنيف : يا أمير المؤمنين ، هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم ! فقال : نعطيه كما نعطيك ، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير ، ولم يفضل أحداً على أحد ، وتخلف عن هذا القسم يومئذ طلحة ، والزبير ، وعبد الله بن عمر ، وسعيد بن العاص ، ومروان بن الحكم ، ورجال من قريش وغيرها ) .
4 . روى في الكافي بسند صحيح ( 8 / 360 ) : ( أتى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عبد الله بن عمر ووُلْدُ أبيبكر ، وسعد بن أبي وقاص ، يطلبون منه التفضيل لهم ، فصعد المنبر ومال الناس إليه ، فقال : الحمد لله ولي الحمد ومنتهى الكرم ، لا تدركه الصفات ولا يحد باللغات ولا يعرف بالغايات . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً
--------------------------- 513 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، نبي الهدى وموضع التقوى ، ورسول الرب الأعلى ، جاء بالحق من عند الحق لينذر بالقرآن المنير ، والبرهان المستنير ، فصدع بالكتاب المبين ، ومضى على ما مضت عليه الرسل الأولون .
من استقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، وآمن بنبينا ، وشهد شهادتنا ، ودخل في ديننا ، أجرينا عليه حكم القرآن وحدود الإسلام ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى . ألا وإن للمتقين عند الله تعالى أفضل الثواب ، وأحسن الجزاء والمآب ، لم يجعل الله تبارك وتعالى الدنيا للمتقين ثواباً ، وما عند الله خير للأبرار . أنظروا أهل دين الله فيما أصبتم في كتاب الله وتركتم عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجاهدتم به في ذات الله ، أبحسب أم بنسب ، أم بعمل ، أم بطاعة ، أم زهادة ؟ وفيما أصبحتم فيه راغبين !
فسارعوا إلى منازلكم رحمكم الله التي أمرتم بعمارتها ، العامرة التي لا تخرب ، الباقية التي لا تنفد ، التي دعاكم إليها وحضكم عليها ورغبكم فيها ، وجعل الثواب عنده فيها ، فاستتموا نعم الله عز ذكره بالتسليم لقضائه والشكر على نعمائه ، فمن لم يرض بهذا فليس منا ولا إلينا ، وإن الحاكم يحكم بحكم الله لا خشية عليه من ذلك .
أولئك هم المفلحون ) .
5 . من خطبة له ( عليه السلام ) بعدما بويع له بخمسة أيام ، رواها علي بن إبراهيم ( 1 / 384 ) بسند صحيح ، قال : ( خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد ما بويع له بخمسة أيام خطبة فقال فيها : واعلموا أن لكل حق طالباً ، ولكل دم ثائراً ، والطالب بدمائنا هو العادل الذي لا يحيف ، والحاكم الذي لا يجور ، وهو الله الواحد القهار ، واعلموا أن على كل شارع بدعة وزره ووزر كل مقتد به من بعده ، من غيرأن ينقص من أوزار العاملين شئ ، وسينتقم الله من الظلمة مأكلاً بمأكل ومشرباً بمشرب ، من لقم العلقم ومشارب الصبرالأدهم ، فيشربوا بالصب من الراح السم المذاق ، ويلبسوا دثار الخوف دهراً طويلاً ، ولهم بكل ما أتوا وعملوا من أفاويق الصبر الأدهم ، فوق ما أتوا وعملوا ، أما إنه لم يبق إلا الزمهرير من شتائهم ، وما لهم من الصيف إلا رقدة .
--------------------------- 514 ---------------------------
ويحهم ما تزودوا وجمعوا على ظهورهم من الآثام ، فيامطايا الخطايا ، وزَوْرَالزور ، وزوامل الآثام ، إسمعوا واعقلوا وتوبوا ، وابكوا على أنفسكم ، فسيعلم الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون فأقسم ثم أقسم ، ليتنخمها بنو أمية من بعدي ، وليعرفنها في دار غيرهم عما قليل ، فلا يبعد الله إلا من ظلم ، وعلى البادي ما سهَّلَ لهم من سبيل الخطايا مثل أوزارهم وأوزاركل من عمل بوزرهم إلى يوم القيامة ، ومن أوزار الذين يضلونهم بغيرعلم . أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) .
وأورد الرضي قسماً منها بتفاوت ( 2 / 55 ) ومنها : ( فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا وأدخله الظلمة تَرْحَةً وأولجوا فيه نقمة . فيومئذ لا يبقى لهم في السماء عاذر ، ولا في الأرض ناصر . أصفيتم بالأمر غير أهله ، وأوردتموه غيرمورده . وسينتقم الله ممن ظلم مأكلاً بمأكل ومشرباً بمشرب . . وإنما هم مطايا الخطيئات وزوامل الآثام . فأقسم ثم أقسم ، لتنخمنها أمية من بعدي كما تُلفظ النخامة ، ثم لاتذوقها ولا تتطعم بطعمها أبداً ، ما كرَّ الجديدان )
6 . وفي تيسير المطالب ( 1 / 272 ) ليحيى بن الحسين المتوفى 424 : ( خطب أمير المؤمنين الناس بعد أن استخلف بستة أيام ، فحمد الله وأثنى عليه وأفاض في الصلاة على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أيها الناس إنما مبدأ وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله تعالى ، يتولى يتولى فيها رجال رجالاً ، فلو أن الحق خلص لم يكن اختلاف ، ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، ولكن يؤخذ من هذا ضِغْثٌ ومن هذا ضغث فيمزجان فيمتزجان ، هنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى .
اليوم عملٌ ولا ثواب ، وغداً ثوابٌ ولا عمل ، كونوا مفاتيح الهدى .
بنا نفى الله ربق الذل عن أعناقكم ، وبنا يفتح ويختم ، لا بكم .
والله أيها الناس ، لقد أدركت أقواماً كانوا يبيتون سجدا لله وقياماً ، كأن صرير النار في آذانهم ، إذا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح العاصف .
أيها الناس : إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها ، وفرض فروضاً فلا تنقصوها ، وأمسك
--------------------------- 515 ---------------------------
عن أشياء لم يمسك عنها نسياناً بل رحمة من الله لكم فاقبلوها ، ولا تكلفوها ، حلالٌ بَيِّنٌ وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه فهو لما استبان له أترك . والمعاصي حمى الله ، فمن رتع حولها يوشك أن يواقعها ) .
وروى الرضي بعضها ( نهج البلاغة : 1 / 100 ، ونحوه الكافي : 1 / 54 ) ومنها : ( إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله . فلوأن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضِغْثٌ ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى ) .
10 . البيعة بعد ربع قرن في نفس الشهر واليوم
قال الطبري ( 4 / 436 ) وابن عساكر ( 42 / 437 ) إن بيعة المسلمين لعلي ( عليه السلام ) بالخلافة كانت في يوم الجمعة الثامن عشرمن ذي الحجة سنة 35 ، أي بعد ربع قرن من مبايعة الناس له بالخلافة بأمرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في يوم الثامن عشر من ذي الحجة . فاعرف السر في اختيار الله تعالى يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وهو يوم نصب يوشع بن نون وصياً لموسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ويوم نصب شمعون الصفا وصياً لعيسى ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وكذلك السر في أن كلاً من الثلاثة عاش بعد رسوله ثلاثين سنة ، واستشهد في اليوم الحادي وعشرين من شهر رمضان !
ثم اعرف السر في أنه توفي في نفس اليوم إبراهيم ابن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وروي أنه فيه استوت سفينة نوح ( عليه السلام ) على الجودي ! ( مصباح المتهجد / 812 ، أمالي الصدوق / 190 ) .
11 . شرح بعض فقرات خطب البيعة
1 . خطبة البيعة وأخواتها ، أشبه بالبيان الحكومي لعمل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وسياسته ، وقد تميز حكمه عن غيره ، كما تميزت شخصيته عن غيرها
صلوات الله عليه .
--------------------------- 516 ---------------------------
فهو الوحيد بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي احترم الإنسان المسلم فلم يجبره على بيعته بالسوط والسيف ! ولم يجبره على القتال معه ! وساوى بين المسلمين في العطاء من بيت المال ولم يفضل المقربين منه ! وأعطى خصومه حتى الخوارج حرية التعبير
والتجمع والنقد !
وقد تناولت خطب البيعة أهم قضايا الأمة ، ورسمت خطوط سياسته ( عليه السلام ) في إعادة العهد النبوي ، وإزالة آثار الانحراف والتحريف .
فقد أعلن أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جعل الولاية والخلافة لعترته ، فبغت عليهم قريشٌ وأخذت الخلافة منهم ، واضطهدتهم .
وأعلن أن الظالمين تسلطوا على المسلمين ونهبوا بيت المال ، وأنه سيُرجع ما بقي من المنهوبات مهما كلفه ذلك .
وأعلن إعادة التسوية النبوية في العطاء ، وإن أدى ذلك إلى اعتراض الطبقة التي ميزوها على الأمة بمخصصات ضخمة ، وألبسوا ذلك ثوباً دينياً .
وأعلن أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أخبره بما الأمة صانعة معه بعده ، وأمره إذا رجعت اليه أن يجاهد على تأويل القرآن ، الناكثين والقاسطين والمارقين ، وأنه سيفعل .
وأعلن أنه يعمل بقاعدة : وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ، ولن يستعين بالعمال الفاسدين ، وسيعزلهم ويكف شرهم عن الأمة ، وأولهم معاوية ، مهما كلفه ذلك .
ويتصف كلامه وقراراته ( عليه السلام ) بالوضوح والقوة . ولم يستطع المخالفون لها رغم شراستهم أن يواجهوها بمنطق ! فقد جاءه طلحة والزبير يريدان التفضيل والشراكة في الخلافة ، فناقشهما وأفحمهما ، وجاءه عبد الله بن عمر وآل أبيبكر ، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم ، يطلبون تفضيلهم على غيرهم في العطاء فناقشهم وأفحمهم .
وجاءه زعماء بني أمية : سعيد بن العاص ومروان بن الحكم ، وابن كرز ، وابن أبي سرح ، وغيرهم ، يعرضون عليه المبايعة بشرط أن يترك لهم ما نهبوه من بيت المال ، وأن يأخذ بثأر عثمان ، فأجابهم بمنطق الإسلام وأفحمهم ، وأجازلهم اللحاق بمن شاؤوا ، وهو يقصد معاوية بالشام ، أو عائشة بمكة ، فقالوا : بل نبايعك ونرى !
--------------------------- 517 ---------------------------
2 . قوله ( عليه السلام ) : ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . . الخ . معناه أن صراع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان مع قريش المشركة على الإسلام وتنزيل القرآن . وأن المعركة الثانية مع قريش بدأت الآن بعد أن سرقت خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحرفت الإسلام . فهو صراع مع الضلال ، وقد اختلطت فيه الأوراق ، وبدأ فرز الناس مجدداً ، حسب مواقفهم : مع الضلال البشري أو مع الهدى الإلهي .
3 . قوله ( عليه السلام ) : والله ما كتمت وشمة ، ولا كذبت كذبة ، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم ! أي ماكتمت أمراً ينبغي أن أقوله ولا وشمة أي مرة . وقد أخبره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما يجري بعده : « أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما الأمة صانعة بي بعده ، فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت !
فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إلي إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك ، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً » . ( كتاب سُليم / 215 ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( وقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد إليَّ عهداً فقال : يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي ، فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم ، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه ، فإن الله سيجعل لك مخرجاً ) . ( المسترشد / 77 ) .
فكانت خلافته ( عليه السلام ) بعد ربع قرن ، لما نقمت الأمة على عثمان وقتلته ، كان الفرج والمخرج الموعود . وليته ( عليه السلام ) فصَّل ما قاله له النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن يوم بيعته بالخلافة . فقد كان ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يملي عليه العلم ويكتبه ، قال ( عليه السلام ) : ( فما نزلت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصها وعامها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها . فما نسيت آية من كتاب الله ، ولا علماً أملاه عليَّ وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا ) .
وفي متشابه القرآن لابن شهرآشوب ( 2 / 38 ) : ( ذكر في تاريخ البلاذري ،
--------------------------- 518 ---------------------------
ومسند أحمد ، وأبي يعلى ، وسنن ابن ماجة ، وكتاب أبيبكر عياش ، ومسند أبي رافع ، أنه كانت لعلي كل ليلة دخلة ، لم تكن لأحد من الناس ، وفي رواية دخلتان ) .
4 . قوله ( عليه السلام ) : إن الله تعالى داوى هذه الأمة بدوائين : السوط والسيف . . أي أمر الله رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمداوتها بدواء الأمم العام ، لأنه لايصلحها إلا السيف والقوة .
5 . قوله ( عليه السلام ) : قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها معذورين . . يقصد أنهم يعلمون أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استخلفه وأن قريشاً غصبت خلافته ، فسكتوا على ذلك !
6 . قوله ( عليه السلام ) : ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم سعداء ، وإني لأخشى أن تكونوا في فترة . يعني أن أموركم كانت مبتزة منكم ، وتسلط عليكم حكام بالجبر . وأخشى أن تفقدوني ويعود سلطان الظلمة عليكم ، فتدخلوا في أهل الفترة . وأهل الفترة هم الذين لىس عندهم حجة الطاهرة من نبي أو صي .
7 . قوله ( عليه السلام ) : ألاوإنَّا أهل البيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، وبقول صادق أخذنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا . . الخ .
وهو تأكيد على وصية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالعترة وأنهم العلماء الربانيون ، والنقباء الإثنا عشر الذين بعثهم الله في هذه الأمة ، كما بعث اثني عشر نقيباً في بني إسرائيل .
8 . قوله ( عليه السلام ) : [ وإن أول من بغى على الله جل ذكره عناق بنت آدم . . وجعلنا فقرة عناق بين معقوفين لأنا نظن زيادتها في الرواية ، وقد ضعَّفَها بعضهم تارة بأن راويها مغربي مجهول يدعي أنه من المعمرين ، وتارة بأنه ذكر فيها عناق بنت آدم ( عليه السلام ) وأن مجلسها جريب في جريب ، أي نحو ألف متر في ألف ، ومعنى مجلسها المكان الذي تحتاجه لجلوسها ! فهي حيوان ضخم جداً ، وأظافرها كمناجل الحِصاد ! وقالوا هي رواية إسرائيلية مكذوبة ، وذكروا أن عناق بقيت إلى زمن نوح ( عليه السلام ) وذكر بعضهم أنها كانت من القوم الجبارين في أريحا ، وأن موسى ( عليه السلام ) قتلها ! وكل ذلك لا يصح ، ولا نعلم أن آدم وحواء ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهما بنتٌ أصلاً .
--------------------------- 519 ---------------------------
وأجاب بعضهم على هذا التشكيك بما رواه الكليني ( 2 / 372 ) : ( عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أيها الناس إن البغي يقود أصحابه إلى النار ، وإن أول من بغى على الله عناق بنت آدم ، فأول قتيل قتله الله عناق وكان مجلسها جريباً في جريب ، وكان لها عشرون إصبعاً في كل إصبع ظفران مثل المنجلين ، فسلط الله عليها أسداً كالفيل وذئباً كالبعير ونسراً مثل البغل ، فقتلنها ) .
لكن مع ذلك نتوقف في أصل وجود عناق بنت آدم ، فلا نثبته ، للإشكال الكبير فيه ، فضلاً عن صفاتها الخيالية ، ونرى أن فقرتها مضافة إلى نسخة رواية الكافي .
9 . قوله ( عليه السلام ) : ألا وقد سبقني إلى هذا الأمرمن لم أشركه فيه ، ومن لم أهبه له ، ومن
ليست له منه توبة إلا بنبي . . الخ . وهذه إدانة لمن أخذوا الخلافة ، ولم يشركهم فيها . ولا توبة لهم إلا على يد نبي ينسخ شريعة نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
10 . قوله ( عليه السلام ) : ولو أشاء لقلت : عفا الله عما سلف ، سبق فيه الرجلان ، وقام الثالث
كالغراب همه بطنه ، ويله لو قص جناحاه وقطع رأسه كان خيراً له ، شُغل عن الجنة والنار أمامه .
يقصد ( عليه السلام ) : لو شئت لعفوت عمن قصروا في نصرتي ، وليس عمن أخذوا الخلافة . ثم وصف عثمان بالغراب الذي أكبرهمه أكله ، وقال ليته كان معلولاً فينجو ، وفي قوله : شُغل عن الجنة والنار أمامه ، إشارة إلى أنه من أهل النار ، لكن في رواية ابن ميثم : شُغل مَن الجنة والنار أمامه . أي يجب على الإنسان أن يُشغل عن الدنيا .
ثم ذكر ( عليه السلام ) أقسام الناس الستة ، ليبتعد أحدنا عن الإفراط بالاهتمام بدنياه .
11 . قوله ( عليه السلام ) : ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان أومال أخذه من بيت مال المسلمين . هذا أمر بمصادرة التجاوزات على بيت المال ، في الأراضي والأموال . وقد كثرت في زمن عثمان حتى نهبوا بيت المال ، وصارت أكثر أراضي المدينة وواحات الحجاز ملكاً لبني أمية . وكذلك الأمر في العراق ومصر وغيرهما .
--------------------------- 520 ---------------------------
12 . قوله ( عليه السلام ) : إذا كان غداً فاغدوا ، فإن عندنا مال اجتمع ، فلا يتخلفن أحد . . هذا قرار جرئ بالمساواة في العطاء بين جميع المسلمين . وقد وصفت ذلك رواية مناقب آل أبي طالب ذلك ( 2 / 96 ) : ( عن ابن عباس : أنه لما صعد علي ( عليه السلام ) المنبرقال لنا : قوموا فتخللوا الصفوف ونادوا هل من كاره ؟ فتصارخ الناس من كل جانب : اللهم قد رضينا وسلمنا ، وأطعنا رسولك وابن عمه . فقال : يا عمار قم إلى بيت المال فأعط الناس ثلاثة دنانيرلكل إنسان ، وارفع لي ثلاثة دنانير . فمضى عمار وأبو الهيثم مع جماعة من المسلمين إلى بيت المال ، ومضى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى مسجد قبا يصلي فيه ، فوجدوا فيه ثلاث مائة ألف دينار ووجدوا الناس مائة ألف ، فقال عمار : جاء والله الحق من ربكم ، والله ما علم بالمال ولا بالناس . وإن هذه لآيةٌ وجبت عليكم بها طاعة هذا الرجل ، فأبى طلحة والزبير وعقيل أن يقبلوها . . القصة ) .
أقول : روي أنه مضى ( عليه السلام ) إلى أرض له استنبط فيها عيناً ليعمل فيها ، وقد يكون مر على مسجد قباء أولاً ، ففي الخرائج ( 1 / 187 ) : ( وأخذ ( عليه السلام ) مكتله ومسحاته ثم انطلق إلى بئر الملك فعمل فيها ، فأخذ الناس ذلك القسم حتى بلغوا الزبير وطلحة وعبد الله بن عمر ، أمسكوا بأيديهم وقالوا : هذا منكم أو من صاحبكم ؟ قالوا : بل هذا أمره لانعمل إلا بأمره . قالوا : فاستأذنوا لنا عليه . قالوا : ما عليه إذن ، هو ذا ببئر الملك يعمل . فركبوا دوابهم حتى جاءوا إليه ، فوجدوه في الشمس ، ومعه أجير له يعينه فقالوا له : إن الشمس قد آذتنا فارتفع معنا إلى الظل ، فارتفع معهم إليه .
فقالوا له : لنا قرابة من نبي الله وسابقة وجهاد ، وإنك أعطيتنا بالسوية ، ولم يكن عمر ولاعثمان يعطوننا بالسوية ، كانوا يفضلونا على غيرنا . . . الخ . ) .
ورواها القاضي المغربي في دعائم الإسلام ( 1 / 384 ) وستأتي روايتها في حرب الجمل .
وفي نهج البلاغة ( 2 / 185 ) في كلام له ( عليه السلام ) مع طلحة والزبير : ( وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة ، فإن ذلك أمرٌ لم أحكم أنا فيه برأيي ، ولا وليته هوى مني ، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد فُرغ منه ، فلم أحتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه ، وأمضى فيه حكمه ، فليس لكما والله عندي ولا لغير كما في هذا عُتبى . أخذ الله بقلوبنا
--------------------------- 521 ---------------------------
وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر ) .
ومن الملفت أن دولة الإسلام أول دولة أعطت رواتب من بيت المال لكل أفراد شعبها ، وأن أهل المدينة وحولها بلغوا مائة ألف ، أي تسعة أضعاف ما كانوا عند وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل خمس وعشرين سنة . ويظهر أن بيوت الأموال في الولايات كانت مستقلة ومنفصلة عن بعضها ، لذلك اقتصرتوزيعه ( عليه السلام ) على المدينة وما حولها .
13 . قول الراوي : أتى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عبد الله بن عمر ووُلْدُ أبيبكر ، وسعد بن
أبي وقاص ، يطلبون منه التفضيل لهم . وتقدم أنه أتاه طلحة والزبيريطلبان تفضيلهما ، وطلب منه الأمويون أن يبايعوه بشرط أن يترك لهم ما نهبوه من بيت المال ! وكذلك غيرهم من الطبقة التي كونتها سياسة أبيبكر وعمر . لكنه تمسك بالمساواة ، وقال لو كان هذا المال لي لساويت بينهم ، فكيف وهو لهم .
14 . قوله ( عليه السلام ) : فأقسم ثم أقسم ، لتنخمنها أمية من بعدي كما تُلفظ النخامة ، ثم لا
تذوقها ولا تتطعم بطعمها أبداً ، ما كرَّ الجديدان ) .
أرى رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قردة ينزون على منبره فيضلون الناس ، وأنزل الله عليه : وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً للَّنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا . وأخبره أنهم بنو أمية وأن ملكهم ألف شهر ، ولا يملكون بعدها أبداً ، وهذا لا ينافي بقاء خطهم ، وأن يخرج منهم السفياني مقابل الإمام المهدي ( عليه السلام ) . وقد تكون مدة حكم السفىاني من الألف شهر .
15 . قوله ( عليه السلام ) : واعلموا أن على كل شارعِ بِدْعَةٍ وِزْرَه ، ووزرَكل مقتدٍ به من بعده . . وسينتقم الله من الظلمة مأكلاً بمأكل ، ومشرباً بمشرب . . الخ . وهي قاعدة في تسبيب صاحب البدعة للشر ، فعليه وزره وسهم من وزر من عمل ببدعته . وهو شبيه بقول النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، والبدعة سنة سيئة ينسبها صاحبها إلى الدين . وهو يشير بها إلى من ابتدع ظلم
--------------------------- 522 ---------------------------
أهل البيت ( عليهم السلام ) وأخذ الخلافة منهم .
وقوله ( عليه السلام ) : إنما مبدأ وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله تعالى ، يتولى يتولى فيها رجال رجالاً ، فلو أن الحق خلص لم يكن اختلاف . . الخ .
يصف بذلك ولادة الفتنة ببدعة من شخص فيتبعه آخر ويتولاه عليها ، ويجعله نداً وولاينه ميزاناً للتولي والتبرؤ !
وقال ( عليه السلام ) إن سبب اتباع الناس للبدعة اختلاط الحق فيها بالباطل حتى يصعب تمييزهما ، فلو كان الباطل محضاً لعرفه الناس لكنه يخلط بحق فتقع الشبهة والفتنة ، ولا ينجو منها إلا الأصفياء . وقد سئل ( عليه السلام ) عن قبول الناس لأبيبكر وعمر وثورتهم على عثمان ، فقال إنهما مزجا الباطل بالحق فقبلهما الناس ، وأرادها عثمان باطلاً محضاً فقتلوه !
12 . رفضه التمييز بين الناس وتمسكه بالمساواة
1 . في تاريخ اليعقوبي ( 2 / 183 ) : ( وأعطى الناس بالسوية لم يفضل أحداً على أحد وأعطى الموالي كما أعطى الصلبية ، وقيل له في ذلك فقال : قرأت ما بين الدفتين فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا ، وأخذ عوداً من الأرض ، فوضعه بين إصبعيه ) .
2 . من كلام له ( عليه السلام ) في أواخر خلافته لما طلب منه أن يفضل الرؤساء في العطاء ليكسبهم ، كما يفعل معاوية : ( أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ! والله ما أطُورُ به ما سمَر سمير ، وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً . لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف وإنما المال مال الله . ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله ! ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ، ولا عند غير أهله ، إلا حرمه الله شكرهم ، وكان لغيره ودهم ، فإن زلت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم ، فشرُّ خدينٍ وألأمُ خليل ) ( نهج البلاغة : 2 / 6 ) .
3 . رووا أن عمر أحسَّ قبيل وفاته بخطأ سياسته في التمييز ، ووعد أن يتركها !
وأنه كان يتجر بماله ، ويصرف من بيت المال ، ويستقرض منه لتجارته .
--------------------------- 523 ---------------------------
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان ( 3 / 218 ) : ( من حديث عمر : لئن عشتُ إلى قابل لأُسَوِّينَّ بين الناس ، حتى يأتي الراعي حقه بسر وحمير ، لم يعرق فيه جبينه ) .
ولكنه لا يستطيع لأنه عود نفسه والطبقة المقربة منه على التمييز والثروة . وغاية ما استطاع فعله أن يقول لعماله إنكم أكثرتم من نهب بيت المال ، فنصف لكم ونصف لنا وواصلوا عملكم ! وهو حكمٌ كيفي ، لاوجه له في قوانين الأرض ولا السماء !
ففي تاريخ دمشق ( 55 / 278 ) وتاريخ ابن خياط / 81 : ( بعث عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة إلى عمرو بن العاص وكتب إليه : أما بعد فإنكم معشر العمال تقدمتم على عيون الأموال ، فجبيتم الحرام ، وأكلتم الحرام ، وأورثتم الحرام ! وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة الأنصاري فيقاسمك مالك ، فأحضره مالك ) .
- *
13 . وصف بيعة الأمصار لعلي ( عليه السلام )
قال ابن حجر في فتح الباري ( 7 / 58 ) : ( وكانت بيعة علي بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، فبايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر ، وكتب بيعته إلى الآفاق ، فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام ) .
وقال البلاذري : ( فبايع علياً أهل الأمصار ، إلا ما كان من معاوية وأهل الشام ، وخواص من الناس ) . ( أنساب الأشراف : 2 / 212 ) .
( فقام الناس فبايعوا علياً ( في مصر ) واستقاموا لقيس ، إلا رجلاً يقال له : يزيد بن الحرث ، وكان معتزلاً في قرية هناك فبعث إلى قيس : إنا لا نبايعك ولا ننتزي عليك في سلطانك ، فابعث عاملك فإن الأرض أرضك ، ولكنا نتوقف حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس ) . ( أنساب الأشراف : 2 / 390 ) .
وقال البلاذري ( 2 / 208 ) : ( معتمر بن سليمان قال قلت لأبي : إن الناس يقولون إن بيعة علي لم تتم . قال : يا بني ، بايعه أهل الحرمين ، وإنما البيعة لأهل الحرمين ) .
وفي المعيار والموازنة / 27 : ( قالت لها أم سلمة : يا بنت أبيبكر : أبدم عثمان تطلبين ؟
--------------------------- 524 ---------------------------
فوالله إن كنت لأشد الناس عليه وما كنت تدعينه إلا نعثلاً ! أم على عليِّ ابن أبي طالب تنقمين ، وقد بايعه المهاجرون والأنصار ) !
وفي الإستيعاب ( 2 / 850 ) ، قال عبد الرحمن بن غنم الأشعري لطلحة والزبير : ( عجباً منكما ، كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوان علياً أن يجعلها شورى ، وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار ، وأهل الحجاز والعراق ، وأن من رضيه خير ممن كرهه ، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه . وأي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة ، وهو وأبوه من رؤس الأحزاب ) .
14 . لم يطع أهل الكوفة أبا موسى في تأخير البيعة
قال ابن حجر في الإصابة ( 6 / 404 ) : « لما جاء قتل عثمان إلى أهل الكوفة ، قال هاشم لأبي موسى الأشعري : تعال يا أبا موسى بايع لخيرهذه الأمة علي ! فقال : لا تعجل . فوضع هاشم يده على الأخرى فقال : هذه لعلي وهذه لي ، وقد بايعت علياً ( عليه السلام ) ، وأنشد :
أبايع غير مكترثٍ علياً * ولا أخشى أميراً أشعريا
أبايعه وأعلم أن سأرضي * بذاك الله حقاً والنبيا » .
والبُهْمَة الفارس الشديد البأس . ( الصحاح : 5 / 1875 ) . وسيأتي في عزل أبي موسى .
وذكر ابن الأعثم ( 2 / 438 ) أن بيعة علي ( عليه السلام ) كانت مطلب أهل الكوفة ، لكن أبا موسى تخلف حتى ضغط عليه المسلمون : « فقامت الناس إلى أميرهم أبي موسى الأشعري فقالوا : أيها الرجل ! لمَ لا تبايع علياً وتدعو الناس إلى بيعته ، فقد بايعه المهاجرون والأنصار ! فقال أبو موسى : حتى أنظر ما يكون وما يصنع الناس بعد هذا » !
15 . فَرَحُ حذيفة بخلافة علي ( عليه السلام ) وحديثه العجَب !
في مروج الذهب ( 2 / 383 ) : ( وقد كان حذيفة عليلاً بالكوفة في سنة ست وثلاثين ، فبلغه قتل عثمان وبيعة الناس لعلي فقال : أخرجوني وادعوا الصلاةَ جامعةً فوضع على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وعلى آله ، ثم قال :
أيها الناس ، إن الناس قد بايعوا علياً فعليكم بتقوى الله وانصروا علياً ووازروه ،
--------------------------- 525 ---------------------------
فوالله إنه لعلى الحق آخراً وأولاً ، وإنه لخير من مضى بعد نبيكم ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم أطبق يمينه على يساره ثم قال : اللهم اشهد أني قد بايعت علياً ، وقال : الحمد لله الذي أبقاني إلى هذا اليوم . وقال لابنيه صفوان وسعد : إحملاني وكونا معه ، فستكون له حروب كثيرة فيهلك فيها خلق من الناس ، فاجتهدا أن تستشهدا معه ، فإنه والله على الحق ومن خالفه على الباطل ، ومات حذيفة بعد هذا اليوم بسبعة أيام ، وقيل : بأربعين يوماً ) .
أقول : كان حذيفة عاملاً على المدائن ، وقد تكون الكوفة في الرواية تصحيف المدائن ، ولوصح أنه كان مريضاً فيها ، فقد رجع إلى المدائن وتوفي ودفن فيها
رضي الله عنه . وكان حذيفة يستعمل أسلوب المدارة والتقية مع الحكام قبل علي ( عليه السلام ) .
قال الذهبي في سيره ( 2 / 361 ) : « حذيفة بن اليمان من نجباء أصحاب محمد ، وهو صاحب السر . . كان يقول : ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا وقد اشترى بعض دينه ببعض ! قالوا : وأنت ؟ قال : وأنا والله ) . أي يضطر إلى الكذب ومداراة الحاكم !
ولحذيفة احترام خاص عند المسلمين ، لأنه صحابي مقرب من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وموضع سره ، وقد روت المصادر تفصيل فرحته ببيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وخطبته .
قال الديلمي في إرشاد القلوب ( 2 / 321 ) : « لما استخلف عثمان بن عفان ، آوى إليه عمه الحكم بن العاص ، وولده مروان والحارث بن الحكم ، ووجه عماله في الأمصار ، وكان فيمن عمله عمر بن سفيان بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية إلى مشكان ، والحارث بن الحكم إلى المدائن ، فأقام بها مدة يتعسف أهلها ويسئ معاملتهم ، فوفد منهم إلى عثمان وفد يشكوه وأعلموه بسوء ما يعاملهم به ، وأغلظوا عليه في القول ، فولى حذيفة بن اليمان عليهم ، وذلك في آخر أيامه ، ولم ينصرف حذيفة بن اليمان عن المدائن إلى أن قتل عثمان ، واستُخلف علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فأقام حذيفة عليها وكتب إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان : سلام عليك ، أما بعد فإني قد وليتك ما كنت تليه لمن كان قبلي من حرف المدائن
--------------------------- 526 ---------------------------
وقد جعلت إليك أعمال الخراج والرستاق ، وجباية أهل الذمة ، فاجمع إليك ثقاتك ومن أحببت ممن ترضى دينه وأمانته ، واستعن بهم على أعمالك ، فإن ذلك أعز لك ولوليك ، وأكبت لعدوك . وإني آمرك بتقوى الله وطاعته في السر والعلانية ، وأحذرك عقابه في المغيب والمشهد ، وأتقدم إليك بالإحسان إلى المحسن ، والشدة على المعاند ، وآمرك بالرفق في أمورك ، واللين والعدل على رعيتك ، فإنك مسؤول عن ذلك ، وإنصاف المظلوم ، والعفو عن الناس ، وحسن السيرة ما استطعت ، فالله يجزي المحسنين ، وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحق والنصفة ، ولا تتجاوز ما قدمت به إليك ، ولا تدع منه شيئاً ولا تبتدع فيه أمراً ، ثم اقسمه بين أهله بالسوية والعدل ، واخفض لرعيتك جناحك ، وواس بينهم في مجلسك وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء ، واحكم بين الناس بالحق ، وأقم فيهم بالقسط ، ولا تتبع الهوى ، ولا تخف في الله لومة لائم ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . وقد وجهت إليك كتاباً لتقرأه على أهل مملكتك ، ليعلموا رأينا فيهم وفي جميع المسلمين ، فأحضرهم واقرأه عليهم ، وخذ لنا البيعة على الصغير والكبير منهم إن شاء الله .
قال : ولما وصل عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى حذيفة جمع الناس وصلى بهم ، ثم أمر بالكتاب فقري ء عليهم وهو : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين : سلام عليكم ، أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله أن يصلي على محمد وآل محمد ، وبعد ، فإن الله تعالى اختار الإسلام ديناً لنفسه وملائكته ورسله ، إحكاماً لصنعه وحسن تدبيره ، ونظراً منه لعباده ، واختص به من أحب من خلقه ، فبعث إليهم محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فعلمهم الكتاب والحكمة إكراماً وتفضلاً لهذه الأمة ، وأدبهم لكي يهتدوا ، وجمعهم لئلا يتفرقوا ، ووفقهم لئلا يجوروا ، فلما قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى رحمة الله حميداً محموداً .
ثم إن بعض المسلمين أقاموا بعده رجلين رضوا بهداهما وسيرتهما ، قاما ما شاء الله ، ثم توفاهما الله عز وجل ، ثم ولوا بعدهما الثالث فأحدث أحداثاً ووجدت الأمة عليه فعالاً ، فاتفقوا عليه ، ثم نقموا منه فغيروا . ثم جاؤني كتتابع الخيل فبايعوني ، فأنا
--------------------------- 527 ---------------------------
أستهدي الله بهداه وأستعينه على التقوى ، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله
وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، والقيام عليكم بحقه وإحياء سنته ، والنصح لكم بالمغيب والمشهد ، وبالله نستعين على ذلك وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وقد وليت أموركم حذيفة بن اليمان ، وهو ممن أرتضى هداه وأرجو صلاحه ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشدة على مريبكم ، والرفق بجميعكم ، أسأل الله لنا ولكم حسن الخيرة والإحسان ، ورحمته الواسعة في الدنيا والآخرة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
قال : ثم إن حذيفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على محمد وآل محمد ثم قال : الحمد لله الذي أحيا الحق ، وأمات الباطل ، وجاء بالعدل ودحض الجور ،
وكبت الظالمين .
أيها الناس : إنما وليكم الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأميرالمؤمنين حقاً حقاً ، وخير من نعلمه بعد نبينا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأولى الناس بالناس ، وأحقهم بالأمر ، وأقربهم إلى الصدق ، وأرشدهم إلى العدل ، وأهداهم سبيلاً ، وأدناهم إلى الله وسيلة وأقربهم برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رحماً .
أنيبوا إلى طاعة أول الناس سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأصدقهم طريقة ، وأسبقهم إيماناً ، وأحسنهم يقيناً ، وأكثرهم معروفاً ، وأقدمهم جهاداً ، وأعزهم مقاماً . أخي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وابن عمه وأبي الحسن والحسين ، وزوج الزهراء البتول سيدة نساء العالمين ، فقوموا أيها الناس فبايعوا على كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فإن لله في ذلك رضاً ، ولكم مقنع وصلاح ، والسلام .
فقام الناس بأجمعهم فبايعوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأحسن بيعة وأجمعها . فلما استتمت البيعة ، قام إليه فتى من أبناء العجم وولاة الأنصار لمحمد بن عمارة بن التيهان أخي أبي الهيثم بن التيهان يقال له مسلم ، متقلداً سيفاً ، فناداه من أقصى الناس : أيها الأمير ، إنا سمعناك تقول في أول كلامك : إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقاً حقاً ، تعريضاً بمن كان قبله من الخلفاء أنهم لم يكونوا أمراء
527
--------------------------- 528 ---------------------------
المؤمنين حقاً ، فعرِّفنا ذلك أيها الأمير رحمك الله ولا تكتمنا ، فإنك ممن شهد وغبنا ، ونحن مقلدون ذلك في أعناقكم ، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لأمتكم ، وصدق الخبر عن نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال حذيفة : أيها الرجل ، أما إذا سألت وفحصت هكذا ، فاسمع وافهم ما أخبرك به : أما من تقدم من الخلفاء قبل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ممن تسمى بأمير المؤمنين ، فإنهم تسموا بذلك ، وسماهم الناس به . وأما علي بن أبي طالب فإن جبرائيل سماه بهذا الاسم عن الله تعالى ، وشهد له الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن جبرائيل بإمرة المؤمنين ، وكان أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يدعونه في حياة رسول الله بأمير المؤمنين .
قال الفتى : أخبرنا كيف كان ذلك يرحمك الله ؟ قال حذيفة : إن الناس كانوا يدخلون على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبل الحجاب إذا شاؤوا ، فنهاهم رسول الله أن يدخل أحد إليه وعنده دحية بن خليفة الكلبي ، وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يراسل قيصراً ملك الروم وبني حنيفة وملوك بني غسان على يده ، وكان جبرائيل يهبط عليه في صورته ، ولذلك نهى رسول الله أن يدخل المسلمون عليه إذا كان عنده دحية .
قال حذيفة : وإني أقبلت يوماً لبعض أموري إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، رجاء أن ألقاه خالياً فلما صرت بالباب نظرت فإذا أنا بشملة قد سدلت على الباب فرفعتها وهممت بالدخول ، وكذلك كنا نصنع ، فإذا أنا بدحية قاعد عند رسول الله والنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نائم ورأسه في حجر دحية الكلبي ، فلما رأيته انصرفت فلقيني علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في بعض الطريق فقال : يا ابن اليمان من أين أقبلت ؟ فقلت من عند رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : وماذا صنعت ؟ قلت : أردت الدخول عليه في كذا وكذا وذكرت الأمر الذي جئت له ، فلم يتهيأ لي ذلك . قال : ولمَ ؟ قلت : عنده دحية الكلبي ، وسألت علياً معونتي على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في ذلك الأمر ، قال فارجع معي فرجعت معه ، فلما صرنا إلى باب الدار جلست بالباب ورفع علي الشملة ودخل فسلم ، فسمعت دحية يقول : وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، ثم قال له : أجلس فخذ رأس أخيك وابن عمك من حجري فأنت أولى الناس به ، فجلس علي وأخذ رأس
--------------------------- 529 ---------------------------
رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجعله في حجره وخرج دحية من البيت ، فقال علي ( عليه السلام ) : أدخل يا حذيفة فدخلت وجلست فما كان بأسرع من أن انتبه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فضحك في وجه علي ( عليه السلام ) ثم قال : يا أبا الحسن من حجر من أخذت رأسي ؟ قال : من حجر دحية الكلبي فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ذلك جبرائيل ( عليه السلام ) ، فما قلت له حين دخلت وما قال لك ؟ قال : دخلت وسلمت فقال لي : وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا علي سلمت عليك ملائكة الله ،
وسكان سماواته بإمرة المؤمنين من قبل أن يسلم عليك أهل الأرض . يا علي إن جبرائيل ( عليه السلام ) فعل ذلك عن أمر الله عز وجل ، وقد أوحى إلي عن ربي تبارك وتعالى من قبل دخولك أن أفرض ذلك على الناس وأنا فاعل ذلك
إن شاء الله تعالى .
فلما كان من الغد بعثني رسول الله إلى ناحية فدك في حاجة ، فلبثت أياماً ثم قدمت فوجدت الناس يتحدثون أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرالناس أن يسلموا على علي بإمرة المؤمنين ، وأن جبرائيل أتاه بذلك عن الله عز وجل ، فقلت : صدق رسول الله ، وأنا قد سمعت جبرائيل سلم على علي ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين ، فحدثتهم الحديث ، فسمعني عمر بن الخطاب وأنا أحدث الناس في المسجد فقال : لي أنت رأيت جبرائيل ( عليه السلام ) وسمعته ، إتق القول فقد قلت قولاً عظيماً فقد خولط بك ! فقلت : نعم أنا سمعت ورأيت ذلك ، فأرغم الله أنف من رغم . فقال : يا أبا عبد الله ، لقد رأيت وسمعت عجباً ! قال حذيفة : فسمعني بريدة بن الحصيب الأسلمي وأنا أحدث ببعض ما رأيت وسمعت فقال لي : والله يا ابن اليمان لقد أمرهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالسلام على علي بإمرة المؤمنين ، فاستجاب له طائفة يسيرة من الناس ، وردَّ ذلك عليه وأباه كثير من الناس ! فقلت : يا بريدة أكنت شاهداً ذلك اليوم ؟ فقال : نعم ، من أوله إلى آخره ، فقلت له : حدثني به رحمك الله فإني كنت عن ذلك اليوم غائباً . قال بريدة : كنت أنا وعمار أخي مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في نخيل بني النجار ، فدخل علينا علي بن أبي طالب ( عليه السلام )
--------------------------- 530 ---------------------------
فسلم فرد عليه رسول الله ورددنا ، ثم قال : يا علي أجلس هنا ، فدخل رجال فأمرهم رسول الله بالسلام على علي بإمرة المؤمنين ، فسلموا وما كادوا ، ثم دخل أبو بكر وعمر فسلما فقال لهما رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : سلما على علي بإمرة المؤمنين ، فقالا : الإمرة من الله ورسوله ؟ فقال : نعم . ثم دخل طلحة وسعد بن مالك فسلما ، فقال لهما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : سلما على علي بإمرة المؤمنين فقالا : عن الله ورسوله ؟ فقال : نعم ، قالا : سمعنا وأطعنا .
ثم دخل سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري رضي الله عنهما فسلما فرد عليهما السلام ثم قال لهما : سلما على علي بإمرة المؤمنين ، فسلما ولم يقولا شيئاً . ثم دخل خزيمة بن ثابت وأبو الهيثم بن التيهان فسلما فرد عليهما السلام . ثم قال : سلما على علي ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين ، فسلما ولم يقولا شيئاً . ثم دخل عمار ومقداد فسلما فرد عليهما السلام وقال : سلما على علي بإمرة المؤمنين ، ففعلا ولم يقولا شيئاً .
ثم دخل عثمان وأبو عبيدة فسلما فرد عليهما السلام وقال : سلما على علي
بإمرة المؤمنين ، قالا : عن الله ورسوله ؟ قال : نعم ، فسلما .
ثم دخل فلان وفلان وعدد من جماعة المهاجرين والأنصار كل ذلك ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : سلموا على علي بإمرة المؤمنين ، فبعض يسلم ولم يقل شيئاً ، وبعض يقول للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : عن الله ورسوله ؟ فيقول : نعم ، حتى غص المجلس بأهله وامتلأت الحجرة وجلس بعض على الباب وفي الطريق ، وكانوا يدخلون فيسلمون ويخرجون . ثم قال لي ولأخي : قم يا بريدة أنت وأخوك فسلما على علي بن أبي طالب بإمرة المؤمنين ، فقمنا وسلمنا ثم عدنا إلى مواضعنا فجلسنا .
قال : ثم أقبل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقال : إسمعوا وعوا : إني أمرتكم أن تسلموا على علي بإمرة المؤمنين ، وإن رجالاً سألوني ذلك عن أمر الله عز وجل أو أمر رسول الله ؟ ما كان لمحمد أن يأتي أمراً من تلقاء نفسه ، بل بوحي ربه وأمره ، أفرأيتم والذي نفسي بيده لئن أبيتم ونقضتموه لتكفرن ولتفارقن ما بعثني به ربي ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر !
قال بريدة : فلما خرجنا سمعت بعض أولئك الذين أمروا بالسلام على علي ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين من قريش يقول لصاحبه ، وقد التقت بهما طائفة من الجفاة البطاء عن الإسلام
--------------------------- 531 ---------------------------
من قريش : أما رأيت ما صنع محمد بابن عمه من علو المنزلة والمكانة ، ولو يستطيع والله لجعله نبياً من بعده !
فقال له صاحبه : أمسك ولا يكبرن عليك هذا الأمر ، فإنا لو فقدنا محمداً لكان فعله هذا تحت أقدامنا ! قال حذيفة : ثم خرج بريدة إلى بعض طرق الشام ورجع وقد قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبايع الناس أبا بكر فأقبل بريدة ودخل المسجد وأبو بكر على المنبر وعمر دونه بمرقاة فناداهما من ناحية المسجد : يا أبا بكر ويا عمر ! فقال : ما لك يا بريدة أجننت ؟ فقال لهما : والله ما جننت ، ولكن أين سلامكما بالأمس على علي بإمرة المؤمنين ؟ فقال له أبو بكر : يا بريدة الأمر يحدث بعده الأمر ، فإنك غبت وشهدنا ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .
فقال لهما : رأيتما ما لم يره الله ولا رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! ولكن هذا وفاء صاحبك بقوله : لو فقدنا محمداً لكان هذا قوله تحت أقدامنا . ألا إن المدينة حرام على أن أسكنها أبداً حتى أموت ! وخرج بريدة بأهله وولده ، فنزل بين قومه بني أسلم ، فكان يطلع في الوقت دون الوقت ، فلما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سار إليه وكان معه حتى قدم العراق ، فلما أصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سار إلى خراسان فنزلها ، فلبث هناك إلى أن مات ( رحمه الله ) .
قال حذيفة : هذه أنباء ما سألتني عنه . فقال الفتى : لاجزى الله الذين شاهدوا رسول الله وسمعوه يقول هذا القول في علي ، فقد خانوا الله ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأزالوا الأمر عمن رضي به الله ، وأقروه فيمن لم يره الله ولا رسوله لذلك أهلاً ، لا جرم والله لن يفلحوا بعدها أبداً !
ونزل حذيفة عن منبره فقال : يا أخا الأنصار إن الأمركان أعظم مما تظن ، إنه عزب والله البصر ، وذهب اليقين ، وكثر المخالف وقل الناصرلأهل الحق !
فقال له الفتى : فهلا انتضيتم أسيافكم ووضعتموها على رقابكم ، وضربتم بها الزائلين عن الحق قدماً قدماً ، حتى تموتوا أو تدركوا الأمر الذي تحبونه من
طاعة الله عز وجل ، وطاعة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟
--------------------------- 532 ---------------------------
فقال له : أيها الفتى ، إنه أُخَذَ والله بأسماعنا وأبصارنا وكرهنا الموت ، وزينت عندنا الحيرة ، وسبق علم الله بإمرة الظالمين ، ونحن نسأل الله الصفح لذنوبنا والعصمة فيما بقي من آجالنا ، فإنه مالك رحيم .
ثم انصرف حذيفة إلى منزله ، وتفرق الناس .
قال عبد الله بن سلمة : فبينما أنا ذات يوم عند حذيفة أعوده في مرضه الذي مات فيه ، وقد كان يوم قدمت فيه من الكوفة ، وذلك من قبل قدوم علي ( عليه السلام ) إلى العراق ، فبينما أنا عنده إذ جاء الفتى الأنصاري فدخل على حذيفة فرحب به وأقبل به وأدناه وقرب مجلسه ، وخرج من كان عند حذيفة من عواده ، وأقبل عليه فقال : يا أبا عبد الله سمعتك يوماً تحدث عن بريدة بن الخصيب الأسلمي أنه سمع بعض القوم الذين أمرهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يسلموا على علي ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين يقول لصاحبه : ما رأيت اليوم ما صنع محمد باابن عمه من التشريف وعلو المنزلة حتى لو قدر أن يجعله نبياً لفعل ، فأجابه صاحبه وقال : لايكبرن عليك فلو فقدنا محمداً لكان قوله تحت أقدامنا ! وقد ظننت نداء بريدة لهما وهما على المنبر أنهما صاحبا القول ، قال حذيفة : أجل القائل عمر والمجيب أبو بكر !
فقال الفتى : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هلك والله القوم وبطلت أعمالهم !
قال حذيفة : ولم يزل القوم على ذلك من الإرتداد ، وما لم يعلم الله منهم أكثر !
فقال الفتى : قد كنت أحب أن أتعرف هذا الأمر من فعلهم ، ولكني أجدك مريضاً ، وأنا أكره أن أُملك بحديثي ومسألتي ، وقام لينصرف فقال حذيفة : لا بل اجلس يا ابن أخي وتلق مني حديثهم وإن كربني ذلك ، فلا أحسبني إلا مفارقكم ، إني لا أحب أن تغتر بمنزلتهما في الناس ، فهذا ما أقدر عليه من النصيحة لك ولأمير المؤمنين ( عليه السلام ) من الطاعة له ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وذكر منزلته .
فقال : يا أبا عبد الله حدثني بما عندك من أمورهم ، لأكون على بصيرة من ذلك . فقال حذيفة : إذاً والله لأخبرنك بخبر سمعته ورأيته ، ولقد والله دلنا على ذلك من فعلهم ، على أنهم والله ما آمنوا بالله ولا برسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) طرفة عين ! وأخبرك أن الله تعالى أمر
--------------------------- 533 ---------------------------
رسوله في سنة عشرمن مهاجرته من مكة إلى المدينة ، أن يحج هو ويحج الناس معه ، فأوحى إليه بذلك : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، فأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المؤذنين فأذنوا في أهل السافلة والعالية ألا إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد عزم على الحج في عامه هذا ، ليُفهم الناس حجهم ويُعلمهم مناسكهم ، فيكون سنَّةً لهم إلى آخرالدهر . قال : فلم يبق أحد ممن دخل في الإسلام إلا حج مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لسنة عشر ، ليشهدوا منافع لهم ويعلمهم حجهم ويعرفهم مناسكهم . وخرج رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالناس وخرج بنسائه معه وهي حجة الوداع ، فلما استتم حجهم وقضوا مناسكهم ، وعرَّف الناس جميع ما احتاجوا إليه ، وأعلمهم أنه قد أقام لهم ملة إبراهيم ( عليه السلام ) ، وقد أزال عنهم جميع ما أحدثه المشركون بعده ، ورد الحج إلى حالته الأولى ، ودخل مكة فأقام بها يوماً واحداً ، هبط عليه الأمين جبرائيل ( عليه السلام ) بأول سورة العنكبوت فقال إقرأ يا محمد : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ .
فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا جبرائيل وما هذه الفتنة ؟ فقال : يا محمد إن الله تعالى يقرؤك السلام ويقول لك : إني ما أرسلت نبياً قبلك إلا أمرته عند انقضاء أجله أن يستخلف على أمته من بعده من يقوم مقامه ، ويحيي لهم سنته وأحكامه ، فالمطيعون لله فيما يأمرهم به رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الصادقون ، والمخالفون على أمره هم الكاذبون ، وقد دنا يا محمد مصيرك إلى ربك وجنته ، وهو يأمرك أن تنصب لأمتك من بعدك علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وتعهد إليه فهو الخليفة القائم برعيتك وأمتك ، إن أطاعوه أسلموا ، وإن عصوه كفروا ، وسيفعلون ذلك ! وهي الفتنة التي تلوت الآي فيها ، وإن الله عز وجل يأمرك أن تعلمه جميع ما علمك وتستحفظه جميع ما استحفظك واستودعك ، فإنه الأمين المؤتمن .
يا محمد ، إني اخترتك من عبادي نبياً ، واخترته لك وصياً .
--------------------------- 534 ---------------------------
قال : فدعا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عليا ( عليه السلام ) فخلا به يومه ذلك وليلته واستودعه العلم والحكمة التي آتاه الله إياها ، وعرفه ما قال جبرائيل ( عليه السلام ) ، وكان ذلك في يوم عائشة بنت أبيبكر فقالت : يا رسول الله لقد طال استخلاؤك بعلي منذ اليوم ! قال : فأعرض عنها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقالت : لمَ تعرض عني يا رسول الله ؟ قال : بأمر لعله يكون لي صلاحاً لمن أسعده الله بقبوله والإيمان به ، وقد أمرت بدعاء الناس جميعاً إليه ، وستعلمين ذلك إذا أنا قمت به في الناس .
قالت : يا رسول الله ولم لاتخبر به الآن لأتقدم بالعمل به ولآخذ بما فيه الصلاح ؟ قال : سأخبرك به فاحفظيه إلى أن أؤمر بالقيام به في الناس جميعاً ، فإنك إن حفظتيه حفظك الله في العاجلة والآجلة جميعاً ، وكان لك الفضيلة بسبقه والمسارعة إلى الإيمان بالله ورسوله ، ولو أضعتيه وتركت رعاية ما ألقي إليك منه كفرت بربك وحبط أجرك ، وبرئت منك ذمة الله ورسوله ، وكنت من الخاسرين ولم يضر الله ذلك ولا رسوله .
فضمنت له حفظه والإيمان به ورعايته فقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الله تعالى أخبرني أن عمري قد انقضى ، وأمرني أن أنصب علياً للناس علماً ، وأجعله فيهم إماماً وأستخلفه كما استخلف الأنبياء من قبلي أوصياءهم ، وأنا صائر إلى ربي وآخذ فيه بأمره ، فليكن هذا الأمر منك تحت سويداء قلبك ، إلى أن يأذن الله بالقيام به . فضمنت له ذلك ، ولقد أطلع الله نبيه على ما يكون منها فيه ومن صاحبتها حفصة وأبويهما ، فلم تلبث أن أخبرت حفصة ، وأخبرت كل واحدة منها أباها ، فاجتمعا فأرسلا إلى جماعة الطلقاء والمنافقين ، فخبراهم بالأمر !
فأقبل بعضهم على بعض وقالوا : إن محمداً يريد أن يجعل هذا الأمر في أهل بيته كسنة كسرى وقيصر إلى آخر الدهر ، ولا والله ما لكم في الحياة من حظ إن أفضى هذا الأمر إلى علي بن أبي طالب ! وإن محمداً عاملكم على ظاهركم وإن علياً يعاملكم على ما يجد في نفسه منكم ، فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك ، وقدموا آراءكم فيه !
ودارالكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي ، فاتفقوا على أن ينفروا بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ناقته على عقبة هرشى ! وقد كانوا صنعوا مثل ذلك في غزاة تبوك ، فصرف الله
--------------------------- 535 ---------------------------
الشر عن نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فاجتمعوا في أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من القتل والإغتيال وإسقاء السم على غير وجه ، وقد كان اجتمع أعداء رسول الله من الطلقاء من قريش والمنافقين من الأنصار ، ومن كان في قلبه الإرتداد من العرب في المدينة وما حولها ، فتعاقدوا وتحالفوا على أن ينفروا به ناقته ، وكانوا أربعة عشر رجلاً ، وكان من عزم رسول الله أن يقيم علياً ( عليه السلام ) وينصبه للناس بالمدينة إذا قدم .
فسار رسول الله يومين وليلتين ، فلما كان في اليوم الثالث أتاه جبرائيل ( عليه السلام ) بآخر سورة الحجر فقال إقرأ : فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . قال : ورحل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( عائداً من حجة الوداع ) وأغدق السير مسرعاً على دخول المدينة لينصب علياً ( عليه السلام ) علماً للناس ، فلما كانت الليلة الرابعة هبط جبرائيل ( عليه السلام ) في آخر الليل فقرأ عليه : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ، وهم الذين هموا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : أما تراني يا جبرائيل أغدق السيرمجداً فيه لأدخل المدينة فأعرض ولاية علي ( عليه السلام ) على الشاهد والغائب ، فقال له جبرائيل ( عليه السلام ) : الله يأمرك أن تفرض ولايته غداً إذا نزلت منزلك ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : نعم يا جبرائيل غداً أفعل ذلك إن شاء الله .
وأمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالرحيل من وقته وسار الناس معه حتى نزل بغدير خم ، وصلى بالناس وأمرهم أن يجتمعوا إليه ، ودعا علياً ( عليه السلام ) ورفع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يد علي اليسرى بيده اليمنى ، ورفع صوته بالولاء لعلي ( عليه السلام ) على الناس أجمعين ، وفرض طاعته عليهم ، وأمرهم أن لا يختلفوا عليه بعده ، وخبرهم أن ذلك عن الله عز وجل وقال لهم : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا بلى يا رسول الله . قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله . ثم أمر الناس أن يبايعوه ، فبايعه الناس جميعاً ولم يتكلم منهم أحد !
وقد كان أبو بكر وعمر تقدما إلى الجحفة فبعث وردهما ، ثم قال لهما النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متجهماً : يا ابن أبي قحافة ويا عمر : بايعا علياً بالولاية من بعدي ، فقالا :
--------------------------- 536 ---------------------------
أمرٌ من الله ورسوله ؟ فقال : وهل يكون مثل هذا من غير أمر الله ومن رسوله ؟
نعم أمرٌ من الله ومن رسوله ، فبايعا ، ثم انصرفا . وسارَ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) باقي يومه وليلته حتى إذا دنوا من العقبة ، تقدمه القوم فتواروا في ثنية العقبة ، وقد حملوا معهم دباباً وطرحوا فيها الحصى ! قال حذيفة : ودعاني رسول الله ودعا عمار بن ياسر ، وأمره أن يسوقها وأنا أقودها ، حتى إذا صرنا في رأس العقبة ثار القوم من ورائنا ودحرجوا الدباب بين قوائم الناقة فذعرت ، وكادت أن تنفر برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فصاح بها النبي أن اسكني وليس عليك بأس ، فأنطقها الله تعالى بقول عربي فصيح فقالت : والله يا رسول الله ما أزلت يداً عن مستقر يد ولا رجل عن موضع رجل ، وأنتَ على ظهري ، فتقدم القوم إلى الناقة ليدفعوها ، فأقبلتُ أنا وعمار نضرب وجوههم بأسيافنا ، وكانت ليلة مظلمة ، فزالوا عنا وأيسوا مما ظنوا ودبروا !
فقلت : يا رسول الله ، من هؤلاء القوم وما يريدون ؟ فقال : يا حذيفة هؤلاء المنافقون في الدنيا والآخرة . فقلت : ألا تبعث إليهم يا رسول الله رهطاً فيأتوا برؤوسهم ؟ فقال : إن الله أمرني أن أعرض عنهم ، وأكره أن يقول الناس إنه دعا أناساً من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا له ، فقاتل بهم ، حتى ظهر على عدوه أقبل عليهم فقتلهم ! ولكن دعهم يا حذيفة ، فإن الله لهم بالمرصاد ، وسيمهلهم قليلاً ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ ! فقلت : ومن هؤلاء المنافقون يا رسول الله ، أمن المهاجرين أم من الأنصار ؟ فسماهم لي رجلاً رجلاً حتى فرغ منهم ، وقد كان فيهم أناس أكره أن يكونوا منهم فأمسكت عن ذلك ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا حذيفة كأنك شاك في بعض من سميت لك ، إرفع رأسك إليهم ، فرفعت طرفي إلى القوم وهم وقوف على الثنية ، فبرقت برقة فأضاءت جميع ما حولنا ، وثبتت البرقة حتى خلتها شمساً طالعة ، فنظرتُ والله إلى القوم فعرفتهم رجلاً رجلاً ، وإذا هم كما قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وعدد القوم أربعة عشر رجلاً ، تسعة من قريش ، وخمسة من سائر الناس . فقال له : سمهم لنا يرحمك الله ، فقال حذيفة هم والله : أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ، هؤلاء من
--------------------------- 537 ---------------------------
قريش . وأما الخمسة فأبوموسى الأشعري ، والمغيرة بن شعبة الثقفي ، وأوس بن الحدثان البصري ، وأبو هريرة ، وأبوطلحة الأنصاري .
قال حذيفة : ثم انحدرنا من العقبة وقد طلع الفجر ، فنزل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فتوضأ ، وانتظر أصحابه حتى انحدروا من العقبة واجتمعوا ، فرأيت القوم بأجمعهم وقد دخلوا مع الناس ، وصلوا خلف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلما انصرف من صلاته التفت فنظر إلى أبيبكر وعمر وأبي عبيدة يتناجون ، فأمر منادياً فنادى في الناس : لا يجتمع ثلاثة نفر من الناس يتناجون فيما بينهم بسر !
وارتحل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالناس من منزل العقبة ، فلما نزل المنزل الآخر رأى سالم مولى أبي حذيفة أبا بكر وعمر وأبا عبيدة يُسَارُّ بعضهم بعضاً ، فوقف عليهم وقال : أليس قد أمر رسول الله أن لا يجتمع ثلاثة نفر من الناس على سر ، والله لتخبروني عما أنتم وإلا أتيت رسول الله حتى أخبره بذلك منكم !
فقال أبو بكر : يا سالم عليك عهد الله وميثاقه لئن نحن خبرناك بالذي نحن فيه وبما اجتمعنا له ، فإن أحببت أن تدخل معنا فيه دخلت وكنت رجلا ًمنا ، وإن كرهت ذلك كتمته علينا ؟ فقال سالم : ذلك لكم مني ، وأعطاهم بذلك عهده وميثاقه ، وكان سالم شديد البغض والعداوة لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وعرفوا ذلك منه ، فقالوا له : إنا قد اجتمعنا على أن نتحالف ونتعاقد على أن لا نطيع محمداً فيما فرض علينا من ولاية علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بعده .
فقال لهم سالم : عليكم عهد الله وميثاقه إن في هذا الأمر كنتم تخوضون وتتناجون ؟ قالوا : أجل علينا عهد الله وميثاقه إنما كنا في هذا الأمر بعينه لا في شئ سواه . قال سالم : وأنا والله أول من يعاقدكم على هذا الأمر ولا يخالفكم عليه ، إنه والله ما طلعت الشمس على أهل بيت أبغض إلي من بني هاشم ، ولا في بني هاشم أبغض إلي ولا أمقت من علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فاصنعوا في هذا الأمر ما بدا لكم ، فإني واحد منكم ، فتعاقدوا من وقتهم على هذا الأمر ،
ثم تفرقوا . فلما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المسيرة أتوه فقال لهم : فيم كنتم تتناجون في
--------------------------- 538 ---------------------------
يومكم هذا وقد نهيتكم عن النجوى ؟ فقالوا : يا رسول الله ما التقينا غير وقتنا هذا ! فنظر إليهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ملياً ثم قال لهم : أنتم أعلم أم الله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا الله بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ !
ثم سار حتى دخل المدينة ، واجتمع القوم جميعاً وكتبوا بينهم صحيفة على ما تعاقدوا عليه في هذا الأمر ، وكان أول ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وأن الأمر لأبيبكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم ، ليس بخارج عنهم ، وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلاً هؤلاء أصحاب العقبة ، وعشرون رجلاً آخر ، واستودعوا الصحيفة أبا عبيدة بن الجراح ، وجعلوه أمينهم .
قال فقال الفتى : يا أبا عبد الله يرحمك الله ، هبنا نقول إن هؤلاء القوم رضوا أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ، لأنهم من مشيخة قريش ومن المهاجرين الأولين ، فما بالهم رضوا بسالم وليس هو من قريش ولا من المهاجرين ولا من الأنصار وإنما هو عبد لامرأة من الأنصار !
قال فقال حذيفة : يا فتى إن القوم أجمع تعاقدوا على إزالة هذا الأمر عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حسداً منهم له وكراهة لأمره ، واجتمع لهم مع ذلك ما كان في قلوب قريش عليه من سفك الدماء ، وكان خاصة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكانوا يطلبون الثأر الذي أوقعه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بهم عند علي من بني هاشم ، فإنما كان العقد على إزالة هذا الأمر عن علي بن أبي طالب من هؤلاء الأربعة عشر ، وكانوا يرون أن سالماً رجل منهم !
قال الفتى : فأخبرني يرحمك الله عما كتب جميعهم في الصحيفة لأعرفه ؟ فقال حذيفة : حدثني بذلك أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة أبيبكرأن القوم اجتمعوا في منزل أبيبكر ، فتآمروا في ذلك وأسماءُ تسمعهم وتسمع جميع ما يدبرونه في ذلك ، حتى اجتمع رأيهم على ذلك ، فأمروا سعيد بن العاص الأموي فكتب لهم الصحيفة باتفاق منهم ، وكانت نسخة الصحيفة هذا :
بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما اتفق عليه الملأ من أصحاب محمد رسول الله من المهاجرين والأنصار ، الذين مدحهم الله في كتابه على لسان نبيه ، اتفقوا جميعاً بعد أن اجتهدوا في رأيهم وتشاوروا في أمورهم ، وكتبوا هذه الصحيفة نظراً منهم إلى الإسلام
--------------------------- 539 ---------------------------
وأهله ، على غابر الأيام وباقي الدهور ، ليقتدي بهم من يأتي من بعدهم من المسلمين .
أما بعد ، فإن الله بمنه وكرمه بعث محمداً رسولاً إلى الناس كافة بدينه الذي ارتضاه لعباده ، فأدى ذلك وبلغ ما أمره الله به ، وأوجب علينا القيام بجميعه ، حتى إذا أكمل الدين وفرض الفرائض وأحكم السنن واختار ما عنده ، فقبضه إليه مكرماً محبوراً من غير أن يستخلف أحداً من بعده ، وجعل الاختيار إلى المسلمين يختارون لأنفسهم من وثقوا برأيه ونصحه لهم ، وإن للمسلمين برسول الله أسوة حسنة ، قال الله تعالى : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ، وإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يستخلف أحداً ، لئلا يجري في أهل بيت واحد فيكون إرثاً دون سائر المسلمين ، ولئلا يكون دولة بين الأغنياء منهم ، ولئلا يقول المستخلف إن هذا الأمر باق في عقبه من ولد إلى ولد إلى يوم القيامة .
والذي يجب على المسلمين عند مضي خليفة من الخلفاء ، أن يجتمع ذووا الرأي والصلاح منهم فيتشاوروا في أمورهم ، فمن رأوه مستحقاً لها ولوه أمورهم ، وجعلوا القيم عليهم ، فإنه لا يخفى على أهل كل زمان من يصلح منهم للخلافة ، فإن ادعى مدع من الناس جميعاً أن رسول الله استخلف رجلاً بعينه نصبه للناس ونص عليه باسمه ونسبه ، فقد أبطل في قوله ، وأتى بخلاف ما يعرفه أصحاب رسول الله ، وخالف على جماعة المسلمين ، وإن ادعى مدع أن خلافة رسول الله إرثٌ وأن رسول الله يُورث ، فقد أحال في قوله لأن رسول الله قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة .
وإن ادعى مدع أن الخلافة لا تصلح إلا لرجل واحد من بين الناس جميعاً ، وأنها مقصورة فيه ولا تنبغي لغيره ، لأنها تتلو النبوة ، فقد كذب ، لأن النبي قال : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم .
وإن ادعى مدع أنه مستحق الإمامة والخلافة بقربه من رسول الله ، ثم هي مقصورة عليه وعلى عقبه يرثها الولد منهم من والده ، ثم هي كذلك في كل عصر وكل زمان ، لا تصلح لغيرهم ، ولا ينبغي أن تكون لأحد سواهم ، إلى أن يرث
--------------------------- 540 ---------------------------
الله الأرض ومن عليها ، فليس له ولا لولده وإن دنا من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) نسبه ، لأن الله يقول وقوله القاضي على كل أحد : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ، وقال رسول الله : إن ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، وقربهم كلهم يد على سواهم ، فمن آمن بكتاب الله وأقر بسنة رسول الله فقد استقام وأناب وأخذ بالصواب ، ومن كره ذلك من فعالهم فخالف الحق والكتاب وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه ، فإن في قتله صلاحاً للأمة ، وقد قال رسول الله : من جاء إلى أمتي وهم جمع ففرق بينهم فاقتلوه ، واقتلوا الفردَ كائناً من كان من الناس ، فإن الاجتماع رحمة والفرقة عذاب ، وقال : لا تجتمع أمتي على الضلال أبداً ، وإن المسلمين يد واحدة على من سواهم ، فإنه لا يخرج عن جماعة المسلمين إلا مفارق معاند لهم ، ومظاهرعليهم أعداءهم ، فقد أباح الله ورسوله دمه وأحل قتله .
وكتب سعيد بن العاص باتفاق من أثبت اسمه وشهادته آخر هذه الصحيفة ، في المحرم سنة عشر من الهجرة . والحمد لله رب العالمين .
ثم دفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح ، فوجه بها إلى مكة ، فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة ، إلى أن ولي الأمر عمر بن الخطاب فاستخرجها من موضعها ، وهي الصحيفة التي تمنى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما توفي عمر فوقف به وهومسجى بثوبه ، فقال : ما أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى .
ثم انصرفوا وصلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالناس صلاة الفجر ، ثم قعد في مجلسه يذكر الله عز وجل حتى طلعت الشمس ، فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجراح فقال له : بخٍ بخٍ ، مَنْ مثلُك لقد أصبحت أمين هذه الأمة ! ثم تلا قوله : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ، لقد أشبه هؤلاء رجال في هذه الأمة ليستخفوا من الناس : وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً .
ثم قال : لقد أصبح في هذه الأمة في يومي هذا قوم شابهوهم في صحيفتهم التي كتبوها علينا في الجاهلية ، وعلقوها في الكعبة ، وإن شاء الله تعالى يعذبهم عذاباً ليبتليهم ويبتلي من يأتي بعدهم ، تفرقة بين الخبيث والطيب . ولولا أنه سبحانه أمرني
--------------------------- 541 ---------------------------
بالإعراض عنهم ، للأمر الذي هو بالغه ، لقدمتهم فضربت أعناقهم !
قال حذيفة : فوالله لقد رأينا هؤلاء النفر عند قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهم هذه المقالة وقد أخذتهم الرعدة لا يملك أحد منهم من نفسه شيئاً ، ولم يخف على أحد ممن حضر مجلس رسول الله ذلك اليوم ، وأن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إياهم عنى بقوله لهم ضرب تلك الأمثال بما تلا من القرآن .
قال : ولما قدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من سفره ذلك ، نزل بمنزل أم سلمة زوجته فأقام به شهراً ، لا ينزل منزلاً سواه من منازل أزواجه كما كان يفعل قبل ذلك ، فشكت عائشة وحفصة ذلك إلى أبويهما فقالا لهما : إنا لنعلم لم صنع ذلك ، ولأي شئ هو ، إمضيا إليه فلاطفاه وخادعاه عن نفسه ، فإنكما تجدانه حيياً كريماً ، فلعلكما تَسُلَّان ما في قلبه وتستخرجان سخيمته ! قال : فمضت عائشة وحدها إليه فأصابته في منزل أم سلمة وعنده علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال لها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما جاء بك يا حميراء ؟ قالت : يا رسول الله أنكرت تخلفك من منزلك هذه المدة ، وأنا أعوذ بالله من سخطك يا رسول الله ! فقال : لو كان الأمر كما تقولين لما أظهرت سرَّاً أوصيتك بكتمانه ، لقد هلكت وأهلكت أمة من الناس !
ثم أمر خادمة لأم سلمة فقال : إجمعي لي هؤلاء يعني نساءه فجمعتهن له في منزل أم سلمة ، فقال لهن : إسمعن ما أقول لكنَّ ، وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال لهن : هذا أخي ووصيي ووارثي والقائم فيكنَّ وفي الأمة من بعدي ، فأطعنه فيما يأمركن به ، ولا تعصينه فتهلكن لمعصيته .
ثم قال : يا علي أوصيك بهن فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك ، وأنفق عليهن من مالك وأمرهن بأمرك ، وانههن عما يريبك ، وخل سبيلهن إن عصينك .
فقال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله إنهن نساء وفيهن الوهن وضعف الرأي ، فقال إرفق بهن ما كان الرفق أمثل ، فمن عصاك منهن فطلقها طلاقاً يبرأ الله ورسوله منها . قال : كل نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد صمتن فما يقلن شيئاً !
فتكلمت عائشة فقالت : يا رسول الله ما كنا لتأمرنا بشئ فنخالفه إلى ما سواه !
--------------------------- 542 ---------------------------
فقال لها : بلى قد خالفت أمري أشد خلاف ! وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصينه بعدي ، ولتخرجين من البيت الذي أخلفك فيه ، متبرجة قد حف بك فئات من الناس فتخالفينه ظالمة له عاصية لربك ، ولتنبحنك في طريقك كلاب الحوأب .
ألا إن ذلك كائن !
ثم قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قمن فانصرفن إلى منازلكن . فقمن فانصرفن .
قال : ثم إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) جمع أولئك النفر ومن والاهم على علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وطابقهم على عداوته ، ومن كان من الطلقاء المنافقين وكانوا زهاء أربعة آلاف رجل ، فجعلهم تحت يدي أسامة بن زيد مولاه ، وأمَّره عليهم وأمره بالخروج إلى ناحية من الشام ، فقالوا : يا رسول الله إنا قد قدمنا من سفرنا الذي كنا فيه معك ، ونحن نسألك أن تأذن لنا في المقام لنصلح من شأننا ما يصلحنا في سفرنا .
قال : فأمرهم أن يكونوا في المدينة ريث إصلاح ما يحتاجون إليه ، وأمر أسامة بن زيد فعسكر بهم على أميال من المدينة ، فأقام بمكانه الذي حد له رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منتظراً للقوم أن يرافقوه إذا فرغوا من أمورهم وقضاء حوائجهم . وإنما أراد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما صنع من ذلك أن تخلو المدينة منهم ، ولا يبقى بها أحد من المنافقين . قال : فهم على ذلك من شأنهم ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) دائب يحثهم ويأمرهم بالخروج والتعجيل إلى الوجه الذي ندبهم إليه ، إذ مرض رسول الله مرضه الذي توفي فيه ، فلما رأوا ذلك تباطؤوا عما أمرهم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من الخروج ، فأمر قيس بن سعد بن عبادة وكان سياف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن يرحلوا بهم إلى عسكرهم فأخرجهم قيس بن سعد والحباب بن المنذر حتى ألحقاهم بمعسكرهم ، وقالا لأسامة : إن رسول الله لم يرخص لك في التخلف فسرمن وقتك هذا ليعلم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ذلك ، فارتحل بهم أسامة ، وانصرف قيس بن سعد والحباب بن المنذر إلى رسول الله فأعلماه برحلة القوم فقال لهم : إن القوم غير سائرين من مكانهم ! قال : فخلا أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بأسامة وجماعة من أصحابه ، فقالوا : إلى أين ننطلق ونخلي المدينة ، ونحن أحوج ما كنا إليها وإلى المقام بها ! فقال لهم : وما ذلك ؟ قالوا إن رسول الله قد نزل به الموت ، ووالله
--------------------------- 543 ---------------------------
لئن خلينا المدينة ليحدثن بها أمور لا يمكن إصلاحها ، ننظر ما يكون من أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم المسير بين أيدينا .
قال فرجع القوم إلى المعسكر الأول فأقاموا به ، فبعثوا رسولاً يتعرف لهم بالخبر من أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأتى الرسول عائشة فسألها عن ذلك سراً فقالت : إمض إلى أبيبكر وعمر ومن معهما فقل لهما : إن رسول الله قد ثقل ولا يبرحن أحد منكم ، وأنا أعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت !
واشتدت علة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فدعت عائشة صهيباً فقالت : إمض إلى أبيبكر وأعلمه أن محمداً في حال لا ترجى ، فهلموا إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ومن رأيتم أن يدخل معكم ، وليكن دخولكم المدينة بالليل سراً !
قال : فأتيتهم بالخبرفأخذوا بيد صهيب فأدخلوه إلى أسامة بن زيد فأخبروه الخبر وقالوا له : كيف ينبغي لنا أن نتخلف عن مشاهدة رسول الله ، واستأذنوه للدخول فأذن لهم بالدخول ، وأمرهم أن لا يعلم أحد بدخولهم وقال : إن عوفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رجعتم إلى عسكركم ، وإن حدث حادث الموت عرفونا ذلك ، لنكون في جماعة الناس . فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلاً المدينة ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد ثقل ، قال فأفاق بعض الإفاقة فقال : لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم !
فقيل له : وما هو يا رسول الله ؟ قال فقال : إن الذين كانوا في جيش أسامة قد رجع منهم نفر يخالفون أمري ! ألا إني إلى الله منهم برئ ، ويحكم نفذوا جيش أسامة ! فلم يزل يقول ذلك ، حتى قالها مرات كثيرة !
قال : وكان بلال مؤذن رسول الله يؤذن بالصلاة في كل وقت صلاة ، فإن قدر على الخروج تحامل وخرج وصلى بالناس ، وإن هو لم يقدر على الخروج أمر علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فصلى بالناس ، وكان علي ( عليه السلام ) والفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك ، فلما أصبح رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من ليلته تلك التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يدي أسامة ، أذَّن بلال ثم أتاه يخبره كعادته ،
--------------------------- 544 ---------------------------
فوجد قد ثقل فمنع من الدخول إليه ، فأمرت عائشة صهيباً أن يمضي إلى أبيها فيعلمه أن رسول الله قد ثقل ، وليس يطيق النهوض إلى المسجد ، وعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس ، فأخرج أنت إلى المسجد وصل بالناس فإنها حالة تُهيؤك وحجةٌ لك بعد اليوم . قال : ولم يشعر الناس وهم في المسجد ينتظرون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أو علياً ( عليه السلام ) يصلي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه ، إذ دخل أبو بكر المسجد وقال إن رسول الله قد ثقل وقد أمرني أن أصلي بالناس ، فقال له رجل من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : وأنى لك ذلك وأنت في جيش أسامة ، لا والله ما أعلم أحداً بعث إليك ولا أمرك بالصلاة !
ثم نادى الناس بلالاً فقال : على رسلكم رحمكم الله لأستأذن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
في ذلك ، ثم أسرع حتى أتى الباب فدقه دقاً شديداً فسمعه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما هذا الدق العنيف فانظروا ما هو ؟ قال : فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فإذا ببلال فقال : ما وراءك يا بلال ، فقال : إن أبا بكر دخل المسجد وتقدم حتى وقف في مقام رسول الله ، وزعم أن رسول الله أمره بذلك !
فقال : أوليس أبو بكر مع أسامة في الجيش ! هذا والله هو الشر العظيم الذي طرق البارحة المدينة ، لقد أخبرنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بذلك ! ودخل الفضل وأدخل بلالاً معه فقال : ما وراءك يا بلال ؟ وأخبر رسول الله الخبر ، فقال أقيموني أخرجوني إلى المسجد ، والذي نفسي بيده قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن ، ثم خرج ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معصوب الرأس يتهادى بين علي ( عليه السلام ) والفضل بن عباس ورجلاه تجران في الأرض ، حتى دخل المسجد وأبو بكر قائم في مقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وقد طاف به عمر وأبو عبيدة وسالم وصهيب والنفر الذين دخلوا ، وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما يأتي به بلال فلما رأى الناس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قد دخل المسجد وهو بتلك الحالة العظيمة من المرض ، أعظموا ذلك وتقدم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فجذب أبا بكر من ردائه فنحاه عن المحراب ، وأقبل أبو بكر والنفرالذين كانوا معه فتواروا خلف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأقبل الناس فصلوا خلف رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو جالس ، وبلال
--------------------------- 545 ---------------------------
يسمع الناس التكبير حتى قضى صلاته .
ثم التفت فلم ير أبا بكر ! فقال : أيها الناس لاتعجبون من ابن أبي قحافة وأصحابه الذين أنفذتهم وجعلتهم تحت يدي أسامة ، وأمرتهم بالمسير إلى الوجه الذي وجهوا إليه ، فخالفوا ذلك ورجعوا إلى المدينة ابتغاء الفتنة !
ألا وإن الله قد أركسهم فيها ، أعرجوا بي إلى المنبر ، فقام وهو مربوط حتى قعد على أدنى مرقاة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنه قد جاءني من أمر ربي ما الناس صائرون إليه ، وإني قد تركتكم على الحجة الواضحة ليلها كنهارها ، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني إسرائيل ! أيها الناس : إني لا أحل لكم إلا ما أحله القرآن ولا أحرم عليكم إلا ما حرمه القرآن ، وإني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، هما الخليفتان فيكم ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فأسألكم بماذا خلفتموني فيهما ! وليذادون يومئذ رجال من حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل ، فيقول رجال : أنا فلان وأنا فلان ، فأقول أما الأسماء فقد عرفت ، ولكنكم ارتددتم من بعدي فسحقاً لكم سحقاً ! ثم نزل من المنبر وعاد إلى حجرته ، ولم يظهر أبو بكر ولا أصحابه حتى قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وكان من الأنصار سعد وغيرهم من السقيفة ما كان ، فمنعوا أهل بيت نبيهم حقوقهم التي جعلها الله عز وجل لهم . وأما كتاب الله فمزقوه كل ممزق ! وفيما أخبرتك يا أخا الأنصار من خطب معتبرٌ لمن أحب الله هدايته !
قال الفتى : سمِّ لي القوم الآخرين الذين حضروا الصحيفة وشهدوا فيها ؟ فقال حذيفة : أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل ورضوان بن أمية وخلف وسعيد بن العاص وخالد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وبشر بن سعد وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وصهيب بن سنان وأبوالأعور السلمي ومطيع بن الأسود المدري ، وجماعة من هؤلاء ممن سقط عني إحصاء عددهم .
فقال الفتى : يا أبا عبد الله ، ما هؤلاء في أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى انقلب
--------------------------- 546 ---------------------------
الناس أجمعون بسببهم ؟ فقال حذيفة : إن هؤلاء رؤس القبائل وأشرافها ، وما من رجل من هؤلاء إلا ومعه من الناس خلق عظيم يسمعون له ويطيعون ، وأشربوا في قلوبهم من أبيبكر ، كما أشرب قلوب بني إسرائيل من حب عجل السامري ، حتى تركوا هارون واستضعفوه !
قال الفتى : فإني أقسم بالله حقاً حقاً أني لا أزال لهم مبغضاً ، وإلى الله منهم ومن أفعالهم متبرئاً ، ولا زلت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) موالياً ولأعدائه معادياً ، ولألحقن به وإني لأؤمل أن أرزق معه الشهادة ، وشيكاً إن شاء الله تعالى .
ثم ودع حذيفة وتوجه إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فخرج إلى المدينة ، واستقبله علي وقد شخص من المدينة يريد العراق ، فسار معه إلى البصرة فلما التقى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع أصحاب الجمل كان ذلك الفتى أول من قتل من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وذلك لما صافَّ القوم واجتمعوا على الحرب ، أحب أمير المؤمنين أن يستظهر عليهم بدعائهم إلى القرآن وحكمه ، فدعا بمصحف وقال : من يأخذ هذا المصحف يعرضه عليهم ويدعوهم إلى ما فيه ، فيحيي ما أحياه ويميت ما أماته ؟ قال وقد شرعت الرماح بين العسكرين ، حتى لو أراد امرؤ أن يمشي عليها لمشى ، قال فقام الفتى وقال : يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه . قال : فأعرض عنه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ثم نادى الثانية من يأخذ هذا المصحف فيعرضه عليهم ويدعوهم إلى ما فيه ؟ فلم يقم إليه أحد ، فقام الفتى وقال : يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه . قال فأعرض عنه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ثم نادى الثالثة فلم يقم إليه أحد من الناس إلا الفتى فقال : أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنك إن فعلت ذلك فأنت مقتول ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ما شئ أحب إلي من أن أرزق الشهادة بين يديك ، وأن أقتل في طاعتك ! فأعطاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المصحف فتوجه به نحو عسكرهم فنظر إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال إن الفتى ممن حشا الله قلبه نوراً وإيماناً ، وهو مقتول ، ولقد أشفقت عليه من ذلك ، ولن يفلح القوم بعد قتلهم إياه ! فمضى الفتى بالمصحف حتى وقف بإزاء
--------------------------- 547 ---------------------------
عسكرعائشة وطلحة والزبير حينئذ عن يمين الهودج وشماله ، وكان له صوت فنادى بأعلى صوته : معاشر الناس هذا كتاب الله ، وإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يدعوكم إلى كتاب الله والحكم بما أنزل الله فيه ، فأنيبوا إلى طاعة الله والعمل بكتابه . قال : وكانت عائشة وطلحة والزبيريسمعون قوله فأمسكوا فلما رأى ذلك أهل عسكرهم بادروا إلى الفتى والمصحف في يمينه فقطعوا يده اليمنى ، فتناول المصحف بيده اليسرى وناداهم بأعلى صوته مثل ندائه أول مرة ، فبادروا إليه وقطعوا يده اليسرى ، فتناول المصحف واحتضنه ودماؤه تجري عليه وناداهم مثل ذلك ، فشدوا عليه فقتلوه ، ووقع ميتاً فقطعوه إرباً إرباً .
ولقد رأينا شحم بطنه أصفر ! قال : وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) واقف يراهم ، فأقبل على أصحابه وقال : إني والله ما كنت في شك ولا لبس من ضلالة القوم وباطلهم ، ولكن أحببت أن يتبين لكم جميعاً ذلك من بعد قتلهم الرجل الصالح حكيم بن جبلة العبدي في رجال صالحين معه ، ووثوبهم بهذا الفتى وهو يدعوهم إلى كتاب الله ، والحكم به والعمل بموجبه ، فثاروا إليه فقتلوه ، لا يرتاب بقتلهم إياه مسلم .
ووقدت الحرب واشتدت ، وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) احملوا عليهم باسم الله : حاء ميم ، لا ينصرون . وحمل هو بنفسه والحسنان وأصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
أقول : تأتي قصة هذا الفتى برواياتها في حرب الجمل ، وهي في اليوم الأول من حرب الجمل ، ووصفته هذه الرواية بأن أصله من العجم ، وأنه مولى الأنصار . وفي رواية أنه من عبد القيس ، وقد طوت هذه الرواية مراحل حرب الجمل فبدت كأنها يوم واحد ، وهي سبعة أيام . كما سقط من الرواية لعن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لمن تخلف عن جيش أسامة ! ونزول سورة التحريم في إفشاء عائشة وحفصة سر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومنها قوله تعالى : وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ . إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ . . . إلى آخر سورة التحريم .
--------------------------- 548 ---------------------------
وطبيعي لمثل هذه الرواية أن يفوت منها الكثير ، لأن حذيفة رضي الله عنه مخزن أسرار رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكان خبيراً بأحداث خطيرة أمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكتمانها . وكمية المعلوات التي يقدمها حذيفة رضي الله عنها ، يصعب على الراوي حفظها !
ولما رأى حذيفة أن علياً ( عليه السلام ) صار خليفة فرح بذلك فرحاً شديداً ، وأراد أن يحدث المسلمين بالحقيقة ، ويعلن مقام علي ( عليه السلام ) ، وقد اشتهر عنه هذا الحديث وخطبته وبيعته لعلي ( عليه السلام ) ، وكان مريضاً في آخر أيامه ، فلم يمهله الأجل ليحدث بكل ما عنده !
- *
16 . حاول النواصب الطعن في خلافة علي ( عليه السلام )
عقيدتنا أن علياً ( عليه السلام ) منصوب من الله تعالى ولياً للأمة وخليفة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بلغ ذلك يوم الغدير ، وأمر المسلمين أن يهنؤوه ويبايعوه ، فبايعوه حتى نساء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وغيرنا يقولون إنه صار خليفة بالبيعة ويعترفون أن بيعته كانت باختيار المسلمين فلم يجبرهم بالتهديد كما فعل الذين كانوا قبله !
وقد حاول المبغضون لعلي ( عليه السلام ) قديماً وحديثاً أن يطعنوا في بيعته ( عليه السلام ) ، وقالوا إن مالك الأشتر أكره بعض الصحابة على بيعته ، وهو كذب مفترى . وقالوا إن بيعته إنها لم تحظ بالإجماع ، وهم يعرفون أن المخالفين لبيعة أبيبكر وعمر أكثر من المخالفين لبيعة علي ( عليه السلام ) وأنها الوحيدة التي لم يكن فيها إجبار وإكراه ، ولا حطب ولا سيفٌ مسلول ، ولا تهديدٌ بحرق بيوت من لم يبايعوا على أهلها !
قال ابن تيمية في منهاجه ( 7 / 472 ) : ( فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم ، هم أفضل من الذين بايعوا علياً وقاتلوا معه ، فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ) .
ولابن تيمية في أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كلمات مسمومة ، حتى حكم عليه أئمة المذاهب بأنه مبغض لعلي ( عليه السلام ) وأنه ناصبي منافق خارج عن الإسلام .
وتشعر من كلامه أنه لا يحب علياً ( عليه السلام ) ولا يتحمل له فضيلة ، ولا يعترف بأنه خليفة شرعي . وترى أتباعه يميلون إلى حذف علي ( عليه السلام ) من ( الخلفاء الراشدين ) !
--------------------------- 549 ---------------------------
وقد ألف أتباعه الوهابية رسائل في جامعات السعودية ، تطعن في خلافته ( عليه السلام ) ، وتصدى لها الباحث الشيخ حسن بن فرحان المالكي ، وألف كتابه : نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي ، رداً عليها ، وفضحاً لكذب المحدثين !
وقد نقد عدة رسائل منها ، وكشف عوارها وخواءها ، بل زيفها وتعصبها !
ففي صفحة / 111 ، نقد رسالة الدكتور أكرم العمري : ( عصرالخلافة الراشدة ) .
وفي صفحة / 142 : نقد رسالة عبد الحميد فقيهي ( خلافة علي بن أبي طالب ) .
وفي صفحة / 175 : نقد رسالة الدكتور سليمان العودة ( عبد الله بن سبأ ) .
ورسالة الدكتور محمد أمحزون ( تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة ) .
وفي صفحة / 187 : نقد رسالة عبد الله الدميجي ( الإمامة العظمى ) .
ثم رسالة عيادة الكبيسي ( صحابة رسول الله ) .
ورسالة الدكتور حسن الشيخ ( عقيدة أهل السنة والجماعة ) .
وفي صفحة / 203 : نقد رسالة الدكتور السيد محمد الوكيل ( جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين ) ورسالة الدكتور عبد العزيز نور ولي : ( أثر التشيع على الرواية التاريخية ) ورسالة عبد الله محمد علي حيدر : ( مرويات ابن إسحاق ) .
ولا يتسع المجال لإيراد مناقشاته القيمة ، ونكتفي بنموذج منها ، فقد قال / 138 : ( قال / 88 - يقصد الفقيهي - : وأما خلافة علي فإن الصحابة بايعوا إثرغلبة المعارضين لعثمان على المدينة ولم يحظ بالإجماع بسبب معارضة أصحاب الجمل في البصرة ، ومعاوية في الشام ولكن أكثرية المسلمين بايعوه ، ولم ينكر أحد حين بيعته أحقيته بالخلافة ) .
أقول : قوله : لم يحظ بالإجماع ، هي التي كدرت صفاء هذا القول ، فأهل الجمل كانوا من المبايعين لعلي ، ومن الذين كانوا يوصون ببيعة علي رضي الله عنه ، ثم ندموا كلهم على خروجهم ونكثهم ، فندم الزبير وندم طلحة وندمت عائشة رضي الله عنهم ، فذكرهم هنا بمثابة ذكر ( الأنصار ) في بيعة أبيبكر الصديق . . فيمكن لقائل أن يقول إن بيعة أبيبكر لم تحظ بالإجماع إذ عارض فيها الأنصار
--------------------------- 550 ---------------------------
كلهم ، وعارض أكثر بني أمية ، وبني هاشم !
فقائل هذا القول لم يذكر مقياس الحق والباطل ، ولم يذكر رجوع هؤلاء إلى الحق ومبايعتهم لأبيبكر رضي الله عنه ، كذلك الدكتور هنا لم يذكر نتيجة هذه ( المعارضة ) وهي قبولهم أخيراً بعلي رضي الله عنه خليفة ، وتبين لهم خطؤهم فيما ذهبوا إليه من النكث والخروج ، إن كان باجتهاد . فأهل الجمل كانوا قد بايعوه أصلاً ، ثم نكثوا ، ثم ندموا في آخر الأمر . أما معاوية وأهل الشام فلم يبايعوا ولم يندموا ، وأصروا على الخروج وشق العصا ، وقد سبق مراراً أنه لا يشترط موافقتهم فهم تابعون ، ولا يحق لهم اختيار الخليفة ولا رفض بيعته ، مثلهم مثل سائر الناس في الولايات الأخرى .
ملاحظة أخيرة : من عيوب كتاب الدكتور ( الفقيهي ) أن الدكتور ينقل من ( مصادر ناقلة ) ولا يعود للمصادر ( الأصلية ) وقد يتصرف في كلام المصدر ( الناقل ) ولا يشير إليه فيجمع بين هضم حق ( المصدر ) الذي نقل عنه ، وبين الخطأ في الإحالات على المصادر الأخرى ، فنجده في كلامه عن البيعة : ولا داعي لاستعراض الأخطاء فيما سواها . قد نقل هذا القول ص 52 فقال : ( فخرج ( علي ) إلى المسجد وبايعه الناس عن رضا واختيار ، سوى طلحة والزبير فإنهما بايعاه مكرهين ، ولم يكونا راضيين عن الطريقة التي تمت بها البيعة ، حيث لم يتم التداول بين أهل الحل والعقد بشأنها ولم يعقد مجلس الشورى !
أورد فيها الفقيهي رواية سيف / 91 ثم خلط رواية الحاكم مع الإمام أحمد / 92 وبعض رواية المسور بن مخرمة / 96 . فأين رواية ابن عباس التي رواها الطبري في تاريخه ( 4 / 427 ) وهي جزء من رواية أبي بشير العابدي والروايتان في السنة للخلال أيضاً ( ص 416 ) وأين رواية الشعبي التي أوردها الحافظ في الفتح ( 13 / 54 ) نقلاً عن تاريخ البصرة لعمر بن شبة ( وهو اليوم مفقود ) وأين رواية ابن عمر في كتاب الفتن لنعيم بن حماد ( 1 / 186 ) وأين رواية الأسود بن يزيد النخعي التي رواها الحاكم في المستدرك ( 3 / 114 ) وأين رواية الحسن البصري في فضائل الصحابة للإمام أحمد ( 2 / 576 ) وأين رواية الأشتر التي رواها ابن أبي شيبة في المصنف ( 15 / 228 ) وصححها الحافظ في الفتح ( 13 / 57 ) فهذه ست روايات كاملة صحيحة أو حسنة أو هي على الأقل خير من رواية سيف
--------------------------- 551 ---------------------------
بن عمر ، فلماذا لم يوردها ؟ وأقول له : ألا تتقي الله في هذا ؟ إذا كنت تنكر مثل هذه الأمور المعلومة الظاهرة ، فكيف سترجع عن الأخطاء في الأمور الغامضة !
ولعل من أشهر تلك الروايات وأصحها ما رواه الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف ( 15 / 228 ) عن يحيى بن آدم قال : حدثني أبو بكر بن عياش عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال قلت للأشتر : لقد كنت كارهاً ليوم الدار فكيف رجعت عن رأيك ؟ قال : أجل ، والله لقد كنت كارهاً ليوم الدار ولكن جئت بأم حبيبة بنت أبي سفيان لأدخلها الدار ، وأردت أن أخرج عثمان في هودج فأبوا أن يدعوني وقالوا : ما لنا ولك يا أشتر ، ولكني رأيت طلحة والزبير والقوم بايعوا علياً طائعين غير مكرهين ، ثم نكثوا عليه !
فهذه الرواية صحيحة الإسناد على شرط مسلم : فصاحب المصنف أبو بكر بن أبي شيبة من شيوخ البخاري ومسلم ، وكذلك يحيى بن آدم من رجال الشيخين ، ومثله أبو بكر بن عياش وشيخه مغيرة بن مقسم كذلك ، وشيخه إبراهيم النخعي من كبار التابعين ، وعلقمة بن قيس عالم التابعين .
فهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات أثبات ، والأشتر نفسه ثقة كذلك ، فقد روى له النسائي ولا يروي إلا لثقة ، ووثقه العجلي وابن حبان ، وروى عنه كبارمن التابعين منهم علقمة هذا ، والأشتر قد أثنى عليه علي بن أبي طالب وثناؤه أقوى من توثيق المحدثين . وفي الرواية أيضاً شهادة من علقمة بن قيس ، كبيرالتابعين بأن الأشتر ( كان كارهاً لحصار عثمان ) . وفي الرواية دلالة واضحة على أن الأشتر لم يكن بريئاً فقط بل كان يعمل على إنقاذ عثمان والخروج به ربما إلى الشام أو مكة !
ورواها الطبري أيضاً وصححها الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13 / 57 ) .
وفي رواية أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري وهي رواية حسنة رواها الطبري
--------------------------- 552 ---------------------------
( 4 / 383 ) وفيها قول أبي سعيد : فقام الأشتر وقال : لعله قد مكر به ( يعني عثمان ) وبكم فوطأه الناس حتى لقي كذا وكذا . فهذه الرواية يصححها كل من تحدث عن فتنة عثمان ، وهي صحيحة الإسناد ، وفيها إثبات أن الأشتركان يبرئ عثمان أمام الثائرين ، حتى يطؤوه ويلقى منهم شراً .
فليس الغريب في كثرة الروايات الصحيحة المبرئة للأشتر ، إنما الغريب هو جهل الفقيهي بتلك الروايات ، والسبب في جهل بعض المؤرخين الإسلاميين للروايات المبرئة للأشتر ، أنهم أدمنوا على روايات سيف بن عمر ، وتعليقات الخطيب على العواصم ! حتى أصابهم ما يشبه ب ( غسيل الدماغ ) فأصبحوا لا يصدقون ولا يعقلون إلا روايات سيف بن عمر ، التي تتهم علياً وأصحابه بالمشاركة في قتل عثمان ، والتتلمذ على عبد الله بن سبأ ! ولا يتلذذون إلا بكتابات الخطيب التي تسير في هذا الاتجاه ، مع شئ من الذكاء ! أما الروايات الصحيحة المبرئة لهم فلا يلتفتون إليها ، لأنها خلاف روايات سيف بن عمر وكتابات الخطيب ! إذن فالروايات السابقة أرجو أن يتعلم منها الفقيهي ألا يتحدى بعد اليوم ، ويزعم أنني لن أجد دليلاً على كلامي ) !
انتهى كلام الباحث ابن فرحان .
17 . جاء بنو أمية يساومون أمير المؤمنين ( عليه السلام )
قال الطبري ( 3 / 455 ) : ( لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه ، جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعداً والزبير خارجين ، ووجدوا طلحة في حائط له ، ووجدوا بني أمية قد هربوا إلا من لم يطق الهرب ، وهرب الوليد وسعيد إلى مكة في أول من خرج وتبعهم مروان ، وتتابع على ذلك من تتابع ، فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر : أنتم أهل الشورى وأنتم تعقدون الإمامة ، وأمركم جائز على الأمة ، فانظروا رجلاً تنصبونه ، ونحن لكم تبع ، فقال الجمهور : علي بن أبي طالب ، نحن به راضون ) .
أقول : يظهر أن بني أمية كانوا بعد مقتل عثمان مختفين في ضواحي المدينة ولم يهربوا إلى مكة ، بدليل أنهم فاوضوا علياً ( عليه السلام ) أيام بيعته بكل حريتهم ووقاحتهم ، فقد ذكر المؤرخون
--------------------------- 553 ---------------------------
أن الوليد جاء إلى الإمام ( عليه السلام ) عند بيعته : ( فبينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبير وطلحة فجلسا ناحية عن علي ( عليه السلام ) ، ثم طلع مروان وسعيد وعبد الله بن الزبير ، فجلسوا إليهما ، ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم ، فتحدثوا نجياُ ساعة ثم :
( قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فجاء إلى علي فقال : يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعاً ، أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً ، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش ، وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه ، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف ، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في أيام عثمان ، وأن تقتل قتلته ، وإنا إن خفناك تركناك ، فالتحقنا بالشام .
فقال ( عليه السلام ) : أما ما ذكرتم من وَتْري إياكم فالحق وتركم ، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم ، وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس ، ولكن لكم عليَّ إن خفتموني أن أؤمنكم وإن خفتكم أن أسيركم . فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف ) . ( شرح النهج : 7 / 38 ، وتاريخ اليعقوبي : 2 / 167 )
وكتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى سهل بن حنيف عامله على المدينة أن لا يمنع من أراد الهرب إلى معاوية : ( أما بعد ، فقد بلغني أن رجالاً ممن قبلك يتسللون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ، ويذهب عنك من مددهم . فكفى لهم غياً ، ولك منهم شافياً فرارهم من الهدى والحق ، وإيضاعهم إلى العمى والجهل . وإنما هم أهل دنياً مقبلون عليها ومهطعون إليها ، قد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه ، وعلموا أن الناس عنده في الحق أسوة ، فهربوا إلى الأثرة ! فبعداً لهم وسحقاً ، إنهم والله لم ينفروا من جور ولم يلحقوا بعدل . وإنا لنطمع في هذا الأمر أن يذلل الله لنا صعبه ويسهل لنا حزنه ، إن شاء الله . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 132 ) . ويأتي نشاط الهاربين ضد علي ( عليه السلام ) .
--------------------------- 554 ---------------------------
الفصل الخمسون: فعاليات علي ( عليه السلام ) لإعادة العهد النبوي
1 . نظرة علي ( عليه السلام ) إلى الحكم وهدفه منه
1 . يختلف تفكير علي ( عليه السلام ) عن الحكام الآخرين ، وهدفه عن هدفهم ! فهو يرى أن الله تعالى أجرى سنن التاريخ في هذه الأمة ، وأن قريشاً تآمرت على أوصياء النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من عترته ، وعزلتهم واضطهدتهم وأخذت منهم الخلافة ، كما قال الله تعالى عن الرسل السابقين : تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ، وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وَلَو شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ، وَلَو شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ .
وقد أخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الأمة بذلك ، وفصَّل الأحاديث لعلي ( عليه السلام ) فقال له فيما قال : ( وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه ، فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنك بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه ، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه ، وإن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم ، إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم بهم ، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم .
يا علي : ما بعث الله رسولاً إلا وأسلم معه قوم طوعاً وقوم آخرون كرهاً ، فسلط الله الذين أسلموا كرهاً على الذين أسلموا طوعاً فقتلوهم ، ليكون أعظم لأجورهم .
يا علي : وإنه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها ، وإن الله قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأمة ، ولو شاء الله لجعلهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من خلقه ،
--------------------------- 555 ---------------------------
ولا يُتنازع في شئ من أمره ، ولا يجحد المفضول ذا الفضل فضله ، ولو شاء عجل النقمة ، فكان منه التغيير حتى يكذب الظالم ، ويعلم الحق أين مصيره . ولكن جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة دار القرار : لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى .
فقلت : الحمد لله شكراً على نعمائه ، وصبراً على بلائه ، وتسليماً ورضاً بقضائه ) .
2 . أمره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يستنهض الأمة ويذكرها ببيعته يوم الغدير ، ووصية نبيها المؤكدة بالقرآن والعترة ، ويذكرالأنصار ببيعتهم للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مكة على أن لاينازعوا الأمر أهله ، وأن يحموه وأهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم !
فإن لم يجد ناصراً ، فليحقن دمه ودم وأهل بيته حتى يجعل له فرجاً وتأتيه الأمة وتبايعه ، وعندها يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتل مع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على تنزيله !
كان ( عليه السلام ) يرى أن نقمة الصحابة على عثمان ومحاصرته وقتله ، ومجيئهم إليه طالبين أن يقبل بيعتهم ، هي الفرج الذي وعده به النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليقوم بالتصحيح وقتال الانحراف وإعادة العهد النبوي ، فكان ( عليه السلام ) يقول : ( أخبرني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بما الأمة صانعة بي بعده فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أشدُّ يقيناً مني بما عاينت وشهدت ) ! ( كتاب سُليم / 213 ) .
فإخبار النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحيٌ رب العالمين عز وجل ، ليس فيه احتمال خلاف ، فهو أرقى درجةً في الكشف عن الواقع بالمعاينة الحسية .
3 . كان ( عليه السلام ) يرى أن الأمة حصدت في زمن عثمان ما زرعه أبو بكر وعمر وسهيل بن عمرو في السقيفة ، حيث نقلوا قيادة أمة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من عترته إلى بني أمية الذين حاربوا الإسلام حتى عجزوا ! وكان ( عليه السلام ) يرى عثمان أموياً إلى العظم قبل أن يكون صحابياً ، وهو ضعيف ينقاد مع مروان إلى حتفه كما ينقاد الجمل بخزامته ! ومروان شيطان ملعون على لسان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
ولذلك قال علي ( عليه السلام ) في وصف عثمان : ( إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ،
--------------------------- 556 ---------------------------
بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ! إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ) ! ( نهج البلاغة : 1 / 31 ) .
4 . وأخبره النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بأن التناسب بين حالة الأمة ومن يتولى عليها ، سنةٌ إلهية ! فالهبوط في الأمم بعد أنبيائها ( عليهم السلام ) يعني أنهالاتستحق حكم الأوصياء ، وأن يغلب على قيادتها من هو بمستواها ! كان ( عليه السلام ) يتحدث عن ذلك فيقول :
( ألا إن العجب كل العجب من جهال هذه الأمة وضلالها وقادتها وساقتها إلى النار ، لأنهم قد سمعوا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول عوداً وبدءاً : ما ولت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاًحتى يرجعوا إلى ما تركوا ! فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ، ما منهم رجل جمع القرآن ، ولا يدعي أن له علماً بكتاب الله ولا سنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وقد علموا يقيناً أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ، وأفقههم وأقرؤهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله . وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ولاغَنَاء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ورغبةً في البقاء ) . ( كتاب سُليم / 247 ) .
وكان ( عليه السلام ) يعتبر أن مجيئ الأمة اليه بعد عثمان تدبير إلهي ، لكي يدخل مشروع عترة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في تاريخ الأمة ، ويثبت فيها خط القتال على التأويل والتحريف !
5 . كان عليٌّ ( عليه السلام ) يرى أن ( ميكافيلية ) معاوية ، ومكره ودهاءه وعنفه ، مهما كانت وسائل تنفع أصحاب المشاريع الدنيوية وتحقق أهدافهم ، فهي لا تصلح لمن يتقي الله تعالى ويريد إرساء مبادئ الرسالة وتطبيقاتها النظيفة .
وبما أن قضية علي ( عليه السلام ) الغلبة الرسالية على خصومه وليست الدنيوية ، فلا يصح أن يستعمل معهم وسائلهم التي يحاربها ويريد تخليص الأمة منها !
كان يرى ( عليه السلام ) أن خصومه وإن انتصروا بوصوليتهم على قيم الدين وإنسانيته ، فهو المنتصرلأنه بسياسته يُتِمُّ الحجة على الأمة ، ويُعَرِّف أجيالها رسالة الإسلام !
قال ( عليه السلام ) : ( إن الوفاء توأم الصدق ، ولا أعلم جنة أوقى منه ، ولايغدر من علم كيف المرجع . ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيْساً ، ونسبهم أهل الجهل فيه
--------------------------- 557 ---------------------------
إلى حسن الحيلة ! ما لهم قاتلهم الله ! قد يرى الحُوَّل القُلَّبُ وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه ، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لاحريجة له في الدين ) . ( نهج البلاغة : 1 / 92 ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ! ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، ولكن كل غدرة فجرة ، وكل فجرة كفرة ، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة ! والله ما أستغفل بالمكيدة ، ولا أستغمز بالشديدة ) .
أي لا أنعصر عند شدائد الأمور . ( نهج البلاغة : 1 / 180 ) .
وكان ( عليه السلام ) يرى في العمق أن من يستعمل أساليب غير مشروعة ، لا عقل له ، مهما كان داهية ! فقد سأل رجلٌ ابنه الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ما العقل ؟ قال : ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان . قال قلت : فالذي كان في معاوية ؟ فقال : تلك النكراء ، تلك الشيطنة ! وهي شبيهة بالعقل ، وليست بالعقل ) . ( الكافي : 1 / 11 ) !
فالدهاء والمكر والعنف الذي تكون نتيجته حكم الناس عشرين سنة أو ألف سنة ، ثم يخلد صاحبه في عذاب الجحيم ، ليس من العقل في شئ !
6 . كان باستطاعة علي ( عليه السلام ) أن يجبرالناس على بيعته ، كما فعل أبو بكر وعمر ! لكنه لم يفعل ، لأن الواجب عنده إعادة الإرادة الحرة للإنسان المسلم ، التي صادرتها قريش بوفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وأن يرفض الإجبار مهما كانت الخسارة عليه !
وكان باستطاعته أن يمنع طلحة والزبير من مغادرة المدينة للتآمر مع عائشة ، فقد أخبرهم بنيتهم ، لكنه أعطاهم الحرية وكل من خرج عليه ، فله أن يفعل ما يريد ، ولا يُحرم حقه من بيت المال ، ما لم يرفع السيف ويبطش !
7 . القضية عند علي ( عليه السلام ) ليست أن يكون حاكماً ، بل أن ينفِّذ أمر ربه عز وجل والفرق كبير بين من يريد الملك لنفسه ومن يريده لله ! فهما في المظهر سواء ، لكن أين الثريا من الثرى ! ولو كان علي ( عليه السلام ) يطلب الحكم لنفسه لقبل الخلافة لما قدمها إليه ابن عوف على طبق من ذهب ، فرآها مِيتَةً ورفضها ونَفَرَ منها ! فقد
--------------------------- 558 ---------------------------
عرَضَ عليه أن يبايعه على كتاب الله وسنة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسنة أبيبكر وعمر ! فرفض بلا تردد ، فكيف يجعل عمل شيخي قبيلة جزءً من الدين ، إن ألْفَ ضربةٍ بالسيف أهون عنده من أن يأتي يوم القيامة فيسأله الله : لماذا جعلت سنة هذين جزءً من ديني !
روى أحمد في مسنده ( 1 / 75 ) : ( عن أبي وائل قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف : كيف بايعتم عثمان وتركتم علياً ؟ قال : ما ذنبي ! قد بدأت بعليٍّ فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبيبكر وعمر ، قال فقال : فيما استطعت ، قال : ثم عرضتها على عثمان ، فقبلها ) .
فهو يريد الخلافة ليصحح المسار القرشي القبلي الذي وضعوا فيه الإسلام والأمة ! وهو الذي يقول : ( إني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة ، فإذا غُيِّر منها شئ قيل قد غيرت السنة ، وقد أتى الناس منكراً ! ثم تشتد البلية وتسبى الذرية ، وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب وكما تدق الرحا بثفالها ، ويتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة !
ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته ، فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده مغيرين لسنته ، ولو حملتُ الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي ! أو في قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ( عليه السلام ) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ( عليها السلام ) . . . إلى أن قال ( عليه السلام ) : والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضةوأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غُيِّرت سنة عمر ! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً ! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ! ما لقيتُ من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار ) . ( الكافي : 8 / 59 ) .
--------------------------- 559 ---------------------------
8 . كان باستطاعته ( عليه السلام ) أن يستعمل أسلوب الشيخين فيجبرالناس ويخوفهم ، ويميز بينهم في العطاء ، ويستميل رؤساء القبائل بالمال ، ويعطي حكم الشام لمعاوية ، ثم يدبر قتله بعد شهور ! فيُحكم قبضته على بلاد الدولة الإسلامية ، وقد كانت بيده ما عدا الشام ، ولو فعل ذلك لخضع له العرب والعجم ، وكان أمبراطوراً له أبَّهة كسرى وقيصر ! ولرأيت المنافقين المعترضين عليه والطامعين في الحكم ، إمَّعاتٍ متزلفين اليه ، أو مقتولين تحت التراب !
فما أسهل لعلي ( عليه السلام ) أن ( يُصلح ) شعبه بالاضطهاد كما فعل غيره ، لكنه لا يستحل ذلك ولا هو قضيته ولا هدفه ! فليس هدفه الطاعة بل القناعة ! وطاعة الخوف طاعة أبدان وأبشار ، وغرض علي ( عليه السلام ) إقناع العقول والأفكار !
نعم ، كان باستطاعته أن يؤسس ملكاً عريضاً لبني هاشم ، ويورَّث الحسن والحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمبراطورية أعظم مما ورثته الأكاسرة والقياصرة لأبنائهم !
لكن ذلك برأيه مُلْكٌ مذمومٌ ملعون ، لأنه يقوم على الدماء والأشلاء ، وظلم العباد والبلاد ، والغارة على أموال الفقراء ، كغارة الذئب على المعزى الكسيرة !
وليس هذا هدفه ( عليه السلام ) وحاشاه ، وهو الذهب الصافي من سلالة إبراهيم ( عليه السلام ) ، ووصيِّ خير الخلق وسيد المرسلين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) !
قال ( عليه السلام ) : ( والله قد دعوتكم عوداً وبدءً ، وسراً وجهاراً ، في الليل والنهار والغدو والآصال ، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً وإدباراً ، أما تنفعكم العظة والدعاء إلى الهدى والحكمة ! وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ، ولكني والله لا أصلحكم بإفساد نفسي ! ولكن أمهلوني قليلاً ، فكأنكم والله قد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم فيعذبه الله كما يعذبكم ! إن من ذُلِّ المسلمين وهلاك الدين أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجاب ، وأدعوكم وأنتم الأفضلون الأخيار فتراوغون وتدافعون ، ما هذا بفعل المتقين ) . ( الغارات للثقفي : 2 / 624 ) .
9 . لقد حقق الإمام ( عليه السلام ) في مدة حكمه القصيرة إنجازاً غير عادي ، فقدم للأمة
النموذج الذي أراده منه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في تصحيح الانحراف وقتال الناكثين
--------------------------- 560 ---------------------------
والقاسطين والمارقين . وأعاد بذلك الحيوية والزخم للإسلام ، فثبت في الأمة كدين نزل من عند الله تعالى ، ودخل عمله في تاريخها وثقافتها ، فصار حكم علي وعدل علي ( عليه السلام ) ميزاناً بيد عامة الناس ، وشعاراً للطامحين للإصلاح ، والثائرين على الفساد ! ولم يكن غيره ليستطيع أن يحقق ذلك !
لقد كشف للأمة خطورة الفتنة التي قاموا بها ، وفقأ عينها فجعلها عوراء ! وعرَّف أجيال الأمة الظلامة التي أوقعتها بهم السقيفة وحكم القبيلة !
فقال ( عليه السلام ) : ( أما بعد أيها الناس ، فأنا فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون ولا القاسطون ولا المارقون !
ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني فإني عن قليل مقتول ، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم أعلاها ، فوالذي فلق البحر وبرأ النسمة لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدي مائة ، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، إلى يوم القيامة ) . ( نهج البلاغة : 1 / 182 ) .
- *
--------------------------- 561 ---------------------------
2 . فريضة القتال على التأويل تعني أن تدميرالإسلام كان شاملاً
أجمع المسلمون على أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمرعلياً ( عليه السلام ) بأن يقاتل الأمة على تأويل القرآن كما قاتل هو على تنزيله . ولا معنى لإيكال علي ( عليه السلام ) مهمة قتال الأمة على تأويل القرآن ، إلا أنها حرفته بالكامل ، وتشبثت بتحريفه في مجالات الحكم المختلفة ، وأن القوى المضادة لا تترك تحريف كتاب ربها ووحي نبيها ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلا بالقتال !
ففريضة القتال على التأويل تعني أمرين خطيرين :
الأول : أن تدمير الإسلام كان شاملاً ، للعقيدة والشريعة .
والثاني : أنه لا علاج له إلا بالقتال ، لأن القوى المدمرة لا تترك مواقعها إلا بالقتال !
وهذا ما كان يراه علي ( عليه السلام ) : كان يرى أن عهود الحكم الثلاثة قبله ، دمرت كل شئ .
فقد بدأت بالترتيبات الإلهية للحكم فأقصت الأئمة الربانيين الذين عندهم العلم والعدالة ، وأعطت الحكم لثلاثة وصفهم بأنهم جهال ، وأنهم لا سابقة لهم في علم ولا جهاد ، بل وصفهم بأنهم طلاب حكم ودعاة إلى الهاوية .
ودمرت تداول السلطة السلمي ، فجعلته انتقالاً بالغلبة والقهر والشيطنات السياسية . ودمرت العمل بالقرآن والسنة ، فجعلف كل شئ بيد الخليفة ، فهو الحاكم على القرآن والسنة ، يفسرهما كيفياً ، ويطبقهما انتقائياً .
ودمرت احترام إرادة الإنسان ، فجعلت البيعة للحاكم المتغلب بالسيف والجبر ، والتهديد بحرق البيوت على ساكنيها ، ومنها بيت النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمن فيه !
ودمرت إنسانية الإنسان ، فجعلت المسلمين حيوانات فوق رؤوسها سوط الخليفة ، يرضى فيطعم ، ويغضب فيضرب ، بدون شرع ، ولا منطق ، ولا حساب .
ودمرت القيم وكرامة الإنسان ، فصار الغدر هو الأصل ، وقتل النفس أمراً صغيراً .
ودمرت موارد الدولة ، فجعلتها ملكاً للخليفة والمقربين منه ، لا يسألون عما يفعلون !
ولذلك كان علي ( عليه السلام ) يقول : إنه كلما فكر في وضع الأمة ، وفي أوامر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) رأى أن أمره يدور أمره بين قتال المحرفين أو الكفر ، ولا ثالث لهما !
--------------------------- 562 ---------------------------
قال ( عليه السلام ) كما رواه البلاذري ( 2 / 236 ) والأخبار الطوال / 188 : ( يا هذا ، إني قد ضربت أنف هذا الأمر وعينيه ، فلم أجده يسعني إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد ، إن الله لا يرضى من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت ، لايأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ، فوجدت القتال أهون من معالجة الأغلال في جهنم ) .
كان صلوات الله عليه يرى أنه كالطبيب المجبور على إجراء عمليات جراحية ، فيها بتر أيدي وأرجل ، وفيها وفيات في غرفة العمليات !
3 . بخلافة علي ( عليه السلام ) عرفت الأمة الرأي الآخر
1 . حَكَمَ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خمس سنوات وأشهراً ، وفي هذه المدة أشعلوا عليه ثلاث حروب ، انتصر في اثنتين منها : الجمل والنهروان ، وتعادل في صفين ، لأن الخوارج خانوه بعد أن كان قاب قوسين من النصر .
لكنه في هذه المدة القليلة والظروف العاصفة ، استطاع أن يعيد إلى الأمة العهد النبوي المضيئ ، ويحقق إنجازات كبرى في تقوية الإسلام أمام قوى التحريف ، وأرسى أصول تصحيح مسار الأمة ، وآفاق مستقبلها .
ولا يقتصر الأمر على ما نذكره في هذا الفصل ، فكل فعاليات علي ( عليه السلام ) وأقواله تقريباً كانت إطهاراً للرأي الآخر والوجه الصحيح للإسلام ، ورفضاً وإدانة لكل ما خالفه مما تقدم من فعاليات الذين حكموا قبله !
2 . كانت أول إنجازاته أنه كشف ظلم قريش لآل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأبطل كذبتهم أن
النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : إن الله حرم على بني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة . واستدل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأن عمر نفسه رشحه للخلافة في الشورى ، فكَذَّب نفسه وكذب شركاءه بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حرم الخلافة على بني هاشم ، لأن الله لا يجمع لهم النبوة والخلافة ! ( قال الصادق ( عليه السلام ) : لمّا كتب عمر كتاب الشورى بدأ بعثمان في أول الصحيفة وأخر عليّاً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فجعله في آخر القوم . . فقال العباس :
يا أبا الحسن أشرت عليك في يوم قبض رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن تمد يدك فنبايعك فإن هذا
--------------------------- 563 ---------------------------
الأمر لمن سبق إليه فعصيتني حتى بويع أبو بكر ، وأنا أُشير عليك اليوم : إن عمر قد كتب اسمك في الشورى وجعلك آخر القوم ، وهم يخرجونك منها فأطعني ولا تدخل في الشورى . فلم يجبه بشئ ، فلما بويع عثمان قال له العباس : ألم أقل لك ؟ قال ( عليه السلام ) له : يا عم إنه قد خفي عليك أمر ، أما سمعت قوله على المنبر : ما كان الله ليجمع لأهل هذا البيت الخلافة والنبوة ، فأردت أن يكذب نفسه بلسانه ، فيعلم الناس أن قوله بالأمس كان كذباً باطلاً وأنا نصلح للخلافة . فسكت العباس » ! ( علل الشرايع : 1 / 203 )
وقد اختار أهل الشورى عثمان كما خطط عمر ، وعمل في المسلمين بالظلم ، ولما طفح ظلمه انتفض عليه الصحابة وقتلوه ، وطالبوا علياً ( عليه السلام ) بأن يقبل بيعتهم .
وبخلافته ( عليه السلام ) وضع علامة استفهام على عهود الخلفاء الثلاثة قبله ، وعلى كل ما قالوه وفعلوه ! وفهمت الأمة أن قريشاً دبرت عزل آل الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، بعد أن كرر وصيته فيهم ، ونزل القرآن بطاعتهم ومودتهم وطهارتهم .
وجاءت مواقف علي ( عليه السلام ) وأقواله أدلة قوية على ذلك ، واستفاق كثير من الأمة وعرفوا أنهم قد استغفلوا ، واستعادوا خطب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكلماته وتأكيداته ، وإصراره في مرضه على أن يكتب عهده ، وتفريغه المدينة من مخالفي عترته ، وإفشال قريش إنفاذ جيش أسامة ، ورفضها كتابة العهد النبوي !
كان الرأي الوحيد الذي نشرته السلطة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لم يوص إلى أحد بعده ، فاختار المسلمون خليفته بحسن نية . لكن خلافة علي ( عليه السلام ) أظهرت الحقيقة !
3 . كان صوت علي ( عليه السلام ) يدوي في أرجاء دولة الخلافة ، ويرن في آذان المسلمين ، يقول : « أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ! بنا يُستعطى الهدى ويستجلى العمى . إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » . ( نهج البلاغة : 1 / 82 ) .
« والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيِّزنا ، فكانوا
--------------------------- 564 ---------------------------
كما قال الأول :
أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَاا
ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ * علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا » .
( أخذ رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيدي يوم الغدير فقال : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه ، وأبغض من أبغضه ، وانصرمن نصره واخذل من خذله . أقامني للناس كافة يوم غدير خم فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فبعداً وسحقاً
للقوم الظالمين ) .
( لما تم لأبيبكر ما تم وبايعه من بايع ، جاء رجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يسوي قبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمسحاة في يده فقال له : إن القوم قد بايعوا أبا بكر ، ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم ، وبدر الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر . فوضع ( عليه السلام ) طرف المسحاة في الأرض ويده عليها ، ثم قال : بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . اَلَمِ . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .
( اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم قطعوا رحمي ، وأضاعوا أيامي ، ودفعوا حقي ، وصغروا قدري وعظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به منهم ، فاستلبونيه ثم قالوا : إصبر مغموماً ، أو مُت متأسفاً ! وأيم الله لو استطاعوا أن يدفعوا قرابتي كما قطعوا سببي فعلوا ، ولكنهم لن يجدوا إلى ذلك سبيلا . وقد كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهد إليَّ عهداً فقال : يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي ، فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم ، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه ، فإن الله سيجعل لك مخرجاً . فنظرت فإذا ليس لي رافد ، ولا معي مساعد إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الهلاك ، ولو كان لي بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عمي حمزة وأخي جعفر ، لم أبايع كرهاً ، ولكني بليت برجلين حديثي عهد بالإسلام : العباس وعقيل ، فضننت بأهل بيتي عن الهلاك ، فأغضيت عيني على القذى ، وتجرعت ريقي على الشجى ، وصبرت على أمرِّ من العلقم ، وآلم للقلب من حَزِّ الشفار ) .
--------------------------- 565 ---------------------------
( قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ثم إن علياً كرم الله وجهه أُتِيَ به إلى أبيبكر وهو يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله . فقيل له : بايع أبا بكر ، فقال : أنا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ! أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتأخذونه منا أهل البيت غصباً ! ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حياً وميتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون ! فقال له عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع ، فقال له علي : إحلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً ! ثم قال : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه . فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك .
فقال أبو عبيدة بن الجراح لعلي : يا ابن عم إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ، ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك ، وأشد احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلم لأبيبكر هذا الأمر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء ، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق ، في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك ونسبك وصهرك .
فقال علي كرم الله وجهه : الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته ، إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله يا معشرالمهاجرين لنحن أحق الناس به ، لأنا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمرالرعية ، المدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية . والله إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله ، فتزدادوا من الحق بعداً .
فقال بشير بن سعيد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبيبكرمااختلف عليك اثنان ) .
--------------------------- 566 ---------------------------
أقول : قول أبي عبيدة : وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم . . يدل على أنهم اتفقوا بينهم على أن يكون الخليفة أبو بكر ، ثم عمر . وقد احتج أبو عبيدة بأن أبا بكر وعمر أسن من علي ( عليه السلام ) ، مع أنه ما زال هو وهم جنوداً تحت إمرة أسامة بن زيد الأسود الذي عمره سبع عشرة سنة . وقد اعترضوا على تأميره ، فردهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأفحمهم .
أما بشير بن سعيد الأنصاري فهو غيرصادق في قوله لعلي ( عليه السلام ) لأنه مع أسيد بن حضيرالأنصاريان الوحيدان اللذان تواعدا مع أهل السقيفة وبايعا أبا بكر ، وهما من الأوس وقد خافا أن يأخذ الخلافة زعيم الخزرج سعد بن عبادة !
4 . قال علي ( عليه السلام ) : ( كنت أمشي مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في بعض طرق المدينة فأتينا على حديقة ، فقلت : يا رسول الله ما أحسنها من حديقة . قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أحسنها ، ولك في الجنة أحسن منها . ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت : يا رسول الله ما أحسنها من حديقة . قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ما أحسنها ، ولك في الجنة أحسن منها . حتى أتينا على سبع حدائق ، أقول : يا رسول الله ما أحسنها ويقول : لك في الجنة أحسن منها ، فلما خلا له الطريق اعتنقني ثم أجهش باكياً وقال : بأبي الوحيد الشهيد ! فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي ، أحقاد بدر ، وتِراتِ أحد ! فقلت : في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك ، فأبشر يا علي ، فإن حياتك وموتك معي ، وأنت أخي ، وأنت وصيي ، وأنت صفيي ، ووزيري ، ووارثي ، والمؤدي عني ، وأنت تقضي ديني ، وتنجز عداتي عني ، وأنت تبرئ ذمتي ، وتؤدي أمانتي ، وتقاتل على سنتي الناكثين من أمتي ، والقاسطين والمارقين ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه ، فاصبر لظلم قريش إياك ، وتظاهرهم عليك فإنك بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه ، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه ، وإن موسى أمرهارون حين استخلفه عليهم ، إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم بهم وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم .
يا علي ، ما بعث الله رسولاً إلا وأسلم معه قوم طوعاً وقوم آخرون كرهاً ، فسلط الله الذين أسلموا كرهاً على الذين أسلموا طوعاً فقتلوهم ، ليكون أعظم لأجورهم .
--------------------------- 567 ---------------------------
يا علي : وإنه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها ، وإن الله قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأمة ، ولو شاء الله لجعلهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من خلقه ، ولا يتنازع في شئ من أمره ، ولا يجحد المفضول ذا الفضل فضله ، ولو شاء عجل النقمة ، فكان منه التغيير حتى يكذب الظالم ، ويعلم الحق أين مصيره . ولكن جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة دار القرار ، لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . فقلت : الحمد لله شكراً على نعمائه ، وصبراً على بلائه ، وتسليماً ورضاً بقضائه ) .
( كانوا يسمعوني عند وفاة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أحاج أبا بكر وأقول : يا معشر قريش إنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ القرآن ويعرف السنة ويدين دين الحق ، فخشي القوم إن أنا وليت عليهم أن لا يكون لهم في الأمر نصيب ما بقوا ، فأجمعوا إجماعاً واحداً ، فصرفوا الولاية إلى عثمان وأخرجوني منها ، رجاء أن ينالوها ويتداولوها ، إذ يئسوا أن ينالوا من قبلي ، ثم قالوا : هلم فبايع وإلا جاهدناك ، فبايعت مستكرهاً وصبرت محتسباً ، فقال قائلهم : يا ابن أبي طالب إنك على هذا الأمر لحريص ! فقلت : أنتم أحرص مني وأبعد ، أأنا أحرص إذا طلبت تراثي وحقي الذي جعلني الله ورسوله أولى به ؟ أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه ، وتحولون بيني وبينه ؟ فبهتوا والله لا يهدي القوم الظالمين ) .
( قال له عبد الله بن عمر : كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر واحد من ساداتهم سبعين سيداً ، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم ؟ قال ( عليه السلام ) :
ما تركت بدر لنا مذيقا * ولا لنا من خلفنا طريقا .
5 . ( كتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى معاوية : نحن أهل البيت اختارنا الله واصطفانا ، وجعل النبوة فينا والكتاب لنا والحكمة والعلم والإيمان وبيت الله ، ومسكن إسماعيل ومقام إبراهيم ، فالملك لنا ويلك يا معاوية ، ونحن أولى بإبراهيم ونحن آله وآل عمران ونحن أولى بعمران ، وآل لوط ونحن أولى بلوط ، وآل يعقوب ونحن أولى بيعقوب ، وآل موسى وآل هارون وآل داود وأولى بهم ، وآل محمد
--------------------------- 568 ---------------------------
وأولى به ، ونحن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) .
( ما بال أقوامٍ غيروا سنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعدلوا عن وصيه لايتخوفون أن ينزل بهم العذاب ، ثم تلا هذه الآية : ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ . ثم قال : نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده ، وبنا يفوز من فاز يوم القيامة » .
6 . لم يكتف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بكلماته وخطبه في فضح عمل قريش ، حتى كتب منشوراً وأمرأن يقرأ يوم الجمعة في بلاد المسلمين ! وذلك أن الناس سألوه عن أبيبكر وعمر وعثمان ، فغضب ( عليه السلام ) وقال : قد تفرغتم للسؤال عما لا يعنيكم . . وأنا كاتب لكم كتاباً فيه تصريح ما سألتم ، إن شاء الله تعالى .
فدعا ( عليه السلام ) كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال له : أدخل عليَّ عشرة من ثقاتي ، فقال : سمهم لي يا أمير المؤمنين ، فقال : أدخل أصبغ بن نباتة ، وأبا الطفيل عامر بن وائلة الكناني ، ورزين بن حبيش الأسدي ، وجويرية بن مسهر العبدي ، وخندف بن زهير الأسدي ، وحارثة بن مضرب الهمداني ، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، ومصباح النخعي ، وعلقمة بن قيس ، وكميل بن زياد ، وعمير بن زرارة . فدخلوا عليه فقال لهم : خذوا هذا الكتاب ، وليقرأه عبيد الله بن أبي رافع وأنتم شهود كل يوم جمعة ، فإن شغب شاغب عليكم فأنصفوه بكتاب الله بينكم وبينه . وجاء فيه :
ولقد قبض الله محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ولأنا أولى الناس به مني بقميصي هذا ، وما ألقي في روعي ولاعرض في رأيي أن وجه الناس إلى غيري ) . وأوردناه في احتجاجه ( عليه السلام ) .
- *
--------------------------- 569 ---------------------------
4 . أعاد علي ( عليه السلام ) حرية الإنسان المسلم واحترامه
1 . اتفق الرواة والمؤرخون على أنه يوم وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ترك عدة من الصحابة مراسم جنازته ، وذهبوا خلسة إلى السقيفة وهي مضيف سعد بن عبادة ، وكان مريضاً هناك ، فصفقوا فوق رأس سعد على يد أبيبكر على أنه خليفة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم جاؤوا في جمع من الطلقاء إلى بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لا ليعزُّوهم بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بل هددوهم بأن يحرقوا عليهم الدار إن لم يخرجوا ويبايعوا أبا بكر ! وفي الدار فاطمةُ سيدة نساء أهل الجنة ، وعليٌّ عضد رسول الله ، والحسنُ والحسينُ سيدا شباب أهل الجنة ، وعدد من الصحابة المهاجرين والأنصار !
إن ما ارتكبه الحزب القرشي من منع النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه أن يكتب عهداً لأمته ويضمن لها الهداية إلى يوم القيامة ، وردهم أمره وجرأتهم عليهم ووصفهم له بأنه يهجر ، حتى غضب عليهم وطردهم !
ثم مسارعتهم إلى بيعة الفلتة بدون مشورة المسلمين !
ثم تهديدهم آل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بحرقهم أحياء إن لم يبايعوا !
كان عملاً هائلاً ، تمَّ فيه حَرْف سفينة الإسلام من مسارها النبوي إلى مسارٍ قبلي مظلم ! وكان أول ما فيه مصادرة حرية النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وحرية المسلمين جميعاً ، والتسلط على الأمة بثقافة الغارة القبلية ، وحرق البيوت على من فيها !
وقد روت المصادر حديث الانقلاب على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي قاده عمر بن الخطاب بمناصرة طلقاء قريش ، فقد وقف في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في مرضه وردَّ عليه ، ومنعه أن يكتب لأمته عهداً يُؤمِّنُها من الضلال ، ويجعلها سيدة العالم ! فصاح في وجه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إنه يهذي ، حسبنا كتاب الله . وصاح خلفه الطلقاء : القول ما قاله عمر ، لا تقربوا له شيئاً ! ويكفي أن نذكر هنا برواية للبخاري ( 1 / 36 ) : « عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وجعه قال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا : وكثر
--------------------------- 570 ---------------------------
اللغط ! قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع . فخرج ابن عباس يقول : إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وبين كتابه » !
وقد سماها عمر فلتة ، وابتزازاً لأمر الأمة بدون مشورة ، وقال من عاد
لمثلها فاقتلوه ! فحكم على نفسه وصاحبه ىالخىانة العظمي واستحقاق الموت !
2 . قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( 1 / 30 ) : ( إن أبا بكر أُخبر بقوم تخلفوا عن بيعته عند علي ، فبعث إليهم عمر بن الخطاب فجاء فناداهم وهم في دار علي ، وأبوا أن يخرجوا فدعا عمر بالحطب فقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها عليكم على ما فيها ! فقيل له : يا أبا حفص إن فيها فاطمة ! فقال : وإنْ ! فوقفت فاطمة على بابها فقالت : لاعهد لي بقوم حضروا أسوأ محضراً منكم ! تركتم جنازة رسول الله بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم تروا لنا حقاً !
فأتى عمر أبا بكر فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة ؟ فقال أبو بكر : يا قنفذ وهو مولى له إذهب فادع علياً ، قال فذهب قنفذ إلى علي فقال : ما حاجتك ؟ قال : يدعوك خليفة رسول الله . قال علي : لسريع ما كذبتم على رسول الله ماله خليفة غيري ! فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة قال فبكى أبو بكر طويلاً !
فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة ، فقال أبو بكر لقنفذ :
عُدْ إليه فقل : [ أمير المؤمنين ] يدعوك لتبايع ، فجاءه قنفذ فنادى ما أمر به فرفع عليٌّ صوته فقال : سبحان الله لقد ادعى ما ليس له ! فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة قال : فبكى أبو بكر طويلاً ! ثم قام عمر فمشى ومعه جماعة حتى أتوا باب فاطمة فدقوا الباب فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها باكية : يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة !
فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين ، فكادت قلوبهم تتصدع وأكبادهم تنفطر ! وبقي عمر معه قوم فأخرجوا علياً فمضوا به إلى أبيبكر فقالوا له : بايع ، فقال : إن لم أفعل فمَهْ ؟ قالوا : إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ! قال : إذاً تقتلون عبداً لله وأخاً لرسوله . قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ! وأبو بكر
--------------------------- 571 ---------------------------
ساكت لا يتكلم ! فقال عمر : ألا تأمر فيه بأمرك ! فقال : لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة إلى جنبه . فلحق عليٌّ بقبر رسول الله يصيح ويبكي وينادي : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) !
أقول : حدث هذا التحول يوم وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فاستبدلوا تأكيداته على احترام الإنسان بالإجبار على بيعة شخص منهم والتهديد بإحراق الممتنعين وهم أحياء ! ونتج عنه أن أبا بكر أوصى بالخلافة لعمر تحت السيف ، ثم أوصى بها عمر لعثمان تحت السيف ! وقد جعلنا كلمة ( أمير المؤمنين ) بين قوسين ، لأنهم ادعوها بعد ذلك .
3 . لقد عَلَّمَوا أجيال الأمة أن هذا العنف شرعي ومقدس ! فصرت تقرأ للشاعر
حافظ إبراهيم تمجيد هجومهم على بيت فاطمة ( عليها السلام ) ، بقوله :
وقولةٌ لعليٍّ قالها عمرٌ * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرَّقتُ دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايعْ وبنتُ المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص بقائلها * أمام فارس عدنان وحاميها !
فلا تعجب إن رأيت حكام المسلمين إلى اليوم يقتلون من يعارضهم ويفتخرون !
4 . قال ابن كثير في النهاية ( 8 / 123 ) : ( إن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها
دعا ابنه يزيد فقال : يا بني إني قد كفيتك الرحلة والترحال ، ووطأت لك الأشياء وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك أعناق العرب ، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي أسسته إلا أربعة نفر : الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبيبكر . فأما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقذته العبادة وإذا لم يبق أحد غيره بايعك ، وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه ليدعونه حتى يخرجونه عليك ، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه ، فإن له رحماً ماسة وحقاً عظيماً . وأما ابن أبيبكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ، ليست له همة إلا في النساء واللهو . وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب ، وإذا أمكنته فرصة وثب ، فذاك ابن الزبير ، فإن هوفعلها بك فقدرت عليه فقطعه إرْباً إرْباً ) !
--------------------------- 572 ---------------------------
وقال ابن قتيبة في عيون الأخبار ( 2 / 229 ) : ( اجتمع الناس عند معاوية وقام الخطباء لبيعة يزيد ، وأظهر قوم الكراهة ، فقام رجل من عُذْرة يقال له يزيد بن المقنع ، واخترط من سيفه شبراً ، ثم قال : أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية ، فإن يهلك فهذا وأشار إلى يزيد ، فمن أبي فهذا وأشار إلى سيفه . فقال معاوية : أنت سيد الخطباء ) ! فسيد خطباء الإسلام من يريد قطع رأس المخالف للأمير ! ( المستطرف : 1 / 138 ، والعقد الفريد : / 1082 ، ونهاية الإرب / 4466 ) .
وما دامت الخلافة تتم بالإجبار والإكراه ، فغيرها أولى ، وسياسة القهر شاملة !
5 . لا تستثن من بيعة الإكراه تحت السيف إلا بيعة علي ( عليه السلام ) وبعده عادوا إلى الإكراه ! فقد طبق علي ( عليه السلام ) سياسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في احترام الإنسان ! فلا إجبار عنده ولا حطبٌ ، ولا حرقُ بيوت ! وكيف يجبر أحداً على بيعته وهوالإنسان الصافي الإنسانية ، أباً عن جد ، من أبي طالب إلى إبراهيم ، المؤمن بمحمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وما أنزل عليه ، والمستوعب لقضية الإنسان وحقوقه المقدسة في شريعة الإسلام .
وهو التقي الذي يخاف الله في نملة يسلبها جلب شعيرة ، فكيف يظلم الإنسان الذي له كرامته وحرمته عند الله تعالى ؟ !
لقد حكى ( عليه السلام ) قصة الأشعث زعيم كندة ، لما أراد أن يرشيه ليوليه على ولاية ، فوسط له الوسطاء وتملق بالكلام ، وجاءه بطبق حلوى ، فقال ( عليه السلام ) : ( وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ، ومعجونة شنئتها ، كأنما عجنت بريق حية أو قيئها ( يقصد قطر السكَّر ) فقلت أصِلةٌ أم زكاةٌ أم صدقة ، فذلك محرم علينا أهل البيت . فقال : لاذا ولا ذاك ولكنها هدية . فقلت : هبلتك الهبول ، أعن دين الله أتيتني لتخدعني ، أمختبط أنت أم ذو جنة أم تهجر ! والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ، ما فعلت ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ! ما لعليٍّ ولنعيمٍ يفنى ولذةٍ لا تبقى ) ! ( نهج البلاغة : 2 / 18 ) .
لقد كان علي ( عليه السلام ) الخليفة الوحيد الذي لم يجبر أحداً على بيعته ، ففضح بذلك اضطهاد مَن قبله ومَن بعده للمسلمين ، ومصادرتهم لحريات الناس !
قالوا له : إن عبد الله بن عمر وسعد بن وقاص وأسامة بن زيد ، تخلفوا عن بيعته ،
--------------------------- 573 ---------------------------
واستأذنه عمار أن يأتي بهم ليجبرهم على البيعة كما جرت سنة خلفاء قريش !
فقال له : ( دع عنك هؤلاء الرهط الثلاثة ، أما ابن عمر فضعيف في دينه ، وأما سعد بن أبي وقاص فحسود ، وأما محمد بن مسلمة فذنبي إليه أني قتلت قاتل أخيه ، مرحباً يوم خيبر ) . ( المعيار والموازنة للإسكافي / 108 ) .
- *
5 . أعاد علي ( عليه السلام ) المساواة النبوية وألغى التمييز في العطاء
1 . كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعطي المسلمين من بيت المال راتباً شهرياً ، فيقسم الغنائم والضرائب على المسلمين بالسوية ، ولهذا العطاء أحكام ، فبعض الغنائم خاص بالمقاتلين ، وبعضها عام لكل فرد صغيراً أو كبيراً ، وبعضها حسب ما يراه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من مصلحة . والخمس خاص ببني هاشم ، وله أحكام .
لكن عمر بن الخطاب لم يطبق تلك الأحكام ، وميَّز بين المسلمين في العطاء تمييزاً فاحشاً ، بعناوين متعددة ، ألبسها ثوباً دينياً ، وتشريفاً قبلياً !
وأدى ذلك إلى فساد الصحابة حكام الولايات ، فحكم عليهم عمر بالخيانة وصادر نصف أموالهم ، لأنهم أكثروا من أكل الحرام حسب تعبيره !
2 . أما عثمان فكانت الأموال في عصره أكثر ، فقد جاءته غنائم الفتوحات وكنوزها
لكنه رفع شعار صلة الرحم لبني أمية ، وكان يوزع ثروات الدولة عليهم ويقول : لو أن مفاتيح الجنة بيدي لأعطيتها لبني أمية ليدخلوها أجمعين !
فجعل منهم ومن مقربيهم طبقة تسلطت على المسلمين بالظلم ، حتى صادروا الأراضي الجيدة وبعض أملاك للمسلمين ، وتعاظمت ثروتهم فكان بعضهم يكسرالذهب بالفؤوس ، في حين كان كثير من المسلمين يعيشون الفقر والفاقة ، وبعضهم يفتقد حتى القوت والثياب !
وتحقق بذلك قول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دُولاً ، ودين الله دغلاً ، وعباد الله خَوَلاً ) . رواه الحاكم ( 4 / 480 ) وصححه على شرط مسلم . وبنو العاص هم فرع عثمان من بني أمية .
--------------------------- 574 ---------------------------
3 . أعاد علي ( عليه السلام ) التسوية النبوية في العطاء ، وألغى تمييزات أبيبكر وعمر وعثمان ،
وأعاد الأراضي المصادرة . ولما عوتب في ذلك قال : ( أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ، والله ما أطُورُ به ما سمَر سمير ، وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً . لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف وإنما المال مال الله ! ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله ! ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ، ولا عند غير أهله ، إلا حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودهم ، فإن زلت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم ، فشرُّ خَدِينٍ وألْأَمُ خليل ) . ( نهج البلاغة : 2 / 6 ) .
ولم يميز علي ( عليه السلام ) نفسه وعشيرته عن عامة المسلمين ، وكان بعضهم في حاجة ماسة ! قال ( عليه السلام ) : ( والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً ، وأجرًّ في الأغلال مصفداً ، أحبُّ إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، أو غاصباً لشئ من الحطام . وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ، ويطول في الثرى حلولها !
والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق ، حتى استماحني من بُرِّكُم صاعاً ، ورأيت صبيانه شعث الشعور غُبرالألوان من فقرهم ، كأنما سُوِّدت وجوههم بالعِظْلم ، وعاودني مؤكداً وكرر علي القول مردداً ، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده ، مفارقاً طريقتي ، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها وكاد أن يحترق من ميسمها ! فقلت له : ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه ! أتئن من الأذى ولا أئن من لظى ) . ( نهج البلاغة : 2 / 216 ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 183 ) : ( وأعطى الناس بالسوية لم يفضل أحداً على أحد ، وأعطى الموالي كما أعطى الصلبية ، وقيل له في ذلك فقال : قرأت ما بين الدفتين فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا ، وأخذ عوداً من الأرض ، فوضعه بين إصبعيه ) .
--------------------------- 575 ---------------------------
4 . ولم يعجب ذلك طلحة والزبير ، ففي دعائم الإسلام ( 1 / 384 ) : أنه أمر عماراً وعبيد الله بن أبي رافع ، وأبا الهيثم بن التيهان ، أن يقسموا فيئاً بين المسلمين ، وقال لهم : إعدلوا فيه ولا تفضلوا أحد على أحداً . فحسبوا فوجدوا الذي يصيب كل رجل من المسلمين ثلاثة دنانير ، فأعطوا الناس . فأقبل إليهم طلحة والزبير ومع كل واحد منهما ابنه ، فدفعوا إلى كل واحد منهم ثلاثة دنانير ، فقال طلحة والزبير : ليس هكذا كان يعطينا عمر ، فهذا منكم أو عن أمر صاحبكم ؟ قالوا : بل هكذا أمرنا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فمضيا إليه فوجداه في بعض أمواله قائماً في الشمس على أجير له يعمل بين يديه ، فقالا : ترى أن ترتفع معنا إلى الظل ؟ قال : نعم ، فقالا له : إنا أتينا إلى عمالك على قسمة هذا الفئ ، فأعطوا كل واحد منا مثل ما أعطوا سائر الناس ، قال : وما تريدان ؟ قالا : ليس كذلك كان يعطينا عمر . قال : فما كان رسول الله يعطيكما ؟ فسكتا ، فقال : أليس كان يقسم بالسوية بين المسلمين من غير زيادة ؟ قالا : نعم . قال : أفسنة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أولى بالاتباع عندكما أم سنة عمر ؟ قالا : سنة رسول الله ولكن يا أمير المؤمنين لنا سابقة وغَنَاء وقرابة ، فإن رأيت أن لاتسوينا بالناس فافعل . قال : سابقتكما أسبق أم سابقتي ؟ قالا : سابقتك ، قال : فقرابتكما أقرب أم قرابتي ؟ قالا : قرابتك ، قال : فغَنَاؤكما أعظم أم غَنَائي ؟ قالا : بل أنت أعظم غَنَاء ، قال : فوالله ما أنا وأجيري هذا في هذا المال إلا بمنزلة واحدة ، وأومى بيده إلى الأجير الذي بين يديه !
قالا : جئنا لهذا وغيره ، قال : وما غيره ؟ قالا : أردنا العمرة فَأْذَنْ لنا ، قال : انطلقا فما العمرة تريدان ! ولقد أُنبئت بأمركما وأُريت مضاجعكما ! فمضيا وهو يتلو وهما يسمعان : فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عظيماً ) !
5 . أعلن الإمام ( عليه السلام ) بعد مبايعته إلغاء سندات تمليك الأراضي من عثمان ، والمعروفة
بقطائع عثمان ، وإعادتها إلى بيت المال ، قال ( عليه السلام ) : ( ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لايبطله شئ ، ولو وجدته قد تُزوج به النساء ، وفُرق في البلدان لرددته إلى حاله ، فإن في
--------------------------- 576 ---------------------------
العدل سعة ، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق .
قال الكلبي : ثم أمر بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على المسلمين فقبض ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر أن لا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وغير داره ، وأمرأن ترجع الأموال التي أجازبها عثمان حيث أصيب أو أصيب أصحابها ، فبلغ ذلك عمرو بن العاص وكان بأيلة من أرض الشام ، أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها ، فكتب إلى معاوية : ما كنت صانعاً فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه ، كما تقشر عن العصا لحاها ) ! ( شرح النهج : 1 / 270 ) .
وكانت ملكية ابن العاصي في مصر وفلسطين والشام والحجاز بقدر ، ميزانية دولة !
قال في التراتيب الإدارية ( 2 / 402 ) : « وممن كان يعد من أغنياء الصحابة عمرو بن العاص ، خرج ابن عساكر أن عمراً كان يلقح كروم الوهط بستان له بالطائف بألف ألف خشبة كل خشبة بدرهم ، فالكرم الذي يحتاج إلى خشب بألف ألف كم تكون غلته ! وكانت له دوركثيرة بمصر ودور بدمشق منها دار بجرون ، ودار في ناحية الجابية ، ودار تعرف بدار بني أحيحة ، ودار تعرف بالمارستان ) .
ولم يشبع عمرو حتى أخذ خراج مصر طُعمةً من معاوية !
قال البلاذري ( 2 / 285 ) : ( ثم قدم على معاوية فذاكره أمره ، فقال : أما عليٌّ فلا تسوي العرب بينك وبينه في شئ من الأشياء ، وإن له في الحرب لَحَظّاً ما هو لأحد من قريش . قال : صدقت وإنما نقاتله على ما في أيدينا ونلزمه دم عثمان .
فقال عمرو : وإن أحق الناس أن لا يذكر عثمان لأنا وأنت ، أما أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين ، وأما أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي فسار إليه . فقال معاوية : دع ذا وهات فبايعني . قال : لا لعمرو الله لا أعطيك ديني حتى آخذ من دنياك ! فقال معاوية : سل . قال : مصرتطعمني إياها . . فلما أصبح معاوية دخل عليه عتبة بن أبي سفيان فقال له : يا معاوية ما تصنع ، أما ترضى أن تشتري من عمرو دينه بمصر ! فأعطاه إياها » .
--------------------------- 577 ---------------------------
جواب شبهة
قد يقال هنا : ألم يكن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعطي شخصاً قليلاً وآخركثيراً ، فلماذا لا يجوز للخليفة التمييز في العطاء بين المسلمين ؟
والجواب : أن لبيت المال أحكاماً ، وملكية المال أنواع . مثلاً غنائم حنين كانت ملكاً للمقاتلين وهم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) وبقية بني عبد المطلب ، ولم يكن للمسلمين حق فيها لأنهم فروا وما رجعوا حتى كان النصر . كما شهد ابن هشام ، وقد أجاز المقاتلون رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يتصرف فيها حسب ما يراه ، فميز زعماء قريش الطلقاء عن غيرهم ليتألف قلوبهم .
فالأصل أن بيت المال سوية بين المسلمين ، وهناك أموال ملك للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) له أن يميز فيها بالعطاء ، كما أن مالية علي من ينبع وغيرها بلغت عشرات ألوف الدنانير ومئات ألوف الدراهم ، وله حق التمييز في إعطائها .
وقد بينا في مقارنة ماليته ( عليه السلام ) ومالية غيره أنه الخليفة الوحيد الذي كان ينفق على نفسه وضيوفه من ماله ، ولم يتناول شيئاً من بيت المال إلا سهمه كواحد من المسلمين . بينما كان أبو بكر وعمر يتجران بمالهما الشخصي ولا ينفقان منه ، وينفقان من بيت المال ويسقرضان منه ، وقد توفيا وعليهما مبالغ كبيرة لبيت المال لم يوفها ورثتهما ، وأما عثمان فكان يصرح أن بيت المال ملك له ولبني أمية !
وقد يقال : لماذا لم يعط أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخاه عقيلاً ، وأحمى له حديدة كما ورد ؟
والجواب : أنه كان يعطيه ويخصه من ماله ، لكن عقيلاً كان كثر الإنفاق ، ولما جاء إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان نفد ماله الشخصي ، وأراد منه من بيت المال فلم يعطه ولما ألح عليه أحمى له حديدة ، فاستأذنه أن يذهب إلى معاوية ، فأذن له . وسيأتي المزيد في هذا الموضوع .
- *
--------------------------- 578 ---------------------------
6 . أعاد علي ( عليه السلام ) دولة القانون والشريعة
1 . فعلي ( عليه السلام ) هوالخليفة الوحيد الذي أعطى الحرية لمعارضيه وناقديه والعاملين ضده ، ولم ينقص من حقوقهم من بيت المال وغيره شيئاً ، حتى لو تجمعوا ودعوا إلى الخروج عليه والثورة ، ما لم يباشروا في ذلك !
( كان ( عليه السلام ) جالساً في أصحابه فمرت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم ! فقال : إن أبصار هذه الفحول طوامح ، وإن ذلك سبب هُبابها ، فإذا نظرأحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله ، فإنما هي امرأة كامرأة ! فقال رجل من الخوارج : قاتله الله كافراً ما أفقهه ! فوثب القوم ليقتلوه فقال ( عليه السلام ) : رويداً ، إنما هو سبٌّ بسب ، أو عفوٌ عن ذنب ) . ( نهج البلاغة : 4 / 98 ) .
يقول لهم : إن الناس أحرار ، ومن سب رئيس الدولة فجزاؤه السب ، أو العفو عنه ! وبهذه الحرية لخصومه ، فضح القرشيين الذين بطشوا بالناس للتهمة والظنة ، وقتلوهم على الكلمة ، وجعلوا رئيس الدولة أعظم حرمةً من الله تعالى !
2 . وعلي ( عليه السلام ) هوالخليفة الوحيد الذي لم يجبر أحداً من المسلمين على الحرب معه ، بل ندب المسلمين إلى نصرته ، وأوضح لهم حقه وباطل أعدائه ، فاستجاب له من أراد ، وتخلف عنه من أراد ! ولم يُنقص من حقوقهم شيئاً !
ففضح بذلك سياسة إجبار الناس على البيعة وعلى القتال وغيره .
3 . وعلي ( عليه السلام ) هوالخليفة الوحيد الذي لم تشتك رعيته من ظلمه ، بل كان يشكو هو من ظلم رعيته له ويقول : ( أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم ، ليس لأنهم أولى بالحق منكم ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقي ! ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي ! إستنفرتكم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم تسمعوا ، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا . أشهودٌ كغياب ، وعبيدٌ كأرباب ! أتلو عليكم الحِكَم فتنفرون منها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها ! وأحثكم على جهاد
--------------------------- 579 ---------------------------
أهل البغي فما آتي على آخر القول حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ، ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم ! أقوِّمكم غَدْوةً وترجعون إليَّ عشية كظهر الحية ! عجزَ المقوِّم وأعضل المقوَّم !
أيها الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم ! صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه ، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ! لوددتُ والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم ، وأعطاني رجلاً منهم ) . ( نهج البلاغة : 1 / 187 ) .
وفي كتاب سليم / 213 : ( ألا إني قد استنفرتكم فلم تنفروا ونصحتكم فلم تقبلوا ، ودعوتكم فلم تسمعوا . فأنتم شهودٌ كغُيَّاب وأحياء كأموات ، وصمٌّ ذووا أسماع ، أتلوعليكم الحكمة وأعظكم بالموعظة الشافية الكافية ، وأحثكم على الجهاد لأهل الجور ، فما آتي على آخر كلامي حتى أراكم متفرقين حلقاً شتى تتناشدون الأشعار ، وتضربون الأمثال ، وتسألون عن سعر التمر واللبن !
تَبَّتْ أيديكم ، لقد سئمتم الحرب والاستعداد لها ، وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها ، شغلتموها بالأباطيل والأضاليل والأعاليل . ويحكم ، أغزوهم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غزيَ قوم قطُّ في عقر دارهم إلا ذلوا ) !
4 . وعليٌّ ( عليه السلام ) يحكم بالشرع والعقل ، بينما يحكم غيره بالنفس القبلي والمزاج الشخصي . وعلي ( عليه السلام ) يضع البرامج لنفسه وعماله ، بينما يحكم غيره بأسلوب شيخ القبيلة !
ويكفي أن نقرأ عهده ( عليه السلام ) لمالك الأشتر لما ولاه مصر ، وما تضمنه من تعليمات وأفكار وبرامج ، وهي منظومة قانونية نابعة من أحكام شرعية .
- *
--------------------------- 580 ---------------------------
7 . وغاب القمع القرشي في عهد علي ( عليه السلام )
1 . بدأ القرشيون عنفهم بهجومهم على بيت علي وفاطمة ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وتهديدهم بحرق البيت بمن فيه إن لم يبايعوا ! ولما تأخروا أضرموا الحطب بالباب الخارجي وأحرقوه !
2 . وقد أبو بكر أحرق جماعة بالنار ، وأفتى له بذلك أبو موسى ومعاذ ! قال في فتح الباري ( 12 / 243 ) : ( فأتى بحطب فألهب فيه النار ) . وقال ابن كثير في النهاية ( 6 / 352 ) : ( بعث به إلى البقيع ، فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار ، فحرقه وهو مقموط ) !
وقال اليعقوبي ( 2 / 134 ) : ( وحرق أيضاً رجلاً من بني أسد يقال له : شجاع بن ورقاء ) .
وقال في نهاية الإرب ( 6 / 166 ) : ( وقد أحرق أبو بكر الصدّيق قوماًمن أهل الردة ) .
3 . واشتهرت قسوة عمر قبل الإسلام وبعده ، فكان يعذب ابن عمه لأنه أسلم ( بخاري : 8 / 56 ) وكان يضرب جارية سوداء لبني مؤمل : ( حتى إذا ملَّ قال : إني أعتذر إليك ! إني لم أتركك إلا ملالة ! فتقول : كذلك فعل الله بك ) !
( ابن هشام : 1 / 211 ) .
4 . وبعد إسلامه : ( سمع نساء يبكين فزبرهن عمر ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : يا عمر دعهن فإن العين دامعة ، والنفس مصابة ، والعهد قريب ) . ( الحاكم : 1 / 381 ) .
5 . وفي خلافته ضرب قريبات خالد بن الوليد ، وفيهن ميمونة زوجة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( فجعل يُخرجهن عليه وهو يضربهن بالدرة فسقط خمار امرأة منهن فقالوا : يا أمير المؤمنين خمارها ! فقال : دعوها فلا حرمة لها ) ! ( كنز العمال : 15 / 730 ) .
6 . ومات أبو بكر مسموماً فلم يفتح عمر ملف قتله ، وضرب أخته وقريباته وفيهن عائشة لأنهن أقمن مجلس نوْحٍ عليه : ( لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح ، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها ، فنهاهن عن البكاء على أبيبكر فأبين أن ينتهين فقال عمر لهشام بن الوليد : أُدْخُل فأَخرج إليَّ ابنة أبي قحافة أخت أبيبكر ! فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر : إني أحرِّج عليك بيتي فقال عمر لهشام : أدخل فقد
--------------------------- 581 ---------------------------
أذنت لك ، فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبيبكر إلى عمر فعلاها الدرة ) .
( تاريخ الطبري : 2 / 614 ) .
7 . وكان الصحابة يخافون منه إلى حد الرعب ! ( بينما عمر يمشي وخلفه عدة من
أصحاب رسول الله وغيرهم ، بدا له فالتفت فما بقي منهم أحداً إلا سقط إلى الأرض على ركبتيه ) ! ( تاريخ المدينة : 2 / 681 ) .
8 . وكان له شاربان كبيران ، فدعا الحجام ليأخذ منهما فتنحنح : ( فأحدث الحجام ، فأعطاه أربعين درهماً ) . ( تاريخ المدينة : 2 / 683 ) .
9 . ( مرَّ برجل يكلم امرأة على ظهر الطريق فعلاه بالدرة فقال له الرجل : يا أمير المؤمنين إنها امرأتي ! قال : فهلا حيث لايراك الناس ) ! ( كنز العمال : 5 / 462 ) .
10 . ومزق ثياب رجل لأنها ناعمة ! ( دخل على عمر وعليه ثوب ملالاً ، فأمر به
عمر فمزق عليه فتطاير في أيدي الناس ) ! ( مصنف عبد الرزاق : 11 / 80 ) .
11 . وكان رجل يصلي مقابل آخر فضربه وهو يصلي ! ( رأى رجلاً يصلي إلى وجه
رجل فعلاهما بالدرة ) . ( مبسوط السرخسي : 1 / 38 ) .
12 . ( أن أعرابياً شرب نبيذاً من إداوة عمر فسكر فأمر به فجلد ! فقال : إنما شربت هذا من إداوتك ! فقال : إنما أجلدك على السكر ) ! ( لسان الميزان : 3 / 27 ) .
13 . وضرب طفلاً فرح بثيابه ! ( دخل ابنٌ لعمر بن الخطاب عليه وقد ترجَّل ( مشَّط ) ولبس ثياباً فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه ! فقالت له حفصة : لم ضربته ؟ قال : رأيته قد أعجبته نفسه ، فأحببت أن أصغِّرها إليه ) ! ( عبد الرزاق : 10 / 416 ) .
14 . وبرَّر ضربه لزوجته بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : اضربوا نساءكم ولا تسألون عنه ! ( الأشعث بن قيس قال : ضِفْتُ عمر ليلةً ، فلما كان في جوف الليل قام إلى امرأته يضربها فحجزت بينهما . فلما أوى إلى فراشه قال لي : يا أشعث إحفظ عني شيئاً سمعته عن رسول الله : لا يسأل الرجل فيمَ يضرب امرأته ) ! ( ابن ماجة : 1 / 639 ) .
--------------------------- 582 ---------------------------
15 . وأمر عامله بتخريب مدينة الشوش ، ثم ضربه لأنه نفذ أمره ! ( كتب لعمير بن سعد عهداً بأن يخرب عرب سوس إذا لم يستجيبوا لشروطه ، فلما خربها بعد سنة علم عمر بذلك فضربه بالدرة ، فدخل عليه عمير منفرداً وطلب منه عهده الذي كتبه إليه ! فقال عمر : رحمك الله فهلا قلت لي ذلك وأنا أضربك ؟ قال : كرهت أوبخك يا أمير المؤمنين ) ! ( بغية الطلب : 1 / 332 ) .
16 . وضرب زعيم ربيعة لأن شخصاً قال : هذا سيد ربيعة ! ( كان قاعداً وفي يده الدرة والناس عنده فأقبل الجارود ، فلما أتى عمر قال له رجل : هذا سيد ربيعة فسمعها عمر وسمعها الجارود وسمعها القوم ، فلما دنا الجارود من عمر خفقه بالدرة على رأسه ! فقال الجارود : بسم الله ، مه يا أمير المؤمنين ؟ قال : ذلك ! قال : أما والله لقد سمعتَها وسمعتَ ما قال الرجل ، قال : فمه ؟ قال : خشيت أن يخالط قلبك منها شئ ، فأحببت أن أطأطئ منك ) ! ( تاريخ المدينة : 2 / 690 ) .
17 . وضرب كبير الأنصار وشيبتهم لأن بعض الناس مشوا خلفه ! ( أتينا أبيَّ بن كعب لنحدث إليه فلما قام قمنا ونحن نمشي خلفه ، فرهقنا عمر فتبعه فضربه عمر بالدرة ! قال فاتقاه بذراعيه فقال يا أمير المؤمنين ما تصنع ؟ قال : أو ما ترى ، فتنة للمتبوع مذلة للتابع ) ! ( سنن الدارمي : 1 / 132 ) .
18 . وأرسل في إحضار امرأة فخافت وأسقطت جنينها ! ( بعث إلى امرأة مغيبة
( زوجها غائب ) كان يُدخل عليها قالت : يا ويلها مالها ولعمر ! فبينا هي في الطريق إذا فزعت فضربها الطلق فألقت ولداً ، فصاح الصبي صيحتين فمات ! فاستشار عمر أصحاب النبي فأشار بعضهم أن ليس عليك شئ إنما أنت والٍ ومؤدب ، وصَمَتَ عليٌّ فأقبل عليه عمر فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم ، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك ، إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته ) ! ( المغني : 9 / 579 ) .
19 . كان يجبر الجواري على التهتك ويضربهن إذا تستَّرن ! ( كان إذا رأي جارية متقنعة علاها بالدرة وقال : ألقي عنك الخمار يادفار ، أتتشبهن بالحرائر ) ! ( المبسوط ( 1 / 212 )
--------------------------- 583 ---------------------------
والدفار : مُنْتنة الفرج بالدود ) ! ( كنَّ إماء عمر يخدمننا كاشفات عن شعورهن تضرب ثديهن ) ! ( البيهقي : 2 / 227 وابن أبي شيبة : 2 / 82 ، وصححه الألباني في إرواء الغليل : 6 / 203 ) .
20 . أفرط في تعذيب صبيغ التميمي لأنه سأل عن تفسير آية !
ففي سنن الدارمي ( 1 / 54 ) : ( فجعل يسأل عن متشابه القرآن . . . فأرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دَبِرَة ثم تركه حتى برأ ثم عاد له ! ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعود له ! فقال صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً . . . وفي رواية : فضرب مائة وجعل في بيت ، فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى ! وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري : إمنع الناس من مجالسته ! وأن يحرمه عطاءه ورزقه ! رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب !
قال الشافعي في تحريم البحث العلمي : حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ ! أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على علم الكتَّاب ) ! ( راجع تدوين القرآن / 243 ) .
21 . قال في شرح النهج ( 12 / 45 ) : ( كان عمر إذا غضب على بعض أهله لم يشتف
حتى يَعَضَّ يده ) . يقصد يضربه بالسوط ويعضه !
22 . أما في عهد عثمان وعماله الأمويين فقد تقدم كيف نفى عثمان أبا ذر وحرمه من
العطاء ، وكيف هجم على عمار وضربه ومعه جلاوزته وداس على بطنه بقدميه فأصابه الفتق وأغمي عليه . وكيف أمر بضرب ابن مسعود وكسر ضلعه حتى أغمي عليه . أما عمال عثمان حكام الولايات فكانوا أعنف منه وأقسى !
23 . جمع معاوية المسلمين أهل الأمصار ليبايعوا يزيداً ، وأحضر خطيباً هو يزيد
بن المقنع الكندي فجرد سيفه وقال : ( أيها الناس إن أمير المؤمنين هذا وأشار بيده إلى معاوية ! فإذا مات فوارث الملك هذا وأشار بيده إلى يزيد ! فمن أبي فهذا وأشار بيده إلى السيف ! فقال له : أجلس فأنت سيد الخطباء ) ! ( الكامل : 3 / 352 ) .
--------------------------- 584 ---------------------------
24 . أوصى معاوية يزيداً أن يقطِّع ابن الزبير إرباً إرباً ، فقال له ! ( وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب وإذا أمكنته فرصة وثب ، فذاك ابن الزبير ، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً ) ! ( النهاية : 8 / 123 ) .
25 . فرض الأمويون التجنيد ، وإلا فالتنُّور ! قال في تاريخ دمشق ( 10 / 256 ) : ( بشر بن مروان بن الحكم كان إذا ضرب البعث ( التجنيد ) على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه ، أقامه على كرسي ثم سمَّر يديه في الحائط ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه ، فلا يزال يتشحَّط حتى يموت ! وإنه ضرب البعث على رجل حديث عهد بعرس ابنة عمه ، فلما صار في مركزه كتب إلى ابنة عمه كتاباً ، ثم كتب في أسفله :
لولا خلافةُ بشرٍ أو عقوبتُه * وأن يرى حاسدٌ كفي بمسمارِ
إذاً لعطلت ثغري ثم زرتكم * إن المحب إذا ما اشتاق زوَّارُ ) .
26 . وأضاف في شرح النهج ( 12 / 45 ) : أن أنس بن مالك قال : كان عمر ومن بعده من الولاة إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم وأقاموهم للناس ، حتى جاء زياد فضربهم بالسياط ، فجاء مصعب فحلق مع الضرب ، فجاء بشر بن مروان ، فكان يصلب تحت الإبطين ، ويضرب الأكف بالمسامير . فلما جاء الحجاج قال : كل هذا لعب ! فقتل العصاة بالسيف ) !
27 . روى في شرح النهج ( 18 / 270 ) كيف قتل المنصورعبدالله بن المقفع ، قال : ( اعتزم قتله فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع فأدخل ابن المقفع قبلهم ، وعدل به إلى حجرة في دهليزه ، وجلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان ، فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاوية وعنده غلمانه وتنور نار يسجر ! فقال له سفيان : أتذكر يوم قلت لي كذا ؟ ! أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلةً لم يُقتل بها أحد ! ثم قطع أعضاءه عضواً عضواً وألقاها في النار وهو ينظر إليها ! حتى أتى على جميع جسده ، ثم أطبق التنور عليه وخرج إلى الناس فكلمهم !
فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج ، فمضى وأخبر عيسى
--------------------------- 585 ---------------------------
بن علي وأخاه سليمان بحاله ، فخاصما سفيان بن معاوية في أمره فجحد دخوله إليه فأشخصاه إلى المنصور ، وقامت البينة العادلة أن ابن المقفع دخل دار سفيان حياً سليماً ولم يخرج منها !
فقال المنصور : أنا أنظر في هذا الأمر إن شاء الله غداً ، فجاء سفيان ليلاً إلى المنصور فقال : يا أمير المؤمنين ، إتق الله في صنيعتك ومتبع أمرك ، قال : لا تُرَعْ ! وأحضرهم في غد وقامت الشهادة وطلب سليمان وعيسى القصاص ، فقال المنصور : أرأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع ، ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب وأومأ إلى باب خلفه ، من ينصب لي نفسه حتى أقتله بسفيان ؟ فسكتوا واندفع الأمر ! وأضرب عيسى وسليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها ، وذهب دمه هدراً ) !
أقول : كان ابن المقفع كاتب والي البصرة ، وكان ذنبه أنه كتب أماناً عن لسان المنصور لعم المنصور ، وشدد فيه حتى لا يستطيع المنصور التحايل عليه ، فأمر بقتله !
28 . قال في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 102 ) : ( لما بنى المنصورالأبنية ببغداد جعل يطلب العلوية طلباً شديداً ، ويجعل من ظفر منهم في الأسطوانات المجوفة المبنية من الجص والآجر ! فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه عليه شعر أسود ، من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب ، فسلمه إلى البَنَّاء الذي كان يبني له ، وأمره أن يجعله في جوف أسطوانة ويبني عليه ، ووكل عليه من ثقاته من يراعى ذلك حتى يجعله في جوف أسطوانة بمشهده ، فجعله البناء في جوف أسطوانة ، فدخلته رقه عليه ورحمةٌ له ، فترك في الأسطوانة فُرْجةً يدخل منها الرَّوْح ، فقال للغلام : لا بأس عليك فاصبر فإني سأخرجك من جوف هذه الأسطوانة إذا جن الليل ، فلما جن الليل جاء البناء في ظلمه فأخرج ذلك العلوي من جوف تلك الأسطوانة وقال له : إتق الله في دمي ودم الفعلة الذين معي ، وغيِّب شخصك ، فإني إنما أخرجتك ظلمةَ هذه الليلة من جوف هذه الأسطوانة لأني خفت أن تركتك في جوفها أن يكون جدك رسول الله يوم القيامة خصمي بين يدي الله عز وجل ) !
--------------------------- 586 ---------------------------
29 . وفي أعيان الشيعة ( 1 / 28 ) : ( وفعل المنصور ببني الحسن السبط الأفاعيل ، فحملهم من المدينة إلى الهاشمية بالعراق مقيدين مغللين ، وحبسهم في سجن لا يعرفون فيه الليل من النهار ، وإذا مات منهم واحد تركه معهم ! ثم هدم السجن عليهم ) . ( راجع مروج الذهب : 3 / 299 ، وابن الأثير : 5 / 551 ) .
30 . يفتخر المتعصبون بعصر هارون الرشيد ويعتبرونه قمة ازدهار الدولة الإسلامية التي شملت أكثر العالم يومها ! لكن في تاريخ الطبري ( 6 / 525 ) : ( كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخ رافع ( أسيراً ) قال فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع ، وعليه فرش بقدر ذلك أو قال أكثر ، وفي يده مرآة ينظر إلى وجهه . قال : فسمعته يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ونظر إلى أخي رافع فقال : أما والله يا ابن اللخناء ( القذرة ) إني لأرجو أن لا يفوتني خامل يريد رافعاً ، كما لم تفتني ! فقال له : يا أمير المؤمنين قد كنت لك حرباً وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله أكن لك سلماً ، ولعل الله أن يليِّن لك قلب رافع إذا علم أنك قد مننت عليَّ ! فغضب وقال : والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت : أقتلوه ! ثم دعا بقصاب فقال : لاتشحذ مداك ، أتركها على حالها ( لاتحدَّ سكاكينك ) وفَصِّلْ هذا الفاسق وعجِّل لايحضرن أجَلي وعضوان من أعضائه في جسمه ! ففصله حتى جعله أشلاء فقال : عُدَّ أعضاءه فعددت له أعضاءه فإذا هي أربعة عشر عضواً ، فرفع يديه إلى السماء فقال : اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك فبلغت فيه رضاك ، فمكني من أخيه ! ثم أغمي عليه وتفرق من حضره ، ثم مات من ساعته ) !
31 . وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 1 / 172 ) : ( كان الجلودي في خلافة الرشيد لما خرج محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة ، بعثه الرشيد وأمره إن ظفر به أن يضرب عنقه وأن يُغير على دور آل أبي طالب وأن يسلب نساءهم ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً ! ففعل الجلودي ذلك ، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر ، فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) هجم على داره مع خيله ، فلما نظر إليه الرضا جعل النساء كلهن في بيت ، ووقف على باب البيت ، فقال الجلودي
--------------------------- 587 ---------------------------
لأبي الحسن : لا بد من أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين ! فقال الرضا : أنا أسلبهنَّ لك ، وأحلف أني لا أدع عليهن شيئاً إلا أخذته ! فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن ، فدخل أبو الحسن الرضا فلم يدع عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرهن إلا أخذه منهن ، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير ) !
32 . في مقاتل الطالبيين / 396 : ( استعمل المتوكل على المدينة ومكة عمر بن الفرج
الرخجي ، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ، ومنع الناس من البر بهم ، وكان لا يبلغه أن أحداً أبر أحداً منهم بشئ وإن قلَّ إلا أنهكه عقوبة وأثقله غرماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر ، إلى أن قتل المتوكل ) !
33 . وفي وفيات الأعيان ( 5 / 100 ) : ( كان ابن الزيات ( رئيس وزراء المتوكل ) قد اتخذ
تنوراً من حديد وأطراف مساميره محددة إلى داخل ، وهي قائمة مثل رؤوس المسال ، في أيام وزارته ، وكان يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال ، فكيفما انقلب واحد منهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه فيجد لذلك أشد الألم ، ولم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة ، وكان إذا قال له أحد منهم : أيها الوزير إرحمني ، فيقول له : الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة ) !
34 . ( سار إلى خلاط فنهب وسبى الحريم ، واسترق الأولاد وقتل الرجال ، وخرب
القرى ، وفعل ما لا يفعله أهل الكفر ) . ( السلوك للمقريزي : 1 / 351 ) .
( سنة سبع وعشرين وست مائة ، فيها أخذ السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة خلاط ، بعد حصار طويل أقام عليها عشرة أشهر . . وامتلأت الجبال والأودية منهم ، وشبعت الوحوش والطيور من رممهم ، وعظم الملك الأشرف في النفوس ) ! ( النجوم الزاهرة : 6 / 273 ) .
( وأخذ زوجة الأشرف ودخل بها من ليلته ) . ( نهاية الإرب للنويري : 29 / 136 )
--------------------------- 588 ---------------------------
35 . وفي أعيان الشيعة ( 2 / 69 ) : ( الشيخ أيوب بن عبد الباقي البوري البحراني . هو من أعيان العلماء ، وفي السنة التاسعة بعد الألف رحل من البحرين لضيق المعيشة وقطن في الديار المصرية ، وصار مدرساً للشافعية حتى فهموا منه التشيع ، فقتل في حجرته في السنة العاشرة بعد الألف ) .
36 . أوردنا في المجلد الثاني من كتاب : ألف سؤال وإشكال / 455 مسألة 165 ، فصلاً عن قسوة الحكام ، وكيف برروها بأن نسبوا القسوة والمُثْلة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وذكرنا قول الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) إن أنس بن مالك كذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ليبرِّرَ للحكام انتهاكهم لحقوق الإنسان ، وتعذيبهم من خالفهم من المسلمين ، فزعم أنس أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عذب شخصاً ودقَّ مساميرَ في يده بالحائط !
قال الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) : ( إن أول ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه سمَّر يد رجل إلى الحائط ، ومن ثم استحل الأمراء العذاب ) ! ( علل الشرائع : 2 / 541 ) .
وهذا يضع يدنا على سبب نسبتهم قسوة القلب والتعذيب والمُثْلة إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فهو مكذوبات متعمدة لتبرير سلوك خلفائهم القرشيين ! ثم ىقولون هم الرحماء بىنهم في القرآن !
37 . إن حاضرالعالم الإسلامي نسخة عن ماضيه ! فما زال الحاكم فيه إلى يومنا : حاكم أوحد ورأي أوحد ، وما زال قمع الرأي المخالف واضطهاد أهله ! ثقافة للناس لأنه موروث من نظام ديني يتصورونه ( مقدساً ) !
ولا استثناء من ذلك إلا حكم علي ( عليه السلام ) فقد توقف فيه القمع والاضطهاد ثم عاد بعده !
وقد أخبرالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أصحابه بأنهم سيقتلون بعده على السلطة ، وأكد عليهم مرة بعد أخرى على حفظ حقوق الإنسان المسلم ودمه وعرضه .
وأخبرهم بأنهم سيرتدون على أدبارهم ويسفكون دماءهم من أجل الدنيا ، على سنة من قبلهم من اليهود والنصارى ، كما قال تعالى : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ . وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ
--------------------------- 589 ---------------------------
مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ .
وأخبرهم بأنهم سيدخلون النار إلا أقل القليل ! ففي البخاري ( 1 / 24 و 5 / 126 ) أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال في حجة الوداع : ( أيُّ يوم هذا أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى . قال : فأي شهرهذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : أليس بذي الحجة ؟ قلنا : بلى . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا . ليبلغ الشاهد الغائب ) . وفي ( ) : ( ألا ، فلاترجعوا بعدي ضلالاً ، يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
وفي سنن ابن ماجة ( 2 / 1016 ) : ( ألا وإني مستنقذ أناساً ، ومستنقذٌ مني أناسٌ ، فأقول : يا رب أصيحابي ؟ فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) !
أقول : في رواية الخطيب في المتفق ( 1 / 221 ) : ( كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) .
وفي تحف العقول / 30 ، قال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( أما بعد أيها الناس ، إسمعوا مني ما أبين لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا !
أيها الناس : إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ) .
وتأخذك الدهشة عندما ترى أن حقوق الإنسان انتهت بمجرد أن أغمض النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عينيه ! فقد جاءت قريش من مكة بمسلحين من الطلقاء إلى المدينة قاموا بأسوأ أدوار الشرطة القمعية ، وهددوا في السقيفة ، وهموا بقتل سعد بن عبادة !
ثم هاجموا بيت علي وفاطمة ( عليها السلام ) وهددوا بني هاشم ومن امتنع معهم عن البيعة بإحراق البيت عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا ! ولما تأخروا عن الخروج أضرموا الحطب بباب الدار ! وكانت جنازة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما زالت مسجاة لم تدفن بعد !
إن الحقيقة التي تهز الجماد أن نظام الحكم الذي سموه خلافة إسلامية ، قام على التهديد والقتل وحرق البيوت ، وحرق الناس أحىاء ! فأي خلافة هذه !
خلافة يقول عنها مؤسسها عمر إنها فلتة ، وابتزاز لأمر الأمة بدون مشورة ، فمن عاد لمثلها فاقتلوه ! فأىن القداسة المزعوته ؟ !
- *
--------------------------- 590 ---------------------------
8 . أعاد علي ( عليه السلام ) التحديث وتدوين السنة
1 . التدوين أصلٌ من أصول الدين الإلهي ، لأن قوام الدين إرسال الأنبياء ( عليهم السلام ) وتنزيل الكتب والصحف . فالكتابة من أولى بدهياته ، وقد كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يأمر بكتابة القرآن وكتابة حديثه ، لكن قريشاً خافت من أحاديثه لأنه يركز فيها مكانة عترته ( عليهم السلام ) من بعده ، ويلعن فيها عدداً من زعماء قريش ، فقالت لمن يطيعها : أكتبوا القرآن ولا تكتبوا الحديث ، قالوا : لأن النبي يقول في الرضا والغضب ، أي يقول حقاً وباطلاً ! قال عبد الله بن عمرو : ( كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : أتكتب كل شئ تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا ! فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال : أكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق ) ! رواه أبو داود ( 2 / 176 ) وأحمد ( 2 / 192 و 215 ) ، والحاكم ( 1 / 105 ) .
وروى الحاكم ( 3 / 528 ) : ( عن عمرو ابن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول الله أتأذن لي فأكتب ما أسمع منك ؟ قال : نعم . قلت : في الرضاء والغضب ؟ قال : نعم ، فإنه لا ينبغي لي أن أقول عند الرضاء والغضب إلا حقاً ) !
أقول : تكشف رواية عبد الله بن عمرو ورواية ابن شعيب وأمثالهما ، أن القرشيين كانوا حساسين من تدوين سنته وأقواله وأفعاله ، يخافون أن يكرس النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القيادة لعشيرته من بعده ، ولهذا قاوموا التدوين !
2 . أشهرموقف لقريش في رفض سنة النبي كان في مرض وفاته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فأمرهم أن يحضروا دواة وقرطاساً ليكتب لهم عهده حتى لا يضلوا بعده . فواجهه عمر وأيده الطلقاء قائلاً : حسبنا كتاب الله لا نريد أن تكتب عهدك !
وقالوا : لاتُقربوا له شيئاً ليكتب ، لا نريد أن يكتب لنا كتاباً يؤمننا من الضلال ! إنه يهجر ، أي يهذي ويُخّرِّف ، ونحن نثبت أنه يهجر فاستفهموه ! فغضب النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وطردهم وقال : قوموا عني ، فما أنا فيه خير مما تدعوني اليه !
--------------------------- 591 ---------------------------
وكان معه جبرئيل ولا بد أنه قال له : ما أنت فيه من إيمانهم بك وبالقرآن دون العترة ، خير مما يدعونك اليه أن تصر على الكتابة فيرتدوا !
3 . من أول ما فعله أبو بكر لما حكم بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه جمع ما كتبه المسلمون من سنته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأحرقها ! وقد عمل حيلة لجمعها فطلب في المسجد أن يأتوه بما كتبوه من السنة ، يوهمهم أنه يريد تدوينها ، فأتوه به ، فأحرقه !
فكانت مكيدة وعدواناً على أصحاب الدفاتر وعلى السنة ، وقال عنها أبو بكر إنها احتياط منه وتقوى ، حتى لا ينسب إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ما لم يثبت عنه !
4 . وقد كتب العلماء والباحثون قديماً وحديثاً في منع السلطة من تدوين السنة ! ومن أفضل ما كتب في الموضوع بحث المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب باسم : ( أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها ؟ ! ) ومن عناوينه :
مكانة سنة الرسول في دين الإسلام .
التلازم والتكامل بين القرآن الكريم وسنة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
بعض تأكيدات الرسول على التلازم والتكامل بين كتاب الله وسنته .
شعار حسبنا كتاب الله : ( صلى الله عليه وآله ) حكم الرسول بهذا الشعار .
الرسول الأعظم يأمر بتدوين سنته الطاهرة وأورد أربعة عشر حديثاً .
كل الصحابة القادرين على الكتابة والمهتمين بالشرع قد كتبوا السنة .
الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر المسلمين بتبليغ ونشر السنة النبوية .
الرئاسة العامة والمرجعية في الإسلام أصل من أصول الدين .
اهتمام الرسول بمن سيخلفه بعد موته .
اعترافات الأعداء والأصدقاء بتنصيب الإمام علي وتتويجه إماماً للمسلمين .
شهادة عمر بن الخطاب واعترافاته .
مخططاتهم لنسف الإسلام وتدمير سنة الرسول بعد موته !
أساليب الطامعين بملك النبوة بتدمير سنة الرسول وإبطال مفاعيلها .
كانت السنة المطهرة أعظم عائق بينهم وبين ملك النبوة .
--------------------------- 592 ---------------------------
موقفهم من سنة الرسول والرسول على فراش مرض الموت !
الحيلولة بين رسول الله وبين كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية .
لماذا استمات عمر بن الخطاب وحزبه ليحولوا بين الرسول وبين ما أراد كتابته ؟
مرض أبيبكر وكتابة وصيته وتوجيهاته النهائية .
مرض عمر بن الخطاب وكتابة وصيته وتوجيهاته النهائية .
سنة الرسول بعد موت الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
كيف تجاهلوا سنة الرسول ونقضوا أولى عرى الإسلام وهي نظام الحكم .
الحيلولة بين جيش أسامة وبين الخروج .
الحيلولة بين الرسول وبين كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية للأمة .
الخليفة الأول يحرق سنة الرسول التي جمعها بنفسه .
منع رواية وكتابة سنة الرسول في عهد عمر بن الخطاب .
إيهام المسلمين بأنه يريد أن يجمع سنة الرسول وينقحها .
نجاح الخليفة بالحصول على أكبر كمية مكتوبة من سنة الرسول .
الخليفة يحرق سنة الرسول المكتوبة والكتب التي أتاه المسلمون بها !
الخليفة يعمم على كافة الأمصار الخاضعة لحكمه لمحو سنة الرسول .
لماذا فعل الخليفة ذلك وكيف برر هذه الأفعال ؟ !
أشكال منع الخليفة عمر رواية سنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : النهي عن رواية الحديث . . التهديد والضرب . . الحبس . . إرهاب ورعب لا مثيل له في التاريخ !
عثمان بن عفان وسنة الرسول .
معاوية يفصح ضمناً عن الغاية من منع رواية وكتابة سنة الرسول .
أهل بيت النبوة والقلة المؤمنة قاوموا سياسة الخلفاء الرامية إلى طمس سنة الرسول .
استبدال سنة رسول الله بسنة الخلفاء !
تأصيل وتجذير سنة الخليفتين . . وضعوا أساساً شرعياً لسنة أبيبكر وعمر وعثمان !
سنة الخلفاء أهم عند أوليائهم من سنة الرسول .
سنة الخلفاء ليست مقتصرة على نظام الحكم بل تمتد أحياناً إلى أمور أخرى !
--------------------------- 593 ---------------------------
سنة الرسول للتجميل والتبرير فقط !
إباحة كتابة ورواية سنة الرسول بعد مائة عام من تحريمها !
الكذابون الصالحون ! يكذبون من أجل الرسول لا عليه !
واليهود والنصارى ساهموا بكتابة وتدوين سنة الرسول !
لقد خربوا سنة رسول الله فلم تعد تدري أياً من أي !
نماذج من الأحاديث التي وضعت لإرضاء معاوية !
سبب تقطيع النصوص وبترها !
دور أهل بيت النبوة بالمحافظة على سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
- *
5 . وقد قاوم علي ( عليه السلام ) منعهم للتحديث وتدوين الحديث ، فكان يأمر بالتدوين ، ويؤكد أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أمر بالتحديث والتدوين . قال ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أكتبوا هذا العلم فإنكم تنتفعون به ، إما في دنياكم وإما في آخرتكم ، وإن العلم لا يضيع صاحبه ) . ( كنز العمال : 10 / 262 ) .
قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( يا معشرالمسلمين واليهود : أكتبوا بما سمعتم ، فقالوا : يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى . فقال : الكتابة أذكر لكم ) . ( الإحتجاج : 1 / 42 ) .
وقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : ( تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا ، فإن الحديث جلاء للقلوب ، إن القلوب لترين كما يرين السيف وجلاؤها الحديث ) . ( الكافي : 1 / 41 ) .
وقال علي ( عليه السلام ) : ( كنت إذا سألت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أجابني وإن فنيت مسائلي ابتدأني فما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض ولا دنياً ولا آخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضياء ولا ظلمة ، إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ وكتبتها بيدي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها وكيف نزلت وأين نزلت وفيمَ أنزلت ، إلى يوم القيمة ، ودعا الله لي أن يعطيني فهماً وحفظاً ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا على من أنزلت ) . ( البصائر / 218 ) .
--------------------------- 594 ---------------------------
6 . وعلى خط أمير المؤمنين سارالأئمة من أبنائه ( عليهم السلام ) ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( ضل علم ابن شبرمة ( قاضي السلطة ) عند الجامعة ، إملاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخط علي ( عليه السلام ) بيده ! إن الجامعة لم تدع لأحد كلاماً ، فيها علم الحلال والحرام . إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحق إلا بعداً ، إن دين الله لا يصاب بالقياس ) . ( الكافي : 1 / 57 ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( إن عندنا لصحيفة سبعين ذراعاً إملاء رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وخط علي ( عليه السلام ) بيده . ما من حلال ولاحرام الا وهو فيها حتى أرش الخدش ) . ( البصائر / 162 ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا ) . ( الكافي : 1 / 52 )
وقال سماعة بن مهران : فقلت ( للإمام الكاظم ( عليه السلام ) ) : ( أصلحك الله ، أتى رسول الله بما يكتفون به في عهده ؟ قال : نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة ، فقلت : فضاع من ذلك شئ ؟ فقال : لا ، هو عند أهله ) ! ( الكافي : 1 / 57 ) .
* *
--------------------------- 595 ---------------------------
9 . كشف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعض الكذابين على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) )
1 . قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 4 / 68 ) : ( وقد روى عن علي ( عليه السلام ) أنه قال : ألا إن أكذب الناس ، أو قال أكذب الأحياء ، على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبو هريرة الدوسي ) ! ومعناه : ىوجد في الأموات من هو أكذب منه !
2 . ويأتي في حرب الجمل أنه ( عليه السلام ) لما التقى بالزبير بين الصفين ، قال له الزبير : ( أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي : أنه سمع من رسول الله يقول : عشرة من قريش في الجنة ؟ قال علي ( عليه السلام ) : سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته ، فقال الزبير : أفتراه كذب على رسول الله ؟ قال : ما أراه كذب ، ولكنه والله اليقين . فقال علي ( عليه السلام ) : والله إن بعض من سميته لفي تابوتٍ في شِعْبٍ في جُبٍّ في أسفل دركٍ من جهنم ، على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع تلك الصخرة ! سمعت ذلك من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك ! وإلا أظفرني الله عليك وعلى أصحابك وسفك دماءكم على يدي وعجل أرواحكم إلى النار ! فرجع الزبير إلى أصحابه وهو يبكي ) . ( الإحتجاج : 1 / 237 ) . فهذه مباهلة منه ( عليه السلام ) مع الزبير بأنه إن قتل طلحة والزبير فهما من أهل النار ، وحديث العشرة المبشرة مكذوب !
3 . وكان أنس يتقرب إلى الحاكم بالكذب على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( إن أول ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه سمَّريد رجل إلى الحائط ، ومن ثم استحل الأمراء العذاب ) ! ( علل الشرائع : 2 / 541 ) .
4 . وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الخصال / 190 ) : ( ثلاثة كانوا يكذبون على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أبو هريرة ، وأنس بن مالك ، وامرأة ) .
5 . وروى في الكافي ( 1 / 62 ) بسند صحيح عن سُلَيْم بن قيس الهلالي ، قال قلت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من
--------------------------- 596 ---------------------------
تفسيرالقرآن وأحاديث عن نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) غير ما في أيدي الناس ، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسيرالقرآن ومن الأحاديث عن نبي الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنتم تخالفونهم فيها ، وتزعمون أن ذلك كله باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متعمدين ، ويفسرون القرآن بآرائهم ؟
قال : فأقبل عليَّ فقال : قد سألت فافهم الجواب ، إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعاماً وخاصاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً ، وقد كُذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على عهده حتى قام خطيباً فقال : أيها الناس قد كثرت عليَّ الكذابة ، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوء مقعده من النار ! ثم كُذب عليه من بعده ! وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :
رجل منافق يظهر الإيمان ، متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) متعمداً ، فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبرالله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عز وجل : وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ . ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال ، وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ! وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة .
ورجل سمع من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شيئاً لم يحمله على وجهه ووَهِمَ فيه ولم يتعمد كذباً ، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول : أنا سمعته من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلو علم المسلمون أنه وَهِمَ لم يقبلوه ، ولو علم هو أنه وهم لرفضه .
ورجل ثالث سمع من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) شيئاً أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شئ ، ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه .
وآخر رابع ، لم يكذب على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً
--------------------------- 597 ---------------------------
لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، لم ينسه بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ فإن أمر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه ، قد كان يكون من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الكلام له وجهان : كلام عام وكلام خاص مثل القرآن ، وقال الله عز وجل في كتابه : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا . فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وليس كل أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان يسأله عن الشئ فيفهم ! وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه ، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيئ الأعرابي والطارئ فيسأل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى يسمعوا . وقد كنت أدخل على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كل يوم دخلةً وكل ليلة دخلةً ، فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نسائه ، فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ، ولا أحد من بنيَّ ، وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ ، فكتبتها بخطي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصها وعامها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علماً أملاه عليَّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً ، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً ، فقلت : يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً ولم يفتني شئ لم أكتبه ، أفتتخوف عليَّ النسيان فيما بعد ؟ فقال : لا ، لست أتخوف عليك النسيان والجهل . وقد أخبرني ربي أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك .
--------------------------- 598 ---------------------------
فقلت : يا رسول الله ومن شركائي من بعدي ؟ قال : الذين قرنهم الله بنفسه وبي . فقال : الأوصياء مني إلى أن يردوا علي الحوض ، كلهم هاد مهتد لا يضرهم من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقهم ولا يفارقونه . بهم تنصر أمتي وبهم يمطرون ، وبهم يدفع عنهم ، وبهم يستجاب دعاؤهم . فقلت : يا رسول الله سمهم لي ، فقال : ابني هذا ، ووضع يده على رأس الحسن ثم ابني هذا ووضع يده على رأس الحسين ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم ابن له يقال له علي ، وسيولد في حياتك فاقرأه مني السلام ، ثم تكملة اثني عشر من ولد محمد .
فقلت له : بأبي أنت وأمي فسمهم لي ، فسماهم رجلاً رجلاً ، فيهم والله يا أخا بني هلال مهدي أمة محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، والله إني لأعرف من يبايعه بين الركن والمقام ، وأعرف أسماء آبائهم وقبائلهم ) . ( ورواه النعماني / 75 ، والطبري الشيعي في المسترشد / 29 ، والصدوق في كمال الدين : 1 / 284 ، والخصال : 1 / 255 ، والحراني في تحف العقول / 193 ، والطبرسي في الإحتجاج : 1 / 264 ، وابن ميثم في شرح النهج : 4 / 19 ، والحر العاملي في إثبات الهداة : 1 / 664 ، والمجلسي في البحار : 2 / 228 ، و : 9 / 98 و : 36 / 273 و 276 . وروى قسماً منه ابن الجوزي في تذكرة الخواص / 143 ) .
- *
10 . واجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) موجة التهوك اليهودية
1 . كان عمر بن الخطاب معجباً بثقافة اليهود ، ولما هاجر إلى المدينة نزل بجوار
بني قريظة ، وكان يحضرفي كنيسهم يومين : درس التوراة والتلمود !
فقد قال كما في البخاري ( 1 / 31 ) : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم » . راجع : ألف سؤال وإشكال ( 3 / 487 ) .
وكان يحضر دروسهم ، قال : « إني كنت أغشى اليهود يوم دراستهم فقالوا : ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك لأنك تأتينا » ! ( الدر المنثور ( 1 / 90 ) وأخرجه ابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه في مسنده ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ) .
ومحلة بني أمية بن زيد مجاورة ليهود بني قريظة . ( تاريخ المدينة لابن شبة : 1 / 170 ) .
--------------------------- 599 ---------------------------
2 . عرَّبَ اليهود لعمر قسماً من التوراة ، وقالوا له خذها لمحمد ليعترف بها ! قال : « يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال فتغير وجه رسول الله . . وفيه : والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني ، لضللتم » ! ( فتح الباري : 13 / 438 ) .
لكن اليهود أصروا وبعثوا عمر ثانية إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : « يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق ! فتغير وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! فقال عبد الله بن زيد : أمَسَخَ الله عقلك ؟ ألا ترى الذي بوجه رسول الله ! فقال عمر : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ، وبالقرآن إماماً » ! ( مجمع الزوائد : 1 / 174 ) .
ثم بعثوه ثالثة ، قال : « انطلقت في حياة النبي حتى أتيت خيبرفوجدت يهودياً يقول قولاً فأعجبني فقلت : هل أنت مكتبِّي بما تقول ؟ قال : نعم ، فأتيته بأديم فأخذ يملي عليَّ ، فلما رجعت قلت : يا رسول الله إني لقيت يهودياً يقول قولاً لم أسمع مثله بعدك ! فقال : لعلك كتبت منه ؟ قلت : نعم . قال : إئتني به ، فانطلقت فلما أتيته قال أجلس إقرأه فقرأت ساعة ونظرت إلى وجهه فإذا هو يتلون ، فصرت من الفَرَق ( الخوف ) لا أجيز حرفاً منه ، ثم رفعته إليه ثم جعل يتبعه رسماً رسماً يمحوه بريقه وهو يقول : لا تتبعوا هؤلاء ، فإنهم قد تهوكوا . حتى محى آخر حرف » ! ( كنز العمال : 1 / 370 ) .
وفي رواية : « مرَّ برجل يقرأ كتاباً فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل أكتب لي من هذا الكتاب ، قال : نعم ، فاشترى أديماً فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ، ثم أتى النبي » . ( الدارمي : 1 / 115 ، والدر المنثور : 2 / 48 ) .
ثم بعثوه مرة رابعة : « نسخ عمر كتاباً من التوراة بالعربية . . أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال : أمتهوكون فيها يا بن الخطاب ! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ! لاتسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به ! والذي نفسي بيده لو أن موسى كان فيكم حياً ما وسعه إلا أن يتبعني . . الخ . » . ( مجمع الزوائد : 1 / 174 ) .
--------------------------- 600 ---------------------------
وفي مرة خامسة : طلب عمر أن يجيزه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يدرس التوراة عند اليهود فقال له : « لا تتعلمها وآمن بها ، وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوا به » . ( الدر المنثور : 5 / 148 ) .
وفي مرة سادسة قال عمر : « يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها ! فقال : يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولكني أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصاراً » ! ( الدر المنثور : 5 / 148 ) .
وفي مرة سابعة ساعدت حفصة أباها : « جاءت إلى النبي بكتاب من قصص يوسف في كتف ، فجعلت تقرؤه عليه والنبي يتلون وجهه ، فقال : والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني ، لضللتم » ! ( عبد الرزاق : 11 / 110 ) .
ومع كل هذا ، استمر عمر مع رفقائه بالحضور عند اليهود ، حتى رآه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوماً يحمل كتاباً فقال له : « ما هذا في يدك يا عمر ! فقلت : يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا ! فغضب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى احمرَّت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : أُغضب نبيكم ، السلاحَ السلاح ! فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي اختصاراً ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية ، فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون ! قال عمر : فقمت فقلت : رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبك رسولاً » ( مجمع الزوائد : 1 / 173 ) .
أقول : غرض اليهود من إصرارهم ودفع عمر مرات : أن يتبنى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثقافتهم ، وأن يدرس أصحابه عندهم ، فيجعلوه من أنبياء التوراة تابعاً لهم !
مقابل ذلك ابتكر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إسماً لعمر وجماعته محبي الثقافة اليهودية ، فسماهم « المتهوكين » من التهود ، كما نسمي المتأثرين بالغرب « المتغربين » !
وأنذر الأمة وحذرها من الاغترار بهم ، فيضلونهم !
والسؤال الطبيعي هنا : هل كانت مصادفة أن رئيس المتهوكين قاد قريشاً لأخذ خلافة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعزلَ عترته ( عليهم السلام ) ، وهاجمَ بيتهم ، وهددهم بحرقهم إن لم يبايعوا !
وقد كشف الله تعالى أنه كان يوجد اتفاق سري للغاية بين قرشيين واليهود فقال : إِنَّ
--------------------------- 601 ---------------------------
الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا للَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ !
وبعض الأمر هو عزل عترته ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن خلافته !
3 . رغم نهي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استمرت علاقة عمر باليهود ، ثم جهر بها بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وتبنى ثقافتهم ! فلما قدم الحاخام كعب الأحبار من اليمن إلى المدينة أخرج المسلمين وخرج لاستقباله خارج المدينة ! وهوتعظيم لم يسجله التاريخ من خليفةٍ لأحد ! ثم جعله المستشار الثقافي له قبل أن يعلن إسلامه ، فزرع كعب وتلاميذه التجسيم ، ونشروه في عقائد المسلمين ، ونشره عمر فقال : ( إن كرسيه وسع السماوات والأرض ، وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا رُكِبَ من ثقله ) . ( رواه البزار ورجاله رجال الصحيح - مجمع الزوائد : 1 / 83 ) وفي رواية الدر المنثور ( 1 / 328 ) عن عمر : ( وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله ،
ما يفضل منه أربع أصابع ) .
أي للعرش صوت من ثقل الله ، معاذ الله كصوت الحداجة الجديدة يركب عليها الراكب فيكون لها صوت لأن نجارها لم يتقنها !
وفي تفسير الطبري ( 52 / 12 ) قال كعب : ( سألت أين ربنا ، وهو على العرش العظيم متكئٌ ، واضعٌ إحدى رجليه على الأخرى ) !
4 . وكان عمر يصدق كعباً ويتلقى منه كأنه نبي ! فيسأله عن نفسه ، وعن مصيره وعن الذي يحكم بعده ، وعن تفسير القرآن ، وعن الأحكام الشرعية . . الخ . !
وكان كعب يجيبه بما هبَّ ودب ، بشرط أن يحلو لعمر !
روى في مجمع الزوائد ( 9 / 65 ) أن عمر سأله : ( يا كعب كيف تجد نعتي ؟ قال : أجد نعتك قرن من حديد . قال : وما قرنٌ من حديد ؟ قال : أميرٌ شديد لا تأخذه في الله لومة لائم . قال : ثم مه ؟ قال : ثم يكون من بعدك خليفة تقتله فئة ) !
قال له : « أنشدك الله يا كعب أتجدني خليفة أم ملكاً ؟ قال : بل خليفة ، فاستحلفه فقال كعب : خليفة والله من خيرالخلفاء وزمانك خير زمان ) . ( ابن حماد : 1 / 102 ) .
--------------------------- 602 ---------------------------
بل أخبر كعب عمر بأنه سيقتل خلال ثلاثة أيام ، فقبل قوله ولم يتهمه !
قال عمر ابن شبة ( 3 / 891 ) : ( لما قدم عمر من مكة في آخرحجة حجها أتاه كعب فقال : يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميت في عامك ! قال عمر : ومايدريك يا كعب ؟ قال : وجدته في كتاب الله . قال : أنشدك الله يا كعب هل وجدتني باسمي ونسبي عمر بن الخطاب ؟ قال : اللهم لا ، ولكني وجدت صفتك وسيرتك وعملك وزمانك ) !
وهذا يدل على أن كعباً كان يعرف خطة اليهود لقتل عمر ونقل الخلافة إلى حلفائهم بني أمية ، لكن عمر لم يشك في اليهود لأنه يثق بهم ثقة عمياء ! وقد فصلنا علاقته بهم في كتاب تدوين القرآن ، وكتاب ألف سؤال وإشكال ، وغيرهما .
5 . وقد وقف علي ( عليه السلام ) في وجه كعب اليهودي في دار الخلافة ! ورد عليه بغضب وسخرية ، والعجيب أن عمر يومها أيد علياً ( عليه السلام ) !
قال ابن عباس : ( حضرمجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الحبر ، إذ قال عمر : يا كعب أحافظ أنت للتوراة ؟ قال كعب : إني لأحفظ منها كثيراً .
فقال رجل من جنبة المجلس : يا أمير المؤمنين سله أين كان الله جل ثناؤه قبل أن يخلق عرشه ، ومِمَّ خلق الماء الذي جعل عليه عرشه ؟
فقال عمر : يا كعب هل عندك من هذا علم ؟
فقال كعب : نعم يا أمير المؤمنين ، نجد في الأصل الحكيم أن الله تبارك وتعالى كان قديماً قبل خلق العرش ، وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء ، فلما أراد أن يخلق عرشه تَفَلَ تَفَلَةً كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة ، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته ، وآخرمابقي منها لمسجد قدسه !
قال ابن عباس : وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حاضراً فَعَظَّمَ عَلِيٌّ رَبَّهُ وقام على قدميه ونفض ثيابه ! فأقسم عليه عمر لمَّا عاد إلى مجلسه ، ففعله .
قال عمر : غُصْ عليها يا غواص ، ما تقول يا أبا الحسن ، فما علمتك إلا مفرجاً للغم . فالتفت علي ( عليه السلام ) إلى كعب فقال : غلط أصحابك وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه ! يا كعب ويحك ! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته ،
--------------------------- 603 ---------------------------
والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره ، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قِدْمته وعزّ الله وجل أن يقال له مكان يومى إليه !
والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان ، وقولي كان عجزٌ عن كونه ، وهو مما عَلَّمَ من البيان يقول الله عز وجل : خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ، فقولي له كان ، مما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته ، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء محيطاً بكل الأشياء ، ثم كَوَّنَ ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد ، وإنه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شئ ، ثم خلق منه ظلمة ، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لامن شئ كما خلق النور من غير شئ ، ثم خلق من الظلمة نوراً ، وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبعٍ أرضين ، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماءً مرتعداًولايزال مرتعداً إلى يوم القيامة ، ثم خلق عرشه من نوره وجعله على الماء ، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ، ليس فيها لغة تشبه الأخرى . وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب وذلك قوله : وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ .
يا كعب ويحك ! إن من كانت البحار تفلته على قولك ، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه ! فضحك عمر بن الخطاب وقال : هذا هو الأمر ، وهكذا يكون العلم ، لا كعلمك يا كعب . لاعشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن ) . ( بحارالأنوار : 36 / 194 ) .
أقول : إن موقف عمر إلى جانب علي ( عليه السلام ) ومخالفته لكعب ، كان آنياً في ذلك المجلس ، بدليل أن عمر واصل نشر تجسيم كعب الأحبار ! بل منع عمر تدوين السنة النبوية ، ومنع مجرد التحديث بها تحت طائلة العقوبة ، وأصدر مرسوماً لكعب وتميم الداري أن يحدثا في المجلس كل واحد يومين ، واحتج بأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج ، وفسره بنشر ثقافتهم !
ثم استمر نشاط كعب الأحبار وتلاميذه في خلافة عثمان بن عفان ومعاوىة !
- *
--------------------------- 604 ---------------------------
11 . واجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) موجة الهرطقة اليهودية
1 . الهرطقة : كلمة لاتينية تتضمن معنى البدعة والزندقة والحشوية وفقدان المنطق ، وهي بالإنكليزية ( heretic ) ونحن نقصد بها الحشوية واللامنطقية التي نشرها كعب الأحبار وتلاميذه ، بمساعدة الخلافة وحمايتها وتبنيها ! وكانت كارثة على الذهنية الإسلامية ، لأنها أبعدت الأمة عن منطقية القرآن والوحي ، وأعطت الشرعية لعقائد اليهود في عدم منطقية الجزاء الإلهي ، بل في عدم منطقية تعامل الله تعالى مع عباده ! والشرعية لعدد من عقائد العرب من إرث عبادة الأصنام خاصة أساطير الجن ! وبسببها كثرت الإسرائيليات في أحاديث القيامة ، والمحشر ، والحساب ، والجنة ، والنار ، وظواهر الطبيعة . . الخ .
وقد استطاع كعب وتميم وزملاؤهما كعبد الله بن سلام ووهب بن منبه ، أن يكوِّنوا جيلاً من الرواة ، أخذوا منهم الغث والخرافة واللامعقول ، وحولوها إلى أحاديث نبوية ، ونشروها حتى في أصح في كتب الحديث الحكومية كالبخاري ومسلم ، ومنها أحاديث تجسيم الله تعالى ، وأنه على صورة إنسان ، وأنه يأتي يوم القيامة فيعرف الناس بنفسه فيكذبونه ، ويقولون له : نعوذ بالله منك ، فيكشف لهم عن ساقه وإذا بها محروقة ! فيصدقونه ، ويضحك ويضحكون !
2 . من أمثلة هرطقة كعب الأحبار التي أقنع بها عمر : أن الجراد يولد من أنف الحوت ، فهو من صيد البحر حلال للمحرمين ! وقد كان عمريحب الجراد ويأكله يابساً . وقال مرة : لو أن عندنا منه قفعة أو قفعتين ، ونأكل منه ) . ( البيهقي : 9 / 257 ) والقفعة : القُفَّة أو الزنبيل . وقد أُعجبته فتوى كعب بأنه حلالٌ للمحرم ، لأن الله تعالى قال : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً .
قال له عمر : ( ما حملك على أن تفتيهم بهذا ؟ قال : هو من صيد البحر . قال : وما يدريك ؟ قال : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوتٍ ، ينثره في كل عام مرتين ) . ( موطأ مالك : 1 / 352 ، وعبد الرزاق : 4 / 435 ) .
--------------------------- 605 ---------------------------
وصار قول الحاخام الكذاب حديثاً نبوياً رواه أبو هريرة ، ورووه عن ابن عباس ، وأنس ، وجابر ، وخزيمة ، وغيرهم أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : الجراد نثرة الحوت ! وزاد عليهم بعض الرواة الكذابين : إنه شخصياً رأى الحوت وهو يعطس جراداً !
قال ابن كثير في تفسيره ( 2 / 105 و 106 ) : ( روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة من طرق عن حماد بن سلمة ، حدثنا أبوالمهزم سمعت أبا هريرة يقول : كنا مع رسول الله في حج أو عمرة فاستقبلنا جراد فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن فسقط في أيدينا ، فقلنا : مانصنع ونحن محرمون ، فسألنا رسول الله فقال : لا بأس بصيد البحر ) !
ووقف في وجههم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( مرَّ عليٌّ صلوات الله عليه على قوم يأكلون جراداً فقال : سبحان الله وأنتم محرمون ! فقالوا : إنما هو من صيد البحر ، فقال لهم : إرمسوه في الماء إذن ) ! ( الكافي : 4 / 493 ) .
لكن لم يسمع أحد كلامه لأن القول ما قاله كعب وقبله عمر !
والى الآن تجد هرطقة الكذاب كعب في فقه المذاهب أحاديث نبوية ، وأن الجراد حيوان بحري ، وأن أباه الحوت ينثره من أنفه مرتين في السنة ! ودليلهم أن كعباً قاله ، وعمر قبله ، وكفى !
3 . زعم عمر أن رجلاً ذهب به الجن من البئر إلى الجنة وبقي أربعة أيام ، ثم أرجعوه إلى الدنيا وبيده ورقة تين خضراء ، وأيده كعب الأحبار !
قال الحموي في معجم البلدان ( 4 / 386 ) : ( قال هشام بن محمَّد : أخبرني ابن عبد الرحمن القشيري عن امرأة بن حباشة النميري قالت : خرجنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أيام خرج إلى الشام فنزلنا موضعاً يقال له القَلْت ، قالت : فذهب زوجي شريك يستقي فوقعت دلوه في القلت فلم يقدر على أخذها لكثرة الناس فقيل له : أخر ذلك إلى الليل ، فلما أمسى نزل إلى القلت ولم يرجع ، فأبطأ وأراد عمر الرحيل فأتيته وأخبرته بمكان زوجي فأقام عليه ثلاثاً وارتحل في الرابع ، وإذا شريك قد أقبل فقال له الناس : أين كنت ؟ فجاء إلى عمر رضي الله
--------------------------- 606 ---------------------------
عنه ، وفي يده ورقة يواريها الكف وتشتمل على الرجل وتواريه فقال : يا أمير المؤمنين إني وجدت في القلت سرباً وأتاني آت فأخرجني إلى أرض لا تشبهها أرضكم وبساتين لا تشبه بساتين أهل الدنيا فتناولت منه شيئاً ، فقال لي : ليس هذا أوان ذلك ، فأخذت هذه الورقة فإذا هي ورقة تين ، فدعا عمر كعب الأحبار وقال : أتجد في كتبكم أن رجلاً من أمتنا يدخل الجنة ثم يخرج ؟ قال : نعم وإن كان في القوم أنبأتك به ، فقال : هو في القوم ، فتأملهم فقال : هذا هو ، فجعل شعار بني نمير خضراء إلى هذا اليوم ) .
4 . وصدَّق عمر رجلاً ادعى أن الجن أخذته أربع سنين ، ثم أعادوه إلى أهله !
روى البيهقي في سننه ( 7 / 445 ) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : ( أن رجلاً من قومه من الأنصار خرج يصلي مع قومه العشاء فسبته الجن ففُقد ، فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقصَّت عليه القصَّة ، فسأل عنه عمر قومه فقالوا : نعم ، خرج يصلي العشاء ففُقد ، فأمرها أن تربص أربع سنين ، فلما مضت الأربع سنين أتته فأخبرته ، فسأل قومها فقالوا : نعم ، فأمرها أن تتزوَّج فتزوجت ، فجاء زوجها يخاصم في ذلك إلى عمر ، فقال عمر : يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته ! فقال له إن لي عذراً يا أمير المؤمنين . قال وما عذرك قال خرجت أصلي العشاء فسَبَتْني الجنُّ فلبثت فيهم زماناً طويلاً ، فغزاهم جن مؤمنون أو قال مسلمون ، شك سعيد فقاتلوهم فظهروا عليهم ، فسبوا منهم سبايا فسبوني فيما سبوا منهم ، فقالوا نراك رجلاً مسلماً ولا يحلُّ لنا سبيك ، فخيَّروني بين المقام وبين القفول إلى أهلي فاخترت القفول إلى أهلي فأقبلوا معي ، أما بالليل فليس يحدثوني ، وأمَّا بالنهار فعصار ريح أتبعها . فقال له عمر : فما كان طعامك فيهم ؟ قال الفول وما لم يذكر اسم الله عليه . قال فما كان شرابك فيهم ؟ قال : الجدف . قال قتادة والجدف ما لا يخمر من الشراب . قال فخيَّره عمر بين الصداق وبين امرأته ) !
5 . وقال عمر إنه رأى الغول وضربه بسيفه ! قال الدميري في حياة الحيوان ( 2 / 236 ) : ( وذكر جماعة من الصحابة أنهم رأوا الغول في أسفارهم ، منهم عمر بن الخطاب رأى الغول في سفره إلى الشام قبل الإسلام فضربه بالسيف ) !
--------------------------- 607 ---------------------------
6 . وقال عمر إن الجن يتزوَّجون بنساء المسلمين ويلدن الأولاد ! ففي لسان الميزان ( 3 / 312 ) : ( قال أبوالنضرحدثنا أبو كرز عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً قال : لاتذهب الدنيا حتى تكثر أولاد الجن من نسائكم ) !
7 . ومن تأثيرعمر أن عائشة قالت إنها رأت الجن ينعون عمر قبل مقتله بأيام !
روى عمر بن شبة ( 3 / 873 ) عن عائشة أنها حجت مع عمر فسمعت في الطريق جنياً ينعى عمر ، ثم نعاه في المدينة قبل مقتله ، فقال :
أبعد قتيل بالمدينة أصبحت * بوائق في أكمامها لم تفتق
جزى الله خيراً من أمير وباركت * يد الله في ذاك الأديم الممزق )
8 . واختار عمر إلى جانب كعب تميماً الداري وهو من نصارى بلاد الشام ، وثقافته يهودية ، وكان يتاجربالخمر من الشام إلى الجزيرة ، وكان قصَّاصاً لقصص اليهود والنصارى ، وقد أعلن إسلامه ، وكتب له عمر مرسوماً بأن يقص قصص أهل الكتاب يوم السبت في مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وحضر أول جلسة له احتراماً وتأييداً !
ثم زاد في إكرامه فجعل له يومين في الأسبوع . وجعلها عثمان ثلاثة أيام !
ونشط تميم مع كعب في تخريب عقائد المسلمين وتغييب سنة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وإشاعة الإسرائيليات !
قال الزهري ( مسند أحمد : 3 / 449 ) : ( لم يكن يُقَصُّ على عهد رسول الله ولا أبيبكر ، وكان أول من قَصَّ تميماً الداري ، استأذن عمر بن الخطاب أن يقصَّ على الناس قائماً ، فأذن له عمر ) .
وقال ابن شبة ( 1 / 11 ) : ( خرج عمر إلى المسجد فرأى حلقاً فقال ما هؤلاء ؟ فقالوا قُصَّاص ، فقال : وما القُصَّاص ؟ سنجمعهم على قاصٍّ يقصُّ لهم في يوم سبت مرة ، إلى مثلها من الآخر ، فأمر تميم الداري . . سأله تميم أن يرخص له في مقام واحد في الجمعة ، فرخص له فسأله أن يزيده فزاده مقاماً آخر ! ثم استخلف عثمان فاستزاده فزاده مقاماً آخر ، فكان يقوم ثلاث مرات في الجمعة ) !
--------------------------- 608 ---------------------------
9 . وجعل عمر كعب نبياً يسأله عن الغيب والمستقبل ، وجعل تميم الداري ولياً عنده الاسم الأعظم ، ورووا أنه جاء بتميم فأطفأ نار بركان ظهر في المدينة !
قال البيهقي في دلائل النبوة ( 6 / 80 ) : ( خرجت نار بالحَرَّة فجاء عمر إلى تميم فقال : قم إلى هذه النار ، فقال : يا أمير المؤمنين ومن أنا وما أنا ؟ قال : فلم يزل به حتى قام معه ، قال وتبعتهما فانطلقا إلى النار ، فجعل تميم يحوشها بيده حتى دخلت الشعب ودخل تميم خلفها ! قال : فجعل عمر يقول : ليس من رأى كمن لم يرَ ) !
10 . وشارك أبو بكر وعثمان وأسرتهما عمر في تقديس الثقافة اليهودية واحترام حاخامتهم ، وكانت عائشة إذا مرضت تأتي بامرأة يهودية فترقيها !
روى مالك في الموطأ ( 2 / 943 ) : « أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها ! فقال أبو بكر : إرقيها بكتاب الله » . فهي تثق بدعاء اليهودية أكثر مما تثق بنفسها ، وما علمها النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من دعاء ! وقصد أبيبكر بقوله : إرقيها بكتاب الله :
التوراة ، لأنها لا تعرف القرآن ! وقد أفتى فقهاء السلطة بأنه يجوز للمسلم أن يسترقي اليهودي !
وقد قلت يوماً لشيخ وهابي : إذا مرضت ودخلت المستشفى ، فهل تقبل أن نأتي لك بيهودي أو نصراني ليرقيك ؟ ! فغضب من كلامي واعتبره إهانة !
11 . كذلك كان عثمان مغرماً بكعب الأحبار ، فقد روى علي بن إبراهيم القمي في تفسيره ( 1 / 52 ) من حديث أبي ذر : ( فنظر عثمان إلى كعب الأحبار وقال له : يا أبا إسحاق ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة ، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شئ ؟ فقال : لا ، ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شئ ! فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب ، ثم قال له : يا ابن اليهودية الكافرة ، ما أنت والنظر في أحكام المسلمين ، قول الله أصدق من قولك حيث قال : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .
فقال عثمان : يا أبا ذر إنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك ، ولولا صحبتك لرسول الله لقتلتك ! فقال : كذبت يا عثمان أخبرني حبيبي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال لايفتنونك يا أبا ذر ولا يقتلونك . وأما عقلي فقد بقي منه ما أحفظه حديثاً سمعته من رسول الله فيك وفي
--------------------------- 609 ---------------------------
قومك ! فقال : وما سمعت من رسول الله فيَّ وفي قومي ؟ قال : سمعته يقول : إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثون رجلاً صيروا مال الله دِولاً ، وكتاب الله دغلاً ، وعباده خولاً ، والفاسقين حزباً ، والصالحين حرباً !
فقال عثمان : يا معشرأصحاب محمد هل سمع أحد منكم هذا من رسول الله ؟ فقالوا : لا ، ما سمعنا هذا من رسول الله ! فقال عثمان : ادعوا علياً ، فجاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له عثمان : يا أبا الحسن أنظر ما يقول هذا الشيخ الكذاب ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : مه يا عثمان لا تقل كذاب فاني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ! فقال أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : صدق أبو ذر ، وقد سمعنا هذا من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) .
وفي رواية ابن عساكر ( 66 / 198 ) أن أبا ذر قال لعثمان : ( والله لتسمعن مني ، أولا أدخل عليك . والله لا يسمع أحد من اليهود إلا فتنوه ) !
12 . اختفى القصاصون وكعب الأحبار في خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهرب كعب إلى معاوية ! لكن مهنة القصاص بقيت في المدينة حتى منع الإمام الحسن ( عليه السلام ) آخرهم !
ففي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 227 ) : ( مرَّ الحسن يوماً وقاصٌّ يقصُّ على باب مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال الحسن : ما أنت ؟ فقال : أنا قاصٌّ يا ابن رسول الله . قال : كذبت ، محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) القاص ، قال الله عز وجل : فَاقْصُصِ الْقَصَصَ ! قال : فأنا مذكر . قال : كذبتَ ، محمد ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المذكر ! قال له عز وجل : فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ . قال : فما أنا ؟ قال : المتكلف من الرجال ) !
والمتكلف مذموم في القرآن والسنة ، وهو الجاهل بلباس العالم ، وغرض الإمام الحسن ( عليه السلام ) أن يمنع هذا الجاهل الذي يبيع الخيالات والإسرائيليات ، من أن يغش المسلمين ، ويبعده نهائياً عن باب مسجد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! وهذ سياسة أبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
ومع أن معاوية لما سيطر نشط في نشر ثقافة اليهود والنصارى بيد كعب وطاقمه ،
--------------------------- 610 ---------------------------
لكن الخط النبوي الذي أرساه علي ( عليه السلام ) أخذ مجراه لمن أراد أن يعرف الإسلام ويتفقه في دينه .
13 . نشر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) علم التوحيد والتنزيه ، وكانت خطبه العظيمة التي نجد عدداً منها في نهج البلاغة ، تصدع بتعظيم الله تعالى وتوحيده وتنزيهه ، وانهزمت ثقافة كعب الأحبار وهرطقاته ، وهرب إلى معاوية ، ومعه بعض تلاميذه ، وغاب بعضهم عن التأثير في حياة الأمة . ثم عاودوا الكرة في عهد معاوية !
وهكذا أضاء علي ( عليه السلام ) شعلة التوحيد والتنزيه النبوي مجدداً في الأمة ، واشتهرت ثقافة : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيٌْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ . وثقافة : لاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ .
لقد غابت بخلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثقافة الخيالات والهرطقات ، وعرفت الأمة منطقية العقيدة والأفكار ، لكن معاوية عاود نشرثقافة المتهوكين !
- *
12 . بخلافة علي ( عليه السلام ) عادت روحانية الإسلام وانحسرت موجة التحلل
في نهج البلاغة ( 2 / 49 ) : ( قام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة ، وهل سألت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنها ؟ فقال ( عليه السلام ) : لما أنزل الله سبحانه قوله : اَلَمِ . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بين أظهرنا . فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها ؟ فقال : يا علي ، إن أمتي سيفتنون من بعدي ، فقلت : يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عني الشهادة فشق ذلك عليَّ ، فقلت لي : أبشر فإن الشهادة من ورائك ؟
فقال لي : إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذاً ؟ فقلت : يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر .
فقال : يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية .
--------------------------- 611 ---------------------------
فيستحلون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع !
قلت : يا رسول الله بأي المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أبمنزلة ردة ، أم بمنزلة فتنة ؟ فقال : بمنزلة فتنة [ يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل . فقلت : يا رسول الله أيدركهم العدل منّا أم من غيرنا ؟ قال : بل منا ، فبنا فتح وبنا يختم ، بنا ألَّف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة . فقلت : الحمد للَّه على ما وهب لنا من فضله ] .
وقد بدأت الفتنة من وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد استحلوا الخمر بالنبيذ ، فكان الخليفة نفسه يشرب النبيذ ، وقد شاع شرب النبيذ ومجالس الخمر والغناء في أقدس مدينتين : المدينة ومكة ! ويكفي أن تتصفح كتاباً مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني ، لتقرأ فيه عن شرب الخمر والسكر بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حتى كان السكران يعربد ويخلع ثيابه كلها !
وتقرأ عن الجواري المغنيات ، ومجالس اللهو والطرب والخمر ، وقصص العشق والغزل ، وأوصاف النساء والصبيان ، وأخبار المخنثين واللواطين ! لتعرف أن تحريفاً للدين كان يجري لنزع قداسة الحرمين الشريفين ، وقداسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والإسلام !
وقد غابت تلك الخلاعة والفساد بخلافة علي ( عليه السلام ) وحل محلها الجدية وقيم الإسلام .
وبعد قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أعاد معاوية التحلل وشرب الخمر ، وكان هو يشرب الخمر ويتاجر بالخمر ، ويرسل قواقل تجارية من خمور الشام يبيعها في الحجاز !
* *
--------------------------- 612 ---------------------------
13 . بخلافة علي ( عليه السلام ) عادت وحدة الأمة وانحسر التعصب القبلي
من السياسات الحكيمة للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أنه عمل لجذب القبائل العربية الواقعة تحت نفود الفرس والروم ، إلى صف العرب المسلمين ، وقد حققت أعماله أهدافها ، فقد منع الروم من تكوين قاعدة عسكرية عربية لهم في مملكة الجوف ، وأسر ملكهم الأكيدر ، وكتب معه اتفاقية ولم يقتله .
وعندما تنصَّرعدي بن حاتم الطائي وأخذ الروم يمدونه ، بعث إليه علياً ( عليه السلام ) ، فهرب عدي إلى الشام ، فأطلق النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أسراه وأمواله ، وأرسل أخته سفانة بنت حاتم لتحضره ، فحضر وعفا النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عنه ، ورأى آياته ، فأسلم .
وعندما أساء حاكم الشام الغساني وهدد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالحرب ، لم يرد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) على تهديده ، بل وجه المسلمين إلى حرب هرقل !
وكذلك لم ينتقم النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) من حاكم بصرى لما قتل رسوله ، بل رد على ذلك بغزو مؤتة التي هي مركز تجمع لجيش الروم .
وكان نتيجة هذه السياسة أن قبائل العراق والشام ابتعدوا عن كسرى وهرقل ، واقتربوا من إخوانهم العرب وأسلموا . ففي السنة التاسعة جاء وفد بني تغلب إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأعلنوا ولاءهم ، فكتب معهم اتفاقيةً تقرهم على مسيحيتهم ، على أن لايُنَصِّرُوا أولادهم ، فساعد ذلك على دخول أكثرهم في الإسلام ، بينما تأخر دخول الغساسنة إلى ما بعد وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يعمل لتوحيد العرب تحت راية الإسلام وتوجيههم لقتال الروم والفرس . وعلى هذا عمل علي ( عليه السلام ) فكتب حلفاً بين كندة اليمانية وربيعة العراقية . لكن الأمويين كان همهم السيطرة ولو بتحريك القبائل على بعضها ولذلك أثاروا الفتنة بين قبائل العرب ، ليضعفوها ويقووا سلطانهم !
ومن باب المثال أن عبد الملك بن مروان قام بتحريك القيسية على تغلب وأشعل الحرب بينهم ! « كان بنو تغلب قد قتلت عمير بن الحباب السلمي ، فاتفق أن قدم الأخطل على عبد الملك بن مروان ، والجحاف بن حكيم السلمي جالس عنده ، فقال
--------------------------- 613 ---------------------------
عبد الملك : أتعرف هذا يا أخطل ، قال : نعم ، هذا الذي أقول فيه :
ألا سائلُ الجحَّاف هل هو ثائرٌ * بقتلى أصيبت من سليم وعامر
فخرج الجحاف مغضباً يجر مطرفه ، فقال عبد الملك للأخطل : ويحك أغضبته ، وأخلق به أن يجلب عليك وعلى قومك شراً ! فكتب الجحاف عهداً لنفسه من عبد الملك ! ودعا قومه للخروج معه ، فلما وصل البشر قال لقومه : قصتي كذا فقاتلوا عن أحسابكم أو موتوا ! فأغاروا على بني تغلب بالبشر وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، ثم قال الجحاف يجيب الأخطل :
أيا مالكٌ هل لمتني إذا حضضتني * على الثأر أم هل لامني فيك لائمي
متى تدعني أخرى أجبك بمثلها * وأنت امرؤ بالحق لست بقائم
فقدم الأخطل على عبد الملك ، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول :
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة * إلى الله منها المشتكى والمعول
فإن لم تغيرها قريش بعدلها * يكن عن قريش مستمازٌ ومَرحل
( الكامل : 4 / 330 ، معجم البلدان : 1 / 427 )
وقد تواصلت الحروب سنين بين تغلب وقيس ، ووصلت إلى أكثر من خمسة عشر وقعة عدد المؤرخون أيامها وشعرها وقصصها وقتلاها ! فقالوا : أول وقعاتهم بماكسين من الخابور « وقتل من تغلب خمس مئة » . ( الكامل : 4 / 311 ) .
ويوم الثرثار الأول « فانهزمت قيس وقتلت تغلب ومن معها منهم مقتلة عظيمة ، وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بني سليم » .
ويوم الثرثار الثاني : « واقتتلوا أشد قتال اقتتله الناس » ! ( الكامل : 4 / 311 ) .
ويوم الفدان ، ويوم السكير ، ويوم معارك ، ويوم لبى ، ويوم الشرعبية ، ويوم البليخ ، ويوم الحشاك ، ويوم الكحيل ، ويوم البشر ، ويوم خالة . . . الخ .
والخليفة الأموي فرحٌ بإشعال الحرب بين القبائل ، انتقاماً منهم أو تضعيفاً لقبيلة أخرى يخاف أن تخالفه ! ويبقى هو البرئ والحكَم الذي يتدخل في الظاهر لإيقاف الفتنة بين المسلمين وسفك الدماء !
- *
--------------------------- 614 ---------------------------
14 . سياسة علي ( عليه السلام ) المتميزة في القضاء
1 . كان النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقضي بين الناس بنفسه في المدينة ، وكان يرسل الولاة إلى البلاد والنواحي ، لكنه لم يرسل أحداً قاضياً أبداً إلا علياً ( عليه السلام ) أرسله إلى اليمن ليقضي بينهم وعلمه أصول القضاء ، ووضع يده على صدره ودعا له ، فأعطاه الله علم القضاء . والسبب فيه أن القضاء شرعاً محصور بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ووصيه ( عليه السلام ) ، فلا بد أن يكون بمباشرتهما أو بإشرافهما ، وإلا لم يكن شرعياً !
وعندما واجهت السلطة بعد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فراغاً في القضاء ، أشاعت أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل معاذ بن جبل قاضياً إلى اليمن ، وسترى أن روايته مكذوبة وأن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إنما أرسله جابياً إلى السكاسك أو نجران ، وليس والياً أو قاضياً في اليمن .
قال السيد اليزدي في العروة الوثقى ( 6 / 419 ) : ( يظهر من الآيات والأخبار أنّ منصب القضاء مختصٌّ بالنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) كقوله تعالى : فَلا وَرَبِّكَ لايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .
وقوله تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَئٍْ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ .
وقوله تعالى : إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ .
ثم استعرض الرواىات التي تحصر القضاء فيالمعصوم ( عليه السلام ) والمجتهد الذي نصبه المعصوم ( عليه السلام ) .
وبهذا لاىكون لقضاة الخلافة القرشىة شرعىة ، ولاىجوز الترافع إلىهم الا من باب الضرورة .
2 . أشاعت السلطة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل معاذاً إلى اليمن قاضياً وضخمت روايته ، فرواها بخاري في صحيحه مرات ( 2 / 108 ) لكنه لم يقل قاضياً قال : ( بعث معاذاً إلى اليمن فقال : أدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات . . الخ . ) .
وكذا في رواية بخاري الأخرى ( 8 / 164 ) قال : ( ابن عباس يقول لما بعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معاذاً نحو اليمن قال له : إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن
--------------------------- 615 ---------------------------
يوحدوا الله تعالى ، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم ، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم ، وتوقَّ كرائم أموال الناس ) .
فقد أرسله نحو اليمن ، إلى نصارى ، وهم في السكاسك أو نجران .
لكن رواية أحمد ( 5 / 230 ) زادت أنه علمه القضاء ! وزعمت أنه قال له : ( كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟
قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي لا آلو . قال : فضرب رسول الله صدري ثم قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله ) .
ثم زعموا أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) خرج مشيعاً لمعاذ ، ومشى معه ميلين أو ثلاثة ، وخرج معه المهاجرون وأفناء الناس ! ( أسد الغابة : 5 / 513 ، وتاريخ بخاري الكبير : 6 / 481 ، والإصابة : 8 / 252 ، وأصول السرخسي : 1 / 40 ، والسيرة الحلبية : 3 / 230 ) .
وزاد الذهبي في تاريخه ( 2 / 694 ) : ( ومعاذ راكب ، ورسول الله يمشي تحت راحلته ) !
قال ابن حجر في فتح الباري ( 13 / 293 ) : ( قوله لما بعث النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن . أي إلى جهة أهل اليمن ، وهذه الرواية تقيد الرواية المطلقة بلفظ حين بعثه إلى اليمن ، فبينت هذه الرواية أن لفظ اليمن من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، أو من إطلاق العام وإرادة الخاص ، أو لكون اسم الجنس يطلق على بعضه كما يطلق على كله . والراجح أنه من حمل المطلق على المقيد كما صرحت به هذه الرواية . وقد تقدم في باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن في أواخر المغازي من رواية أبي بردة بن أبي موسى ، وبعث كل واحد منها على مخلاف قال واليمن مخلافان . وتقدم ضبط المخلاف وشرحه هناك ) .
ويتضح بذلك أنهم كذبوا لىملوؤا فراغ تشريع القضاء ، وىمدحوا معاذاً لأنه من أهل السقيفة ! والحقيقة أنه كان مفلَّساً فبعثه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قبيل وفاته لجباية الجزية من أهل الكتاب في منطقة من اليمن ، فجبى مبلغاً وتاجر به ! ( صحيح ابن حبان : 6 / 177 ) .
--------------------------- 616 ---------------------------
وقد روى من ترجم له كالذهبي وابن عبد البر في التمهيد ( 2 / 8 ) وابن عساكر ( 58 / 431 ) أن معاذاً كان مختبئاً من غرمائه فحكم عليه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالتفليس ، وباع ما عنده فلم يسدد ديونه ، فطلب غرماؤه من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أن يبيعهم معاذاً نفسه بديونهم !
قال ابن عساكر : ( فأدان ديناً كثيراً فلزمه غرماؤه ، حتى تغيَّب عنهم أياماً في بيته حتى استأدى غرماؤه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأرسل رسول الله إلى معاذ يدعوه فجاءه ومعه غرماؤه فقالوا : يا رسول الله خذ لنا حقنا منه . فقال رسول الله : رحم الله من تصدق عليه ، قال فتصدق عليه ناس وأبى آخرون فقالوا : يا رسول الله خذ لنا حقنا ، فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إصبر لهم يا معاذ ( أي أدِّ إليهم حقهم ) قال : فخلعه رسول الله من ماله فدفعه إلى غرمائه فاقتسموه بينهم ، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم ، قالوا يا رسول الله بعه لنا ! قال لهم رسول الله : خلوا عنه فليس لكم إليه سبيل . . .
فمكث يوماً ، ثم دعاه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فبعثه إلى اليمن وقال : لعل الله يجبرك ويؤدي عنك دينك ، قال فخرج معاذ إلى اليمن فلم يزل بها حتى توفي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فوافى السنة التي حج فيها عمر استعمله أبو بكر على الحج ، فرأى عمر عند معاذ غلماناً فقال : ما هؤلاء يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : أصبتهم في وجهي هذا ، فقال عمر : من أي وجه ؟ قال أهدوا إليَّ وأُكرمت بهم ! فقال عمرلأبيبكر : دع له ما يعيِّشه وخذ سائره منه ) ! ( عبد الرزاق : 8 / 296 ) .
( حتى إذا كان في خلافته عزله وبعث إليه : هات المال الذي عندك ! قال : ما عندي مال ) !
( تاريخ دمشق : 58 / 428 ) .
وقال بخاري في إحدى رواياته ( 8 / 164 ) : ( لما بعث النبي معاذاً نحو اليمن قال له : إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب . . فالمبعوث إليهم ليس كل اليمن بل أهل كتاب في نجران أو السكاسك ! قال الثعلبي في تفسيره ( 1 / 180 ) : ( رجع من اليمن فسجد لرسول الله فتغير وجه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : ما هذا ؟ قال : رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم والنصارى يسجدون لقسيسيهم . فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : مه يا معاذ ، كذب اليهود والنصارى ، إنما السجود لله تعالى ) !
فهذه قصتهم الكاذبة لمدح معاذ بن جبل ، وزعمهم أنه أرسله قاضياً على اليمن !
--------------------------- 617 ---------------------------
3 . وإنما وضعوا مدحه لمعارضة القصة الصحيحة أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أرسل علياً إلى اليمن قاضياً ، وعلمه أصول القضاء ودعا له ، فأعطاه الله علم القضاء .
قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1094 ) : ( وبعثه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى اليمن وهو شابٌّ ليقضي بينهم فقال : يا رسول الله إني لا أدري ما القضاء ، فضرب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بيده صدره وقال : اللَّهم اهد قلبه وسدد لسانه . قال علي رضي الله عنه : فوالله ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين ) !
قال البخاري ( 5 / 149 ) : ( قال عمر رضي الله عنه : أقرؤنا أبيٌّ ، وأقضانا عليٌّ ) .
قال أبو الفداء ( 1 / 181 ) : ( ذكر شئ من فضائله : من ذلك مشاهده المشهورة بين يدي رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وأُخُوَّة رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وسبق إِسلامه ، وقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : من كنت مولاه فعلي مولاه . وقول رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فيه في غزوة خيبر : لأبعثن الراية غداً مع رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . وقوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى . وقال ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أقضاكم علي . والقضاء يستدعي معرفة أبواب الفقه كلها ، بخلاف قوله : أفرضكم زيد ، وأقرؤكم أبيٌّ ) .
أقول : مقولة أفرضكم زيد ، قالها عمر ، لأن زيداً كان عمره لما توفي النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عشر سنين ، فكيف يكون أعلمهم بحساب أسهم الإرث . ( راجع : ألف سؤال : 1 / 309 ) .
4 . كان وضع القضاء في عهد أبيبكر وعمر وعثمان يغلب عليه طابع الفردية والقبلية كبقية مؤسسات الدولة ، وقد أحرق أبو بكر جماعة بالنار ، وأفتى له بذلك أبو موسى الأشعري ، ومعاذ بن جبل !
قال في فتح الباري ( 12 / 243 ) : ( فأتى بحطب فألهب فيه النار ) . ( بعث به إلى البقيع ، فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار ، فحرقه وهو مقموط ) ! ( نهاية ابن كثير : 6 / 352 ) .
وقال اليعقوبي ( 2 / 134 ) : ( حرق أيضاً رجلاً من بني أسد يقال له : شجاع بن ورقاء ) .
وقال في نهاية الإرب ( 6 / 166 ) : ( وقد أحرق أبو بكر الصدّيق قوماً من أهل الردة ) .
وقال في الإيضاح / 163 : ( عن عروة بن الزبير قال : وجه أبو بكر يعلى بن منية على قضاء اليمن وخراجها ، فالتوى عليه قوم من أهل حضرموت ، فبعث إليهم
--------------------------- 618 ---------------------------
يعلى جيشاً فقتل وسبى منهم ثلاث مائة ونيفاً رجالاً ونساءً ، فقدم بهم على أبيبكر فباعهم ، ثم قدم بعد ذلك قوم من أهل اليمن على أبيبكر فشهدوا بالله أنهم كانوا مسلمين وأن يعلى ظلمهم ، فأسقط في يديه وشاور فيهم المسلمين فأعتقوهم ، وقد وطئت الفروج ومات منهن من مات مسترقاً ) ! فهذا من قضاء أبيبكر !
ومن قضاء عمر ما رواه عبد الرزاق ( 10 / 410 ) : ( اشتكى رجل عند عمر على رجل ضربه ، فقال له عمر : أما أنت أيها الضارب فيرحمك الله ، وأما أنت أيها المضروب ، فقد أصابتك عين من عيون الله ) !
فأسقط حق المضروب المظلوم لأن عين الله أصابته ! وأسقط عقوبة الضارب العزيز المحظوظ ! وقالوا : هذا من إيمان عمر !
وفي بغية الطلب لابن النديم ( 1 / 332 ) : أن عمرأمر عامله أن يخرب مدينة ، ثم ضربه لماذا خربها ! فقد كتب لعمير بن سعد عهداً بأن يخرب عرب سوس إذا لم يستجيبوا لشروطه ، فلما خربها بعد سنة علم عمر بذلك فضربه بالدرة ، فدخل عليه عمير منفرداً وطلب منه عهده الذي كتبه اليه فقال عمر : رحمك الله فهلا قلت لي ذلك وأنا أضربك ! قال : كرهت أوبخك يا أمير المؤمنين ) !
أقول : كثر القضاء الخاطئ في عهد أبيبكر وعمر وعثمان ، ورجعوا في بعض الموارد إلى علي ( عليه السلام ) فقضى فيها بالحق ، ولم يرجعوا اليه في أكثرها .
وقد عقدنا الفصل السادس والثلاثين من هذا الكتاب ، لبيان نماذج من رجوعهم إلى علي ( عليه السلام ) .
5 . أعاد علي ( عليه السلام ) للقضاءاعتباره النبوي . قال ابن العماد في الشذرات ( 1 / 85 ) : ( حكيَ أن علياً دخل على شريح مع خصم له ذمي ، فقام له شريح فقال له علي كرم الله وجهه : هذا أول جورك ! فقال : لو كان خصمك مسلماً لما قمت . ويقال إنه قضى على علي ، وذلك أنه ادعى على الذمي درعاً سقطت منه ، فقال للذمي : ما تقول ؟ فقال : مالي وبيدي . فقال لعلي كرم الله وجهه : ألك بينة أنها سقطت منك ؟ قال : نعم ، فأحضر كلاً من الحسن وعبده قنبرفقال قبلت شهادة قنبر ورددت شهادة الحسن ، فقال علي : ثكلتك أمك أمابلغك أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : الحسن والحسين سيدا
--------------------------- 619 ---------------------------
شباب أهل الجنة ؟ فقال : اللهم نعم ، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده . فقال لليهودي : خذها فليس عندي غيرهما . فقال اليهودي : لكني أشهد أنها لك وأن دينكم هو الحق ! قاضي المسلمين يحكم على أمير المؤمنين ويرضى ! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله . فدفع عليٌّ الدرع له فرحاً بإسلامه ) .
وقال أبو الفداء في تاريخه ( 1 / 181 ) : ( فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ، ثم عاد وقال : أشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إِلى صفين ، ففرح علي بإسلامه ووهبه الدرع وفرساً . وشهد مع علي ( عليه السلام ) قتال الخوارج فقتل ( رحمه الله ) ) .
وروى نحوه الصفدي في الوافي ( 16 / 82 ) وابن عساكر ( 6 / 306 ) وفيه : ( فقال النصراني : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء ! أمير المؤمنين يجئ إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه ! هي والله يا أمير المؤمنين درعك ، اتبعتك مع الجيش وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها ، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . فقال علي : أما إذا أسلمت فهي لك ، وحمله على فرس عتيق . قال الشعبي : لقد رأيته يقاتل المشركين ) .
6 . وروت مصادرنا قصة مشابهة ، ففي من لا يحضره الفقيه ( 3 / 109 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( إن علياً ( عليه السلام ) كان في مسجد الكوفة فمر به عبد الله بن قفل التيمي ومعه درع طلحة ، فقال علي ( عليه السلام ) : هذه درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال ابن قفل : يا أمير المؤمنين اجعل بيني وبينك قاضيك الذي ارتضيته للمسلمين ، فجعل بينه وبينه شريحاً فقال علي ( عليه السلام ) : هذه درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال شريح : يا أمير المؤمنين هات على ما تقول بينة فأتاه بالحسن بن علي ( عليه السلام ) فشهد أنها درع طلحة أخذت يوم البصرة غلولاً ، فقال شريح : هذا شاهد ولا أقضي بشاهد حتى يكون معه آخر ، فأتي بقنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة ، فقال : هذا مملوك ولا أقضى بشهادة المملوك ، فغضب علي ( عليه السلام ) : ثم قال : خذوا الدرع فإن هذا قد قضى بجور ثلاث مرات ، فتحول شريح
--------------------------- 620 ---------------------------
عن مجلسه وقال : لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات ؟
فقال له علي ( عليه السلام ) : إني لما قلت لك : إنها درع طلحة أخذت غلولاًيوم البصرة ، فقلت هات على ما تقول بينةوقد قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : حيثما وجد غلول أخذ بغير بينة ، فقلت : رجل لم يسمع الحديث ، ثم أتيتك بالحسن فشهد فقلت : هذا شاهد واحد ولا أقضي بشاهد حتى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بشاهد ويمين ، فهاتان اثنتان .
ثم أتيتك بقنبر فشهد فقلت : هذا مملوك ، وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً ، فهذه الثالثة .
ثم قال ( عليه السلام ) : يا شريح إن إمام المسلمين يؤتمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا . ثم قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : فأول من رد شهادة المملوك عمر ) .
7 . واشتهرت ( دكة القضاء ) في مسجد الكوفة ، وهي مصطبة كان علي ( عليه السلام ) يجلس فيها ويقضي بين الناس ، ورويت الأعاجيب من قضائه ( عليه السلام ) . وقد قلص ( عليه السلام ) عمل شريح الذي كان قاضياً من عهد عمر ، وىظهر أنه التمه بالرشوة ، فقلص صلاحيته ، ونفاه إلى قرية يهود لفترة .
8 . قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 2 / 701 ) ملخصاً : ( شريح بن الحارث الكندي أبو أمية القاضي ، اختلف في نسبه إلى كندة . وقيل هو حليف لهم من بني رائش . ونسبه ابن الكلبي فقال . . وليس بالكوفة من بني الرائش غيرهم ، وسائرهم ينسبون في حضرموت . أدرك شريح القاضي الجاهلية ، ويعد في كبار التابعين ، وكان قاضياً لعمر على الكوفة ثم لعثمان ثم لعلي رضي الله عنهم ، فلم يزل قاضياً بها إلى زمن الحجاج ! وكان أعلم الناس بالقضاء ، وكان ذا فطنة وذكاء ، ومعرفة وعقل ورصانة ، وكان شاعراً محسناً ، وله أشعار محفوظة في معان حسان ، وكان كوسجاً سناطاً لا شعر في وجهه ، وتوفي سنة سبع وثمانين ، وهو ابن مائة سنة ، وولى القضاء ستين سنة ، من زمن عمر إلى زمن عبد الملك بن مروان ) .
9 . وعلمه علي ( عليه السلام ) أصول القضاء ، وقلص صلاحيته ، ففي الكافي ( 7 / 412 ) : ( عن سلمة بن كهيل قال : سمعت علياً صلوات الله عليه يقول لشريح : أنظر إلى أهل
--------------------------- 621 ---------------------------
المَعْك والمَطْل ودفع حقوق الناس من أهل المقدرة واليسار ، ممن يدلي بأموال المسلمين إلى الحكام ، فخذ للناس بحقوقهم منهم ، وبع فيها العقار والديار ، فإني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : مَطْل المسلم الموسر ظلم للمسلم ، ومن لم يكن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه ، واعلم أنه لا يحمل الناس على الحق إلا
من ورعهم عن الباطل .
ثم واسِ بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك ، حتى لا يطمع قريبك في حيفك ، ولا بيأس عدوك من عدلك ، ورد اليمين على المدعى مع بينة ، فإن ذلك أجلى للعمى وأثبت في القضاء ، واعلم أن المسلمين عدولٌ بعضهم على بعض ، إلا مجلوداً في حد لم يتب منه ، أو معروف بشهادة زور ، أو ظنين . وإياك والتضجر والتأذي في مجلس القضاء ، الذي أوجب الله فيه الأجر ، ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحق .
واعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً ، واجعل لمن ادعى شهوداً غيباً أمداً بينهما ، فإن أحضرهم أخذت له بحقه ، وإن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية ) .
وقال ( عليه السلام ) لشريح : ( وإياك أن تنفذ قضية في قصاص أوحد من حدود الله أو حق من حقوق المسلمين ، حتى تعرض ذلك عليَّ إن شاء الله . فيكون هو الحاكم في الواقعة لا المنصوب ) . ( الجواهر : 40 / 69 ) .
وقال ( عليه السلام ) لشريح : ( قد جلست مجلساً لايجلسه إلا نبي أو وصي أو شقي ) . وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( اتقوا الحكومة ، إنما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل بين المسلمين ، كنبي أو وصي ) . ( الجواهر : 40 / 82 ) .
وقال ( عليه السلام ) لشريح : ( يا شريح لاتسار أحداً في مجلسك ، وإذا غضبت فقم ولا تقضين وأنت غضبان ) . ( الفقيه : 3 / 14 ) .
( بلغ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن شريحاً يقضي في بيته فقال : يا شريح أجلس في المسجد فإنه أعدل بين الناس ، وإنه وهن بالقاضي أن يجلس في بيته ) . ( الجواهر : 14 / 116 ) .
وقال ( عليه السلام ) لشريح : ( ولا تقعد في مجلس القضاء حتى تطعم ( الجواهر : 40 / 82 ) .
--------------------------- 622 ---------------------------
10 . وفي الكافي ( 7 / 371 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( دخل أمير المؤمنين ( عليه السلام )
المسجد فاستقبله شاب يبكي وحوله قوم يسكتونه ، فقال علي ( عليه السلام ) : ما أبكاك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين إن شريحاً قضى علي بقضية ما أدري ما هي ، إن هؤلاء النفرخرجوا بأبي معهم في السفر فرجعوا ولم يرجع أبي ، فسألتهم عنه فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله فقالوا : ما ترك مالاً ، فقدمتهم إلى شريح فاستحلفهم . وقد علمت يا أمير المؤمنين إن أبي خرج ومعه مال كثير . فقال لهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إرجعوا فرجعوا والفتى معهم إلى شريح ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا شريح كيف قضيت بين هؤلاء ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ادعى هذا الفتى على هؤلاء النفر أنهم خرجوا في سفر وأبوه معهم ، فرجعوا ولم يرجع أبوه ، فسألتهم عنه فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله فقالوا : ما خلف مالاً ، فقلت للفتى : هل لك بينة على ما تدعي ؟ فقال : لا ، فاستحلفتهم فحلفوا .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هيهات يا شريح ، هكذا تحكم في مثل هذا ! فقال : يا أمير المؤمنين فكيف ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله لأحكمن فيهم بحكمٍ ما حكم به خلق قبلي إلا داود النبي ( عليه السلام ) . يا قنبر ادع لي شرطة الخميس ، فدعاهم فوكل بكل رجل منهم رجلاً من الشرطة ، ثم نظر إلى وجوههم فقال : ماذا تقولون ؟ أتقولون إني لا أعلم ما صنعتم بأب هذا الفتى ، إني إذاً لجاهل ! ثم قال : فرقوهم وغطوا رؤوسهم . قال : ففرق بينهم وأقيم كل رجل منهم إلى أسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم مغطاة بثيابهم ، ثم دعا بعبيد الله بن أبي رافع كاتبه فقال : هات صحيفة ودواة وجلس أمير المؤمنين صلوات الله عليه في مجلس القضاء ، وجلس الناس إليه فقال لهم : إذا أنا كبرت فكبروا ، ثم قال للناس : أخرجوا . ثم دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه ، ثم قال لعبيد الله بن أبي رافع : أكتب إقراره وما يقول .
ثم أقبل عليه بالسؤال فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : في أي يوم خرجتم من منازلكم وأبوهذا الفتى معكم ؟ فقال الرجل : في يوم كذا وكذا ، قال : وفي أي شهر ؟ قال : في شهر كذا وكذا ، قال : في أي سنة ؟ قال : في سنة كذا وكذا ، قال : وإلى أين بلغتم في سفركم حتى مات أبوهذا الفتى ؟ قال : إلى موضع كذا وكذا ، قال : وفي منزل من مات ؟ قال : في منزل
--------------------------- 623 ---------------------------
فلان بن فلان ، قال : وما كان مرضه ؟ قال : كذا وكذا ، قال : وكم يوماً مرض ؟ قال : كذا وكذا ، قال : ففي أي يوم مات ومن غسله ومن كفنه وبما كفنتموه ، ومن صلى عليه ، ومن نزل قبره ؟ فلما سأله عن جميع ما يريد كبَّر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكبر الناس جميعاً ، فارتاب أولئك الباقون ولم يشكوا أن صاحبهم قد أقر عليهم وعلى نفسه ، فأمر أن يغطى رأسه وينطلق به إلى السجن ، ثم دعا بآخر فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه ثم قال : كلا ، زعمتم أني لا أعلم ما صنعتم ، فقال : يا أمير المؤمنين ما أنا إلا واحد من القوم ولقد كنت كارهاً لقتله ، فأقر !
ثم دعا بواحد بعد واحد ، كلهم يقر بالقتل وأخذ المال ، ثم رد الذي كان أمر به إلى السجن فأقر أيضاً ، فألزمهم المال والدم .
فقال شريح : يا أمير المؤمنين وكيف حكم داود النبي ؟
فقال : إن داود النبي ( عليه السلام ) مر بغلمة يلعبون وينادون بعضهم بيامات الدين فيجيب منهم غلام ، فدعاهم داود فقال : يا غلام ما اسمك ؟ قال : مات الدين ! فقال له داود ( عليه السلام ) : من سماك بهذا الاسم ؟ فقال أمي . فانطلق داود ( عليه السلام ) إلى أمه فقال لها : يا أيتها المرأة ما اسم ابنك هذا ؟ قالت : مات الدين ! فقال لها : ومن سماه بهذا ؟ قالت : أبوه ، قال : وكيف كان ذاك ؟ قالت : إن أباه خرج في سفر له ومعه قوم وهذا الصبي حمل في بطني ، فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي فسألتهم عنه فقالوا : مات فقلت : لهم فأين ما ترك ؟ قالوا : لم يخلف شيئاً ، فقلت : هل أوصاكم بوصية ؟ قالوا : نعم ، زعم أنك حبلى فما ولدت من ولد جارية أو غلام فسميه مات الدين ، فسميته !
قال داود ( عليه السلام ) : وتعرفين القوم الذين كانوا خرجوا مع زوجك ؟ قالت : نعم . قال : فأحياء هم أم أموات ؟ قالت : بل أحياء ، قال : فانطلقي بنا إليهم ثم مضى معها فاستخرجهم من منازلهم فحكم بينهم بهذا الحكم بعينه ، وأثبت عليهم المال والدم ، وقال للمرأة : سمي ابنك هذا : عاش الدين .
ثم إن الفتى والقوم اختلفوا في مال الفتى كم كان ، فأخذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاتمه
--------------------------- 624 ---------------------------
وجميع خواتيم من عنده ثم قال : أجيلوا هذه السهام ، فأيكم أخرج خاتمي فهو صادق في دعواه ، لأنه سهم الله وسهم الله لا يخيب ) .
أي ادعى ابن المقتول بمبلغ وذكر غيره مبالغ ، فأمرهم بجمع خواتمهم ، وأن يأخذ المدعي لمبلغ خاتماً منها ، فمن خرج بيده خاتم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فاعملوا بقوله .
وفي شرح تبصرة المتعلمين لآقا ضياء العراقي / 360 : « إن أهون السقي التشريع . هذا مثل معروف عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قاله بشأن شريح القاضي عندما رأى شاباً يبكي فسأله عن بكائه فقال : إن أبي سافر مع رفقة له وكان معه مال عظيم ، فرجعوا ولم يرجع معهم ، وسألتهم المال فقالوا : لم نعرف له مالاً . فرفعت أمرهم إلى شريح فطالبني بالبينة ! فلما سمع علي ( عليه السلام ) هذا المقال أنشد متمثلاً :
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتملْ * [ ما هكذا تورد يا سعد الإبل ]
ثمَّ قال : إن أهون السقي التشريع . فشاع مثلاً يضرب لمن يأخذ الأمر بالهوينى ولا يستقصي . وروى نحوه البيهقي في السنن ( 10 / 104 ) . أي أهون سقيك الإبل أن تأخذها إلى الشريعة وتتركها تشرب ، بلا جهد ، كما فعل شريح .
11 . واشتهرتوبيخ الإمام ( عليه السلام ) لشريح لدار اشتراها ففي أمالي الصدوق / 388 : ( عن عاصم بن بهدلة قال : قال لي شريح القاضي : اشتريت داراً بثمانين ديناراً ، وكتبت كتاباً وأشهدت عدولاً ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فبعث إلي مولاه قنبراً فأتيته ، فلما أن دخلت عليه قال : يا شريح ، اشتريت داراً وكتبت كتاباً وأشهدت عدولاً ووزنت مالاً ؟ قال قلت : نعم .
قال : يا شريح ، إتق الله ، فإنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسأل عن بينتك ، حتى يخرجك من دارك شاخصاً ، ويسلمك إلى قبرك خالصاً ، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالكها ، ووزنت مالاً من غير حله ، فإذن أنت قد خسرت الدارين جميعاً : الدنيا والآخرة . ثم قال ( عليه السلام ) : يا شريح ، فلو كنت عندما اشتريت هذه الدار أتيتني ، فكتبت لك كتاب على هذه النسخة ، إذن لم تشترها بدرهمين !
قال قلت : وما كنت تكتب يا أمير المؤمنين ؟ قال : كنت أكتب لك هذا الكتاب : بسم
--------------------------- 625 ---------------------------
الله الرحمن الرحيم ، هذا ما اشترى عبد ذليل ، من ميت أزعج بالرحيل ، اشترى منه داراً في دار الغرور ، من جانب الفانين ، إلى عسكر الهالكين ، وتجمع هذه الدار حدودا أربعة : فالحد الأول منها ينتهي إلى دواعي الآفات ، والحد الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات ، والحد الثالث منها ينتهي إلى دواعي المصيبات ، والحد الرابع منها ينتهي إلى الهوى المردي ، والشيطان المغوي ، وفيه يشرع باب هذه الدار ! اشترى هذا المفتون بالأمل ، من هذا المزعج بالأجل جميع هذه الدار ، بالخروج من عز القنوع ، والدخول في ذل الطلب ، فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى منه من درك ، فعلى مبلي أجسام الملوك ، وسالب نفوس الجبابرة ، مثل كسرى وقيصر وتبع وحمير ، ومن جمع المال إلى المال فأكثر ، وبنى فشيَّد ، ونجَّد فزخرف ، وادَّخر بزعمه للولد ، إشخاصهم جميعاً إلى موقف العرض لفصل القضاء ، وخسر هنالك المبطلون .
شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى ، ونظر بعين الزوال لأهل الدنيا ، وسمع منادي الزهد ينادي في عرصاتها : ما أبين الحق لذي عينين ! إن الرحيل أحد اليومين ، تزودوا من صالح الأعمال ، وقربوا الآمال بالآجال ، فقد دنت الرحلة والزوال ) ( ونهج البلاغة : 3 / 4 ) .
12 . وروي أنه نفى شريحاً إلى خارج الكوفة لمدة ، ففي الغارات ( 2 / 947 ) : ( روى الأعمش عن إبراهيم التميمي قال : قال علي ( عليه السلام ) لشريح وقد قضى قضية نقم عليه أمرها : والله لأنفينك إلى مانيقيا شهرين تقضي بين اليهود . قال : ثم قتل علي ( عليه السلام ) ومضى دهر فلما قام المختار بن أبي عبيد قال لشريح : ما قال لك أمير المؤمنين يوم كذا ؟ قال : إنه قال لي كذا ، قال : فلا والله لا تقعد حتى تخرج إلى ما نيقيا تقضي بين اليهود ، فسيره إليها ، فقضى بين اليهود شهرين ) .
أي كان حكم علي ( عليه السلام ) بنفيه قرب موته ( عليه السلام ) ولم ينفذ ، فنفذه المختار ، بعد 25 سنة .
13 . وكان شريح مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حرب الجمل وصفين والنهر وان ، وأعطاه مهمات في جيشه في هذه الحروب . ( أخبار القضاة لوكيع ( 2 / 200 ) .
ثم كان شريح مع ابن زياد ضد الحسين ( عليه السلام ) !
--------------------------- 626 ---------------------------
ففي مثير الأحزان / 23 : ( وبلغ عمرو بن الحجاج حديث هاني أنه قتل ، لأن رويحة بنت عمرو زوجة هاني بن عروة أقبلت ومعها جماعة من مذحج ، فلما علم عبيد الله أخرج شريحاً القاضي بعد أن شاهد هاني حياً ، فأخبرهم فرضوا وانصرفوا ) .
14 . وروى شريح عن علي ( عليه السلام ) آثاراً وأحاديث ، منها ما في أمالي الطوسي / 652 ) :
( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لأصحابه يوماً وهو يعظهم : ترصدوا مواعيد الآجال ، وباشروها بمحاسن الأعمال ، ولا تركنوا إلى ذخائر الأموال ، فتخليكم خدائع الآمال ، إن الدنيا خداعة صراعة ، مكارة غزارة سحارة ، أنهارها لامعة ، وثمراتها يانعة ، ظاهرها سرور ، وباطنها غرور ، تأكلكم بأضراس المنايا ، وتبيركم بإتلاف الرزايا ، لهم بها أولاد الموت ، وآثروا زينتها ، فطلبوا رتبتها ، جهل الرجل ، ومن ذلك الرجل المولع بلذاتها ، والساكن إلى فرحتها ، والآمن لغدرتها !
درات عليكم بصروفها ، ورمتكم بسهام حتوفها ، فهي تنزع أرواحكم نزعا ، وأنتم تجمعون لها جمعا ، للموت تولدون ، وإلى القبور تنقلون ، وعلى التراب تنومون ، وإلى الدود تسلمون ، وإلى الحساب تبعثون .
يا ذا الحيل والآراء ، والفقه والأنباء ، اذكروا مصارع الآباء ، فكأنكم بالنفوس قد سلبت ، وبالأبدان قد عريت ، وبالمواريث قد قسمت ، فتصير يا ذا الدلال والهيئة والجمال ، إلى منزلة شعثاء ، ومحلة غبراء ، فتُنوم على خدك في لحدك ، في منزل قل زواره ، ومل عماله ، حتى تشق عن القبور وتبعث إلى النشور ، فإن ختم لك بالسعادة صرت إلى الحبور ، وأنت ملك مطاع ، وآمن لا يراع ، يطوف عليكم ولدان كأنهم الجمان بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين ، أهل الجنة فيها يتنعمون ، وأهل النار فيها يعذبون ، هؤلاء في السندس والحرير يتبخترون ، وهؤلاء في الجحيم والسعير يتقلبون ، هؤلاء تحشى جماجمهم بمسك الجنان ، وهؤلاء يضربون بمقامع النيران ، هؤلاء يعانقون الحور في الحجال ، وهؤلاء يطوقون أطواقاً في النار بالاغلال .
في قلبه فزع قد أعيا الأطباء وبه داء لا يقبل الدواء . يامن يسلم إلى الدود ويهدى إليه ، اعتبر بما تسمع وترى ، وقل لعينيك تجفو لذة الكرى ، وتفيض من الدموع بعد
--------------------------- 627 ---------------------------
الدموع تترى ، بيتك القبر بيت الأهوال والبلى ، وغايتك الموت .
يا قليل الحياء ، إسمع يا ذا الغفلة والتصريف ، من ذي الوعظ والتعريف ، جعل يوم الحشر ، يوم العرض والسؤال ، والحباء والنكال ، يوم تقلب إليه أعمال الأنام ، وتحصى فيه جميع الآثام ، يوم تذوب من النفوس أحداق عيونها ، وتضع الحوامل ما في بطونها ، ويفرق بين كل نفس وحبيبها ، ويحار في تلك الأهوال عقل لبيبها ، إذ تنكرت الأرض بعد حسن عمارتها ، وتبدلت بالخلق بعد أنيق زهرتها ، أخرجت من معادن الغيب أثقالها ، ونفضت إلى الله أحمالها ، يوم لا ينفع الجد إذ عاينوا الهول الشديد فاستكانوا ، وعرف المجرمون بسيماهم فاستبانوا ، فانشقت القبور بعد طول انطباقها ، واستسلمت النفوس إلى الله بأسبابها ، كشف عن الآخرة غطاؤها ، وظهر للخلق أنباؤها ، فدكت الأرض دكاً دكا ، ومدت لأمر يراد بها مداً مدا ، واشتد المثارون إلى الله شداً شدا ، وتزاحفت الخلائق إلى المحشر زحفاً زحفا ، ورُد المجرمون على الأعقاب رداً ردا ، وجد الأمر ويحك يا إنسان جداً جدا ، وقربوا للحساب فرداً فردا ، وجاء ربك والملك صفاً صفا ، يسألهم عما عملوا حرفاً حرفا ، فجئ بهم عراة الأبدان ، خشعاً أبصارهم ، أمامهم الحساب ، ومن ورائهم جهنم ، يسمعون زفيرها ، ويرون سعيرها ، فلم يجدوا ناصراً ولا ولياً يجيرهم من الذل ، فهم يعدون سراعاً إلى مواقف الحشر ، يساقون سوقاً ، فالسماوات مطويات بيمينه كطي السجل للكتب ، والعباد على الصراط وجلت قلوبهم ، يظنون أنهم لا يسلمون ، ولا يؤذن لهم فيتكلمون ، ولا يقبل منهم فيعتذرون ، قد ختم على أفواههم ، واستنطقت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .
يا لها من ساعة ما أشجى مواقعها من القلوب ، حين ميز بين الفريقين ! فريق في الجنة وفريق في السعير ، من مثل هذا فليهرب الهاربون ، إذا كانت الدار الآخرة لها يعمل العاملون ) .
هذا النص الضعىف حسب فهم شريح لكلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وليس من نصه .
--------------------------- 628 ---------------------------
الفصل الحادي والخمسون: أضواء على مسؤولي الدولة عند علي ( عليه السلام )
1 . الولاة والمسؤولون عند الخلفاء الأربعة
يقول المثل : الناس على دين ملوكهم ، ومعناه : أن الجنود على دين قائدهم ، والمدرسة على دين مديرها ، والدولة على شاكلة رئيسها .
فالحاكم هوالمؤثرالأول في أوضاع الناس ، وجهازه الإداري صورة عن فكره ومزاجه ، فهو يوجهه للعمل حسب هدفه . ولم ىكن هدف الحكام بعدالنبى ( صلى الله عليه وآله ) واحداً ، وكان يختلف تبعاً لولاء المسؤول للخليفة ، وتبعاً لمزاج الخليفة . فخالد بن الوليد مثلاً كان موالياً لأبيبكر موافقاً مع مزاجه ، لكنه كان عدواً لعمر مخالفاً لمزاجه ، فقد عينه أبو بكر قائداً على كرهٍ من عمر ، بل طلب عمر منه أن يقتله قصاصاً بمالك بن نويرة ، وقال له إنه قتل امرؤاً مسلماً وزنا بزوجته ، فاقتله قصاصاً ، فلم يطعه ، فلما تولى عمر كان أول مرسوم كتبه عزل خالد .
وأبو بكر وعثمان لم يكونا يتابعان الولاة ويحاسبانهم ، بينما كان عمر يتابعهم ويحاسبهم بمزاجه وهدفه . وكان لا يهمه أن يكون الوالي فاجراً ويقول : نستعين بقوته وله فجوره وإثمه ، فالمهم عنده أن يكون موالياً له ، ناشطاً في عمله . وعندما كان يطلع على أن الوالي فاسد يسرق من بيت مال المسلمين ، فقد يحاسبه ويقول له : من أين لك هذا ، ويصادر كل ثروته كما فعل بأبي هريرة والي البحرين ، وقد يصادر نصفها ويترك له النصف ، كما فعل مع أكثر عماله !
وقد يسكت عليه كلياً ويطلق يده ، كما كان يفعل مع معاوية ، ويجاهر بذلك !
أما عثمان فكان شعاره : صلة الرحم ، فكان يرفع بني أمية بكلتا يديه ويَحْمِلُهُم على رقاب المسلمين ، ويقول : لو كان مفتاح الجنة بيدي لأعطيته لبني أمية ليدخلوا فيها أجمعين أكتعين !
--------------------------- 629 ---------------------------
وعندما قال له علي ( عليه السلام ) : ألا تكف شرأقاربك عن المسلمين ! أجابه : إنهم أقاربك أيضاً يا علي ! ألم يكن رسول الله وأبو بكر وعمر يصلون أرحامهم ؟ قال له : لكن الفضل والكفاءة في غيرهم !
أما علي ( عليه السلام ) فكان يتحرى في اختيار عماله الأكفأ والأصلح ، ويتابع عمله ويحاسبه ، وكان لا ينصب الفاجر والفاسق والفاسد ، إلا مجبراً لمراعاة رغبة الناس ، فقد أبقى أبا موسى الأشعري والياً على الكوفة مع أن رأيه فيه سيئ لرغبة كثرة من أهلها به ! كما نصب زياد بن عبيد ( ابن أبيه ) على البصرة وفارس لأنه يجيد الفارسية من أمه ، وله حنكة في التعامل مع الفرس وضبط بلادهم .
2 . قاعدة : وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً عند علي ( عليه السلام )
فكان يطبق هذه القاعدة لأن المضل عنده ظالم فاجر ، وإذا فُتِحَ الباب لهم سيطروا على مفاصل الدولة ، وجعلوها دولة قبلية فاسدة باسم الإسلام .
قال ابن كثير في النهاية ( 8 / 137 ) : ( قال معاوية لجرير : إن ولاني عليٌّ الشام ومصر بايعته على أن لا يكون لأحد بعده عليَّ بيعة ، فقال : أكتب إلى عليٍّ بما شئت وأنا أكتب معك ، فلما بلغ علياً الكتاب قال : هذه خديعة ، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة ، فأبيت ذلك : وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) .
أما عمر فقال إني أتخذ المضلين عضداً وأستفيد من قوة المنافق ، وعليه إثمه !
قال عبد الرزاق في المصنف ( 7 / 269 ) : قال عمر : ( نستعين بقوة المنافق وإثمه عليه ) .
وقال البيهقي في سننه ( 9 / 36 ) : ( قال عمر : نستعين بقوة المنافقين وإثمهم عليهم ) .
قال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 3 / 1111 ) : ( لم يكن ( علي ( عليه السلام ) ) يستأثر من الفئ بشئ ولا يخص به حميماً ولا قريباً ، ولا يخص بالولايات إلا أهل الديانات والأمانات ، وإذا بلغه عن أحدهم خيانة كتب إليه : قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ من رَبِّكُمْ . . فَأَوْفُوا الْكَيْلَ والْمِيزانَ بالقِسْط ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تَعْثَوْا في الأَرْضِ مُفْسِدِينَ . بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ . إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما
--------------------------- 630 ---------------------------
في يديك من أعمالنا حتى نبعث إليك من يتسلَّمه منك ، ثم يرفع طرفه إلى السماء فيقول : اللَّهمّ إنك تعلم أني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك . وخطبه ومواعظه ووصاياه لعماله إذ كان يخرجهم إلى أعماله ، كثيرة مشهورة ، لم أرَ التعرض لذكرها ، لئلايطول الكتاب ، وهي حسانٌ كلها ) .
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه : أين سنة الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) / 175 : ( قال ابن حجر في فتح الباري : والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد ، أنه كان لايراعي الأفضل في الدين . . فلأجل ذلك استخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم . قال حذيفة أمين سر رسول الله على المنافقين لعمر بن الخطاب يوماً عندما رأى الفجار والمنافقين يتولون المناصب الحساسة في الدولة : يا عمر إنك تستعين بالرجل الفاجر ! وقال حذيفة نفسه مرة أخرى لعمر : والله يا عمر إنك تستعمل من يخون وتقول : ليس عليك شئ ، وعاملك يفعل كذا وكذا !
وكان عمر يعلم أن الذين يستعين بهم ويعينهم أمراء وولاة وقادة فجارٌ ، أو منافقون ، أو خونةٌ لله ولرسوله ، ولكنه يبرر استعماله لهم واستعانته بهم بالقول : نستعين بقوة المنافق وإثمه عليه . وهكذا وحسب هذه السياسة المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ، ولتحذيرات الرسول المتكررة صار تأميرالفاسقين والمنافقين والفجار والاستعانة بهم هوالأصل ، وهو المبدأ العام ، فأينما وجدت هذه القوة المزعومة استعانوا بها بغض النظرعن دين صاحبها أوسابقته أو جهاده ، أو علمه أو ماضيه ، أو عداوته السابقة لله ولرسوله ، أو تحذير الرسول منه !
وهكذا صارت الاستعانة وتأميرالفاسقين والمنافقين والفجار طمعاً بقوتهم سنة ونظرية ، تتبناها دولة البطون ! والقوة تعني الالتزام بسياسة الدولة العامة ، والولاء لها ، وكراهية أعدائها ، وحرمان أولئك الأعداء وأوليائهم ، من كافة الوظائف العامة . والكارثة حقاً أن ( أعداء ) الدولة ومعارضيها سواء بالعلن أم بالسر ، هم أولياء النبي وقرابته الأدنون ، ومن قام الإسلام كله على أكتافهم !
--------------------------- 631 ---------------------------
طواقم جديدة من الولاة :
بعد أقل من شهرين على وفاة الرسول الأعظم تم عزل كافة العمال والولاة والأمراء الذين عينهم الرسول ، وقتل بعضهم شرَّ قتلة ، كمالك بن نويرة ، ونجا أسامة بن زيد الذي عينه الرسول أميراً على جيش من العزل بأعجوبة !
وعينت الدولة طواقم جديدة من الولاة والأمراء بدلاً من الذين عينهم رسول الله ، واقتسمت بطون قريش الوظائف العامة ، وحصل البطن الأموي على نصيب الأسد ، لأن هذا البطن قد ساهم مساهمة فعالة بإقامة دولة البطون ، وهذا البطن مشهور بعداوته للنبي وببغضه لآل النبي وحقده عليهم ، فالعرب كلهم بل العالم بأسره يعلم بأن أبا سفيان وأولاده خاصة والأمويين عامة ، هم الذين قادوا جبهة الشرك ضد رسول الله طوال فترة ال - 15 سنة التي سبقت الهجرة ، وأنهم هم الذين جيشوا الجيوش وألبوا العرب على رسول الله وحاربوه بكل فنون القتال ، وعادوه بكل وسائل العداء ، حتى أحيط بهم عندما فتح الرسول مكة ، فاضطروا مكرهين للتلفظ بالشهادتين وكتموا إحباطهم وحقدهم على آل محمد لأنهم فئة موتورة ، فما من بيت من بيوت البطن الأموي إلا وأصاب الهاشميون منه مقتلاً .
وقد بين الرسول لأصحابه بأن الأمويين هم أكثر بطون قريش بغضاً لآل محمد ، وأنهم طامعون بملك النبوة ، لأنه رآهم ينزون على منبره نزو القردة ، وطلب من الناس أن يعتزلوهم وأن يحذروا منهم !
وبعد وفاة النبي بفترة وجيزة ولت الدولة يزيد بن أبي سفيان قائداً عاماً لجيش الشام ، ولما مات يزيد عينت أخاه معاوية أميراً على الشام خلفاً لأخيه .
( راجع البداية والنهاية : 8 / 118 ، والطبري : 5 / 69 ، والاستيعاب : 3 / 596 ، وكنز العمال : 13 / 606 ) .
وأطلق عمر بن الخطاب يد معاوية في بلاد الشام ، وأعطاه الحرية ليفعل ما يشاء ، ويتصرف على الوجه الذي يراه بلا رقيب ولا حسيب ، فقد قال عمر لمعاوية يوماً : لا آمرك ولا أنهاك . ( البداية والنهاية : 8 / 125 ، والطبري : 6 / 184 ) . وكان عمر يوطد له بين
--------------------------- 632 ---------------------------
الناس فيقول عن معاوية : إنه فتى قريش وابن سيدها ! ( الإستيعاب : 8 / 397 ) .
وكان يقول للناس : تذكرون كسرى وعندكم معاوية ! ( الطبري : 6 / 184 ) .
وخاطب عمر أصحاب الشورى قائلاً : إذا اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام . ( الطبقات الكبرى : 5 / 535 ) .
وكان عمر يعرف أن معاوية يُعد أهل الشام وأنه سيخرج ذات يوم ، فقد صرح قائلاً : يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق . ( كنز العمال : 12 / 354 ) .
كما كان عمر وراء تأميرعمرو بن العاص ، فقد أعلن أمام علية القوم قائلاً : لا ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً ! ( راجع الإصابة : 5 / 3 ) .
واستعان عمر بقوة الوليد بن عقبة الفاسق بنص القرآن ، وكان يسكرعلناً ، وصلى بالناس وهو سكران . ( راجع الإصابة : 3 / 363 ) .
واستعان بعبد الله بن أبي سرح ، وكان من المقربين إليه . ( الطبري : 5 / 59 ) . وهو الذي افترى على الله الكذب ، وأباح الرسول دمه حتى لو تعلق بأستار الكعبة .
ثم أتمها عمرعلى بني أمية وحكمهم ، يوم عهد عملياً بالخلافة لعثمان .
واستعان بقوة أبي الأعور السلمي الذي شهد حنين مشركاً . ( الإصابة : 2 / 540 ) . ولعنه رسول الله ( كنز العمال : 8 / 82 ) . وكان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب ، وقد أمَّرَه عمر ، وجعله على مقدمة جيش . ( راجع الإصابة : 2 / 541 ) .
ثم قال المحامي الأردني : ولم يكتفوا باختراع مقولة : لا يجوز لبني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة ، حتى قرروا عزلهم سياسياً عزلاً كاملاً : « وعملياً وطوال رئاسة ذلك النفر للأمة لم يصدف أن استعملوا أو استعانوا بأي رجل من آل محمد ، ولا بأي رجل يتعاطف مع آل محمد ، وذلك من قبيل سد الذرائع ! ) .
عمر يحرص على عزل بني هاشم بعد موته !
قال عبد الله بن عباس : إن عمر قد أرسل إليه وقال له : إن عامل حمص قد هلك وكان من أهل الخير ، وأهل الخير قليل وقد رجوت أن تكون منهم ، وفي نفسي منك شئ لم أره منك وأعياني ذلك فما رأيك بالعمل لي ؟ قال ابن عباس فقلت : لن أعمل لك حتى
--------------------------- 633 ---------------------------
تخبرني بالذي في نفسك ؟ قال عمر ما تريد إلى ذلك ؟ قال ابن عباس فقلت : أريده فإن كان شئ أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت ، وإن كنت بريئاً من مثله علمت أني لست من أهله فقبلت عملك هنالك ، فإني قلما رأيتك طلبت شيئاً إلا عاجلته ! فقال عمر : يا ابن عباس إني خشيت أن يأتي الذي هو آت ( الموت ) وأنت في عملك فتقول هلم إلينا ولا هلم إليكم دون غيركم !
فمن فَرْط حرص عمر على مصلحة المسلمين وكراهيته المطلقة لرئاسة آل محمد يريد حتى بعد وفاته أن يتأكد بأنه لا يوجد في ولايات الدولة ولا أعمالها رجل واحد يؤيد حق آل محمد بالرئاسة !
وهو يثق بمعاوية ويثق بكل ولاته ، لأنه وإياهم على خط واحد ، ولهم هدف واحد وهو الحيلولة بين آل محمد وبين الرئاسة العامة للأمة ، لأن ذلك النفر لا يرون أنه ليس للأمة مصلحة في رئاسة آل محمد ، بل المصلحة كل المصلحة بإبعاد آل محمد عن حقهم برئاسة الأمة ، وإبعاد أولياء آل محمد عن الولايات والإمارات والأعمال والوظائف العامة ، حتى لايوطدوا لآل محمد !
لهذه الأسباب هان على ذلك النفرتجاهل سنة الرسول وكافة الترتيبات الإلهية المتعلقة بنظام الحكم ، أو بمن يخلف الرسول ، وأقنعوا أنفسهم بأن الترتيبات الإلهية التي أعلنها الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في هذا المجال ليست في مصلحة الإسلام ، ولا في مصلحة المسلمين ! ومع الأيام أقنعوا الأكثرية التي حكموها بذلك !
إن هذا لهو البلاء المبين ! » . ( الخطط السياسية لتوحيد الأمة الإسلامية / 262 ) .
3 . شهد عمر بأن ولاته سُرَّاق يأكلون الحرام !
1 . حاسب عمرالولاة السُّرَّاق فأخذ منهم النصف وترك لهم النصف !
قال لهم إنهم خانوا الله والمسلمين وسرقوا أموالهم ، وحكم عليهم بأن يدفعوا له نصف أموالهم ويبقوا في مناصبهم ! ولن تجد أحداً في الأرض ولا في السماء ، يستطيع أن يفسرعمله شرعاً أو قانوناً ! ومع ذلك قالوا : هذا من عدل عمر !
--------------------------- 634 ---------------------------
كتب إلى عماله : « أما بعد فإنكم معشرالعمال تقدمتم على عيون الأموال فجبيتم الحرام ، وأكلتم الحرام ، وأورثتم الحرام ! وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فيقاسمك مالك ، فأحضره مالك ) . ( تاريخ دمشق : 55 / 278 ، وابن خياط / 81 ) .
وقال لأبي هريرة : « يا عدو الله وعدوالإسلام خِنت مال الله ! قال قلت : لست
عدو الله ولا عدو الإسلام ، ولكني عدو من عاداهما ، ولم أخن مال الله ولكنها أثمان إبلي وسهام اجتمعت ! قال فأعادها عليَّ وأعدت عليه هذا الكلام ! قال فغرَّمني اثني عشر ألفاً » . ( الحاكم : 2 / 347 ) .
وفي العقد الفريد ( 1 / 45 ) أن عمر عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله ، وعزل الحارث بن وهب وشاطره ماله .
وسبب مقاسمة لعماله قصىدة ! وتقدم ذلك .
4 . انتقد علي ( عليه السلام ) مقاسمة عمر للولاة
قال ( عليه السلام ) متعجباً من الحكم بمناصفة العمال الخونة : « العجب مما أشربت قلوب هذه الأمة من حب هذا الرجل وصاحبه من قبله ، والتسليم له في كل شئ أحدثه ! لئن كان عماله خونة ، وكان هذا المال في أيديهم خيانة ، ما كان حل له تركه ، وكان له أن يأخذه كله فإنه فئ المسلمين ، فما له يأخذ نصفه ويترك نصفه ؟ !
ولئن كانوا غير خونة فما حل له أن يأخذ أموالهم ولا شيئاً منهم قليلاً ولا كثيراً ، وإنما أخذ أنصافها ! ولو كانت في أيديهم خيانة ثم لم يقروا بها ولم تقم عليهم البينة ، ما حل له أن يأخذ منهم قليلاً ولا كثيراً !
وأعجب من ذلك إعادته إياهم إلى أعمالهم ! لئن كانوا خونة ما حل له أن يستعملهم ، ولئن كانوا غير خونة ما حلت له أموالهم » ! ( كتاب سليم / 223 ) .
5 . وكان علي ( عليه السلام ) يتحرى الولاة ويتابعهم
وكانت سياسته ( عليه السلام ) أن يتحرى عماله من خيرة الناس ، ويكفيهم معيشتهم ، ويتفقدهم ، ويتخذهم أصدقاء ، ثم يراقبهم ويوجههم باستمرار ، وقد كتب لمالك الأشتر لما ولاه مصر برنامجاً مفصلاً لعمل الوالي . ( نهج البلاغة : 3 / 82 ) .
--------------------------- 635 ---------------------------
قال له : ( ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباةً وأثرةً ، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقاً ، وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع إشرافاً ، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً .
ثم أسبغ عليهم الأرزاق ، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك .
ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السرلأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية .
وتحفظ من الأعوان ، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك ، اكتفيت بذلك شاهداً ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة ) .
6 . نماذج من رسائل الإمام ( عليه السلام ) إلى عماله
1 . كانت رسائله ( عليه السلام ) لهم متواصلة ، إلى ولاة النواحي والأمصار والمسؤولين ، فمنها : كتابه ( عليه السلام ) إلى عماله على الخراج : ( من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج : أما بعد ، فإن من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ما يحرزها . وأعلموا أن ما كلفتم يسير وأن ثوابه كثير . ولو لم يكن فيما نهى الله عنه من البغي والعدوان عقاب يخاف لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه . فأنصفوا الناس من أنفسكم . واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة . ولا تحسموا أحداً عن حاجته ، ولا تحبسوه عن طلبته ، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ، ولا دابة يعتملون عليها ولا عبداً ، ولا تضربن أحداً سوطا ًلمكان درهم ، ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد ، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يعدى به على أهل الإسلام ، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه . ولا تدخروا أنفسكم نصيحة ، ولا الجند حسن سيرة ، ولا الرعية معونة ، ولا دين الله قوة .
--------------------------- 636 ---------------------------
وأبلوا في سبيل الله ما استوجب عليكم ، فإن الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا ، وأن ننصره بما بلغت قوتنا ، ولا قوة إلا بالله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 80 ) .
2 . كتب ( عليه السلام ) إلى عمر بن أبي سلمة عامله على البحرين : ( أما بعد فإني قد وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين ، ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك . فلقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة . فأقبل غير ظنين ولاملوم ولامتهم ولامأثوم . فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام وأحببت أن تشهد معي ، فإنك ممن استظهر به على جهاد العدووإقامة عمود الدين إن شاء الله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 68 ) .
3 . وكتب ( عليه السلام ) إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني : ( بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وأغضبت إمامك : أنك تقسم فئ المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم ، وأريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامَكَ من أعراب قومك ! فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقاً لتجدن بك علي هواناً ، ولتخفن عندي ميزاناً ، فلا تستهن بحق ربك ) . ( نهج البلاغة : 3 / 67 ) .
4 . وكتب ( عليه السلام ) إلى بعض عماله : ( أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك ، وعصيت إمامك ، وأخزيت أمانتك ، بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك ، وأكلت ما تحت يديك ، فارفع إلي حسابك ، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس ) . ( نهج البلاغة : 3 / 65 ) .
5 . وكتب ( عليه السلام ) إلى قثم بن العباس عامله على مكة : ( أما بعد ، فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام الله ، واجلس لهم العصرين فأفت المستفتي وعلم الجاهل ، وذاكر العالم . ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ، ولا حاجب إلا وجهك . ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها ، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها ، وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيباً به مواضع الفاقة والخلات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا .
--------------------------- 637 ---------------------------
ومُرْ أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجراً ، فإن الله سبحانه يقول : سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ . فالعاكف : المقيم به ، والبادي الذي يحج إليه من غير أهله . وفقنا الله وإياكم لمحابه . والسلام ) . ( نهج اليلاغة : 3 / 127 ) .
أقول : يفهم من ذلك تحريم أخذ الأجرة من الحجاج ، وأن إجازة التملك والبناء في مكة مشروطة من الأصل بأن يسكنوا الحجاج مجاناً .
وكتب ( عليه السلام ) إلى قثم أيضاً : ( أما بعد فإن عيني بالمغرب كتب إلي يُعْلمني أنه وُجِّهَ على الموسم أناس من أهل الشام العمي القلوب ، الصم الأسماع الكُمْه الأبصار ، الذين يلتمسون الحق بالباطل ، ويطيعون المخلوق في معصية الخالق ، ويحتلبون الدنيا درها بالدين ، ويشترون عاجلها بآجل الأبرار والمتقين . ولن يفوز بالخير إلا عامله ، ولا يجزى جزاء الشر إلا فاعله . فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصليب والناصح اللبيب ، والتابع لسلطانه المطيع لإمامه . وإياك وما يعتذر منه . ولا تكن عند النعماء بطراً ، ولا عند البأساء فشلاً . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 26 ) .
6 . وكتب ( عليه السلام ) إلى كميل بن زياد النخعي وهو عامله على هيت ، ينكر عليه تركه
دفع من يجتاز به من جيش العدو طالباً الغارة : ( أما بعد ، فإن تضييع المرء ما وليَ وتكلفه ما كُفِيَ ، لعجزٌ حاضرٌ ورأيٌ مُتَبَّر . وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا ، وتعطيلك مسالحك التي وليناك ليس بها من يمنعها ، ولا يرد الجيش عنها ، لرأيٌ شعاع .
فقد صرت جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك ، غير شديد المنكب ، ولا مهيب الجانب ، ولا سادٌّ ثغرة ، ولا كاسرٌ شوكة ، ولا مغنٍ عن أهل مصره ، ولا مجزٍ عن أميره ) . ( نهج البلاغة : 3 / 118 ) .
7 . ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن تمران ، عامليه على اليمن ،
لما خرجت فيه خارجة العثمانية : ( أما بعد ، فإنه قد أتاني كتابكما ، تذكران فيه خروج هذه الخارجة ، وتعظمان من شأنها صغيراً ، وتكثِّران من عددها قليلاً ، وقد علمت أن صغر أنفسكما ، وشتات رأيكما ، وسوء تدبيركما ، هو الذي أفسد
--------------------------- 638 ---------------------------
عليكما من لم يكن فاسداً ! وجرّأ عليكما من كان عن لقائكما جباناً ، فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليكم كتابي إليهم ، وتدعواهم إلى حظهم ، وتقوى ربهم ، فان أجابوا حمدنا الله وقبلناهم ، وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ، ونابذناهم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين ) . ( مستدرك نهج البلاغة / 135 ) .
8 . كتب ( عليه السلام ) إلى المنذر بن الجارود العبدي ، وقد خان في بعض ما ولاه : ( أما بعد فإن صلاح أبيك غرني منك ، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله ، فإذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواك انقياداً ، ولا تبقي لآخرتك عتاداً ، تعمر دنياك بخراب آخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك . ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك ! ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر ، أو ينفذ به أمر ، أو يعلى له قدر ، أو يشرك في أمانة ، أو يؤمن على خيانة ، فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا ، إن شاء الله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 132 ) .
وله ( عليه السلام ) كلمة في المنذر : ( إنه لنظَّار في عطفيه ، مختالٌ في برديه ، تَفَّالٌ في شراكيه ) .
9 . كتب ( عليه السلام ) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري ، وهو عامله على البصرة ، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة ، فأسرع إليها : ( أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو . فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه . ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ، ويستضئ بنور علمه ، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، وعفة وسداد . فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادخرت من غنائمها وفراً ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً .
بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء ، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ، ونعم الحكم الله . وما أصنع بفدك وغيرفدك والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها ، وتغيب أخبارها ، وحفرة لو زيد في فسحتها
--------------------------- 639 ---------------------------
وأوسعت يدا حافرها لاضغطها الحجر والمدر ، وسد فرجها التراب المتراكم . وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق .
ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيرالأطعمة . ولعل بالحجاز أو اليمامة من لاطمع له في القرص ولاعهد له بالشبع ، أوَأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى ! أو أكون كما قال القائل :
وحسبك داء أن تبيتَ ببطنةٍ * وحولَك أكبادٌ تَحِنُّ إلى القِدِّ
أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش . فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها ، أو المرسلة شغلها تقممها ، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها . أو أترك سدى أو أهمل عابثاً ، أو أجر حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة . وكأني بقائلكم يقول إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان ، ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً ، والروائع الخضرة أرق جلوداً ، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً ، وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد . والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها ، وسأجهد في أن أطهرالأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد . إليك عني يا دنيا ، فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، وأفلتُّ من حبائلك ، واجتنبت الذهاب في مداحضك .
أين القرون الذين غررتِهم بمداعبك ، أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك . هاهم رهائن القبور ، ومضامين اللحود . والله لو كنت شخصاً مرئياً ، وقالباً حسياً لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني ، وأمم ألقيتهم في المهاوي ، وملوك أسلمتهم إلى التلف ، وأوردتهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر ! هيهات
--------------------------- 640 ---------------------------
من وطأ دحضك زلق ، ومن ركب لججك غرق ، ومن ازْوَرَّ عن حبائلك وفق . والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه ، والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه . أعزبي عني ، فوالله لا أذل لك فتستذليني ، ولا أسلس لك فتقوديني . وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً ، وتقنع بالملح مأدوماً ، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها . أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك ، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ، ويأكل علي من زاده فيهجع ! قرت إذا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية . طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها ، وعركت بجنبها بؤسها ، وهجرت في الليل غمضها ، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها في معشر أسهرعيونهم خوف معادهم ، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم ، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم : أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ . فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك ) . ( نهج البلاغة : 3 / 70 ) .
10 . وكان ( عليه السلام ) سخياً بالمال شديدأً على العمال رحيمأً بالمساكين ، لايمهل الخائن بل ينزل به العقوبة ، فقد قال ( عليه السلام ) في عهده لمالك الأشتر عن محاسبة العمال : ( فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة ، اجتمعت بها أخبار عيونك ، اكتفيت بذلك شاهداً ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ، فوسمته بالخيانة ، وقلدته عار التُّهمَة ) .
وقد نصب ( عليه السلام ) ابن هَرْمَة والياً على الأهواز ، فثبتت عليه خيانة ورشوة ، فكتب إلى رِفاعة بن شداد قاضي الأهواز : ( إذا قرأت كتابي فنحِّ ابن هرمة عن السوق ، وأوقفْه للناس واسجنْه ونادِ عليه ، واكتب إلى أهل عملك تُعلمهم رأيي فيه ، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط ، فتهلك عند الله ، وأعزِلُك أخبث عزلة ، وأُعيذك بالله من ذلك . فإذا كان يوم الجمعة فأخرِجه من السجن واضربه خمسة وثلاثين سوطاً وطُف به إلى الأسواق ، فمن أتى عليه بشاهد فحلفه مع شاهده ، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه ، ومُرْ به إلى السجن ، مهاناً مقبوحاً منبوحاً ، واحزم رجليه بحزام ، وأخرجه وقت
--------------------------- 641 ---------------------------
الصلاة ، ولا تحُل بينه وبين من يأتيه بمطعم أو مشرب أو ملبس أو مفرش ، ولا تدع أحداً يدخل إليه ممن يلقنه اللَّدَد ويرجيه الخلوص . فإن صح عندك أن أحداً لقنه ما يضرُّ به مسلماً ، فاضربه بالدرة ، فاحبسه حتى يتوب ، ومُرْ بإخراج أهل السجن في الليل إلى صحن السجن ليتفرجوا ، غير ابن هرمة ، إلا أن تخاف موته فتخرجه مع أهل السجن إلى الصحن ، فإن رأيت به طاقة أو استطاعة فاضربه بعد ثلاثين يوماً خمسة وثلاثين سوطاً بعد الخمسة والثلاثين الأُولى ، واكتب إليَّ بما فعلت في السوق ، ومن اخترت بعد الخائن ، واقطع عن الخائن رزقه ) !
11 . كتب ( عليه السلام ) إلى العمال الذين يطأ الجيش عملهم : ( من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباة الخراج وعمال البلاد : أما بعد ، فإني قد سيرت جنوداً هي مارة بكم إن شاء الله ، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الأذى وصرف الشذى . وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرة الجيش إلا من جوعة المضطرلا يجد عنها مذهباً إلى شبعه . فنكلوا من تناول منهم شيئاً ظلماً عن ظلمهم ، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضادتهم والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم . وأنا بين أظهر الجيش فادفعوا إلي مظالمكم وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دفعه إلا بالله وبي ، فأنا أغيره بمعونة الله ، إن شاء الله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 116 ) .
12 . ونهى العمال عن أخذ الهدية فكتب لهم : ( أيُّما والٍ احتجب عن حوائج الناس ،
احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدية كان غُلولاً ، وإن أخذ رشوةً فهو مشرك ) .
13 . وكان ( عليه السلام ) يكتب إلى عماله : ( لاتُسَخِّرُوا المسلمين فتذلوهم ، ومن سألكم غير
الفريضة فقد اعتدى فلاتعطوه . ويوصي بالأكارين وهم الفلاحون ) . ( الكافي : 5 / 284 ) .
14 . وكتب يوجه عماله كيف يكتبون رسائلهم ( الخصال / 310 ) : ( أدقوا أقلامكم ،
وقاربوا بين سطوركم ، واحذفوا عني فضولكم ، واقصدوا قصد المعاني ، وإياكم والإكثار ، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار ) .
--------------------------- 642 ---------------------------
15 . وكتب ( عليه السلام ) إلى الأشعث بن قيس وكان عامل عثمان على أذربيجان : ( أما بعد ، فلولا هناتٍ كن فيك لكنت المقدم في هذا الأمر ، ولعل أمرك يحمل بعضه بعضاً إن اتقيت الله . إن عملك ليس لك طعمة ، ولكنه أمانة ، وإن في يديك مالاً من أموال الله وأنت من خزان الله عليه حتى تسلَّم إليَّ ، ولعلي أن لا أكون شر ولاتك لك إن استقمت ، ولا قوة إلا بالله ) . ( مستدرك نهج البلاغة / 113 )
16 . ومن وصية له ( عليه السلام ) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات : ( انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له . ولا تُرَوِّعَنَّ مسلماً ولا تجتازن عليه كارهاً ، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله ، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ، ولا تخدج بالتحية لهم ، ثم تقول : عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم ، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه ؟
فإن قال قائل لا فلا تراجعه ، وإن أنعم لك منعم ، فانطلق معه من غيرأن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه ، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة . فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه ، فإن أكثرها له ، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولاتعنيف به ، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها ولاتسوءن صاحبها فيها ، واصدع المال صدعين ثم خيره ، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره . ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره ، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره . فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله ، فاقبض حق الله منه . فإن استقالك فأقله ، ثم اخلطهما ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق الله في ماله .
ولا تأخذن عوداً ولا هرمة ولا مكسورة ولامهلوسة ولا ذات عوار ، ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه رافقاً بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم ، ولا توكل بها إلا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً ، غير معنف ولا مجحف ، ولا ملغب ولا متعب ، ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر الله به .
فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألا يحول بين ناقة وبين فصيلها ، ولا يمصر لبنها
--------------------------- 643 ---------------------------
فيضر ذلك بوليدها ، ولا يجهدنها ركوباً ، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها . وليرفه على اللاغب ، وليستأن بالنقب والظالع ، وليوردها ما تمر به من الغدر ، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطريق ، وليروحها في الساعات وليمهلها عند النطاف والأعشاب ، حتى تأتينا بإذن الله بدناً منقيات غير متعبات ولا مجهودات ، لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإن ذلك أعظم لأجرك ، وأقرب لرشدك ، إن شاء الله ) . ( نهج البلاغة : 3 / 26 ) .
17 . كتب ( عليه السلام ) إلى عبد الله بن عباس عامله على البصرة : ( إعلم أن البصرة مهبط إبليس ومغرس الفتن ، فحادث أهلها بالإحسان إليهم ، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم . وقد بلغني تنمرك لبني تميم وغلظتك عليهم ، وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر ، وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام ، وإن لهم بنا رحماً ماسة وقرابة خاصة ، نحن مأجورون على صلتها ومأزورون على قطيعتها . فأربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر ، فإنا شريكان في ذلك ، وكن عند صالح ظني بك ، ولا يفيلن رأيي فيك . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 18 ) .
أقول : قد تكون البصرة مهبط إبليس حقيقة لما نزل إلى الأرض مع آدم ( عليه السلام ) وقد يكون المعنى أن تركيبها وظروفها يومها جعلتها مرتعاً للشيطان ، فيجب الحذر منه فيها .
18 . وكتب ( عليه السلام ) إلى أبي موسى الأشعري عامله على الكوفة ، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل : ( من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس : أما بعد ، فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك ، فإذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك ، واشدد مئزرك ، واخرج من حجرك ، واندب من معك ، فإن حققت فانفذ ، وإن تفشلت فأبعد !
وأيم الله لتؤتين حيث أنت ، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك ، وذائبك بجامدك ، وحتى تعجل عن قعدتك ، وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك . وما هي بالهوينى التي ترجو ، ولكنها الداهية الكبرى ، يركب جملها ويذل صعبها
--------------------------- 644 ---------------------------
ويسهل جبلها . فاعقل عقلك ، واملك أمرك ، وخذ نصيبك وحظك ، فإن كرهت فتنح إلى غير رحب ، ولا في نجاة ، فبالحري لتكفيَنَّ وأنت نائم ، حتى لا يقال أين فلان . والله إنه لحق مع محق ، وما نبالي ما صنع الملحدون . والسلام ) . ( نهج البلاغة : 3 / 122 ) .
19 . من أخبار القضاة لوكيع ( 1 / 59 ) : أن علياً ( عليه السلام ) استعمل رجلاً من بني أسد يقال له : ضبيعة بن زهير ، فلما قضى عمله أتى علياً ( عليه السلام ) بجراب فيه مال ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن قوماً كانوا يهدون لي حتى اجتمع منه مال فهاهوذا ، فإن كان لي حلالاً أكلته ، وإن كان غيرذاك فقد أتيتك به . فقال علي ( عليه السلام ) : لو أمسكته لكان غلولاً ! فقبضه منه وجعله في بيت المال ) .
20 . وكتب ( عليه السلام ) إلى عبد الله بن بديل ، وكان قائداً في جيشه : ( وإياك ومواقعة أحد من خيل العدو حتى أتقدم عليك ، وأذكِ العيون نحوهم ، وليكن مع عيونك من السلاح ما يباشرون به القتال ، ولتكن عيونك الشجعان من جندك ، فإن الجبان لا يأتيك بصحة الأمر ، وانته إلى أمري ومن قبلك بإذن الله . والسلام ) .
21 . وكتب ( عليه السلام ) إلى بعض عماله : ( أما بعد ، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظةً وقسوة ، واحتقاراً وجفوة ، ونظرتُ فلم أرَهم أهلاً لأن يُدْنَوا لشركهم ، ولا أن يُقصوا ويجفوا لعهدهم ، فالبس لهم جلباباً من اللين ، تشوبه بطرف من الشدة ، وداوِل لهم بين القسوة والرأفة ، وامزج لهم بين التقريب والإدناء ، والإبعاد والإقصاء ، إن شاء الله ) .
22 . وكتب ( عليه السلام ) إلى بعض عماله : ( أما بعد ، فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين ، وأقمع به نخوة الأثيم ، وأسدُّ به لهاة الثغر المخوف . فاستعن بالله على ما أهمّك ، واخلط الشدة بضغث من اللين ، وارفق ما كان الرفق أرفق ، واعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلا الشدة . واخفض للرعية جناحك ، وابسط لهم وجهك ، وألِن لهم جانبك ، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة ، والإشارة والتحية ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييأس الضعفاء من عدلك . والسلام ) .
--------------------------- 645 ---------------------------
8 . أشهر الولاة في حكومة علي ( عليه السلام )
1 - سهل بن حنيف الأنصاري - والي المدينة ثم فارس . 2 - أبو أيوب الأنصاري - المدينة .
3 - أبو قتادة الأنصاري - مكة . 4 - قثم بن العباس - مكة والطائف .
5 - مالك الأشتر - الجزيرة ثم مصر . 6 - عثمان بن حنيف - البصرة .
7 - عبد الله بن عباس - البصرة . 8 - أبو الأسود الدؤلي - البصرة .
9 - مصقلة بن هبيرة الشيباني - الأهواز . 10 - هانيء بن هوذة النخعي - الكوفة .
11 - قرظة بن كعب الأنصاري - الكوفة . 12 - كميل بن زياد النخعي - الجزيرة .
13 - عمر بن أبي سلمة - البحرين . 14 - عبيد الله بن عباس - اليمن .
15 - سعيد بن سعد بن عبادة - الجند . 16 - قيس بن سعد بن عيادة - مصر .
17 - محمد بن أبيبكر - مصر . 18 - زياد بن أبيه نائب ابن عباس - فارس .
19 - يزيد بن حجية التميمي - الري . 20 - سعد بن مسعود الثقفي - المدائن .
21 - المنذر بن الجارود - إصطخر . 22 - عمر بن سلمة - أصبهان .
23 - جعدة بن هبيرة بن أبي وهب - خراسان . 24 - عبد الرحمن بن جزء الطائي - سجستان .
25 - جرير بن عبد الله البجلي - همذان . 26 - سعيد بن سارية الخزاعي - أذربيجان .
27 - الحارث بن مرة العبدي - السند .
9 . تطهيرالدولة من الفاسدين وتعيين أصلح الموجودين
1 . كان لابد لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يعزل طاقم الولاة والمسؤولين الذين ضج منهم المسلمون ، وشكوهم إلى عثمان فتمسك بهم ، فكانت النقمة عليه بسببهم . وأن يصحح ملكية الأراضي التي سجلوها بأسمائهم ، ويصادر ما بقي من سرقاتهم .
2 . قال اليعقوبي ( 2 / 180 ) : ( وعزل علي عمال عثمان عن البلدان ، خلا أبي موسى الأشعري ، كلمه فيه الأشتر فأقره ، وولَّى قثم بن العباس مكة ، وعبيد الله بن العباس اليمن ، وقيس بن سعد بن عبادة مصر ، وعثمان بن حنيف الأنصاري البصرة . وأتاه طلحة والزبيرفقالا : إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة ، فأشركنا
--------------------------- 646 ---------------------------
في أمرك ! فقال : أنتما شريكاي في القوة والاستقامة ، وعوناي على العجز والأود ) .
( فقالوا له : أكتب يا أمير المؤمنين إلى من خالفك بولايته ، ثم اعزله ، فقال ( عليه السلام ) : المكر والخديعة والغدر في النار ) . ( الإختصاص للمفيد / 150 ) .
3 . قال الطبري ( 3 / 462 ) : ( ولما دخلت سنة 36 ، فرَّق عليٌّ عماله على الأمصار فبعث عثمان بن حنيف على البصرة ، وعمارة بن شهاب على الكوفة وكانت له هجرة ، وعبيد الله بن عباس على اليمن ، وقيس بن سعد على مصر ، وسهل بن حنيف على الشام . فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقالوا : من أنت ؟ قال : أمير . قالوا : على أي شئ ؟ قال : على الشام . قالوا : إن كان عثمان بعثك فحيهلاً بك وإن كان بعثك غيره فارجع . قال : أوما سمعتم بالذي كان ؟ قالوا : بلى ! فرجع إلى علي .
وأما قيس بن سعد ، فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيل فقالوا : من أنت ؟ قال : من فلِّ عثمان ، فأنا أطلب من آوى إليه وانتصر به ! قالوا : من أنت ؟ قال قيس بن سعد ! قالوا : إمض ، فمضى حتى دخل مصر فافترق أهل مصر فرقاً ، فرقة دخلت في الجماعة وكانوا معه ، وفرقة وقفت واعتزلت إلى خربتا ، وقالوا إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم وإلا فنحن على جديلتنا حتى نُحرك أو نُصيب حاجتنا . وفرقة قالوا نحن مع علي ما لم يُقِدْ إخواننا ، وهم في ذلك مع الجماعة ، وكتب قيس إلى أمير المؤمنين بذلك ) .
ومعنى قول قيس : ( من فلِّ عثمان ) أي من جماعة عثمان الهاربين بعد قتله ، جئت أطلب ملجأً في مصر ! قال ذلك ليتخلص من تلك الحامية التي كانت موالية لعثمان ! فلما دخل إلى مصر أظهر أمره ، كما ذكر ابن خلدون وغيره .
ومعنى قول المتهمين بقتل عثمان : ما لم يُقِدْ إخواننا ، أي نحن مع علي ما لم يقتص من المصريين الذين شاركوا في حصار عثمان وقتلة .
وقد نشطت المجموعة العثمانية في مصر ، وكانوا بقيادة مسلمة بن مخلد ، ومعاوية بن حديج ، وبسر بن أرطاة ، وسيطروا على قرية خَرَبْتا .
وراسل معاوية قيس بن سعد واستطاع أن يسكته عنهم ، فكانوا دولة داخل الدولة ! فأرسل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى سعد أن يعرض عليهم الدخول في الطاعة أو يناجزهم ،
--------------------------- 647 ---------------------------
فلم يفعل قيس مع الأسف ! وتفاقم خطرهم في مصر فبعث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) محمد بن أبيبكر حاكماً ، فتسلم ولايتها من قيس وأخذ يعالج وضعها ! وتسارعت الأحداث في مصر ضد محمد بن أبيبكر ( رحمه الله ) وخاض صراعاً مع جماعة معاوية .
وأمام خطرهم أرسل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شخصية قوية في الإدارة والحرب ، هو مالك الأشتر ، لكن معاوية وعمراً دبَّرا له السم عند مشارف القاهرة ، فاستشهد رضي الله عنه قبل أن يتسلم عمله من محمد بن أبيبكر ، فبقي محمد حاكم مصر .
وأرسل معاوية جيشاً إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص ، للسيطرة عليها وجعلها طُعْمَةً لابن العاص كل حياته كما شرَط له ، وسيأتي خبر شهادة محمد بن أبيبكر ( رحمه الله ) !
10 . عَزَلَ معاوية عن ولاية الشام
روى الطوسي في أماليه / 88 : ( لما بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، بلغه أن معاوية قد توقف عن إظهار البيعة له ، وقال : إن أقرني على الشام وأعمالي التي ولانيها عثمان ، بايعته ، فجاء المغيرة إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : يا أمير المؤمنين إن معاوية من قد عرفت ، وقد ولاه الشام من قد كان قبلك ، فوله أنت كيما تتسق عرى الأُمور ، ثم اعزله إن بدا لك . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه ؟ قال : لا . قال : لا يسألني الله عز وجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً : وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ، لكن ابعث إليه وادعوه إلى ما في يدي من الحق ، فإن أجاب فرجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، وإن أبى حاكمته إلى الله .
فولّى المغيرة وهو يقول : فحاكمه إذن ، وأنشأ يقول :
نصحتُ علياً في ابن حرب نصيحةً * فردَّ ، فما مني له الدهر ثانيهْ
ولم يقبل النصح الذي جئتُه به * وكانت له تلك النصيحة كافيهْ
وقالوا له ما أخلص النصح كله * فقلتُ له إن النصيحة غاليهْ .
فقام قيس بن سعد ( رحمه الله ) فقال : يا أمير المؤمنين ، إن المغيرة أشارعليك بأمر لم يرد
--------------------------- 648 ---------------------------
الله ، فقدم فيه رجلاً وأخر فيه أخرى ، فإن كان لك الغلبة تقرب إليك بالنصيحة وإن كانت لمعاوية تقرب إليه بالمشورة ، ثم أنشأ يقول :
كاد ومن أرسى ثبيراً مكانه * مغيرة أن يقوي عليك معاويهْ
وكنت بحمد الله فينا موفقاً * وتلك التي أراكها غير كافيه
فسبحان من أعلى السماء مكانها * وأرضاً دحاها فاستقرت كما هيهْ )
وروى الطبري ( 3 / 461 ) عن ابن عباس ، قال : ( قدمت المدينة وقد بويع لعلي فأتيته في داره فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به ، فحبسني حتى خرج من عنده فقلت : ماذا قال لك هذا ؟ فقال : قال لي قبل مرته هذه : أرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية وإلى عمال عثمان بعهودهم تقرهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس ، فإنهم يهدِّئون البلاد ويسكنون الناس ، فأبيت ذلك عليه يومئذ وقلت : والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدتُ فيها رأيي ، ولا ولّيتُ هؤلاء ولا مثلُهم يُولَّى ! قال : ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يرى أني مخطئ ، ثم عاد إلي الآن فقال : إني أشرتُ عليك أول مرة بالذي أشرتُ عليك وخالفتني فيه ، ثم رأيتُ بعد ذلك رأياً ، وأنا أرى أن تصنع الذي رأيتَ فتنزعهم وتستعين بمن تثق به ، فقد كفى الله ، وهم أهون شوكةً مما كان .
قال ابن عباس : فقلت لعلي : أما المرة الأُولى فقد نصحك ، وأما المرة الآخرة فقد غشك . قال له علي : ولِمَ نصحني ؟ قال ابن عباس : لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر ، ومتى تعزلهم يقولوا : أخذ هذا الأمر بغير شورى وهو قتلَ صاحبَنا ، ويؤلبون عليك فينتقض عليك أهل الشام وأهل العراق ، مع أني لا آمن طلحة والزبيرأن يكرا عليك .
فقال علي : أما ما ذكرتَ من إقرارهم ، فوالله ما أشك أن ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها ، وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمال عثمان ، فوالله لا أُولي منهم أحداً أبداً ، فإن أقبلوا فذلك خير لهم ، وإن أدبروا بذلتُ لهم السيف .
قال ابن عباس : فأطعني وادخل دارك والحق بمالك بينبع وأغلق بابك عليك ، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك ، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم
--------------------------- 649 ---------------------------
ليُحمِّلنك الناس دمَ عثمان غداً .
فأبى عليٌّ ، فقال لابن عباس : سر إلى الشام فقد وليُتكها . فقال ابن عباس : ما هذا برأي ، معاوية رجل من بني أُمية وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام ، ولستُ آمن أن يضرب عنقي بعثمان أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي . فقال له علي : ولِمَ ؟ قال : لقرابة ما بيني وبينك ، وإن كل ما حمل عليك حمل علي ، ولكن اكتب إلى معاوية فَمَنِّهِ وعِدْه . فأبى عليَّ ، وقال : والله لا كان هذا أبداً ) !
ولكن ابن عباس رجع إلى رأي علي ( عليه السلام ) فقد قال للمغيرة كما في شرح النهج ( 6 / 301 ) : ( كان والله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أعلم بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأُمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنف عليه ، قال سبحانه : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ . ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوّة قوله تعالى : وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا . وهل كان يسوغ له أن يُحَكِّم في دماء المسلمين وفئ المؤمنين من ليس بمأمون عنده ، ولاموثوق به في نفسه !
هيهات هيهات ، هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلا للتقية ، ولات حين تقية ، مع وضوح الحق وثبوت الجنان وكثرة الأنصار ، يمضي كالسيف المصلت في أمر الله ، مؤثراً لطاعة ربه والتقوى ، على آراء أهل الدنيا ) .
11 . عزل خالد بن العاص عن ولاية مكة
في أسد الغابة ( 2 / 85 ) : ( خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي . وهو ابن أخي الحارث ، وأبي جهل ابني هشام ، وقتل أبوه العاص يوم بدر كافراً ، واستعمله عمر بن الخطاب على مكة . واستعمله عليها عثمان بن عفان ) .
وروى البلاذري ( 2 / 210 ) : ( عن صالح بن كيسان قال : لما بايع الناس علياً كتب إلى خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يؤمِّره على مكة ، وأمره بأخذ البيعة فأبى أهل مكة أن يبايعوا علياً ، فأخذ فتى من قريش يقال له : عبد الله بن الوليد بن زيد بن ربيعة بن عبدالعزّى بن عبد شمس الصحيفة ( كتاب علي ( عليه السلام ) ) فمضغها وألقاها فوطئت في سقاية زمزم ، فقتل ذلك الفتى يوم الجمل مع عائشة ) .
--------------------------- 650 ---------------------------
أقول : يبدو أن خالداً والي مكة ، كان سبب عدم بيعة أهل مكة ، فلما عزله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بايعه أهل مكة .
12 . ثم ولى على مكة أبا قتادة الأنصاري
قال ابن عساكر ( 67 / 151 ) : ( عزل علي خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي عن مكة ، وولاها أبا قتادة الأنصاري ، ثم عزله وولى قثم بن عباس ، فلم يزل عليها والياً حتى قتل علي . قال عبد الرزاق إن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة فقال : تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار ، فما منعكم أن تلقوني ؟ قالوا : لم يكن لنا دواب ! قال معاوية : فأين النواضح ؟ فقال أبو قتادة عقرناها في طلب أبيك يوم بدر ! ثم قال أبو قتادة : إن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لنا : سترون بعدي أثَرَة ، فقال معاوية : فما أمركم ؟ قال : أمرنا أن نصبر حتى نلقاه ، قال : فاصبروا حتى تلقوه ! وقال أبو جعفر الفلاس : مات أبو قتادة سنة أربع وخمسين بالمدينة ، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة ) .
وقال ابن عبد البر في الإستيعاب ( 4 / 1732 ) : ( أبو قتادة الأنصاري ، فارس رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وكان يعرف بذلك . اختلف في اسمه فقيل الحارث بن ربعي بن بلدمة ، وقيل النعمان بن ربعي . اختلف في شهوده بدراً ، فقال بعضهم : كان بدرياً . ولم يذكره ابن عقبة ، ولا ابن إسحاق في البدريين .
وذكر الواقدي عن أبي قتادة ، قال : أدركني رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم ذي قُرَد فنظر إلي فقال : اللَّهمَّ بارك في شعره وبشره ، وقال : أفلح وجهك . قلت : ووجهك يا رسول الله . قال : قتلت مسعدة ؟ قلت : نعم . قال : فما هذا الَّذي بوجهك ؟ قلت : سهم رميت به يا رسول الله . قال : أدن ، فدنوت منه فبصق عليه فما ضرب علي قط ولا قاح . وروى من حديث محمد بن المنكدر ، ومرسل عطاء ومرسل عروة أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال لأبي قتادة : من اتخذ شعراً فليحسن إليه أو ليحلقه . وقال له : أكرم جُمَّتك وأحسن إليها ، وكان يرجِّلها غِبَّاً .
واختلف في وقت وفاته فقيل : مات بالمدينة سنة أربع وخمسين . وقيل : بل مات في خلافة علي بالكوفة وهو ابن سبعين سنة ، قال الشعبي : وكان بدرياً . وقال الحسن بن عثمان : وشهد أبو قتادة مع عليٍّ مشاهده كلها ) .
--------------------------- 651 ---------------------------
13 . ثم ولى على مكة قثم بن العباس
قال الأحمدي في مكاتيب الأئمة ( عليهم السلام ) ( 2 / 315 ) : ( كان قثم على مكة والطائف ، حتى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وتوفي قثم في زمن معاوية بسمرقند شهيداً . . ولم أعثر إلى الآن على قَدْحٍ فيه ، بل قال الطبري : إنه كان ورعاً فاضلاً ، ولم يذكره قيس بن سعد بطل الشيعة وخطيب الأنصار بسوء ، حين خطب بعد فرار عبيد الله إلى معاوية ، مع أنه وقع في عبد الله وعبيد الله والعباس . إلا أنه فر وخلى مكة لبسر بن أرطاة لعنه الله ) .
14 . عَزَلَ الأشعث عن ولاية آذربيجان ورئاسة كندة وربيعة
كتب له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة : 3 / 6 ) : ( إن عملك ليس لك بِطُعْمة ، ولكنه في عنقك أمانة ، وأنت مسترعىً لمن فوقك ، ليس لك أن تَفْتاتَ في رعية ، ولا تخاطر إلا بوثيقة ، وفي يديك مال من مال الله عز وجل ، وأنت من خزَّانه حتى تسلمه إليَّ ، ولعلي ألاّ أكون شرَّ وُلاتك لك . والسلام ) .
وقال له : ( أدِّ وإلاّ ضربتك بالسيف ، فأدى ما كان عليه فقال له : من كان عليك لو كنا ضربناك بعرض السيف ؟ فقال : إنك ممن إذا قال فعل ) . ( نثر الدر : 1 / 292 ) .
قال الأحمدي في مكاتيب الأئمة ( عليهم السلام ) ( 1 / 225 ) بتصرف : ( كان الأشعث في أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما كان عبد الله بن أبي بن سلول في أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه . وعزله علي ( عليه السلام ) عن رياسة كندة ، ثم طال الكلام في ذلك ، فولاه ميمنته وهي ميمنة أهل العراق . وغلب على الماء في صفين حميةً ، ووصفه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بابن الخمارة . وقال ( عليه السلام ) : أيها الناس إن الأشعث لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وإنه أقل في دين الله من عفطة عنز .
وقال ابن أبي الحديد : كل فساد كان في خلافة علي ( عليه السلام ) وكل اضطراب حدث فأصله الأشعث . بايع وسلم على الضب بإمارة المؤمنين ( عليه السلام ) . وألزم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالتحكيم بل هو الذي أسس التحكيم بالاتفاق مع معاوية !
--------------------------- 652 ---------------------------
وقد شرك الأشعث في قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقامت ابنته بقتل الحسن ( عليه السلام ) ، وولده محمد في قتل مسلم بن عقيل ، وشارك قيس بن الأشعث في قتل الحسين ( عليه السلام ) .
وأضاف الأحمدي : زوَّج بنته لابن عثمان في أيام خلافته ، ونصبه عثمان والياً على آذربايجان ، وكان يهبه مئة ألف درهم من خراجها سنوياً . وعزله الإمام ( عليه السلام ) عن آذربايجان ، ودعاه إلى المدينة ، فهمَّ بالفرار إلى معاوية ، ثم قدم المدينة بتوصية أصحابه ووافى الإمام ( عليه السلام ) . وولاه رئاسة قبيلته كندة في حرب صفين ، وكان على ميمنة الجيش . وتزعَّم التيار الذي فرض التحكيم ، وأثار التعصب اليماني وفرض أبا موسى الأشعري حكماً ، ورفض ابن عباس ومالك الأشتر ، وكان شرساً حتى أنه هدد الإمام ( عليه السلام ) مرة بالقتل ! ووصفه الإمام ( عليه السلام ) بالنفاق ولعنه » .
وقد نص المؤرخون على أن الأشعث شريك لابن ملجم في اغتيال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقد نزل ابن ملجم عنده في بيته ، وعاونه على جريمته ! ( وقدم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الكوفة لعشر بقين من شعبان سنة أربعين . . فنزل على الأشعث بن قيس الكندي ، فأقام عنده شهراً يستحدُّ سيفه ) . ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 222 ) .
وقال ابن الأعثم ( 3 / 68 ) : ( وعزل علي الأشعث بن قيس عن الرئاسة لشئ بلغه عنه ، ودفع رايته إلى حسان بن مخدوج الذهلي ، فغضب لذلك سادات كندة حتى كاد أن يقع بين كندة وربيعة شئ من حرب ، فقالت ربيعة لكندة : يا هؤلاء ! لا عليكم إن كان صاحبكم الأشعث بن قيس ملكاً في الجاهلية وسيداً في الإسلام فإن صاحبنا ليس بدونه ، وهو أهل لهذه الرئاسة .
ثم وثب حسان بن مخدوج إلى الأشعث فقال له : يا أخي ! إن كان أمير المؤمنين عزلك عن الرئاسة ، فهذه راية قومي لك ولي راية قومك ، فقال الأشعث : معاذ الله أن أفعل ذلك ! ما كان لي فهو لك ، وما كان لك فهو لي .
قال : وبلغ ذلك معاوية أن علياً ( عليه السلام ) قد عزل الأشعث عن الرئاسة فدعا بشاعره كعب بن جعيل وقال : أحب أن يُلقى إلى الأشعث بن قيس شئ من الشعر يهيجه على علي ، فلعله أن يفارقه ويصير إلينا ، فكتب إليه كعب بن جعيل :
--------------------------- 653 ---------------------------
زالت عن الأشعث الكندي رئاسته * واستجمع الأمر حسان بن مخدوج . .
قال : فلما انتهى هذا الشعر إلى أهل اليمن وثب شريح بن هانئ المذحجي وقال : يا معشر اليمن ! إن معاوية يريد أن يفرق بينكم وبين إخوانكم ، وربيعة لم يزالوا حلفاءكم في الجاهلية وإخوانكم في الإسلام ، فلا تلتفتوا إلى تحريض معاوية وهجائه ، فإنه عدو الله وعدو رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ثم إنه أنشأ وجعل يقول :
قد كمل الله للحيين نعمته * إذ قام بالأمر حسان بن مخدوج
من كان يطمع فينا أن يفرقنا * بعد الإخاء وود غير مخدوج
فالنجم أقرب منه في تناوله * فيما أراد فلا يولع بتهييج
أمست ربيعة أولى بالذي حدثت * من كل حي بحق غير مخدوج
وكندة الخير ما زالت لنا ولهم * حتى يرى فتح يأجوج ومأجوج
قال : فلما سمع معاوية شعره أيس من الأشعث ) . بل لم ييأس ، واستطاع شراءه !
15 . عزل أبا موسى الأشعري عن ولاية الكوفة
1 . وعزل أبا موسى الأشعري عن ولاية الكوفة ! ( الطبري : 3 / 319 ) .
قال في فتح الباري ( 13 / 48 ) : « كان عليٌّ أقرَّ أبا موسى على إمرة الكوفة ، فلما خرج من المدينة أرسل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إليه أن أنهض من قبلك من المسلمين وكن من أعواني على الحق ، فاستشار أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فقال : اتبع ما أمرك به . قال : إني لا أرى ذلك ! وأخذ في تخذيل الناس عن النهوض ! فكتب هاشم إلى علي ( عليه السلام ) بذلك وبعث بكتابه مع محل بن خليفة الطائي ، فبعث على عمار بن ياسر والحسن بن علي ( عليه السلام ) ، يستنفران الناس » . ورواه في شرح النهج ( 14 / 9 ) ، وفيه : « فأبى ذلك وحبس الكتاب وبعث إلى هاشم يتوعده ويخوفه . قال السائب : فأتيت هاشماً فأخبرته برأي أبي موسى ، فكتب إلى علي ( عليه السلام ) : لعبد الله على أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة : أما بعد يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على امرئ مشاق بعيد الود ، ظاهر الغل والشنآن ، فتهددني بالسجن وخوفني بالقتل !
--------------------------- 654 ---------------------------
وقد كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة أخي طئ ، وهو من شيعتك وأنصارك ، وعنده علم ما قِبلنا ، فاسأله عما بدا لك ، واكتب إلى برأيك . والسلام .
فقال علي ( عليه السلام ) : والله ما كان عندي بمؤتمن ولا ناصح ، ولقد أردت عزله ، فأتاني الأشتر فسألني أن أُقره ، وذكر أن أهل الكوفة به راضون ، فأقررته » .
أقول : هذا يدل على أن ميزان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في نصب الوالي واقعي ، فهو لا يثق بأبي موسى لكنه أبقاه لرغبة أكثر أهل الكوفة به لأنه يماني . فيجوز بعنوان ثانوي تولية الفاسق لإرضاء العامة ، وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) يعلم أن حقيقة أبي موسى سوف تظهر !
وروى الطبري ( 3 / 501 ) أن الأشتر ذهب إلى الكوفة بعد عمار والإمام الحسن ( عليه السلام ) : « فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة وقد اجتمع الناس في المسجد الأعظم ، فجعل لا يمر بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلا دعاهم ويقول : إتبعوني إلى القصر ، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس ، فاقتحم القصر فدخله وأبو موسى قائم في المسجد يخطب الناس ويثبطهم . . إذ خرج علينا غلمان لأبي موسى يشتدون ، ينادون يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا . فنزل أبو موسى فدخل القصر ، فصاح به الأشتر : أخرج من قصرنا لا أم لك
( وفي رواية يا ابن الزانية ) أخرج الله نفسك ، فوالله إنك لمن المنافقين قديماً !
قال : أجلني هذه العشية . فقال : هي لك ولاتبيتن في القصر الليلة . ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر ، وأخرجهم من القصر ) .
أقول : سيأتي في حرب الجمل أن تثبيطه لأهل الكوفة لم يؤثر كثيراً ، فقد وافى منهم ألوف إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بذي قار وقاتلوا معه في البصرة .
وقد واجه عمار أبا موسى الأشعري وفضحه بأنه من أصحاب العقبة الذين أرادوا قتل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فلعنهم ليلتها ! فلم ينكر ذلك أبو موسى بل قال لعمار : إن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) استغفر له بعد ذلك ! فأجابه : لقد شهدت اللعن ، ولم أشهد الاستغفار !
وقد ورد عن علي والأئمة ( عليهم السلام ) ذم عريض في أبي موسى ، وأنه سامري هذه الأمة ، ولعل السبب أنه قال : لا قتال كما قال السامري : لا مساس ! ولىس هذا محل التحصىل .
--------------------------- 655 ---------------------------
16 . عزل عبد الله بن عامر بن كُرَيْز عن ولاية البصرة
1 . قال في الكامل ( 3 / 99 ) : ( في هذه السنة ( 29 ) عزل عثمان أبا موسى الأشعري
عن البصرة ، واستعمل عبد الله بن عامر بن كُرَيْز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان ) . ثم ذكر أن السبب أنهم شكوا أبا موسى
فقالوا لعثمان :
( أما منكم خسيس فترفعونه ، أما منكم فقير فتجبرونه ؟ يا معشر قريش حتى متى يأكل هذا الشيخ الأشعري هذه البلاد ! فانتبه لها عثمان فعزل أبا موسى وولى عبد الله بن عامر بن كريز . . وكان عُمْر ابن عامر خمساً وعشرين سنة ، وجمع له جند أبي موسى ، وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي ، من عمان والبحرين ) .
وفي اللباب ( 3 / 95 ) : ( الكُرُيزي بضم أولها . هذه النسبة إلى كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف ، وابنته أروى بنت كريز أم عثمان بن عفان . من ولده عبد الله بن عامر بن كريز الكريزي ، ولاه عثمان البصرة وخراسان ) .
2 . قال البلاذري ( 13 / 45 ) : ( لما قدم عبد الله بن عامر بن كريز البصرة والياً أيام عثمان
صعد المنبر فأُرْتِجَ عليه ، فاغتم ! فلما كانت الجمعة الأخرى قال لزياد : مُرْ بعض هؤلاء يتكلم ، فقال لأبي الهمهام المازني : قم فتكلم وكان جافياً فصعد المنبرفقال : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أشهر ، فقيل له إنها ستة أيام ! فقال : ماعظَّمت من عظمة الله وأمره ، فهو أفضل ) !
وفي بيان الجاحظ / 337 : ( فشق ذلك عليه ، قال له زياد : أيها الأمير إنك إن أقمت عامة من ترى ، أصابه أكثر مما أصابك ) ! أي سيرتج عليهم ، كما حدث لك ولهذا !
قال اليعقوبي ( 2 / 168 ) : ( زوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد ، وأمر له بست مائة ألف ، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة ) .
--------------------------- 656 ---------------------------
3 . ونشط ابن كريز في حرب الجمل ! قال المسعودي في مروج الذهب ( 2 / 357 ) :
( دخل طلحة والزبير مكة ، وقد كانا استأذنا عليّاً في العمرة فقال لهما : لعلكما تريدان البصرة أو الشام ، فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة ، وقد كانت عائشة بمكة ، وقد كان عبد الله بن عامرعامل عثمان على البصرة هرب عنها حين أخذ البيعة لعلي بها على الناس حارثةُ بن قدامة السعدي ، ومسير عثمان بن حنيف الأنصاري إليها على خراجها من قبل علي ! فأتى مكة وصادف بها عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم في آخرين من بني أمية . . فأرادوا الشام فصدهم ابن عامر وقال : إن به معاوية ولاينقاد إليكم ولا يطيعكم ، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدد ، فجهزهم بألف ألف درهم ومائة من الإبل ، وغير ذلك ) .
4 . وهو جد أبان بن عثمان وعبد الملك بن مروان لأميهما . وابنته هند زوجة يزيد التي انتفضت عليه عندما أدخلوا عليه رأس الحسين ( عليه السلام ) والسبايا !
قال الطبري ( 4 / 356 ) : ( ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه الحديث ! قال : فسمعَتْ دَوْرَ الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز ، وكانت تحت يزيد بن معاوية ، فتقنعت بثوبها وخرجت فقالت : يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ! قال : نعم ، فأعولي عليه وحُدِّي على ابن بنت رسول الله وصريحة قريش ، عجل عليه ابن زياد فقتله قتله الله !
ثم أذن للناس فدخلوا والرأس بين يديه ، ومع يزيد قضيب فهو ينكت به في ثغره ! ثم قال : إن هذا وإيانا كما قال الحصين ابن الحمام المري :
يُفَلِّقْنَ هاماً من رجالٍ أحبةٍ * إلينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقال له أبو برزة الأسلمي : أتنكتُ بقضيبك في ثغر الحسين ! أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يرشفه ! أما إنك يا يزيد تجئ يوم القيامة وابن زياد شفيعك ! ويجئ هذا يوم القيامة ومحمد شفيعه ! ثم قام فولى ) !
--------------------------- 657 ---------------------------
وفي تاريخ دمشق ( 59 / 299 ) : ( وَلَدَ أبو هاشم بن عتبة : عبد الله وأم حبيب وأم خالد ، وكانت أم حبيب عند يزيد بن معاوية فولدت له معاوية وعبد الله ، ثم خلف على أختها أم خالد بنت أبي هاشم ، فولدت له خالد بن يزيد بن معاوية ) .
وقال البلاذري ( 6 / 357 ) : ( امرأة برزة عاقلة ، فدعا يزيد يوماً بمعاوية بن يزيد وأمه حاضرة ، فأمره بأمر فلما ولى قالت له : لو وليت معاوية عهدك ، فقال : أفعل ) .
وقال الخوارزمي في مقتل الحسين ( 2 / 81 ) : « وخرجت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز امرأة يزيد ، وكانت قبل ذلك تحت الحسين بن علي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فشقت الستر وهي حاسرة ، فوثبت على يزيد وقالت : أرأس ابن فاطمة مصلوب على باب داري ! فغطاها يزيد وقال : نعم ! فأعولي عليه يا هند ، وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش ، عجل عليه ابن زياد فقتله ، قتله الله ! »
لاحظ قول يزيد لها : أقيمي المأتم عليه وأعولي ، وحُدِّي على ابن بنت رسول الله . . الخ !
ثم عقد هو مجلساً للناس والرأس الشريف بين يديه ، وهو ينكت على فمه بقضيب ! وهذا التناقض والتعقيد في الشخصية الأموية كالشخصية اليهودية ! وأختها أم خالد هي التي تزوجها مروان وخنقته ! وبما أن خلافة يزيد كانت نحو سنتيتن ، فلا بد أن هنداً ماتت بعد مأتمها على الحسين ( عليه السلام ) . وقد يكون يزيد قتلها وتزوج بأختها !
17 . ابن أبي سرح والي عثمان على مصر
قال أبو داود ( 2 / 328 ) : « كان عبد الله بن سعد ابن أبي سرح يكتب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فأزله الشيطان فلحق بالكفار ، فأمر به رسول الله أن يقتل يوم الفتح » .
وفي الكافي ( 8 / 201 ) عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيئٌ ، قال : نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر ، وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يوم فتح مكة هدر دمه ، وكان يكتب لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإذا أنزل الله عز وجل : إن الله عزيز حكيم . كتب : إن الله عليم حكيم » !
--------------------------- 658 ---------------------------
وقال ابن حبان في ثقاته ( 3 / 214 ) : « كان أبوه سعد بن أبي سرح من المنافقين الكبار ، وهو أخو عثمان من الرضاعة » .
18 . سيطر محمد بن أبي حذيفة على مصر وطرد والي عثمان
1 . روى الكشي ( 1 / 281 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « كان مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قريش خمسة نفر ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية . فأما الخمسة : فمحمد بن أبيبكر رحمة الله عليه ، أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس .
وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال . وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاله وهو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان : إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك . فقال له جعدة : لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك . ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة . والخامس سِلْفُ أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة ، وهو صهر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أبو الربيع » .
2 . أسلم أبو حذيفة بن عتبة ، وهاجر إلى الحبشة مع زوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، وولد ابنه محمد في الحبشة . ثم تزوج أبو حذيفة أنصارية اسمها ثبيتة بنت يعار ، وكان لها غلام فارسي هو سالم فأعتقته وتبناه أبو حذيفة وزوجه بنت أخيه ، فعرف بسالم مولى أبي حذيفة . واشتهر بذكائه ودهائه فأعجب به عمر وكان يصلي بهم رغم صغر سنه ، لأنه يحفظ القرآن : « كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء ، فيهم أبو بكر وعمر » . ( الإصابة : 3 / 12 ) .
وكان سالم وأبو عبيدة شريكين لأبيبكر وعمر في عملهم للخلافة ولذلك : « لما طعن عمر قيل له : لواستخلفتَ ؟ قال : لو شهدني أحد رجلين استخلفته أني قد اجتهدت ولم آثم ووضعتها موضعها : أبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة » . ( تاريخ المدينة : 3 / 140 ) . وسالم فارسي ، لا قرشي ولا عربي .
واشتهر سالم بأنه رضع وهو كبير من سهلة زوجة أبي حذيفة أم محمد ليحرم عليها ، واحتجت به عائشة فأرضعت بضعة رجال من أختها وزوجة أخيها ، ليحرموا عليها .
--------------------------- 659 ---------------------------
وأنكر المسلمون ذلك علىهما . وروى عبد الرزاق نحو خمسين رواية في باب رضاع الكبير ( 7 / 458 ) وفيها أسماء بعض من أرضعتهم عائشة ليدخلوا عليها !
فالتي أسست رضاعة الكبيرسهلة بنت سهيل بن عمرو ، أم محمد بن أبي حذيفة ، لكنه لم يعش مع أمه والحمد لله ، فقد تزوجت ثلاث مرات بعد شهادة أبيه في حرب اليمامة !
قال في الإصابة ( 8 / 193 ) : « ثم تزوجت شماخ بن سعيد بن قائف بن الأوقص السلمي ، فولدت له عامراً ، ثم تزوجت عبد الله بن الأسود بن عمرو من بني مالك بن حسل فولدت له سليطاً ، ثم تزوجت عبد الرحمن بن عوف فولدت له سالماً ، فهم إخوة محمد بن أبي حذيفة لأمه » .
3 . كان محمد بن أبي حذيفة صديقاً لمحمد بن أبيبكر ربيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وشارك في فتوح الشام ، وركب سفينة مع كعب الأحبار الذي كان يزعم أنه يعرف المغيبات ، وكان محمد بن أبي حذيفة يسخر منه !
قال عمر بن شبة ( 3 / 1117 ) : « ركب كعب الأحبار ومحمد بن أبي حذيفة في سفينة قِبَلَ الشام زمن عثمان في غزوة غزاها المسلمون ، فقال محمد لكعب : كيف تجد نعت سفينتنا هذه في التوراة تجري غداً في البحر ! فقال كعب : يا محمد لا تسخر بالتوراة ، فإن التوراة كتاب الله ) .
وهذا يشير إلى أن محمداً كان شيعياً ، يرى أن كعباً كذاب ، وأنه حاخام الحكومة يبيع للناس المغيبات ويزعم أنه أخذها من التوراة !
4 . عرف أهل مصر المحمدين محمد بن أبيبكر وابن أبي حذيفة وأحبوهما ، ثم
شاركا في فتح إفريقيا الذي انطلق من مصر . وفي عهد عثمان طمع الروم باحتلال مصروغزوها بسفنهم غزوة ذات الصواري ، فكان المحمدان القائدين الميدانيين لجيش المسلمين ، وقد رد المسلمون سفن الروم ، بل ردهم الله بريح عاتية حطمت سفن الروم ، وكانت الحملة بقيادة قسطنطين بن أخ قيصرالروم فنجا بحشاشة نفسه إلى جزيرة سقلية ، فقتله جنوده تشاؤماً به لما حل بهم !
--------------------------- 660 ---------------------------
قال المسعودي في التنبيه والإشراف / 135 : « غزا في البحر في نحو ألف مركب حربية وغيرها فيها الخيل والخزائن والعَدد ، يريد الإسكندرية من بلاد مصر ، وكان عامل مصر والإسكندرية عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فالتقوا في البحر فكانت على قسطنطين ، فعطبت مراكبه وهلك أكثر رجاله ، ونجا في مركب ، فوقع في جزيرة سقلية من بلاد إفريقية ، فقتله جرجيق ملكها تشاؤماً به لإهلاكه النصرانية . وسميت هذه الغزاة ذات الصواري لكثرة المراكب وصواريها وهي الأدقال ، وكان ذلك في سنة 34 للهجرة » .
وقال الطبري ( 3 / 340 ) : « وأقام عبد الله بذات الصواري أياماً ، بعد هزيمة القوم ثم أقبل راجعاً ، وجعل محمد بن أبي حذيفة يقول للرجل : أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقاً ، فيقول الرجل : وأي جهاد ؟ فيقول : عثمان بن عفان فعل كذا وكذا وفعل كذا وكذا ! حتى أفسد الناس ، فقدموا بلدهم وقد أفسدهم ، وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به ) !
وكان أهل مصريحبون المحمدين ويكرهون الوالي عبد الله بن أبي سرح ، لسوء سيرته ، ولأنه وأباه عدوان لله ولرسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
وكان محمد بن أبي حذيفة يجيد القرآن ، فقد خطب يوم الجمعة في مصر : « فاستوى على المنبر فخطب ، وقرأ سورة ، وكان من أقرأ الناس » . ( البيهقي : 3 / 225 ) .
5 . قال الطبري في تاريخه ( 3 / 342 ) : ( عن الزهري قال : خرج محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبيبكر عامَ خرج عبد الله بن سعد ، فأظهرا عيب عثمان وما غيَّر ، وما خالف به أبا بكر وعمر ، وأن دم عثمان حلال ، ويقولان : استعمل عبد الله بن سعد رجلاً كان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) أباح دمه ونزل القرآن بكفره ! وأخرج رسول الله قوماً وأدخلهم ( يقصدان الحكم وولده ) . ونزع أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واستعمل سعيد بن العاص ، وعبد الله بن عامر » .
وكان في مصر حركة قوية ضد عثمان ، شارك فيها عدد من الصحابة ، منهم عمار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وعبد الرحمن بن عديس البلوي لكن قائديها العامين : المحمدان بن أبيبكر وابن أبي حذيفة .
--------------------------- 661 ---------------------------
وتميز ابن أبي حذيفة بأنه من علياء بني أمية ، فهو حفيد زعيمهم الكبير عتبة بن ربيعة الذي قتل في بدر ، وبيته عندهم أشرف من بيت أبي سفيان ، فضلاً عن بيت عثمان وبقية بني العاص والعيص . لذلك كانت عين محمد قوية على عثمان وعلى واليه ابن أبي سرح ، وقد حاول عثمان كسب محمد ، فعجز عن إخضاعه . فقد أعطاه في المدينة مئة ألف درهم ، ثم أرسل له في مصر ثلاثين ألفاً وهدايا فوضعها محمد في المسجد وقال للمسلمين : إن عثمان يرشوني لأسكت عن انحرافه فزادت نقمة المصريين على عثمان !
6 . بلغ من سيطرة محمد بن أبي حذيفة ( رحمه الله ) أن المصريين أطاعوه وعصوا واليهم ، وبايعوه على حكم مصر ، مع أنه كان في العشرينات من عمره ، فقد أقنعهم أن الجهاد الحقيقي بمقاومة عثمان وإجباره على تغيير ولاته ، أو اعتزال الخلافة ! وأقنعهم بالذهاب إلى المدينة للضغط على الخليفة ، فأعلن الألوف استعدادهم !
وفي الإصابة ( 6 / 10 ) : « بايع أهل مصر محمد بن أبي حذيفة بالإمارة إلا عصابة منهم معاوية بن حديج وبسر بن أرطاة ، فقدم عبد الله بن سعد حتى إذا بلغ القلزم ، وجد هناك خيلاً لابن أبي حذيفة فمنعوه ( أي الوالي ) أن يدخل ، فانصرف إلى عسقلان ، ثم جهز ابن أبي حذيفة الذين ثاروا على عثمان وحاصروه ، إلى أن كان من قتله ما كان » .
وقال ابن عساكر في تاريخه ( 39 / 423 ) : « قال محمد بن أبي حذيفة : من يشترط في هذا البعث ( يتطوع ) فكثر عليه من يشترط ، فقال لهم : إنكم إنما تنطلقون إلى شيعة لكم إنما يكفينا منكم ست مائة رجل ، فاشترط من أهل مصر ست مائة رجل ، وأمر عليهم محمد بن أبي حذيفة عبد الرحمن بن عديس البلوي ، فساروا إلى أهل المدينة . وسجن رجالاً من أهل مصر في دورهم ، منهم بسر بن أبي أرطأة ومعاوية بن حديج » .
وقال الطبري ( 3 / 548 ) : « أقام بمصر وأخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح
--------------------------- 662 ---------------------------
وضبطها ، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل عثمان وبويع لعلي ) .
وفي الغارات للثقفي ( 1 / 205 ) : « فطرده منها وصلى بالناس ، فخرج ابن أبي سرح من مصر ، ونزل على تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين ، وانتظر ما يكون من أمر عثمان ، فطلع عليه راكب فقال : يا عبد الله ما وراءك خبرنا بخبر الناس ، فقال : أقعد ، قتل المسلمون عثمان . فقال ابن أبي سرح : إنا لله وإنا إليه راجعون . يا عبد الله ثم صنعوا ماذا ؟ قال : بايعوا ابن عم رسول الله علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ! قال له الرجل : كأن ولاية علي عدلت عندك قتل عثمان ؟ قال أجل . وخرج ابن أبي سرح حتى قدم على معاوية بدمشق » .
7 . مدحت مصادرنا محمد بن أبي حذيفة رضي الله عنه ، ويظهر أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمضى سيطرته على مصر وبيعة أهلها له ، ونفيه عامل عثمان عنها .
قال فيه الطوسي في الأبواب / 82 : ( كان عامله ( عليه السلام ) على مصر ) .
وقال ابن حجر في الإصابة ( 6 / 11 ) : « ذكر خليفة بن خياط في تاريخه أن علياً لما ولي الخلافة أقرَّ محمد بن أبي حذيفة على إمرة مصر ، ثم ولاها محمد بن أبيبكر ) .
وقال العلامة في الخلاصة / 256 : ( محمد بن أبي حذيفة ، مشكور ) .
وروى الكشي ( 1 / 286 ) عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : ( كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : إن المحامدة تأبي أن يعصى الله عز وجل . قلت : ومن المحامدة ؟ قال محمد بن جعفر ، ومحمد بن أبيبكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، ومحمد بن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، أما محمد بن أبي حذيفة هو ابن عتبة بن ربيعة ، وهو ابن خال معاوية .
ثم روى الكشي عن ابن إسحاق أن محمد بن أبي حذيفة كان من أنصار علي ( عليه السلام ) وأشياعه ، وكان من خيار المسلمين ، فلما توفى علي ( عليه السلام ) أخذه معاوية وأراد قتله فحبسه في السجن دهراً ، ثم قال معاوية ذات يوم : ألا نرسل إلى هذا السفيه محمد بن أبي حذيفة فنبكته ونخبره بضلاله ، ونأمره أن يقوم فيسب علياً ؟ قالوا : نعم . فبعث إليه معاوية فأخرجه من السجن ، فقاله له معاوية : يا محمد بن أبي حذيفة ألم يأن لك أن تبصر ما كنت
--------------------------- 663 ---------------------------
عليه من الضلالة بنصرتك علي بن أبي طالب الكذاب ، ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوماً ، وأن عائشة وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه ، وأن علياً هو الذي دس في قتله ونحن اليوم نطلب بدمه ؟ قال محمد بن أبي حذيفة : إنك لتعلم أني أمس القوم بك رحماً وأعرفهم بك ، قال : أجل . قال : فوالله الذي لا إله غيره ما أعلم أحداً شرك في دم عثمان وألب عليه غيرك ، لما استعملك ومن كان مثلك ، فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى ! ففعلوا به ما بلغك . ووالله ما أحد أشرك في قتله بديئاً ولا أخيراً إلا طلحة والزبيروعائشة ، فهم الذين شهدوا عليه بالعظيمة وألبوا عليه الناس ، وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار جميعاً ، قال : قد كان ذاك . قال : والله إني لأشهد أنك منذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد ، ما زاد الإسلام فيك قليلاً ولا كثيراً ، وإن علامة ذلك فيك لبينة ، تلومني علي حبي علياً وقد خرج مع علي كل صوام قوام مهاجري وأنصاري ، وخرج معك أبناء المنافقين والطلقاء والعتقاء ، خدعتهم عن دينهم وخدعوك عن دنياك ، والله يا معاوية ما خفي عليك ما صنعتُ ، وما خفي عليهم ما صنعوا ، إذا حلوا أنفسهم بسخط الله في طاعتك ، والله لا أزال أحب علياً لله ، وأبغضك في الله وفي رسوله أبداً ما بقيت ! قال معاوية ، وإني أراك على ضلالك بعد ، ردوه ، فردوه وهو يقرأ : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ . . فمات في السجن ) !
ومعناه : قتله معاوية ، فمات شهيداً رضي الله عنه وأرضاه .
8 . ذكرت بعض الروايات الرسمية أن معاوية قبض على محمد بن أبي حذيفة في معركة ، أو بخدعة قبل حرب صفين ، وهو يخالف رواية ابن إسحاق بأنه قبض عليه بعد شهادة علي ( عليه السلام ) . وفي رواية أنه هرب من سجن معاوية ثم قبض عليه ، ونرجح ذلك لأنه لو كان طليقاً لجاء إلى صفين ، وقد يكون قبض عليه وهو في طريقه إلى صفين .
وفي الإصابة ( 6 / 10 ) : ( ثم كان من مسير معاوية بن أبي سفيان إلى مصر ، لما أراد المسير إلى صفين ، فرأى ألا يترك أهل مصر مع ابن أبي حذيفة خلفه ، فسار إليهم
--------------------------- 664 ---------------------------
في عسكر كثيف فخرج إليهم بن أبي حذيفة في أهل مصر ، فمنعوه من دخول الفسطاط ، فأرسل إليهم إنا لا نريد قتال أحد وإنما نطلب قتلة عثمان ، فدار الكلام بينهم في الموادعة . واستخلف بن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف ، وخرج مع جماعة منهم عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر وأبوشمر بن أبرهة بن الصباح ، فلما بلغوا به غدر بهم عسكر معاوية ، وسجنوهم إلى أن قتلوا بعد ذلك .
وقال أبو أحمد الحاكم : خدع معاوية محمد بن أبي حذيفة حتى خرج إلى العريش في ثلاثين نفساً ، فحاصره ونصب عليه المنجنيق حتى نزل على صلح ، فحبس ثم قتل . . . فسجن ابن أبي حذيفة ومن معه في سجن دمشق ، وسجن بن عديس والباقين في سجن بعلبك » .
وقال البلاذري ( 2 / 407 ) : « عن الليث بن سعد قال : بلغنا أن محمد بن أبي حذيفة لما ولِيَ قيس بن سعد شَخَصَ عن مصر يريد المدينة أو يريد علياً ، وبلغ معاوية خبر شخوصه فوضع عليه الأرصاد حتى أخذ وحمل إليه فحبسه فتخلص من الحبس ، واتبعه رجل من اليمانية فقتله ) .
ثم قال البلاذري : ( وكانت ابنة قرظة امرأة معاوية ابنة عمة محمد بن أبي حذيفة ، أمها فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ، تصنع له طعاماً وترسل به إليه وهو في السجن ، فلما سار معاوية إلى صفين أرسلت ابنة قرظة بشئ فيه مساحل من حديد إلى ابن أبي حذيفة فقطع بها الحديد عنه ، ثم جاء فاختبأ في مغارة بجبل الذيب بفلسطين فدُلَّ عليه رشدين مولى أبي حذيفة أبيه ، وكان معاوية خلَّفه على فلسطين فأخذه فقال له محمد : أنشدك الله لما خلَّيت سبيلي ، فقال له : أخلي سبيلك فتذهب إلى ابن أبي طالب وتقاتل معه ابن عمتك وابن عمك معاوية ، وقد كنت فيمن شايع علياً على قتل عثمان ، فقدمه فضرب عنقه ) .
أقول : لابد أن معاوية أشاع روايات متضاربة في قتل ابن خاله محمد ، ليبعد التهمة عن نفسه ، فلا يكون ثأر لآل عتبة بن ربيعة عند آل حرب وهم دونهم رتبة !
--------------------------- 665 ---------------------------
19 . أرسل محمد بن أبيبكر رضي الله عنه والياً على مصر
1 . تربى محمد ( رحمه الله ) في حجر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكانت أمه أسماء بنت عميس صحابية جليلة ، من خواص الصديقة الزهراء ( عليها السلام ) ، وتزوجها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد وفاة أبيبكر ، فمحمد ربيبه . وكان أهل مصر يحبونه لأنه شارك في فتح إفريقيا ، وفي معركة ذات الصواري مع صديقه محمد بن أبي حذيفة . وعندما ولى عثمان على مصرابن أبي سرح أساء السيرة فجاء وفد مصر إلى عثمان يشكون واليهم ، فسألهم من يختارون بدله فاختاروا محمد بن أبيبكر ، فكتب له مرسوماً بولاية مصر فرجعوا ومعهم محمد ، لكنهم تفاجؤوا في الطريق برسول عثمان إلى ابن أبي سرح ، يأمره أن يقتلهم وأن يواصل عمله ! فرجعوا إلى المدينة غاضبين ، وحاصروا عثمان . . الخ .
2 . قال البلاذري في فتوح البلدان ( 1 / 269 ) : ( ثم إن علياً رضي الله عنه ولى قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري مصر ، ثم عزله واستعمل عليها محمد بن أبيبكر الصديق ، ثم عزله وولى مالكاً الأشتر ، فاعتل بالقلزم . ثم ولى محمد بن أبيبكر ثانية ورده عليها . فقتله معاوية بن حديج ، وأحرقه في جوف حمار ) .
وروى الثقفي في الغارات ( 1 / 224 ) : ( عن الحارث بن كعب عن أبيه قال : كنت مع محمد بن أبيبكر حيث قدم مصر ، فلما أتاها قرأ عليهم عهده :
بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبيبكر حين ولاه مصر ، أمره بتقوى الله في السر والعلانية ، وخوف الله في المغيب والمشهد ، وباللين للمسلم وبالغلظة على الفاجر ، وبالعدل على أهل الذمة ، وبالإنصاف للمظلوم ، وبالشدة على الظالم ، وبالعفو عن الناس ، وبالإحسان ما استطاع ، والله يجزي المحسنين . وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة ، فإن لهم في ذلك من العاقبة وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره ولا يعرفون كنهه .
وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل ، ولا ينتقص
--------------------------- 666 ---------------------------
منه ولا يبتدع فيه ، ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل . وأمره أن يلين لهم جناحه ، وأن يساوي بينهم في مجلسه ووجهه ، وليكن القريب والبعيد عنده في الحق سواء . وأمره أن يحكم بين الناس بالحق ، وأن يقوم بالقسط ، ولا يتبع الهوى ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، فإن الله مع من اتقاه وآثر طاعته على ما سواه ، والسلام .
وكتبه عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ، لغرة شهر رمضان سنة ست وثلاثين .
قال : ثم إن محمد بن أبيبكر قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فالحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق ، وبصرنا وإياكم كثيراً مما عميَ عنه الجاهلون . ألا إن أمير المؤمنين ولاني أموركم ، وعهد إلي بما سمعتم ، وأوصاني بكثير منه مشافهة ، ولن آلوكم خيراً ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
فإن يكن ما ترون من آثاري وأعمالي لله طاعة وتقوى ، فاحمدوا الله على ما كان من ذلك ، فإنه هو الهادي له ، وإن رأيتم من ذلك عملاً بغير حق ، فادفعوه إلي وعاتبوني عليه فإني بذلك أسعد ، وأنتم بذلك جديرون . وفقنا الله وإياكم لصالح العمل برحمته . ثم نزل ) .
3 . قبل حصارعثمان سيطرمحمد بن أبي حذيفة على مصر ، وأخذ بيعتهم على إمارته ، فأقره علي ( عليه السلام ) فترة قصيرة ، وأرسل قيس بن سعد بن عبادة والياً على مصر ، وغادرها ابن أبي حذيفة ، فتجمع بقايا الأمويين في معسكر مطالبين بدم عثمان ، بقيادة معاوية بن حديج الكندي ، فأمدهم معاوية من الشام وشجعهم ، فأمر علي ( عليه السلام ) قيساً أن يناجزهم القتال قبل أن يتعاظم أمرهم ، فأبى قيس بحجة أنهم عاهدوه على عدم الخروج عليه ! فعزله الإمام ( عليه السلام ) وأرسل محمد بن أبيبكر والياً ، ثم تفاقم أمر أتباع معاوية ووصل ابن النابغة بجيش من ثلاث فرق من الشام والأردن وفلسطين ، ليحتل مصر وتكون طعمة له كل حياته ! فقاتلهم محمد فغلبوه وقتلوه قتلة فجيعة رضي الله عنه ،
وسيطروا على مصر !
وفي نهج البلاغة ( 3 / 59 ) : « ومن كتاب له ( عليه السلام ) إلى محمد بن أبيبكر ، لما بلغه توجَّده من عزله بالأشتر عن مصر ، ثم توفي الأشتر في توجهه إلى مصر قبل وصوله إليها :
--------------------------- 667 ---------------------------
أما بعد فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك ، وإني لم أفعل ذلك استبطاءً لك في الجهد ، ولا ازدياداً في الجد . ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك ، لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة ، وأعجب إليك ولاية . إن الرجل الذي كنت وليته أمرمصركان لنا رجلاً ناصحاً ، وعلى عدونا شديداً ناقماً ، فرحمه الله فلقد استكمل أيامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضون ، أولاه الله رضوانه ، وضاعف الثواب له . فأصحر لعدوك وامض على بصيرتك ، وشمر لحرب من حاربك ، وادع إلى سبيل ربك ، وأكثر الاستعانة بالله يكفك ما أهمك ويُعِنْك على ما نزل بك ، إن شاء الله » .
4 . قال الطبري ( 4 / 74 ) : ( فكتب معاوية عند ذلك إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري
والى معاوية بن خديج الكندي ، أن يجمعا أنصارهما الأمويين ، وينتظرا وصول جيش سيرسله معاوية . وبعث عمرو بن النابغة في ستة آلاف .
قال الطبري : ( فخرج عمرو يسيرحتى نزل أداني أرض مصر فاجتمعت العثمانية إليه ، فأقام بهم وكتب إلى محمد بن أبيبكر : أما بعد فتنح عني بدمك يا ابن أبيبكر ، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر . إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك ، وندموا على اتباعك ، فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان ، فأخرج منها فإني لك من الناصحين . والسلام ) !
وبعث إليه عمرو أيضاً بكتاب بنحوه . قال الطبري : ( فطوى محمد كتابيهما ، وبعث بهما إلى علي ( عليه السلام ) ، وكتب معهما : أما بعد فإن ابن العاصي قد نزل أداني أرض مصر واجتمع إليه أهل البلد جلهم ممن كان يرى رأيهم ، وقد جاء في جيش لجب خراب ، وقد رأيت ممن قبلي بعض الفشل ، فإن كان لك في أرض مصر حاجة فأمدني بالرجال والأموال ، والسلام عليك .
فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر أن بن العاصي قد نزل بأداني أرض مصر في لجب من جيشه خراب ، وأن من كان بها على مثل رأيه قد خرج إليه . وخروج من يرى رأيه إليه خير لك من إقامتهم عندك .
--------------------------- 668 ---------------------------
وذكرت أنك قد رأيت في بعض ممن قبلك فشلاً فلا تفشل وإن فشلوا ، حصن قريتك واضمم إليك شيعتك ، واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والنجدة والبأس ، فإني نادب إليك الناس على الصعب والذلول فاصبر لعدوك ، وامض على بصيرتك ، وقاتلهم على نيتك ، وجاهدهم صابراً محتسباً . وإن كانت فئتك أقل الفئتين ، فإن الله قد يعز القليل ويخذل الكثير .
وقد قرأت كتاب الفاجر بن الفاجر معاوية ، والفاجر بن الكافرعمرو ، المتحابيْن في عمل المعصية ، والمرتشيْن في الحكومة ، المتكبرين على أهل الدين ، قد استمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ، فلا يَهُلْكَ إرعادهما وإبراقهما ، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله ، فإنك تجد مقالاً ما شئت ، والسلام .
قال : كتب محمد بن أبيبكر إلى معاوية بن أبي سفيان جواب كتابه : أما بعد ، فقد أتاني كتابك تذكرني من أمر عثمان أمراً لا أعتذر إليك منه ، وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح ، وتخوفني المثلة كأنك شفيق ، وأنا أرجو أن تكون لي الدائرة عليكم فأجتاحكم في الوقعة . وإن تؤتوا النصر ويكن لكم الأمر في الدنيا ، فكم لعمري من ظالم قد نصرتم ، وكم من مؤمن قد قتلتم ومثلتم به وإلى الله مصيركم ومصيرهم ، وإلى الله مرد الأمور ، وهو أرحم الراحمين ، والله المستعان على ما تصفون . والسلام .
وكتب محمد إلى عمرو بن العاص : أما بعد ، فقد فهمت ما ذكرت في كتابك يا ابن العاص زعمت أنك تكره أن يصيبني منك ظفر ، وأشهد أنك من المبطلين ، وتزعم أنك لي نصيح وأقسم أنك عندي ظنين ، وتزعم أن أهل البلد قد رفضوا رأيي وأمري وندموا على اتباعي ، فأولئك لك وللشيطان الرجيم أولياء ، فحسبنا الله رب العالمين ، وتوكلنا على الله رب العرش العظيم . والسلام ) .
5 . ( أقبل عمرو بن العاص حتى قصد مصر ، فقام محمد بن أبيبكر في الناس
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أما بعد معاشرالمسلمين والمؤمنين فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة وينعشون الضلال ، ويشبون نار الفتنة ويتسلطون بالجبرية ، قد نصبوا لكم العداوة ، وساروا إليكم بالجنود . عباد الله
--------------------------- 669 ---------------------------
فمن أراد الجنة والمغفرة ، فليخرج إلى هؤلاء القوم ، فليجاهدهم في الله انتدبوا إلى هؤلاء القوم رحمكم الله مع كنانة بن بشر . قال فانتدب معه نحو من ألفي رجل ، وخرج محمد في ألفي رجل ، واستقبل عمرو بن العاص كنانة ، وهو على مقدمة محمد فأقبل عمرو نحو كنانة ، فلما دنا من كنانة سرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة ، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة من كتائب أهل الشام إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يقربها بعمرو بن العاص ، ففعل ذلك مراراً ، فلما رأى ذلك عمرو بعث إلى معاوية بن خديج السكوني ، فأتاه في مثل الدهم فأحاط بكنانة وأصحابه ، واجتمع أهل الشأم عليهم من كل جانب ، فلما رأى ذلك كنانة بن بشر نزل عن فرسه ، ونزل أصحابه وكنانة يقول : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ .
وأقبل عمرو بن العاص نحو محمد بن أبيبكر وقد تفرق عنه أصحابه ، لما بلغهم قتل كنانة ، حتى بقي وما معه أحد من أصحابه !
فلما رأى ذلك محمد خرج يمشى في الطريق حتى انتهى إلى خربة في ناحية الطريق فآوى إليها ، وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط ، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج في قارعة الطريق فسألهم هل مرَّبكم أحد تنكرونه فقال أحدهم : لا والله إلا أني دخلت تلك الخربة فإذا أنا برجل فيها جالس ، فقال ابن خديج : هو هو ورب الكعبة ، فانطلقوا يركضون حتى دخلوا عليه فاستخرجوه ، وقد كاد يموت عطشاً ، فأقبلوا به نحو فسطاط مصر .
قال : ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبيبكر إلى عمرو بن العاص وكان في جنده ، فقال : أتقتل أخي صبراً ابعث إلى معاوية بن خديج فانهه . فبعث إليه عمرو بن العاص يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبيبكر ، فقال معاوية : أكذاك قتلتم كنانة بن بشر ، وأخلي أنا عن محمد بن أبيبكر ! هيهات أكفاركم خيرمن أولئكم أم لكم براءة في الزبر !
فقال لهم محمد : أسقوني من الماء ، قال له معاوية بن حديج : لا سقاه الله إن سقاك قطرة أبداً ، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائماً محرماً فتلقاه الله
--------------------------- 670 ---------------------------
بالرحيق المختوم ، والله لأقتلنك يا ابن أبيبكر ، فيسقيك الله الحميم والغساق !
قال له محمد : يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك وإلى من ذكرت ، إنما ذلك إلى الله عز وجل يسقى أولياءه ، ويظمئ أعداءه أنت وضرباؤك ومن تتولاه . أما والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني هذا ، قال له معاوية : أتدري ما أصنع بك ، أدخلك في جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار ! فقال له محمد : إن فعلتم بي ذلك ، فطال ما فعل ذلك بأولياء الله . . !
قال له معاوية ( بن حدىج ) إني انما أقتلك بعثمان . قال له محمد : وما أنت وعثمان ، إن عثمان عمل بالجور ونبذ حكم القرآن ، وقد قال الله تعالى : وَمَن لم يَحكُمْ بما أنْزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسِقُون ، فنقمنا ذلك عليه فقتلناه ! وحسَّنت أنت له ذلك ونظراؤك فقد برأنا الله إن شاء الله من ذنبه ، وأنت شريكه في إثمه وعظيم ذنبه ، وجاعلك على مثاله . قال : فغضب معاوية فقدمه فقتله ، ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه بالنار ! فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً ، وقنتت عليه في دبر الصلاة ، تدعو على معاوية وعمرو ، ثم قبضت عيال محمد إليها ، فكان القاسم بن محمد بن أبيبكر في عيالها ) .
وفي المواعظ للمقريزي ( 3 / 75 ) : ( فكانت ولاية محمد بن أبيبكر خمسة أشهر ، ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر ، سنة ثمان وثلاثين ) .
قال اليعقوبي ( 2 / 193 ) : ( فلقيهم محمد بن أبيبكر بموضع يقال له المسناة فحاربهم محاربة شديدة وكان عمرو يقول : ما رأيت مثل يوم المسناة ، وقد كان محمد استذمَّ إلى اليمانية فمايل عمرو بن العاص اليمانية ، فخلفوا محمد بن أبيبكر وحده ! فجالد ساعة ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة ، واتبعه ابن حديج الكندي فأخذه وقتله ، وأدخله جيفة حمار وحرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف ! وبلغ علياً ( عليه السلام ) ضعف محمد بن أبيبكر وممالأة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص فقال : ما أوتي محمد من حرض ) ! أي من ضعف في دينه .
وروى الطبري ( 3 / 83 ) : ( أن علياً ( عليه السلام ) قال : رحم الله محمداً ، كان غلاماً حدثاً ، أما والله لقد كنت على أن أولي المرقال هاشم بن عتبة مصر . أما والله لو أنه وليها ما خلَّى
--------------------------- 671 ---------------------------
لعمرو بن العاصي وأعوانه الفجرة العرصة ، ولما قتل إلا وسيفه في يده ، بلا ذم لمحمد ، فرحم الله محمداً ، فقد اجتهد نفسه وقضى ما عليه ) .
6 . في الغارات للثقفي ( 2 / 756 ) : ( ولما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله كظمت
الغيظ حتى شخبت ثدياها دماً . ووَجَدَ عليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وجْداً عظيماً وقال : كان لي ربيباً وكنت أعده ولداً ولبنيَّ أخاً . ووصل خبره إلى المدينة مع مولاه سالم ، ومعه قميصه ودخل به داره ، اجتمع رجال ونساء ، فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بكبش فشُوِيَ وبعثت به إلى عائشة وقالت : هكذا قد شُوِيَ أخوك ! فقال : حلفت عائشة لا تأكل شواءً أبداً ، فما أكلت شواء بعد مقتل محمد حتى لحقت بالله ، وما عثرت قط إلا قالت : تعس معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية بن حديج ) . ( 1 / 387 ) .
وفي رواية أنها كانت تلعن معاوية وعمراً . وفي رواية تذكرة الخواص / 102 : ( فقالت عائشة : قاتل الله ابنة العاهرة ، والله لا أكلت شواء أبداً ) . فحكمت على هند بالعهر !
وفي سير الذهبي ( 2 / 186 ) : ( إن معاوية لما حج قدم فدخل على عائشة فلم يشهد كلامها إلا ذكوان مولى عائشة ، فقالت لمعاوية : أأمنت أن أخبئ لك رجلاً يقتلك بأخي محمد ! قال : صدقت ! وفي رواية قال لها : ما كنت لتفعلي ) .
وفي شرح الأخبار ( 2 / 171 ) : « لا أخاف ذلك لأني في دار أمان ، لكن كيف أنا في حوائجك ؟ قالت : صالح . قال : فدعيني وإياهم حتى نلتقي عند الله » .
ومعناه : أنه أرضاها بالمال فسكتت ! وسكت بنو تَيْم عن ثأر محمد من بني أمية ، مع أن القبائل لا تسكت عن ثأر ابنها ، ولا عن ثأر حليفها ، وغلامها !
وسكت عبد الرحمن بن أبيبكر عن قتل أخيه محمد سكوت الذليل ، لما أصرَّ على قتله ابن حديج الكندي بحجة أنهم قتلوا كنانة بن بشر الكندي ، مع أنه عدوهم !
7 . في كتاب الشيعة في مصر لصالح الورداني / 109 : ( قال صاحب النجوم الزاهرة :
أعدم محمد بن أبيبكر حرقاً في جيفة حمار ميت ، بعد أن وقع في أسر جند معاوية
--------------------------- 672 ---------------------------
عام 37 ه . وقيل إنه قطعت رأسه وأرسلت إلى معاوية بدمشق ، وطيف به وهو أول رأس طيف به في الإسلام ! ويقع مرقده في بلدة ميت دمسيس التابعة للمنصورة ، وهناك قبر ناحية الفسطاط يقال له محمد الصغير ، والعامة يعتقدون أنه محمد بن أبيبكر ، إلا أن الراجح أن مرقده ناحية المنصورة ) .
أقول : غفرالله لقىس بن سعد فقد سمح بتأسىس وجود لمعاوىة في مصر . ورحم الله كنائة بن بشر فقد كان بطل المعركة . ورحم الله محمد بن أبيبكر فقد ثبت عقائدىاً ولم ىثبت عسكرىاً .
20 . فضل علي ( عليه السلام ) مصر وأهلها على الشام وأهلها
في الغارات ( 1 / 288 ) للثقفي ، عن جندب ، قال : « والله إني لعند عليٍّ ( عليه السلام ) جالس ، إذ جاءه عبد الله بن قعين جد كعب يستصرخ من قبل محمد بن أبيبكر ، وهو يومئذ أمير على مصر ، فقام علي فنادى في الناس الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم قال : أما بعد فهذا صريخ محمد بن أبيبكر وإخوانكم من أهل مصر ، وقد سار إليهم ابن النابغة عدو الله وعدوكم ، فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت ، أشد اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم ، فكأنكم بهم قد بدؤوكم وإخوانكم بالغزو ، فاعجلوا إليهم بالمواساة والنصر .
عباد الله : إن مصرأعظم من الشام خيراً ، وخير أهلاً ، فلا تُغلبوا على مصر ، فإن بقاء مصر في أيديكم عزٌّ لكم وكبتٌ لعدوكم . أخرجوا إلى الجرعة ( مكان بين الكوفة والحيرة ) لنتوافى هناك كلنا غداً ، إن شاء الله » .
أقول : غفرالله لقىس بن سعد فقد سمح بتأسىس وجود لمعاوىة في مصر . ورحمالله كنانة بن بشر فقد كان بطل المعركة . ورحمالله محمد بن أبيبكر فقد ثبت عقائدىاً ولم ىثبت عسكرىاً .
--------------------------- 673 ---------------------------
21 . خص أهل مصر برسالة توجيهية
روى المفيد في أماليه / 260 ، عن أبي إسحاق الهمداني قال : « لما ولَّى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) محمد بن أبيبكر مصر وأعمالها ، كتب له كتاباً ، وأمره أن يقرأه على أهل مصر ويعمل بما وصاه به ، فكان الكتاب :
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى أهل مصر ومحمد بن أبيبكر : سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلَّا هو ، أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون ، فإنّ الله تعالى يقول : كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، ويقول : ويُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَه وإِلَى الله المصِيرُ . ويقول : فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ .
واعلموا عباد الله أن الله عزَّ وجلَّ سائلكم عن الصغير من أعمالكم والكبير ، فإن يعذِّب فنحن أظلم ، وإن يعفُ فهو أرحم الراحمين .
يا عباد الله ، إن أقرب ما يكون العبد إلى المغفرة والرحمة حين يعمل لله بطاعته وبنصحه في التوبة . عليكم بتقوى الله ، فإنها تجمع الخير ولا خير غيرها ، ويدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها ، من خير الدنيا والآخرة . قال الله عزوجلّ : وقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِه الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ولَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ .
إعلموا يا عباد الله أن المؤمن يعمل من الثواب لثلاث : أمّا الخير فإنّ الله يثيبه بعمله في دنياه ، قال الله سبحانه لإبراهيم : وآتَيْناه أَجْرَه فِي الدُّنْيا وإِنَّه فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، فمن عمل لله تعالى أعطاه أجره في الدنيا والآخرة وكفاه المهم فيهما ، وقد قال الله تعالى : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِه الدُّنْيا حَسَنَةٌ وأَرْضُ الله واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ، فما أعطاهم الله في الدّنيا لم يحاسبهم به في الآخرة ، قال الله تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وزِيادَةٌ ، والحسنى هي الجنة ، والزيادة هي الدنيا ، وإن الله تعالى يكفِّر بكل حسنة سيئة ، قال الله عزَّ وجلَّ :
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ، حتى إذا كان يوم القيامة حسبت لهم
--------------------------- 674 ---------------------------
حسناتهم ثمّ أعطاهم بكلّ واحدة عشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، قال الله عزّ وجلّ :
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ، وقال : إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ . فارغبوا في هذا رحمكم الله واعملوا له وتحاضّوا عليه .
واعلموا يا عباد الله ، أن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، أباحهم في الدنيا ما كفاهم به وأغناهم ، قال الله عزَّ اسمه : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِه والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون ، وشربوا من طيبات ما يشربون ، ولبسوا من أفضل ما يلبسون ، وسكنوا من أفضل ما يسكنون ، وتزوجوا من أفضل ما يتزوجون ، وركبوا من أفضل ما يركبون . أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا ، وهم غداً جيران الله ، يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون ، لا يردُّ لهم دعوة ، ولا ينقص لهم نصيباً من اللَّذة . فإلى هذا يا عباد الله يشتاق إليه من كان له عقل ويعمل بتقوى الله ، ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله .
يا عباد الله ، إن اتقيتم وحفظتم نبيكم في أهل بيته ، فقد عبدتموه بأفضل ما عبد ، وذكرتموه بأفضل ما ذكر ، وشكرتموه بأفضل ما شكر ، وأخذتم بأفضل الصبر والشكر ، واجتهدتم أفضل الإجتهاد ، وإن كان غيركم أطول منكم صلاة وأكثر منكم صياماً ، فأنتم أتقى لله منه وأنصح لأولى الأمر .
إحذروا يا عباد الله الموت وسكرته ، فأعدُّوا له عُدَّته فإنه يفجؤكم بأمر عظيم : بخير لا يكون معه شرٌّ أبداً ، أو بشرٍّ لا يكون معه خيرٌ أبداً ، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها ، ومن أقرب إلى النار من عاملها . إنه ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أيَّ المنزلتين يصير إلى الجنة أم النار ، أعدوٌّ هو لله أو وليٌّ ، فإن كان وليّاً لله فُتحت له أبواب الجنة ، وشُرعت له طرقها ، ورأى ما أعدَّ الله له فيها ، ففرغ من كل شغل ، ووضع عنه كل ثقل . وإن كان عدوّاً لله فتحت له أبواب النار ، وشرع له طرقها ، ونظر إلى ما أعد الله له فيها فاستقبل كل مكروه ، وترك كل سرور .
--------------------------- 675 ---------------------------
كل هذا يكون عند الموت وعنده يكون بيقين ، قال الله تعالى : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . ويقول : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ .
عباد الله ، إن الموت ليس منه فوت ، فاحذروا قبل وقوعه ، وأعدوا له عدته فإنكم طرداء الموت : إن أقمتم له أخذكم ، وإن فررتم منه أدرككم ، وهو ألزم لكم من ظلَّكم ، الموت معقود بنواصيكم ، والدنيا تُطوى خلفكم ، فأكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات ، وكفى بالموت واعظاً . وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كثيراً ما يوصى أصحابه بذكر الموت فيقول : أكثروا ذكر الموت ، فإنه هادم اللذّات ، حائل بينكم وبين الشهوات .
يا عباد الله ، ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشد من الموت : القبر ، فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته . إن القبر يقول كل يوم : أنا بيت الغربة ، أنا بيت التراب ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدُّود والهوام . والقبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، إن العبدالمؤمن إذا دفن قالت له الأرض مرحباً وأهلاً ، قد كنت من أحبُّ أن تمشي على ظهري ، فإذْ وليتُك فستعلم كيف صنيعي بك ، فيتسع له مدَّ البصر . وإن الكافر إذا دفن قالت له الأرض : لامرحباً بك ولا أهلاً لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري ، فإذا وليتُك فستعلم كيف صنيعي بك ، فتضمُّه حتى تلتقي أضلاعه !
وإن المعيشة الضنك الَّتي حذَّر الله منها عدوه عذاب القبر أنه يسلَّط على الكافر في قبره تسعةً وتسعين تنيناً فينهشن لحمه ويكسرن عظمه ، ويترددن عليه كذلك إلى يوم البعث ، لو أن تنيناً منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعاً أبداً !
يا عباد الله ، إن أنفسكم الضعيفة ، وأجسادكم الناعمة الرقيقة ، الَّتي يكفيها اليسير ، تضعف عن هذا ، فإن استطعتم أن تجزعوا لأجسادكم وأنفسكم مما لا طاقة لكم ولا صبر لكم عليه ، فاعملوا بما أحبَّ الله واتركوا ما كره الله .
--------------------------- 676 ---------------------------
يا عباد الله ، إن بعد البعث ما هو أشدُّ من القبر ، يومٌ يشيب فيه الصغير ، ويسكر فيه الكبير ، ويسقط فيه الجنين ، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، يوم عبوس قمطرير ، يوم كان شره مستطيراً . إن فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم ، وترعد منه السبع الشداد ، والجبال الأوتاد ، والأرض المهاد ، وتنشق السماء فهي يومئذ واهية ، وتصير وردة كالدهان ، وتكون الجبال كثيباً مهيلاً بعد ما كانت صُمّاً صِلاباً وينفخ في الصور ، فيفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . فكيف من عصى بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن ، إن لم يغفر الله له ويرحمه من ذلك اليوم ، لأنه يقضي ويصير إلى غيره ، إلى نار قعرها بعيد ، وحرها شديد ، وشرابها صديد ، وعذابها جديد ، ومقامعها حديد ، لا يفتر عذابها ، ولا يموت سكانها . دار ليس فيها رحمة ، ولا يسمع لأهلها دعوة .
واعلموا يا عباد الله ، أن مع هذا رحمة الله التي لا تعجز عن العباد ، جنة عرضها كعرض السماء والأرض ، أعدت للمتقين ، خيرٌ لا يكون معها شرٌّ أبداً ، لذَّاتها لا تمل ، ومجتمعها لا يتفرق ، سكانها قد جاوروا الرحمن ، وقام بين أيديهم الغلمان ، بصحاف من الذهب فيها الفاكهة والريحان .
ثم اعلم يا محمد بن أبيبكر ، أني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي : أهل مصر فإذْ وليتك ما وليتك من أمر الناس ، فأنت حقيق أن تخاف منه على نفسك ، وأن تحذر منه على دينك ، فإن استطعت أن لا تسخط ربك عز وجل برضا أحد من خلقه فافعل ، فإن في الله عز وجل خلفاً من غيره ، وليس في شئ سواه خلف منه . إشتدَّ على الظالم وخذ عليه ، ولن لأهل الخير وقربهم ، واجعلهم بطانتك وإخوانك . وانظر إلى صلاتك كيف هي ، فإنك إمام القوم ينبغي لك أن تتمها ولا تخففها ، فليس من إمام يصلي بقوم يكون في صلاتهم نقصان إلا كان عليه . وتممها وتحفظ فيها يكن لك مثل أجورهم ، ولا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً .
ثم انظر إلى الوضوء فإنه من تمام الصلاة ، وتمضمض ثلاث مرات ، واستنشق ثلاثاً ، واغسل وجهك ، ثم يدك اليمنى ، ثم يدك اليسرى ، ثم امسح رأسك ورجليك ، فإني
--------------------------- 677 ---------------------------
رأيت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يصنع ذلك .
واعلم أن الوضوء نصف الإيمان . ثم ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها ، ولا تعجل بها قبله لفراغ ، ولا تؤخرها عنه لشغل ، فإن رجلاً سأل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن أوقات الصلاة فقال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : أتاني جبرئيل ( عليه السلام ) فأراني وقت الصلاة ، فصلى الظهر حين زالت الشمس فكانت على حاجبه الأيمن ، ثم أراني وقت العصر ، فكان ظل كل شئ مثله ، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس ، ثم صلى العشاء الآخرة حين غاب الشفق ، ثم صلى الصبح فغلَّس بها والنجوم مشتبكة ، فصل لهذه الأوقات ، والزم السنة المعروفة والطريق الواضح .
ثم أنظر ركوعك وسجودك ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كان أتم الناس صلاة ، وأخفهم عملاً فيها . واعلم أن كل شئ من عملك تبع لصلاتك ، فمن ضيع الصلاة فإنه لغيرها أضيع . أسأل الله الذي يرى ولا يرى وهو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا وإياك ممن يحب ويرضى ، حتى يعيننا وإياك على شكره وذكره وحسن عبادته وأداء حقه ، وعلى كل شئ اختار لنا في دنيانا وآخرتنا .
وأنتم يا أهل مصر ، فليصدق قولكم فعلكم ، وسركم علانيتكم ، ولا تخالف ألسنتكم قلوبكم ، واعلموا أنه لا يستوي إمام الهدى وإمام الردى ، ووصي النبي ( عليه السلام ) وعدوه . إنني لا أخاف عليكم مؤمناً ولا مشركاً ، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه ، وأما المشرك فيحجزه الله عنكم بشركه ، لكن أخاف عليكم المنافق ، يقول ما تعرفون ، ويفعل ما تنكرون .
يا محمد بن أبيبكر : إعلم أن أفضل الفقه الورع في دين الله ، والعمل بطاعته ، إني أوصيك بسبع هن جوامع الإسلام : تخشى الله عز وجل ولا تخشى الناس في الله ، وخير القول ما صدقه العمل ، ولا تقض في أمر واحد بقضاءين مختلفين فيختلف أمرك وتزيغ عن الحق ، وأحب لعامة رعيتك ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، وأكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، فإن ذلك أوجب للحجة وأصلح للرعية ، وخض الغمرات إلى الحق ، ولا تخف في الله لومة لائم ، وانصح المرء إذا استشارك ، واجعل
--------------------------- 678 ---------------------------
نفسك أسوة لقريب المسلمين وبعيدهم ، جعل الله عز وجل مودتنا في الدين ، وحلانا وإياكم حلية المتقين ، وأبقى لكم طاعتكم حتى يجعلنا وإياكم بها إخواناً على سرر متقابلين .
أحسنوا أهل مصر مؤازرة محمد أميركم ، واثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيكم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . أعاننا الله وإياكم على مايرضيه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) .
أقول : تضمنت الرسالة حقائق هامة عن عقيدة الإسلام ، ونظرته إلى الحياة الدنيا والآخرة ، وكيفية تعامل الإنسان المسلم معهما . وهدفه ( عليه السلام ) تثبيت عقائد الإسلام في نفوس المصريين . وقد خاطبهم كما يخاطب خاصة المسلمين ، مما يدل على أن وعيهم كان عالياً ، وأنهم أهلٌ لاستيعاب حقائق الإسلام والقرآن ، وسلوك الأبرار .
ولا شك أن للحضارة المصرية والديانة المسيحية التي كانت منتشرة فيها ، تأثيرهما في رفع مستوى فهم المصريين لحقائق الإسلام .
22 . خص محمد بن أبيبكر رضي الله عنه برسائل
روى الثقفي في كتاب الغارات ( 1 / 230 ) : « كتب محمد بن أبيبكر إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وهو إذ ذاك بمصر يسأله جوامع من الحرام والحلال والسنن والمواعظ ، فكتب إليه : لعبد الله أمير المؤمنين من محمد بن أبيبكر : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن رأى أمير المؤمنين أرانا الله وجماعة المسلمين فيه أفضل سرورنا وأملنا فيه ، أن يكتب لنا كتاباً فيه فرائض وأشياء مما يبتلى به مثلي من القضاء بين الناس فعل ، فإن الله يعظم لأمير المؤمنين الأجر ، ويحسن له الذخر .
فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى محمد بن أبيبكر وأهل مصر : سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فقد وصل إلي كتابك فقرأته وفهمت ما سألتني عنه ، وأعجبني اهتمامك بما لا بد لك منه ، وما لا يصلح المسلمين غيره ، وظننت أن الذي دلك عليه نية صالحة ورأي غير مدخول ولا خسيس . وقد بعثت إليك أبواب الأقضية جامعاً لك فيها ، ولا قوة إلا بالله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وكتب إليه عما سأله من القضاء ، وذكر الموت ، والحساب ، وصفة الجنة والنار ، وكتب
--------------------------- 679 ---------------------------
في الإمامة ، وكتب في الوضوء ، وكتب إليه في مواقيت الصلاة ، وكتب إليه في الركوع والسجود ، وكتب إليه في الأدب ، وكتب إليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكتب إليه في الصوم والاعتكاف ، وكتب إليه في الزنادقة ، وكتب إليه في نصراني فجر بامرأة مسلمة ، وكتب إليه في أشياء كثيرة لم يحفظ منها غير هذه الخصال وحدثنا ببعض ما كتب إليه . قال إبراهيم : فحدثنا يحيى بن صالح . . عن عباية أن علياً ( عليه السلام ) كتب إلى محمد بن أبيبكر ، وأهل مصر :
أما بعد ، فإني أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته ، وعلى أي حال كنت عليها ، واعلم أن الدنيا دار بلاء وفناء ، والآخرة دار بقاء وجزاء ، فإن استطعت أن تؤثر ما يبقى على ما يفنى فافعل ، فإن الآخرة تبقى وإن الدنيا تفنى ، رزقنا الله وإياك بصراً لما بصرنا ، وفهماً لما فهمنا ، حتى لا نقصر عما أمرَنا به ، ولا نتعدى إلى ما نهانا عنه ، فإنه لا بد لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن عرض لك أمران أحدهما للآخرة والآخر للدنيا ، فابدأ بأمر الآخرة .
ولتعظم رغبتك في الخير ، ولتحسن فيه نيتك ، فإن الله عز وجل يعطي العبد على قدر نيته ، وإذا أحب الخير وأهله ولم يعمله كان إن شاء الله كمن عمله ، فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال حين رجع من تبوك : لقد كان بالمدينة أقوام ما سرتم من مسير ، ولاهبطتم من واد إلا كانوا معكم . ما حبسهم إلا المرض يقول : كانت لهم نية .
ثم إعلم يا محمد أني وليتك أعظم أجنادي في نفسي : أهل مصر ، وإذ وليتك ما وليتك من أمر الناس ، فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك ، وتحذر فيه على دينك ، ولو كان ساعة من نهار ، فإن استطعت أن لا تسخط فيها ربك لرضى أحد من خلقه فافعل ، فإن في الله خلفاً من غيره ، وليس في شئ غيره خلف منه ، فاشتد على الظالم ، ولِنْ لأهل الخير ، وقربهم إليك ، واجعلهم بطانتك ، وإخوانك . والسلام .
« بعث علي ( عليه السلام ) محمد بن أبيبكر أميراً على مصر فكتب إلى علي ( عليه السلام ) يسأله عن رجل مسلم فجر بامرأة نصرانية ، وعن زنادقة فيهم من يعبدالشمس والقمر ، وفيهم من يعبد غير ذلك ، وفيهم مرتد عن الإسلام ، وكتب يسأله من مُكاتب مات وترك مالاً
--------------------------- 680 ---------------------------
وولداً ؟ فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : أن أقم الحد فيهم على المسلم الذي فجر بالنصرانية ، وادفع النصرانية إلى النصارى يقضون فيها ما شاؤوا .
وأمره في الزنادقة أن يقتل من كان يدعي الإسلام ، ويترك سائرهم يعبدون ما شاؤوا ، وأمره في المكاتب إن كان ترك وفاء لمكاتبته فهو غريم بيد مواليه ، يستوفون ما بقي من مكاتبته ، وما بقي فلولده » .
( وكان فيما استولى عليه ابن العاص الكتب التي كتبها علي ( عليه السلام ) إلى محمد بن أبيبكر ، فأرسلها عمرو إلى معاوية . قال الثقفي في الغارات ( 1 / 251 ) : « فلما ظهر عليه وقُتل أخذ عمرو بن العاص كتبه أجمع ، فبعث بها إلى معاوية بن أبي سفيان ، وكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويعجبه ، فقال الوليد بن عقبة وهو عند معاوية لما رأى إعجاب معاوية به : مُرْ بهذه الأحاديث أن تحرق .
فقال له معاوية : مه يا ابن أبي معيط إنه لارأي لك ! فقال له الوليد : إنه لا رأي لك ، أفمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلم منها ، وتقضي بقضائه ، فعلام تقاتله ! فقال معاوية : ويحك أتأمرني أن أحرق علماً مثل هذا ! والله ما سمعت بعلم أجمع منه ولا أحكم ولا أوضح !
فقال الوليد : إن كنت تعجب من علمه وقضائه ، فعلامَ تقاتله ؟ فقال معاوية : لولا أن أبا تراب قتل عثمان ، ثم أفتانا لأخذنا عنه !
ثم سكت هنيئة ، ثم نظر إلى جلسائه فقال : إنا لا نقول : إن هذه من كتب علي بن أبي طالب ولكنا نقول : إن هذه من كتب أبيبكر الصديق كانت عند ابنه محمد ، فنحن نقضي بها ونفتي .
فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية حتى وليَ عمر بن عبد العزيز ، فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) » .
أقول : يظهر أن سياسة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والأئمة ( عليهم السلام ) أن يكون العلم في الأمة حتى ظهور المهدي ( عليه السلام ) ، محصوراً بالقرآن ، وما روته الأمة عن النبي والأئمة صلوات الله عليهم ، بطرقها العادية .
--------------------------- 681 ---------------------------
لذلك أملى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) كتباً وقال لعلي ( عليه السلام ) : أكتب لك ولشركائك . وجعلها عند علي والأئمة حتى يظهر المهدي ( عليهم السلام ) فيظهرها . وكانوا يظهرون للناس منها بمقادير ، تطبيقاً لقوله تعالى : وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ . ويبدو أن ما كتبه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمحمد بن أبيبكر كان علماً خاصاً به ، لا يريد أن يصل إلى أعدائه . ولذلك روي أنه ( عليه السلام ) تأسف لوقوع تلك الكُتب في يد معاوية ، ووصف عمله بأنه خطأ ! ( الغارات : 1 / 252 ) . والصحيح أن التعبير بالخطأ من الراوي ، لأن الإمام مصون من الخطأ .
23 . رسالة محمد بن أبيبكر إلى معاوية وجوابه
« كتب محمد بن أبيبكر إلى معاوية احتجاجاً عليه :
بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد بن أبيبكر ، إلى الغاوي معاوية بن صخر ، سلام الله على أهل طاعة الله ممن هو أهل دين الله ، وأهل ولاية الله . أما بعد ، فإن الله بجلاله وسلطانه خلق خلقاً بلا عبث منه ولا ضعف به ، ولكنه خلقهم عبيداً ، فمنهم شقي وسعيد ، وغوي ورشيد . ثم اختارهم على علم منه ، واصطفى وانتخب منهم محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) واصطفاه لرسالته ، وائتمنه على وحيه ، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة . فكان أول من أجاب وأناب ، وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ، فصدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، ووقاه من كل مكروه ، وواساه بنفسه في كل خوف .
وقد رأيتك تساويه وأنت أنت ، وهو هو المبرز والسابق في كل خير ، وأنت اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغضان وتبغيان في دين الله الغوائل ، وتجتهدان على إطفاء نور الله ، تجمعان الجموع على ذلك ، وتبذلان فيه الأموال ، وتُحالفان عليه القبائل . على ذلك مات أبوك ، وعليه خلفته أنت ، فكيف لك الويل تُعدل بعلي ، وهو وارث علم رسول الله ووصيه ، وأول الناس له اتباعاً ، وآخرهم به عهداً ، وأنت عدوه وابن عدوه ! فتمتع بباطلك ما استطعت ،
--------------------------- 682 ---------------------------
وليمددك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، ثم تستبين لك لمن تكون العاقبة العليا . والسلام على من اتبع الهدى .
فأجابه معاوية :
هذا إلى الزاري على أبيه محمد بن أبيبكر ، سلام على أهل طاعة الله ، أما بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه ، مع كلام ألفته ورصفته لرأيك فيه ، وذكرت حق علي وقديم سوابقه وقرابته من رسول الله ، ونصرته ومواساته إياه في كل خوف وهول ، وتفضيلك علياً وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك ، فالحمد لله الذي صرف ذلك عنك ، وجعله لغيرك .
وقد كنا وأبوك معنا في زمن نبينا نرى حق عليٍّ لازماً لنا ، وسبقه مبرزاً علينا ، فلما اختار الله لنبيه ما عنده ، وأتم له ما وعده وقبضه الله إليه ، كان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه على ذلك واتفقا ، ثم دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عليهما ، فهمَّا به الهموم وأرادا به العظيم ، فبايع وسلم لأمرهما لايشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما حتى قضى الله من أمرهما ما قضى .
ثم قام بعدهما ثالثهما يهدي بهداهما ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وأصحابك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ، حتى بلغتما منه مناكما ، وكان أبوك مهد مهاده . فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك أوله ، وإن يك جوراً فأبوك سنه ، ونحن شركاؤه وبهداه اقتدينا ، ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا علياً ولسلمنا له . ولكنا رأينا أباك فعل ذلك فأخذنا بمثاله ، فعب أباك أو دعه . والسلام على من تاب وأناب » ! ( الإحتجاج : 1 / 269 ) .
24 . جعل معاوية مصر وأهلها طُعْمَةً لابن النابغة !
في تاريخ دمشق ( 49 / 427 ) : ( قدم عمرو بن العاص على معاوية بعد فتحه مصر ، فعمل معاوية طعاماً ، فبدأ بعمرو وأهل مصرفغداهم ، ثم خرج أهل مصر واحتبس عمرواً عنده ، ثم أدخل أهل الشام فتغدوا ، فلما فرغوا من الغداء قالوا : يا أبا عبد الله بايع . قال : نعم ، على أن لي عُشْراً يعني مصر ! فبايعه على أن له ولاية مصر ما كان حياً . فبلغ ذلك علياً ( عليه السلام ) فقال ما قال ) .
--------------------------- 683 ---------------------------
يقصد قوله ( عليه السلام ) : ( كرَّ على العاصي بن العاصي فاستماله ، فمال إليه ، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر ! وحرامٌ عليه أن يأخذ من الفئ دون قَسْمه درهماً ) . ( الخصال : 378 ) .
وقوله ( عليه السلام ) : ( إنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتِيَّةً ، ويرضخ له على ترك الدين رضيخةً ) ! ( نهج البلاغة : 1 / 148 ) .
وفي تاريخ اليعقوبي ( 2 / 221 ) : ( كانت مصر والمغرب لعمرو بن العاص طعمةً شرطها له يوم بايع ! ونسخة الشرط : هذا ما أعطى معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص مصرَ أعطاه أهلها فهم له حياته ، ولا تنقص طاعته شرطاً . فقال له وردان مولاه : فيه الشَّعْرُ من بدنك ، فجعل عمرو يقرأ الشرط ولا يقف على ما وقف عليه وردان ! فلما ختم الكتاب وشهد الشهود قال له وردان : وما عمرك أيها الشيخ إلا كظَمْإ حمار ( مثلٌ لقصر المدة ) ! هلا شرطت لعقبك من بعدك ؟ فاستقال معاويةَ فلم يقله ، فكان عمرو لا يحمل إليه من مالها شيئاً ، يفرق الأعطية في الناس ، فما فضل من شئ أخذه لنفسه ) !
وقال الطبري ( 4 / 74 ) : ( بايعه على قتال علي بن أبي طالب على أن له مصر طعمةً ) .
أقول : ولم يتمتع ابن النابغة بحكم مصر وأموالها ، إلا سنتين وكسراً !
25 . قيس بن سعد بن عبادة والي مصر
1 . قال في النجوم الزاهرة ( 1 / 95 ) : ( وكان ضخماً جسمياً ، طويلاً جداً ، صغير الرأس ، سيداً مطاعاً ، كثير المال جواداً كريماً ، يعد من دهاة العرب ) .
وفي النهاية لابن كثير ( 8 / 110 ) : ( وفي رواية أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه يزعم أن أحدهما أقوى الروم ، والآخر أطول الروم فانظر هل في قومك من يفوقهما في قوة هذا وطول هذا ؟ فإن كان في قومك من يفوقهما بعثت إليك من الأسارى كذا وكذا ، ومن التحف كذا وكذا ، وإن لم يكن في جيشك من هو أقوى وأطول منهما ، فهادني ثلاث سنين . فلما حضرا عند معاوية قال : من لهذا القوي ؟ فقالوا : ماله إلا أحد رجلين ، إما محمد بن الحنفية ،
--------------------------- 684 ---------------------------
أو عبد الله بن الزبير ، فجئ بمحمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب ، فلما اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية : أتعلم فيم أرسلت إليك ؟ قال : لا ! فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه ، فقال للرومي : إما أن تجلس لي أو أجلس إليك وتناولني يدك أو أناولك يدي ، فأينا قدر على أن يقيم الآخر من مكانه غلبه ، وإلا فقد غُلب . فقال له : ماذا تريد ؟ تجلس أو أجلس ؟ فقال له الرومي : بل اجلس أنت ، فجلس محمد بن الحنفية وأعطى الرومي يده فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيله من مكانه أو يحركه ليقيمه فلم يقدر على ذلك ، ولا وجد إليه سبيلاً ، فغُلب الرومي : عند ذلك ، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غُلب . ثم قام محمد بن الحنفية فقال للرومي أجلس لي ، فجلس وأعطى محمداً يده فما أمهله أن أقامه سريعاً ، ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض ! فسرَّ بذلك معاوية سروراً عظيماً . ونهض قيس بن سعد فتنحى عن الناس ثم خلع سراويله وأعطاها لذلك الرومي الطويل فلبسها فبلغت إلى ثدييه ، وأطرافها تخط بالأرض ، فاعترف الرومي بالغلب ، وبعث ملكهم ما كان التزمه لمعاوية . وعاتب الأنصار قيس بن سعد في خلعه سراويله بحضرة الناس فقال : ذلك الشعر المتقدم معتذراً به إليهم ، وليكون ذلك ألزم للحجة التي تقوم على الروم ، وأقطع لما حاولوه .
وقال ابن حجر في الإصابة ( 5 / 359 ) ملخصاً : ( قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي . . كان ضخماً حسناً طويلاً ، إذا ركب الحمار خطت رجلاه الأرض . وقال الواقدي : كان سخيا كريما داهيةً ، وكان قيس حامل راية الأنصار مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وكان سناطاً ليس في وجهه شعرة فقال : إن الأنصار كانوا يقولون وددنا أن نشتري لقيس بن سعد لحية بأموالنا . قال أبو عمرو : كذلك كان شريح وعبد الله بن الزبير لم يكن في وجوههم شعر . وفي صحيح البخاري عن أنس : كان قيس بن سعد من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير . وشهد مع رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) المشاهد وأخذ النبي يوم الفتح الراية من أبيه فدفعها له . وولاه علي ( عليه السلام ) مصر ، وشهد معه صفين ، ثم كان مع الحسن بن علي حتى صالح معاوية ، فرجع قيس إلى المدينة فأقام بها . ومات في آخر خلافة معاوية ) .
--------------------------- 685 ---------------------------
ويظهر أنه ولاه على آذربيجان بعد مصر ، قال البلاذري ( 2 / 161 ) : ( كتب ( عليه السلام ) إلى قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، وهو بآذربيجان : أما بعد فإن العالمين بالله العاملين له خيار الخلق عند الله ، وإن المسلمين لغير الرياء والسمعة لفي أجر عظيم وفضل مبين . وقد سألني عبد الله بن شبيل الأحمسي الكتاب إليك في أمره فأوصيك به خيراً فإني رأيته وادعاً متواضعاً حسن السّمت والهدي ، فألن حجابك واعمد للحق ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . والسلام ) .
وفي هذه الرسالة دعوة لقيس أن يخلص النية ، وإشارة إلى زيادة احتجابه ، فوجهه أن يخفف من احتجابه عن الناس ، وعن أصحاب الحاجات !
2 . قال الثقفي في الغارات ( 1 / 205 ) : ( لما قُتل عثمان ووليَ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) دعا قيس بن سعد فقال : سرْ إلى مصر فقد وليتكها ، واخرج إلى رحلك فاجمع فيه من ثقاتك من أحببت أن يصحبك ، حتى تأتيها ومعك جند ، فإن ذلك أرهب لعدوك وأعز لوليك . فإذا أنت قدمتها إن شاء الله ، فأحسن إلى المحسن واشتدَّ على المريب ، وارفق بالخاصة والعامة ، فإن الرِّفْقَ يُمْنٌ .
فقال له قيس بن سعد : رحمك الله يا أمير المؤمنين ، قد فهمت ما ذكرت ، أما قولك أخرج إليها بجند ، فوالله إن لم أدخلها بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبداً ، فإذا أدع ذلك الجند لك ، فإن احتجت إليهم كانوا منك قريباً وإن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدة لك ، ولكني أسير إليها بنفسي وأهل بيتي . وأما ما أوصيتني به من الرفق والإحسان ، فإن الله تعالى هو المستعان على ذلك .
قال : فخرج قيس بن سعد في سبع نفر من أصحابه ، حتى دخل مصر فصعد المنبر ، فأمر بكتاب معه فقرئ على الناس ، فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين ، سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو . أما بعد ، فإن الله بحسن صنعه وتقديره وتدبيره اختارالإسلام ديناً لنفسه
--------------------------- 686 ---------------------------
وملائكته ورسله ، وبعث به الرسل إلى عباده ، وخص من انتجب من خلقه ، فكان مما
أكرم الله عز وجل به هذه الأمة وخصهم من الفضيلة أن بعث محمداً ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إليهم فعلمهم الكتاب والحكمة والسنة والفرائض ، وأدَّبهم لكيما يهتدوا ، وجمعهم لكيما لا يتفرقوا ، وزكاهم لكيما يتطهروا ، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه ، فعليه صلوات الله وسلامه ورحمته ورضوانه إنه حميد مجيد .
ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) والقيام بحقه والنصح لكم بالغيب ، والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وقد بعثت إليكم قيس بن سعد أميراً ، فوازروه وأعينوه على الحق ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم ، والشدة على مريبكم ، والرفق بعوامكم وخواصكم . وهو ممن أرضى هديه ، وأرجو صلاحه ونصيحته ، نسأل الله لنا ولكم عملاً زاكياً ، وثواباً جزيلاً ، ورحمةً واسعة . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وكتب عبيد الله بن أبي رافع ، في صفر سنة ست وثلاثين .
قال : لما فرغ من قراءة الكتاب قام قيس بن سعد خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : الحمد لله الذي أمات الباطل وأحيا الحق وكبت الظالمين . أيها الناس : إنا بايعنا خير من نعلم بعد نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنة نبيه ، فإن نحن لم نعمل فيكم بكتاب الله وسنة رسوله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فلا بيعة لنا عليكم . فقام الناس فبايعوا ) .
3 . واستقامت له مصر وأعمالها فبعث عليها عماله إلا أن قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان ، وبها رجل من بني كنانة يقال له يزيد بن الحارث ، فبعث إلى قيس بن سعد : ألا إنا لا نأتيك فابعث عمالك والأرض أرضك ، ولكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس . قال : ووثب مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري ، فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه ، فأرسل إليه قيس : ويحك أعليَّ تثب ! والله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وإني قتلتك ، فاحقن دمك . فأرسل إليه مسلمة أني كافٌّ عنك ، ما دمت أنت والي مصر .
قال : وكان قيس له حزم ورأي ، فبعث إلى الذين اعتزلوا أني لا أكرهكم على البيعة ، ولكني أدعكم وأكف عنكم ، فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلد ، وجبى الخراج وليس
--------------------------- 687 ---------------------------
أحدٌ ينازعه ) . انتهى ما أورده الثقفي .
أقول : كان مع معاوية أنصاريان فقط : مسلم بن مخلد ، وبشير بن النعمان ، وقد قال قيس لبشير ( ابن الأعثم : 3 / 167 ) : ( أنظر هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك مسلمة بن مخلد ، والله ما أنتما بدريين ولا عقبيين ولا لكما في الإسلام سابقة ) .
لكن قيساً الذي عدُّوه من دهاة العرب ، وقع في مكيدة معاوية وابن مخلد مع الأسف !
4 . قال : وخرج أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) إلى الجمل وهو على مصر ، ورجع إلى الكوفة من البصرة وهو بمكانه ، فكان أثقل خلق الله على معاوية لقربه من الشام مخافة أن يُقبل إليه علي بأهل العراق ويُقبل إليه قيس بأهل مصر فيقع بينهما . فكتب معاوية إلى قيس بن سعد ، وعلي يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفين :
بسم الله الرحمن الرحيم ، من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد ، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها ، أو في ضربة سوط رأيتموه ضربها ، أو في شتمة رجل أو تعييره واحداً ، أو في استعماله الفتيان من أهله ، فإنكم قد علمتم إن كنتم تعلمون أن دمه لم يحل لكم بذلك ، فقد ركبتم عظيماً من الأمر وجئتم شيئاً إداً ، فتب إلى ربك يا قيس إن كنت من المجلبين على عثمان ، إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئاً . وأما صاحبك فإنا قد استيقنا أنه أغرى الناس به ، وحملهم على قتله حتى قتلوه ، وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك ، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل ، وبايعنا على أمرنا هذا ولك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت ، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان ، وسلني من غير هذا ما تحب فإنك لا تسألني من شئ إلا أوتيته ، واكتب إلي برأيك فيما كتبت به إليك . والسلام .
فلما جاء قيساً كتاب معاوية أحب أن يدافعه ولا يبدي له أمره ، ولا يعجل له حربه فكتب إليه : أما بعد فقد وصل إلى كتابك ، وفهمت ما ذكرت من قتل
--------------------------- 688 ---------------------------
عثمان ، وذلك أمر لم أقاربه وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان ودسهم إليه حتى قتلوه ، وهذا أمر لم أطلع عليه ، وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان ، فلعمري إن أولى الناس كان في أمره عشيرتي . وأما ما سألتني من متابعتك على الطلب بدمه وعرضت عليَّ ما عرضت فقد فهمته ، وهذا أمر لي فيه نظر وفكر وليس هذا مما يعجل إليه ، وأنا كافٌّ عنك وليس يأتيك من قبلي شئ تكرهه حتى ترى ونرى ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
قال : فلما قرأ معاوية كتابه لم يره إلا مقارباً مباعداً ، ولم يأمن أن يكون له في ذلك مخادعاً مكايداً ، فكتب إليه معاوية أيضاً :
بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد فقد قرأت كتابك ، فلم أرك تدنو فأعدك سلماً ، ولم أرك تتباعد فأعدك حرباً ، أنت هاهنا كجمل جرور ، وليس مثلي من يصانع بالخدائع ولا يختدع بالمكايد ، ومعه عدد الرجال وأعنة الخيل ، فإن قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك ، وإن أنت لم تفعل ، ملأت عليك مصر خيلاً ورجلاً . والسلام .
قال : فلما قرأ قيس بن سعد كتاب معاوية ، وعلم أنه لا يقبل منه المدافعة والمطاولة ، أظهر له ما في قلبه فكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم . من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان : أما بعد فالعجب من استسقاطك رأيي ، واغترارك بي ، وطمعك في أن تسومني لا أباً لغيرك ، الخروج من طاعة أولى الناس بالأمر وأقولهم بالحق ، وأهداهم سبيلاً ، وأقربهم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسيلة ، وتأمرني بالدخول في طاعتك طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم بالزور ، وأضلهم سبيلاً ، وأبعدهم من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وسيلة ، ولديك قوم ضالون مضلون ، طواغيت إبليس !
وأما قولك : إنك تملأ عليَّ مصر خيلاً ورجلاً فلئن لم أشغلك عن ذلك حتى تكون نفسك أهمَّ إليك ، إنك لذو جَدّ ، والسلام .
فلما أتى معاوية كتاب قيس بن سعد أيس منه ، وثقل مكانه عليه وكان أن يكون بالمكان الذي هو به غيره أعجب إليه ، واشتد على معاوية لما يعرف من بأسه ونجدته ، فأظهر للناس قبله أن قيساً قد بايعكم فادعوا الله له ، وقرأ عليهم كتابه الذي لان فيه وقاربه ،
--------------------------- 689 ---------------------------
واختلق معاوية كتاباً نسبه إلى قيس فقرأه على أهل الشام : بسم الله الرحمن الرحيم . إلى الأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد ، أما بعد فإن قتل عثمان كان حدثاً في الإسلام عظيماً ، وقد نظرت لنفسي وديني لم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلماً محرماً براً تقياً ، ونستغفر الله لذنوبنا ، ونسأله العصمة لديننا . ألا وإني قد ألقيت إليك بالسلم ، وأجبتك إلى قتال قتلة إمام الهدى المظلوم ، فعجل عليَّ فيما أحببت من الأموال والرجال ، أعجله إليك إن شاء الله تعالى ، والسلام عليك !
قال : فشاع في أهل الشام كلها أن قيساً صالح معاوية ، فسرحت عيون عليِّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) إليه بذلك ، فلما أتاه ذلك أعظمه وأكبره وتعجب له ، ودعا ابنيه الحسن والحسين وابنه محمداً ، ودعا عبد الله بن جعفر ، فأعلمهم بذلك وقال : ما رأيكم ؟ فقال عبد الله بن جعفر : يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، إعزل قيس بن سعد عن مصر . فقال لهم : إني والله ما أصدق بهذا على قيس . فقال له عبد الله بن جعفر : إعزله يا أمير المؤمنين ، فوالله إن كان ما قد قيل حقاً ، لا يعتزلك إن عزلته . قال : وإنهم لكذلك ، إذ أتاهم كتاب من قيس بن سعد فيه : بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد فإني أخبرأميرالمؤمنين أكرمه الله أن قبلي رجالاً معتزلين سألوني أن أكف عنهم وأن أدعهم على حالهم ، حتى يستقيم أمر الناس فنرى ويرون ، وقد رأيت أن أكف عنهم وألا أعجل ، وأن أتألفهم فيما بين ذلك ، لعل الله أن يقبل بقلوبهم ويفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله ، والسلام .
فقال له عبد الله بن جعفر : ماأخوفني يا أمير المؤمنين أن يكون هذا مما اتهم عليه ، إنك إن أطعته في تركهم واعتزالهم استشرى الأمر وتفاقمت الفتنة ، وقعد عن بيعتك كثير ممن تريده على الدخول فيها ، ولكن مره بقتالهم .
فكتب إليه علي ( عليه السلام ) : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فسر إلى القوم الذين ذكرت ، فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون ، وإلا فناجزهم . والسلام .
فلما أتى قيس بن سعد الكتاب فقرأه ، لم يتمالك أن كتب إلى أمير المؤمنين : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فالعجب لك تأمرني بقتال قوم كافِّين عنك ، ولم يمدوا إليك
--------------------------- 690 ---------------------------
يداً للفتنة ولا أرصدوا لها . فأطعني يا أمير المؤمنين وكفَّ عنهم ، فإن الرأي تركهم يا أمير المؤمنين . والسلام ) .
5 . يدل موقف قيس على أنه لم يكن يعرف أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إمام رباني مفترض الطاعة ، ولذلك نعده شيعياً بالمعنى اللغوي ، وليس بالمعنى المصطلح في المذهب . كما أن موقفه يدل على ضعف وعيه السياسي والإداري ، فكيف يسمح لأعدائه أن يشكلوا جيباً معادياً ومعسكراً بقربه في مصر ، وهم يتواصلون مع معاوية ويتنظرون الفرصة للوثوب ! وهو مع ذلك يصرف عليهم من بيت المال ! وبالفعل جاء الخطر على مصر منهم ، وسيطروا عليها ، وقتلوا محمد بن أبيبكر بشكل فجيع !
وقد يقال : لماذا لم يُبق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) محمد بن أبي حذيفة أو لم يرسل هاشم المرقال أو مالك الأشتر من الأول ؟ والجواب : لعله ( عليه السلام ) كان بحاجة اليهما للحرب ، وأن ابن أبي حذيفة وإن كان أحسن بصيرة بمعاوية من قيس ، لكن لا نعلم أنه أحسن تدبيراً منه ، فقد أوقعه معاوية وابن العاصي أيضاً ، وقبضا عليه وحبساه وقتلاه .
ومع ذلك لا نتعجل في الحكم لأنا لا نعرف الظروف المحيطة بالوضع يومذاك .
وقد كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يديرأموره بمن عنده من أشخاص ، ويراعي ظروف المجتمع وضغوط القبائل ، ولعل تولية قيس كانت مطلباً للأنصار فولاه ، ولما صار بقاؤه مضراً عزله !
6 . قال الطبري ( 3 / 553 ) : « كان معاوية يقول : ما ابتدعت مكايدة قط كانت أعجب عندي من مكايدة كدت بها قيساً من قبل علي وهو بالعراق حين امتنع مني قيس . قلت لأهل الشام : لا تسبوا قيس بن سعد ولا تدعوا إلى غزوه ، فإنه لنا شيعة يأتينا كيس نصيحته سراً ، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا ، يُجرى عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ، ويؤمِّن سِرْبهم ، ويحسن إلى كل راكب قدم عليه منكم ، لا يستنكرونه في شئ » !
وهكذا رعى قيس بسذاجته الأنصارية قاعدة عسكرية لمعاوية يجمع فيها المعادين لعلي ( عليه السلام ) في مصر ، وأصرَّ على موقفه بل خَطَّأ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
واستغل معاوية الوضع وأخذ يرسل إلى قاعدته أموالاً وجنوداً ، وكان أسوأ من
--------------------------- 691 ---------------------------
أرسلهم مسلمة بن مخلدة الأنصاري ، وهو وزميله النعمان بن بشير ، من صبيان الأنصار من عوائل عادية ، وُلدا بعد الهجرة وكانا من خدم عثمان ومروان ، وتربيا على حب بني أمية وبغض علي والعترة النبوية !
وندم قيس بعد فوات الأوان ، وكانت الخسارة كبرى على مصر بتسلط الأمويين مجدداً ، ثم كان شعار ولاة بني أمية كما في النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ( 1 / 231 ) : ( إحلب الدرَّ حتى ينقطع ، واحلب الدم حتى ينصرم ) !
7 . وقد غضب قيس من مكيدة معاوية وكذبه عليه ، فساءت العلاقة بينهما ، وكتب له معاوية : إنما أنت يهودي عبد لنا ، وكتب له قيس : إنما أنت وثن ابن وثن من أوثان مكة ! وبقيت العداوة بينهما حتى صالح الإمام الحسن ( عليه السلام ) معاوية ، وأحضر قيساً ليصالح معاوية ويبايعه ! ففي مقاتل الطالبيين / 47 : ( ولما تم الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد بن عبادة يدعوه إلى البيعة . . فلما أرادوا أن يدخلوه إليه قال : إني قد حلفت أن لا ألقاه إلا بيني وبينه الرمح أو السيف ، فأمر معاوية برمح وسيف فوضع بينه وبينه ليبر يمينه ) !
وقال البلاذري ( 3 / 50 ) : ( فلما دخلا على معاوية بايعه الحسن ، ثم قال لقيس : بايع . فقال قيس بيده هذا وجعلها في حجره ولم يرفعها إلى معاوية ! ومعاوية على السرير ، فبرك معاوية على ركبتيه ومد يده حتى مسح على يد قيس وهي في حجره ! وحكى لنا محمد صنيعه وجعل يضحك ) !
وقال اليعقوبي ( 2 / 216 ) : ( وأحضر الناس لبيعته ، وكان الرجل يحضر فيقول : والله يا معاوية إني لأبايعك وإني لكاره لك ، فيقول : بايع ، فإن الله قد جعل في المكروه خيراً كثيراً ، ويأبى الآخر فيقول : أعوذ بالله من شر نفسك ! وأتاه قيس بن سعد بن عبادة فقال : بايع قيس ! قال : إن كنت لأكره مثل هذا اليوم يا معاوية . فقال له : مه ، رحمك الله ! فقال : لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك فأبى الله يا ابن أبي سفيان إلا ما أحب . قال : فلا يرد أمر الله .
قال : فأقبل قيس على الناس بوجهه فقال : يا معشرالناس ! لقد اعتضتم
--------------------------- 692 ---------------------------
الشرمن الخير واستبدلتم الذل من العز ، والكفر من الإيمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول رب العالمين ، وقد وليكم الطليق ابن الطليق يسومكم الخسف ، ويسير فيكم بالعسف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم ، أم طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون ؟ فجثى معاوية على ركبتيه ثم أخذ بيده وقال : أقسمت عليك ! ثم صفق على كفه ، ونادى الناس : بايع قيس ! فقال ، كذبتم والله ما بايعت ) !
26 . مالك بن الحارث الأشتر والي مصر
1 . ( مالك الأشتر بن الحارث . . بن مالك بن النخع ) . ( معجم الشعراء : 1 / 172 ) .
( قدس الله روحه ورضي الله عنه ، جليل القدر عظيم المنزلة ، كان اختصاصه بعلي ( عليه السلام ) أظهر من أن يخفى ، وتأسف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لموته وقال : لقد كان لي كما كنت لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) . ( الخلاصة للعلامة الحلي / 276 ) .
( لما نُعيَ الأشتر مالك بن الحارث النخعي إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تأوه حُزناً وقال : رحم الله مالكاً وما مالك ، عزَّ عليَّ به هالكاً . لو كان صخراً لكان صلداً ولو كان جبلاً لكان فنداً ، وكأنه قٌدَّ مني قَدّاً ) . ( معجم السيد الخوئي : 15 / 168 ) .
كان من شجعان العالم ، قويَّ الروح والبنية طويل القامة ، وكان هو وعَديُّ بن حاتم : ( يركب الفرس الجسام فتخط إبهاماه في الأرض ) . ( المحبر / 113 ) .
2 . وقد ألَّف بعض العلماء رسالة في إثبات صحبته للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( الذريعة : 7 / 37 ) . ويدل عليه قوله في جواب بطل الروم الذي برز إليه في اليرموك : ( فقال له ماهان : أنت صاحب خالد بن الوليد ؟ قال : لا ، أنا مالك النخعي صاحب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ) ! ( فتوح الواقدي : 2 / 224 وابن الأعثم : 1 / 208 ) .
وقال السيد الخوئي ( 15 / 167 ) : ( عده ابن شهرآشوب في المناقب من وجوه الصحابة وخيار التابعين ) . لكن رواة الخلافة لايحبونه فحذفوه من الصحابة وعدُّوه في التابعين ! مع أنه وفد مع النخع على النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ودعا لهم . ( أسد الغابة : 1 / 61 ) .
3 . ومالك الأشتر رضوان الله عليه هو بطل اليرموك وفاتح سوريا وسواحلها !
--------------------------- 693 ---------------------------
قال الكلاعي ( 3 / 279 ) : « وقد استمدوا أبا بكر وأعلموه الشأن » . فقد كان الروم أكثر من مئة ألف ، والمسلمون أربعةً وعشرين ألفاً . ( تاريخ دمشق : 2 / 143 ) .
وقال ابن الأعثم في ( 1 / 179 ) : « وبلغ أبا عبيدة بأن ماهان وزيرهرقل أقبل في عساكره ، حتى نزل مدينة حمص في مائة ألف ، فاغتم لذلك ) .
وكتب أبو عبيدة إلى أبيبكر ، فاستشار علياً ( عليه السلام ) فكتب إلى الأشتر وعمرو بن معدي كرب وفرسان النخعيين ، وكانوا شيعته وأنصاره من فتح اليمن .
وتوفي أبو بكر واستمرحشد الروم فكتب أبو عبيدة إلى عمر ( فتوح الشام : 1 / 177 ) : « وقد سار القوم إلينا كالجراد المنتشر ، وقد نزلنا باليرموك بالقرب من أرض الرماة والخولان ، والعدو في ثمان مائة ألف مقاتل غيرالتبع وفي مقدمتهم ستون ألف من العرب المنتصرة من غسان ولخم وجذام . فلا تغفل عن المسلمين وأمدنا برجال من الموحدين ) .
قال الواقدي ( 1 / 68 ) : « فما تمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي يريد الشام ، فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي ، فنزل عند الإمام علي رضي الله عنه بأهله ، وكان مالك يحب سيدنا علياً ، وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام . واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف ، فلما تم أمرهم كتب أبو بكر كتاباً إلى خالد بن الوليد يقول فيه . . وقد تقدم إليك أبطال اليمن وأبطال مكة ، ويكفيك ابن معدي كرب الزبيدي ومالك بن الأشتر » !
قال الكلاعي ( 3 / 273 ) : ( كان من جُلَداء الرجال وأشدائهم ، وأهل القوة والنجدة منهم ، وإنه قَتَل يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلاً من بطارقتهم ، وقتل منهم ثلاثة مبارزة ) !
أقول : تعمد رواة السلطة القرشية أن يحذفوا اسم مالك الأشتر ( رحمه الله ) من الوافدين النخعيين إلى رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ! مع أنه صحابي جليل ، وقد جاهد مع علي ( عليه السلام ) في فتح اليمن ، كما نص ابن الأعثم والواقدي .
--------------------------- 694 ---------------------------
كما تعمدوا طمس دور مالك في فتح الشام وسواحلها ، وفي معركة اليرموك التي كان بطلها ، حيث قتل في أولها أحد عشر من قادتهم فضعضع جيشهم ، وحقق النصر كما نص الكلاعي ! وقد فصلنا دوره في المجلد الأول من كتاب : قراءة جديدة للفتوحات .
4 . كان مالك الأشتر رضي الله عنه عضد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، في حربه وسلمه . ولذا قال فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : رحم الله مالكاً وما مالك . . لقد كان لي كما كنت لرسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وهي كلمةٌ عظيمة تدل على دور مالك العظيم خاصة في حروب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . وقد عَيَّنه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد صفين والياً على الجزيرة والموصل ، ثم أرسل إليه أن يستخلف أحداً ويحضر ، فأرسله إلى مصر فاستخلف شبيب بن عامر على الجزيرة . ( أنساب الأشراف / 471 ) .
5 . في أمالي المفيد / 81 : ( فخرج مالك الأشتر رضي الله عنه فأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر ، وقدَّم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أمامه كتاباً إلى أهل مصر :
بسم الله الرحمن الرحيم ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وأسأله الصلاة على نبيه محمد وآله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وإني قد بعثتُ إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام الخوف ، ولاينكل عن الأعداء حذار الدوائر ، من أشد عبيد الله بأساً ، وأكرمهم حسباً ، أضر على الفجار من حريق النار ، وأبعد الناس من دنس أو عار ، وهو مالك بن الحارث الأشتر ، لا نابي الضرس ولا كليل الحد ، حليمٌ في الحذر ، رزين في الحرب ، ذو رأي أصيل ، وصبر جميل ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ، فإن أمركم بالنفير فانفروا وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري ، فقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم ، وشدة شكيمة على عدوكم . عصمكم الله بالهدى وثبتكم التقوى ، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) .
أما عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمالك الأشتر فيقع في ثلاثين صفحة ، وهو وثيقة سياسية إدارية فريدة ، ترسم للحاكم برنامجه في إدارة الدولة . وسيأتي نصه .
6 . نص المحدثون والمؤرخون على أن معاوية دس اليه السُّم ، قال الطبري ( 4 / 71 ) :
--------------------------- 695 ---------------------------
( أتت معاوية عيونه فأخبروه بولاية عليٍّ الأشتر فعظم ذلك عليه ، وقد كان طمع في مصر ، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبيبكر ، فبعث معاوية إلى الجايستار ( لفظ فارسي معناه مسؤول الخراج ) رجل من أهل الخراج فقال له : إن الأشتر قد وَلِيَ مصر فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجاً ما بقيت ، فاحْتَلْ له بما قدرت عليه ، فخرج الجايستار حتى أتى القلزم وأقام به ، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر ، فلما انتهى إلى القلزم استقبله الجايستار فقال : هذا منزل وهذا طعام وعلف ، وأنا رجل من أهل الخراج فنزل به الأشتر ، فأتاه الدهقان بعلف وطعام ، حتى إذا طعم أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سماً ، فسقاه إياه فلما شربها مات .
وأقبل معاوية يقول لأهل الشام : إن علياً وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله أن يكفيكموه ! قال : فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر ، وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر ، فقام معاوية في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان ، قطعت إحداهما يوم صفين يعني عمار بن ياسر وقطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر ) ! ( ونحوه في الغارات : 1 / 263 ، وتاريخ دمشق : 56 / 376 وجمهرة خطب العرب : 1 / 430 ، وشرح النهج : 6 / 76 ،
وفي أمالي المفيد / 82 : بلغ معاوية خبره فجمع أهل الشام وقال لهم : أبشروا فإن الله تعالى قد أجاب دعاءكم وكفاكم الأشتر وأماته ، فسُرُّوا بذلك واستبشروا به .
وفي البدء والتاريخ ( 5 / 226 ) وفي طبعة / 440 : ( فلما شربه الأشتر يبس مكانه ! فقال معاوية لما بلغه : ما أبردها على الفؤاد ! إن لله جنوداً من عسل ) !
وفي ثقات ابن حبان ( 2 / 298 ) : ( وكتب إلى دهقان بالعريش إن احْتَلْتَ في الأشتر فلك عليَّ أن أخرج خراجك عشرين سنة ) .
( ونحوه في طبقات الأطباء / 154 ، ونهاية الإرب / 4465 ، والأوائل للعسكري / 165 ، وآثار البلاد للقزويني / 180 ، وفيه : ( فأهدى إليه عسلاً وكان الأشتر صائماً فتناول منه شربة ، فما استقر في جوفه حتى تلف ! فأتى من كان معه على الدهقان وأصحابه وأفنوهم ) .
وفي المستطرف / 154 : ( ومعاوية أيضاً حين بلغه أن الأشتر سُقي شربة عسل فيها
--------------------------- 696 ---------------------------
سم فمات : إن لله جنوداً منها العسل ) .
وفي مجمع الأمثال للميداني ( 2 / 362 ) : ( يحكى أن معاوية لما بلغه موت الأشتر قال : واهاً ما أبردها على الفؤاد ) . وفي مجمع الأمثال ( 1 / 11 ) : ( إن لله جنوداً منها العسل ) .
وفي أنساب السمعاني ( 5 / 476 ) : ( سَمَّهُ معاوية في العسل ، ولما بلغه الخبر قال : إن لله جنوداً من العسل ) . وفي مستقصى الزمخشري ( 1 / 413 ) : ( إن لله جنوداً منها العسل : قاله معاوية حين سقى الأشتر عسلاً ) .
وفي التمثيل والمحاضرة للثعالبي / 19 : ( قاله معاوية لما أمر بسُمِّ الأشتر النخعي ) .
وحاول النواصب إبعاد الجريمة عن معاوية ، ففي تاريخ البخاري ( 7 / 311 ) : ( فشرب شربة من عسل كان فيها حتفه ، فقال عمرو بن العاص : إن لله جنوداً من عسل ) .
وقال ابن كثير في النهاية ( 7 / 346 ) : ( ذكر ابن جرير في تاريخه أن معاوية كان قد تقدم إلى هذا الرجل في أن يحتال على الأشتر ليقتله ووعده على ذلك بأمور ففعل ذلك وفي هذا نظر ، وبتقديرصحته فمعاوية يستجيز قتل الأشترلأنه من قتلة عثمان ) .
فقد افترى وأفتى بأن مالكاً كان من قتلة عثمان ، وأن معاوية إمام الفئة الباغية له الحق أن يقتله ويقتل كل الذين شاركوا في محاصرة عثمان ، أو حضروا في المدينة !
7 . وقد تألَّمَ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كثيراً لقتل مالك الأشتر رضي الله عنه ، ففي الغارات للثقفي ( 1 / 264 ) : ( عن صعصعة بن صوحان قال : فلما بلغ علياً ( عليه السلام ) موت الأشتر قال : إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين ، اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر ، فرحم الله مالكاً فقد وفى بعهده ، قضى نحبه ولقي ربه ، مع أنا قد وطَّنا أنفسنا على أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فإنها أعظم المصائب . .
لم يزل أمر علي شديداً حتى مات الأشتر ، وكان الأشتربالكوفة أسود من الأحنف بالبصرة . . عن أشياخ النخع قالوا : دخلنا على علي ( عليه السلام ) حين بلغه موت الأشتر فجعل يتلهف ويتأسف عليه ويقول : لله در مالك ! وما مالك ! لو كان جبلاً لكان فِنْداً ، ولو كان حجراً لكان صلداً ، أما والله ليَهِدَّنَّ موتك عالماً وليفرحن عالماً ، على مثل مالك فلتبك البواكي ، وهل موجود كمالك !
--------------------------- 697 ---------------------------
قال : فقال علقمة بن قيس النخعي : فما زال علي يتلهف ويتأسف ، حتى ظننا أنه المصاب به دوننا ، وقد عرف ذلك في وجهه أياماً ) .
8 . قال صالح الورداني في كتابه : الشيعة في مصر / 108 ، عن مشهد مالك : ( فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا ، وسقاه نافع العسل فمات . وهذه الرواية هي أقرب الروايات إلى الواقع ، وتؤكد صحة موضع قبره بمنطقة القلج الآن بالقرب من بلدة الخانكة ، وهذه المنطقة واقعة ضمن حدود مدينة عين شمس القديمة . وأكثر زوار مرقد مالك الأشتر من العرب والأجانب ، فشهرته محدودة وسط المصريين ، ولذلك يلقبونه بالشيخ العجمي ! وقد تم تجديد مرقده مؤخراً على أيدي طائفة البهرة الإسماعيليين ودفن إلى جواره شقيق شيخ البهرة . ويقع مرقده وسط بستان ، تحيط به مناطق زراعية ) .
أقول : توفقت لزيارة قبر مالك الأشتر رضوان الله عليه ، وهو في ضواحي القاهرة ، في منطقة زراعية ، حسن البناء صغير المساحة ، ثم زرته بعد سنين فكانت منطقته محتشدة بالبناء والسكان ، وشوارعها طويلة ضيقة ، وقلت لصاحب دكان مجاور للقبر الشريف : هنيئاً لك مجاورة هذا الولي ، إن شاء الله ترى بركته . فقال : رأينا بركته والحمد لله . فسألته : هل صحيح أنه جاء جماعة ليهدموا القبر ؟ قال : نعم ، وخرجنا لهم بالعصي وضربناهم وطردناهم . سألته : من هم ؟
قال : الكلاب الوهابية .
--------------------------- 698 ---------------------------
27 . برنامج عمل الوالي في عهد الإمام ( عليه السلام ) لمالك الأشتر
مهمات الوالي الأربعة
كتب الإمام ( عليه السلام ) عهده لمالك الأشتر لما ولاه مصر ، فكان برنامج عمل للحاكم ، وتضمن مواصفات الوالي والمسؤولين في الدولة . وهو عهدٌ غنيٌّ بالمفاهيم الإسلامية ، والأحكام الشرعية ، والمواد القانونية والاجتماعية والسياسية ، ينبغي أن يدرَّس في الجامعات وكليات الحقوق ، وقد اعتمدته بعض الدول الغربية مصدراً فيما لا نص قانونياً فيه ، وهذا نصه :
( بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر : جباية خراجها ، وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة بلادها .
أصول الفكر والسلوك للحاكم
أمره بتقوى الله وإيثار طاعته ، واتباع ما أمر به في كتابه : من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها ، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه ، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه .
وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات ، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله .
كيف يجب أن تكون نظرة الحاكم إلى نفسه ؟
ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم . وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده . فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح . فاملك هواك ، وشح بنفسك عما لا يحل لك ، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت .
--------------------------- 699 ---------------------------
أبرز صفات الحاكم العادل محبة المواطنين كلهم
وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك .
خطأ شعور الحاكم بوجود صراع بينه وبين المواطنين
وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم . ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته . ولا تندمن على عفو ، ولا تبجحن بعقوبة ، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة ، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ، ومنهكة للدين ، وتقرب من الغير .
كيف يجاهد الحاكم نفسه ويتخلص من غروره ؟
وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك ، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ، ويكف عنك من غربك ، ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته ، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تظلم ، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب .
وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته ، من إقامة على ظلم ، فإن الله سميع دعوة المضطهدين ، وهو للظالمين بالمرصاد .
--------------------------- 700 ---------------------------
موقف الحاكم إلى جنب الجمهور ولو كان مقابل البطانة
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية ، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة ، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة . وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء ، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف ، وأقل شكراً عند الاعطاء ، وأبطأ عذراً عند المنع ، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر ، من أهل الخاصة . وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم .
موقف الحاكم من المخابرات والمتملقين والنمامين
وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس ، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها . فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك ، والله يحكم على ما غاب عنك . فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك .
أطلق عن الناس عقدة كل حقد . واقطع عنك سبب كل وتر . وتغابَ عن كل ما لا يضح لك ، ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش ، وإن تشبه بالناصحين .
ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ، ولا جباناً يضعفك عن الأمور ، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور ، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى ، يجمعها سوء الظن بالله .
صفات الوزراء الحسنة والسيئة
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الآثام ! فلا يكونن لك بطانة ، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثما على إثمه . أولئك أخف عليك مؤونة ، وأحسن لك معونة ، وأحنى عليك عطفاً ، وأقل لغيرك إلفاً ، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك ، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث
--------------------------- 701 ---------------------------
وقع . والصق بأهل الورع والصدق ، ثم رضهم على أن لا يطروك ولايبجحوك بباطل لم تفعله ، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من الغِرَّة .
محاسبة الوزراء
ولا يكون المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء ، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة ، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه .
سياسة إعطاء الحرية للمواطنين وحسن الظن بهم
واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم ، وتخفيفه المؤونات عليهم ، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك ، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً ، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده ، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده .
احترم العادات الاجتماعية وحسنها
ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة ، واجتمعت بها الألفة ، وصلحت عليها الرعية . ولا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها .
المشارون في القضايا الإستراتيجية
وأكثر مدارسة العلماء ، ومنافثة الحكماء ، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامة ما استقام به الناس قبلك .
طبيعة المجتمع وواقع كونه فئات وطبقات
واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولا غنى ببعضها عن بعض :
فمنها جنود الله . ومنها كُتَّاب العامة والخاصة . ومنها قُضاة العدل . ومنها عُمال الإنصاف والرفق . ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس . ومنها التجار وأهل الصناعات . ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة .
--------------------------- 702 ---------------------------
وكلا قد سمى الله سهمه ، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عهداً منه عندنا محفوظاً ! فالجنود بإذن الله حصون الرعية ، وزين الولاة ، وعز الدين ، وسبل الأمن ، وليس تقوم الرعية إلا بهم .
ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج ، الذي يقوون به في جهاد عدوهم ، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ، ويكون من وراء حاجتهم .
ثم لأقوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب ، لما يحكمون من المعاقد ، ويجمعون من المنافع ، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها .
ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ، ويقيمونه من أسواقهم ، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ، ما لا يبلغه رفق غيرهم .
ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة ، الذين يحق رفدهم ومعونتهم ، وفي الله لكلٍّ سعة ، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه ، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله ، وتوطين نفسه على لزوم الحق ، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل .
سياسة الحاكم مع القوات المسلحة
فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك ، وأنقاهم جيباً ، وأفضلهم حلماً ، ممن يبطئ عن الغضب ، ويستريح إلى العذر ، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء . وممن لا يثيره العنف ، ولا يقعد به الضعف . ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة ، فإنهم جماع من الكرم ، وشعب من العرف .
ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما ، ولا يتفاقمن في نفسك شئ قويتهم به . ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل ، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك . ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها ، فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به ، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه . وليكن آثر رؤوس جندك عندك من وآساهم في معونته ، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم ، حتى
--------------------------- 703 ---------------------------
يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو . فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك .
سياسة الحاكم مع قادة الجيش الحكام
وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد ، وظهور مودة الرعية . وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم ، وقلة استثقال دولهم ، وترك استبطاء انقطاع مدتهم . فافسح في آمالهم ، وواصل في حسن الثناء عليهم ، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم . فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله .
ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره ، ولا تقصرن به دون غاية بلائه ، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً ، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً ، واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور ، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَئٍْ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ . فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه ، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة .
سياسة الحاكم مع القوة القضائية
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلة ، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشف الأمور ، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ، ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء . وأولئك قليل . ثم أكثر تعاهد قضائه ، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك . فانظر في ذلك نظراً بليغاً ، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار ، يُعمل فيه بالهوى ، وتُطلب به الدنيا .
--------------------------- 704 ---------------------------
سياسة الحاكم مع ولاة المحافظات
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباة وأثرة ، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقاً ، وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع إشرافاً ، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً .
ثم أسبغ عليهم الأرزاق ، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك ، أو ثلموا أمانتك .
جهاز المخابرات الخاص برئيس الدولة
ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية . وتحفظ من الأعوان ، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك ، اكتفيت بذلك شاهداً ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة .
السياسة المالية والضرائبية
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله . وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً ، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش ، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم . ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم ، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم ، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم . فربما حدث من الأمور ما إذا
--------------------------- 705 ---------------------------
عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به ، فإن العمران محتمل ما حملته ، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر .
الجهاز الإداري الخاص بالحاكم
ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم ، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك ، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك ، ولا يضعف عقداً اعتقده لك ، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور ، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل .
ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك استنامتك وحسن الظن منك ، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم ، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ ، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً ، وأعرفهم بالأمانة وجهاً ، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره . واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها ، ولا يتشتت عليه كثيرها ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته .
سياسة الدولة مع التجار والكسبة
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً : المقيم منهم ، والمضطرب بماله ، والمترفق ببدنه ، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق ، وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك ، وسهلك وجبلك ، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ، ولا يجترئون عليها ، فإنهم سلم لا تخاف بائقته ، وصلح لا تخشى غائلته . وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك . واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً ، واحتكاراً للمنافع ، وتحكما في البياعات ، وذلك باب مضرة للعامة وعيب
--------------------------- 706 ---------------------------
على الولاة . فامنع من الإحتكار فإن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) منع منه ، وليكن البيع بيعاً سمحاً ، بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به ، وعاقب في غير إسراف .
سياسة الدولة مع الطبقة الفقيرة
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم ، والمساكين والمحتاجين ، وأهل البؤسى والزمنى ، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً . واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم ، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد ، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى ، وكل قد استرعيت حقه ، فلا يشغلنك عنهم بطر فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم ، فلا تشخص همك عنهم ، ولا تصعر خدك لهم ، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع ، فليرفع إليك أمورهم ، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه ، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم ، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه .
وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه ، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل . وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم .
سياسة الحاكم مع المراجعين
واجعل لذوي الحاجات منك قسماً ، تفرغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك ، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع ، فإني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول في غير موطن : لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع . ثم احتمل الخرق منهم والعي ، ونح عنك الضيق والأنف ، يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ، ويوجب لك ثواب طاعته . وأعط ما أعطيت هنيئاً ، وامنع في إجمال وإعذار .
--------------------------- 707 ---------------------------
برنامج عمل الحاكم اليومي
ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها : منها إجابة عمالك بما يعيى عنه كتابك . ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك ، مما تحرج به صدور أعوانك . وأمض لكل يوم عمله ، فإن لكل يوم ما فيه .
واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام ، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية ، وسلمت منها الرعية .
وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك ، إقامة فرائضه التي هي له خاصة ، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ، ووفِّ ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص ، بالغاً من بدنك ما بلغ .
وإذا أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً ، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة . وقد سألت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين وجهني إلى اليمن : كيف أصلي بهم ؟ فقال : صل بهم كصلاة أضعفهم ، وكن بالمؤمنين رحيماً .
لقاءات الحاكم المباشرة مع الناس
وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك ، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق ، وقلة علم بالأمور ، والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ، ويعظم الصغير ، ويقبح الحسن ، ويحسن القبيح ، ويشاب الحق بالباطل ، وإنما الوالي بشرٌ لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور ، وليست على الحق سماتٌ تعرف بها ضروب الصدق من الكذب ، وإنما أنت أحد رجلين : إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطية ، أو فعل كريم تسديه ، أو مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك ، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك ، من شكاة مظلمة ، أو طلب إنصاف في معاملة .
ثم إن للوالي خاصةً وبطانة فيهم استئثار وتطاول ، وقلة إنصاف في معاملة ، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال .
--------------------------- 708 ---------------------------
سياسة الحاكم مع أقاربه وحاشيته
ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة ، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس ، في شرب أو عمل مشترك ، يحملون مؤونته على غيرهم ، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك ، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة . وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد ، وكن في ذلك صابراً محتسباً ، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع . وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ، فإن مغبة ذلك محمودة . وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك ، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك ، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ، ورفقاً برعيتك ، وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق .
سياسة السلم والحذر مع العدو والالتزام الكامل بالإتفاقيات
ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضاً ، فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك ، وأمناً لبلادك . ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه ، فإن العدو ربما قارب ليتغفل ، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن . وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت ، فإنه ليس من فرائض الله شئٌ الناسُ أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود . وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين ، لما استوبلوا من عواقب الغدر . فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ، ولا تختلن عدوك ، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي . وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته ، وحريماً يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى جواره . فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه .
ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل ، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة ، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق ، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته ، خيرٌ من غدر تخاف تبعته ، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة ، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك .
--------------------------- 709 ---------------------------
تحذير الحاكم بشدة من سفك الدماء
إياك والدماء وسفكها بغير حلها ، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة ، من سفك الدماء بغير حقها . والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة . فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام ، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله . ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد ، لأن فيه قود البدن . وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة ، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة ، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم .
وإياك والإعجاب بنفسك ، والثقة بما يعجبك منها ، وحب الاطراء ، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ( عند نفسه ) ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين .
الخطوط العامة لسياسة الحاكم مع المواطنين
وإياك والمن على رعيتك بإحسانك ، أو التزيد فيما كان من فعلك ، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك ، فإن المنَّ يبطل الإحسان ، والتزيد يذهب بنور الحق ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله تعالى : كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ .
التثبت والاعتدال في اتخاذ القرارات
وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها ، أو التسقط فيها عند إمكانها ، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت ، أو الوهن عنها إذا استوضحت . فضع كل أمر موضعه ، وأوقع كل عمل موقعه ، وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة ، والتغابي عما يعنى به ، مما قد وضح للعيون فإنه مأخوذ منك لغيرك . وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور ، وينتصف منك للمظلوم .
كيف يكون الحاكم حاكم نفسه ويسيطر على غضبه ؟
أملك حمية أنفك ، وسَوْرَة حدك ، وسطوة يدك ، وغرب لسانك . واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة ، حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار .
--------------------------- 710 ---------------------------
ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك ، والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة ، أو سنة فاضلة ، أو أثر عن نبينا ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، أو فريضة في كتاب الله ، فتقتدي بما شاهدته مما عملنا به فيها ، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا ، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك ، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها .
دعاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمالك ولنفسه بالتوفيق والشهادة
وأنا أسأل الله بسعة رحمته ، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة ، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه ، من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه ، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد ، وتمام النعمة ، وتضعيف الكرامة ، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة ، وإنا إليه راغبون . والسلام على رسول الله ، ( ( صلى الله عليه وآله ) ) الطيبين الطاهرين ، وسلم تسليماً كثيراً ) .
- *
--------------------------- 711 ---------------------------
--------------------------- 712 ---------------------------
--------------------------- 713 ---------------------------
--------------------------- 714 ---------------------------
--------------------------- 715 ---------------------------
--------------------------- 716 ---------------------------
--------------------------- 717 ---------------------------
--------------------------- 718 ---------------------------
--------------------------- 719 ---------------------------
--------------------------- 720 ---------------------------
--------------------------- 721 ---------------------------
--------------------------- 722 ---------------------------
--------------------------- 723 ---------------------------
--------------------------- 724 ---------------------------
--------------------------- 725 ---------------------------
--------------------------- 726 ---------------------------
--------------------------- الغلاف 2 ---------------------------
يتضمن هذا المجلد سيرة أمير المؤمنين عليه السلام مع أبي بكر ، وعمر وعثمان ، إلى مبايعته بالخلافة . في عشرين فصلا .
ويشمل إدارته عليه السلام لمعركة نهاوند ، ودوره في بقية الفتوحات .
كما يشمل احتجاجه عليه السلام على الحكام قبله ، ور جوعهم اليه في المشكلات .
ومقارنة بين ماليته وماليتهم ، ورأيه في خلافة أبي بكر وعمر ، وفي الشورى التي عينها عمر ، ثم موقفه من انتفاضة المسلمين ضد عثمان وولاته .
وخروجه من المدينة أيام محاصرة عثمان .
ثم هتاف المسلمين باسمه ، وإصرارهم على بيعته بعد مقتل عثمان .
وفعالياته عليه السلام لإعادة العهد النبوي ، وسياسته في إدارة الدولة واختيار مسؤوليها .
دار المعروف
للطباعة والنشر
إيران - قم - شارع مصلى القدس - رقم 682
تلفون : 2532939140 ( 0 ) 0098