الوهابية والتوحيد
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 1 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الوهابية والتوحيد
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 2 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 3 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة
وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
نعمة سعة الصدر
من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان ، نعمة سعة الصدر والتحمل . .
سعة الصدر على من يخالفك في الرأي والمذهب والمعتقد . . والقدرة على أن تسمع منه وتَفْهَمَ عليه ، وتَفْهَمَهُ . والتحمل منه عندما يصدر عليك أحكامه الخاطئة ، أو يؤذيك ويظلمك .
وهي نعمة نادرة في الناس ، حتى في العلماء . . وأكثر ندرة في الحكام وزعماء القوميات والفئات .
والظاهر أن وجودها في الشيعة أكثر من غيرهم ، فالشيعي يتحمل منك أن تخالفه في الرأي والمذهب تحملاً جيداً . . وقد يتحمل أن تضطهده !
ذلك أنه يتربى مع عقائد مذهبه ومفاهيمه ، على سعة الصدر والإستعداد للإضطهاد .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 4 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الشيعي يتعلم أنه موالٍ لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، الذين جسدوا قيم الإسلام ومُثُلَهُ ، وتحملوا من أجلها الظلم ويتحملونه ، حتى يظهر مهديهم الموعود . . عليه السلام . وهو يتعلم أن من أحبنا أهل البيت فليتخذ للبلاء جلباباً . . ويتعلم أن أمرنا صعبٌ مستصعب . .
فالمسألة عنده طويلةٌ بطول هذا العالم . . وطول الخطة الإلهية فيه ، والحلم الإلهي عليه . .
والمسألة عنده أن عقائده وأفكاره صعبة التحمل على الآخرين ، ليس لصعوبتها الفكرية فهي من السهل الممتنع . . بل لصعوبتها النفسية ( السيكولوجية ) .
وبسبب هذه التربية ترى الشيعي يبحث عن العذر لمخالفيه وظالميه ، لأنه يريد أن يتعايش معهم ويسحب منهم كل عذر لظلمه .
لقد تأقلم الشيعة مع الأذى والظلم حتى صار لهم جلباباً ، وحتى تعجب ظالموهم من تحمّلهم !
نعمة سعة الصدر عند إخواننا
يتفاوت حال خصوم الشيعة في سعة الصدر وضيقه ، ولكن الظاهر أن أكثرهم ضيقاً بنا إخواننا الوهابيون، ظالمونا الجدد من داخل البيت الإسلامي ، الذين كانوا يتهموننا بالشرك ، وبأننا عملاء الشيوعية واليهود . .
ثم دارت الأيام ورأوا أن الغرب وإسرائيل يكرهوننا أكثر مما يكرهونهم ، فلم يشفع لنا ذلك عندهم !
ثم دارت الأيام ورأوا أننا تركنا الصراعات مع أحدٍ من فئات الأمة ، وتخصصنا في مقاومة إسرائيل . . فلم يشفع ذلك لنا عندهم !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 5 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لقد تعجب العالم من مقاومة أبناء الشيعة وصمودهم في جنوب لبنان ، وافتخر بهم العرب والمسلمون . . ولكن إخواننا الوهابيين لم يعجبهم ذلك ! فإذا ذكروهم لا يعبرون عن قتلاهم بالشهداء ، لأنهم بزعمهم مشركون لا يعملون لله تعالى ، ولا يجاهدون في سبيله !
إنهم يرون شاباً في الثامنة عشرة من عمره ، نشأ على التقوى ، ورفض مغريات الدنيا ، ولم يأنس إلا بالإيمان والمسجد والقرآن ، والشوق إلى لقاء الله تعالى والشهادة في سبيله . . يرونه يقتحم تحصينات بني يهود ، حاملاً روحه على كفه ، تالياً ذكر ربه ، مدوياً صوته بالتكبير ، ثابت الجنان ، قوي الضربة ، ناثراً أشلاءه قرباناً لله تعالى ، محطماً أسطورة الخوف من قلوب المسلمين، تاركاً لهم وصيته بالجهاد في سبيل الله . . فلا يُعْجِبْ ذلك إخواننا ، ولا يهتز لهم حِسّ ! !
إنهم لا يعجبهم منا العجب ، ولا الصيام في رجب !
لكن تعجبهم أحكامهم على خالفهم بالكفر والشرك !
ويعجبهم أنهم لا يتحملون البحث العلمي الهادئ !
لقد نشروا في هذه السنوات أكثر من 500 كتاباً وكتيباً ضد الشيعة ، وفيها الكثير من الأحكام القاسية ، والألفاظ السوقية ، والقليل من العلم . .
فهل يتحملون كتيباً علمياً ينقد أفكارهم في الإيمان والتوحيد ؟
آمل أن يكون لعلمائهم من سعة الصدر ما لعلماء الجامعات الغربية الذين يأنس بعضهم بالنقد الفكري .. بل آمل أن يكون عندهم سعة صدر علماء السلف الصالح ، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 6 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
هدف هذا البحث
لم يكن هذا البحث من قصدي ، فقد كنت مستغرقاً في بحث آخر ، ووجدت في أثنائه أن عقيدة الوهابيين في آيات الصفات وأحاديثها تحتاج إلى معرفة جذورها . . ولما راجعت ما تيسر لي من مصادر ، هالني الأمر . . وقلت في نفسي : لو عرف إخواننا الوهابيون حقيقة التوحيد الذي يقدمه لهم علماؤهم ويطلبون منهم أن يسوقوا المسلمين بعصاه . . لأعادوا النظر في بناء عقيدتهم بالله تعالى ، وخففوا من غلوائهم علينا .
لو عرف المثقف الوهابي أن إمامه المفتي الأكبر عبد العزيز بن باز يقول إن الله تعالى جسم موجود في مكان معين من الكون ، وله وجه ويد ورجل وأعضاء وجوارح . . وأنه على صورة إنسان . .
وأن الحيوانات تحمل عرشه . . !
لو عرف أن علماءه يقولون إن هذا ( الإله ) يفنى ويهلك كله ما عدا وجهه ، بدليل قوله تعالى ( كل شئ هالك إلا وجهه ) ! !
وأنهم يقولون يجب على علماء الوهابية أن يكتموا مادية الله تعالى عن جمهور المسلمين ويستعملوا معهم التقية ) لأن عقائد الإسلام منها ما هو خاص برجال الدين من الدرجة الأولى . . فمادية الله تعالى بزعمهم خاصة بهذه الطبقة فقط ! !
لو اطلع هذا المثقف على هذا الضعف العلمي والتناقضات في نظريات علمائه عن التوحيد لهاله الأمر ! ولأعاد النظر في تصوره الذي علموه إياه عن الله تعالى . . ثم لعذر الجمهور الأعظم من المسلمين في نفرتهم من الوهابية .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 7 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
من أجل هذا الهدف كتبت هذا البحث . . لعل إخواننا الوهابيين يلتفتون إلى أن مشكلتهم في التوحيد أعظم من جميع مشكلات المسلمين ، فينشغلوا بحلها ويخففوا عنا شدتهم ، خاصةً في موسم الحج الذي صار المسلم يحسب له قبل مشقاته البدنية والمالية ، مشقته المعنوية على كرامته ، بسبب فتاوى الكفر والشرك التي يتأبطها المتطوعون الوهابيون في موسم الحج ويصفعون بها وجوه حجاج بيت الله تعالى وزوار قبر نبيه وآله صلى الله عليه وآله ! !
لقد كثر هؤلاء المتبرعون لخدمة ضيوف الرحمن في السنوات الأخيرة وعدلوا في توزيع جوائزهم على الجميع ، حتى لا تكاد تجد حاجاً يرجع إلى بلاده من أي بلد أو قومية إلا ويتحدث عن معاملتهم الحسنة وفتاواهم ونبراتهم التي صفعوه بها ! لمجرد أنه تقرب إلى الله تعالى بزيارة قبر نبيه أو وليه !
ينبغي أن يعرف إخواننا الوهابيون أن مسائل الشرك العملي كلها متأخرة رتبةً عن مسألة الإعتقاد النظري ، وأنه لا بد للمسلم أولاً أن يصحح عقيدته بربه عز وجل وتصوره عنه ، حتى يملك الأساس الذي يقيس به توحيد الآخرين النظري والعملي ، ويعرف ما هو الشرك الأكبر والأصغر والمتوسط..
أما إذا كان عنده مشكلة في أصل اعتقاده بالله تعالى ، فإن عليه أن يعالج مشكلته ويبني بيته أولاً . .
ثم إذا جاز له أن يطرح اجتهاده على المسلمين . . فبالحسنى ، والمنطق العلمي ، والكلمة الجميلة .
في الرابع عشر من شهر صفر المظفر سنة 1419
علي الكوراني العاملي
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 8 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 9 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الأول : خلاصة مسألة الرؤية
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 10 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 11 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
خلاصة مسألة الرؤية
معنى مسألة الرؤية : هل يمكن أن نرى الله تعالى بأعيننا في الدنيا أو في الآخرة ؟
وقد نفى ذلك نفياً مطلقاً أهل البيت وعائشة وجمهور من الصحابة ، وبه قال الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم ، مستدلين بقوله تعالى : ليس كمثله شئ ، لن تراني ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار . وبحكم العقل بأن ما يمكن رؤيته بالعين يلزم أن يكون وجوداً مادياً داخل المكان والزمان .
وقال الحنابلة وأتباع المذهب الأشعري من الحنفية والمالكية والشافعية : إن الله تعالى يرى بالعين في الدنيا أو في الآخرة . واستدلوا بآيات يبدو منها ذلك بالنظرة الأولى كقوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة . وبروايات رووها عن رؤية الله تعالى في الآخرة . كما حاولوا أن يؤولوا الآيات والأحاديث النافية لإمكان الرؤية بالعين .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 12 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
متى ظهرت أحاديث الرؤية والتشبيه ؟
تدل نصوص الحديث والتاريخ على أن الجو الذي كان سائداً في صحابة النبي في عهده صلى الله عليه وآله وعهد الخليفة أبي بكر ، أن الله تعالى ليس من نوع ما يرى بالعين أو يحس بالحواس الخمس . .
لأنه وجود أعلى من الأشياء المادية فلا تناله الأبصار، بل ولاتدركه الأوهام وإنما يدرك بالعقل ويرى بالبصيرة.. ورؤيتها أرقى وأعمق من رؤية البصر .
ثم ظهرت أفكار الرؤية والتشبيه وشاعت في المسلمين في عهد الخليفة عمر وما بعده ، فنهض أهل البيت وبعض الصحابة لردها وتكذيبها . وقد فوجئت أم المؤمنين عائشة كغيرها بهذه المقولات الغريبة عن عقائد الإسلام، المناقضة لما بلغه النبي صلى الله عليه وآله عن ربه تعالى ! فأعلنت أن هذه الأحاديث مكذوبة على رسول الله، بل هي فِرْيَةٌ عظيمة علىالله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وآله ، ومن واجب المسلمين ردها وتكذيبها .
* روى البخاري في صحيحه : 6/50 :
( عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أُمَّتَاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت : لقد قَفَّ شعري مما قلت ! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، ومن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب ، ثم قرأت : وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ، ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية ، ولكنه رأى جبرئيل عليه السلام في صورته مرتين ) .
* وروى البخاري : 8/166 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 13 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، وهو يقول : لا تدركه الأبصار ، ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب ، وهو يقول : لا يعلم الغيب إلا الله ) .
وروى نحوه في مجلد 2 جزء 4 ص 83 و مجلد 3 جزء 6 ص 50 وج 4 ص 83 .
* وفي صحيح مسلم : 1/110 :
( عن عائشة : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ) .
* وروى نحوه النسائي في تفسيره : 2/339 وفي ص 245 : ( عن أبي ذر أن النبي رأى ربه بقلبه لا ببصره ) . وذكره في إرشاد الساري : 5/276 و 7/359 و 10/356 ، والرازي في المطالب العالية ، مجلد 1 / جزء 1 / 87 .
* وروى الترمذي في سننه : 4/328 :
( عن مسروق قال كنت متكئاً عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم الفرية على الله : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله والله يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب . وكنت متكئاً فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني أليس الله تعالى يقول: ولقد رآه نزلة أخرى . ولقد رآه بالأفق المبين ؟ قالت : أنا والله أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ، قال : إنما ذلك جبريل ، ما رأيته في الصورة التي خلق فيها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض ، ومن زعم أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد أعظم الفرية على الله ، يقول الله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . ومن زعم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 14 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أنه يعلم ما في غدٍ فقد أعظم الفرية على الله ، والله يقول : لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله . هذا حديث حسن صحيح ، ومسروق بن الأجدع يكنى أبا عائشة ). انتهى .
* ورواه الطبري في تفسيره : 27/30 وروى نحوه في ص 200 وقال في ص 20 :
( عن الشعبي قال قالت عائشة : من قال إن أحداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ، قال الله : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار . فقال قائلو هذه المقالة : معنى الإدراك في هذا الموضع الرؤية ، وأنكروا أن يكون الله يرى بالأبصار في الدنيا والآخرة ، تأولوا قوله : وجوه يومئذ ناظرة إلى ربها ناظرة بمعنى انتظارها رحمة الله ) . انتهى .
* وروى نحوه أحمد في مسنده : 6/49 وفيه : ( قالت سبحان الله لقد قَفَّ شعري لما قلت ). وروى نحوه البغوي في مصابيحه : 4/30. ورواه السهيلي في الروض الآنف : 2/156 . والنويري في نهاية الإرب مجلد 8 جزء 16 ص 295 وفيه : ( فقالت : لقد وقف شعري . . ) . وروى نحوه الثعالبي في الجواهر الحسان : 3/252 وقال : ( ذهب البيهقي إلى ترجيح ما روي عن عائشة وابن مسعود وأبي هريرة ، ومن حملهم هذه الآيات : ثم دنى فتدلى . . . عن رؤية جبرئيل ، ورواية شريك تنقضها رواية أبي ذر الصحيحة قال يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال : نور ، أني أراه ! . . . قوله سبحانه : ما كذب الفؤاد ما رأى ، قال ابن عباس فيما روي : إن محمداً ( ص ) رأى ربه بعيني رأسه ، وأنكرت ذلك عائشة وقالت : أنا سألت رسول الله ( ص ) عن هذه الآيات فقال لي : هو جبرئيل فيها كلها ! )
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 15 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* وقال ابن جزي في التسهيل : 2/381 :
( وقيل الذي رآه هو الله تعالى ، وقد أنكرت ذلك عائشة ) .
* وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء : 2/166
( عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله تعالى ، ولكنه رأى جبريل مرتين في صورته وخلقه ساداً ما بين الأفق . ولم يأتنا نص جلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله تعالى بعينيه وهذه المسألة مما يسع المرء المسلم في دينه السكوت عنها ، فأمّا رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة ، وأما رؤية الله عياناً في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص . جمع أحاديثها الدار قطني والبيهقي وغيرهما ) . انتهى .
وقال في هامشه : ( وأخرجه أحمد 6/241 من طريق ابن أبي عدي ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة قال قلت : أليس الله يقول: ولقد رآه بالأفق المبين ، ولقد رآه نزلة أخرى ، قالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فقال : إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض . وأخرجه مسلم ( 177) في الإيمان باب معنى قوله عز وجل : ولقد رآه نزلة أخرى ، من طريق الشعبي به . وأخرجه البخاري 8/466 من طريق الشعبي عن مسروق . . وأخرجه الترمذي ( 3278 ) في التفسير من طريق سفيان عن مجالد عن الشعبي . هذا حديث صحيح الإسناد ) . انتهى .
ولكن نفي عائشة يشمل الرؤية في الآخرة أيضاً كما أشار إليه الطبري ، ولذلك اضطر الذهبي وغيره إلى ارتكاب التأويل في حديث عائشة ، وفي آيات
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 16 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
نفي الرؤية وأحاديثها ، مع أنهم حرموا التأويل في أحاديث إثبات الرؤية وصفات الله تعالى ، واستنكروه واعتبروه ضلالاً وإلحاداً ، كما سيأتي !
* وقال الدميري في حياة الحيوان : 2/71 : ( نفت عائشة دلالة سورة النجم على رؤية النبي ( ص ) لربه وجواز الرؤية مطلقاً . . . وهو سبحانه أجل وأعظم من أن يوصف بالجهات ، أو يحد بالصفات ، أو تحصيه الأوقات أو تحويه الأماكن والأقطار ،ولما كان جل وعلا كذلك استحال أن توصف ذاته بأنها مختصة بجهة ، أو منتقلة من مكان إلى مكان ، أو حَالَّةً في مكان . روي أن موسى عليه السلام لما كلمه الله تعالى سمع الكلام من سائر الجهات . . . وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف تعالى بأنه يحل موضعاً أو ينزل مكاناً ، ولا يوصف كلامه بحرف ولا صوت ، خلافاً للحنابلة الحشوية . . . )
معنى الفرية على الله تعالى ومصدرها
الفرية : البدعة العظيمة والكذب المتعمد في دين الله تعالى .
* قال الخليل في العين : 8 /280 : ( الفري : الشق . . . وفريت الشيء بالسيف وبالشفرة قطعته وشققته . وفرى يفري فلان الكذب ، إذا اختلقه . . . الفَرِيُّ : الأمر العظيم ، في قوله عز وجل : لقد جئت شيئاً فرياً ) .
* وقال الجوهري في الصحاح : 6/24 : ( وفرى فلان كذباً إذا خلقه . وافتراه : اختلقه ، والإسم الفرية . وفلان يفري الفرى : إذا كان يأتي بالعجب في عمل . قوله تعالى : لقد جئت شيئاً فرياً ، أي مصنوعاً مختلقاً ، وقيل عظيماً ) .
* وقال الراغب في المفردات ص 379 : ( وقوله : لقد جئت شيئاً فرياً ، قيل معناه عظيماً وقيل عجيباً وقيل مصنوعاً . وكل ذلك إشارة إلى معنى واحد) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 17 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ولا يبعد أن يكون أصل تعبير ( الفرية على الله ) نبوياً ، وأن تكون عائشة وأهل البيت أخذوه منه صلى الله عليه وآله .
* وقد روى أحمد شبيهاً له في مسنده 3/491 عن واثلة بن الأسقع قال :
( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أعظم الفرية ثلاث ... إلخ ) .
كما لا يبعد أن يكون في أصله وصفاً لليهود .
* وقد روى الهيثمي في مجمع الزوائد : 4/122 أن عبدالله بن رواحة قاله ليهود خيبر : ( فلما طاف في نخلهم فنظر إليه قال : والله ما أعلم من خلق الله أحداً أعظم فرية عند الله وعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم منكم ) . انتهى .
وأوضح من ذلك الرواية التالية التي تدل على أن اليهود منبع ( الفِرَى ) على الله تعالى .
* وروى المجلسي في بحار الأنوار 36/194 :
( عن ابن عباس أنه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الحبر .
إذ قال ( عمر ) : يا كعب أحافظ أنت للتوراة ؟
قال كعب : إني لأحفظ منها كثيراً .
فقال رجل من جنبة المجلس : يا أمير المؤمنين سله أين كان الله جل ثناؤه قبل أن يخلق عرشه ، ومِمَّ خلق الماء الذي جعل عليه عرشه ؟
فقال عمر : يا كعب هل عندك من هذا علم ؟
فقال كعب : نعم يا أمير المؤمنين ، نجد في الأصل الحكيم أن الله تبارك وتعالى كان قديماً قبل خلق العرش وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء ، فلما أراد أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 18 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته ، وآخر ما بقي منها لمسجد قدسه !
قال ابن عباس : وكان علي بن أبي طالب عليه السلام حاضراً ، فَعَظَّمَ عَلِيٌّ ربه ، وقام على قدميه ، ونفض ثيابه ! فأقسم عليه عمر لمَاَ عاد إلى مجلسه ، ففعله.
قال عمر : غص عليها يا غواص ، ما تقول يا أبا الحسن ، فما علمتك إلا مفرجاً للغم .
فالتفت علي عليه السلام إلى كعب فقال :
غلط أصحابك ، وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه ! !
يا كعب ويحك! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره ، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قدمته ، وعزّ الله وجل أن يقال له مكان يومي إليه ، والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان ، بحيث لا تبلغه الأذهان ، وقولي ( كان ) عجز عن كونه وهو مما عَلَّمَ من البيان يقول الله عز وجل ( خلق الإنسان علمه البيان ) فقولي له ( كان ) ما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته ، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء محيطاً بكل الأشياء ، ثم كَوَّنَ ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد ، وإنه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شئ ، ثم خلق منه ظلمة ، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شئ كما خلق النور من غير شئ ، ثم خلق من الظلمة نوراً وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين ، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماءً مرتعداً ولا يزال مرتعداً إلى يوم القيامة ، ثم خلق عرشه من نوره وجعله على الماء ، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 19 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لسان منها بعشرة آلاف لغة ليس فيها لغة تشبه الأخرى ، وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب ، وذلك قوله: وكان عرشه على الماء ليبلوكم .
يا كعب ويحك ، إن من كانت البحار تفلته على قولك ، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه !
فضحك عمر بن الخطاب وقال : هذا هو الأمر ، وهكذا يكون العلم ، لا كعلمك يا كعب . لا عشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن ) . انتهى .
فهذه النصوص القوية وغيرها تجعل الباحث يطمئن إلى أن وجود إصبع الثقافة اليهودية في المسألة هو الذي أوجب كل هذا الإستنفار والموقف الحاسم!
الألباني يتجاهل مذهب الصحابة النافين للرؤية
* قال في فتاويه ص 143 :
( إن عقيدة رؤية الله لم ترد في السنة فقط حتى تشككوا فيها ، إن هذه العقيدة أيضاً قد جاءت في القرآن الكريم المتواتر روايته عن رسول الله . . . إن قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة .
هي وجوه المؤمنين قطعاً إلى ربها ناظرة . . المعتزلة والشيعة جاءوا بفلسفة ففسروا وجوه إلى ربها ناظرة ، أي إلى نعيم ربها ناظرة . . . وهذه الفلسفة معول هدام للسنة الصحيحة ! ) انتهى .
وقد فات الألباني وأمثاله ، أنه لا يجوز الأخذ ببعض القرآن دون بعضه ، وأنه لا بد أن نأخذ بنظر الإعتبار أيضاً آية ( لا تدركه الأبصار ) وآية ( ليس كمثله شئ ) وبقية الآيات التي تنفي إمكانية رؤيته تعالى ، ثم نجمع بين محكمها ومتشابهها ، ويكفينا هنا القول إن آية ( وجوه يومئذٍ ناضرة ) التي يدعي أنها
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 20 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
تعني النظر إلى ذات الله تعالى في الجنة ، إنما تتحدث عن موقف في المحشر قبل دخول الجنة بدليل قوله تعالى : ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة . فوجوه المؤمنين مستشرفة إلى ربها تنتظر رحمته وعطاءه ، ووجوه الكفار مكفهرة خائفة من عقابه ، فليس في الآية ما يدل على النظر بالعين إلى ذاته سبحانه وتعالى لا في الجنة ولا قبلها ! !
وفاتهم ثانياً : أنهم إذا جعلوا عدم الأخذ بأحاديث الرؤية هدماً للسنة ، فقد ارتكبوا هم ذلك وهدموا أحاديث عائشة الصحيحة عندهم برواية البخاري ومسلم وغيرهما !
والإنصاف أن آيات نفي الرؤية صريحة محكمة ، ولا يصح معارضتها بظاهر آيات يبدو منها إمكان الرؤية بالعين، بل يجب حمل متشابه القرآن على محكمه ، والحكم بأن ظاهر المتشابه غير مراد .
أما الأحاديث ففيها أحاديث تنفي الرؤية ، وأحاديث أخرى تثبت الرؤية ، وكلها عند إخواننا صحيحة روتها صحاحهم ، وهي متعارضة بنحو لا يمكن الجمع بينها ، فلا بد من ترجيح بعضها وطرح البعض الآخر ، فلا يصح التهويل بأن ذلك من عمل الشيعة والمعتزلة وهو هدم للسنة الشريفة ! لأن كل الذين قالوا برؤية الله تعالى بالعين مثل الألباني وابن باز قد طرحوا أحاديث عائشة ، وكل الذين قالوا بنفي الرؤية واستحالتها طرحوا أحاديث الرؤية، وهذا ليس من هدم السنة في شئ، بل هو باب في أصول الفقه يسمى ( التعادل والترجيح ) ومن أصوله المقررة عند الجميع أنه عندما لا يمكن الجمع بين الأحاديث فلابد من ترجيح المجموعة التي تملك مرجحات على الأخرى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 21 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والترجيح هنا لأحاديث نفي الرؤية كما رأيت ، ونضيف إلى مرجحاتها على غيرها :
أن أحاديث نفي الرؤية موافقة لمحكم القرآن مثل قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ، وقوله تعالى : وليس كمثله شئ .
* أنها موافقة للأصل ، فإن الأصل هو عدم الحكم بإمكان رؤية الله تعالى بالعين حتى يتم الدليل القطعي .
* أن أحاديث نفي الرؤية موافقة لمحكم القرآن مثل : لا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء .
* أن أحاديث أهل البيت وعائشة النافية للرؤية ناظرة إلى أحاديث الإثبات ومكذبة لها، بينما أحاديث الرؤية ليست ناظرة لأحاديث نفيها ولا مكذبة لها.
* أن أحاديث نفي الرؤية موافقة لحكم العقل القطعي ، بعكس أحاديث إثباتها . . . إلخ .
وهاجموا أمهم عائشة وأساءوا معها الأدب
* قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 225 : ( قال أبو بكر ( ابن خزيمة ) : هذه لفظة أحسب عائشة تكلمت بها في وقت غضب ، ولو كانت لفظة أحسن منها يكون فيها درك لبغيتها كان أجمل بها ، ليس يحسن في اللفظ أن يقول قائل أو قائلة : قد أعظم ابن عباس الفرية وأبو ذر وأنس بن مالك وجماعات من الناس الفرية على ربهم ! ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيرها أحسن وأجمل منها . أكثر ما في هذا أن عائشة رضي الله عنها وأبا ذر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 22 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك رحمه الله ، قد اختلفوا هل رأى النبي ( ص ) ربه فقالت عائشة رضي الله عنها : لم ير النبي ( ص ) ربه ، وقال أبو ذر وابن عباس رضي الله عنهما قد رأى النبي ( ص ) ربه ، وقد أعلمت في مواضع من كتبنا أن النفي لا يوجب علماً والإثبات هو الذي يوجب العلم ، لم تحكِ عائشة عن النبي ( ص ) أنه أخبرها أنه لم ير ربه عز وجل ( ! ) وإنما تلت قوله عز وجل : لا تدركه الأبصار ، وقوله : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً ، ومن تدبر هاتين الآيتين ووفق لإدراك الصواب علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق الرمي بالفرية على الله ، كيف بأن يقول قد أعظم الفرية على الله ! لأن قوله : لا تدركه الأبصار ، قد يحتمل معنيين على مذهب من يثبت رؤية النبي ( ص ) خالقه عز وجل . قد يحتمل بأن يكون معنى قوله : لا تدركه الأبصار ، على ما قال ترجمان القرآن لمولاه عكرمة : ذاك نوره الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شئ . والمعنى الثاني أي لا تدركه الأبصار أبصار الناس ، لأن الأعم والأظهر من لغة العرب أن الأبصار إنما تقع على أبصار جماعة ، لا أحسب عربياً يجئ من طريق اللغة أن يقال لبصر امرئ واحد أبصار ، وإنما يقال لبصر امرئ واحد بصر ، ولا سمعنا عربياً يقول لعين امرئ واحد بصران فكيف أبصار !
ولو قلنا : إن الأبصار ترى ربنا في الدنيا لكنا قد قلنا الباطل والبهتان ، فأما من قال أن النبي ( ص ) قد رأى ربه دون سائر الخلق فلم يقل إن الأبصار قد رأت ربها في الدنيا فكيف يكون يا ذوي الحجا من ينفي أن النبي ( ص ) محمداً قد رأى ربه دون سائر الخلق مثبتاً أن الأبصار قد رأت ربها ، فتفهموا يا ذوي الحجا هذه النكتة تعلموا أن ابن عباس رضي الله عنهما وأباذر وأنس بن مالك ومن وافقهم لم يعظموا الفرية على الله ، لا ولا خالفوا حرفاً من كتاب الله في هذه المسألة !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 23 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فأما ذكرها ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ) فلم يقل أبو ذر وابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك ولا واحد منهم ولا أحد ممن يثبت رؤية النبي ( ص ) خالقه عز وجلّ أن الله كلمه في ذلك الوقت الذي كان يرى ربه فيه ، فيلزم أن يقال قد خالفت هذه الآية !
ومن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه لم يخالف قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، وإنما يكون مخالفاً لهذه الآية من يقول رأى النبي ( ص ) فكلمه الله في ذلك الوقت .
ابن عمر مع جلالته وعلمه وورعه وفقهه وموضعه من الإسلام والعلم يلتمس علم هذه المسألة من ترجمان القرآن ابن عم النبي ( ص ) يرسل إليه يسأله هل رأى النبي ( ص ) ربه ؟ عداً منه بمعرفة ابن عباس بهذه المسألة يقتبس هذا منه ، فقد ثبت عن ابن عباس إثباته أن النبي ( ص ) قد رأى ربه ، وبيقين يعلم كل عالم أن هذا من الجنس الذي لا يدرك بالعقول والآراء والجنان والظنون ، ولا يدرك مثل هذا العلم إلا من طريق النبوة إما بكتاب أو بقول نبي مصطفى ، ولا أظن أحداً من أهل العلم يتوهم أن ابن عباس قال : رأى النبي ( ص ) ربه برأي وظن ، لا ولا أبو ذر ولا أنس بن مالك .
نقول كما قال معمر بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما في هذه المسألة : ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس ، نقول: عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة ، كذلك ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم النبي ( ص ) قد دعا النبي ( ص ) له أن يرزق الحكمة والعلم وهذا المعنى من الدعاء ، وهو المسمى ترجمان القرآن ، وقد كان الفاروق رحمه الله يسأله عن بعض معاني القرآن فيقبل منه وإن خالفه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 24 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
غيره ممن هو أكبر سناًّ منه وأقدم صحبة للنبي ( ص ) وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عباس الفرية على الله ، لأنه قد أثبت شيئاً نفته عائشة رضي الله عنها ، والعلماء لا يطلقون هذه اللفظة ، وإن غلط بعض العلماء في معنى آية من كتاب الله أو خالف سنةً أو سنناً من سنن النبي(ص) لم تبلغ المرء تلك السنن ، فكيف يجوز أن يقال أعظم الفرية على الله من أثبت شيئاً لم يبينه كتاب ولا سنة ، فتفهموا هذا لا تغالطوا . . . ) إلى آخر كلامه .
هذا جانب من كلام ابن خزيمة أستاذ أصحاب الصحاح وإمام الأئمة ، وقد أتعب نفسه وعمل المستحيل بتعبير عصرنا لكي يثبت خطأ عائشة في نفي رؤية النبي صلى الله عليه وآله لربه بعينه !
وقد بلغ من إصراره وتطويله الموضوع وشدته على عائشة أن محقق كتابه الشيخ محمد خليل هراس المدرس بكلية أصول الدين بالأزهر لم يتحمل منه ذلك ، وكتب في رده تعليقات متينة نذكر منها ما يلي :
* إن عذر عائشة رضي الله عنها أنها كانت تستعظم ذلك وتستنكره ولهذا قالت لمسروق ( لقد قف شعري مما قلت ) وليس من حق المؤلف أن يعلم أمه الأدب فهي أدرى بما تقول منه !
* إن عائشة رضي الله عنها لم تعين في كلامها أحداً ولكن قالت من زعم بصيغة العموم .
* لم يثبت عن ابن عباس أنه قال رآه بعينه ، ولكن قال بقلبه وبفؤاده .
* كيف وجمهور الصحابة معها في إنكار الرؤية بالعين كابن مسعود وغيره ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس ، أما غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 25 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فلم يؤثر عنهن أنهن خالفنها في ذلك ، وليس فيهن من تضارعها في الفقه والعلم .
* ولكن لا بد للمثبت أن يورد دليل الإثبات ومثبتو الرؤية لم يقدموا أدلة على ذلك ، والنفي هو الأصل حتى يقوم دليل الإثبات ، وقد عضدت عائشة رضي الله عنها مذهبها في النفي ببعض الآيات التي ظنت أنها تشهد له .
* هذا إنما يكون صحيحاً إذا ذكر المثبت دليلاً على إثباته وإذ لا دليل فكلام النافي هو المقدم ، والنفي لا يحتاج إلى دليل .
* عجباً لإمام الأئمة كيف خانه علمه فتوهم أن المنفي هو إدراك الأبصار له إذا اجتمعت ، فإذا انفرد واحد منها أمكن أن يراه ! فهل إذا قال قائل : لا آكل الرمان ، يكون معنى هذا أنه لا يأكل الحبات منه ولكن يأكل الحبة ! يرحم الله ابن خزيمة فلقد كباً ، ولكل جواد كبوة . انتهى .
ونضيف إلى ما ذكره الشيخ محمد الهراس : أنا لم نجد حديثاً في مصادر إخواننا السنة عن الرؤية في الإسراء إلا سؤال أبي ذر وسؤال عائشة للنبي صلى الله عليه وآله ، وقد نفى فيهما الرؤية بالعين !
وأن الذين نسبوا إليه الرؤية لم يرووا عنه حديثاً واحداً بأنه رأى ربه بعينه بل قالوا ذلك من اجتهادهم !
فالتعارض في الحقيقة بين حديث أبي ذر وعائشة بأن النبي صلى الله عليه وآله قد نفى الرؤية ، وبين اجتهادات أخرى ليست بأحاديث !
أما الروايات عن ابن عباس فهي في مصادرهم متعارضة ومضطربة ، فلابد لهم من القول بسقوطها والرجوع إلى الأصل الذي هو عدم ثبوت ذلك عنه إلا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 26 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بدليل ، وقد نقل ابن خزيمة نفسه قبل هجومه على عائشة أحاديث عن ابن عباس ينفي فيها الرؤية بالعين !
* قال في ص 200 : ( قال أبو بكر ( يعني نفسه ) : وقد اختلف عن ابن عباس في تأويله قوله : ولقد رآه نزلة أخرى ، فروى بعضهم عنه أنه رآه بفؤاده ، حدثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي ، قال ثنا عبد الله بن داود الخريبي عن الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : ولقد رآه نزلة أخرى ، قال : رآه بفؤاده .
حدثنا عمي إسماعيل، قال ثنا عبد الرزاق قال أخبرنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : ما كذب الفؤاد ما رأى ، قال رآه بقلبه) . انتهى.
ومن العجيب أن ابن خزيمةتغاضىفي أول كلامه عن حديث عائشةالصريح عن النبي صلى الله عليه وآله ، وأصر على اعتباره قولاً واجتهاداً من عندها !
ثم عاد واعترف بأنه حديث لكنه فرض أن قول ابن عباس حديث مقابل حديث عائشة ، وحكم بأن رواية ابن عباس لا بد أن تكون متأخرة عن رواية عائشة !
فمن أين حكم أن قول ابن عباس رواية ، ومن أين عرف أنها متأخرة ، ثم لو سلمنا أنها متأخرة فإن رواية عائشة نفي مطلق ناظر إلى روايات الإثبات ومكذب لها ، ورواية ابن عباس إثبات جزئي فكيف تقدم عليها ؟ !
ثم من أين جاء بهذه القاعدة المطلقة في الجمع بين الروايات المتعارضة تعارض نفي وإثبات وزعم أنها تقضي بتقديم روايات إثبات الشئ والحكم بأنها ناسخة لروايات نفيه !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 27 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهل يلتزم ابن خزيمة بقاعدته هذه في الروايات التي تنفي أن النبي صلى الله عليه وآله أوصى بالخلافة ، وبين الروايات التي تثبت أنه أوصى بها لعلي عليه السلام فيقول إن روايات الإثبات مقدمة على روايات النفي ؟ !
وهل يلتزم بأن كلام ابن عباس يجب أن يقدم دائماً على كلام عائشة لأنه أعلم منها ؟ ! فيقدم شهادة ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وآله قد أوصى لعلي عليه السلام بالخلافة من بعده وأمر المسلمين ببيعته في غدير خم في حجة الوداع ، على شهادة عائشة بأن النبي لم يوصِ لأحد ولا أوصى بشئ !
لا نظن ابن خزيمة يلتزم بشئ من ذلك ، ولكنه يحب إثبات رؤية الله تعالى بالعين لأنه تربى عليها وأشربها قلبه ، فهو مستعد لأن يرتكب من أجلها المصادرات والتحكمات ، ويقع في التناقضات الصارخة ! !
* وقد أنصف الشيخ محمد عبده في تفسير المنار : 9/148 عندما قال :
( فعلم مما تقدم أن ما روي عن ابن عباس من الإثبات هو الذي يصح فيه ما قيل خطئاً في نفي عائشة إنه استنباط منه ، لم يكن عنده حديث مرفوع فيه، وإنه على ما صح عنه من تقييده الرؤية القلبية معارض مرجوح بما صح من تفسير النبي ( ص ) لآيتي سورة النجم وهو أنهما في رؤيته ( ص ) لجبريل بصورته التي خلقه الله عليها . على أن رواية عكرمة عنه لا يبعد أن تكون مما سمعه من كعب الأحبار الذي قال فيه معاوية ( الراوي ) إن كنا لنبلو عليه الكذب كما في صحيح البخاري . ورواية ابن إسحاق لا يعتد بها في هذا المقام فإنه مدلس وهو ثقة في المغازي لا في الحديث . فالإثبات المطلق عنه مرجوح روايةً كما هو مرجوح درايةً ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 28 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بل حتى لو كان كلام عائشة اجتهاداً منها فهو اجتهاد مع دليله ، كما قال الشيخ محمد عبده في تفسير المنار 9/139 : ( فعائشة وهي من أفصح قريش تستدل بنفي الإدراك على نفي الرؤية مع ما علم من الفرق بينهما ، وتستدل على نفيها أيضاً بقوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، وقد حملوا هذا وذاك على نفي الرؤية في هذه الحياة الدنيا ، ولكن إدراك الأبصار للرب سبحانه محال في الآخرة كالدنيا ) . انتهى .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 29 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثاني : مذاهب المسلمين في آيات الصفات وأحاديثها
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 30 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 31 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مذاهب المسلمين في آيات الصفات وأحاديثها
عندما قبل إخواننا السنة أحاديث الرؤية وأمثالها تورطوا فيها ، وانقسموا في تفسيرها من القرن الأول إلى أربعة مذاهب وأكثر ، وقد وُلِدَتْ هذه المذاهب العقائدية قبل أن تولد مذاهبهم الفقهية بمدة طويلة ، وبقيت حاكمة على أئمة المذاهب الفقهية وأتباعهم إلى يومنا هذا !
المذهب الأول : مذهب المتأولين
المذهب الأول : مذهب التأويل الذي يوافق مذهب أهل البيت تقريباً ، ويجعل الأساس في تنزيه الله تعالى الآيات المحكمة في التوحيد مثل قوله تعالى : ليس كمثله شئ ، لا تدركه الأبصار . ويقول بتأويل كل نص يظهر منه التشبيه أو الرؤية بالعين ، لينسجم مع حكم العقل وبقية الآيات والأحاديث .
والظاهر أن المتأولين هم أكثرية علماء إخواننا السنة من مجموع القدماء والمتأخرين ، ومنهم عامة الفلاسفة والمعتزلة .
المذهب الثاني : مذهب التفويض وتحريم التأويل ، ومعناه الإمتناع عن تفسير آيات الصفات وأحاديثها بل تفويض معناها إلى الله تعالى ، وتحريم الكلام في معانيها مطلقاً ، وهو مذهب كثير من قدامى الرواة والمحدثين ، وقليل من المتأخرين .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 32 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المذهب الثالث : مذهب تفسيرها بالمعنى اللغوي الظاهر ، أي بالمعنى الحسي، والقول بأن الله تعالى له يد ووجه ورجل وجنب بالمعنى اللغوي الحسي ، وهو مذهب اليهود والنصارى ، وهو المذهب الذي تبنى نشره في المسلمين كعب الأحبار ووهب بن منبه ومن وافقهم من الصحابة ، ثم صار المذهب الرسمي الذي تعصب له الأمويون ، ثم صار مذهب من الحنابلة وقليل من الأشاعرة ، ثم حاول إحياءه ابن تيمية والوهابيون ، وألصقوه بالسلف وأهل السنة.
المذهب الرابع: مذهب المتنقلين بين المذاهب ، والمذبذبين ، والمتحيرين . . وهم أنواع ثلاثة، وقد ذكرنا نماذج منهم في المجلدالأول من العقائد الإسلامية .
والظاهر أن لقب ( المتَاولة ) الذي يطلقونه على الشيعة في بلاد الشام وفلسطين ومصر، جاء من هؤلاء المجسمة الذين كانوا يكفرون الشيعة وغيرهم من المسلمين المتأولين .
ومع أن أكثرية إخواننا السنة متأولة ، إلا أن نَبْزَ لقب ( المتَاولة ) وَسُبَّتَهُ كان من نصيب الشيعة المظلومين ، وبقيت كلمة ( مِتْوَالي ) بكسر الميم ، أسوأ في ذهن خصوم الشيعة من كلمة كافر !
وفيما يلي نعرض لهذه المذاهب بشيء من التفصيل :
المذهب الأول : مذهب المتأولين
احتج المتأولون وهم أكثرية العلماء بأن من الطبيعي في كل لغة أن نفسر ألفاظها بمعانيها المناسبة ، فنحمل اللفظ على معناه الحقيقي إلا إذا منع منه مانع
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 33 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لفظي أو عقلي فنحمله على معناه المجازي ، حسب أصول التخاطب التي يعرفها أهل الخبرة بتلك اللغة .
وقد امتازت اللغة العربية على غيرها من اللغات بفصاحتها وبلاغتها لأنها استعملت أساليب متنوعة في التعبير منها : المجاز ، والكناية ، والإستعارة ، والتشبيه . . . إلخ .
وعلى هذا الأساس تعامل الصحابة ومن عاصرهم مع ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف ، وفهموا النصوص التي يخالف ظاهرها تنزيه الله تعالى بأنها تعابير مجازية من تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريب صفاته تعالى وأفعاله إلى أذهان البشر ، وحكموا بأن ظاهرها الحسي غير مراد ، فيجب تأويلها بالمعاني المجازية ، فعندما يقول سبحانه : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم، فلا يقصد باليد عضو اليد ولا شيئاً لله تعالى شبيهاً به، بل يقصد أن الله تعالى هو طرف المبايعة وقدرته وهيمنته وجلاله أعلى من المبايعين .
وهذا أمر طبيعي في اللغة حتى في حياتنا اليومية ، فعندما يقول لك شخص: قرت عينك بعودة مسافرك ، فإنك تشكره لأنك تفهم أن ( قرت عينك ) تعبير مجازي ودعاء لك بالطمأنينة والهدوء المعنوي لا المادي ، ولا تقول له إنك دعوت علي بالموت وأن تقر عيني حسياً عن الحركة !
القاضي عياض ينقل إجماع المسلمين على التأويل
* قال النووي في شرح مسلم مجلد 3 جزء 5 ص 24 :
( قال القاضي عياض : لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء ليست على ظاهرها ، بل متأولة عند جميعهم ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 34 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* وقال في شرح مسلم مجلد 5 جزء 9 ص 117 :
( قال القاضي عياض قال المارزي : معنى يدنو : أي تدنو رحمته وكرامته لا دنو مسافة ومماسة ) .
* وقال في جامع الأحاديث القدسية من الصحاح :1/74 :
( قال النووي : هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان وإن مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف أنها تتأول على ما يليق بحسب مواطنها ، فتأول مالك بن أنس معناه : تتنزل رحمته وأمره أو ملائكته ) .
* وقال في :1/160 : ( إن أول ما يجب على المؤمن أن يعتقد تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه ، واعتقاد غير ذلك مخل بالإيمان ، واتفق العلماء من أئمة المسلمين قاطبة على أن ما ورد من الكتاب والسنة في ظاهره يوهم تشبيه الله تعالى ببعض خلقه يجب الإيمان بأن ظاهره غير مراد ، ولا يصح وصف الله تعالى بما يفيده هذا الظاهر من عمومه ) .
* وقال في :1/167 : ( قال المازني في شرح الأحاديث : هذا ما يجب تأويله لأنها تتضمن إثبات الشمال فتقتضي التحديد والتجسيم ) .
* وقال الذهبي في سيره :8/243: ( وقال الطوفي : إتفق العلماء ومن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته ، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها ، ولهذا وقع في رواية : فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ) . انتهى .
وسيأتي قول الوهابيين أن التأويل ضلال وإلحاد ، فلا بد أنهم يحكمون بضلال كل هؤلاء الذين تأولوا ، ومنهم أيضاً إمام الوهابيين في التجسيم ابن خزيمة الذي يوصي المفتي ابن باز بقراءة كتبه .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 35 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ابن خزيمة يؤول حديث : خلق الله آدم على صورته
روى إخواننا السنة أن النبي صلى الله عليه وآله سمع شخصاً يقول لآخر قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك ، فقال له : لا تقبح وجهه فإن الله خلق آدم على صورته .
وقد تمسك بعض الصحابة بهذا القول وادعى أنه موافق لما عند اليهود من أن الله تعالى خلق آدم على صورته ، وأن الله تعالى على صورة البشر ! وروينا نحن عن أئمتنا عليهم السلام أن مقصود النبي صلى الله عليه وآله أن صورة أخيك هي الصورة التي اختارها الله تعالى لأبيك آدم عليه السلام ، فلا تقبحها. فالضمير في ( صورته ) يرجع إلى المسبوب ، لا إلى الله تعالى .
وقد وافقنا عدد من علماء السنة في تفسير الحديث ، ومن أشهرهم ابن خزيمة صاحب الهجوم على عائشة الذي يسميه إخواننا إمام الأئمة ، والذي يقول برؤية الله تعالى بالعين ويتعصب لها !
* قال في كتابه التوحيد طبعة مكتبة الكليات الأزهرية ص 37 : ( قال أبو بكر ( يعني بذلك نفسه ) : توهم بعض من لم يتحر العلم أن قوله : على صورته يريد صورة الرحمن ، عز ربنا وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر ، بل معنى قوله : خلق آدم على صورته ، الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم ، أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب ، والذي قبح وجهه فزجره صلى الله عليه وسلم أن يقول : ووجه من أشبه وجهك ، لأن وجه آدم شبيه وجه بنيه ، فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم : قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك كان مقبحاً وجه آدم صلوات الله وسلامه عليه الذي وجوه بنيه شبيهة بوجه أبيهم، فتفهموا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 36 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
رحمكم الله معنى الخبر، لا تغلطوا ولا تغالطوا فتضلوا عن سواء السبيل ، وتحملوا على القول بالتشبيه الذي هو ضلال .
وقد رويت في نحو هذا لفظة أغمض معنى من اللفظة التي ذكرناها في خبر أبي هريرة ، وهو ما حدثنا يوسف بن موسى ، قال ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن ، وروى الثوري هذا الخبر مرسلاً غير مسند ، حدثناه أبو موسى محمد بن المثنى ، قال ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال ثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقبح الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن ، قال أبو بكر : وقد افتتن بهذه اللفظة التي في خبر عطاء عالم ممن لم يتحر العلم ، وتوهموا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر من إضافة صفات الذات ، فغلطوا في هذا غلطاً بيناً وقالوا مقالة شنيعة مضاهية لقول المشبهة، أعاذنا الله وكل المسلمين من قولهم!
والذي عندي في تأويل هذا الخبر إن صح من جهة النقل موصولاً فإن في الخبر عللاً ثلاثاً ، إحداهن :
أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسل الثوري ولم يقل عن ابن عمر . والثانية أن الأعمش مدلس لم يذكر أنه سمعه من حبيب بن أبي ثابت . والثالثة أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس لم يعلم أنه سمعه من عطاء .
فإن صح هذا الخبر مسنداً بأن يكون الأعمش قد سمعه من حبيب بن أبي ثابت ، وحبيب قد سمعه من عطاء بن أبي رباح ، وصح أنه عن ابن عمر على ما رواه الأعمش ، فمعنى هذا الخبر عندنا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 37 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الخبر إنما هو من إضافة الخلق إليه ، لأن الخلق يضاف إلى الرحمن إذ الله خلقه، وكذلك الصورة تضاف إلى الرحمن لأن الله صورها، ألم تسمع قوله عز وجل: هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ، فأضاف الله الخلق إلى نفسه إذ الله تولى خلقه إلى آخر كلامه ، وكذاك قوله عز وجل : هذه ناقة الله لكم آية ، فأضاف الله الناقة إلى نفسه وقال : تأكل في أرض الله ، وقال : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ، وقال : إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، فأضاف الله الأرض إلى نفسه ، إذ الله تولى خلقها فبسطها ، وقال : فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فأضاف الله الفطرة إلى نفسه إذ الله فطر الناس عليها ، فما أضاف الله إلى نفسه على مضافين ( كذا ) إحداهما إضافة الذات والأخرى إضافة الخلق ، فتفهموا هذين المعنيين لا تغالطوا ، فمعنى الخبر إن صح من طريق النقل مسنداً : فإن ابن آدم خلق على الصورة التي خلقها الرحمن حين صور آدم ثم نفخ فيه الروح ، قال الله جل وعلا : ولقد خلقناكم ثم صورناكم .
والدليل على صحة هذا التأويل أن أبا موسى محمد بن المثنى قال : ثنا أبو عامر عبدالملك ابن عمرقال: ثناالمغيرة وهو ابن عبدالرحمن، عن أبي الزناد، عن موسى بن أبي عثمان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله آدم على صورته ، وطوله ستون ذراعاً . . . إلخ ) . انتهى .
ونحن نقبل منه تأويله لهذا الحديث لأنه موافق للمنطق وموافق لمذهبنا ، ولكن الوهابيين تبنوا الحديث الذي فيه ( على صورة الرحمن ) ونسبوا إلى الخليفة عمر بأنه قبل مقولة اليهود بأن الله تعالى خلق آدم على صورة الله سبحانه وتعالى !
وبذلك اختاروا أن يكون ( إلههم ) على صورة البشر !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 38 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
من تأويلات النووي
* قال في شرح مسلم بهامش الساري :2/116 :
( قوله : فلا يزال يدعو الله تعالى حتى يضحك الله تعالى منه ، قال العلماء: ضحك الله تعالى هو رضاه بفعل عبده ومحبته إياه وإظهار نعمته عليه ) .
* وقال بهامش الساري : 10/249 :
( وأما إطلاق اليدين الله تعالى فمتأول على القدرة ، وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ) .
* وقال في شرح مسلم مجلد 2 جزء 3 ص 12 : ( عن أبي ذر قال سألت رسول الله ( ص ) هل رأيت ربك ؟ قال : نور ، أنى أراه ! ومعناه حجابه نور فكيف أراه ، ونقل عن القاضي عياض قوله: من المستحيل أن تكون ذات الله نوراً ، إذ النور من جملة الأجسام ، والله سبحانه وتعالى يجل عن ذلك ) .
* وقال في شرح مسلم مجلد 4 جزء 7 ص 6 :
( قوله ( ص ) : ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ، هذا الحديث فيه مذهبان : أحدهما : وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى ، وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ، مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق . والثاني : أنه على الإستعارة ).
* وقال في شرح مسلم مجلد 4 جزء 7 ص 98 :
( قوله ( ص ) : إلا أخذها الرحمن بيمينه قال المازري : إن هذا الحديث وشبهه مما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ، فكنى هنا عن قبول الصدقة بأخذها في الكف ، ويتقدس الله سبحانه عن التجسيم ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 39 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* وقال في شرح مسلم مجلد 6 جزء 12 ص 212 : ( قال القاضي عياض : المراد بكونهم عن اليمين وكلتا يديه يمين ، الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة . وقال ابن عرفة : يقال أتاه عن يمينه إذا جاءه من الجهة المحمودة ) .
* وقال في : 8/16 : ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يميناً . . إلخ . قال ابن عرفة : وكلتا يديه يمين فتنبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة ) .
* وقال في : 8/44 : ( قوله ( ص ) أغيظ رجل على الله ، قال الماوردي : أغيظ مصروف عن ظاهره لأن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالغيظ ، فيتأول هنا الغيظ على الغضب ) .
* وقال في مجلد 9 جزء 17 ص 132 :
( في شرح حديث ابن عمر الآتي الذي ينص على التجسيد :
قال القاضي : ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئاً به . وقبض النبي ( ص ) أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمقبوض والمبسوط وهو السماوات والأرضون ، لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة القابض والباسط سبحانه وتعالى . إطلاق اليدين الله تعالى متأول على القدرة وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا باليدين فخوطبنا بما نفهمه ، هذا مختصر كلام المازري ) .
* وقال في مجلد 9 جزء 17 ص 60 :
( قوله ( ص ) : الله أشد فرحاً بتوبة عبده ، قال العلماء : فرح الله تعالى هو رضاه ، فعبر عن الرضا بالفرح تأكيداً لمعنى الرضا في نفس السامع ) .
وقال في مجلد 9 جزء 17 ص 182 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 40 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( قوله ( ص ) : فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله ، هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات والعلماء فيها على مذهبين : أحدهما : وهو قول جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها ولها معنى يليق بها ، وظاهرها غير مراد ، قال القاضي : أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها ، ولا بد من صرفها عن ظاهرها لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى ) .
* وقال في شرح مسلم بهامش الساري :10/44 :
( قوله ( ص ) : فإن الله خلق آدم على صورته وهو من أحاديث الصفات، وإن من العلماء من يمسك عن تأويلها ويقول نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد ، ولها معنى يليق بها ، وهذا مذهب جمهور السلف ، وهو أحوط وأسلم. والثاني : أنها تتأول على حسب ما يليق بتنزيه الله تعالى ) .
* وقال في رياض الصالحين ص 200 :
( يقرب المؤمن يوم القيامة من ربه دنو كرامة وإحسان لا دنو مسافة ، إنه سبحانه منزه عن المسافة ) .
وأسقط الوهابيون النووي عن الإمامة
* لجنة الإفتاء الوهابية : 3/163 :
السؤال الثاني عشر من الفتوى رقم 4264 :
س : بالنسبة للإمام النووي بعض الإخوة يقول إنه أشعري في الأسماء والصفات ، فهل يصح هذا وما الدليل ، وهل يصح التكلم في حق العلماء بهذه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 41 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الصورة ؟ ومنهم من قال : إن له كتاب يسمى بستان العارفين وهو صوفي فيه ، فهل يصح هذا الكلام ؟
ج : له أغلاط في الصفات سلك فيها مسلك المؤولين وأخطاء في ذلك فلا يقتدى به في ذلك ، بل الواجب التمسك بقول أهل السنة وهو إثبات الأسماء والصفات الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المطهرة ، والإيمان بذلك على الوجه اللائق بالله جل وعلا من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، عملا بقوله سبحانه : ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، وما جاء في معناها من الآيات .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ( بأسماء أعضائها )
من تأويلات القسطلاني
* قال في إرشاد الساري : 4/235 :
( الغضب من المخلوقين شئ يداخل قلوبهم ، ولا يليق أن يوصف الباري تعالى بذلك، فيؤول ذلك على ما يليق به تعالى، فيحمل على آثاره ولوازمه) .
* وقال في إرشاد الساري : 5/319 : ( عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) أنه قال : خلق الله عز وجل آدم ( ع ) على صورته ، أي أن الله أوجزه على الهيئة التي خلقه الله عليها ، وعورض هذا التفسير بقوله في حديث آخر : خلق آدم على صورة الرحمن ! )
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 42 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* وقال في : 7/36 : ( قوله ( ص ) : إن الله يضحك لرجلين ، قال القاضي: الضحك هنا استعارة في حق الله تعالى ، لأنه إنما يصح من الأجسام، والله تعالى منزه عن ذلك ، وإنما المراد به الرضا ) .
* وقال في : 9/187 : ( عن مالك أنه أول النزول هنا بنزول رحمته تعالى وأمره أو ملائكته ، وقال البيضاوي : لما ثبت بالقواطع أنه تعالى منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الإنتقال ) .
* وقال في : 9/384 : ( قال النبي ( ص ) : لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، قيل فيه هم الذين قدمهم الله لها من شرار خلقه فهم قدم الله للنار ) .
* وقال في :10/250 : ( وغضبه تعالى يراد به ما أراده من العقوبة ) .
* وقال في :10/269 : ( قوله تعالى : يد الله فوق أيديهم ، يريد أن يد رسول الله ( ص ) التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله ، وهو سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح وصفات الأجسام ، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول ( ص ) كعقده مع الله ) .
* وقال في :10/388 : ( جاء رجل إلى النبي ( ص ) فقال : إن الله يمسك السموات على إصبع والأرضين على إصبع فضحك النبي ( ص ) حتى بدت نواجذه ، وهذه الأوصاف في حق الله تعالى محال ) .
* وقال في : 10/391 : ( قوله تعالى : ثم استوى على العرش ، قول أهل السنة إن الله سبحانه وصف نفسه بـ ( على ) وهي صفة من صفات الذات، وقال المعتزل : معناه الإستيلاء بالقهر والغلبة ، وقالت المجسمة : معناه الإستقرار ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 43 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* وقال في :10/398 : ( قول النبي ( ص ) : إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون ، أي لا تتزاحمون ولا تختلفون ، ومعناه لاتظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه في جهاتكم كلها، وهو متعال عن الجهة ، والتشبيه برؤية القمر للرؤية دون تشبيه المرئي . قوله تعالى : إلى ربها ناظرة ، بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة ) .
* وقال في : 10/402 : ( قوله : فلا يزال يدعو حتى يضحك الله ، المراد لازم الضحك وهو الرضا) .
* وقال في :10/420 : ( قوله تعالى : ثم استوى على العرش ، وتفسير العرش بالسرير والإستواء بالإستقرار كما يقول المشبه باطل ، لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان ، وهو الآن كما كان ، والتغير من صفات الأكوان ) .
* وقال في :10/435 : ( عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا أي ينزل ملك بأمره ، وتأوله ابن حزم بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا كالفتح بطول الدعاء ، وعند ابن خزيمة فإذا طلع الفجر صعد إلى العرش ) . انتهى .
وقصده أن ابن خزيمة يقول بالتجسيم ونزول الله تعالى بذاته ثم صعوده !!
وكثيرون . . وافقونا على لزوم التأويل
* قال ابن جزي في التسهيل : 3/283 :
( لا يبعد في الشرع وصفه سبحانه بالفوق على المعنى الذي يليق بساحته ، لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 44 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* وقال السهيلي في الروض الآنف : 3/15 : ( قال ابن اللبان : نسبة الأيدي إليه استعارة ، والله سبحانه وتعالى منزه عن الجارحة ) .
* وقال السهيلي في : 3/24 :
( إضافة الظل إليه سبحانه وتعالى إضافة تشريف والله تعالى منزه عن الظل لأنه من خواص الأجسام ، فالمراد ظل عرشه كما في حديث سلمان ) .
* وقال في : 3/48 : ( معنى ضحك الرب ، أي يرضيه غاية الرضا ) .
* وقال الرازي في المطالب العالية مجلد 1 جزء 1 ص 10 : ( الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة ولاحالة في المتحيز، مثل العقول والنفوس والهيولي . إن جمعاً من أكابر المسلمين اختاروا هذا المذهب مثل معمر بن عباد من المعتزلة ، ومحمد بن النعمان من الرافضة ) . انتهى . ومحمد بن النعمان هو الشيخ المفيد أحد كبار مراجع الشيعة الذي نسب إليه خصومهم أنه يقول بالتجسيم ، وأنت ترى أن الفخر الرازي نقل قوله بوجود مخلوقات غير متحيزة لا تحتاج إلى مكان ، فكيف بخالقها سبحانه وتعالى !
* وقال ابن حزم الظاهري في الفصل مجلد 1 جزء 2 ص 167 :
( وكذلك صح عن رسول الله ( ص ) أنه قال : إن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ( الله ) فيها قدمه ، فمعنى القدم في أحاديث المذكور إنما هو كما قال الله تعالى : أن لهم قدم صدق عند ربهم ، يريد سالف صدق ، فمعناه أن الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم، وكذلك القول في الحديث الثابت : خلق الله آدم على صورته ، فهذه إضافة ملك ، يريد الصورة التي تخيرها الله سبحانه وتعالى ليكون آدم مصوراً عليها ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 45 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
من تأويلات رشيد رضا الباردة
* قال في تفسير المنار : 3/220 –221 :
( قال قائلون : لا يجوز أن يعتمد في هذا الباب إلا ما ورد في القرآن أو تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم تواتراً يفيد العلم ، فأما أخبار الآحاد فلا تقبل فيه ولا نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل ولا بروايته عند من يقتصر على الرواية ، لأن ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه . وما ذكروه ليس ببعيد لكنه مخالف لظاهر ما درج عليه السلف ! فإنهم قبلوا هذه الأخبار من العدول ورووها وصححوها ، فالجواب من وجهين : أحدهما : أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أنه لا يجوز اتهام العدل بالكذب لا سيما في صفات الله تعالى ، فإذا روى الصديق رحمه الله خبراً وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا ، فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع ، أو إلى السهو ، فقبلوه ، وقالوا قال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا في التابعين ، فالآن إذا ثبت عندهم بأدلة الشرع أنه لا سبيل إلى اتهام العدل التقي من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فمن أين يجب أن لا يتهم ظنون الآحاد وأن ينزل الظن منزلة نقل العدل مع أن بعض الظن إثم ، فإذا قال الشارع ما أخبركم به العدل فصدقوه واقبلوه وانقلوه وأظهروه ، فلا يلزم من هذا أن يقال ما حدثتكم به نفوسكم من ظنونكم فاقبلوه وأظهروه وارووا عن ظنونكم وضمائركم ونفوسكم ما قالته ، فليس هذا في معنى المنصوص .
ولهذا نقول : ما رواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض عنه ولا يروى ، ويحتاط في المواعظ والأمثال وما يجري مجراها .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 46 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والجواب الثاني : أن تلك الأخبار روتها الصحابة لأنهم سمعوها يقيناً ، فما نقلوا إلا ما تيقنوه ، والتابعون قبلوه ورووه وما قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا بل قالوا قال فلان قال رسول الله كذا وكانوا صادقين ، وما أهملوا روايته ، لاشتمال كل حديث على فوائد سوى اللفظ الموهم عند العارف معنى حقيقياً يفهمه منه ليس ذلك ظنياً في حقه . مثاله رواية الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له ، وهل من مستغفر فأغفر له . . الحديث ، فهذا الحديث سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل وله تأثير عظيم في تحريك الدواعي للتهجد الذي هو أفضل العبادات ، فلو ترك هذا الحديث لبطلت هذه الفائدة العظيمة ولا سبيل إلى إهمالها ، وليس فيه إلا إيهام لفظ النزول عند الصبي والعامي الجاري مجرى الصبي ، وما أهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول بأن يقول له : إن كان نزوله إلى السماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا ، فأي فائدة في نزوله ؟ ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا . فهذا القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول باطل ، بل مثاله أن يريد من في المشرق إسماع شخص في المغرب ومناداته ، فتقدم إلى المغرب أقداماً معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أنه لا يسمع ، فيكون نقله الأقدام عملاً باطلاً وفعلاً كفعل المجانين ، فكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل ! بل يضطر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول ، وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه ، واستحالة الإنتقال على غير الأجسام ، كاستحالة النزول من غير انتقال . فإذن الفائدة في نقل هذه الأخبار
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 47 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عظيمة والضرر يسير ، فأنى يساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفس ! ) انتهى .
فانظر إلى هذا المفسر المثقف كيف هداه عقله إلى الحق وأن أمور العقائد الخطيرة لا يكفي لإثباتها خبر واحد يعلم الله ماذا حدث في سلسلة رواته ، ولكنه أخضع عقله لعمل ( السلف ) الذين حكموا بوجوب قبول رواية الصحابي الواحد حتى لو كانت في العقيدة وحتى لو كانت مخالفة لمحكم القرآن وقبلوا لذلك أحاديث النزول والرؤية وهي أحاديث آحاد وأفتوا بأنه يجب قبول رواية فلان وفلان لأن الله تعالى أمر بقبولها ، وأوجبوا نفي تعمد الكذب عنه ، بل والخطأ والسهو !
وافترضوا أنه لا يوجد لرواية الصحابي رواية صحابي آخر تعارضها !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 48 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم أنظر كيف هون هذا المثقف من تأثير أحاديث النزول والتشبيه والتجسيم على عوام المسلمين بل وعلمائهم ، وكأنه لم يعرف ما سببته من تشويش في عقيدة المسلمين ، ومشاكل وصراعات بينهم ! وأنها كانت السبب في انتشار روايات اليهود والنصارى والمجوس عن تجسيم الله تعالى ، ورواج الأساطير بين المسلمين عن صورة الله تعالى وأوصافه ، وأنه ينزل راكباً على حماره ، وأنه شاب أمرد أجعد قطط ، وصار ( عبادهم وزهادهم ) يبحثون عنه بين الغلمان أصحاب هذه الصفات ، ويروون للناس القصص الكاذبة عن مشاهدتهم إياه ومصافحته ومعانقته . . . !
إلى آخر هذا البلاء الذي وقف أهل البيت وعائشة ومن معهم من الصحابة في وجه من قدحوا شرارته ، وحذروا المسلمين من خطره ، وطلبوا منهم رده وتكذيبه !
ثم انظر إلى تسهيله إزالة آثار روايات التجسيم بقوله ( وما أهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس فهذا القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول باطل ) ولو كان الأمر كما قال فلماذا عجز العلماء والفلاسفة عن إقناع أهل التشبيه والتجسيم بل استطاعوا أن يغرسوه في أذهان العوام ؟ !
وإذا كان الأمر بهذه السهولة فليتفضل عالم بصير ويغرس في قلب ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن باز والألباني وأتباعهم التنزيه والتقديس ، ويعرفهم أن ظاهر النزول باطل !
وأخيراً، كيف تَعَقَّل هذا المفسر المثقف أن الله تعالى يريد حث المسلمين على القيام والتهجد في الليل ، فاستعمل لذلك أسلوباً عجيباً فقال لعباده : إني أنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فقوموا في الليل ، فأوقعهم في الوهم في عقيدتهم به ، ليحثهم على عبادته ! !
لكن حقيقة المسألة عند رشيد رضا وأمثاله هي الدفاع عن شخصية الخليفة عمر الذي قال بالرؤية والنزول . ولكن ماذا نصنع إذا كان الدفاع غير ممكن عن هذه الفكرة غير المعقولة التي أخذها الخليفة من ثقافة كعب الأحبار !
المذهب الثاني : مذهب التفويض وتحريم
التأويل قلنا إن الصحابة ومن عاصرهم تعاملوا مع ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف بحسب قواعد اللغة العربية ، فكانوا يحملون ألفاظها على معانيها المجازية عندما توجد قرينة عقلية أو لفظية توجب ذلك ، كما كانوا يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وآله فيبين لهم معنى الآية والحديث الذي لا يعرفونه .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 49 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأنت عندما تلاحظ أسئلتهم للنبي صلى الله عليه وآله عن معاني ألفاظه وكلامه وكذا أسئلتهم لمن هو أفهم منهم من الصحابة وهي أسئلة كثيرة جداً يظهر لك أن بعضها كان استيضاحاً طبيعياً للمفهوم أو الحكم الشرعي ، وبعضها كان بسبب ميل السائل إلى تفسير كلام النبي بمعنى معين ، وبعضها كان بسبب انخفاض مستواهم الذهني أو جهلهم باللغة . . إلخ .
أما بعد النبي صلى الله عليه وآله فقد عين لهم من يرجعون إليه فقال : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ولكنهم لم يرجعوا إليهم من بعده ! فطرأت على المسلمين مشكلات فكرية متعددة بسبب تعدد المراجع في نصوص القرآن والحديث، وكثرت الظنون والإحتمالات ، وتضاربت التفاسير والأحاديث من هذا الصحابي وذاك ، ثم من هذا التابعي وذاك ، وما لبثت أن ظهرت تفاسير متناقضة لآيات الصفات ، كما ظهرت أحاديث متناقضة منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله !
فاختار جماعة التأويل كما ذكرنا ، وأفتى بعض علماء إخواننا بوجوب السكوت عن تفسيرها احتياطاً لدينهم وخوفاً من الخطأ في هذا الموضوع الخطير ، وقالوا لمن يأخذ برأيهم من المسلمين : إقرؤوها كما هي ولا تفسروها ، وفوضوا أمرها إلى الله تعالى .
وهذا هو معنى التفويض أو مذهب الإمتناع عن التفسير ، الذي صار مذهباً رسمياً لكثير من المسلمين عندما راجت سوق التفاسير المتناقضة ، وكثرت رواية الأحاديث المؤيدة لهذا التفسير وذاك .
وأقدم نص وجدته عن التفويض وتحريم التأويل ما رواه السيوطي عن الإمام مالك وسفيان بن عيينة .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 50 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* قال في الدر المنثور: 3/91: (وأخرج البيهقي عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى ، كيف استواؤه ؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ، ولا يقال له كيف ، وكيف عنه مرفوع ، وأنت رجل سوء صاحب بدعة ، أخرجوه قال فأخرج الرجل !
وأخرج البيهقي عن أحمد بن أبي الحواري قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: كل ما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه .
وأخرج البيهقي عن إسحق بن موسى قال سمعت ابن عيينة يقول : ما وصف الله به نفسه فتفسيره قراءته ، ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسله صلوات الله عليهم ) .
* وقال الذهبي في سيره : 8/466 : ( قال محمد بن إسحاق الصاغاني : حدثنا لوين قال: قيل لابن عيينة : هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية ؟ قال: حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه .
وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي : حدثني أحمد بن نصر قال : سألت ابن عيينة وجعلت ألح عليه فقال : دعني أتنفس ، فقلت : كيف حديث عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يحمل السماوات على إصبع، وحديث: إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان ، وحديث أن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق ؟ فقال سفيان : هي كما جاءت نقر بها ونحدث بها بلا كيف ! )
* وقال الذهبي في سيره :10/505 عن القاسم بن سلام : ( أخبرنا أبو محمد بن علوان ، أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، أخبرنا عبد المغيث بن زهير ، حدثنا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 51 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أحمد بن عبيد الله ، حدثنا محمد بن علي العشاري ، أخبرنا أبو الحسن الدار قطني ، أخبرنا محمد بن مخلد ، أخبرنا العباس الدوري، سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام وذكر الباب الذي يروى فيه الرؤية والكرسي موضع القدمين وضحك ربنا وأين كان ربنا ، فقال : هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض ، وهي عندنا حق لا نشك فيها ، ولكن إذا قيل كيف يضحك وكيف وضع قدمه ؟ قلنا : لا نفسر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره ) . انتهى .
دلالات نصوص المفوضين
من هذه النصوص الشرائح عن التفويض تتضح حقائق كثيرة، أهمها الحقائق الخمسة التالية :
الأولى : أن مذهب التفويض متأخر عن مذهب التأويل .
الثانية : أن السلف بمعنى جيل الصحابة كانوا متكلين على وجود النبي صلى الله عليه وآله وقد يسألونه وقد لا يسألونه ! ثم اتكلوا من بعده على الخليفة وما يقوله ، أو على الإمام من أهل البيت عليهم السلام وما يقوله .
الثالثة : أن السلف بمعنى التابعين كان أكثرهم متأولين ، وقد يكون فيهم مفوضة . أما تابعو التابعين والجيل الرابع فقد كثر فيهم المفوضة حتى صار التفويض هو المذهب الرسمي لأهل الحديث في مقابل الشيعة المتأولة ، ثم في مقابل المعتزلة المتأولة أيضاً .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 52 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الرابعة : أن التفويض يكاد أن يكون محصوراً في صفات الذات الإلهية ، من نوع الإستواء على العرش والضحك والغضب ، أما صفات الأفعال فكان التأويل فيها أكثر .
الخامسة : أن كون الشخص مفوضاً لا يعني أنه لا يتأول ، فقد يكون مفوضاً في بعض الصفات ومتأولاً في بعضها ، وقد تقدم عن الإمام مالك من إرشاد الساري : 9/187 أنه أول النزول بنزول رحمته تعالى وأمره أو ملائكته ، وتقدم عنه من الدر المنثور : 3/91 التفويض في معنى الإستواء ، وهو الذي حاول المجسمة تحريفه والإستشهاد به لمذهبهم .
فالتفويض أو التأويل كان يتبع أحد أمرين :
الأول ، معرفة الصحابي أو الراوي بمعنى الآية والحديث أو عدم معرفته .
والثاني ، وجود حديث صحيح في نظره لا يمكنه رده ولا تفسيره بتفسير معقول .
شيخ الأزهر يرى أن كل المفوضة متأولة
فقد سمى الشيخ سليم البشري كل السلف المفوضة متأولين بالإجمال لأنهم نفوا الجهة والمعاني المادية عن صفات الله تعالى ولكن لم يحددوا المراد منها ، وسمى المتأخرين متأولين بالتفصيل لأنهم نفوا المعاني المادية الحسية وعينوا المراد بالآيات والأحاديث المتشابهة .
قال في جواب رسالته الآتية في الفصل السابع ( ومثل هذه يجاب عنها بأنها ظواهر ظنية لا تعارض الأدلة القطعية اليقينية الدالة على انتفاء المكان والجهة ، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 53 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
إما تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف ، وإما تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف ) .
سبب تحريمهم التفسير والتأويل
نصَّ عدد من العلماء على أن سبب تفويض السلف وعدم تفسيرهم آيات الصفات وأحاديثها هو عجزهم العلمي وخوفهم من الخطأ في تفسيرها ، وهذا هو الموقف الطبيعي لكل عالم يحترم نفسه ، ويقف عند حدود علمه .
* قال جامع الأحاديث القدسية : 2/46 : (كل آيات الصفات وأحاديث الصفات علينا أن نؤمن بها ونعتقد بها ما قاله السلف، وهو التفويض إلى الله تعالى مع إيماننا بالتنزيه ، وما قاله الخلف في التأويل يحتاج إلى علم أكثر فالأحسن مذهب السلف لسلامته من الوقوع في الخطر، وتأويل كلام الله أو كلام رسوله بما لا يكون مراداً لله خطر جسيم ). انتهى .
أما سبب هذا العجز العلمي فليس هو النقص في مستوى أولئك العلماء ، فإن فيهم أصحاب أذهان عميقة ، بل لأن روايات النزول والرؤية والتشبيه والتجسيم التي روجتها الدولة مناقضة للعقل والقرآن ، ومتناقضة فيما بينها ، فهي لا تقبل التفسير المعقول !
ولكنهم اضطروا لقبولها لأنها صحيحة بمقاييسهم التي ألزموا أنفسهم بها ، فكان الحل عندهم أن اكتفوا بروايتها وتهربوا من تفسيرها ، وأوجبوا على المسلمين الإيمان بها بلا سؤال ! !
إنها ظاهرة ملفتة أن يقبل علماء إخواننا التناقض ويفرضوا على المسلمين الإيمان به ! ليس في هذه المفردة وحدها ، بل في مسائل كثيرة استلموها من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 54 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
السلف على تناقضها وسلموها كذلك إلى الأجيال ، وطلبوا منهم أن يقبلوها ويؤمنوا بها ، بلا تفسير ولا سؤال ! !
وكل ذلك يرجع إلى مسألة تناقض الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وآله هو أساس كل تناقض يتراءى في مفاهيم الإسلام وأحكامه ، وقد أكده موقفهم الرسمي الذي اتخذوه إخواننا من الصحابة فقالوا : كلهم عدول ، ونتولاهم كلهم أجمعين ، أكتعين ، أبصعين !
ومن يتولى مجموعة متناقضة ، كيف لا يقع في التناقض ؟ !
ومن يسلم زمامه إلى شركاء متشاكسين ، كيف لا يتحير ؟ !
ولو أنهم قالوا إن الصحابة اختلفوا وكفَّر بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله أن بعضهم من أهل النار ، ولا يراهم ولا يرونه بعد فراقه إياهم ، لأنهم سينقلبون من بعده ! فعلى المسلم أن يجتهد فيهم ويتولى من يعتقد صلاحه ويثق بروايته ، ويكل أمر الباقين إلى الله تعالى .
لو قالوا ذلك لفتحوا الباب للمسلمين لحل التناقض ! لكنهم فرضوا الصحابة الذين يحبونهم بتناقضاتهم على الإسلام فرضاً ، وحرموا على المسلمين السؤال عنها تحريماً !
وغرضنا هنا أن نبين أمرين :
الأول : أن الخلاف في آيات الصفات ورواياته ، إنما هو ظاهر المسألة ، أما باطنها وواقعها فهو الخلاف في أخذ الدين من هذا الصحابي أو ذاك !
والثاني : أن المجسمة والمشبهة استغلوا السكوت في مذهب التفويض فزعموا أن سببه ليس عدم علم أولئك العلماء بمعنى آيات الصفات بل سببه عدم رغبتهم في إعلان تفسيرها الحسي ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 55 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهو من أسوأ أنواع التحريف لأنه تفسير للسكوت بالكلام وتفسير للتفويض بعدم التفويض ، كما سترى ! !
المذهب الثالث : مذهب التجسيم
وهو مذهب الذين حرَّموا تأويل الصفات ، وحرَّموا تفويض معناها إلى الله تعالى ، وأوجبوا حملها على ظاهر اللغة ، أي المعنى الحسي المادي .
وقد يبدو الفرق بينهم وبين المفوضين قليلاً ، ولكنه كبير ، لأن التفويض رأيٌ بالإمتناع عن تفسير الصفات ، والحمل على الظاهر تصويت بأن المراد منها معناها الحسي !
فكلمة ( يد الله ) عند المفوضين لا تعني القدرة كما يقول المتأولون ، ولا تعني الجارحة كما يقول الحسيون ، لأن معنى كونهم مفوضة أنهم متوقفون في معناها وممتنعون كلياً عن تفسيرها .
بل إن التفويض قد يجتمع مع نفي الظاهر الحسي منها واعتباره غير مراد ، وأن المعنى المراد منها مفوض إلى الله تعالى ، كما تقدم من قول النووي .
أما الحسيون فيقولون يجب حمل الكلمة على اليد الحقيقية لا المجازية !
وقد وصلت بهم الجرأة إلى أن أنكروا وجود المجاز في القرآن والحديث ، أي في اللغة العربية ، لأن القرآن والحديث إنما جاءا بهذه اللغة واستعملا ألفاظهما حسب قواعدها .
وإذا قلت لهم : تقصدون أن الله تعالى له جوارح ، يد ورجل وعين ، إلى آخره ؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 56 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يقولون : نعم له يد ، ولكن لا نقول كيد الإنسان ! غير أنهم يقولون ذلك في نقاشهم معك فقط ! لأنهم يعتقدون أن الله تعالى على صورة الإنسان ، فتكون جوارحه كجوارحه ، كما عرفت وستعرف من كلماتهم .
متى ظهرت مقولات التجسيم
إدعى بعض خصوم الشيعة أن هشاماً بن الحكم أول من قال بالتجسيم ، وهشام متكلم شيعي من تلاميذ الإمام جعفر الصادق عليه السلام توفي نحو سنة 200 هجرية ، كما سيأتي .
* فقد زعم المؤلف الوهابي الدكتور ناصر القفاري في كتابه أصول مذهب الشيعة الإمامية : 1/529 قائلاً :
( وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية أول من تولى كبر هذه الفرية من هؤلاء فقال : وأول من عرف في الإسلام أنه قال إن الله جسم هو هشام بن الحكم . منهاج السنة : 1/20 ) .
* وقال القفاري في 1 /530 – 531 : ( إذن تشبيه الله سبحانه بخلقه كان في اليهود وتسرب إلى التشيع ، لأن التشيع كان مأوى لكل من أراد الكيد للإسلام وأهله ، وأول من تولى كبره هشام بن الحكم ، ثم تعدى أثره إلى آخرين عرفوا بكتب الفرق بمذاهب ضالة غالية ، ولكن شيوخ الإثني عشرية يدافعون عن هؤلاء الضلال الذين استفاض خبر فتنهم واستطار شرهم ، ويتكلفون تأويل كل بائقة منسوبة إليهم أو تكذيبها، حتى قال المجلسي: ولعل المخالفين نسبوا إليهماهذين القولين معاندة.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 57 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأقول : أما إنكار بعض الشيعة لذلك فقد عهد منهم التكذيب بالحقائق الواضحات ، والتصديق بالأكاذيب البينات ، وأما دفاعهم عن هؤلاء الضلال فالشئ من معدنه لا يستغرب ، فهم يدافعون عن أصحابهم ، وقد تخصص طغام منهم للدفاع عن شذاذ الآفاق ومن استفاض شره وتناقل الناس أخبار مروقه وضلاله ) . انتهى .
ولو أن هذا الكاتب قرأ صحيح البخاري وغيره من مصادر الحديث ، لَلَمَس بيديه قبل عينيه أن مقولة التجسيم ظهرت في الناس في زمن عائشة كما تقدم ، أما أفكارها وأصلها فقد ظهر على يد كعب الأحبار وجماعته في زمن الخليفة عمر ، يعني قبل أن يولد جد هشام بن الحكم أو جد جده !
فقد روت مصادر إخواننا حديث أطيط العرش وصريره وأزيزه من ثقل الله تعالى بروايات صحيحة .
* منها : ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد :1/83 : ( عن عمر رحمه الله أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : أدع الله أن يدخلني الجنة ، فعظم الرب تبارك وتعالى وقال : إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله ، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ) .
* وقال عنه في مجمع الزوائد : 10/159 : ( رواه أبو يعلى في الكبير ورجاله رجال الصحيح ، غير عبد الله بن خليفة الهمذاني وهو ثقة ) .
* وقال عنه في كنز العمال ص 373 : ( ع ، وابن أبي عاصم ، وابن خزيمة ، قط في الصفات ، طب في السنة ، وابن مردويه ، ص ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 58 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* وقال عنه في :2/466 : ( ابن مردويه خط ص وج 6 ص 152 وقال : الخطيب من طريق أبي إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة الهمداني).
* وقال السيوطي في الدر المنثور :1/328 : ( وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي عاصم في السنة ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، وابن مردويه ، والضياء المقدسي في المختارة ، عن عمر أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : أدع الله أن يدخلني الجنة فعظم الرب تبارك وتعالى وقال : إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله ، ما يفضل منه أربع أصابع ) .
* وقال الديلمي في فردوس الأخبار : 3/86 : ( عمر بن الخطاب : على العرش استوى ، حتى يسمع أطيط كأطيط الرحل ) .
* وقال الخطيب في تاريخ بغداد : 1/295 : ( عن عبد الله بن خليفة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : على العرش استوى ، قال : حتى يسمع أطيط كأطيط الرحل ) .
* وقال في تاريخ بغداد : 4/39 : (عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك ، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله سبحان الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال له: ويحك ما تدري ما الله ؟ إن شأنه أعظم من ذلك ، إنه لا يستشفع به على أحد ، إنه لفوق سماواته على
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 59 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عرشه ، وإنه عليه هكذا وأشار بيده مثل القبة ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ) . انتهى .
* وقال الديلمي في فردوس الأخبار : 1/219 : ( ابن عمر : إن الله عز وجل ملأ عرشه ، يفضل منه كما يدور العرش أربعة أصابع ، بأصابع الرحمن عز وجل ) . انتهى .
ويلاحظ أن عبد الله بن عمر جعل العرش أكبر من حجم الله تعالى بأربع أصابع بأصابع الله تعالى ، وبما أن آدم في رواياتهم الصحيحة مخلوق على صورة الله تعالى وطوله ستون ذراعاً وفي بعضها سبعون ذراعاً ، فتكون إصبع ( معبودهم ) أكثر من متر !
* وروى أبو داود في سننه ص 418 : ( إن عرشه على سمواته لهكذا ، وقال بأصابعه مثل القبة عليه ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ، قال ابن بشار في حديثه : إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته ، وساق الحديث .
وقال عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عتبة ، وجبير بن محمد بن جبير ، عن أبيه ، عن جده ، والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح ، وافقه عليه جماعة منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني ، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضاً وكان سماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني . وقال في هامشه : أط الرحل : صوت أي أصدر صوتاً هو كصوت الطقطقة ) .
* وقال ابن الأثير في النهاية :1/54 : ( الأطيط : صوت الأقتاب ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها ، أي أنه ليعجز عن حمله وعظمته ، إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 60 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وفيما ذكرناه من حديث طقطقة العرش كفاية ، وقد روتها مصادر كثيرة مثل : فردوس الأخبار للديلمي : 1/220 ، ومجمع الزوائد :10/398 ، وكنز العمال : 1/224 و : 2/73 و :10/ 363 و367 و :14/469 .
ومن الواضح لمن له أدنى اطلاع أن مقولات التجسيم وأحاديثه ظهرت بعد النبي صلى الله عليه وآله وأن أصلها من يهود المدينة وكعب الأحبار ، ثم ظهرت من بعض الصحابة بصورة أحاديث نبوية ، ثم تعصب لها بعض إخواننا حتى جعلوها مذهباً.
وقد اختصت بروايتها وتصحيحها مصادر إخواننا السنة، ولم ترو مصادرنا منها شيئا ، بل روت رد أهل البيت عليهم السلام لها واستنكارهم إياها !
فهل يعرف الدكتور القفاري من أين دخل التجسيم في الإسلام ؟ !
وقد اقترب الشيخ محمد زاهد الكوثري وهو باحث من علماء الأزهر من الحقيقة عند ما اعترف بأن جذور التشبيه والتجسيم إنما هي من رواة إخواننا السنة ، ولكنه حمل مسؤليتها لمجسمي التابعين ومن بعدهم ، ولم يجرأ على نسبة رواياتها إلى الصحابة.. قال في مقدمته لكتاب الأسماء والصفات للبيهقي:
( للمحدثين ورواة الأخبار منزلة عليا عند جمهرة أهل العلم ، لكن بينهم من تعدى طوره وألف فيما لا يحسنه ، فأصبح مجلبة العار لطائفته بالغ الضرر لمن يسايره ويتقلد رأيه !
ومن هؤلاء غالب من ألف منهم في صفات الله سبحانه ، فدونك مرويات حماد بن سلمة في الصفات تجدها تحتوي على كثير من الأخبار التالفة يتناقلها الرواة طبقة عن طبقة ، مع أنه قد تزوج نحو مائة امرأة من غير أن يولد له ولد منهن ، وقد فعل هذا التزواج والتنكاح في الرجل فعله بحيث أصبح في غير حديث ثابت البناني لا يميز بين مروياته الأصلية وبين ما دسه في كتبه أمثال
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 61 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ربيبه ابن أبي العوجاء وربيبه الآخر زيد المدعو بابن حماد ، بعد أن كان جليل القدر بين الرواة قوياً في اللغة ، فضل بمروياته الباطلة كثير من بسطاء الرواة .
ويجد المطالع الكريم نماذج شتى من أخباره الواهية في باب التوحيد من كتب الموضوعات المبسوطة ، وفي كتب الرجال ، وإن حاول أناس الدفاع عنه بدون جدوى ، وشرع الله أحق بالدفاع من الدفاع عن شخص ، ولا سيما عند تراكب التهم القاطعة لكل عذر .
وفعلت مرويات نعيم بن حماد أيضاً مثل ذلك بل تحمسه البالغ أدى به إلى التجسيم كما وقع مثل ذلك لشيخ شيخه مقاتل بن سليمان .
ويجد آثار الضرر الوبيل في مروياتهما في كتب الرواة الذين كانوا يتقلدونها من غير معرفة منهم لما هنالك ، فدونك كتاب الإستقامة لخشيش بن أصرم ، والكتب التي تسمى السنة لعبد الله وللخلال ، ولأبي الشيخ ، وللعسال، ولأبي بكر بن عاصم، وللطبراني، والجامع، والسنة والجماعة لحرب بن إسماعيل السيرجاني ، والتوحيد لابن خزيمة ، ولابن مندة ، والصفات للحكم بن معبد الخزاعي ، والنقض لعثمان بن سعيد الدارمي ، والشريعة للآجري ، والإبانة لأبي نصر السجزي ، ولابن بطة ، ونقض التأويلات لأبي يعلي القاضي ، وذم الكلام والفاروق لصاحب منازل السائرين . .
تجد فيها ما ينبذه الشرع والعقل في آن واحد ولا سيما النقض لعثمان بن سعيدالدارمي السجزي المجسم فإنه أول من اجترأ من المجسمة بالقول إن الله لو شاء لاستقر على ظهربعوضة فاستقلت به بقدرته ، فكيف على عرش عظيم!!
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 62 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وتابعه الشيخ الحراني ( ابن تيمية ) في ذلك كما تجد نص كلامه في غوث العباد المطبوع سنة 1351 بمطبعة الحلبي . وكم لهذا السجزي من طامات مثل إثبات الحركة له تعالى وغير ذلك !
وكم من كتب من هذا القبيل فيها من الأخبار الباطلة والآراء السافلة ما الله به عليم ، فاتسع الخرق بذلك على الراقع وعظم الخطب إلى أن قام علماء أمناء برأب الصدع نظراً ورواية وكان من هؤلاء العلماء الخطابي، وأبو الحسن الطبري ، وابن فورك ، والحليمي ، وأبو إسحاق الاسفرايني ، والأستاذ عبد القاهر البغدادي ، وغيرهم من السادة القادة الذين لا يحصون عدداً ). انتهى .
وهكذا يعترف المنصفون من علماء إخواننا السنة بأن ما في صحاحهم من أحاديث الرؤية والتشبيه والتجسيم ترجع كلها أو جلها إلى حماد بن سلمة ونعيم بن حماد ومقاتل بن سليمان ووهب بن منبه وأستاذهم جميعاً كعب الأحبار !
ولكنهم لا يجرأون على الصعود إلى الصحابة الذين تبنوا كعباً وأفكار كعب ونشروها بين المسلمين بل وألبسوها ثوباً إسلامياً ! !
متى تحولت عقيدة كعب في تجسيم الله تعالى إلى مذهب
* قال الشهرستاني في الملل والنحل :1/ 93 طبع الحلبي القاهرة 1968 :
( إعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية : من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة ، ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل ، بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 63 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ولا يؤولون ذلك ، إلا أنهم يقولون هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية . ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون ، سمي السلف صفاتية ، والمعتزلة معطلة ، فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات ، واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر ، فاقترفوا فيه فرقتين ، فمنهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ذلك ، ومنهم من توقف في التأويل وقال عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شئ ، فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شئ منها وقطعنا بذلك ، إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى ، ومثل قوله : خلقت بيدي ، ومثل قوله : وجاء ربك ، إلى غير ذلك ، ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها بل التكليف ورد بالإعتقاد بأن لا شريك له وليس كمثله شئ وذلك قد أثبتناه يقيناً .
ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا : لا بد من إجرائها على ظاهرها ، والقول بتفسيرها كما وردت ، من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر ، فوقعوا في التشبيه الصرف ، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف ، ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود لا في كلهم ، بل في القرائين منهم إذ وجدوا في التوراة ألفاظا تدل على ذلك ) . انتهى .
هذا النص من الشهرستاني ( 469 - 548 ) يدل على أن المجسمة أخذوا شكل مذهب ولكنه كان محدوداً وطارئاً على علماء إخواننا السنة ، وأنهم ظهروا متأخراً وتجاوزوا ما رسمه القدماء من تحريم تفسير آيات الصفات وأحاديثها ، ففسروها بظاهر اللغة ووقعوا في التجسيم !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 64 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ولذلك شبههم بالقرائين اليهود الذين كان التشبيه فيهم خالصاً على حد قوله ، وهو يشير بذلك أن التجسيم في هؤلاء المسلمين كان مخلوطاً غير خالص ، وذلك لخوفهم من المسلمين !
وشهادة الشهرستاني هذه تتوافق مع شهادة ابن خلدون التالية وغيره ممن أرخ لنشوء هذا المذهب ، أو هذا الدين الذي آمن بمادية الله تعالى ! !
* قال ابن خلدون في مقدمته ص 462 :
( وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة ، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها ، ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها ، ثم وردت في القرآن آيٌ أخرى قليلة توهم التشبيه ، وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل ، وهذا معنى قول الكثير منهم إقرؤوها كما جاءت ، أي آمنوا بأنها من عند الله ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء ، فيجب الوقف والإذعان لها ، وشذ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات وتوغلوا في التشبيه ، ففريق أشبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملاً بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة، لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والإفتقار ، وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية .
وجمع فريق بين الدليلين بتأويلهم ، ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم : جسم لا كالأجسام ، وليس ذلك بدافع عنهم ، لأنه قول متناقض وجمع بين نفي
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 65 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وإثبات إن كان بالمعقولية الواحدة من الجسم ، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم إسماً من أسمائه ، ويتوقف مثله على الإذن . وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك ، وآل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات ، جهة لا كالجهات ، نزول لا كالنزول ، يعنون من الأجسام ، واندفع ذلك بما اندفع به الأول ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي ، لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها ، مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن ) . انتهى .
وهكذا ترى أن مشكلة التجسيم في أصولها الفكرية ثم في شكلها المذهبي هي بنت يهودية سنية ، لا نسب لها عند أحد من الشيعة ، إلا ما اتهموا به هشام بن الحكم بدون دليل ! !
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 66 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 67 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثالث : الحنابلة والتجسيم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 68 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 69 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الجمود على الألفاظ أرضية التجسيم
تدل مصادر الكلام والسير على أن أنصار مذهب التجسيم أكثر ما كانوا من أتباع الدولة ، ومن الحشوية الذين يتشبثون بكل ما يروى بدون فهم ، وسيأتي كلام ابن الجوزي أنه ( عمَّ جَهَلَةَ الناقلين وعموم المحدثين ) وكثر هؤلاء في الحنابلة من بين المذاهب .
وقد حاول بعضهم أن يبرئ الحنابلة من التجسيم ، ولكنه أمر ثابت عن كثير منهم ، بل هو معروف عنهم حتى أن الزمخشري نقل هذه الأبيات في الكشاف :2 /573 طبع مصر عام 1307 :
إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به أكتمه ، كتمانه لي أَسْلَمُ
فإن حنفياً قلت قالوا بأنني أبيح الطلا وهو الشراب المحرم
وإن حنبلياً قلت قالوا بأنني ثقيل حُلُوليٌّ بغيضٌ مجسِّمُ
* وقال الفخر الرازي في المطالب العالية مجلد 2 جزء 2 ص 25 :
( الفصل الثالث في إقامة الدلائل على أنه تعالى يمتنع أن يكون جسماً .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 70 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لأهل العلم في هذا الباب قولان : فالجمهور الأعظم منهم اتفقوا على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الجسمية والحصول في الحيِّز ، وقال الباقون إنه متحيز وحاصل في الحيز ، وهؤلاء هم المجسمة .
ثم القائلون بأنه جسم اختلفوا في أشياء ، فالأول : أنهم في الصورة على قولين ، منهم من قال إنه على صورة الإنسان ومنهم من لا يقول به . أما الأول فالمنقول عن مشبهة المسلمين أنه تعالى على صورة إنسان شاب ، والمنقول عن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ .
والموضع الثاني من مواضع الإختلافات : أن المجسمة اختلفوا في أنه هل يصح عليه الذهاب والمجيء والحركة والسكون ، فأباه بعض الكرامية وأثبته قوم منهم ، وجمهور الحنابلة يثبتونه ) .
* وقال في المطالب العالية مجلد1 جزء 1 ص 26: ( إن المجسمة اختلفوا في أنه هل يصح عليه الذهاب والمجيء ، القائلون بأنه نور ينكرون الأعضاء والجوارح مثل الرأس واليد والرجل ، وأكثر الحنابلة يثبتون هذه الأعضاء والجوارح ) .
* وقال الخطابي في معالم السنن : 4/302 : ( مذهب العلماء والأئمة الفقهاء أن يجروا مثل هذه الأحاديث ( أحاديث الصفات ) على ظاهرها وأن لا يريغوا لها المعاني ولا يتأولوها لعلمهم بقصور علمهم عن دركها ، وقد زل بعض شيوخ أهل الحديث حين روى حديث النزول ثم أقبل يسأل نفسه عليه فقال : إن قال قائل ينزل ربنا إلى السماء ؟ قيل له ينزل كيف شاء ، فإن قال هل يتحرك ؟ فقال : إن شاء ، وإن شاء لم يتحرك ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 71 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقد تبنى الخطابي بكلامه المذكور مذهب التفويض ، وإن عبر بإجراء الصفات على ظاهرها ، أي بإبقائها على ظاهرها بدون تفسير ، وإنما أوردنا كلامه هنا لنبين أن هذا التعبير الذي جاء على لسان بعض المفوضة ، كان البذرة لولادة المذهب الثالث ، والقشة التي تمسك بها أصحابه فادعوا أن تعابير القدماء بإبقاء الآيات والأحاديث على ظاهرها ، والتوقف على ظاهرها ، وإقرارها وإمرارها كما هي ، أو كما جاءت ، أو كما وردت ، قصدوا به تفسيرها بظاهر اللغة الحسي الذي هو التجسيم بعينه .
ويظهر من آخر نص الذهبي التالي ، أن الغزالي قاد موجة ضد التجسيم والمجسمين ، قال في سيره: 17/558: ( قلت : فهذا المنهج هو طريقة السلف ، وهو الذي أوضحه أبو الحسن وأصحابه ، وهو التسليم لنصوص الكتاب والسنة ، وبه قال ابن الباقلاني ، وابن فورك ، والكبار إلى زمن أبي المعالي ، ثم زمن الشيخ أبي حامد ، فوقع اختلاف وألوان ، نسأل الله العفو ) . انتهى .
وهو يدل على أن اتجاه التجسيم إنما قوي في عصر السلاجقة على يد أبي المعالي الجويني النيشابوري المعروف بإمام الحرمين المتوفى سنة 478 هـ الذي طرده أهل نيشابور منها ، ثم تبناه السلاجقة وعينوه شيخا في المدرسة النظامية ببغداد ، فتبنى في آخر عمره هذا المذهب بعد أن كان متأولاً .
ثم جاء الغزالي بعده فخالفه وأحدث موجة لمصلحة المتأولين ، وإن كان الملاحظ أن الغزالي حاول إرضاء المجسمة في عدد من تفسيراته .
ويحسن مراجعة كتاب ( العقائد الإسلامية ) المجلد الثاني فقد عقدنا فيه فصلاً عن مكانة المشبهين والمجسمين في مصادر السنيين .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 72 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 73 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الرابع : ابن تيمية مجدد تجسيم الحنابلة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 74 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 75 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ابن تيمية مجدد تجسيم الحنابلة
* قال ابن بطوطة في رحلته ص 90 : ( وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة قي الدين بن تيمية كبير الشام ، يتكلم في الفنون ، إلا أن في عقله شيئاً ، وكنت إذ ذاك دمشق ، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم ، فكان من ملة كلامه أن قال : إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ! ونزل ربعة من ربع المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به ، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته ! ) .
* وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 170 : ( قال ابن تيمية في كتابه الموافقة 1118 بهامش منهاج سنته ( فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد ) .
* وقال ابن تيمية في تفسيره :6/386 :
( ولهذا صار للناس فيما ذكر الله في القرآن من الاستواء والمجيء ونحو ذلك ستة أقوال : طائفة يقولون : تجري على ظاهرها ، ويجعلون إتيانه من جنس إتيان
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 76 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المخلوق ونزوله من جنس نزولهم ، وهؤلاء المشبهة الممثلة ، ومن هؤلاء من يقول : إذا نزل خلا منه العرش فلم يبق فوق العرش .
وطائفة يقولون : بل النصوص على ظاهرها اللائق به كما في سائر ما وصف به في نفسه ، وهو ليس كمثله شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، ويقولون : نزل نزولا يليق بجلاله ، وكذلك يأتي إتيانا يليق بجلاله ، وهو عندهم ينزل ويأتي ولم يزل عالياً وهو فوق العرش ، كما قال حماد بن زيد: هو فوق العرش يقرب من خلقه كيف شاء ، وقال إسحاق بن راهويه : ينزل ولا يخلو منه العرش، ونقل ذلك عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد. وتفسير النزول بفعل يقوم بذاته هو قول علماء أهل الحديث ، وهو الذي حكاه أبو عمر بن عبد البر عنهم ، وهو قول عامة القدماء من أصحاب أحمد، وقد صرح به ابن حامد وغيره . والأول نفي قيام الأمور الإختيارية ، هو قول التميمي موافقة منه لابن كلاب، وهو قول القاضي أبي يعلى وأتباعه، وطائفتان يقولان : بل ينزل ولا يأتي كما تقدم ، ثم منهم من يتأول ذلك ومنهم من يفوض معناه .
وطائفتان واقفتان ، منهم من يقول ما ندري ما أراد الله بهذا ، ومنهم من لا يزيد على تلاوة القرآن .
وعامة المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف يبطلون تأويل من تأول ذلك بما ينفي أن يكون هو المستوي الآتي. لكن كثيراً منهم يرد التأويل الباطل ويقول: هو مما يكتم تفسيره ! ) انتهى .
* وقال ابن تيمية في تفسيره: 6/118: ( والمقصود هنا أن علوه من صفات المدح اللازمة له فلا يجوز اتصافه بضد العلو البتة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( أنت الأول فليس قبلك شئ ، أنت الآخر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 77 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فليس بعدك شئ ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ ، وأنت الباطن فليس دونك شئ ) ، ولم يقل تحتك !
وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير هذا الموضع ، وما في الكتاب والسنة من قوله : أأمنتم من في السماء ، ونحو ذلك ، قد يفهم منه بعضهم أن السماء هي نفس المخلوق العالي ، العرش فما دونه ، فيقولون : قوله في السماء بمعنى على السماء كما قال : ولأصلبنكم في جذوع النخل أي على جذوع النخل وكما قال : فسيروا في الأرض ، أي على الأرض ، ولا حاجة إلى هذا ، بل السماء اسم جنس للعالي لا يخص شيئاً ، فقوله : في السماء أي في العلو دون السفل ، وهو العلي الأعلى فله أعلى العلو وهو ما فوق العرش ، وليس هناك غير العلي الأعلى سبحانه وتعالى ) . انتهى .
* وقال في الرسالة التدمرية ص 39 : ( إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي ، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شئ عليم وعلى كل شئ قدير وأنه سميع بصير ونحو ذلك ، والنفي كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم ، وينبغي العلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً ، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال ، لأن النفي المحض عدم محض ، و العدم المحض ليس بشيء ، وما ليس بشيء فهو كما قيل : ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحا أو كمالا ، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع ، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال ، فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح . . .
وكذلك قوله : لا تدركه الأبصار ، إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة ، كما قاله أكثر العلماء ، ولم ينف مجرد الرؤية لأن المعدوم لا يرى ، وليس في كونه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 78 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لا يرى مدح ، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً ، وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رؤي ، كما أنه لا يحاط به وإن علم ، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً فكذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية ) .
* وقال في الرسالة التدمرية ص 47 : ( إذا قال القائل : ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد ؟ فإنه يقال : لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك ، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهره ، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً !
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال .
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين : تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ، ولا يكون كذلك ، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ ، لاعتقادهم أنه باطل ) . انتهى .
* وقال في الرسالة التدمرية ص 72 : ( فلا يجوز أن يقال : إن هذا اللفظ متأول ، بمعنى أنه مصروف عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح ، فضلاً عن أن يقال إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله ، اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف ظاهره المختص بالخلق . فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا لا بد وأن يكون له تأويل يخالف ظاهره لكن إذا قال هؤلاء : إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر ، أو أنها تجري على المعاني الظاهرة منها كانوا متناقضين، وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهناك معنى في سياق واحد من غير بيان كان تلبيساً ، وإن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 79 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ أن تجرى على مجرد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه ، كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضاً ، لأن من أثبت تأويلاً أو نفاه فقد فهم معنى من المعاني .
وبهذا التقسيم : يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب ) .
* وقال في الرسالة التدمرية ص 55 : ( ثم قد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله ، فالهواء فوق الأرض وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض ، والسحاب أيضاً فوق الأرض وليس مفتقراً إلى أن تحمله ، والسموات فوق الأرض وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها ، فالعلي الأعلى رب كل شئ ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه أو عرشه ، أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الإفتقار ، وهو ليس بمستلزم في المخلوقات ، وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق به وأولى ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة ، وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن ، فهذه الجملة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك ) . انتهى .
* قال في الرسالة التدمرية ص 75 : ( فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل : كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك ، ثم يقول لهم أولئك : هب أن هذا المعنى قديسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً ، فهذا المعنى لا ينفيه عقل ولا سمع ، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية ، والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ، ونحو ذلك ولكن يقولون
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 80 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفؤه ولا نده ، فلا يدخل في النص . وأما العقل : فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة ) . انتهى .
* وقال في الرسالة التدمرية ص 90 : ( والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب ، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل ، وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل ، إذ ذاك من صفات الكمال ، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد ، وعن آلات ذلك وأسبابه ، وكذلك البكاء و الحزن هو مستلزم الضعف والعجز ، الذي ينزه عنه سبحانه ، بخلاف الفرح والغضب : فإنه من صفات الكمال ! )
* وقال في الرسالة التدمرية ص 95 : ( والمقصود هنا أن منها ( صفات الله تعالى ) ما قد يعلم بالعقل ، كما يعلم أنه عالم وأنه قادر وأنه حي ، كما أرشد إلى ذلك قوله : ألا يعلم من خلق ، وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات على أنه يعلم بالعقل (عند المحققين ) أنه حي عليم قدير مريد ، وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل ، عند المحققين منهم ، بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن إثباته بالعقل ، وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل ، كما أثبته بذلك الأئمة مثل أحمد بن حنبل وغيره ومثل عبد العالي المكي ، وعبد الله بن سعيد بن كلاب ، بل وكذلك إمكان الرؤية يثبت بالعقل ، لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته ، وهذه الطريق أصح من تلك ، وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين ، بتقسيم دائر بين النفي والإثبات كما يقال : إن الرؤية لا تتوقف إلا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 81 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
على أمور وجودية ، فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدث ) . انتهى .
مقومات مذهب ابن تيمية
هذه جملة نصوص لابن تيمية من تنظيراته لمذهبه ، وسيأتي عدد آخر منها ، ويكفي لكشف التجسيم فيها أن نسجل هنا النقاط التالية :
أولاً : يرفض ابن تيمية تفويض تفسير الصفات إلى الله تعالى لأنه ( من شر أقوال أهل البدع والإلحاد ) وكأن الإمتناع عن تفسير ( وجه الله ويد الله ) يعني في ذهنه إنكار وجود الله عز وجل ! !
ثانياً : يوجب ابن تيمية حمل صفات الله تعالى الواردة في القرآن والسنة على ظاهرها الحقيقي في اللغة أي المعنى المادي الحسي ، ويرفض حملها على المجاز ، لأنه لا مجاز في القرآن والحديث !
ثالثاً : الله تعالى في مذهبه ، موجود فوق العالم ليس فوقه شئ إلا الهواء كما سيأتي منه ، ولكن تحته شئ هو هذا العالم ( ولم يقل تحتك ) وهو موجود على عرشه وربما ينزل إلى العالم ، وهو يرى بالعين لأن الرؤية لا تتوقف ( إلا على أمور وجودية فيكون الموجود الواجب القديم أحق بها من الممكن المحدث). وقد ذكر دليلاً على استغناء الله تعالى عن العالم يضحك حتى عوام الناس ، وهو أن وجود كل عالٍ مستغنٍ عن وجود ما هو أسفل منه ! !
فأغصان الشجرة عنده مستغنية عن جذعها ، والطابق الأعلى مستغن عن الأسفل ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 82 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
رابعاً : نزول الله تعالى إلى العالم وإلى سمائنا الدنيا عند ابن تيمية نزول بذاته فقد قال ( وتفسير النزول بفعل يقوم بذاته هو قول علماء أهل الحديث ... ) ويضاف إلى ذلك شهادة ابن بطوطة في رحلته ، فيكون النزول عنده نزولاً حسياًلموجود مادي! ولا يبقى قيمة لعباراته التي حاول فيها التخلص من ذلك.
خامساًً : دافع ابن تيمية عن مذهبه بأنه ليس تشبيهاً لله تعالى بخلقه ، لأنه قال له وجه حسي ولم يقل كوجه الإنسان أو غيره ، وقال له يد حسية ولم يقل كيد الإنسان أو غيره وذلك كاف عنده للخروج عن تهمة التشبيه !
ثم خرج عن التشبيه احتياطاً بأمر آخر فقال نحمل النصوص على ظاهرها الحسي ونقول ( الظاهر اللائق بالله تعالى ) وليس على ظاهرها غير اللائق !
سادساً : ثم تقدم ابن تيمية خطوة جريئة في إثبات التشبيه فقال ( هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً ، فهذا المعنى لا ينفيه عقل ولا سمع ، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية ) لا أكثر !
ويقصد بذلك أن الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة إنما نفت عن الله تعالى الند والشريك والمثل والكفء ، ولم تنف عنه الشبيه الذي نفاه من فسر قوله تعالى ( ليس كمثله شئ ) وهم أكثر المسلمين من الشيعة والسنة والفلاسفة والمعتزلة ، فلا مانع أن ننفي عنه تعالى المثل الذي نفته النصوص ، ولا ننفي عنه تشبيهه بخلقه ! ! فما المانع أن يكون شبيها بخلقه ما دام هو لم ينف ذلك ؟ ! !
وهكذا يجاهر ابن تيمية بأن قوله تعالى ( ليس كمثله شئ ) يعني نفي المثلية فقط ! ولا يعني نفي الشبيه ، فإن لله شبيها عنده هو آدم . . . وشبيهاً آخر هو . . ابن تيمية ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 83 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
سابعاًً : وإذاناقشته بأنك عندما تنفي التأويل والتفويض وتصر على التفسير بالظاهر ، فلا معنى لذلك إلا أنك تقول بالتجسيم ، فيقول لك ( وعامة المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف يبطلون تأويل من تأول ذاك بما ينفي أن يكون هو المستوي على العرش الآتي ، لكن كثيراً منهم يرد التأويل الباطل ويقول : أو مما يكتم تفسيره ) .
وهكذا يقرر ابن تيمية أن تشبيه الله تعالى بخلقه لا مانع منه ، والتفسير بالتجسيم يجب أن يكتم ! !
وأن معبوده موجود في منطقة فوق السماء التي نراها ، وأنه وجود مادي جالس على العرش ، وأنه متناه من جهة تحت ، أما من جهة فوق فليس فوقه شئ إلا الهواء ! وأنه يتحرك وينزل بذاته إلى الأرض !
ولا يقول إنه يصعد كما قال أستاذه ابن خزيمة . . إلى آخر مقولاته الغريبة تعالى الله وتقدس عنها ! وستأتي بقية جوانب مذهبه في الرد على أتباعه الوهابيين ، إن شاء الله .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 84 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 85 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الخامس : الذهبي وارث ابن تيمية
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 86 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 87 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الذهبي وارث ابن تيمية
الوارث المعروف لابن تيمية هو ابن قيم الجوزي ، ولكن الذهبي وارث خفي لم يسلط الضوء عليه ، لذلك رجحنا أن نخصه بالبحث .
* قال السبكي في طبقات الشافعية في :2/13 واصفاً ميل الذهبي إلى التجسيم والمجسمة :
( ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح في العقيدة فجرحه لذلك ، وإليه أشار الرافعي بقوله : وينبغي أن يكون المزكون براء من الشحناء والعصبية في المذهب خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح جدل أو تزكية فاسق ، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة جرحوا بناء على معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصيب ، وقد أشار شيخ الإسلام سيد المتأخرين تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه الإقتراح إلى هذا وقال : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 88 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والحكام . ومن ذلك قول بعض المجسمة في أبي حاتم بن حبان : لم يكن له كبير دين . نحن أخرجناه من سجستان لأنه أنكر الحد لله !
فيا ليت شعري من أحق بالإخراج من يجعل ربه محدوداً أو من ينزهه عن الجسمية ؟ ! وأمثلة هذا تكثر ، وهذا شيخنا الذهبي من هذا القبيل له علم وديانة وعنده على أهل السنة تحمل مفرط ، فلا يجوز أن يعتمد عليه ) .
* وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 315 :
( الغريب أن المبتدعة يقولون : لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ثم يقولون : استوى على العرش بذاته ، فمن أين جاءوا بلفظة ( بذاته ) هذه ! وأين وردت في الكتاب والسنة !
وهي لفظة تفيد التجسيم صراحة ، وتؤيد قول أئمتهم ( بجلوس معبودهم على العرش حتى يفضل منه مقدار أربع أصابع ) !
وقد وقع ذلك للخلال فنقل في كتابه ( السنة ) عن مجاهد بسند ضعيف أكثر من خمسين مرة تفسير المقام المحمود الوارد في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ، بجلوس الرب تعالى عما يقولون على العرش وإجلاسه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بجنبه في الفراغ المقدر عندهم بأربع أصابع !
وقد أنكر الحافظ الذهبي الذي تعدل مزاجه فيما بعد شبابه ورجع عما أسلف في كتابه سير أعلام النبلاء على من زاد لفظة ( بذاته ) بعد العلو أو الإستواء ونحوهما فقال هنالك ما نصه ( قد ذكرنا أن لفظة بذاته لا حاجة إليها وهي تشغب النفوس ) . انتهى .
ولكن الباحث السقاف لم يلتفت إلى أن الذهبي لم ينف ولو مرة واحدة نزول الله تعالى بذاته !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 89 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* ويتضح ذلك من مراجعة كلام الذهبي في سيره : 19/605 قال :
( أبو الحسن بن الزاغوني الإمام العلامة شيخ الحنابلة ، قال ابن الجوزي : صحبته زماناً وسمعت منه وعلقت عنه الفقه والوعظ ، ومات في سابع عشر المحرم سنة سبع وعشرين وخمس مئة ، وكان الجمع يفوق الاحصاء قال ابن الزاغوني في قصيدة له :
إني سأذكر عقد ديني صادقاً نهج ابن حنبل الإمام الأوحد
منها :
عال على العرش الرفيع بذاته سبحانه عن قول غاوٍ ملحد
قد ذكرنا أن لفظة بذاته لا حاجة إليها وهي تشغب النفوس ، وتركها أولى والله أعلم ) . انتهى .
ولو سلمنا أن هذه العبارة من كلام الذهبي فلابد أن نفسرها بما يتناسب مع مذهبه ، ومذهبه هو الجلوس الحسي لله تعالى على العرش ونزوله الحسي إلى السماء الدنيا !
غاية الأمر أنه يرى أن ترك الكلام في لوازم مذهبه أولى ، لأن كلمة بذاته ثقيلة على نفوس المسلمين فلا ( ينبغي ) أن تقال ، بل يجب أن تبقى من أسرار المذهب وتقال لأهلها فقط !
ويدل على ذلك أن الذهبي ساق ترجمة الزاغوني شيخ الحنابلة وذكر تكفيره فيها للمسلمين غير المجسمة ، ولم ينكر عليه ذلك ، بل كأنه ارتضاه !
* ويؤيد ذلك ما قاله الذهبي في سيره :20 /331 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 90 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( ومسألة النزول فالإيمان به واجب وترك الخوض في لوازمه أولى وهو سبيل السلف ، فما قال هذا نزوله بذاته إلا إرغاماً لمن تأوله وقال نزوله إلى السماء بالعلم فقط ، نعوذ بالله من المراء في الدين !
وكذا قوله : وجاء ربك ونحوه ، فنقول جاء وينزل ، وننهى عن القول ينزل بذاته ، كما لا نقول ينزل بعلمه ، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول صلى الله عليه وسلم بعبارات مبتدعة ! ) انتهى .
فقد رد الذهبي تأويل النزول بغير ذاته، وفي نفس الوقت اعتبر أن الذي قال بذاته معذور لأنه قاله إرغاماً لمن تأوله وجادله وماراه في الدين ، وهذا يدل على أنه يتبنى نزول الله بذاته ، ولكنه نهى جماعته المجسمة عن القول ( نزل بذاته ) حتى لا يثيروا الآخرين عليهم !
ويكمن مذهب الذهبي في قوله ( وترك الخوض في لوازمه أولى ) فهو يعرف أن للنزول الحسي لوازم وهو يؤمن بها ، ولكن عدم ذكرها أولى ! أما إذا قال ذلك أحد مضطراً في مقابل خصمه فهو معذور ولا بأس به !
ويؤيد ذلك ما قاله في ترجمة المجسم المسمى ( كوتاه ) الذي هجره شيخه لأنه كان يقول ( نزل بذاته ) واستقبله المجسمة في الشام، قال في تذكرة الحفاظ: 4/13 : ( كوتاه - كلمة فارسية بمعنى قصير - الحافظ الإمام المفيد أبو مسعود عبد الجليل بن محمد قال أبو موسى المديني : أوحد وقته في علمه مع حسن طريقته وتواضعه ، وهو من مقدمي أصحاب شيخنا إسماعيل الحافظ ، حضرت مجلس أماليه وسمعت أبا القاسم الحافظ بدمشق يثني عليه ثناء حسنا ويفخم أمره ويصفه بالحفظ والإتقان !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 91 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قلت : وسمع بنيسابور من عبد القاهر الشيروي وببغداد من طائفة ، وكان يقول ينزل بذاته فهجره شيخه إسماعيل لإطلاق هذه العبارة ، وقد روى عنه الحافظ ابن عساكر والحافظ يوسف الشيرازي ) . انتهى .
ويؤيد ذلك أيضاً دفاعه ومدحه للحافظ عبد الغني المشهور بالتجسيم !
* قال في سيره : 21/ 463 : ( قلت : وذكر أبو المظفر الواعظ في مرآة الزمان قال : كان الحافظ عبد الغني يقرأ الحديث بعد الجمعة قال : فاجتمع القاضي محيي الدين ، والخطيب ضياء الدين ، وجماعة فصعدوا إلى القلعة وقالوا لواليها : هذا قد أضل الناس ، ويقول بالتشبيه، فعقدوا له مجلساً فناظرهم ، فأخذوا عليه مواضع : منها قوله : لا أنزهه تنزيها ينفي حقيقة النزول ، ومنها : كان الله ولا مكان ، وليس هو اليوم على ما كان .
ومنها : مسألة الحرف والصوت ، فقالوا : إذا لم يكن على ما كان فقد أثبت له المكان ، وإذا لم تنزهه عن حقيقة النزول فقد جوزت عليه الإنتقال ، وأما الحرف والصوت فلم يصح عن إمام كـ ( ابن حنبل ) وإنما قال إنه كلام الله ، يعني غير مخلوق ، وارتفعت الأصوات ، فقال والي القلعة الصارم برغش : كل هؤلاء على ضلالة وأنت على الحق ؟ قال : نعم فأمر بكسر منبره . قال :
وخرج الحافظ إلى بعلبك ، ثم سافر إلى مصر ، إلى أن قال : فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه ، وقالوا : يفسد عقائد الناس ، ويذكر التجسيم ، فكتب الوزير بنفيه إلى المغرب ، فمات الحافظ قبل وصول الكتاب .
وقال أيضاً : وفي ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمس مئة كان ما اشتهر من أمر الحافظ عبد الغني وإصراره على ماظهر من اعتقاده وإجماع الفقهاء على
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 92 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفتيا بتكفيره ، وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين ، فسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل عن البلد فأجيب .
قلت : قد بلوت على أبي المظفر ( ابن الجوزي ) المجازفة وقلة الورع فيما يؤرخه والله الموعد ، وكان يترفض ، رأيت له مصنفاً في ذلك فيه دواه ، ولو أجمعت الفقهاء على تكفيره كما زعم لما وسعهم إبقاؤه حياً ، فقد كان على مقالته بدمشق أخوه الشيخ العماد والشيخ موفق الدين ، وأخوه القدوة الشيخ أبو عمر ، والعلامة شمس الدين البخاري ، وسائر الحنابلة ، وعدة من أهل الأثر ، وكان بالبلد أيضاً خلق من العلماء لا يكفرونه ، نعم ولا يصرحون بما أطلقه من العبارة لما ضايقوه ( ؟ ) ولو كف عن تلك العبارات ، وقال بما وردت به النصوص لاجاد ولسلم فهو ( الأولى ) فما في توسيع العبارات الموهمة خير ، وأسوأ شئ قاله أنه ضلل العلماء الحاضرين ، وأنه على الحق ، فقال كلمة فيها شر وفساد وإثارة للبلاء ، رحم الله الجميع وغفر لهم ، فما قصدهم إلا تعظيم الباري عز وجل من الطرفين ، ولكن الأكمل في التعظيم والتنزيه الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنة ، وهذا هو مذهب السلف رضي الله عنهم . وبكل حال فالحافظ عبد الغني من أهل الدين والعلم والتأله والصدع بالحق ، ومحاسنه كثيرة ، فنعوذ بالله من الهوى والمراء والعصبية والإفتراء ، ونبرأ من كل مجسم ومعطل ) . انتهى.
وقد كان الذهبي بارعاً في محاولته إلصاق مذهبه ومذهب أستاذه ابن تيمية بمفوضة السلف ، حيث استغل سكوتهم وفسره بأنه تبن للتفسير الحسي !
* قال في سيره : 10/505: ( قلت قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم وما أبقوا ممكناً، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 93 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أصلاً وهي أهم الدين ، فلو كان تأويلها سائغاً أو حتماً لبادروا إليه ، فعلم قطعاً أن قراءتها وإقرارها على ما جاءت هو الحق ، لا تفسير لها غير ذلك ، فنؤمن بذلك ونسكت اقتداء بالسلف ) . انتهى .
وقد ارتكب في هذا النص تحريفاً وألبسه ثوب الإستدلال ! وهي جرأة قلما توجد عند أسلافه من المجسمة !
ويتضح ذلك بالمثال التالي : إذا كان عندنا مادة قانونية وكان لها تفسير بالظاهر الحقيقي وتفسير آخر بالمجاز ، وامتنع شخص عن تفسيرها ، فقال أنا متوقف وأفوض معناها إلى مدون القانون ، فهل تجرؤ أنت أن تقول له : ما دمت توقفت عن تفسيرها فأنت تفسرها بالظاهر مثلي قطعاً ؟
بالطبع لا تجرؤ على ذلك ، لأنه سيقول لك : يا أخي أنا متوقف ، يعني ممتنع عن كل تفسير ، فكيف تلصق بي تفسيرها بالظاهر ؟ !
ولكن الذهبي يجرؤ ويقول ( فعلم قطعاً أن قراءتها وإقرارها على ما جاءت هو الحق ، لا تفسير لها غير ذلك ! ) يعني غير الظاهر الحسي !
ثم قال ( فنؤمن بذلك ونسكت اقتداء بالسلف ) يعني نؤمن بحملها على الظاهر المادي ثم نسكت عن لوازم المذهب اقتداء بالمفوضة ! !
وقد راجعت كلمات قدماء علماء السنة فوجدتها كلها تقول ( أقروها كما وردت، أمروها كما هي، إقرؤوها كما وردت ، أجروها على ما وردت اسكتوا عنها) وكلها بمعنى لا تفسروها وفوضوا معناها إلى الله تعالى ورسوله ، ولم أجد أحداً منهم قال إحملوها على ظاهرها ، فمن أين جاء المجسمة بمقولة
( وإجراء الظواهر على مواردها ) وألصقوها بالسلف المفوضين ؟ !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 94 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
على أنه لا يبعد أن يكون تعبير إمرارها بالميم تصحيفاً لإقرارها بالقاف ، فالإقرار يستعمل للثابت والإمرار للمتحرك ، ولم ألحظ التعبير بالإمرار عن النصوص في كلام القدماء ولا المتأخرين في غير هذا الموضع، لأنه ليس فصيحاً إلا لشئ له حركة مرور تطلب عدم إيقافها ، كقولك عن الغنم المارة : أمرها، بمعنى أتركها تمر ولا تتعرض لها ، أما الساكن كالنص فتقول ( أقره ) بالقاف . . وهذه نماذج من كلمات قدماء السلف :
* قال المزي تهذيب الكمال :1/ 514 :
( عن أحمد بن نصر قال سألت سفيان بن عيينة : القلوب بين إصبعين وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق ؟ فقال : أمروها كما جاءت بلا كيف ).
* وقال الذهبي في سيره : 5/162: ( قال الأوزاعي : كان الزهري ومكحول يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ) .
* وقال في : 5/337 : ( وروى الأوزاعي عنه قال : أمروا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت ) .
* وروى في تذكرة الحفاظ 1/ 304 عن الوليد بن مسلم قال :
( سألت مالكاً والأوزاعي والثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة ، فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيف ) .
* وقال في سيره : 7/274 :
( وسئل سفيان عن أحاديث الصفات فقال : أمروها كما جاءت . وقال أبو نعيم عنه : وددت أني أفلت من الحديث كفافاً . وقال أبو أسامة قال سفيان : وددت أن يدي قطعت ولم أطلب حديثاً ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 95 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والقولان الأخيران يشيران إلى أن السبب في تفويضهم تخوفهم من أن يؤدي تفسيرها إلى التجسيم فيؤثموا .
وفي سير أعلام النبلاء : 8 /162 : ( أخبرنا الوليد بن مسلم قال : سألت مالكاً والثوري والليث والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات فقالوا : أمروها كما جاءت . وقال أبو عبيد : ما أدركنا أحدا يفسر هذه الأحاديث ، ونحن لا نفسرها .
قلت : قد صنف أبو عبيد كتاب غريب الحديث وما تعرض لأخبار الصفات الإلهية بتأويل أبداً ، ولا فسر منها شيئاً وقد أخبر بأنه ما لحق أحداً يفسرها، فلو كان والله تفسيرها سائغاً أو حتماً ، لأوشك أن يكون اهتمامهم بذلك فوق اهتمامهم بأحاديث الفروع والآداب فلما لم يتعرضوا لها بتأويل وأقروها على ماوردت عليه علم أن ذلك هو الحق الذي لاحيدة عنه) انتهى . وفي قول أبي عبيد : ما أدركنا أحداً يفسرها ، نفي لادعاء من يدعي أنهم فسروها بالظاهر . ونفي لادعاء ابن تيمية في تفسيره : 6/386 بأن أبا عبيد قد فسر الإستواء بالصعود !
وفي كلام الذهبي الأخير محاولة لجعل إمرارها تفسيراً لها بالظاهر ، وحمل مذهبه ومذهب أستاذه ابن تيمية على رقاب المفوضة كما تقدم !
* وقال في سيره : 8/467 : ( وحديث : إن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق ، فقال سفيان : هي كما جاءت نقر بها ونحدث بها بلا كيف).
* وقال في : 9/165 : ( وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي : سمعت وكيعاً يقول : نسلم هذه الأحاديث كما جاءت ، ولا نقول كيف كذا ولا لم كذا، يعني مثل حديث: يحمل السماوات على إصبع ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 96 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* وقال في : 15/86 : ( قلت : رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات ، وقال فيها : تمر كما جاءت ، ثم قال : وبذلك أقول وبه أدين ولا أتأول ) . انتهى . . .
إلى عشرات النصوص التي رواها الذهبي وغيره عن قدماء السلف ، وهي تدل على أن مذهب عدد من السلف السنيين هو التفويض ، ومذهب عدد آخر التأويل .
أما مذهب الحمل على الظاهر فهو مذهب المجسمة ، وهم الحشوية وبعض الحنابلة ، وقلة من الأشاعرة . وقد نقل الذهبي نفسه نص بعضهم على أنها ثلاثة مذاهب لا اثنين ، فقال في إحدى ترجماته في سير أعلام النبلاء : 19/582 : ( وسألته يوماً عن أحاديث الصفات فقال : اختلف الناس فيها : فمنهم من تأولها ، ومنهم من أمسك ، ومنهم من اعتقد ظاهرها ، ومذهبي أحد هذه المذاهب الثلاثة ) . انتهى .
وكذلك نص ابن خلدون على تميز مذهب التفويض عن مذهب الحمل على الظاهر ، كما رأيت في كلامه المتقدم . بل نص بعض المتأخرين كالنووي على أن مذهب قدماء السلف من السنيين هو التفويض مع الحكم بأن ظاهرها غير مراد، وهو أمر غريب ، لأن التفويض يجتمع مع نفي تفسيرها بالظاهر ولا يجتمع مع التفسير به ، لأنك إذا فسرتها بالظاهر لم تفوضها ، بينما إذا نفيت بعض محتملاتها لم يضر ذلك بتفويضك .
* قال السيد شرف الدين في كتابه أبو هريرة : 1/57 :
( قال الإمام النووي : وإن من العلماء من يمسك عن تأويل هذه الأحاديث كلها ويقول: نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد ولها معان تليق بها ، قال : وهذا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 97 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مذهب جمهور السلف وهو أحوط وأسلم ، إلى آخر كلامه ، فراجعه في شرح صحيح مسلم وهو مطبوع في هامش شرحي البخاري ، وما نقلناه عنه هنا موجود في ص 18 ) . انتهى .
المجسمة ( أبناء ) المذهب الظاهري
من الواضح أن الأساس التنظيري الذي قام عليه مذهب المجسمة القدماء والجدد ، هو مقولة : ضرورة حمل الألفاظ على ظاهرها ، فهذه هي كل الأساس التنظيري لمذهبهم ، والظاهر أنهم أخذوها في فترة متأخرة من المذهب الظاهري الذي أسسه داود الإصفهاني ، وروج له في المغرب وبقيت آثاره في مؤلفات ابن حزم الأندلسي .
وبما أن وجود التجسيم كأفكار ومذهب كان قبل المذهب الظاهري ، فيكون الأساس العلمي الذي تبنوه لمذهبهم مولوداً بعد المذهب !
وبالتعبير العلمي ( أساساً التقاطياً ) شبيهاً بالمذهب الشيوعي الذي ولد أولا وتعصب له أتباعه ، وبعد مدة تبنوا التنظير له بالمادية التاريخية
( الديالكتيك ) فالتقطوها وجعلوها ( أساساً علمياً ) للشيوعية !
* قال السمعاني في الأنساب : 4/99 عن المذهب الظاهري : ( هذه النسبة إلى أصحاب الظاهر ، وهم جماعة ينتحلون مذهب داود بن علي الإصبهاني صاحب الظاهر ، فإنهم يجرون النصوص على ظاهرها ، وفيهم كثرة ، منهم أبو الحسين محمد بن الحسين البصري الظاهري ، كان على مذهب داود ) .
ولكن المجسمة ( أبناء ) المذهب الظاهري خرجوا على آبائهم الظاهريين ولم يراعوا أصلهم ولا قاعدتهم . . فإن داوداً الظاهري وابن حزم يأخذان بالظاهر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 98 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
إلى حدود ثم يتأولان عندما يمنع مانع من الحمل على الظاهر ، فهما عالمان متأولان ، وهما بفتوى المجسمة ضالان ملحدان ، لأنهما غير ظاهريين !!
* قال ابن حزم في الفصل مجلد 1 جزء 2 ص 122 : ( قال أبو محمد ( ابن حزم ) : قول الله تعالى يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر أو إجماع أو ضرورة حس وقد علمنا أن كل ما كان في مكان فإنه شاغل له . . . . وهذه كلها صفات الجسم فلما صح ما ذكرنا علمنا أن قوله ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) . . . هو التدبير والإحاطة به فقط ) .
* وقال في نفس الجزء ص 166 : ( الكلام في الوجه واليد والعين . . . قال أبو محمد ( ابن حزم ) : قال الله عز وجل ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) فذهبت المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم ، وقال الآخر : وجه الله تعالى إنما يراد به الله عز وجل . وقال أبو محمد : وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته . . . إن المراد بكل ما ذكرنا ( من اليد والعين والوجه وغيرهما في الله ) الله عز وجل لا شئ غيره ) .
* وقال في مجلد 1 جزء 2 ص 167 : ( وكذلك صح عن رسول الله ( ص )
أنه قال إن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ( الله ) فيها قدمه . . . فمعنى القدم في الحديث المذكور إنما هو كما قال الله تعالى ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) يريد سالف صدق ، فمعناه أن الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم وكذلك القول في الحديث الثابت ( خلق الله آدم على صورته ) فهذه إضافة ملك يريد الصورة التي تخيرها الله سبحانه وتعالى ليكون آدم مصوراً عليها ) .
* وقال في نفس الجزء ص 140 : ( أجمع المسلمون على القول لما جاء به نص القرآن من أن الله تعالى سميع بصير ، ثم اختلفوا فقالت طائفة من السنة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 99 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والأشعرية وجعفر بن حرب من المعتزلة وهشام بن الحكم وجميع المجسمة : نقطع أن الله تعالى سميع بسمع و بصير ببصر . . . وذهبت طوائف من أهل السنة منهم الشافعي إلى أن الله تعالى سميع بصير ولا نقول بسمع ولا ببصر لأن الله تعالى لم يقله ولكن سميع بذاته وبصير بذاته . . . وبهذا نقول في سميع بصير إنه سميع بذاته وبصير بذاته ولا يجوز إطلاق سمع ولا بصر حيث لم يأت به نص ) . انتهى .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 100 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 101 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل السادس : معبود الوهابيين
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 102 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 103 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
معبود الوهابييـن
* قال ابن باز في فتاويه : 4/131 : ( التأويل في الصفات منكر ولا يجوز ، بل يجب إقرار الصفات كما جاءت على ظاهرها اللائق بالله جل وعلا ، بغير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، وعلى هذا سار أهل العلم من أصحاب النبي (ص) ومن بعدهم أئمة المسلمين كالأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق ) . انتهى .
وليت الشيخ ابن باز سمى لنا واحداً من الصحابة أجرى الصفات على ظاهرها الحسي ، وليته ذكر نصاً عن واحد من التابعين أو تابعي التابعين الذين سماهم ، فقد تتبعنا أقوالهم في الصفات وذكرنا عدداً منها في فصل تجسيم الذهبي ، ولم نجد فيها مسألة الحمل على الظاهر الحسي !
وسوف تعرف إن شاء الله تعالى عدم صحة تسترهم بالإمام مالك في الحمل على الظاهر ، وعدم صحة ما نسبوه إليه ، فلم يبق عندهم إلا قدماء المجسمة مثل كعب الأحبار ووهب ومقاتل ومن قلدهم !
وقد حشر أحد المسلمين مرجعهم في الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني عندما وجه إليه السؤال التالي الذي ورد في فتاوي الألباني ص 509 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 104 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( سؤال : هل العقيدة التي يحملها السلفيون هي عقيدة الصحابة ؟ وإن هناك من الناس من يزعم إن كانت عقيدة الصحابة فأتونا ولو بصحابي واحد يقول في الصفات نؤمن بالمعنى ونفوض الكيف .
جواب : هل هناك صحابي تأول تأويل الخلف ، نريد مثالاً أو مثالين ؟ !
وقال البغوي في تفسير قوله : ثم استوى على العرش ، قال الكلبي ومقاتل : استقر ، وقال أبو عبيدة صعد ، وأولت المعتزلة الإستواء بالإستيلاء ، وأما أهل السنة فيقولون : الإستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله . وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله : الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ فأطرق مالك رأسه ملياً وعلاه الرحضاء ثم قال : الإستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالاًّ، ثم أمر به فأخرج ) . انتهى .
فانظر إلى جواب هذا العالم الوهابي لهذا السائل العادي ، فهو يناقش سائله بأنك إن قلت لا يوجد صحابي حمل الصفات على الظاهر الحسي كالوهابيين، فإنه لا يوجد صحابي وافق مذهب المتأولين !
وللسائل أن يجيبه : ما دام الصحابة لم يوافقوا الوهابيين ولا المتأولين ، فالصحيح إذن هو مذهب التفويض ؟ !
ثم كيف ينكر الألباني تأويل الصحابة كعائشة وابن عباس وابن مسعود ، فضلاً عن أهل البيت عليهم السلام ، وتأويل التابعين الذي ذكرنا منه نماذج في المذهب الأول ، ومنه تأويل أبي سعيد لنزول الله تعالى بنزول رحمته كما تقدم ، وتأويل مالك لذلك بنزول أمره ، كما سيأتي .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 105 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأخيراً ، لم يجد الألباني مؤيدا لمذهبه الوهابي إلا مقاتلاً الفارسي المجوسي تلميذ اليهود المجسمين ، وابن الكلبي المشهود عليه من الجميع بعدم الوثاقة ! فانظر إلى بؤس هذا المذهب الذي يدعي أنه وارث السلفية وحامل رايتها والضارب وجوه المسلمين بسيفها ، كيف فتش مرجعه في الحديث وبحث في المصادر وطرق أبواب السلف من الصحابة والتابعين ، فلم يجد أحداً منهم يؤيد رأيه إلا أمثال هذه النظائر . . مقاتل وابن الكلبي ، هذان كل السلف !!
وقال الألباني في فتاويه ص 516 :
( سؤال : هل أن مذهب السلف هو التفويض في الصفات ؟
جواب : قال ابن حجر العسقلاني وهو أشعري : إن عقيدة السلف فهم الآيات على ظاهرها دون تأويل ودون تشويش ، إذا آمنا برب موجود لكن لا نعرف له صفة من الصفات . . . وحينئذ كفرنا برب العباد حينما أنكرنا الصفات بزعم التفويض ) . انتهى .
ويلاحظ أن سؤال السائل عن تفويض السلف ، وينبغي أن يكون الجواب بذكر رأي أحد من السلف يفسر الصفات بالظاهر ولا يفوضها ، ولو كان شخصاً واحداً ، ولكن الألباني لم يأت له بمثال من السلف ، لأنه لا يوجد كما رأيت في نصوصهم !
وجاء بدل ذلك بشهادة ادعاها لأحد علماء خلف . . الخلف ، لأن ابن حجر متوفى سنة ( 582 ) يعني في أواخر القرن السادس !
ثم من حقنا أن نطالب الألباني بنص شهادة ابن حجر ومصدرها ! فقد ذكرها بلا مصدر وخلطها بكلامه ! وسيأتي رأي ابن حجر المخالف لماذكره عنه الألباني وسترى حملته الشديدة على أجداد الألباني من الحنابلة المجسمين .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 106 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
هذا عن أكبر عالمين عند الوهابيين في عصرنا ، وسنذكر المزيد من نصوصهم عن مذهبهم في التجسيم .
* *
أما إمام الوهابيين فلم أطلع له على بحث معمق في التوحيد أو الصفات ، وكتابه ( التوحيد ) يبدو أنه ألفه على عجل ، حيث سرد فيه أحاديث في موضوعات متعددة تتعلق بموضوعات متنوعة من التوحيد ، ووضع بعد كل حديث أو أكثر فهرساً مختصراً لما استفاده من أفكار ، وسمى ذلك ( مسائل ) ولم أجد فيه حول الصفات إلا موردين فقط ولكنهما كافيان لإثبات أن معبوده مادي أعاذنا الله !
المورد الأول في ص 130 ، ونذكر نصه كاملاً لإختصاره ، قال :
( باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات وقول الله تعالى : وهم يكفرون بالرحمن . . الآية ، قال البخاري في صحيحة علي : حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض حين سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال : ما فرق هؤلاء ، يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه ) . انتهى .
ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم ( وهم يكفرون بالرحمن ) . فيه مسائل :
الأولى : عدم الإيمان بجحد شئ من الأسماء والصفات .
الثانية : تفسير آية الرعد .
الثالثة : ترك التحديث بما لا يفهم السامع .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 107 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الرابعة : ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة : كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك وأنه أهلكه ) . انتهى كلام إمام الوهابيين .
ويبدو بالنظرة الأولى أن استشهاده بحديث علي عليه السلام وحديث ابن عباس كان أمراً عادياً ، ولكن المطلع على عقائد المجسمين واستدلالهم يطمئن بأنه يقصد التجسيم المحض الوارد في خبر أم الطفيل ، الذي حكم بكذبه عدد من علماء الجرح والتعديل من إخواننا السنة ، وبعضهم صححه فتأوله أو فوضه ، ولكن المجسمة صححوه واعتبروه من العلم الذي يكتم عن العامة ، ويبقى محصوراً بين خاصة الخاصة ! !
* قال الذهبي في سيره :10/602 : ( فأما خبر أم الطفيل ، فرواه محمد بن إسماعيل الترمذي وغيره : حدثنا نعيم ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال أن مروان بن عثمان حدثه عن عمارة بن عامر ، عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في صورة كذا ، فهذا خبر منكر جداً ، أحسن النسائي حيث يقول : ومن مروان بن عثمان حتى يصدق على الله ! وهذا لم ينفرد به نعيم ، فقد رواه أحمد بن صالح المصري الحافظ ، وأحمد بن عيسى التستري ، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، عن ابن وهب قال أبو زرعة النصري : رجاله معروفون .
قلت : بلا ريب قد حدث به ابن وهب وشيخه وابن أبي هلال ، وهم معروفون عدول، فأما مروان ، وما أدراك ما مروان ؟ فهو حفيد أبي سعيد بن المعلى الأنصاري ، وشيخه هو عمارة بن عامر بن عمرو بن حزم الأنصاري ، ولئن جوزنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أدرى بما قال ، ولرؤياه في المنام تعبير لم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 108 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يذكره صلى الله عليه وسلم ، ولا نحن نحسن أن نعبره ، فأما أن نحمله على ظاهره الحسي فمعاذ الله أن نعتقد الخوض في ذلك بحيث أن بعض الفضلاء قال : تصحف الحديث ، وإنما هو : رأي رئية بياء مشددة ، وقد قال علي رحمه الله : حدثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون . وقد صح أن أبا هريرة كتم حديثاً كثيراً مما لا يحتاجه المسلم في دينه ، وكان يقول : لو بثثته فيكم لقطع هذا البلعوم ، وليس هذا من باب كتمان العلم في شئ ، فإن العلم الواجب يجب بثه ونشره ويجب على الأمة حفظه ، والعلم الذي في فضائل الأعمال مما يصح إسناده يتعين نقله ويتأكد نشره ، وينبغي للأمة نقله، والعلم المباح لا يجب بثه ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء ). انتهى.
وما قاله الذهبي هو الذي يقصده إمام الوهابيين ، فقد عقد الباب تحت عنوان ( باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات ) ليقول إن الإيمان بكل صفات الله تعالى واجب وإنكار شئ منها كفر ، وبما أن عدداً من صفات الله تعالى على مذهبه يلزم منها التجسيم ، لذا تحدث عن وجوب كتمان ذلك إلا عن أهله ، واستشهد بروايتين عن علي عليه السلام وابن عباس تجوزان كتمان هذا العلم ! !
وهو أيضاً نفس ما قاله الذهبي عن ( العلم المباح ) أي المحظور ، من تسمية الشئ بضده، ثم أفتى الذهبي بوجوب حصره بأهله وهم خواص العلماء بزعمه فقال ( والعلم المباح لايجب بثه ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء ) !
وذلك شبيهاً بالعلم الذي يحصره اليهود والنصارى برؤساء الإكليروس أي كبار الكرادلة والحاخامات ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 109 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والنتيجة التي يهدفون إليها من توظيف هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وعلياًّ عليه السلام ، وابن عباس ، وأبا هريرة ، كلهم مجسمون كالوهابيين وأنهم كانوا يكتمون صفات الله تعالى ويأمرون بكتمانها ! !
ومن الواضح لمن له إطلاع على الحديث والتاريخ أن الأحاديث الثلاثة التي استشهد بها إمام الوهابيين والذهبي لا يصلح شئ منها شاهداً .
أما حديث أبي هريرة فقال عنه الناشر في هامش سير أعلام النبلاء في نفس الموضع : ( أخرجه البخاري 1/191 – 192 ( وفي طبعتنا : 1/8 ) في العلم :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 110 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( باب حفظ العلم ، من طريق إسماعيل بن أبي أويس ، حدثني أخي ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم . قال الحافظ : وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ، ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان ، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية ، لأنها كانت سنة ستين للهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة ) . انتهى.
فقصد أبي هريرة بشهادة ابن حجر وشهادة النصوص الأخرى المشابهة والقرائن ، أنه كان يكتم ما قاله النبي صلى الله عليه وآله في انحراف الأمة من بعده ، وسبب كتمانه خوفه من السلطة !
وأين هذا من كتمان صفات الله الحسية إلا عن خواص العلماء كما
زعموا ؟!! وأما حديث علي عليه السلام فقد علق عليه في هامش سير النبلاء أيضاً بقوله : أخرجه عنه البخاري في صحيحه 1/199 ( وفي طبعتنا:1/41 ) في العلم : ( باب حفظ العلم ، في العلم : باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، من طريق عبيد الله بن موسى، عن معروف بن خربوذ، عن أبي الطفيل ، عن علي ) . انتهى . ورواه أيضاً في كنز العمال :10/247 و301 و304 . وهو يقرر قاعدة عامة هي أن التعليم والمخاطبة ينبغي أن يكونا متناسبين مع مستوى المخاطبين ، ولا دلالة فيه ولا إشارة على ارتباطه بصفات الله تعالى أو بغيرها من المواضيع ، وإن كنت أرجح أيضاً أن معناه قريب من معنى الحديث المتقدم . . فمن أين حكموا أن علياً عليه السلام يقصد كتمان الصفات ، وأنه كان وهابياً مجسماً يكتم لوازم مذهبه عن المسلمين كما يفعلون ! !
وأما حديث ابن عباس فقد تفرد به عبد الرزاق في مصنفه : 11/422 ، ولم أجده في أي مصدر غيره على كثرة ما راجعت ، ورواه بعد حديث أبي هريرة في قصة المناظرة المزعومة بين الجنة والنار ، قال : ( عن معمر ، عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعرتهم ؟ فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فإنهم يلقون فيها وتقول هل من مزيد، فلا تمتلئ حتى يضع رجله أو قال قدمه فيها ، فتقول : قط ، قط ، قط ، فهنالك تملأ وتنزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحداً ، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها ما شاء .
أخبرنا عبدالرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاووس عن أبيه قال : سمعت رجلاً يحدث ابن عباس بحديث أبي هريرة هذا ، فقام رجل فانتقض ، فقال ابن عباس :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 111 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ما فرق من هؤلاء يجدون عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه ) . انتهى ما في مصنف عبد الرزاق بلفظه . ولكن عبارة إمام الوهابية هي ( عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض حين سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال ) وقصده بالصفات أن الرجل المستمع لم يؤمن بأن الله تعالى له رجل ويضعها في النار واستنكر ذلك فوبخه ابن عباس! فمن أين له العلم بذلك ، فقد يكون الرجل صحابياً جليلاً استنكر على راوي الحديث هذا التجسيم ، وقام من المجلس اعتراضاً .
ثم إن قول ابن عباس مجمل لا يدل على أنه قصد بالهلاك ذلك الرجل الذي انتفض أو تأفف ونكت ثيابه تبرأ! فقد يكون قصد بعض رواة الحديث.
وهل يستحق صحابي أو تابعي الحكم بالهلاك والكفر لأنه نهض ونكت ثيابه حتى لا يتحمل مسئولية حديث يراه كاذباً أو يشك فيه ؟ !
ثم إن عبارة ابن عباس التي في مصنف عبد الرزاق فيها كلمة ( من ) وليس فيها كلمة ( رقة ) التي نقلها إمام الوهابيين ، ولو قلنا إن أصلها (يجدون رقة ) لم يستقم المعنى أيضاً ، لأن مقتضى مقابلتها بقوله ( ويهلكون عند متشابهه ) أن يقول ( يرقون عند محكمه ) لا أن يقول ( يجدون رقة عند محكمه ) .
كما أنه لا معنى مفهوماً لقوله ( ما فرق من هؤلاء ) . . إلخ . فإن في كلام ابن عباس تصحيفاً وإبهاماً .
ولكن مع ذلك ينبغي أن نشهد لإمام الوهابيين بأنه في هذا الموضوع أذكى من الذهبي ، لأن حديث ابن عباس الذي استشهد به أكثر قرباً من هدفه ، وإن كان لا دلالة فيه عليه !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 112 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المورد الثاني : تبنى إمام الوهابيين عدداً من أحاديث التجسيم خاصة حديث الحاخام ، الذي ادعت بعض مصادر إخواننا أن النبي صلى الله عليه وآله صدقه ، وقد أوردها ابن عبد الوهاب في آخر كتابه التوحيد وعقد لها باباً خاصاً فقال : ( عن ابن مسعود رحمه الله قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والشجر على إصبع ، والماء على إصبع ، والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ، ثم قرأ ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ) الآية . وفي رواية لمسلم والجبال والشجر على إصبع ، ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله ، وفي رواية للبخاري (يجعل السموات على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ) إلى آخره ) . انتهى .
وراجع إن شئت في المجلد الثاني من العقائد الإسلامية روايات هذه القصة المزعومة التي تدعي أن أحد حاخامات اليهود علم نبينا صلى الله عليه وآله التجسيم ! !
وقد تبنى إمام الوهابية هذه الأحاديث وتعمق في الغوص على معانيها ، واستخراج لآليها ، فاستنبط منها تسع عشرة مسألة عقائدية ، قدمها إلى المسلمين ليوحدوا الله تعالى على أساسها فقال : فيه مسائل :
( الأولى : تفسير قوله : والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة .
الثانية : أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه ( ص ) لم ينكروها ولم يتأولوها .
الثالثة : أن الحبر لما ذكر ذلك للنبي (ص) صدقه ، ونزل القرآن بتقرير ذلك !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 113 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الرابعة : وقوع الضحك الكثير من رسول الله ( ص ) عنده ، لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم .
الخامسة : التصريح بذكر اليدين ، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى .
السادسة : التصريح بتسميتها الشمال .
السابعة : ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك .
الثامنة : قوله كخردلة في كف أحدهم .
التاسعة : عظمة الكرسي بنسبته إلى السماوات .
العاشرة : عظمة العرش بنسبته إلى الكرسي .
الحادية عشرة : أن العرش غير الكرسي والماء .
الثانية عشرة : كم بين كل سماء إلى سماء .
الثالثة عشرة : كم بين السماء السابعة والكرسي .
الرابعة عشرة : كم بين الكرسي والماء .
الخامسة عشرة : أن العرش فوق الماء .
السادسة عشرة : أن الله فوق العرش .
السابعة عشرة : كم بين السماء والأرض .
الثامنة عشرة : كثف كل سماء خمسمائة سنة .
التاسعة عشرة : أن البحر الذي فوق السموات بين أسفله وأعلاه مسيرة خمسمائة سنة ) . انتهى .
وهكذا أصدر إمام الوهابية حكمه بأن علوم اليهود هذه عن تجسيم الله تعالى بقيت سليمة لم تنلها يد التحريف ، وأن النبي صلى الله عليه وآله ضحك كثيراً لهذا العلم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 114 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
العظيم ، وأن الله تعالى أنزل بتصديقه قرآناً ، وقد يكون الله تعالى ضحك أيضاً مثل رسوله تصديقاً للحبر اليهودي ، وارث هذا العلم المخزون العظيم ومبلغه إلى خاتم النبيين ! !
والنتيجة عنده : أن الله تعالى له يدان وأصابع بالمعنى المادي الحسي ، وأن النبي صلى الله عليه وآله أقر هذا المعنى المادي ليدي الله تعالى وأصابعه ولم يتأوله ، وأن الله تعالى موجود في منطقة فوق العالم على عرشه ، وأن المسافة بيننا وبينه محددة بكذا سنة من السير مشياً على الأقدام ! !
بل يمكن لنا بناء على رأي إمام الوهابية أن نحسب المسافة إلى عرش الله تعالى ومكان وجوده بالكيلومتر ونرسل إليها سفينة فضائية ! !
ونترك الفتوى في ذلك إلى مفتي الوهابية الشيخ ابن باز ؟ !
من هذين النصين لإمامهم ابن عبد الوهاب والنصوص الكثيرة لاتباعه ، يطمئن الباحث بأن مذهبهم في التوحيد هو نفس مذهب مجسمة اليهود ، ثم مجسمة الحنابلة وابن تيمية والذهبي ، فهم :
أولاً : يرفضون التأويل لأنه لا مجاز بزعمهم في القرآن والسنة ، فكل الألفاظ يجب أن تحمل على معناها اللغوي المادي ولا يجوز أن تحمل على معان مجازية ، أو تؤول أو تشوش على حد تعبيرهم !
فعندما يقول القرآن أو الحديث ( يد الله وعين الله ووجه الله ) فمعناه عندهم أن الله تعالى له يد وعين ووجه حقيقةً لا مجازاً! وعندما يقول (كل شئ هالك إلا وجهه ) فمعناه عندهم أن الله يفنى ويبقى وجهه فقط ، كما سيأتي ! !
* قال الشيخ ابن باز في فتاويه : 4/382 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 115 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( الصحيح الذي عليه المحققون ( ؟ ) أنه ليس في القرآن مجاز على الحد الذي يعرفه أصحاب فن البلاغة ، وكل ما فيه فهو حقيقة في محله ) . انتهى .
وما أدري كيف يجرؤ عالم على إنكار وجود المجاز في القرآن ، أي في اللغة العربية ، التي نزل بها القرآن ، ثم ينسب ذلك إلى المحققين الذين نرجوه أن يذكر لنا نصف واحد منهم !
بل كيف يستطيع أن يعيش مع الناس ومع عائلته إذا حمل كلامهم كله على الحقيقة ، وماذا يفعل بمن يقول له : قرت عينك ؟ فهل يفتي بجلده لأنه دعا عليه بسكون عينه والموت ؟ !
وغاية ما وصلت إليه أساليبهم الجدلية في الإستدلال على نفي المجاز في القرآن ما تقدم من كلام ابن تيمية ، ومفاده أن ظاهر الآية إن كان غير مراد فهو باطل، ولا يجوز أن نقول إن ظاهر القرآن باطل ، فلابد أن يكون مراداً!!
ولكنها مغالطة مكعبة ، في معنى الظاهر ، ومعنى البطلان ، ومعنى الوجود في القرآن ! وذلك لأنا بقولنا ظاهر الآية غير مراد نكون نفينا هذا المعنى عن القرآن فكيف يكون موجوداً فيه ؟ !
ولأن الباطل هو تصورنا الخاطئ لمعنى الآية وليس شيئاً موجوداً في القرآن .
ولأن الظاهر المنفي بقرينة لفظية أو عقلية لا يبقى ظاهراً، بل يصير خيالاً ، بل إن الظاهر الحقيقي للكلام هو المعنى المتبادر المستقر ، أما الظاهر بنظرة أولى الذي يزول بالقرينة فهو كالفجر الكاذب الذي ما يلبث أن يزول ويعم الظلام ثم يظهر الفجر الصادق . فالقرينة اللفظية أو العقلية ذات دور مصيري في تعيين ماهو الظاهر المستقر .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 116 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهذه النقطة مهمة في معرفة الخلل عندهم في فهم الظاهر والحمل على الظاهر . ولكن المسكونين بالظاهر الحسي والفهم المادي يستعملون لإثبات مزاعمهم الجدل المكعب ، بل قد يستعملون المسدس ، كما يفعلون في الباكستان !
ثانياً : أنهم يحرِّمون السكوت عن تفسير هذه الصفات وتفويض أمرها إلى الله تعالى ، لأن ذلك يؤدي بزعمهم إلى التعطيل والإلحاد ، وقد تقدم قول ابن تيمية ( فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد ) !
وهذا معناه أنهم يحرمون أي تأويل أو تفسير معنوي لآيات الصفات ، ويحرمون تفويضها أيضاً ويوجبون على المسلمين تفسيرها بالمعنى الحسي
المادي ! !
وهذا الإصرار العجيب يفتح على الوهابيين بابين كبيرين من الإشكالات :
الباب الأول : باب الآيات والأحاديث التي تخالف مذهبهم :
فعندما يلتزمون بوجوب التفسير بالظاهر وحرمة التأويل ، ويفسرون قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، بأن الله وجود منظور مرئي تنظر إليه العيون وتراه ، فمن حقنا أن نسألهم :
ماذا تصنعون بمثل قوله تعالى: لا تدركه الأبصار ، وقوله تعالى : لن تراني ، وقوله تعالى : ليس كمثله شئ ؟
ولكنهم يجيبونك بأن المسألة سهلة ، لأنا نتحول هنا إلى متأولين ولكن بطرق ملتوية لا يكون فيها ممسك علينا بأنا صرنا متأولة ، فنؤول كل ما يخالف مذهبنا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 117 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بغير ظاهره ، ونحرم تفسيره بالظاهر ! فنقول إن الأبصار لا تدركه ، يعني لا تحيط به ، أو لا تدركه لصغر حجمنا وكبر حجمه ، فلا نرى إلا جزءاً منه أو نقول : إن المنفي بقوله تعالى ليس كمثله شئ ، هو المثل وليس الشبيه ، ونحن ننفي المثل والند والكفؤ ولا يجب علينا نفي الشبيه لله تعالى لا بنقل ولا بعقل ، على حد تعبير إمامهم ابن تيمية !
وإذا قلت لهم : إذا فسرتم قوله تعالى : استوى على العرش ، بأن الله تعالى موجود جالس على العرش ، فماذا تصنعون بقوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم ؟ فإن هذه الآية تنقض مقولتكم بأنه تعالى موجود في مكان محدد من الكون ، وتدل على أن وجوده من نوع آخر غير نوع الكون !
بل كما قال علي عليه السلام : مع كل شئ لا بملامسة ، وغير كل شئ لا بمباينة .
فيقولون لك : المسألة سهلة ، نهرب من الإعتراف بالمعية ومن تأويلها معاً ، ونتهم الذين يحتجون بها بأنهم ينكرون علو الله تعالى على عرشه ويريدون إثبات سفوله . .
وهذا ما فعله مفتيهم الشيخ ابن باز فقال في فتاويه : 2/89 :
( والذي عليه أهل السنة في ذلك أن الله سبحانه موصوف بالمعية على الوجه الذي يليق بجلاله ، مع إثبات استوائه على عرشه وعلوه فوق جميع خلقه وتنزيهه عن مخالطته للخلق ، ولما كانت الجهمية والمعتزلة يحتجون بآيات المعية على إنكار العلو ويزعمون أنه سبحانه بكل مكان ، أنكر عليهم السلف ذلك وقالوا : إن هذه المعية تقتضي علمه بأحوال عباده وإطلاعه عليهم ، مع كونه فوق العرش ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 118 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقد تَعَلَّمَ ابن باز المناورة من الذهبي وابن تيمية فأول صفة المعية بالعلم ، وحمل مسؤوليتها للسلف حتى لا يسجل أحد عليه أنه صار متأولاً ، ثم برر تأويل السلف بأنهم اضطروا إلى ارتكاب التأويل الحرام ، ليردوا على الذين أنكروا علو الله تعالى وأرادوا إثبات سفوله ! !
بل لقد توفق المفتي هنا فوجد هنديا فحمله مسؤولية تأويل الآية التي تنافي مذهبهم ! وهذا الشخص اسمه ( الطلمنكي ) فتمسك به ابن باز واحترمه وأكرمه ولبسه تأويل الآية في عنقه ،
* قال في فتاويه :1/ 148 :
( . . وإذا تبين هذا فإنه لا يؤخذ من قوله ( وهو معكم ) وما جاء في معناها في الآيات ، أنه مختلط وممتزج بالمخلوقات ، لا ظاهر ولا حقيقة ، ولا تدل لفظ ( مع ) على هذا بوجه من الوجوه ، وغاية ما تدل عليه المصاحبة والموافقة ، والمقارنة في أمر من الأمور وهذا الإقتران في كل موضع بحسبه ، قال أبو عمر الطلمنكي رحمه الله : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى ( وهو معكم أين ما كنتم ) ونحو ذلك من القرآن أنه علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستوٍ على عرشه كما نطق به كتابه ). انتهى .
وهكذا حل ابن باز مشكلة الآية فلم تمس يده التأويل ، بل وجد شخصاً يؤول له وارتضى تأويله والحمد لله ، وهو الطلمنكي ! ثم أيد فتواه بالإجماع الذي نقله الطلمنكي على أن جميع المسلمين من أهل السنة يعتقدون بأن الله تعالى وجود محسوس قاعد فوق عرشه ! أي كما يقول اليهود بلا أدنى فرق !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 119 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وإذا تكلم الطلمنكي الذي قدمه الشيخ ابن باز إلى العالم الإسلامي فعلى الجميع أن يقبلوا ويسكتوا ويغمضوا عيونهم عن آراء جميع العلماء وألوف المصادر ! !
والباب الثاني من الإشكالات أكبر وأعظم ، وهو باب التجسيم :
فعندما يقولون إن الله تعالى له يد وعين ووجه ، وهو جالس على عرشه بهذه الصفات المادية ، فقد جعلوه جسماً وصاروا عابدين لجسم !
يقولون لك : لا ، نحن لسنا مشبهة ولا نشبه الله تعالى بخلقه ، لأنه من شبهه بخلقه فقد جسمه وقد كفر !
تقول لهم : ما دمتم رفضتم التأويل ، والتفويض ، والمجاز ، وأوجبتم التفسير بظاهر اللغة الحسي ، فقد وقعتم في التشبيه والتجسيم، شئتم أم أبيتم !
يقولون : لا ، نحن مصرون على تفسير صفات الله تعالى بالمعنى الظاهري الحسي ، وفي نفس الوقت نرفض التجسيم الذي تقولون إنه يلزم من هذا التفسير ، لأن الله تعالى ليس كمثله شئ !
تسألهم : بالله عليكم أرشدونا كيف تؤمنون برب جالس على كرسي وله يد ورجل ووجه وعين ، وينزل إلى السماء الدنيا بذاته ، ويفرح ويضحك ويغضب، وخلق آدم على صورته فهو على صورة آدم . . . إلى آخر الصفات التي تعدونها ، وكل ذلك بالمعنى الظاهر الحسي ، ثم لا يكون شبيهاً بالموجودات المادية المحسوسة المحدودة بزمان ومكان !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 120 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يقولون لك : الأمر سهل نضيف إلى كل صفة عبارة ( كما يليق بجلاله ) فنقول : له عين بالمعنى المادي الظاهر ولكن ليست مثل عيون مخلوقاته بل كما يليق بجلاله !
وله يد ورجل ووجه ، وكلها بالمعنى الظاهر الحسي ، ولكن ليست مثل جوارحنا ، بل كما يليق بجلاله !
وهكذا يتصورون أن حل الإشكالات العلمية والفلسفية يتم بمسحة المسيح بقولهم كما يليق بجلاله ، كما حلوا التأويل بالطلمنكي !
ولكن أي جلال أبقوا لمعبودهم الذي جعلوا له أعضاء مادية ، وجعلوه محدوداً بزمان ومكان وحركة ، بل قالوا إنه يفنى إلا وجهه ؟ ! سبحانه وتعالى عما يصفون .
على هذا الأساس استحق الوهابيون أن يقال عنهم : إن مذهبهم مبني على أساس هش ومغالطة تسمى في علم المنطق: (قبول المقدمات ورفض النتيجة ) ، وتسمى في علم الكلام : ( عدم الإلتزام بلوازم المذهب ) ، وتسمى في لغة عصرنا : ( تبني التشبيه والتجسيم والفرار من اسمه ) .
التقية في التجسيم عند الوهابيين
وهكذا يستعمل الوهابيون التقية من المسلمين فلا يصرحون بصفات معبودهم ، ثم تراهم يشنعون على الشيعة لاستعمالهم التقية من السلطات في مسألة الإمامة والصحابة !
إن الباحث في توحيد الوهابيين يرى نفسه بين أمرين : إما أن يحكم على علمائهم بعدم الفهم ، أو يحكم عليهم بأنهم يستعملون التقية في الإفصاح عن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 121 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
معبودهم ، ولكنه يرى أن ابن عبد الوهاب وبعض تلاميذه المعاصرين مثل ابن باز والألباني ، وأسلافهم كالذهبي وابن تيمية ومجسمة الحنابلة ، يفهمون معنى الحمل على الظاهر وما يستلزمه من تجسيم ، ولكنهم يدافعون عن أنفسهم أمام المسلمين بنفي هذه اللوازم ، بينما يظهر التجسيم في كلماتهم وما يسرونه للخاصة من أتباعهم ! مما يكتم تفسيره على حد قول ابن تيمية !
أو بالقول إن ما ورد في القرآن والسنة هو نفي الند والمثل والكفء أما الشبيه فلم يرد فيه نفي فلا مانع من القول به لا عقلاً ولا شرعاً ، كما تقدم من كلامه ! !
وأحياناً تظهر عقيدتهم في معبودهم صريحة في فلتات ألسنتهم وأفعالهم ، كما ظهرت من ابن تيمية على منبر دمشق ! ! ويكفي للباحث عن حقيقة مذهبهم قول الذهبي المتقدم إن ذلك من ( العلم المباح لا يجب بثه ، ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء ) !
* وقوله في سيره :20/331 : ( ومسألة النزول فالإيمان به واجب وترك الخوض في لوازمه أولى ) . انتهى .
وكلمة (تركه أولى) تعبير فقهي معناه أن قوله جائز ولكن الأحسن تركه ، فهو ملتفت إلى أن لوازم مذهبه التجسيم وملتزم بها ، ولكنه يفضل عدم الكلام فيها حتى لا يكون ذلك ممسكاً عليه عند المنزهين !
وأما عوام الوهابيين فهم عوام أقحاح لا يعرفون إلا مدح مذهبهم بأنه مذهب التوحيد ومذهب السلف الصالح من الأمة ، ولا يعرفون معنى التأويل والتفويض والحقيقة والمجاز .
وأما طلبتهم وأكثر خريجيهم فيتصورون أن حمل آيات الصفات على الظاهر الحسي هو مذهب جمهور الأمة وسلفها الصالح ، لكثرة ما لقنوهم ذلك في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 122 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كتبهم الدراسية ووسائل إعلامهم ، ولا يكاد أحدهم يعرف معنى الحمل على الظاهر ولا لوازمه !
تقول لأحدهم : إن قول علمائك بأن الله تعالى جالس على عرشه ، وإنه ينزل إلى الأرض كما نزل ابن تيمية عن درج المنبر في الشام ، يلزم منه تحديد الله تعالى بالمكان والزمان وصفات المكين والزمين !
فيجيبك : كلا ، لا يلزم من ذلك التشبيه والتجسيم ! لأنه يجلس كما يليق بجلاله ، وينزل كما يليق بجلاله . . !
ويتصور هذا الطالب المسكين أنه إذا لقلق لسانه بقوله ( كما يليق بجلاله ) فقد حل المشكلة العلمية ، أو دحا باب خيبر ! فمثله كمثل الذي يأكل ويشرب في وضح النهار، ثم يصر على أنه صائم لم يذق شيئاً ! لأنه صام كما يليق بصيامه ، وأكل كما يليق بجنابه ! مع أنه لم يبق شيئاً حسناً يليق بجنابه !
ومثله كمثل الذي قالوا له عن أستاذه وإمامه: رأيناه يشرب الخمر ، فقال: لا ، إنه بمجرد أن يلمس كأسها تصير شراباً طهوراً من الجنة . فقالوا له : رأيناه دخل إلى بيت زانية ! فقال : لا ، إنه بمجرد أن يلمسها تتحول إلى حوراء عيناء من الجنة !
ولكن الحقيقة لا تتغير بلمسة ذلك الشخص ، ولا بقول هؤلاء ، ولا بقول الطلمنكي !
ويدل النص التالي للسبكي أن التقية كانت معروفة عن أسلاف الوهابيين ، وأن بعض علماء السنة المنزهين قد بين سببها !
* قال في طبقات الشافعية: 8/222: ( قال الشيخ بن عبدالسلام : والحشوية المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ضربان: أحدهما لايتحاشى من إظهار الحشو،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 123 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ويحسبون أنهم على شئ ! والآخر يتستر بمذهب السلف لسحت يأكله أو حطام يأخذه ) . انتهى ! !
وقال الوهابيون معبودهم يفنى إلا وجهه
من معجزات القرآن أنه يسد الطريق على الإنحرافات العقيدية والفكرية لمن يتأمل فيه ، وفيه آية تكفي وحدها لكشف زيف عقيدة الوهابيين في حمل الصفات على ظاهرها الحسي ، وهي قوله تعالى ( كل شئ هالك إلا وجهه ) فماذا يقول فيها الوهابيون وأسلافهم المجسمة ؟
هل يقولون كما قال أكثر المسلمين إن كلمة ( وجهه ) هنا مجازية بمعنى ذاته ، أو بمعنى رسله وأوصيائهم ؟ أم يصرون على أن معنى الوجه هو الوجه الحقيقي المادي ويلتزمون بأن كل الله تعالى يفنى ويهلك إلا وجهه ؟ ! سبحانه وتعالى عما يصفون .
هنا تقف سفينة الوهابيين وكل المجسمين ، وتتعطل محركاتها بالكامل ، وتعصف بهم العواصف ، ويغرقون إلى الأذقان ، ولكنهم مع ذلك يصرون على منطقهم مهما كانت النتيجة !
لقد قالوا ونعوذ بالله مما قالوا : إن الله تعالى يفنى إلا وجهه ، ولا بد أنهم يحلون المشكلة بقولهم: يفنى فناء يليق بجلاله ، ويهلك هلاكاً يليق بجلاله !!
ولم يقفوا عند هذا الحد ، بل أنكروا أن أحداً من السلف يؤول ( وجهه ) في الآية بذاته أو رسله ، وأنكروا ما هو موجود في البخاري ! ! حتى لا يظهر زيف عقيدتهم ، ولا يثبت عندهم ضلال البخاري وكفره ! ! وإليكم القصة :
* قال الألباني في فتاويه ص 522 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 124 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( سؤال : يا شيخ لي عدة أسئلة ، ولكن قبل أن أبدأ أقول أنا بالأمس قد ذكرت مسألة أو غفلت عن ذكر هذه المسألة ، وهي عندما قلت إن الإمام البخاري ترجم في صحيحه عن معنى قوله تعالى ( كل شئ هالك إلا وجهه ) قال إلا ملكه ، بصراحة أنا نقلت هذا الكلام عن كتاب اسمه ( دراسة تحليلية لعقيدة ابن حجر ) كتبه أحمد عصام الكاتب ، وكنت معتقداً أن هذا الرجل إن شاء الله نقله صحيح ، ولا زلت أقول ممكن نقله صحيح ، ولكن أريد أن أقرأ عليك علامة في هذا الكتاب فهو يقول : قد تقدم ترجمة البخاري في سورة القصص ( كل شئ هالك إلا وجهه ) إلا ملكه ويقال إلا ما أريد به وجه الله، وقوله إلا ملكه ، قاله الحافظ في رواية النسفي ، وقال معمر فذكره، ومعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى ، وهذا كلامه في كتابه مجاز القرآن لكن بلفظ إلا هو . فأنا طبعاً اليوم رجعت إلى الفتح نفسه فلم أجد ترجمة للبخاري بهذا الشئ ورجعت لصحيح البخاري دون الفتح أيضاً لم أجد هذا الكلام للإمام البخاري ولكنه هنا كأنه يشير إلى أن هذا الشيء موجود في رواية النسفي عن رواية البخاري ، فما أعرف جوابكم ؟
جواب : جوابي قد سلف .
السائل : أنا طبعاً أردت أن أبين هذا ، مخافة أن أقع في كلام عن الإمام البخاري .
الألباني : نعم جزاك الله خيراً .
السائل : أنت سمعت مني الشك في أن يقول البخاري هذه الكلمة لأنه
( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) أي ملكه .
الألباني : يا أخي هذا لا يقوله مسلم مؤمن !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 125 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
السائل : وقلت أيضاً إن كان هذا موجوداً فقد يكون في بعض النسخ .
الألباني : فإذن الجواب مقدم سلفاً وأنت جزاك الله خيراً لأن بهذا الكلام الذي ذكرته تؤكد أن ليس في البخاري مثل هذا التأويل الذي هو عين التعطيل .
السائل : شيخنا على هذه كأنه موجود في الفتح نحو من هذه العبارة ، وأنا أذكر أني راجعت هذه العبارة باستدلال أحدهم فكأني وجدت مثل نوع هذا الإستدلال ، يعني موجود وهو في بعض النسخ ، لكن أنا قلت له لا يوجد إلا الله عز وجل وإلا مخلوقات الله عز وجل ما في غير هذا ، وإذا كان كل شئ هالك إلا وجهه ، أي إلا ملكه إذا ما هو الشئ الهالك ؟
الألباني : هذا يا أخي ما يحتاج إلى تدليل على بطلانه ، لكن المهم أن ننزه الإمام البخاري أن يؤول هذه الآية، وهو إمام في الحديث وفي الصفات ، وهو سلفي العقيدة والحمد لله ) . انتهى كلام الألباني أعلم علماء الوهابيين بالحديث .
ونلاحظ أن جنابه لا مشكلة عنده في تفسير ( وجهه ) بالوجه الحسي لله تعالى ، فهو يلتزم بأن كل شئ يهلك حتى يد معبوده وقدمه وجنبه وحقوه وكل بدنه ! ويبقى وجهه فقط ! !
هذه المقولة الفظيعة والمصيبة العظيمة التي يقولها الألباني ولا يجد من يوافقه عليها حتى مجسمة اليهود والنصارى الذين ما زالت بقيتهم عنده في الشام . . ليست هي المشكلة في نظر هذا العالم الوهابي !
إنما المشكلة عنده أنه يريد تنزيه صاحبه البخاري عن تأويل الصفات ، لأن التأويل عمل حرام وهو من شر أقوال أهل البدع والإلحاد كما يقول إمامه ابن تيمية ! وهو على حد تعبير الألباني عين التعطيل والضلال ولا يقوله مسلم مؤمن ، والبخاري مسلم مؤمن ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 126 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لقد شككت في كلام الألباني عن البخاري ! فرجعت إلى البخاري فوجدت أن ما نفاه هذا ( المحدث الخبير ، الحافظ ، مدرس صحيح البخاري ) ونزه عنه البخاري موجود في صحيح البخاري : 6/17 وفيه بدل التأويل للآية تأويلات !
* قال البخاري في تفسير سورة القصص :
( كل شئ هالك إلا وجهه : إلا ملكه . ويقال إلا ما أريد به وجه الله ، وقال مجاهد : الأنباء الحجج ) . انتهى .
* وقال ابن حجر في فتح الباري : 9/410 : ( قوله : إلا وجهه : إلا ملكه . في رواية النسفي وقال معمر فذكره ، ومعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى ، وهذا كلامه في كتابه مجاز القرآن لكن بلفظ إلا هو ، كذا نقله الطبري عن بعض أهل العربية ، وكذا ذكره الفراء .
وقال ابن التين : قال أبو عبيدة : إلا وجهه أي جلاله ، وقيل إلا إياه ، تقول أكرم الله وجهك أي أكرمك الله .
قوله : ويقال إلا ما أريد به وجهه . نقله الطبري أيضاً عن بعض أهل العربية ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف عن مجاهد مثله ، ومن طريق سفيان الثوري قالا : إلا ما ابتغى به وجه الله من الأعمال الصالحة .
ويتخرج هذان القولان على الخلاف في جواز إطلاق شئ على الله ، فمن أجازه قال الإستثناء متصل والمراد بالوجه الذات ، والعرب تعبر بالأشرف عن الجملة ، ومن لم يجز إطلاق شئ على الله قال هو منقطع ، أي لكن هو تعالى لم يهلك ، أو متصل والمراد بالوجه ما عمل لأجله ) . انتهى .
فالعبارة موجودة في البخاري وقد أكد ذلك شراحه ، ومحاولة نسبتها إلى معمر مردودة بالأصل ، وبشهادة الطبري أن عبارة معمر بلفظ ( إلا هو ) ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 127 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لذلك فإن نصيحتنا للألباني وابن باز ومن عندهم شئ من الإنصاف من الوهابيين أن يختاروا التأويل ، حتى لا يضطروا إلى الحكم بفناء معبودهم حتى عنقه ما عدا وجهه ! ! وحتى لا يضطروا إلى الحكم بضلال البخاري أو كفره لارتكابه تأويل الصفات ! فهل يفعلون ؟
أسلاف الوهابيين تورطوا قبلهم في الآية
يظهر أن المجسمين واجهوا مشكلة هذه الآية قديماً ، فعندما فسروا ( وجه الله ) بالجارحة كما يقتضيه مذهبهم في الحمل على الظاهر الحسي ، صفعت هذه الآية وجوههم وتحيروا في تفسيرها !
ويظهر أن المشكلة بقيت عندهم بلا حل لإصرارهم على عدم التأويل كما فعل الألباني ، فكابروا وقالوا بفناء معبودهم ما عدا وجهه والعياذ بالله ! !
* قال السهيلي في الروض الآنف :2/179 : ( ذهب الأشعري في قوله تعالى : ويبقى وجه ربك ، في معنى الوجه إلى ما ذهب فيه من معنى العين واليد وأنها صفات الله تعالى لم تعلم من جهة العقول ولا من جهة الشرع المنقول ) ! !
* قال الشاطبي في الإعتصام : 2/330 واصفاً تفسير المجسمة للآية : ( قول من قال : إن كل شئ فإن حتى ذات الباري ما عدا الوجه ، بدليل: كل شئ هالك إلا وجهه ) . انتهى !
ومن نتائج تفسيرهم السئ للآية أن الفقه الحنبلي لم يبحث اليمين بوجه الله فلم أعثر عليه في مصدر فقهي حنبلي على كثرة كتبهم الفقهية ! لأنه عند المجسمين منهم يمين بجزء من الله وليس بالله تعالى كله فلا يكون يمينا ً !
بينما بحثه الأحناف وأفتى بعضهم بأنه يكون يميناً شرعياً لأن وجه الله تعالى تعبير مجازي عن ذاته ، إلا أن يكون الحالف مجسماً فلا ينعقد !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 128 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* قال الكاشاني في بدائع الصنائع :3/6 : ( ولو قال : ووجه الله ، فهو يمين ، كذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ، لأن الوجه المضاف إلى الله تعالى يراد به الذات ، قال تعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، أي ذاته ، وقال عز وجل : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، أي ذاته . وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن الرجل إذا قال : ووجه الله لا أفعل كذا ، ثم فعل أنها ليست بيمين ! وقال ابن شجاع إنها ليست من أيمان الناس إنما هي حلف السفلة ! ) . انتهى .
ونحن نميل إلى أن فتوى أبي حنيفة بأنها ليست يمينا أقرب إلى فكره لأنه بعد أن ترك مذهبه الزيدي وتاب إلى الحاكم العباسي وقبل توبته ووظفه مسؤلاً عن بناء مسجد كبير في بغداد . . صار يميل إلى معاداة أهل البيت عليهم السلام ويميل إلى التجسيم . وقد كان البعد عن أهل البيت والقرب من التجسيم أمرين متلازمين تقريباً . . ولكنا نتغاضى ونقبل من تلاميذ أبي حنيفة روايتهم الأولى عنه.
* وقال في بدائع الصنائع : 3/143 : ( والوجه يذكر ويراد به الذات ، قال الله سبحانه وتعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، أي إلا هو ، ومن كفل بوجه فلان يصير كفيلاً بنفسه ، فيثبت أن هذه الأعضاء يعبر بها عن جميع البدن ، فكان ذكرها ذكر للبدن كأنه قال أنت طالق، وكذا إذا أضاف إلى وجهها) .
* وقال السرخسي في المبسوط : 8/133 : ( فإن قال : ووجه الله ، روي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه يمين لأن الوجه يذكر بمعنى الذات، قال الله تعالى : ويبقي وجه ربك ، قال الحسن وهو هو ، وعلى قول أبي حنيفة لا يكون يميناً ، قال أبو شجاع في حكايته عن أبي حنيفة هو من أيمان السفلة يعني
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 129 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الجهلة الذين يذكرونه بمعنى الجارحة . وهذا دليل على أنه لم يجعله يميناً ) . انتهى .
وَوَصْفُ ابن شجاع للحالفين بوجه الله بأنهم سفلة يشير إلى أن المجسمة كانوا قلة ! وهو يدل على أن التجسيم كان منتشراً في عصر أبي حنيفة أي في أوائل القرن الثاني !
بل تدل الأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام على أن التجسيم كان منتشراً في المخالفين لهم من القرن الأول فقد رد الإمام محمد الباقر عليه السلام تفسيرهم للآية ، قال ابن بابويه في كتابه الإمامة والتبصرة ص 92 : ( عن أبي حمزة : عن أبي جعفر عليه السلام : قال قلت له : قول الله تعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، قال : يا فلان فيهلك كل شئ ويبقى الوجه ؟ ! الله أعظم من أن يوصف ) !
* وروى الكليني في الكافي :1/143 : ( عن الحارث بن المغيرة النصري قال : سئل أبو عبد الله الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، فقال : ما يقولون فيه ؟ قلت : يقولون : يهلك كل شئ إلا وجه الله ! فقال : سبحان الله لقد قالوا قولاً عظيماً ، إنما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه ) . انتهى .
وقد يحاول بعضهم أن يتخلص من الإشكال بدعوى أن كلمة ( هالك ) في الآية ليست بمعنى فان ، ولكن الراغب في المفردات ص 544 فسر معنى الهلاك هنا فقال : ( والرابع : بطلان الشيء من العالم وعدمه رأسا وذلك المسمى فناء ، المشار إليه بقوله : كل شئ هالك إلا وجهه ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 130 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أحد أجداد المجسمين يحاول حل إشكال الآية
وقد حاول مقاتل بن سليمان وهو أحد أئمة المجسمين ، أن يتخلص من إشكال الآية بتأويل العموم في ( كل شئ ) وجعله نسبياً ، ولكن ذلك لا ينفع الوهابيين ، ولا يصح على إطلاقه . .
* قال المزي في تهذيب الكمال : 28/ 437 : ( وقال مكي بن إبراهيم عن يحيى بن شبل : قال لي عباد بن كثير : ما يمنعك من مقاتل ؟ قال قلت إن أهل بلادنا كرهوه ، قال : فلا تكرهنه فما بقي أحد أعلم بكتاب الله منه !
عن يحيى بن شبل: كنت جالساً عند مقاتل بن سليمان فجاء شاب فسأله : ما تقول في قول الله تعالى كل شئ هالك إلا وجهه ؟ فقال مقاتل : هذا جهمي ، قال : ما أدري ما جهمي ، إن كان عندك علم فيما أقول وإلا فقل لا أدري، فقال : ويحك إن جهماً والله ما حج هذا البيت ولا جالس العلماء ، إنما كان رجلا أعطي لساناً ، وقوله تعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، إنما كل شئ فيه الروح ، كما قال لملكة سبأ : وأوتيت من كل شئ ، لم تؤت إلا ملك بلادها ، وكما قال : وآتيناه من كل شئ سبباً ، لم يؤت إلا ما في يده من الملك ، ولم يدع في القرآن كل شئ وكل شئ إلا سرد علينا ) . انتهى .
ولكن تفسير مقاتل الذي أعجب الراوي لا ينفع الوهابيين لأنه تأويل والتأويل عندهم حرام ، والواجب في مذهبهم حمل ( كل شئ ) على ظاهرها وعمومها لكل الموجودات حتى الله تعالى والعياذ بالله ! ! فإن أخذوا بتفسير مقاتل فقد تنازلوا عن أساس مذهبهم كما فعل جدهم مقاتل عندما أحرجه السائل !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 131 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ومن جهة أخرى فإن تفسير مقاتل غير صحيح أيضاً ، لأن كلمة ( كل شئ ) المستعملة في القرآن الكريم في المخلوقات قد تكون للعموم الإستغراقي الكامل وقد تكون للعموم النسبي ، ويعرف ذلك بالقرائن العقلية من مناسبات الحكم والموضوع . . فمثلاً قوله تعالى في سورة الأحقاف آية 24 – 25 :
( بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ) . تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لايرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ) . لايمكن تفسيرها بالعموم الإستغراقي لأن هياكل مساكنهم لم تدمرها الريح بنص الآية.
أما قوله تعالى في سورة البقرة الآية 106 : ( ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ) ونحوه في آيات عديدة أخرى ، فلا يمكن أن نقول فيه بالعموم النسبي ونستثني منه شيئاً لا يعلمه الله تعالى .
لكن في نفس الوقت يمكن القول بالعموم النسبي فيه من جهة أخرى وأن المقصود بكل شئ هنا الشئ القابل لأن يوجد ويقدر عليه . . إلخ .
أما في موضوعنا وهو قوله تعالى في آخر سورة القصص ( كل شئ هالك إلا وجهه ) فلا يصح فيه العموم النسبي الذي أراده مقاتل ، لأن الهلاك في الآية إذا كان خاصاً بذوات الأرواح كما زعم فهو يشمل الله تعالى لأنه ذو روح ، فلماذا استثنت الآية منه وجه الله فقط دون بقية جوارحه المزعومة !
ثم ما دام مقاتل وتلاميذه تأولوا ( كل شئ ) في الآية بالعموم النسبي لذوات الأرواح ، ليحلوا بذلك الإشكال الموجه إليهم ، فلماذا لا يؤولون
(وجهه) في الآية بذاته ويحلون الإشكال من أساسه ؟ فالعموم الحقيقي ظاهر ، والمعنى الحسي بزعمهم ظاهر ! فلماذا صار تأويل أحدهما حلالاً ، والآخر حراماً ؟ !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 132 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والإنصاف أن موضوع الآية هو ( هلاك العالم قبل يوم القيامة ) ومناسبة الحكم والموضوع تقضي أولاً بالعموم الحقيقي وعدم صحة استثناء شئ إلا ما استثناه الله تعالى ، وتقضي ثانياً بأن الله تعالى خارج تخصصاً عن موضوع الآية لأن موضوعها هلاك المخلوقات لا الخالق ، وهذا يوجب تفسير وجهه ببعض مخلوقاته ، أو القول بأن المقصود به ذاته تعالى وأن الإستثناء في الآية منقطع .
وهكذا لم يستطع مقاتل وارث تجسيم اليهود ، أن يلائم بجدله بين تجسيمه وبين الآية ، ولم يتوفق في محاولته سلب العموم الإستغراقي عن ( كل شئ ) في القرآن وحصر معناها هنا بذات الأرواح !
تفسير السنة غير المجسمة للآية
لم يفسر علماء السنة ( وجهه ) في الآية بالجارحة كما قال المجسمون ، بل قالوا إن معنى وجهه هنا : ذاته عز وجل ، ووافقهم بعض علماء الشيعة .
* قال الشاطبي في الإعتصام :2/303 :
( فهذه الأدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب ، فالواجب السؤال كما سألوا فيكون كما كانوا عليه ، وإلا زل في الشريعة برأيه لا بلسانها .. ولنذكر لذلك ستة أمثلة . . . والرابع : قول من قال . . . وقصد هذا القائل ما يتجه لغة ولا معنى . وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذوالوجه كما تقول فعلت هذا لوجه فلان أي لفلان فكان معنى الآية: كل شئ هالك إلا هو . . . ) .
* وقال الفخر الرازي في تفسيره مجلد 3 جزء 6 ص 437 :
( إلا وجهه : إلا إياه ، والوجه يعبر به عن الذات ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 133 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* وقال في مجلد 13 جزء 26 ص 22 : ( اختلفوا في قوله : كل شئ هالك ، فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم ، والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شئ سواه . ومنهم من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به ، إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية ، فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريد به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعاً به . ومنهم من قال معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته ، فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته، وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلاً للهلاك فأطلق عليه الهلاك نظراً إلى هذا الوجه ) . انتهى . ويبدو أن الرازي يرجح هذا الوجه الأخير .
* وقال في نفس الجزء ص 24 : ( استدلت المجسمة بهذه الآية على أن الله تعالى جسم من وجهين : الأول ، قالوا الآية صريحة في إثبات الوجه ، وذلك يقتضي الجسمية . والثاني ، قوله وإليه ترجعون ، وكلمة إلى لانتهاء الغاية ، وذلك لا يعقل إلا في الأجسام .
والجواب : لو صح هذا الكلام يلزم أن يفنى جميع أعضائه وأن لا يبقى منه إلا الوجه ! وقد التزم ذلك بعض المشبهة من الرافضة وهو بيان بن سمعان . وذلك لا يقول به عاقل ! ) . انتهى .
والظاهر أن الرازي اقتصر على نسبة هذه المقالة الشائنة إلى ابن سمعان وأتباعه ، وتحاشى نسبتها إلى مجسمة الحنابلة والأشعرية ، مع أن ذلك مذكور عنهم في المصادر! وقد رأيت أن هذا هو التفسير الذي يقول به مجسمة عصرنا مثل الألباني وابن باز وأتباعهم ! !
أما بيان بن سمعان الذي نسبه الرازي إلى الشيعة الرافضة فهو حلولي كافر ملعون في مصادر الشيعة ، وقد ادعى له الألوهية أبوه سمعان وقبلها هو !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 134 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* قال في طرائف المقال :2/231 : ( قال بيان بن سمعان التميمي النهدي : الله على صورة إنسان ، ويهلك كله إلا وجهه ، وروح الله حلت في علي عليه السلام ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ، ثم في بيان ابنه ، لعنه الله ) . انتهى .
* وذكر نحوه النوبختي في الفرق بين الفرق فقال في ص 216 : ( في ذكر البيانية من الغلاة : وهم الذين زعموا أن الإمامة صارت من محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد ، ثم صارت من أبي هاشم إلى بيان بن سمعان بوصيته إليه، واختلف هؤلاء في بيان زعيمهم ، فمنهم من زعم أنه كان نبياً ، وأنه نسخ بعض شريعة محمد ( ص ) ومنهم من زعم كان إلهاً . . ثم إنه زعم أن الإله رجل من نور وأنه يضئ كله غير وجهه . . وهذه الفرقة خارجة عن جميع فرق الإسلام لدعواها إلهية زعيمها بيان ) . انتهى .
ولا نلوم الرازي على جعله ( بيان بن سمعان ) من الشيعة ، فقد فرض علينا إخواننا السنة في مصادرهم عشرات الملحدين والملاعين وباعوهم لنا جبراً وحاسبونا على مقولاتهم وما زالوا ، مع أن مصادرنا تنادي بالبراءة منهم ولعنهم !!
وهناك تفسير آخر لعلماء السنة للآية حيث فسروا ( وجهه ) فيها بالأعمال التي يراد بها وجه الله تعالى ، وقد وافقهم بعض علماء الشيعة أيضاًَ.
* قال الراغب في المفردات ص 513 :
( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، قيل ذاته ، وقيل أراد بالوجه ها هنا التوجه إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة. وقال : فأينما تولوا فثم وجه الله ، كل
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 135 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
شئ هالك إلا وجهه ، يريدون وجه الله ، إنما نطعمكم لوجه الله . قيل إن الوجه في كل هذا ذاته ويعني بذلك كل شئ هالك إلا هو ، وكذا في أخواته.
وروي أنه قيل ذلك لأبي عبد الله بن الرضا ، فقال : سبحان الله لقد قالوا قولاً عظيماً ، إنما عنى الوجه الذي يؤتى منه ، ومعناه كل شئ من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به الله ، وعلى هذا الآيات الأخر ، وعلى هذا قوله : يريدون وجهه ، يريدون وجه الله ) . انتهى .
والصحيح : أبو عبد الله جعفر بن محمد أي الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، وليس أبا عبد الله بن الرضا . والظاهر أن الراغب أخذه حديث الكافي المتقدم ، وأن الذي دفع هذا اللغوي إلى ترجيح هذا الوجه أن الله تعالى خارج تخصصاً عن موضوع الآية ، وأن الإستثناء فيها متصل كما أشرنا .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 136 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
تفسير علماء مذهب أهل البيت للآية
* قال الشريف المرتضى في أماليه : 3/46 : ( إن سأل سائل عن معنى قوله تعالى: كل شئ هالك إلا وجهه ، وقوله تعالى: إنما نطعمكم لوجه الله، وقوله : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وما شاكل ذلك من آي القرآن المتضمنة لذكر الوجه ، قلنا : الوجه ينقسم في اللغة العربية إلى أقسام :
فالوجه : المعروف المركب فيه العينان من كل حيوان .
والوجه أيضاً ، أول الشيء وصدره ومن ذلك قوله تعالى : وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره، أي أول النهار . ومنه قول الربيع بن زياد : من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار أي غداة كل يوم ، وقال قوم وجه نهار اسم موضع . والوجه : القصد بالفعل ، من ذلك قوله تعالى : ( ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله ) ، قال الفرزدق :
وأسلمت وجهي حين شدت ركائبي إلى آل مروان بناة المكارم
أي جعلت قصدي وإرادتي لهم ، وأنشد الفراء :
أستغفر الله ذنباً لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
أي القصد ، ومنه قولهم في الصلاة : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ، أي قصدت قصدي بصلاتي وعملي ، وكذلك قوله تعالى : فأقم وجهك للدين القيم .
والوجه : الإحتيال في الأمر ، من قولهم : كيف الوجه لهذا الأمر وما الوجه فيه ، أي ما الحيلة .
والوجه : الذهاب والجهة والناحية ، قال حمزة بن بيض الحنفي :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 137 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أي الوجوه انتجعـت قلـت لهم لا بوجه إلا إلى الحكـم
متى يقل صاحبـاً سراقـة هذا ابن بيض بالباب يبتسم
والوجه : القدر والمنزلة ، ومنه قولهم : لفلان وجه عريض ، وفلان أوجه من فلان ، أي أعظم قدراً وجاهاً ، ويقال : أوجهه السلطان إذا جعل له جاها قال امرؤ القيس :
ونادمت قيصر في ملكه فأوجهني وركبت البريدا
يقال حمل فلان فلاناً على البريد إذا هيأ له في كل مرحلة مركوباً ليركبه ، فإذا وصل إلى المرحلة الأخرى نزل عن المعيى وركب المرفه ، وهكذا إلى أن يصل إلى مقصده .
والوجه : الرئيس المنظور إليه يقال : فلان وجه القوم ، وهو وجه عشيرته.
ووجه الشيء : نفسه وذاته ، قال أحمد بن جندل :
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة فأفلت منها وجهه عتد نهد
أراد أفلته ونجاه ، ومنه قولهم : إنما أفعل ذلك لوجهك . ويدل أيضاً على أن الوجه يعبر به عن الذات قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة ، وقوله تعالى : وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية ، لأن جميع ما أضيف إلى الوجوه في ظاهر الآي من النظر والظن والرضا لا يصح إضافته على الحقيقة إليها ، وإنما يضاف إلى الجملة ، فمعنى قوله تعالى : كل شئ هالك إلا وجهه : أي كل شئ هالك إلا إياه ، وكذلك قوله تعالى : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، لما كان المراد بالوجه نفسه لم يقل ذي الجلال كما قال : تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ، لما كان اسمه غيره .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 138 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ويمكن في قوله تعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، وجه آخر وقد روي عن بعض المتقدمين ، وهو أن يكون المراد بالوجه ما يقصد به إلى الله تعالى ويوجه نحو القربة إليه جلت عظمته ، فيقول لا تشرك بالله ولا تدع إلها غيره فإن كل فعل يتقرب به إلى غيره ويقصد به سواه فهو هالك باطل .
وكيف يسوغ للمشبهة أن يحملوا هذه الآية والتي قبلها على الظاهر ؟ أو ليس ذلك يوجب أنه تعالى يفنى ويبقى وجهه ، وهذا كفر وجهل من قائله .
فأما قوله تعالى : إنما نطعمكم لوجه الله، وقوله: إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وقوله : وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله . . فمحمول على أن هذه الأفعال مفعولة له ومقصود بها ثوابه والقربة إليه والزلفة عنده .
فأما قوله تعالى : فأينما تولوا فثم وجه الله ، فيحتمل أن يراد به فثم الله لا على معنى الحلول ولكن على معنى التدبير والعلم ، ويحتمل أن يراد به فثم رضا الله وثوابه والقربة إليه . ويحتمل أن يراد بالوجه الجهة وتكون الإضافة بمعنى الملك والخلق والإنشاء والإحداث لأنه عزوجل قال : ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ، أي أن الجهات كلها لله تعالى وتحت ملكه وكل هذا واضح بين بحمد الله ) . انتهى .
وخلاصة كلام الشريف الرضي رحمه الله : أن الوجه في الآية بمعنى الذات ، كما قال علماء السنة غير المجسمة ، ويحتمل أن يكون بمعنى الأعمال الصالحة التي يراد بها وجه الله تعالى .
هذا ، لكن وردت في مصادرنا روايات متعددة تفسر الوجه في الآية وكذا النظر إلى وجه الله في الآخرة ، بالأنبياء وأوصيائهم صلوات الله عليهم جميعاً ، لأنهم حملة معرفته وشرائعه ، فهم وجه الله الذي منه يؤتى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 139 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* قال الطبرسي في الإحتجاج : 2/190 : في حديث عن الإمام الرضا عليه السلام قال : قلت يابن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه : إن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله ؟ فقال عليه السلام : يا أبا الصلت فمن وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر ، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه عليهم صلوات الله ، هم الذين بهم يتوجه إلى الله عز وجل وإلى دينه ومعرفته ، فقال الله عز وجل : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام ، وقال الله عز وجل : كل شئ هالك إلا وجهه، فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة ، وقال : إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني . يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يدرك بالأبصار والأوهام ) . انتهى . وقد تقدمت الرواية من الكافي : 1/143 عن الإمام الصادق عليه السلام بنحوه .
والطريف أن البخاري ذكر في صحيحه أن الوجه في الآية بمعنى الذات فقال في ج 8 ص 174 : ( باب قل أي شئ أكبر شهادة ، وسمى الله تعالى نفسه شيئاً ، قل الله ؟ وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً وهو صفة من صفات الله ، وقال : كل شئ هالك إلا وجهه ) . انتهى . ويقصد البخاري بذلك أن قوله ( شئ ) يشمل الله تعالى وأن الإستثناء متصل ، والمقصود بوجهه ذاته .
والأعجب من ذلك أنه ذكر عبارة كأنها تفسير أهل البيت عليهم السلام للآية . فقال في صحيحه : 6/17 : ( كل شئ هالك إلا وجهه ، إلا ملكه ، ويقال إلا ما أريد به وجه الله ، وقال مجاهد : الأنباء الحجج ) . انتهى . ونسخ البخاري المطبوعة فيها كلها ( الأنباء الحجج ) ولعل الصحيح : الأنبياء والحجج ، الذين هم وجه الله تعالى ، وهو نفس ما تقدم عن أهل البيت عليهم السلام ! وإنما قلنا ( لعل الصحيح ) لأن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 140 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
البخاري وضع قول مجاهد في تفسير قوله تعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، وهي الآية 88 آخر سورة القصص .
ولكن يحتمل أن يقصد بذلك قوله تعالى : فعميت عليهم الأنباء يومئذ ... وهي الآية 66 من سورة القصص . فيكون ما نقله عن مجاهد خارجاً عن موضوعنا .
وعلى هذا الإحتمال لا بد لنا من الإلتزام بسوء عبارة البخاري حيث ذكر تفسير الآية المتقدمة بلا عنوان في سياق الآية المتأخرة !
وأخيراً .. لا يبعد كما أشرنا أن يكون موضوع الآية ومصبها أجيال الناس في الأرض قبل يوم القيامة ، ويكون المعنى : كل شئ سيفنى في الدنيا قبل يوم القيامة ، إلا حجج الله تعالى فإنهم يبقون إلى آخر عمر الأرض حتى يرفع الله حجته من الأرض وتقع الصيحة . فتكون الآية في الهالك والثابت من الحياة الاجتماعية ونشوء الأجيال! ويكون معنى الهلاك فيها غير الفناء في قوله تعالى: كل من عليها فان . ومما يدل على ذلك : آخر الحديث المتقدم في الإمامة والتبصرة ص 92 ، ونحوه في الكافي : 1/143 ، ورواه الصدوق في كمال الدين ص 231 ( عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : قلت في قول الله عزوجل : كل هالك إلا وجهه ؟ قال : يا فلان فيهلك كل شئ ويبقى وجه الله عز وجل ، والله أعظم من أن يوصف ، ولكن معناها كل شئ هالك إلا دينه ونحن الوجه الذي يؤتى الله منه ، ولن يزال في عباد الله حجة ما كانت له فيهم روبة ، قلت وما الروبة ؟ قال : الحاجة ، فإذا لم يكن له فيهم روبة رفعنا الله فصنع ما أحب ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 141 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهذا التفسير هو الوحيد المعقول في اعتقادي ، لأنه يستحيل أن تكون ذات الله تعالى مشمولة بالهلاك بأي نحو حتى تحتاج إلى استثناء ! فلا بد بهذه القرينة أن نفسر ( كل شيء ) بالشئ المخلوق فيكون المستثنى مخلوقاً وهو أنبياء الله وحججه عليهم السلام . وقد ورد في أحاديث أخرى كحديث الإحتجاج المتقدم أن المقصود بوجه الله تعالى في القرآن هو الأنبياء والأئمة عليهم السلام وأن المقصود بالنظر إلى وجهه يوم القيامة النظر إليهم ، ولا منافاة بين ذلك وبين أن يكونوا هم عليهم السلام المستثنى في الآية . . ولا يتسع المقام لتفصيل ذلك .
المزيد من نصوص الوهابيين في التجسيم
* قال ابن باز في فتاويه : 2/94 :
( الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد : فقد اطلعت أخيراً على ما نشر في مجلة البلاغ بعددها رقم 637 من إجابة الشيخ أحمد محمود دهلوب على السؤال الآتي : ما تفسير قول الله تعالى : استوى على العرش ، وجاء في هذه الإجابة جملة نسبها إلى السلف وهي قوله : وقال السلف استوى على العرش أي استولى عليه وملكه كقولهم :
استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق
وحيث أن هذه النسبة إلى السلف غلط محض ! أحببت التنبيه على ذلك لئلا يغتر من يراها فيظنها من قول العلماء المعتبرين ، والصواب أن هذا التفسير هو تفسير الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم في نفي الصفات وتعطيل الباري سبحانه وتعالى عما وصف به نفسه من صفات الكمال !
وقد أنكر علماء السلف رحمهم الله مثل هذا التأويل وقالوا : القول في الإستواء كالقول في سائر الصفات وهو إثبات الجميع لله على الوجه اللائق به
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 142 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، قال الإمام مالك : الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . وعلى هذا درج علماء السلف من أهل السنة والجماعة رحمهم الله . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة الحموية : فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله ( ص ) من أولها إلى آخرها ، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين ، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى وهو فوق كل شئ وهو عال على كل شئ ، وأنه فوق العرش وأنه فوق السماء ، مثل قوله تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة مثل قصة معراج الرسول إلى ربه ، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه ، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار .
وبما ذكرناه يتضح للقراء أن ما نسبه أحمد محمود دهلوب إلى السلف من تفسير الإستواء بالإستيلاء غلط كبير وكذب صريح !! لا يجوز الإلتفات إليه، بل كلام السلف الصالح في ذلك معلوم ومتواتر وهو ما أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفسير الإستواء بالعلو فوق العرش ، وأن الإيمان به واجب وأن كيفيته لا يعلمها إلا الله سبحانه ، وقد روي هذا المعنى عن أم سلمة أم المؤمنين وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله وهو الحق الذي لا ريب فيه ، وهو قول أهل السنة والجماعة بلا ريب ، وهكذا القول في باقي الصفات من السمع والبصر والرضى والغضب واليد والقدم والأصابع والكلام والإرادة ، وغير ذلك ، كلها يقال فيها إنها معلومة من حيث اللغة العربية فالإيمان بها واجب والكيف مجهول لنا لا يعلمه إلا الله سبحانه ، مع الإيمان أن صفاته سبحانه كلها
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 143 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كاملة وأنه سبحانه لا يشبه شيئاً من خلقه، فليس علمه كعلمنا ولأيده كأيدينا ولا أصابعه كأصابعنا ولا رضاه كرضانا إلى غير ذلك ، كما قال سبحانه : ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) . والواجب على المؤمن التمسك بما أخبر الله به ورسوله ودرج عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان ، والحذر من مقالات أهل البدع الذين أعرضوا عن الكتاب والسنة ، وحكموا أفكارهم وعقولهم فضلوا وأضلوا ) .
* وقال ابن باز في فتاويه : 2/98 :
( فقد اطلعت على ما نشر في صحيفة الشرق الأوسط في عددها 3383 الصادر في 3/4/1408 بقلم الدكتور محي الدين الصافي بعنوان ( من أجل أن نكون أقوى أمة ) وقد لفت نظري ما ذكره عن اختلاف السلف والخلف في بعض صفات الله ، وهذا نص كلامه : ( إلا أنه وردت في القرآن الكريم آيات تصف الله تعالى ببعض صفات المخلوقين من مثل قوله تعالى : يد الله فوق أيديهم ، كل شئ هالك إلا وجهه ، الرحمن على العرش استوى ، وللعلماء في فهم هذه الآيات طريقتان ، الأولى طريقة السلف وهي أن نثبت الله تعالى ما أثبت لنفسه ولكن من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل ، واضعين نصب أعينهم عدم تعطيل الذات الإلهية عن الصفات ، مع جزمهم بأن ظاهر هذه الآيات غير مراد ، وأن الأصل تنزيه الله تعالى عن كل ما يماثل المخلوقين لقوله تعالى : ليس كمثله شئ وهو السميع البصير . أما طريقة الخلف فهي تأويل هذه الكلمات وصرفها عن ظاهرها إلى المعنى المجازي فتكون اليد بمعنى القدرة والوجه بمعنى الذات والإستواء بمعنى الإستيلاء والسيطرة ونفوذ الأمر ، لأنه قام الدليل اليقيني على أن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 144 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الله ليس بجسم ولقوله تعالى : ليس كمثله شئ وهو السميع البصير . وكل من الطريقين صحيحة مذكورة في الكتب المعتمدة للعلماء الأعلام . . . إلخ ) .
وقد أخطأ عفا الله عنا وعنه في نسبته للسلف ( جزمهم بأن ظاهر هذه الآيات غير مراد ) فالسلف رحمهم الله ومن سار على نهجهم إلى يومنا هذا يثبتون لله ما أثبته لنفسه من صفات الكمال أو أثبته له رسوله ( ص ) ويعتقدون حقيقتها اللائقة بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تأويل لها عن ظاهرها ولا تفويض ! قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الفتوى الحموية ما نصه : روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال : كنا والتابعيون متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات ، فقد حكى الأوزاعي وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين الذين هم مالك إمام أهل الحجاز والأوزاعي إمام أهل الشام والليث إمام أهل مصر والثوري إمام أهل العراق ، حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية ، وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته ، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف هذا .
أما قوله (أما طريقة الخلف فهي تأويل هذه الكلمات وصرفها عن ظاهرها ) إلى قوله (وكل من الطريقتين صحيحة مذكورة في الكتب المعتمدة للعلماء الأعلام ) انتهى . أقول : هذا خطأ عظيم فليست كلتا الطريقتين صحيحة ، بل الصواب أن طريقة السلف هي الصحيحة وهي الواجبة الاتباع ، لأنها عمل بالكتاب والسنة وتمسك بما درج عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان من التابعين ومن تبعهم من الأئمة الأعلام ، وفيها تنزيه الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 145 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
سبحانه وتعالى عن صفات النقص بإثبات صفات الكمال وتنزيه الله سبحانه عن صفات الجمادات والناقصات والمعدومات ، وهذا هو الحق ، أما تأويلها على ما يقول علماء الخلف من أصحاب الكلام ، فهو خلاف الحق وهو تحكيم للعقل الناقص وقول على الله بلا علم ، وفيه تعطيل الله جل وعلا من صفات الكمال ، فهم فروا من التشبيه المتوهم في أذهانهم ووقعوا في التعطيل .
والخلاصة أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب أتباعه والقول به ، وأما ما ذهب إليه بعض علماء الخلف من تأويل نصوص صفات الله جل وعلا فهو باطل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما عليه سلف الأمة .
وقوله ( قام الدليل على أن الله ليس بجسم ) هذا الكلام لادليل عليه لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة وصف الله سبحانه بذلك أو نفيه عنه ! فالواجب السكوت عن مثل هذا ، لأن مأخذ صفات الله جل وعلا توقيفي لا دخل للعقل فيه ، فيوقف عند حد ما ورد في النصوص من الكتاب والسنة ) .
* وقال ابن باز في فتاويه : 2/105 :
( من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم محمد بن أحمد سندي وفقه الله وزاده من العلم والإيمان آمين ، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : كتابكم المطول المؤرخ بدون وصل وصلكم الله بهداه وما تضمنه من الأمور الآتية :
1 - قولك في صدر الكتاب : الله منزه عن الجهة ولا يحيط به مكان .
2 - قولك لفت نظري واسترعى انتباهي وأنا أتصفح كتاب ( صراع بين الحق والباطل ) للأستاذ سعد صادق ثم ذكرت ما احتج به على علو الله من الآيات والأحاديث إلى أن قلت : ولست أدري ما الذي يجنيه ذلك المؤلف وأمثاله من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 146 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
هذا الاعتقاد الذي يكون في الغالب مثاراً للفتن والإضطرابات وتفريق الصفوف ، إلى أن قلت : وخاصة وأن العامة يتمسكون بما في هذا الكتاب ويعتقدون بأن الله موجود في السماء . . . إلخ . ثم ذكرت في آخر هذا الكتاب أنك نقلت كلام الرازي والقرطبي والصاوي للإحاطة ، ولعلي أرد عليها . والذي يظهر لي من كتابك هذا أنك لست متبصراً في أمر العقيدة في باب الأسماء والصفات ، وأنك في حاجة إلى بحث خاص وعناية بما يوضح لك العقيدة الصحيحة .
وعليه : فاعلم بارك الله فيك أن أهل السنة والجماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان مجمعون ( ؟ ) على أن الله في السماء وأنه فوق العرش وأن الأيدي ترفع إليه سبحانه ، كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة كما أجمعوا أنه سبحانه غني عن العرش وعن غيره ، وهكذا قال أهل السنة في جميع الصفات مثل قول مالك : المعاني معلومة على حسب ما تقتضيه اللغة العربية التي خاطب الله بها العباد ، والكيف مجهول ، وتلك المعاني معان كاملة ثابتة موصوف بها ربنا سبحانه ، لا يشابه فيها خلقه ، والكلام في هذا يحتاج إلى مزيد بسط ، وسنفعل ذلك إن شاء الله بعد وصولنا إلى المدينة ، ونقرأ عليك كتابك وننبهك على ما فيه من أخطاء ونوصيك بتدبر القرآن الكريم والإيمان بأن جميع ما دل عليه حق لائق بالله سبحانه فيما يتعلق بباب الأسماء والصفات ، كما أن جميع ما دل عليه حق في جميع الأبواب الأخرى ، ولا يجوز تأويل الصفات ولا صرفها عن ظاهرها اللائق بالله ولا تفويضها ، بل هذا كله من اعتقاد أهل البدع ، أما أهل السنة والجماعة فلا يؤولون آيات الصفات وأحاديثها ولا يصرفونها عن ظاهرها ولا يفوضونها ، بل يعتقدون أن جميع ما دلت عليه من المعنى كله حق ثابت الله لائق به سبحانه لا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 147 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يشابه فيه خلقه كما قال سبحانه ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) وقال سبحانه ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) نفى عن نفسه مماثلة الخلق وأثبت لنفسه السمع والبصر على الوجه اللائق به ، وهكذا بقية الصفات .
ونوصيك أيضاً بمطالعة جواب شيخ الإسلام ابن تيمية لأهل حماه وجوابه لأهل تدمر ففي الجوابين خير عظيم ، وتفصيل لكلام أهل السنة ، ونقل لبعض كلامهم ولا سيما الحموية، كما أن فيهما الرد الكافي على أهل البدع، ونوصيك أيضاً بمطالعة العقيدة النونية ومختصر الصواعق المرسلة وكلاهما للعلامة ابن القيم ، وفيهما من البيان والإيضاح لأقوال أهل السنة والرد على أهل البدع ما لعلك لا تجده في غيرهما ، مع التحقيق والعناية بإيضاح الأدلة من الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة ) . انتهى .
ولم نجد في كلام ابن باز شيئاً جديداً عما ذكره ابن تيمية ، نعم ينبغي الإشارة إلى المفتي الأكبر وافق تلميذه الألباني على تفسير ( كل شئ هالك إلا وجهه ) بالوجه الحقيقي لله ، سبحانه وتعالى .
وليت المجال يتسع لعرض نماذج من نونية ابن القيم التي يوصي المفتي المحترم بأخذ عقيدة التوحيد منها ليرى القارئ أنها لا يصح أن تسمى قصيدة ولا توحيداً ، فقد كتب ابن قيم ستة آلاف سطر جبلها جبلاً منكراً أخجل فيه الأدب العربي ! وخبط فيها في التوحيد خبطاً أوجع فيه المتانة العلمية عند علماء المسلمين جلداً وتعزيراً ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 148 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وتستر الوهابيون بالإمام مالك ونسبوا مذهبهم إليه
دأب ابن تيمية وتبعه الوهابيون كما رأيت من ابن باز والألباني على الإستشهاد لمذهبهم بقول الإمام مالك في تفسير قوله تعالى : على العرش استوى.
* وقال ابن باز أيضاً في فتاويه : 5/171 :
( فهو سبحانه العالي فوق خلقه والمستوي على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته ، وليس المعنى استولى كما تقول المبتدعة من الجهمية وغيرهم ، بل هو بمعنى ارتفع فوق عرشه كما قال السلف ، ومما اشتهر في ذلك قول مالك رحمه الله لما سئل عن قوله : الرحمن على
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 149 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
العرش استوى كيف استوى ؟ فأجاب : الإستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ) . انتهى .
* وقال الألباني في فتاويه ص 518 :
( سائل سأل مالك فقال له يا مالك : الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ قال: الإستواء معلوم الإستواء المعلوم لا يعني الإستواء المفوض معناه ، الإستواء معلوم هو العلو ، لكن الكيف مجهول ، فقال مالك : أخرجوا الرجل فإنه مبتدع ! وإذا أخذنا بفتوى مالك فما هو حكم تفسير الخليفة عمر للإستواء بأن الله تعالى يجلس على العرش فيئط العرش من ثقله أو يكون له صرير أو أزيز كصوت خشب حداجة البعير عندما تكون جديدة ويركب عليها أحد ! وستأتي روايات ذلك .
الشئ الثاني : إذا قال الإمام أحمد أو غيره : مروها ( يقصد أمروها ) كما جاءت ترى قبل الإمام أحمد إمام دار الهجرة وهو الإمام مالك رحمه الله هل كان على هذا المذهب حينما جاءه ذاك السائل فقال له : يا مالك ، الرحمن على العرش استوى كيف استوى قال الإستواء معلوم فالإستواء معلوم لا يعني الاستواء مفوض معناه لا ، قال الإستواء معلوم ، وهو العلو ، لكن الكيف مجهول وهذا هو مذهب السلف ، ولذلك كان تمام كلام الإمام مالك رحمه الله قال : أخرجوا الرجل فإنه مبتدع .
لم يكن هذا الرجل السائل مبتدعاً لأنه سأل عن معنى خفي عليه عن قوله : الرحمن على العرش استوى ، وإنما أخرج وبدع لأنه سأل عن كيفية الإستواء فكان قول الإمام مالك هذا هو الذي يمثل منهج السلف الصالح والمتبعين لهم بإحسان إلى يوم الدين هو أن معاني آيات الصفات وأحاديث الصفات مفهومة لغة ، لكن كيفياتها مجهولة تماماً ، فلا يعرف كيفية الذات إلا صاحب الذات ، ولا يعرف كيفية الصفات إلا الذات نفسها ، لكن الإستواء معلوم والسمع معلوم والبصر معلوم إلى آخره .
ولذلك أنا أعتقد أن تفسير كلمة الإمام أحمد : مروها كما جاءت ، هو بأنها تعني عدم فهم الآيات ، وأن نقول الله أعلم بمراده كما يزعم الخلف ، هذا هو أصل التعطيل المؤدي إلى جحد الخالق سبحانه وتعالى ، ولذلك فأنا يعجبني كلمة شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله وأكررها على مسامعكم لتحفظوها لأن فيها جماعة هذه المسألة في كلمتين يقول رحمه الله ( المشبه يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً ) فالله إذا قال إنسان ليس فوق وليس تحت وليس يمين وليس يسار وليس
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 150 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
داخل العالم ولا خارجه كما يقول المبتدعة الضالون في هذا البلد خاصة ، يزعمون أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ، هذا وصف للمعدوم الذي لا وجود له لو قيل لإنسان ما العدم شئ، ماذا تتصورون أن يكون الجواب هل هو فعلاً شئ ؟ العدم لا شئ . إذا قيل أن هذا العدم الذي لا شئ هو داخل العالم أو خارجه هل يصح هذا الوصف ؟ لا ، لا يصح ، فإذا كان هناك شئ له وجوده وله كيانه فهل يقال أنه ليس داخل العالم وليس خارج العالم كذلك ؟ لايقال إذن من هنا قال ابن تيمية رحمه الله : والمعطل يعبد عدماً أي : شيئاً لا وجود له ) .
انتهى كلام الألباني المطول ، وترجمته المختصرة : أن الله تعالى جسم لأنه لا يوجد في الطبيعة ولا خارجها إلا الأجسام ! واستواؤه على العرش مادي ، ولا تسأل كيف ، وإلا كفرناك وقلنا أخرجوه أو اقتلوه !
ولا تقل إن هذا إرهاب فكري فهذا موقف الإمام مالك ، ونحن نقلده في تفسيره للصفات وفي إرهابه الديني ، وإن كنا نخالفه في بدعته بتجويز زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله !
ولا تقل إن الخليفة عمر فسر جلوس الله تعالى على العرش بجلوس الرجل على حداجة البعير أو الكرسي الخشبية الجديدة ، فصارت تئز وتئط وتصر وتطقطق من ثقله !! لأن هذا التفسير حلال للخليفة عمر حرام عليك !!
ولكن إذا صح ما نسبوه إلى المفوضة في هذا الموضوع من إرهاب فكري فإن المفوضة ارتكبوا إرهاباً واحداً ، أما الوهابيون فقد ارتكبوا إرهابيين وتفويضاً ! فالمفوضة قالوا : لا نعرف كيف استوى على العرش ، ويحرم عليك السؤال عنه . والوهابيون قالوا : يجب أن تفسر الإستواء بالإستواء المادي وإلا فأنت مفوض جهمي معطل ضال ملحد ! وبعد أن تفسره بذلك يقولون لك : يجب أن تفوض معناه وإلا فأنت فاسق مظهر لما أوجب الله كتمانه من تجسيمه !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 151 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
سبحان الله ، صار التفويض الحرام واجباً هنا ، ولكن بعد الإجبار على التفسير الحسي ! ! لقد ارتكبوا الإرهاب على التفسير الحسي ، ثم الإرهاب على تفويض الإستواء الحسي وعدم السؤال عن كيفيته ! !
فالمفوض كمن يقول لك : لا تفتح باب السؤال ولا تدخل هذا المكان . والوهابي كمن يقول لك : إقفز من السطح ، لكن لا تقع على الأرض !
أما ما نسبوه إلى الإمام مالك فلم يثبت عنه ما يريدون التشبث به ، وإليك كل ما روي عنه في هذا الموضوع !
( 1 - روى الذهبي في سيره : 8/100 ، عن جعفر بن عبد الله قال : كنا عند مالك فجاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله : الرحمن على العرش استوى كيف استوى ؟ فما وجد مالك من شئ ما وجد من مسألته ، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء ، ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقال : الكيف منه غير معقول ، والإستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأظنك صاحب بدعة ، وأمر به فأخرج . قال سلمة بن شبيب مرة في رواية هذا وقال للسائل : إني أخاف أن تكون ضالاً .
2 - وقال أبو الربيع الرشيديني : حدثنا ابن وهب قال كنا عند مالك فقال رجل : يا أبا عبدالله : الرحمن على العرش استوى ، كيف استواؤه ؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال له كيف ، وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة ، أخرجوه .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 152 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
3 - وقال محمد بن عمرو قشمرد النيسابوري : سمعت يحيى بن يحيى يقول : كنا عند مالك فجاءه رجل فقال : الرحمن على العرش استوى ، فذكر نحوه ، وفيه فقال : الإستواء غير مجهول .
4 - 5 - وروى الذهبي في سيره : 8/105 : وقال ابن عدي : حدثنا محمد بن هارون بن حسان ، حدثنا صالح بن أيوب ، حدثنا حبيب بن أبي حبيب ، حدثني مالك قال : يتنزل ربنا تبارك وتعالى أمره ، فأما هو فدائم لا يزول ، قال صالح : فذكرت ذلك ليحيى بن بكير فقال : حسن والله ، ولم أسمعه من مالك . قلت : لا أعرف صالحاً ، وحبيب مشهور ، والمحفوظ عن مالك رواية الوليد بن مسلم أنه سأله عن أحاديث الصفات فقال : أمرها كما جاءت بلا تفسير ، فيكون للإمام في ذلك قولان إن صحت رواية حبيب .
6 - قال القاضي عياض : قال أبو طالب المكي : كان مالك رحمه الله أبعد الناس من مذاهب المتكلمين وأشد نقضاً للعراقيين . ثم قال القاضي عياض: قال سفيان بن عيينة: سأل رجل مالكاً فقال : الرحمن على العرش استوى كيف استوى ، فسكت مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال: الإستواء منه معلوم والكيف منه غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب، وإني لأظنك ضالاً أخرجوه ) . انتهى .
وأنت ترى أنه لا يوجد في آراء الإمام مالك هذه نص واحد بالحمل على الظاهر كما زعم الوهابيون ، بل فيها ما هو صريح بضد ما نسبوه إليه !
فالرواية الأولى نفى فيها مالك الكيف عن الله تعالى ومنه كيف الإستواء لا أنه نفى كيفية الإستواء ، قال ( الكيف منه غير معقول ، والإستواء منه غير مجهول ) وهذه العبارة تعني أن الإستواء عنده بلا كيف أصلاً ، فهو ليس استواء حسياً
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 153 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كيفيته مجهولة كما يقول الوهابيون ! ومعنى أنه غير مجهول أنه قطعي الثبوت لله تعالى لأنه بنص القرآن ، فأين دلالته على ما يدعونه من الإستواء الحسي ؟ !
والرواية الثانية والثالثة ، تؤكدان ما ذكرناه عن الأولى قال ( الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ، ولا يقال له كيف ، وكيف عنه مرفوع ) بل إن عبارة لا يقال له كيف هي المستعملة في أحاديث أهل البيت عليهم السلام وفي كلمات المنزهين لنفي المادية عن الله تعالى .
والرواية الرابعة ، أول فيها الإمام مالك النزول بنزول أمره ، ( قال : يتنزل ربنا تبارك وتعالى أمره ، فأما هو فدائم ) . والتأويل عند الوهابيين بدعة وتعطيل وضلال وإلحاد ، فاللازم في مذهبهم أن يحكموا على الإمام مالك بذلك ، ويخلصوه من التستر باسمه !
والرواية الخامسة ، تفويض محض ، لا حمل فيها على ظاهر ولا باطن ، وقد اعترف بذلك الذهبي ( سأله عن أحاديث الصفات فقال : أمرها كما جاءت بلا تفسير ) .
والسادسة ، فيها ( الإستواء منه معلوم ، والكيف منه غير معقول ) فقد نفى فيها الكيف عن الإستواء أي نفى الإستواء الحسي الوهابي عن الله تعالى ، وقد نص على أن المنفي هو كيف الإستواء أو مطلق الكيف عن الله تعالى بكلمة ( منه ) وأوضح بذلك أن مراده بقوله معلوم أنه ثابت بالقرآن ، كما تقدم . فأين ما يدعونه على الإمام مالك من موافقة مذهبهم ؟ !
ولماذا يصرون على التستر باسمه ، ويصورون للمسلمين أن الامام مالك معهم ومنهم ، ولم يبق إلا أن يصدروا له هوية عضوية في جماعة الطالبان ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 154 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقال في المدونة الكبرى : 6/465 : ( وسئل رحمه الله عن معنى قوله تعالى الرحمن على العرش استوى ، فعرق وأطرق وصار ينكت بعوده في يده ثم رفع رأسه وقال : الكيف منه غير معقول ، والإستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وأظنك صاحب بدعة وأمر بالسائل فأخرج ، كذا في طبقات الشعراني ) . انتهى .
وهذه الرواية ، وهي رواية مدونة مالك ، كالرواية الأولى تبدأ بنفي كيفية الإستواء بالمعنى الحسي الذي يقولونه ! فمن أين فسروا قوله إن الإستواء غير مجهول بأنه يقصد به الإستواء المادي على العرش ؟ تعالى الله عن ذلك .
* ويؤيد ما فهمناه من كلمات مالك شهادة الشافعي التي نقلها السبكي في طبقات الشافعية : 9/40 : ( قال الشافعي : سألت مالكاً عن التوحيد فقال : محال أن نظن بالنبي ( ص ) أنه علم أمته الإستنجاء ولم يعلمهم التوحيد ، وقد قال ( ص ) أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله . . . ولم يقل : من التوحيد اعتقاد أن الله تعالى في جهة العلو ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 155 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الإمام مالك يكذب كل أحاديث الرؤية ويهدم أساس مذهبهم
* قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : 8/103 :
( أبو أحمد بن عدي : حدثنا أحمد بن علي المدائني ، حدثنا إسحاق ابن إبراهيم بن جابر ، حدثنا أبو زيد بن أبي الغمر قال ابن القاسم سألت مالكاً عمن حدث بالحديث الذي قالوا : إن الله خلق آدم على صورته ، والحديث الذي جاء : إن الله يكشف عن ساقه ، وأنه يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد ، فأنكر مالك ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يحدث بها أحد ! فقيل له إن ناساً من أهل العلم يتحدثون به فقال : من هو ؟ قيل ابن عجلان عن أبي الزناد ، قال لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالماً ، وذكر أبا الزناد فقال : لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات ) . انتهى .
وهو نص غني فيه معلومات مهمة . . ومعنى كلام الإمام مالك أن الراوي الأصلي لهذا الحديث هو أبو الزناد ، وهو متهم لأنه كان عاملاً عند بني أمية فهو موظف عندهم ينشر أحاديث التجسيم التي أخذوها من كعب الأحبار وغيره من اليهود وتبنوا نشرها في الأمة ! وهي رواية تكفي الباحث ليعرف أن الدولة الأموية قد تبنت الإسرائيليات من القرن الأول ودستها في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله ، وأنها وظفت رواة يروونها حتى من غير العلماء ! ! وهي شهادة من مالك تكفي لاتباع مذهبه ولكل منصف لكي يتوقف في كل أحاديث التشبيه والتجسيم الأموية اليهودية .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 156 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ولكن أنظر إلى الذين أُشْرِبُوا في قلوبهم التشبيه والتجسيم كالذهبي ، كيف التفوا على موقف الإمام مالك الواضح القاطع ، وأهانوه بأنه جاهل لم يطلع على تلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة بزعمهم !
وقال الذهبي بعد إيراده قول الإمام مالك المتقدم : ( قلت : أنكر الإمام ذلك ، لأنه لم يثبت عنده ولا اتصل به فهو معذور ، كما أن صاحبي الصحيحين معذوران في إخراج ذلك أعني الحديث الأول والثاني لثبوت سندهما ، وأما الحديث الثالث فلا أعرفه ! ) . انتهى .
فكأنه يجب على الإمام مالك برأي الذهبي أن يقلد البخاري ، وقد كان مالك إماماً رسمياً لكل الدولة الإسلامية والبخاري ما زال في صلب جد جده! فهل يحرم على مالك أن يجتهد ويخالف البخاري في تصحيح أحاديث أو ردها؟ ! أم ينبغي للبخاري أن يتوقف عن رواية أحاديث كان الإمام مالك يشهد بكذبها وأمويتها ! !
بل يشير النص التالي إلى أن مالكاً كان طيلة حياته يتبنى أربعة آراء مهمة : أولها ، عدم زيادة الإيمان ونقصه . ثانيها ، القول بخلق القرآن . ثالثها ، عدم رؤية الله تعالى حتى في الآخرة . رابعها ، عدم عدالة بعض الصحابة المعروفين!
ولذا ادعوا عليه أنه رجع عن آرائه هذه في مرض موته !
* قال الذهبي في تاريخ الإسلام : 32/62 : ( . . . أنه في مرضه رأى مالكاً قال له : قل الإيمان يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن الله يرى في الآخرة ، وقل بفضل الصحابة ) . انتهى .
وهذه الرواية وغيرها تدل على أن هذه الآراء كانت موجودة عند الإمام مالك، ومن حق الباحث أن يشك في ادعائهم رجوعه عنها في مرض موته !!
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 157 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بل ادعوا أن معبودهم على صورة إنسان وله أعضاؤه !
* قال ابن باز في فتاويه ج 4 ص 368 ، فتوى رقم 2331 :
( سؤال 1 : عن أبي هريرة رحمه الله عن النبي ( ص ) أنه قال ( خلق الله آدم على صورته ستون ذراعاً ) فهل هذا الحديث صحيح ؟
الجواب : نص الحديث ( خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً ) ثم قال : إذهب فسلم على أولئك النفر ، وهم نفر من الملائكة جلوس ، فاستمع فما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فذهب فقال : السلام عليكم ، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله ، فزادوه ورحمة الله ، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً ، فلم يزل الخلق تنقص بعده إلى الآن ) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم . وهو حديث صحيح ، ولا غرابة في متنه فإن له معنيان : الأول : أن الله لم يخلق آدم صغيراً قصيراً كالأطفال من ذريته ثم نما وطال حتى بلغ ستين ذراعاً ، بل جعله يوم خلقه طويلاً على صورة نفسه النهائية طوله ستون ذراعاً . والثاني : أن الضمير في قوله ( على صورته ) يعود على الله بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة ( على صورة الرحمن ) وهو ظاهر السياق ولا يلزم على ذلك التشبيه ، فإن الله سمى نفسه بأسماء سمى بها خلقه ووصف نفسه بصفات وصف بها خلقه ، ولم يلزم من ذلك التشبيه ، وكذا الصورة ، ولا يلزم من إتيانها لله تشبيهه بخلقه ، لأن الإشتراك في الإسم وفي المعنى الكلي لا يلزم منه التشبيه فيما يخص كلا منهما لقوله تعالى ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) . انتهى.
وهكذا تقضي فتوى الشيخ ابن باز بأن آدم على صورة الله والله على صورة آدم ، وأن هذا ليس تشبيهاً أبداً أبداً ! ! ويمكنك أن تفتي بمثلها فتنفي شخصاً عن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 158 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أولاد آدم فتقول : إن فلاناً على صورة آدم وآدم على صورته ولكنه لا يشبه آدم أبداً ! ! بل يمكنك أن تخلص بهذه الفتوى مجرماً فتقول هذه الصورة صورته ولكنها لا تشبهه أبدا أبداً ! !
إن أصل مشكلة الوهابيين أنهم مضطرون في إثبات مذهبهم إلى قلب معاني كلمات اللغة العربية ! فالأمر دائر عندهم بين أن يقلبوا ألفاظ اللغة أو ينقلب مذهبهم ! !
ويالبؤس مذهب إذا اعتدلت الكلمات انقلب، وإذا انقلبت معانيها اعتدل!
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 159 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقالوا : معبودهم يركض ويهرول
* قال الألباني في فتاويه ص 506 :
( سؤال : حول الهرولة ، وهل أنكم تثبتون صفة الهرولة لله تعالى ؟
جواب : الهرولة كالمجيء والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها ) .
* وقال ابن باز في فتاويه : 5/374 :
( ومن ذلك الحديث القدسي وهو قول الله سبحانه : من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة . أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ) . انتهى .
ويقصد بذلك تحريم تفسير الهرولة بالقرب المعنوي ، ووجوب القول بأن الله تعالى يهرول حسياً !
وقالوا : معبودهم له ساق حقيقية
* قال ابن باز في فتاويه : 4/130 ، ونحوه في : 5/71 :
( الرسول ( ص ) فسر ( يوم يكشف عن ساق ويدعون ) بأن المراد يوم يجئ الرب يوم القيامة ويكشف لعباده المؤمنين عن ساقه وهي العلامة بينه وبينهم سبحانه وتعالى ، فإذا كشف عن ساقه عرفوه وتبعوه ، وهذه من الصفات التي تليق بجلال الله وعظمته لا يشابهه فيها أحد جل وعلا ! وهكذا سائر الصفات كالوجه واليدين والقدم والعين وغير ذلك من الصفات الثابتة بالنصوص ، ومن ذلك الغضب والمحبة والكراهة وسائر ما وصف به نفسه سبحانه في الكتاب العزيز وفيما أخبر به النبي ( ص ) كلها وصف شاهق وكلها تليق بالله جل وعلا ! أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سار في ركبهم ، وهو مذهب باطل أنكره أهل السنة والجماعة وتبرؤوا منه وحذروا من أهله ) . انتهى .
ويقصد بذلك تحريم تفسير الساق بالكناية والمجاز ، ووجوب تفسيرها بالساق المادية، شبيهة بساق أحد علماء الوهابية مثلاً ! تعالى الله عما يصفون.
* وقال ابن باز في فتاويه: 5/371 : (طالب يسأل ويقول ما هو الحق في تفسير قوله تعالى ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) جواب : الرسول ( ص ) فسرها بأن المراد يوم يجئ الرب يوم القيامة ويكشف لعباده المؤمنين عن ساقه ، عرفوه وتبعوه ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 160 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وتحيروا هل لمعبودهم أذن مادية أم هو ممسوخ الأذن !
وكما احتاط الألباني في هرولة الله تعالى حتى أفتى له بها ابن باز ، كذلك احتاط في أن الله تعالى له أذن أو أن جنب رأسه ممسوح بلا أذن ، فلم يفت بالنفي ولا بالإثبات ! وليتهم احتاطوا لدينهم في أصل مقولتهم هذه ، لا في تفاصيلها المضحكة ! قال الألباني في فتاويه ص 344 : ( سؤال : صفة الأذن لله، موقف أهل السنة والجماعة منها ؟
جواب : لا يثبتون ولا ينفون بالرأي ، أما ما أثبته النص فهم يثبتونه بدون تكييف ، السلفيون مستريحون من هذه الكيفية يعني استراحوا من التشبيه عملاً بالتنزيه ، وإن العين صفة من صفاته تليق بعظمته وجلاله ) .
من تأثير تجسيم الوهابيين على أطفال المسلمين
فرض علماء الوهابية مذهبهم في التجسيم على الثقافة السعودية ، وروجوا الأحاديث المتشابهة والموضوعة في التجسيم ، وكرروا ذكر أحاديث النزول وأحاديث يكشف عن ساقه في خطبهم بمناسبة وغير مناسبة حتى فهم الناس منها النزول المادي والساق المادية ، وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع الله تعالى رجله فيها فتقول قط قط . . . إلخ . وكتبوها في مناهج التدريس ، فحفظها الأطفال الأبرياء ، ونشأت ناشئة من ذراري المسلمين تتصور أن التجسيم جزء من عقيدة الإسلام ! !
وقد حدث أحد السعوديين أن معلماًً في مدرسة في المملكة العربية السعودية سأل تلاميذه يوماً فقال : كيف نعرف الله ؟
فأجابه أحدهم : يا أستاذ نعرفه بأن رجله محروقة ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 161 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهذا الطالب البريء لا ذنب له ، لأنه تعلم أن المؤمنين لا يعرفون ربهم يوم القيامة إلا بالعلامة التي بينهم وبينه وهي أنه يأتيهم ويكشف عن ساقه فيعرفونه ، وتعلم أن جهنم لا تمتلئ حتى يضع الله عز وجل فيها رجله ليملأها فتقول قط قط ، فلا بد أن تكون النار قد لفحتها وأن تكون رجله التي يكشفها للمؤمنين محروقة بالنار ! !
وهكذا يخربون فطرة الله تعالى التي فطر عليها أبناء المسلمين على التنزيه، ويغرسون في أذهانهم التجسيم . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وقالوا كان الهواء قبل معبودهم أو معه
* قال ابن تيمية في مجموعة الرسائل مجلد 2 جزء 4 ص 95 :
( حديث أبي رزين العقيلي . . أنه سأل النبي ( ص ) فقال يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ فقال : كان في عماء ، ما فوقه هواء ما تحته هواء ) . انتهى .
وبهذا يكون مذهب ابن تيمية أن الله تعالى محدود من فوقه أيضاً ، فتحته الهواء والأرض وفوقه الهواء فقط ، ويكون الهواء موجوداً مع الله تعالى أو قبله !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 162 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وتحيروا في العرش هل هو كروي أو مسطح ؟ !
فقد ألف ابن تيمية كتاباً حاول فيه أن يثبت أن العرش مسطح وليس كروياً لأنه إذا كان كروياً فإن الله تعالى يكون كروياً مثل عرشه ! ويكون بدنه محيطاً بنا ولا يكون فوقنا فقط بل يكون فوقنا وتحتنا ! !
* قال في مجموعة الرسائل مجلد 2 جزء 4 ص 104 - 112 :
( سئل شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ما تقول في العرش هل هو كري أم لا ؟ فإذا كان كرياً والله من ورائه محيط بائن عنه ، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون غيره ؟
والجواب عن هذا بثلاث مقامات : أحدها أن لقائل أن يقول لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية الشكل لا بدليل شرعي ولا دليل عقلي . . فقالوا بطريق الظن إن العرش هو الفلك التاسع لاعتقادهم أن ليس وراء ذلك التاسع شئ ، إما مطلقاً وإما أنه ليس وراءه مخلوق . .
وقد استدل من استدل على أن العرش مقبب . . . عن جبير بن مطعم قال أتى رسول الله ( ص ) أعرابي فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وجاع العيال . . فادع لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك . . وقال ويحك أتدري ما تقول ؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه . . إن الله على عرشه وأن عرشه على سماواته وأرضه لهكذا ، وقال بأصابعه مثل القبة . . . إلخ . ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 163 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقالوا معبودهم موجود مادي يحويه العرش
* قال ابن باز في فتاويه : 1/317 السؤال الثالث والخامس من الفتوى رقم 7351 :
(سؤال : ماذا يكون ردي إذا سألني سائل عن المكان الذي يوجد فيه الله ؟
جواب : تقول فوق عرشه كما قال تعالى الرحمن على العرش استوى ) . انتهى .
وينبغي الإلتفات إلى أن سؤال هذا الإنسان عن المكان الذي يوجد فيه الله تعالى ، يعني عن الظرف المادي الذي يحوي وجوداً مادياً ، والذي يلزم منه أن ينحصر وجود المظروف فيه ولا يوجد في غيره ، وأن يرتبط أصل وجود المظروف به ، ولا يكون موجوداً قبله !
وكان على المفتي أن لا يقبل صيغة السؤال ، ويبين للسائل أنه لا يصح سؤال كهذا في حق الله تعالى ! ولكن المفتي جعل ربه كتلة مادية موجودة على العرش ، ولزمه أن يعترف بأن العرش كان موجوداً قبل الله تعالى ، أو موجوداً معه من الأزل كما قال ابن تيمية، ولكنه قال إن عرشه يبلى ويتجدد!
وجعلوا حملة عرش معبودهم حيوانات
* فقد صحح مرجعهم في الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني حديث أم الطفيل في تعليقته على سنة ابن أبي عاصم برقم ( 471 ) وجاء فيه أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه عز وجل في المنام ( في أحسن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 164 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
صورة : شاباً ، موفراً ، رجلاه في خضرة ، عليه نعلان من ذهب ، على وجهه فراش من ذهب ) !
* وقد صحح إمام الوهابية في آخر كتابه ( التوحيد ) حديث الأوعال التي تحمل عرش الله تعالى ! ونسب إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ( كم ترون بينكم وبين السماء ؟ قالوا : لا ندري ، قال : فإن بينكم وبينها إما واحداً أو اثنين أو ثلاثاً وسبعين سنة ( وكأن الشك من النبي صلى الله عليه وآله حيث لم يذكر ابن عبد الوهاب أن الشك من الراوي ) والسماء فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ، ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهن العرش بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء ، ثم الله فوق ذلك تبارك وتعالى !
* قال السقاف في هامش كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لابن الجوزي ص259 : ( قلت : وقد بين بطلان هذا الحديث الإمام المحدث الكوثري في مقالة خاصة مطبوعة ضمن كتابه ( المقالات ) ص 308 سماها ( أسطورة الأوعال ) فلتراجع فإنها مهمة جداً . وكذا أبطله الإمام المحدث عبد الله بن الصديق الغماري وذكر بطلان متنه في كتابه في سبيل التوفيق فقال ( وبينت بطلان حديث الأوعال بأن إسناده ضعيف ومعناه منكر ) . انتهى .
وما دام الوهابيون يقبلون أسطورة الأوعال التي تحمل العرش فلعلهم يقبلون مجموعة الحيوانات الأخرى التي أخذها مجسمة المسلمين من مجسمة اليهود وادعوا أنها حملة العرش !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 165 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* فقد قال الدميري في حياة الحيوان :2/428 : ( عن عروة بن الزبير رحمه الله قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان ، والثاني على صورة ثور، والثالث على صورة نسر ، والرابع على صورة أسد ! ) .
* وقال الجاحظ في كتاب الحيوان : 6/221 : ( ويدل على ذلك تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لأمية بن أبي الصلت حين أنشدوه :
رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد )
وقال في هامشه : ( وفي الإصابة 549 عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد هذا البيت فقال : صدق ، هكذا صفة حملة العرش .
وفي العقد الفريد عن ابن عباس قال : أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم أبياتاً لأمية بن الصلت يذكر فيها حملة العرش وهي :
رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلة فجراً وتصبح لونها يتوقد
تأبى فما تطلع لهم في وقتها إلا معذبـة وإلا تجلد
فتبسم النبي ( ص ) كالمصدق له ) !
* وقال الطبري في تفسيره : 25/ 6 :
( فقال كعب : سألت أين ربنا ؟ وهو على العرش العظيم متكئ ، واضع إحدى رجليه على الأخرى ! ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ، ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة . ثم قال : إقرأوا إن شئتم ( تكاد السموات يتفطرن من فوقهن ) ! ! . انتهى .
وهكذا فسر كعب الأحبار الآية بأن السموات تكاد تتشقق من ثقل الله تعالى وثقل الحيوانات التي تحمل عرشه فوقها ! وهذا ليس عجيباً من كعب لأن ثقافته
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 166 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهواه يهوديان وإن أظهر الإسلام ! ولكن العجيب أن يتبنى ذلك الوهابيون الذين يدعون أنهم وحدهم المسلمون ! !
وماذا نصنع لهم إذا كانوا يأخذون توحيدهم من كعب الأحبار ولايأخذونه من أهل بيت نبيهم صلى الله عليه وآله !
ترى بعضهم يقرؤون أحاديث كعب وتلاميذه بشغف سواء تلك التي أسندوها عن النبي صلى الله عليه وآله أو التي لم يسندوها وأخذوها من التلمود وقصاصي اليهود . . ولهذا يقعون في ورطات مهلكات !
وتراهم في المقابل لا يحبون أن ينظروا إلى أحاديث أهل البيت حتى التي رووها عن جدهم المصطفى صلى الله عليه وآله ! مع أنهم يصححون حديث وصية النبي بالثقلين كتاب الله وأهل البيت . . ولو أنهم قرأوا أحاديث أهل البيت عليهم السلام لوجدوا فيها ما يخلصهم من هذه الورطات المهلكات .
* روى الكليني رحمه الله في الكافي :1/93 :
( عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن علي ، عن اليعقوبي ، عن بعض أصحابنا ، عن عبد الأعلى مولى آل سام ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن يهودياً يقال له سبحت، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله جئت أسألك عن ربك ، فإن أنت أجبتني عما أسألك عنه ، وإلا رجعت ؟ قال : سل عما شئت ، قال : أين ربك ؟ قال : هو في كل مكان ، وليس في شئ من المكان المحدود ، قال : وكيف هو ؟ قال : وكيف أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق ، والله لا يوصف بخلقه ، قال : فمن أين يعلم أنك نبي الله؟ قال : فما بقي حوله حجر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين: يا سبحت إنه رسول الله ! فقال سبحت : ما
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 167 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
رأيت كاليوم أمرا أبين من هذا ! ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ) .
* وفي نهج البلاغة : 2/116 :
( 186 - ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد ، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة :
ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه . كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول. فاعل لا باضطراب آلة ، مقدر لا بجول فكرة ، غني لا باستفادة ، لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والإبتداء أزله .
بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له .
ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد ، مؤلف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها مفرق بين متدانياتها .
لا يشمل بحد ، ولا يحسب ببعد ، وإنما تحد الأدوات أنفسها ، وتشير الآلة إلى نظائرها ، منعتها منذ القدمية ، وحمتها قد الأزلية ، وجنبتها لولا التكملة ، بها تجلى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون ، لا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه، إذن لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان له وراء إذ وجد له أمام ، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان ، وإذن لقامت آية
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 168 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المصنوع فيه ، ولتحول دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه ، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره .
الذي لا يحول ولا يزول ، ولا يجوز عليه الأفول ، ولم يلد فيكون مولوداً ، ولم يولد فيصير محدوداً ، جل عن اتخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النساء ، لا تناله الأوهام فتقدره، ولا تتوهمه الفطن فتصوره ، ولا تدركه الحواس فتحسه، ولا تلمسه الأيدي فتمسه .
لا يتغير بحال ، ولا يتبدل بالأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيام ، ولا يغيره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والإبعاض ، ولايقال له حد ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا أن الأشياء تحويه ، فتقله أو تهويه ، أو أن شيئاً يحمله فيميله أو يعدله ، ليس في الأشياء بوالج ، ولاعنها بخارج ، يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة يقول لمن أراد كونه كن فيكون لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً لا يقال كان بعد أن لم يكن ، فتجري عليه الصفات المحدثات ، ولا يكون بينها وبينه فصل ، ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدئ والبديع .
خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه، وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصنها من الأود والإعوجاج ، ومنعها من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 169 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
التهافت والإنفراج أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخد أوديتها ، فلم يهن ما بناه ، ولا ضعف ما قواه ، هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي على كل شئ منها بجلاله وعزته ، لا يعجزه شئ منها طلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه .
خضعت الأشياء له ، وذلت مستكينة لعظمته ، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره ، فتمتنع من نفعه وضره ، ولا كفء له فيكافؤه ، ولا نظير له فيساويه ، هو المفني لها بعد وجودها ، حتى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها ، بأعجب من إنشائها واختراعها . . . ) .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 170 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 171 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل السابع : من ردود علماء المسلمين على تجسيم الوهابيين
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 172 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 173 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الحافظ ابن حجر
* قال ابن حجر في فتح الباري : 3/23 :
( قوله : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ) استدل به من أثبت الجهة ، وقال هي جهة العلو ، وأنكر ذلك الجمهور ، لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن ذلك . وقد اختلف في معنى النزول على أقوال ، فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة ، تعالى الله عن قولهم !
ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة وهم الخوارج والمعتزلة ، وهو مكابرة . والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عناداً .
ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال منزهاً الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف ، نقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم .
ومنهم من أوله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب .
ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 174 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريباً مستعملاً في كلام العرب وبين مايكون بعيداً مهجوراً فأول في بعض وفوض بعض ، وهو منقول عن مالك ، وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد .
قال البيهقي : وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد ، إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه . من الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب ، فحينئذ التفويض أسلم . . .
وقال ابن العربي ( الفقيه ) : حكي عن المبتدعة رد هذه الأحاديث وعن السلف إمرارها وعن قوم تأويلها وبه أقول .
فأما قوله فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته ، بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه ، والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني ، فإن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة الملك المبعوث بذلك ، وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك نزولاً عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة . انتهى .
والحاصل أنه تأوله بوجهين إما بأن المعنى ينزل أمره أو الملك بأمره ، وأما بأنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه .
وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول ، أي ينزل ملكاً ، ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له . . الحديث .
وفي حديث عثمان بن أبي العاص يناد منادٍ هل من داع يستجاب له . . . الحديث .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 175 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال القرطبي : وبهذا يرتفع الإشكال ، ولا يعكر عليه ما في رواية رفاعة الجهني ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول لا يسأل عن عبادي غيري لأنه ليس في ذلك ما يدفع التأويل المذكور .
وقال البيضاوي : ولما ثبت بالقواطع أنه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الإنتقال من موضع إلى موضع أخفض منه ، فالمراد نور رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الاكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة . ) انتهى .
الحافظ ابن الجوزي
وقد ألف في ذلك كتاباً خاصاً باسم ( دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ) حققه الشيخ حسن السقاف في نحو 300 صفحة ونشرته دار الإمام النووي في الأردن وقد رأيت طبعته الثالثة 1413 ومعه رسالة ( أقوال الحفاظ المأثورة لبيان وضع حديث رأيت ربي بأحسن صورة ) ورسالة ( البيان الكافي بغلط نسبة كتاب الرؤية للدارقطني بالدليل الوافي ) وكلاهما للعلامة السقاف .
قال ابن الجوزي في ص 99 من كتابه المذكور واصفاً مجسمة الحنابلة :
( فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب ، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس . . . ) إلى آخر كلامه الذي سيأتي في كلام أبي زهرة . وقد فند ابن الجوزي في هذا الكتاب جميع ما تمسكوا به من تفسير الآيات المتشابهة ونقد ستين حديثاً من الموضوعات والمتشابهات ، وهي الأساس الذي بنى عليه الوهابيون وأسلافهم مذهبهم التجسيمي !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 176 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
السبكي والحلبي
* قال السبكي في طبقات الشافعية : 9/34 :
( أحمد بن يحيى بن إسماعيل، الشيخ شهاب الدين الجلابي الحلبي الأصل ... مات سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة . . . ووقفت له على تصنيف صنفه في نفي الجهة ردا على ابن تيمية لا بأس به وهو هذا . . .( ويقع هذا المصنف في نحو خمسين صفحة وجاء فيه في ص 40 41 ) .
ثم قال السبكي ناقلاً عن ابن يحيى المذكور : وسئل الشافعي رحمه الله عن صفات الله فقال : حرام على العقول أن تمثل الله تعالى ، وعلى الأوهام أن تحد ، وعلى الظنون أن تقطع ، وعلى النفوس أن تفكر ، وعلى الضمائر أن تعمق ، وعلى الخواطر أن تحيط ، إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم . . .
وها نحن نذكر عقيدة أهل السنة فنقول : عقيدتنا أن الله قديم أزلي لا يشبه شيئاًَ ولا يشبهه شئ ، ليس له جهة ولا مكان ، ولا يجري عليه وقت ولا زمان ... ولا يقال له أين ولا حيث، يرى لا عن مقابلة ولا على مقابلة، كان ولا مكان ، كون الكون ودبر الزمان ، وهو الآن على ما عليه كان . . . ) .
* وجاء في ص 43 :
(أهل التوحيد اتفقت على نفي الجهة، سوى هذه الشرذمة مثل ابن تيمية).
* وقال في ص 53 - 54 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 177 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( أورد أحمد بن يحيى حديث الرقية الذي استدل به ابن تيمية على أن الله تعالى موجود في جهة ، ويظهر أنه من نصوص التوراة أو الإنجيل وهو ( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك . أمرك في السماء والأرض كما رزقك في السماء ) وكذلك حديث ( والعرش فوق ذلك كله ، والله فوق ذلك كله ) وقال ابن يحيى : فقد فهمه هذا المدعي أن الله فوق العرش حقيقة ... إلخ . ).
* وقال في ص 83 : ( في تنزيه الله عن الجهة والأخبار والآثار فيه وأقوال العلماء بذلك . . . في إبطال ما موه به ابن تيمية من القرآن والخبر . . . ) .
* وقال السبكي في طبقات الشافعية : 9/36 :
( والمبتدعة تزعم مذهب السلف إنما هو التوحيد وأنها على مذهب السلف . . وكيف يعتقد في السلف أنهم يعتقدون التشبيه أو يسكتون عند ظهور أصل البدع ، وقد قال الله ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) . انتهى .
الزهاوي من علماء العراق
* قال الزهاوي في الفجر الصادق ص 28 تحت عنوان : تجسيم الوهابية :
( إن الوهابية التي كفرت من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسلاً به إلى الله تعالى وعدت ذلك شركاً في ألوهيته ، وقالت بوجوب تنزيهه تعالى عن ذلك ، قد خبطت كل الخبط في تنزيهه تعالى ، حيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه واستقراراً وعلواً فوقه ، وأثبتت له الوجه واليدين ، وبعضته سبحانه فجعلته ماسكاً بالسموات على إصبع ، والأرض على إصبع ، والشجر على إصبع ، والملك على إصبع ، ثم أثبتت له تعالى الجهة فقالت هو
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 178 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فوق السموات ثابت على العرش يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية ، وينزل إلى السماء الدنيا ويصعد ، حتى قال بعضهم :
لئن كان تجسيماً ثبوت استوائه على عرشه إني إذا ً لمجسم
وإن كان تشبيهاً ثبوت صفاته فعن ذلك التشبيه لا أتلعثم
وإن كان تنزيهاً جحود استوائه وأوصافه أو كونه يتكلم
ومن ذلك التنزيه نزهت ربنا بتوفيقه والله أعلى وأعلم
نحن ننقل لك هاهنا بعض عباراتهم التي وردت في هذا الشأن مسطورة في كتاب الدين الخالص . قال صاحبه : إن أردتم بالجسم المركب من المادة والصورة أو المركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله تعالى قطعاً ، والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً فليس الجسم المخلوق مركباً من هذه . انتهى
فأقول : أنظر إلى ما في هذه العبارة من الخبط ، فإنه أنكر فيها وجود جسم بالمعنى الذي ذكره سواء كان واجباً أو ممكناً ، والظاهر أن غرضه من هذا الإنكار هو التوصل إلى نفي الجسمية التي تلزم من معتقده في الله تعالى ، فلئلا يقال إنه شبه الخالق بمخلوقه ، نفى الجسمية بالمعنى المذكور عن مخلوقه أيضاً ، وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة ، ولكن الجهل ليس له حد ينتهي إليه ، فلا غرو أن وصل به إلى هذا الخبط الشنيع ، فليته بين بعد نفيه تركب الجسم مما ذكر ، ذكر من أي شئ تتركب الأجسام ؟ ولا أعتقد أنه يذهب به طيشه أن يقول بتركبها من أجزاء تتجزأ إلى غير النهاية ، فإن ذلك مما أنكره علماء الكلام قاطبة ، ونفته العلوم الحاضرة وقامت البراهين على بطلانه . ولولا أن في ذكرها خروجاً عن الصدد لبسطناها .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 179 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم قال : وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ، ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب ، فهذه المعاني ثابتة للرب تعالى وهو موصوف بها ، فلا ننفيها عنه بتسميتكم الموصوف بها جسماً . . . إلى آخر ما قال
فأقول : لم نعرف أحداً عرف الجسم بأنه المتكلم المكلم السميع البصير الذي يرضى ويغضب ، وإنما هذه صفات تقوم بالحي العاقل ، نعم إن الجسم يرى بالأبصار كما قال ولكن إثباته الجسم له تعالى بهذا المعنى تنزيل له سبحانه منزلة مخلوقاته مما ينافي الألوهية ، فإن كون الله تعالى جسماً بهذا المعنى نقص يجب تنزيهه عنه ، أما عقلاً فلأن الرؤية كما تحقق في علم البصر إنما تتم بوقوع أشعة النور على سطح المرئي وانعكاسها عنه إلى البصر ، فيلزم منه كون المرئي ذا سطح ، وذلك يستدعي تركبه من أجزاء وهو ينافي الألوهية ، لأن الجسم بهذاالمعنى عين الجسم الذي نفاه أولاًعنه تعالى بل حتى عن الممكن.
وأما نقلاً فلقوله تعالى : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، ولا تعارض هذه الآية بقوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، لأن كيفية رؤيته تعالى يوم القيامة مجهولة كما هو معتقد أهل الحق ، فيمكن أن تكون الرؤية يومئذ بنوع من الإنكشاف والتجلي من غير حاجة للباصرة ولا محاذاة لها ، ويدل على ذلك قوله وجوه ولم يقل عيون ، وفي قوله ناضرة ما يفصح عن حصول السرور التام لها بذلك الإنكشاف .
ثم قال : وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق بالله تعالى إليه بإصبعه رافعاً لها إلى السماء ، إلخ . . .
فأقول : إن بداهة العقل حاكمة بأن المشار إليه بالإشارة الحسية لا بد أن يكون في جهة ومكان وأن يكون مرئياً ، وكل ذلك مستحيل على الله تعالى ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 180 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لأنه تعالى لو كان في مكان جهة لزم قدم المكان أو الجهة ، وقد قام البرهان على أن لا قديم سوى الله تعالى .
وأيضاً : لو كان في مكان لكان محتاجاً إلى مكانه ، وهو ينافي الوجوب .
وأيضاً: لو كان في مكان ، فإما أن يكون في بعض الأحيان أو في جميعها .
أما بطلان الأول فلأن الأحيان متساوية في أنفسها وكذلك نسبته إليها متساوية ، فيكون اختصاصه ببعضها ترجيحاً بلا مرجح ، إن لم يكن هناك مخصص خارجي ، أو يلزم احتياجه في تحيزه إلى الغير إن كان هناك مخصص خارجي .
وأما بطلان الثاني فلأنه يلزم منه تداخل المتحيزين في الأماكن التي هي مشغولة بالأجسام ، وذلك محال .
وأيضاً : لو جاز أن يشار إليه بالإشارة الحسية لجاز أن يشار إليه من كل نقطة من سطح الأرض ، وحيث أن الأرض كروية يلزم أن يكون سبحانه محيطاً بها من جميع الجهات وإلا ما صحت الإشارة إليه ، ولما كان تعالى مستوياً على عرشه ومستقراً عليه كما تزعمه الوهابية .
وإن كان عرشه محيطاً بالسموات السبع فيلزم من نزوله إلى السماء الدنيا وصعوده منها كما تقوله الوهابية أن يصغر جسمه تعالى عند النزول ويكبر عند الصعود، فيكون متغيراً من حال إلى حال ، تعالى الله عما يقول الجاهلون.
وأما ما تمسكت به الوهابية من النقول التي تثبت الإشارة إليه تعالى فهي ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات ، فتؤول إما إجمالاً ويفوض تفصيلها إلى الله كما عليه أكثر السلف ، وإما تفصيلاً كما هو رأي الكثيرين .
فما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء أو أن السماء مظهر قدرته ، لما اشتملت عليه من العوالم العظيمة التي لم تكن أرضنا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 181 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الحقيرة إلا ذرة بالنسبة إليها ، وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه ، إلى غير ذلك من التأويلات ) . انتهى .
* وقال في الفجر الصادق ص 31 تحت عنوان : الوهابية ونبذها للعقل :
( لما كان صريح العقل وصحيح النظر مصادما كل المصادمة لما اعتقدته الوهابية ، اضطروا إلى نبذهم العقل جانبا وأخذهم بظواهر النقل فقط وإن نتج منه المحال ونجم عنه الغي والضلال ، فاعتقدوا متمسكين بظواهر الآيات أن الله تعالى ثبت على عرشه وعلاه علواً حقيقياً، وأن له تعالى وجهاً ويدين ، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقيين ، وأنه يشار إليه في السماء إشارة حسية بالإصبع ، إلى غير ذلك مما يؤول إلى التجسيم البحت ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
فالوهابية التي تسمي زائري القبور عباد الأوثان ، إنما هي قد عبدت الوثن حيث أنها جعلت معبودها جسماً كالحيوان جالساً على عرشه ، ينزل ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقيين ، وله وجه ويد ورجل وأصابع حقيقية ، مما يتنزه عنه المعبود الحق .
وإذا رد عليهم بالبراهين العقلية وأثبت لهم أن ذلك مناف للألوهية عند العقل ، قالوا في الجواب : لا مجال للعقل الحقير البشري في مثل هذه الأمور التي طورها فوق طور العقل ، فأشبهوا في ذلك النصارى في دعوى التثليث ، فإنك إذا سألتهم قائلاً كيف يكون الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة ؟
قالوا : إن معرفة هذا فوق طور العقل ، ولا يجوز إعمال الفكر في ذلك !
لا ريب أنه إذا تعارض العقل والنقل أول النقل ، إذ لا يمكن حينئذ الحكم بثبوت مقتضى كل منهما لما يلزم عنه من اجتماع النقيضين ، ولا بانتفاء ذلك
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 182 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لاستلزامه ارتفاع النقيضين ، لكن بقي أن يقدم النقل على العقل أو العقل على النقل ، والأول باطل لأنه إبطال للأصل بالفرع .
وإيضاحه أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل ، وذلك لأن إثبات الصانع ومعرفة النبوة وسائر ما يتوقف صحة النقل عليه لا يتم إلا بطريق العقل ، فهو أصل للنقل الذي تتوقف صحته عليه ، فإذا قدم على العقل وحكم بثبوت مقتضاه وحده فقد أبطل الأصل بالفرع ، ويلزم منه إبطال الفرع أيضاً ، إذ تكون حينئذ صحة النقل متفرعة على حكم العقل الذي يجوز فساده وبطلانه، فلايقطع بصحة النقل، فلزم من تصحيح النقل بتقديمه على العقل عدم صحته!
وإذا كان تصحيح الشيء منجراً إلى إفساده ، كان مناقضاً لنفسه ، فكان باطلاً . فإذا لم يكن تقديم النقل على العقل بالدليل السابق ، فقد تعين تقديم العقل على النقل، وهو المطلوب . إذا علمت هذا تبين لك جلياً وجوب تأويل ما عارض ظاهره العقل من الآيات القرآنية التي هي ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات ، إما تأويلاً إجمالياً ويفوض تفصيله إلى الله تعالى كما هو مذهب أكثر السلف ، وإما تفصيلياً كما هو مذهب أكثر الخلف . فالإستواء في قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى ، هو الإستيلاء ، ويؤيده قول الشاعر :
قد استوى عمرو على العراق من غير سيف و دم مهراق
وقوله تعالى : وجاء ربك والملك صفاًّ صفاًّ ، أي جاء أمره . وقوله : إليه يصعد الكلم الطيب. أي يرتضيه ، فإن الكلم عرض يمتنع عليه الإنتقال بنفسه. وقوله سبحانه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، أي يأتي عذابه . وقوله تعالى : ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين ، أو أدنى ، أي قرب رسوله إليه بالطاعة ، والتقدير بقاب قوسين تصوير للمعقول بالمحسوس .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 183 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقوله صلى الله عليه وسلم : إنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة فيقول هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له ، معناه تنزل رحمته، وخص بالليل لأنه مظنة الخلوات وأنواع الخضوع والعبادات . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث ) . انتهى .
أبو زهرة في تاريخ المذاهب الإسلامية
* قال الشيخ محمد أبو زهرة في تاريخ المذاهب الإسلامية : 1/225 :
( نقصد بالسلفيين أولئك الذين نحلوا أنفسهم ذلك الوصف ، وإن كنا سنناقش بعض آرائهم من حيث كونها مذهب السلف ، وأولئك ظهروا في القرن الرابع الهجري وكانوا من ( الحنابلة ) وزعموا أن جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي أحيا عقيدة السلف وحارب دونها ، ثم تجدد ظهورهم في القرن السابع الهجري ، أحياه شيخ الإسلام ابن تيمية وشدد في الدعوة إليه ، وأضاف إليه أموراً أخرى قد بعثت إلى التفكير فيها أحوال عصره، ثم ظهرت تلك الآراء في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر الهجري، أحياها محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية وما زال الوهابيون ينادون بها ، ويتحمس بعض العلماء من المسلمين لها ، ولذلك كان لا بد من بيانها .
وقد تعرض هؤلاء الحنابلة للكلام في التوحيد وصلة ذلك بالأضرحة ، كما تكلموا في آيات التأويل والتشبيه ، وهي أول ما ظهروا به في القرن الرابع الهجري ، ونسبوا كلامهم إلى الإمام أحمد بن حنبل ، وناقشهم في هذه النسبة بعض فضلاء الحنابلة .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 184 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقد كانت المعارك العنيفة تقوم بينهم وبين الأشاعرة، لأنهم كانوا يظهرون حيث يكون للأشاعرة سلطان قوي لا ينازع ، فتكون بين الفريقين الملاحاة الشديدة وكل فريق يحسب أنه يدعو إلى مذهب السلف ، وقد بينا مذهب الأشاعرة في ذاته وإن كنا لم نبين مقدار صلته بالآراء التي أثرت عن السلف ، وفي هذا الجزء سنتعرض لتمحيص العقيدة السلفية في أثناء عرضنا لتفكير هؤلاء الذين نحلوا أنفسهم ذلك الإسم موازنين بين الاسم والحقيقة ) .
* وقال أبو زهرة في ج 1 ص 232 :
( وهكذا يثبتون كل ما جاء في القرآن أو السنة من أوصافه سبحانه أو شؤونه ، فيثبتون له المحبة والغضب والسخط والرضا والنداء والكلام والنزول إلى الناس في ظلل الغمام ، ويثبتون له الإستقرار على العرش والوجه واليد من غير تأويل ولا تفسير بغير الظاهر . . . فهو ( ابن تيمية ) بهذا يرى أن مذهب السلف يثبت لله اليد من غير كيف ولا تشبيه ، والوجه من غير كيف ، والفوقية والنزول وغير ذلك من ظواهر النصوص القرآنية ، ويقصد الظواهر الحرفية لا الظواهر ولو مجازية ، وهو يعد ذلك المذهب ليس مجسماً ولا معطلاً ويقول في ذلك : ( ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل فلا يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه ، كما لا يمثلون ذاته بذوات خلقه ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فيعطلوا أسمائه الحسنى وصفاته العليا ويحرفون الكلم عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته ، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والتمثيل ) .
ويكرر هذا المعنى فيقول مؤكداً إن الله ينزل ويكون في فوق وتحت من غير كيف ( ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 185 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والإختلاف ، حرف واحد يخالف ذلك لا نصاً ولا ظاهراً ، ولم يقل أحد منهم إن الله ليس في السماء ولا أنه ليس على العرش ولا أنه في كل مكان ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل ، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها . الحموية الكبرى في مجموعة الرسائل الكبرى ص 419 .
وعلى ذلك يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن من فوقية وتحتية واستواء على العرش ووجه ويد ومحبة وبغض ، وما جاء في السنة من ذلك أيضاً من غير تأويل وبالظاهر الحرفي ، فهل هذا هو مذهب السلف حقاً ؟
نقول في الإجابة عن ذلك : لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا وادعوا أن ذلك مذهب السلف ، وناقشهم العلماء في ذلك الوقت وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة ، وكيف لا يؤدي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة !
ولذا تصدى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف ، ونفى أيضاً أن يكون ذلك رأي الإمام أحمد ، وقال ابن الجوزي في ذلك :
( رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح . . . فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس ، فسمعوا أن الله خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ، ووجهاً زائداً على الذات ، وفماً ، ولهوات ، وأضراساً ، وأضواء لوجهه ، ويدين وإصبعين ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 186 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وكفاً ، وخنضراً ، وإبهاماً ، وصدراً ، وفخذاً ، وساقين ، ورجلين ، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس !
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من صفات الحدث .
ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات ، ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا لا نحملها على توجيه اللغة ، مثل اليد على النعمة والقدرة ، ولا المجئ والإتيان على معاني البر واللطف ، ولا الساق على الشدة ، بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة ، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين !
والشيء إنما يحمل على حقيقته إن أمكن ، فإن صرف صارف حمل على المجاز . ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون : نحن أهل السنة ! ! وكلامهم صريح في التشبيه ، وقد تبعهم خلق من العوام ، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت : يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتباع ، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول وهو تحت السياط : كيف أقول ما لم يقل ، فإياكم أن تبتدعوا من مذهبه ما ليس منه .
ثم قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها فظاهر القدم الجارحة ، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات ، وينبغي ألا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل فإنا به عرفنا الله تعالى وحكمنا له بالقدم ، فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت ما أنكر أحد عليكم ، وإنما حملكم إياه على
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 187 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الظاهر قبيح فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل السلفي ما ليس فيه ! ) . وقد استفاض ابن الجوزي في بيان بطلان ما اعتمدوا عليه من أقوال .
ولقد قال ذلك القول الذي ينقده ابن الجوزي القاضي أبو يعلى الفقيه الحنبلي المشهور المتوفى سنة 457 وكان مثار نقد شديد وجه إليه ، حتى لقد قال فيه بعض فقهاء الحنابلة ( لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار ) وقال مثل ذلك القول من الحنابلة ابن الزاغوني المتوفى سنة 527 وقال فيه بعض الحنابلة أيضاً ( إن في قوله من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه ) .
وهكذا استنكر الحنابلة ذلك الإتجاه عندما شاع في القرن الرابع والقرن الخامس !
ولذلك استتر هذا المذهب حتى أعلنه ابن تيمية في جرأة وقوة . . . .
ونرى هنا أنه يجب أن نذكر أن ادعاء أن هذا مذهب السلف موضع نظر ، وقد نقلنا رأي ابن الجوزي في ذلك الرأي عندما شاع في عصره .
ولنا أن ننظر نظرة أخرى وهي من الناحية اللغوية ، لقد قال سبحانه : يد الله فوق أيديهم ، وقال : كل شئ هالك إلا وجهه . أهذه العبارات يفهم منها تلك المعاني الحسية ، أم أنه تفهم منها أمور أخرى تليق بذات الله تعالى ، فيصح أن تفسر اليد بالقوة أو النعمة ، ويصح أن تفسر الوجه بالذات ، ويصح أن تفسر النزول إلى السماء الدنيا بمعنى قرب حسابه ، وقربه سبحانه وتعالى من العباد .
إن اللغة تتسع لهذه التفسيرات ، والألفاظ تقبل هذه المعاني ، وكذلك فعل الكثيرون من علماء الكلام ومن الفقهاء والباحثين ، وهو أولى بلا شك من تفسيرها بمعانيها الظاهرة الحرفية والجهل بكيفياتها كقولهم إن لله يداً ولكن لا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 188 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
نعرفها ، وليست كأيدي الحوادث ، ولله نزولاً وليس كنزولنا إلى آخره ، فإن هذه إحالات على مجهولات لا نفهم مؤداها ولا غاياتها !
بينما لو فسرناها بمعان تقبلها اللغة وليست غريبة عنها ، لوصلنا إلى أمور قريبة ، فيها تنزيه وليس فيها تجهيل ) . انتهى .
البشري و القضاعي
* قال القضاعي في فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان ص 72 المطبوع مع الأسماء والصفات للبيهقي :
( وهكذا اتفق سلف هذه الأمة الصالح وخلفها الموفق على صرف هذه المتشابهات عن هذه الظواهر المادية ، لا خلاف في ذلك بين أوائلهم وأواخرهم رضي الله عنهم، وسموا من فسرهابتلك الظواهر بالمجسمة والحشوية إيماء منهم رضي الله عنهم إلى أن ما أتى به هؤلاء من التفسير من اللغو الذي لا يلتفت إليه ، والحشو الذي لا يعول أهل العلم بالكتاب والسنة عليه .
تتمة : ونختم هذا الفصل بذكر فتوى في هذا الموضوع صدرت من شيخ الإسلام بحق ، ورأس المحققين الأعلام ، أستاذ الأساتذة ، الشيخ سليم البشري تغمده الله برحمته وأعلى في الفراديس درجاته .
ونص السؤال والجواب نقلاً عن كتاب شمس الحقيقة والهداية في الرد على أهل الضلالة والغواية للعلامة المحقق والنقي الموفق الشيخ أحمد بن العلامة الكبير الشيخ علي بدر ، شيخ معهد بلصفورة ، وهو رافع السؤال إلى شيخ الإسلام رضي الله عنهما .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 189 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال: ما قولكم دام فضلكم في رجل من أهل العلم هنا من الذين يوصفون بالتفقه في الدين تظاهر باعتقاد ثبوت جهة الفوقية لله سبحانه وتعالى ، ويدعي أن ذلك مذهب السلف ، وتبعه على ذلك البعض القليل من الناس ، وجمهور أهل العلم ينكرون عليه .
والسبب في تظاهره بهذا المعتقد كما عرض علي هو بنفسه ذلك عثوره على كتاب لبعض علماء الهند نقل فيه صاحبه كلاما كثيرا عن ابن تيمية في إثبات الجهة للباري سبحانه وتعالى .
وليكن معلوماً أنه يعتقد الفوقية الذاتية له جل ذكره ، يعني أن ذاته سبحانه فوق العرش بمعنى ما قابل التحت مع التنزيه ، ويخطئ أبا البركات الدردير رحمه الله في قوله في خريدته :
منزه عن الحلول والجهه والإتصال الإنفصال والسفه
يخطئه في موضعين من البيت : قوله والجهة ، وقوله والإنفصال .
والشيخ اللقائي في قوله :
ويستحيل ضد ذي الصفات في حقه كالكون في الجهات
وبالجملة هو يخطئ كل من يقول بنفي الجهة مهما كان قدره ، ويستدل أيضاً بنص كتاب آخر غير الكتاب المتقدم ذكره ، وهو تفسير الشيخ الآلوسي المسمى بروح المعاني ، عند قوله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ) مع أن المطلع على عبارة الآلوسي يجده في آخر عبارته ذكر ما يؤخذ منه أنه غير جازم بذلك . ويستدل على ذلك بمثل قوله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ) ( يخافون ربهم من فوقهم ) ( إليه يصعد الكلم الطيب ) وبقوله صلى الله عليه وسلم للجارية التي أراد سيدها عتقها : أين الله ؟ فقالت في السماء . مع ما هو معلوم لفضيلتكم من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 190 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أنها كانت خرساء وأشارت إلى السماء كما هو منصوص ، وفي بعض مؤلفات حجة الإسلام الغزالي رحمه الله ، وقد تعرض لذلك السيد محمد مرتضى في شرحه للإحياء .
ويستدل أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : اللهم اشهد ، وأشار بإصبعه إلى السماء ، ويورد على من ينازعه في ذلك سؤال الكرامية المشهور وهو قولهم إن نفيه عن الجهات الست إخبار عن عدمه ، ولا يخفى على فضيلتكم أن الكلام في مسألة الجهة شهير ، إلا أنه من المعلوم أن قول فضيلتكم سيما في مثل هذا الأمر هو الفصل، وأرجو أن يكون عليه إمضاؤكم بخطكم والختم ولا مؤاخذة .
لا زلتم محفوظين ولمذهب أهل السنة والجماعة ناصرين آمين .
وهذا نص جوابه حفظه الله : إلى حضرة الفاضل العلامة الشيخ أحمد علي بدر خادم العلم الشريف ببلصفورة :
قد أرسلتم بتاريخ 22 محرم سنة 1325 هـ . مكتوباً مصحوباً بسؤال عن حكم من يعتقد ثبوت الجهة له تعالى ، فحررنا لكم الجواب الآتي وفيه الكفاية لمن اتبع الحق وأنصف ، جزاكم الله عن المسلمين خيراً .
إعلم أيدك الله بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه ، أن مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنيون أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في جميع سمات الحدوث ، ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان كما دلت على ذلك البراهين القطعية ، فإن كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم وهو ما سوى الله تعالى ، وقد قام البرهان القاطع على حدوث كل ما سوى الله تعالى بإجماع من أثبت الجهة ومن نفاها ، ولأن المتمكن يستحيل وجود ذاته
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 191 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بدون المكان مع أن المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء فيلزم إمكان الواجب ووجوب الممكن وكلاهما باطل .
ولأنه لو تحيز لكان جوهراً لاستحالة كونه عرضاً ، ولو كان جوهراً فإما أن ينقسم وإما أن لا ينقسم ، كلاهما باطل ، فإن غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . والمنقسم جسم وهو مركب والتركيب ينافي الوجوب الذاتي ، فيكون المركب ممكناً يحتاج إلى علة مؤثرة ، وقد ثبت بالبرهان القاطع أنه تعالى واجب الوجود لذاته ، غني عن كل ما سواه ، مفتقر إليه كل ما عداه ، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
هذا وقد خذل الله أقواماً أغواهم الشيطان وأزلهم، اتبعوا أهواءهم وتمسكوا بما لا يجدي فاعتقدوا ثبوت الجهة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، واتفقوا على أنها جهة فوق إلا أنهم افترقوا فمنهم من اعتقد أنه جسم مماس للسطح الأعلى من العرش ، وبه قال الكرامية واليهود ، وهؤلاء لا نزاع في كفرهم ، ومنهم من أثبت الجهة مع التنزيه ، وأن كونه فيها ليس ككون الأجسام وهؤلاء ضلال فساق في عقيدتهم ، وإطلاقهم على الله ما لم يأذن به الشارع . ولا مرية أن فاسق العقيدة أقبح وأشنع من فاسق الجارحة بكثير سيما من كان داعية أو مقتدى به .
وممن نسب إليه القول بالجهة من المتأخرين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن ، في ضمن أمور نسبت إليه خالف الإجماع فيها عملاً برأيه وشنع عليه معاصروه بل البعض منهم كفروه ، ولقي من الذل والهوان ما لقي ، وقد انتدب بعض تلامذته للذب عنه وتبرئته مما نسب إليه وساق له عبارات أوضح معناها ، وأبان غلط الناس في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 192 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فهم مراده ، واستشهد بعبارات له أخرى صريحة في دفع التهمة عنه ، وأنه لم يخرج عما على الإجماع وذلك هو المظنون بالرجل لجلالة قدره ورسوخ قدمه .
وما تمسك به المخالفون القائلون بالجهة أمور واهية وهمية ، لا تصلح أدلة عقلية ولا نقلية ، قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه ، وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة كقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى ) وقوله ( إليه يصعد الكلم الطيب ) وقوله ( تعرج الملائكة والروح إليه ) وقوله ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) وقوله ( وهو القاهر فوق عباده ) وكحديث إنه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة ، وفي رواية في كل ليلة جمعة فيقول هل من تائب فأتوب عليه ؟
هل من مستغفر فأغفر له ؟ وكقوله للجارية الخرساء : أين الله فأشارت إلى السماء ، حيث سأل بأين التي للمكان ولم ينكر عليها الإشارة إلى السماء ، بل قال إنها مؤمنة .
ومثل هذه يجاب عنها بأنها ظواهر ظنية لا تعارض الأدلة القطعية اليقينية الدالة على انتفاء المكان والجهة ، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية ، إما تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف، وإما تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف ، كقولهم : إن الإستواء بمعنى الإستيلاء كما في قول القائل :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به ، لأن الكلم عرض يستحيل صعوده .
وقوله : من في السماء ، أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته وكل بالعذاب .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 193 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وعروج الملائكة والروح إليه : صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه. وقوله : فوق عباده ، أي بالقدرة والغلبة فإن كل من قهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال عليه بالقهر والغلبة ، كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان ، أي أنه أقدر منه وأغلب . ونزوله إلى السماء محمول على لطفه ورحمته وعدم المعاملة بما يستدعيه علو رتبته وعظم شأنه على سبيل التمثيل ، وخص الليل لأنه مظنة الخلوة والخضوع وحضور القلب .
وسؤاله للجارية ( بأين ) استكشاف لما يظن بها اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده الوثنيون ، فلما أشارت إلى السماء فهم أنها أرادت خالق السماء فاستبان أنها ليست وثنية ، وحكم بإيمانها .
وقد بسط العلماء في مطولاتهم تأويل كل ما ورد من أمثال ذلك ، عملاً بالقطعي وحملاً للظني عليه ، فجزاهم الله عن الدين وأهله خير الجزاء .
ومن العجيب أن يدع مسلم قول جماعة المسلمين وأئمتهم ويتمشدق بترهات المبتدعين وضلالتهم .
أما سمع قول الله تعالى ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ) فليتب إلى الله تعالى من تلطخ بشئ من هذه القاذورات ولا يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ، ولا يحملنه العناد على التمادي والإصرار عليه ، فإن الرجوع إلى الصواب عين الصواب والتمادي على الباطل يفضي إلى أشد العذاب ( من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 194 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أملاه الفقير إليه سبحانه سليم البشري خادم العلم والسادة المالكية بالأزهر عفي عنه آمين آمين .
* ثم أضاف القضاعي معلقاً على رسالة البشري : وقول الشيخ رحمه الله : وذلك هو المظنون بالرجل لجلالة قدره ورسوخ قدمه . هو حسن ظن من الشيخ حمله عليه قول هذا التلميذ . والذي يطيل النظر في كتبه وكتب تلميذه ابن القيم كما فعلنا نحن لا يرتاب في قوله بالتجسيم والجهة والتشبيه ، ولكنه يتبرأ من اسمه ويقول بالتنزيه ، لكنه إنما يقول بلفظه ويتباعد عن القول بمعناه ، وليس أحد أعرف بهذا الرجل من علماء عصره ، ولا سيما الورع الحجة المحقق الإمام شيخ الإسلام التقي علي بن عبد الكافي وقد كان له معاصراً ورد عليه في حياته وبعد وفاته بعدة مصنفات .
ودونك عبارة شيخ الإسلام التقي في هذا المبتدع الغوي في خطبة كتابه
( الدرة المضية في الرد على ابن تيمية ) في قوله بعدم وقوع الطلاق المعلق على وجه اليمين ، وأنه خرق الإجماع بهذا القول ، وكذب على الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
قال رفع الله درجته في المهديين ما لفظه : أما بعد فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد ، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد ، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنة ، مظهراً أنه داع إلى الحق هاد إلى الجنة ، فخرج عن الإتباع إلى الإبتداع وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 195 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة ، وأن الإفتقار إلى الجزء ليس بمحال ، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى ، وأن القرآن محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن ، وأنه يتكلم ويسكت ، ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات ، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم ، والتزمه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات فقال بحوادث لا أول لها ، فأثبت الصفة القديمة حادثة والمخلوق الحادث قديماً ، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نحلة من النحل ، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي افترقت عليها الأمة ، ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة . وكل ذلك وإن كان كفراً شنيعاً مما تقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع . انتهى .
وهي رسالة نفيسة أجاد فيها رحمه الله الرد عليه وبيان الحق في المسألة وقد طبعت بدمشق . وفي التحقيق الدقيق الذي قام به العلامة الكوثري في كتابه تكملة الرد على نونية ابن القيم المطبوع مع السيف الصقيل ما يغنينا عن الإطالة في شرح حال هذا الرجل وشيعته . أجارنا الله وسائر المسلمين من اتباع الهوى ) . انتهى .
* وقال القضاعي في فرقان القرآن ص 17 :
(ولهذه الفئة ولع شديد بافتراء الأباطيل ونسبتها إلى أكابر أئمة هذه الأمة ، ولو استقريت القرون منذ نجمت هذه البدعة لرأيت في كل قرن إلى زمانك هذا من هذه الطائفة فلولا تشاغب وتموه وبإزائهم جيوشاً من أهل السنة بحق تدافع وتبين ، بين مناظر يجادل عن الحق في المجالس الخاصة والعامة ، ومؤلف يزيل ظلمات شبههم بنور الحجج المعقولة ، حتى تركوا من هذه المؤلفات القيمة لطالب الهدى ثروة لا تنفد ، وكنوزاً لا تبيد على الأبد ، ومن هذه الكنوز الفائقة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 196 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وتلك الثروات العظيمة كتاب الإمام الحافظ الثقة الحجة المبرز في علم الحديث رواية ودراية ، علم الفقهاء أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة .
كثر في زمانه رحمه الله الخوض في أسماء الله تعالى وصفاته بما لا يليق بجنابه عز وجل ، فألف كتابه المسمى بالأسماء والصفات .
قال الإمام تاج الدين السبكي : لا أعلم له في بابه نظيراً . وصدق رحمه الله فإنه عمد فيه إلى جمع الأحاديث التي تعلقت بها المبتدعة من المشبهة والحشوية ، فبين ما لا يصح الاحتجاج به منها بذكر ما فيه من علة ، وأزال الإشكال عما صح من متشابهها ، وضم إليها ما ناسبها من آيات الكتاب . وأضاف إلى ذلك ما قال أكابر العلماء ممن قبله .
فجزاه الله عن دينه وأمة نبيه صلى الله عليه وسلم خير الجزاء ، كأنه رحمه الله قصد بكتابه هذا غسل العار الذي ألحقه الحافظ ابن خزيمة بأهل الحديث ، فإنه ألف كتاباً سماه كتاب التوحيد ، وليته اقتصر فيه على جمع الأحاديث المتشابهة ، ولكنه فسرها بما لا يصح أن يعتقد في الله تعالى ، ولا يقول به المحققون من سلف ولا خلف ، وقد طعنه الإمام فخر الدين الرازي طعنة أردته قتيلاً ، حيث قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى ( ليس كمثله شئ ): واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليه ، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام قليل الفهم ناقص العقل . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 197 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم ساق كلامه وهو كلام لايقوله مؤمن محقق نافذ البصيرة في المعرفة بربه ، ولذلك ضربنا عن نقله ولئلا يتشوش به ضعيف ، ثم قال الإمام الفخر رضي الله عنه: وأقول هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلية ، وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلية ، إلى أن قال : وإن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها لكونه كان بعيداً عن معرفة الحقائق ، فجرى على منهج كلمات العوام ، فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها ، ونسأل الله حسن الخاتمة . انتهى .
ومن قرأ توحيد ابن خزيمة عذر هذا الإمام فيما قال ، وقد أسلفنا لك أن الإمامة في الحفظ والعلم بالعلل في متون الأحاديث وأسانيدها لا تقتضي الإمامة المطلقة في كل فن ، وذلك ظاهر لا يحتاج إلى بيان ، فلا ينبغي أن يقتدى به إلا فيما هو إمام فيه ، ومن خالف هذه القاعدة لم يسلم له دينه في أصول ولا في فروع ، فنصيحتي لك إذا أردت السلامة لنفسك أن تكون في عقائدك على ما دونه الإمام أبو منصور الماتريدي وأبو الحسن الأشعري ، فإنه هو ما يهدي إليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من غير ميل إلى جانب إفراط أو تفريط ) . انتهى .
وما ذكره القضاعي من رد الفخر الرازي على ابن خزيمة النيشابوري ، تجده مفصلاً في تفسير الرازي :27/ 150 - 153 من الطبعة الثالثة دار إحياء التراث العربي . وقد نقل الرازي كلام ابن خزيمة ومغالطته في معنى المثلية والتماثل لإثبات الجسمية لله تعالى ، شبيهاً بمغالطته المتقدمة في الفصل الأول لإثبات رؤية الله تعالى . وقد هاجمه الرازي بشدة تتناسب مع فداحة المغالطة وشرح
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 198 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
معنى تماثل الأجسام وأثبت تنزيه الله تعالى عن مماثلتها . وقد اكتفينا عن إيراد كلام الرازي هنا ببحثه الذي سنورده في الفصل التالي في نفي الجسمية.
وينبغي أن نشير هنا إلى أن كبار علماء الوهابية يرشدون المسلمين إلى قراءة كتاب ( التوحيد ) لابن خزيمة ، وقد تبنوا نشره بين المسلمين بسبب أفكاره التجسيمية مع الأسف .
* وقال في فرقان القرآن ص 61 :
( فوجب أن يكون منزهاً عن التركب وقبول الإنقسام ، وكل ما هو من خصائص المادة والأجسام ، بذلك نطق كتاب الله لقوم يسمعون ، ونادت بهذا آياته من ألقى إليها السمع وهو شهيد ، وعلى ذلك أطبق أهل السنة الذين لم يصابوا بما أصيب به أهل الهوى من مرض التشبيه والتجسيم الذي أصيب به اليهود من قبلهم ووقع فيه النصارى من بعدهم .
والعجب أنك ترى إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدثين الذين يحفظون وليس لهم فقه فيما يحفظون ، أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية ، يرمي إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي بأنهما أشد كفراً من اليهود والنصارى ، في كتابه الموافقة المطبوع على هامش منهاجه ، لقولهما بالتنزيه ، وهما لم ينفردا به ، بل هو قول المحققين من علماء الملة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم إلى زمانه وكانت وفاته في القرن الثامن وإلى زماننا وإلى أن يأتي أمر الله .
فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام : لن تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 199 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وفي بعض ألفاظ هذا الحديث أنهم السواد الأعظم من أمته ، وسيأتي لنا كلام في خطر الإغترار بهذا الرجل ومصنفاته وشيعته ، ورأي المحققين من الجهابذة فيه وفيهم فانتظر ) .
بيان أن العلو المعنوي من المجاز الشائع في كلام العرب :
والعلو المعنوي منتشر في القرآن مستفيض في لغة العرب في وصف الخالق والمخلوق على ما يليق بكلٍّ ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ) . ( ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ). ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ) . والظهور هنا هو العلو . ( إن فرعون علا في الأرض ) . ( وإنا فوقهم قاهرون ) ( وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين ) . ( وليتبروا ما علوا تتبيراً ) . ( لا تخف إنك أنت الأعلى ) .
ولما ذاق المشركون حلاوة النصر المؤقت يوم أحد قال قائلهم ( أعل هبل ) وهو اسم صنم لهم أجابهم المسلمون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم ( الله أعلى وأجل ) وفي شعر العرب :
ولما علونا واستوينا عليهم تركناهم مرعى لنسر وكاسر
ولو ذهبنا نستقصي ما في الكتاب العزيز من ذلك وما في كلام العرب لكان مجلداً ، وأين علو المكان من علو السلطان ؟ وهل العلو في المكان إلا كمال جسماني عرضي نازل كل النزول عن الكمال الذاتي الأصلي ؟ تعالى الله عما يخطر للواهمين .
وقال الإمام أبو جعفر ( الطبري ) في قوله تعالى ( كل شيء هالك إلا وجهه ) إلا هو . فانظر كيف حمل الوجه على الذات ولم يحك فيه خلافا لمن تقدمه .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 200 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقال البخاري في جامعه في تفسير سورة القصص ( كل شيء هالك إلا وجهه ) إلا ملكه ويقال : إلا ما أريد به وجه الله . انتهى . فقد حمل الوجه على الملك جازماً به. ولا أظن عاقلاً يرتاب في أن البخاري من خير السلف.
وقال البخاري أيضاً في تفسير سورة هود في قوله تعالى ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) في ملكه وسلطانه . انتهى كلام البخاري رحمه الله . وقال الله تعالى ( والله واسع عليم ) فالسعة المتعارفة عظم امتداد الجسم ، فهل قال ذلك أحد من السلف ؟ حاشاهم من ذلك .
واستمع الى ما قال الإمام الطبري وقال تعالى (الله نور السموات والأرض ) هل فهم أحد من السلف أنه هو ذلك النور الفائض على الحيطان والجدران المنتشر في الجو ؟ جل مقام العلماء بالله وكتابه أن يفهموا هذا المعنى الظاهر العامي .
قال حبر الأمة ابن عباس فيما رواه عنه الطبري بالسند الصحيح : الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض . وروي نحوه عن أنس بن مالك ، وروي عن مجاهد أن معناه المدبر ، ورجح الإمام الأول وزيف ما عداه ، وقد سمعت ما قاله في معنى الإحاطة وأنها مصروفة إلى إحاطة العلم والمشيئة والإقتدار ، وليس معناها ما يفهم من إحاطة جسم بجسم والتفافه حوله واشتماله عليه ، تعالى الله عن صفات الأجسام وسمات الحدوث .
هذا ولو استقريت أقوال السلف من مظانها لرأيت الكثير الطيب من بيان المعاني اللائقة بالله تعالى على سبيل التعيين ، فمن نقل عدم التعيين مطلقاً عن السلف فما دقق البحث ولا اتسع اطلاعه .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 201 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهذا صحيح البخاري بين أيدينا وتفسير ابن جرير الطبري بين أظهرنا يناديان بما قلنا ، وإنما ذكرنا ما ذكرنا لك من ذلك على سبيل التمثيل لندلك بما سمعت على ما لم تسمع ، ولا نريد في هذا الوجيز الإستقصاء ، وعليك بكتاب الأسماء والصفات للحافظ البيهقي ، وبمراجعة ما قال العلماء في شروح الأحاديث المشكلة ، وما نقلوه عن أكابر السلف في ذلك فقد قدمنا لك نقل الإمام أبي بكر بن العربي عن مالك أنه قال في حديث النزول : هو نزول رحمة لا نزول نقلة ، ولعله رحمه الله لم يبلغه الحديث المفسر له أو لم يستحضره أو بلغه من طريق لا يعتمد عليه ، وقد أخرج النسائي في سننه عن أبي هريرة رحمه الله رفعه : إن الله يمهل حتى إذا مضى شطر الليل أمر منادياً أن ينادي ألا من سائل فأعطيه ، الحديث . فتبين به أن إسناد النزول إليه تعالى إسناد مجازي ، فالمجاز في الإسناد وليس في الطرف وليس ذلك بغريب ، ففي القرآن العزيز ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) والمعنى إذا قرأه عليك جبريل بأمرنا ، كما يعلم ذلك من قرأ ما أخرج البخاري عن ابن عباس في بدء الوحي فقد أزيل الإشتباه في الحديث بهذه الرواية كما أزيل الإشتباه في الآية الأخرى ، وصح النقل عن حبر الأمة ابن عباس أنه فسر بالعلو ولم يفسره بالجلوس .
وقد علمت ما قاله الإمام الطبري في معنى العلو ، ونقلنا لك عن الذهبي نفسه ما يفيد إجماع علماء الأمصار أنهم يقولون كلهم بلا كيف ، وشرحنا معناه بما يزيل عنك الإلتباس إن شاء الله تعالى .
وبعد فقد سبقتنا أساطين العلماء رضي الله عنهم فدونوا في المتشابهات الكتب الكثيرة القيمة بين مطول مفيد ومقل مجيد ، فاملأ قلبك بتنزه الله تعالى عن هذا الظواهر الحسية الجسمية . ) انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 202 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الكوثري ينفي ما نسبه المجسمون الى أئمة المذاهب
* ذكر الكوثري في مقدمة تحقيقه لكتاب الأسماء والصفات للبيهقي المطبوعة في آخر نسختنا المذكورة ، أن البيهقي ألف كتاباً في مناقب الإمام أحمد وبرأه فيه من كل ما نسبوه إليه من التشبيه والتجسيم ، قال :
( وكتاب مناقب أحمد له ، يدفع فيه ما نسبه إليه بعض أصحابه من الكلمات الموهمة . ومن جملة ما قال فيه نقلا عن الإمام أبي الفضل التميمي رئيس الحنابلة ببغداد وابن رئيسها : أنكر أحمد على من قال بالجسم وقال : إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة ، وأهل اللغة وضعوا هذا الإسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف ، والله سبحانه خارج عن ذلك كله ، فلم يجز أن يسمى جسماً لخروجه عن معنى الجسمية ، ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل . انتهى بحروفه .
وقال البيهقي فيه أيضاً : وأنبأنا الحاكم قال حدثنا أبو عمرو بن السماك قال حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت عمي أبا عبد الله يعني الإمام أحمد يقول : احتجوا علي يومئذ يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين فقالوا تجئ سورة البقرة يوم القيامة وتجئ سورة تبارك ، فقلت لهم إنما هو الثواب ، قال الله تعالى (وجاء ربك ) إنما تأتي قدرته ، وإنما القرآن أمثال ومواعظ . انتهى .
قال البيهقي هذا إسناد صحيح لا غبار عليه ثم قال : وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجئ الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالاً من مكان إلى مكان كمجئ ذوات الأجسام ونزولها ، وإنما هو عبارة عن ظهور آيات قدرته فإنهم لما زعموا أن القرآن لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 203 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لم يجز عليه المجئ والإتيان ، فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجئ ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياها بمجيئه .
وهذا الجواب الذي أجابهم به أبو عبد الله لا يهتدي إليه إلا الحذاق من أهل العلم المنزهون عن التشبيه . انتهى ما ذكره البيهقي في مناقب أحمد .
وأما كتاب الأسماء والصفات فكتاب لا نظير له كما سبق ، تراه لا يلوم من يقول إن الله في السماء أو يقول إن الله على العرش بناء على بعض الأحاديث الواردة الناطقة بذلك ، لكن يجرد الكون في السماء أو على العرش عن جميع معاني التمكن ، على خلاف معتقد المشبهة ، كما تجد نص كلامه عند الكلام على الإستواء وعلقنا هناك على هذا الكلام ما يجب لفت النظر إليه .
فالقائل بأنه في السماء إن كان يريد أنه متمكن فيها فهو زائغ عن الصراط السوي ، وأما إن كان يريد أنه في غاية من علو الشأن والمكانة بدون اعتقاد مكان له تعالى فلا غبار على كلام هذا القائل من ناحية اللغة ، وأما من جهة الشرع فهناك ظواهر تسيغ ذلك ، لكن حيث كانت الأحاديث التي وردت في ذلك لا تخلو من كلام مثل حديث أبي رزين وحديث الأوعال فالأحوط أن لا ينطق به حتى مع التصريح بهذا التنزيه ، بل الواجب عدم النطق به أصلاً سداً لباب التشبيه بمرة واحدة .
وليست هناك أحاديث صريحة صحيحة ، وحديث الجارية فيه اضطراب عظيم ويحول دون التمسك به في باب الإعتقاد ، ومن تمسك بقوله تعالى
( أأمنتم من في السماء ) في هذا الباب فلا حجة له أصلاً كما نشرح ذلك فيما نعلق على الكتاب في موضعه إن شاء الله تعالى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 204 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والحاصل أنه ليس في قول البيهقي وأمثاله من تجويز القول (بأنه في السماء) بمعنى علو الشأن والمكانة، ما يسر القائلين بإثبات المكان والعلو الحسي أصلاً . والبيهقي ينص على ذلك في مواضع من هذا الكتاب فنقل كلمة البيهقي وأمثاله في باب إثبات العلو الحسي غفل ظاهر !
وما نسبوه إلى أبي حنيفة في سنده نعيم بن حماد وأبو أمه . وما عزوه إلى مالك فيه عبد الله بن نافع الأصم صاحب المناكير عن مالك .
وما أسندوه إلى الشافعي فيه أبو الحسن الهكاري وابن كادش والعشاري وأحوالهم معلومة عند النقاد رغم انخداع بعض المغفلين برواياتهم ، فلا يصح عزو القول بأنه في السماء إلى الأئمة الفقهاء أصلاًً ) . انتهى .
السيد الأمين في كشف الإرتياب
* قال في كشف الإرتياب في أتباع ابن عبد الوهاب ص 94 :
( الكتاب والخبر عربيان وفيهما كسائر كلام العرب الحقيقة والمجاز ، فالحقيقة الكلمة المستعملة فيما وضعت له ، كقولك سمعت زئير الأسد في الغاب وتريد الحيوان المفترس . والمجاز الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لمناسبة ما وضعت له ، مناسبة موافقة للعرف غير مستهجنة كقولك رأيت أسداًً في الحمام وتريد رجلاً شجاعاً ، والمناسبة بينهما الشجاعة .
وقد كثر المجاز في كلام العرب جداً ومنه الكتاب والخبر ، بل أكثر كلام العرب مجاز . ومما جاء منه في القرآن : يد الله فوق أيديهم . واصنع الفلك بأعيننا . ولتصنع على عيني . فإنك بأعيننا . ولو ترى إذ وقفوا على ربهم . يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله . كل شئ هالك إلا وجهه . أينما تولوا فثم وجه الله. ويبقى وجه ربك . الرحمن على العرش استوى . يخافون ربهم من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 205 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فوقهم. فكان قاب قوسين أو أدنى . إلا من رحم ربك . إلا من رحم الله. وغضب الله عليه . الله يستهزيء بهم . وجاء ربك .
والقرينة على المجاز في الكل عدم إمكان إرادة المعنى الحقيقي المستلزم للتجسيم والتحيز والوجود في مكان دون غيره ، وكونه محلاًّ للحوادث . . .
ولا بد للمجاز من قرينة كقولنا في المثال المتقدم في الحمام ، لأن الحيوان المفترس لا يكون في الحمام عادة ، وقد تكون القرينة حالية لا مقالية فتخفى على بعض الأفهام ويقع فيها الإشتباه .
وقد يكثر استعمال اللفظ في المعنى المجازي حتى يصير مجازاً مشهوراً لايحتاج إلى قرينة غير الشهرة، وقد يكثر حتى يبلغ درجة الحقيقة فيسمى منقولاً ) .
* وقال في كشف الإرتياب ص 119 :
( وادعى الوهابيون أنهم هم الموحدون وغيرهم من جميع المسلمين مشركون كما سيأتي، ولكن الحقيقة أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهما قد أباحوا حمى التوحيد وهتكوا ستوره وخربوا حجابه، ونسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق بقدس جلاله ، تقدس وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً . فأثبتوا لله تعالى جهة الفوق ، والإستواء على العرش الذي هو فوق السماوات والأرض ، والنزول إلى سماء الدنيا ، والمجئ والقرب وغير ذلك ، بمعانيها الحقيقية ، وأثبتوا له تعالى الوجه واليدين اليد اليمنى واليد الشمال والأصابع والكف والعينين ، كلها بمعانيها الحقيقية دون تأويل ، وهو تجسيم صريح . وحملوا ألفاظ الصفات على معانيها الحقيقية فأثبتوا لله تعالى المحبة والرحمة والرضا والغضب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من غير تأويل ، وأنه تعالى يتكلم بحرف
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 206 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وصوت ، فجعلوا الله تعالى محلاًّ للحوادث وهو يستلزم الحدوث ، كما بين في محله من علم الكلام .
أما ابن تيمية فقال بالجهة والتجسيم والإستواء على العرش حقيقة والتكلم بحرف وصوت . وهو أول من زَقَا بهذا القول وصنف فيه رسائل مستقلة كالعقيدة الحموية والواسطية وغيرهما ، واقتفاه في ذلك تلميذاه ابن القيم الجوزية وابن عبد الهادي وأتباعهم ، ولذلك حكم علماء عصره بضلاله وكفره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه ، فأخذ إلى مصر ونوظر فحكموا بحبسه فحبس ، وذهبت نفسه محبوساً بعد ما أظهر التوبة ، ثم نكث .
ونحن ننقل ما حكوه عنه في ذلك وما قالوه في حقه لتعلم ما هي قيمة ابن تيمية عند العلماء : قال أحمد بن حجر الهيثمي المكي الشافعي صاحب الصواعق في كتابه الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم ، في جملة كلامه الآتي في فصل الزيارة : إن ابن تيمية تجاوز إلى الجناب المقدس وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم . . . إلخ .
وقال ابن حجر أيضاً في الدرر الكامنة على ما حكي : إن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكره في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك بقوله إن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله ، وأنه مستو على العرش بذاته ، فقيل له يلزم من ذلك التحيز والإنقسام فقال: أنا لا أسلم أن التحيز والإنقسام من خواص الأجسام ، فألزم بأنه يقول بالتحيز في ذات الله . .
وعن صاحب أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل أنه قال في بيان إرخاء العمامة بين الكتفين : قال ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه ذكر شيئاً بديعاً وهو أنه (ص)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 207 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لما رأى ربه واضعاً يده بين كتفيه، أكرم ذلك الموضع بالعذبة ! قال العراقي ولم نجد لذلك أصلاً .
أقول : بل هذا من قبيل رأيهما وضلالهما إذ هو مبني على ما ذهبا إليه وأطالا في الإستدلال له والحط على أهل السنة في نفيهم له ، وهو إثبات الجهة والجسمية لله ، تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً . ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الإعتقاد ما تصم عنه الآذان ، ويقضي عليه بالزور والكذب والضلال والبهتان ، قبحهما الله وقبح من قال بقولهما . والإمام أحمد وأجلاء مذهبه مبرؤون عن هذه الوصمة القبيحة كيف وهي كفر عند كثيرين . انتهى .
وعن المولوي عبد الحليم الهندي في حل المعاقد حاشية شرح العقائد : كان تقي الدين ابن تيمية حنبلياً لكنه تجاوز عن الحد وحاول إثبات ما ينافي عظمة الحق تعالى وجلاله ، فأثبت له الجهة والجسم ، وله هفوات أخر . . . وحكم قاضي القضاة بحبسه سنة 705 ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه، كذا في مرآة الجنان للإمام أبي محمد عبد الله اليافعي، ثم تاب وتخلص من السجن سنة 707 وقال إني أشعري ، ثم نكث عهده وأظهر مرموزه فحبس حبساً شديداً ، ثم تاب وتخلص من السجن وأقام في الشام ، وله هناك واقعات كتبت في كتب التواريخ ورد أقاويله .
وبين أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر الكامنة ، والذهبي في تاريخه ، وغيرهما من المحققين . والمرام أن ابن تيمية لما كان قائلاً بكونه تعالى جسماً قال بأنه ذو مكان ، فإن كل جسم لا بد له من مكان على ما ثبت ، ولما ورد في الفرقان الحميد ( الرحمن على العرش استوى ) قال إن العرش
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 208 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مكانه ، ولما كان الواجب أزلياً عنده وأجزاء العالم حوادث عنده ، اضطر إلى القول بأزلية جنس العرش وقدمه وتعاقب أشخاصه الغير المتناهية ، فمطلق التمكن له تعالى أزلي والتمكنات المخصوصة حوادث عنده ، كما ذهب المتكلمون إلى حدوث التعلقات . انتهى .
وعن تاريخ أبي الفدا في حوادث سنة 705 : وفيها استدعي تقي الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلى مصر وعقد له مجلس ، وأمسك وأودع الإعتقال بسبب عقيدته ، فإنه كان يقول بالتجسيم . انتهى .
وجاء في المنشور الصادر بحقه من السلطان : وكان الشقي ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه ومد عنان كلمه ، وتحدث في مسائل القرآن والصفات، ونص في كلامه على أمور منكرات ، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام ، وانعقد على خلافه إجماع العلماء الأعلام ، وخالف في ذلك علماء عصره ، وفقهاء شامه ومصره ، وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه ، حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله بالحرف والصوت والتجسيم . انتهى.
وأما محمد بن عبد الوهاب فاقتفى هو وأتباعه في ذلك أثر ابن تيمية ، كما اقتفى أثره في زيارة القبور والتشفع والتوسل وغير ذلك ، وبنى على أساسه وزاد ، وقد أثبت ابن عبد الوهاب لله تعالى جهة الفوق والإستواء على العرش الذي هو فوق السماوات والأرض والجسمية والرحمة والرضا والغضب واليدين اليمنى والشمال والأصابع والكف كلها بمعانيها الحقيقية من دون تأويل . . .
وأما أتباع محمد بن عبد الوهاب فأثبتوا لله تعالى جهة العلو والإستواء على العرش والوجه واليدين والعينين والنزول إلى سماء الدنيا والمجيء والقرب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية ، ففي الرسالة الرابعة من الرسائل الخمس المسمى
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 209 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مجموعها بالهدية السنية لعبد اللطيف حفيد محمد بن عبد الوهاب عند ذكر بعض اعتقادات الوهابية وأنها مطابقة لعبارة أبي الحسن الأشعري قال : وأن الله تعالى على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : لما خلقت بيدي ، بل يداه مبسوطتان ، وأن له عينين بلا كيف ، وأن له وجهاً كما قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
وقال : ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله ( ص ) أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر . إلى أن قال : ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال : وجاء ربك والملك صفاًّ صفاًّ ، وأنه يقرب من خلقه كيف شاء كما قال : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد .
وفي الرسالة الخامسة لمحمد بن عبد اللطيف المذكور : ونعتقد أن الله تعالى مستوٍ على عرشه عال على خلقه ، وعرشه فوق السماوات ، قال تعالى : الرحمن على العرش استوى ، فنؤمن باللفظ ونثبت حقيقة الاستواء ولا نكيف ولا نمثل . قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس وبقوله نقول ، وقد سأله رجل عن الإستواء فقال : الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . . .
ونقول : يلزم من ذلك أحد أمرين : التجسيم أو القول بالمحال وكلاهما محال ، لأن حصول حقيقة الإستواء مع عدم الكيف محال بحكم العقل ، ومع الكيف تجسيم ، فلا بد من التأويل والمجاز ، والقرينة العقل .
ومنه تعلم أن الكلام المنسوب إلى الإمام مالك لا يكاد يصح ، وحسن الظن به يوجب الريبة في صحة النسبة إليه ، وذلك لأن قوله الإستواء معلوم إن أراد أنه معلوم بمعناه الحقيقي فهو ممنوع بل عدمه معلوم بحكم العقل باستحالة الجسمية عليه تعالى ، واستحالة الإستواء الحقيقي بدون الجسمية ...
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 210 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم كيف يكون السؤال بدعة ، والتصديق بالمجهول محال ؟ ! وإن أراد أنا نؤمن به على حسب المعنى الذي أراده الله تعالى منه وإن لم نعلمه تفصيلاً ، فإن كان يحتمل أنه أراد حقيقة الإستواء ففاسد ، لما عرفت من استحالته بحكم العقل ، وإن كان الترديد بين المعاني المجازية فقط ، فأين حقيقة الإستواء التي أثبتناها .
وإذا كان قول الإمام مالك عند هؤلاء قدوة وحجة في مثل هذه المسألة الغامضة ، فلم لم يقتدوا بقوله فيما هو أوضح منها وأهون ، وهو رجحان استقبال القبر الشريف والتوسل بصاحبه عند الدعاء ؟ حسب ما أمر به مالك المنصور فيما مرت الإشارة إليه . . .
أما قول عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية أنه لا يلزم أن نكون مجسمة وإن قلنا بجهة العلو ، لأن لازم المذهب ليس بمذهب !
ففيه : أن كون لازم المذهب ليس بمذهب إن صح فمعناه أن من ذهب إلى القول بشئ لا يجب أن يكون قائلاً بلازمه ، إلا أنه إذا كان هذا اللازم باطلاً كان ملزومه الذي ذهب إليه باطلاً ، لأن بطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم ، وإلا لبطلت الملازمة . فمن قال بجهة العلو وإن لم يقل بالتجسيم إلا أنه لازم قوله ، فإذا كان التجسيم باطلاً فالقول بجهة العلو خطأ وباطل ، مع أنك قد عرفت آنفاً أن قدوتهم ومؤسس ضلالتهم ابن تيمية قد صرح بالجسمية وكفره علماء عصره لذلك وحكموا بقتله أو حبسه ، وأن مؤسس مذهبهم ابن عبد الوهاب اقتدى بابن تيمية في ذلك فأثبت اليدين اليمين والشمال والأصابع والكف ، وهم على طريقته لا يحيدون عنها قيد أنملة ، فلا ينفعهم التبري من القول بالتجسيم ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 211 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
السقاف في الصحيح في شرح العقيدة الطحاوية
* وقال الباحث المعاصر السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 165 :
( ثم اعلم بأن من نهج السلف الصالح إثبات المجاز في اللغة ولا أظن أن عاقلاً يشك في ذلك ، فهذا الإمام أحمد يثبت المجاز ويقول في بعض الأمور : هذا من مجاز اللغة كما اعترف بذلك ابن تيمية ( 95 ) في كتابه الإيمان ص 85 ، وذكره الحافظ الزركشي في البحر المحيط في علم الأصول 2/182 عن الإمام أحمد ) . انتهى .
وقال السقاف في هامشه : ( 95 - ومحاولة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما إنكار المجاز محاولة فاشلة جداً ! وقد ناقضوا أنفسهم فيها ! فابن القيم الذي يعتبر المجاز في كتابه الصواعق المرسلة طاغوتاً ، يتناقض مع نفسه حيث يثبت المجاز ويدلل عليه بأوجه كثيرة في كتابه الفوائد المشوقة !
كما أن الشيخ المتناقض ( يقصد الألباني ) يخالف ابن تيمية في هذه المسألة فيثبت المجاز في مقدمة مختصر العلو ص 23 في الحاشية ! وقد بينا هذا التناقض الواقع بين آرائهم العقائدية وغيرها في رسالتنا البشارة والإتحاف ص31 فارجع إليها !
وصاحب تفسير أضواء البيان المعاصر المنكر للمجاز في الظاهر ، إنما أنكره تحت وطأة الضغط والإكراه الذي أجبر عليه في البلد التي كان يعيش فيها آخر حياته ، والمكره له أحكام !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 212 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وعلى كل الأحوال فإنكاره لذلك ليس حجة يصح أن يتشبث بها طالب العلم ومبتغي معرفة الرجال بالحق ، المبتعد عن نحلة من يعرف الحق بالرجال ، وخاصة بعد وضوح الأدلة والبراهين في هذا الأمر والله الهادي !
ومن العجيب الغريب أن يقول ابن تيمية في كتابه الإيمان ص 85 : وأما سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم ولا من قدماء أصحاب أحمد إن في القرآن مجازاً ، لا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة ، فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز إنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في الثالثة وما علمته موجوداً في المائة الثانية ، اللهم إلا أن يكون في أواخرها !
ونقول له ولمن ينغر بقوله : لماذا هذا التخبط في تحديد التاريخ ( في ثلاثة قرون ) !
وماذا وراءه إلا تضليل القارئ ! بل قد ذكر الأئمة المجاز ومنهم الشافعي في الرسالة ولو سماه بغير هذه التسمية ، وقد صنف أهل القرن الثاني في المجاز ومنهم معمر بن المثنى المولود سنة 106 هجرية في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني واسم كتابه مجاز القرآن ) . أنظر سير أعلام النبلاء 9/446.
* وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 311 :
( احتجت المجسمة بقوله تعالى : الرحمن على العرش استوى ، على أن الله تعالى جالس على العرش وأنه عالٍ عليه علواً حسياً ، وبعضهم يعتقد ذلك ولا يصرح بلفظ الجلوس ولا بالعلو الحسي إنما يقول : الله في العلو ويشير إليه إلى جهة السماء !
وهذا خطأ محض بلا شك لأن الله تعالى منزه عن المكان ، والعرب تقول عمن أرادت تعظيمه على وجه المجاز فلان في السماء أي عظيم القدر .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 213 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وإليكم تفصيل الكلام على هذه الآية وما شابهها من كلام الإمام الحافظ ابن الجوزي في ( دفع شبه التشبيه ) ص 121 مع تعليقاتنا عليه في الحاشية قال رحمه الله :
ومنها قوله تعالى: ثم استوى على العرش ، قال الخليل بن أحمد: العرش : السرير فكل سرير ملك يسمى عرشاً ، والعرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام ، قال الله تعالى : ورفع أبويه على العرش وقال تعالى : أيكم يأتيني بعرشها . واعلم أن الإستواء في اللغة على وجوه منها : الإعتدال ، قال بعض بني تميم : فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم أي اعتدلا ، والإستواء تمام الشيء ، قال الله تعالى : ولما بلغ أشده واستوى ، أي تم . والإستواء القصد إلى الشيء ، قال تعالى : ثم استوى إلى السماء ، أي قصد خلقها . والإستواء الإستيلاء على الشئ قال الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق )
* وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 324 :
( يزعم المجسمة والمشبهة على اختلاف مشاربهم بأن الذي ينفي أن يكون الله تعالى داخل العالم وخارجه يكون منكراً لوجوده سبحانه ، وهذه مغالطة واضحة لا قيمة لها !
وذلك لأنهم يقيسون الله تعالى على الأجسام ويتوهمون أن الله سبحانه شئ كالأشياء يأخذ حيزاً في الفراغ كبقية الأجسام !
وبعضهم يتخيله سبحانه وتعالى جسماً كثيفاً كالإنسان ، وبعضهم يتخيل بأنه من قبيل الأشياء اللطيفة كالهواء والنور والغاز ونحو ذلك !
وجميعهم متفقون مهما حاولوا الإنكار على أنه جسم يتخيله ويتصوره العقل بإزاء العالم ، خارجاً عنه ! ونحن بدورنا يجب علينا أن نجلي المسألة ونكشف
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 214 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عما كان غامضاً منها ونبين ما هو القرآن الصحيح في ذلك من نصوص الكتاب والسنة حتى يتبين مذهب أهل الحق فيها .
إعلم أن معنى قول أهل العلم إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ، أي أن الله سبحانه لا يوصف بأنه متصل بالعالم وكذلك لا يوصف بأنه منفصل عنه ، وذلك لأن الإتصال والإنفصال من أوصاف الأجسام ، فالجسم إما أن يكون متصلاً بالآخر أو منفصلاً متنائياً عنه ، والله تعالى ( ليس كمثله شئ ) كما وصف نفسه .
وإن المنطقة التي يتخيلها المجسمةوالمشبهة فوق العرش والتي يتصورون أن المولى سبحانه وتعالى حال فيها هي مكان بلا شك ولا ريب، ولولا أنها مكان لما أمكن تخيلها ولما صح وصفه بأنه فيها وأنه في جهة ما فوق العرش ، ولما صحت أيضا إشارتهم إليه ، فهم بناء على ذلك يتخيلون أن الله تعالى ذات من الذوات الجسمانية فيقيسونه سبحانه على الأجسام التي وصفناها قريباً ، وأنه خلق العالم والعرش تحته فصار هو فوقه !
فهم إذا يتصورون ويتخيلون بأن الله تعالى قبل خلق هذا العالم وإيجاده من العدم كان له تحت ، وإذا كان له تحت فله فوق وأمام وخلف ويمين ويسار !
فالعقدة الموجودة في عقول هؤلاء المجسمة والمشبهة هي أنهم لم يسلموا للشرع ، فلم يقولوا بأن الله تعالى لا يمكن إدراكه وتصوره وأنه خارج عن كل ما يجول في الأوهام ويحوم في الخواطر والنفوس ، ولو أنهم سلموا بوجوده سبحانه مع إقرارهم بأنه لا يمكن تصوره لنجوا ، وكانوا على عقيدة الإسلام الحقة عقيدة التنزيه ! ) .
* وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 334 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 215 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( لقد صرح علماء الإسلام من فحول أهل الحديث وحذاق الأئمة الذين يعول على كلامهم ويعتد بهم في الإجماع والخلاف ، بتنزيه الله تعالى عن أن يكون داخل العالم أو خارجه ، فتارة يعبرون عن ذلك بعبارة لا داخل العالم ولا خارجه ، وتارة يعبرون بأنه لا متصل ولا منفصل ، وتارة بالإجتماع والإفتراق ، وتارة يقولون لا مماس ولا مباين ، والمعنى واحد بلا شك ولا ريب ، وإليكم نصوصهم في ذلك :
1 - قال الإمام الغزالي : في الإحياء 4/434 :
إن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات ، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ، ولا هو متصل ولا هو منفصل عنه ، قد حير عقول أقوام حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته .
وكذلك ذكر نحو هذا الكلام في عدة من مؤلفاته .
2 ، 3 - الإمام الحافظ النووي والإمام المتولي :
قال الإمام الحافظ النووي في روضة الطالبين 1064 : قال المتولي ( من اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع ، أو نفى ما هو ثابت للقديم بالإجماع كالألوان ، أو أثبت له الإتصال أو الإنفصال كان كافراً ) وأقره عليه فيكون هذا قول إمامين من كبار الأئمة ) .
4 - وقال نحو هذا الإمام الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات ص 410 - 411 بتفصيل دقيق وكذا له نصوص في ذلك في شعب الإيمان .
5 - الشيخ العز بن عبد السلام : ذكر في كتابه القواعد ص 201 :
إن من جملة العقائد التي لا تستطيع العامة فهمها هو أنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا منفصل عن العالم ولا متصل به .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 216 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
6 - الإمام أبو المظفر الاسفراييني في التبصير في الدين ص 97 بتحقيق الإمام الكوثري مطبعة الأنوار 1359 هـ حيث قال : ( وأن تعلم أن الحركة والسكون . . . والإتصال والإنفصال . . . كلها لا تجوز عليه تعالى ، لأن جميعها يوجب الحد والنهاية ) .
7 - الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي :
قال في كتابه دفع شبه التشبيه ص 103 من طبعة دار الإمام النووي بتحقيقنا ( وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات ) . انتهى .
فهؤلاء جماعة من العلماء صرحوا بأن الله تعالى لا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله .
* وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 339 :
هذه الصورة ( ثلاث دوائر ) هي ترجمة كلام الألباني وإمامه ابن تيمية كما نصا عليها، أنظر صحيح الترغيب ص ( 116 ) وهذا نصه هناك بحروفه : ( فائدة هامة : إعلم أن قوله في هذا الحديث: فإن الله قبل وجهه. وفي الحديث الذي قبله : فإن الله عز وجل بين أيديكم في صلاتكم ، لا ينافي كونه تعالى على عرشه فوق مخلوقاته كلها ، كما تواترت فيه نصوص الكتاب والسنة وآثار الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم ورزقنا الاقتداء بهم ، فإنه تعالى مع ذلك واسع محيط بالعالم كله ، وقد أخبر أنه حيثما توجه العبد فإنه مستقبل وجه الله عز وجل ، بل هذا شأن مخلوقه المحيط بما دونه ، فإن كل خط يخرج من المركز إلى المحيط فإنه يستقبل وجه المحيط ويواجهه . وإذا كان عالي المخلوقات يستقبل سافلها المحاط بها بوجهه من جميع الجهات والجوانب ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 217 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فكيف بشأن من هو بكل شئ محيط وهو محيط ولا يحاط به . وراجع بسط هذا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كالحموية والواسطية وشرحها للشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض . ص 203 - 213 ) . انتهى .
ونقل الألباني المتناقض في مقدمة مختصر العلو ص ( 71 ) عن ابن تيمية الحراني من التدمرية مستدلاً بقوله ( كأنه نص شرعي ! ) مقراً مباركاً له ! ما نصه : ( أتريد بالجهة أنها شئ موجود مخلوق فالله ليس داخلاً في المخلوقات ، أم تريد بالجهة ما وراء العالم فلا ريب أن الله فوق العالم . وكذلك يقال لمن قال الله في جهة : أتريد بذلك أن الله فوق العالم ، أو تريد به أن الله داخل في شئ من المخلوقات ؟ فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل ) .
فاعتبروا يا أهل الأبصار والعقول كيف يقولون بأن هناك وراء العالم منطقة ليست داخلة في المخلوقات فهناك وفي تلك المنطقة يوجد معبود هذه
الطائفة ! ! ) .
* وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 358 :
( المجسمة والمشبهة : المجسمة هم المشبهة أنفسهم ، وهم الذين يتخيلون بأن الله تعالى جسم على شكل ما من الأشكال ، وغالبهم يتصورونه ويتخيلونه على صورة رجل جالس على كرسي عظيم ( وهو كرسي الملك ) والذي يدل على ذلك عباراتهم التي يرددونها في كتبهم التي يتكلمون فيها عن مسائل التوحيد والإعتقاد . وكتاب ( السنة ) المنسوب لابن الإمام أحمد من أوضح الأدلة والشواهد على ذلك !
وبعضهم يكابر ويجادل بالباطل فيقول : بأنه لا يتصور الله تعالى مثل ما ذكرنا عنهم ! وهم غير صادقين في تلك المكابرة والمجادلة العقيمة ، ومؤلفاتهم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 218 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وكلماتهم وفلتات ألسنتهم وما يسرونه لكثير من أتباعهم وغير ذلك من الأمور الظاهرة ، دلالات ظاهرة تحكم بصدق دعوانا عليهم !
ومن أوضح الأمثلة على ذلك أيضا أن المجسمة والمشبهة يثبتون لله تعالى أعضاء يسمونها صفات كاليد والأصابع والوجه والساق والقدم والرجل والعين والجنب والحقو والجلوس والحركة والحد والجهة ، وغير ذلك من صفات المحدثات والأجسام كما تقدم ! ) .
وظلم الألباني السقاف . . .
* فتاوي الألباني ص 520 : السائل يقول :
( ثَمَّ بدعة جديدة ابتدعها السقاف وأنه قال : أنا أثبت الله فوق السماء كما أثبتت الجارية . . .
جواب : إن هذه كلمة يقولونها بألسنتهم هرباً من الحجة ، لأن الرجل في كتبه يصرح بأن القول بأن الله في السماء كفر ، هكذا . . . ويقول إن الله ليس في مكان وليس خارج مكان ، الله لا داخل العالم ولا خارجه . . . ولذلك هو شنشنة المعطلة . . . ) . انتهى .
ويقصد السائل بالجارية حديث الجارية الخرساء التي روي أن النبي صلى الله عليه وآله سألها أين الله تعالى ؟ فأشارت إلى السماء ، فارتضى جوابها .
وقد استدل به الوهابيون على إثبات الفوقية له تعالى والجهة ، وقد رفض السقاف تفسيرهم ، لكن قال إني أؤمن بصحة قول الجارية على معنى العلو المعنوي وليس المادي .
وهذا أمر صحيح يرتضيه كل المسلمين إلا المجسمة ، ومنهم الألباني الذي لم يقتنع بذلك واتهم السقاف وكل من ينكرالصفات المادية لله تعالى بالتعطيل!
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 219 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم كرر الألباني حكم أسلافه المجسمة على من خالفهم بأنهم معطلة ملحدون !
* قال الذهبي في تاريخ الإسلام ج 14 ص 384 :
( قال صفوان بن صالح : سمعت مروان بن محمد وقيل له إنهم يقولون ليس لله عين ولا يد ، فقال : إن مذهبهم التعطيل ! ) . انتهى .
فلا بد لك حتى تؤمن بالله عندهم أن تعترف بالصفات الحسية المادية لله تعالى ، وبالقدم واليد والعين والوجه وبقية أعضاء معبودهم ! كل ذلك بالمعنى الحسي المادي ! وإلا فأنت من المعطلين الملحدين بأسماء الله تعالى وصفاته ! !
فانظر إلى هذا المنطق الذي يغرق في المادية ، ويخلط عن عمد أو غباء بين صفات الأعضاء وصفات المعاني والأفعال ، فيجعل المشبهين المجسمين مؤمنين ويتجرأ على تكفير المنزهين الذين لايقبلون بوصف الله تعالى بالصفات المادية ، ويصفهم بأنهم معطلون ملحدون كافرون ! وهم جمهرة المسلمين .
وانظر إلى هذه ( المادية الدينية اليهودية ) التي يتبناها ( علماء الحرمين ) ويريدون أن يسوقوا العالم الإسلامي بعصاها ، ويبذلون لها الأموال ويبحثون لها عن منظرين من الهنود والسوريين . . ! !
وذلك في القرن العشرين ، الذي شهد انهيار المادية التاريخية !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 220 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 221 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثامن : من بحوث الفلاسفة والمتكلمين في نفي الجسمية والجهة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 222 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 223 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بحث للعلامة الحلي في نفي الجسمية والجهة
قال في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص 154 :
( قال : ولكل جسم مكان طبيعي يطلبه عند الخروج على أقرب الطرق .
أقول : كل جسم على الإطلاق فإنه يفتقر إلى مكان يحل فيه ، لاستحالة وجود جسم مجرد عن كل الأمكنة ، ولا بد أن يكون ذلك المكان طبيعياً له ، لأنا إذا جردنا الجسم عن كل العوارض فإما أن لا يحل في شئ من الأمكنة وهو محال ، أو يحل في الجميع وهو أيضاًً باطل بالضرورة ، أو يحل في البعض فيكون ذلك البعض طبيعياً ، ولهذا إذا أخرج عن مكانه عاد إليه ، وإنما يرجع إليه على أقرب الطرق وهو الإستقامة .
قال: ولو تعدد انتفى . أقول : يريد أن يبين أن المكان الطبيعي واحد ، لأنه لو كان لجسم واحد مكانان طبيعيان لكان إذا حصل في أحدهما كان تاركاً للثاني بالطبع ، وكذا بالعكس فلا يكون واحد منهما طبيعياً له ، فلهذا قال فلو تعدد يعني الطبيعي انتفى ، ولم يكن له مكان طبيعي ) .
* وقال في كشف المراد ص 317 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 224 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( المسألة العاشرة : في أنه تعالى غير مركب . قال : والتركيب بمعانيه . أقول: هذا عطف على الزائد ، بمعنى أن وجوب الوجود يقتضي نفي التركيب أيضاً ، والدليل على ذلك أن كل مركب فإنه مفتقر إلى أجزائه لتأخره وتعليله بها ، وكل جزء من المركب فإنه مغاير له ، وكل مفتقر إلى الغير ممكن ، فلو كان الواجب تعالى مركباً لكان ممكناً ، هذا خلف ، فوجوب الوجود يقتضي نفي التركيب .
واعلم أن التركيب قد يكون عقلياً وهو التركيب من الجنس والفصل ، وقد يكون خارجياً كتركيب الجسم من المادة والصورة وتركيب المقادير وغيرها ، والجميع منتفٍ عن الواجب تعالى ، لاشتراك المركبات في افتقارها إلى الأجزاء، فلا جنس له ولا فصل له ولا غيرهما من الأجزاء الحسية العقلية .
المسألة الثالثة عشرة : في أنه تعالى ليس بحال في غيره . قال : والحلول .
أقول : هذا عطف على الزائد فإن وجوب الوجود يقتضي كونه تعالى ليس حالاً في غيره ، وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء ، وخالف فيه بعض النصارى القائلين بأنه تعالى حال في المسيح ، وبعض الصوفية القائلين بأنه تعالى حال في بدن العارفين ، وهذا المذهب لا شك في سخافته لأن المعقول من الحلول قيام موجود بموجود آخر على سبيل التبعية بشرط امتناع قيامه بذاته ، وهذا المعنى منتف في حقه تعالى لاستلزامه الحاجة المستلزمة للإمكان .
المسألة الرابعة عشرة : في نفي الاتحاد عنه تعالى . قال : والإتحاد .
أقول : هذا عطف على الزائد فإن وجوب الوجود ينافي الإتحاد ، لأنا قد بينا أن وجوب الوجود يستلزم الوحدة ، فلو اتحد بغيره لكان ذلك الغير ممكناً فيكون الحكم الصادق على الممكن صادقاً على المتحد به ، فيكون الواجب ممكناً . وأيضاً لو اتحد بغيره لكان بعد الإتحاد إما أن يكونا موجودين كما كانا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 225 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فلا اتحاد ، وإن عدما أو عدم أحدهما فلا اتحاد أيضاً ، ويلزم عدم الواجب فيكون ممكناً . هذا خلف .
المسألة الخامسة عشرة : في نفي الجهة عنه تعالى . قال : والجهة . أقول : هذا حكم من الأحكام اللازمة لوجوب الوجود وهو معطوف على الزائد ، وقد نازع فيه جميع المجسمة فإنهم ذهبوا إلى أنه في جهة ، وأصحاب أبي عبد الله بن الكرام اختلفوا فقال محمد بن هيثم أنه تعالى في جهة فوق العرش لا نهاية لها ، والبعد بينه وبين العرش أيضاً غير متناه ، وقال بعضهم البعد متناه ، وقال قوم منهم إنه تعالى على العرش كما يقول المجسمة ، وهذه المذاهب كلها فاسدة ، لأن كل ذي جهة فهو مشار إليه ومحل للأكوان الحادثة ، فيكون حادثاًً فلا يكون واجباًً ) .
بحث للفخر الرازي في نفي الجسمية
* المطالب العالية مجلد 2 جزء 2 ص 25 :
( الفصل الثالث في إقامة الدلائل على أنه تعالى يمتنع أن يكون جسماً .
لأهل العلم في هذا الباب قولان : فالجمهور الأعظم منهم اتفقوا على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الجسمية والحصول في الحيز . وقال الباقون : إنه متحيز وحاصل في الحيز وهؤلاء هم المجسمة .
ثم القائلون بأنه جسم اختلفوا في أشياء فالأول : أنهم في الصورة على قولين ، منهم من قال إنه على صورة الإنسان ومنهم من لا يقول به .
أما الأول فالمنقول عن مشبهة المسلمين أنه تعالى على صورة إنسان شاب . والمنقول عن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ . وأما الذين يقولون إنه ليس على صورة الإنسان فهم يقولون : إنه على صورة نور عظيم .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 226 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على عبادة الأوثان أن الناس في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المجسمة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم وأن الملائكة أنوار إلا أنهم أصغر جثة من النور الأول ، ولما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثناً وهو أكبر الأوثان على صورة الإله ، وأوثاناً أخرى أصغر من ذلك الوثن على صور مختلفة وهي صور الملائكة، واشتغلوا بعبادتها على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة ، فثبت أن دين عبدة الأصنام كالفرع على قول المشبهة .
والموضع الثاني : من مواضع الإختلافات أن المجسمة اختلفوا في أنه هل يصح عليه الذهاب والمجيء والحركة والسكون ، فأباه بعض الكرامية وأثبته قوم منهم ، وجمهور الحنابلة يثبتونه .
والموضع الثالث : القائلون بأنه نور ينكرون الأعضاء والجوارح مثل الرأس واليد والرجل . وأكثر الحنابلة يثبتون هذه الأعضاء والجوارح .
الموضع الرابع : اتفق القائلون بالجسمية والحيز على أنه في جهة فوق ، ثم إن هذا المذهب يحتمل وجوهاً ثلاثة ( لأنه تعالى ) إما أن يكون ملاقياً للعرش أو مبايناً للعرش ببعد متناه أو مبايناً عنه ببعد غير متناه ، وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام ذاهب .
الموضع الخامس : أن القائلين بالجسمية والحيز اتفقوا على أنه متناه من جهة التحت فأما في سائر الجهات الخمس فقد اختلفوا ، فمنهم من قال إنه متناه من كل الجهات، ومنهم من قال إنه متناه من جهة التحت وغيرمتناه من سائر الجهات ، ومنهم من قال أنه ( غير ) متناه من جهة الفوق ( وغير ) متناه من سائر الجهات .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 227 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الموضع السادس : أنه تعالى حاصل في ذلك الحيز المعين لذاته أو لأجل معنى قائم به يقتضي حصوله في الجهة المعينة ، وهو مثل اختلافهم في أنه تعالى عالم لذاته أو عالم بالعلم ، وهذا هو التنبيه على مواضع الخلاف والوفاق .
الموضع السابع : أن العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام حالة في جميع أجزاء ذلك الجسم بالسوية ، أو يكون لكل واحد من هذه الصفات جزء معين من ذلك الجسم يكون ذلك الحيز محلاًّ لتلك الصفة بعينها ، ذهب إلى كل واحد من هذين القولين ذاهب . والذي يدل على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحجمية وجوه :
الحجة الأولى : لا شئ من واجب الوجود لذاته بممكن الوجود لذاته ، وكل متحيز فإنه ممكن الوجود لذاته ، ينتج فلا شئ من واجب الوجود لذاته بمتحيز ( أما الصغرى فبديهية ، وأما الكبرى فلأن كل متحيز مركب وكل مركب ممكن لذاته ، ينتج أن كل متحيز ممكن لذاته ) .
وإنما قلنا إن كل متحيز مركب لوجوه الأول : أن كل متحيز فإن يمينه مغاير ليساره ، وكل ما كان كذلك فهو مركب ، ينتج أن كل متحيز مركب . وتمام القول فيه مقرر بالدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد .
والثاني : قالت الفلاسفة : كل جسم فهو مركب من الهيولى والصورة .
الثالث : ( كل متحيز ) فإنه يشارك سائر المتحيزات في كونه متحيزاً ويخالفها بتعينه ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فوجب أن يكون كل فرد من أفراد المتحيزات مركباً من عموم التحيز الذي به المشاركة ومن ذلك التعين الذي به المخالفة ، فيثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن كل متحيز مركب . أما بيان أن كل مركب فهو ممكن ، فلأن كل
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 228 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مركب فإنه مفتقر إلى حيزه وحيزه غيره ، فكل مركب فإنه مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، ينتج أن كل مركب ممكن لذاته . . .
الحجة الثانية : لو كان متحيزاً لكان مثلاً لسائر المتحيزات (في تمام الماهية ) وهذا محال فذاك محال . بيان الأول : أنه لو كان متحيزاً لكان مساوياً لسائر المتحيزات في كونه متحيزاً ، ثم بعد هذا لا يخلو أما أن يقال إنه يخالف سائر الأجسام في شئ من مقومات ماهيته ، وإما أن لا يكون كذلك ، والأول باطل فيبقى الثاني . وإنما قلنا إن الأول باطل لأنه إذا كان مساوياً لسائر المتحيزات في كونه متحيزاً ومخالفاً لها في شئ من مقومات تلك الماهية ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة فكان عموم كونه متحيزاً مغايراً لتلك الخصوصية التي وقعت بها المخالفة .
إذا ثبت هذا فنقول : هذان الأمران إما أن يكون كل واحد منهما صفة للآخر ، وإما أن لا يكون كل واحد منهما صفة للآخر ، وإما أن يكون ما به المخالفة موصوفاً وما به المشاركة يكون صفة ، والأقسام الثلاثة الأولى باطلة ، فبقي الرابع . وذلك يفيد القول بأن الأجسام متماثلة في تمام الماهية .
وإنما قلنا إن القسم الأول باطل ، لأن ذلك يقتضي أن يكون كل واحد منهما ذاتاً مستقلة بنفسها ، ومع ذلك فيكون صفة مفتقرة إلى غيرها وذلك باطل .
وإنما قلنا إن القسم الثاني باطل ، لأنه على هذا التقدير يكون كل واحد منهما ذاتاً مستقلة بنفسها ولا يكون ( لواحد منها ) تعلق بالآخر . وكلامنا ليس في الذات الواحدة .
وإنما قلنا إن القسم الثالث باطل ، لأنا إذا فرضنا أن ما به المخالفة هو الذات وما به المشاركة وهو التحيز هو الصفة ، فنقول : إن الذي به المخالفة إما أن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 229 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يكون مختصاً بالحيز والجهة وإما أن لا يكون ، فإن كان الأول فهو جسم متحيز فيلزم أن يكون جزء ماهية الجسم جسماً وهو محال . وإن كان الثاني امتنع حصول المتحيز فيه ، لأن ذلك الشيء لا حصول له في شئ من الأحياز ، والمتحيز واجب الحصول في الحيز ، وحصول ما يكون واجب الحصول في الحيز ، في شئ يكون ممتنع الحصول في الحيز ، ذلك من محالات العقول ، فيثبت بما ذكرنا فساد الأقسام الثلاثة ، فلم يبق إلا الرابع وهو أن يكون ما به المشاركة وهو المتحيز ذاتاً وما به المخالفة صفة ، فإذا كان المفهوم من المتحيز مفهوماً واحداً فحينئذ تكون المتحيزات متماثلة في تمام الماهية والذات ، فيثبت بما ذكرنا أنه لو كان متحيزاً لكان مثلاً لسائر المتحيزات في تمام الماهية والذات . وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه : الأول : أن المتماثلات في تمام الماهية يجب استواؤها في اللوازم والتوابع ، فإما أن تكون جميع الأجسام غنية عن الفاعل ، وإما أن تكون جميعها محتاجة إلى الفاعل
(والأول باطل لأنا دللنا على أن العالم محدث محتاج إلى الفاعل) فيتعين الثاني .
فيثبت أن كل متحيز فهو محتاج إلى الفاعل ، فخالق الكل يمتنع أن يكون متحيزاً .
الثاني : أن اختصاص ذلك الجسم بالعلم والقدرة والإلهية إما أن يكون من الواجبات أو من الجائزات ، والأول باطل وإلا لزم أن تكون كل الأجسام موصوفة بتلك الصفات على سبيل الوجوب لما أنه ثبت أن الأفراد الداخلة تحت النوع يجب كونها متساوية في جميع اللوازم ، والثاني باطل ، وإلا لزم أن لا يحصل في ذلك الجسم المعين هذه الصفات إلا بجعل جاعل وتخصيص
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 230 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مخصص ، فإن كان ذلك الجاعل جسماً عاد الكلام فيه ، ولزم إما التسلسل وإما الدور . وإن لم يكن جسماً فهو المطلوب .
والثالث : ( أن الأجسام ) لما كانت متماثلة فلو فرضنا بعضها قديماً وبعضها محدثاً لزم المحال ، ذلك لأن كل ما صح على الشيء صح على مثله ، فيلزم جواز أن ينقلب القديم محدثاً وأن ينقلب المحدث قديماً ، وذلك محال معلوم الإمتناع بالبديهة .
والرابع : أنه كما صح التفرق والتمزق على سائر الأجسام وجب أن يصحا على ذلك الجسم ، وكما صحت الزيادة والنقصان والعفونة والفساد على سائر الأجسام وجب أن يصح كل ذلك عليه . ومعلوم أن ذلك باطل محال .
الخامس : أن الأجزاء المفترضة في ذلك المجموع تكون متساوية في تمام الماهية ، ولا شك أن بعض تلك الأجزاء وقع في العمق وبعضها في السطح ، وكل ما صح على الشئ صح على مثله ، فالذي وقع في العمق يمكن أن يقع في السطح وبالعكس .
وإن كان الأمر كذلك كان وقوع كل جزء على الوجه الذي وقع عليه لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وبجعل جاعل . وذلك على إله العالم محال . واعلم : أن هذه الحجة قوية . إلا أنها توجب صحة الخرق والإلتئام على الفلك ، والفلاسفة لا يقولون به .
الحجة الثالثة : لو كان متحيزاً لكان متناهياً وكل متناه ممكن وواجب الوجود ليس بممكن ، فالمتحيز لا يكون واجب الوجود لذاته .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 231 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما بيان أن كل متحيز فهو متناه فللدلائل الدالة على تناهي الأبعاد ، وأما أن كل متناه ممكن فلأن كل مقدار فإنه يمكن فرض كونه أزيد منه قدراً وأنقص منه قدراً .
والعلم بثبوت هذا الإمكان ضروري ، فيثبت أن كل متحيز ممكن ، ويثبت أن واجب الوجود ليس بممكن، ينتج فلا شئ من المتحيزات بواجب الوجود ، وينعكس فلا شئ من واجب الوجود بمتحيز .
الحجة الرابعة : لو كان متحيزاً لكان مساوياً لسائر المتحيزات في كونه متحيزاً . وإما أن يخالفها بعد ذلك في شئ من المقومات وأما ألا يكون كذلك، وعلى التقدير الأول يكون المتحيز جنساً تحته أنواع ، وعلى التقدير الثاني يكون نوعاً تحته أشخاص .
ونقول : الأول باطل وإلا لكان واجب الوجود مركباً من الجنس وهو المتحيز ومن الفصل وهو المقوم الذي به يمتاز عن غيره ، وكل مركب ممكن ، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته . هذا خلف . والثاني أيضاً باطل ، وهو أن يكون المتحيز نوعاً تحته أشخاص ، وذلك لأن المفهوم من المتحيز قدر مشترك بين كل الأشخاص وتعين كل واحد منها غير مشترك بينه وبين الأشخاص ، فتعين كل واحد منها زائد على طبيعته النوعية ، والمقتضي لذلك التعين المعين إن كان هو تلك الماهية أو شئ من لوازمها وجب أن يكون ذلك النوع مخصوصاً بذلك الشخص ، لكنا فرضناه مشتركاً فيه بين الأشخاص . هذا خلف .
وإن كان أمراً منفصلاً فكل شخص من أشخاص الجسم المتحيز إنما يتعين بسبب منفصل فلا يكون واجب الوجود لذاته . فثبت : أن كل جسم فهو ممكن لذاته ، وما لا يكون ممكن الوجود لذاته امتنع أن يكون جسماً .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 232 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الحجة الخامسة : لو كان جسماً لجاز عليه التفرق والتمزق وهذا محال فذاك محال . بيان الملازمة : أنه إذا كان مركباً من الأجزاء وجب انتهاء تحليل تلك الأجزاء إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه بسيطاً مبرأ عن التركيب والتأليف ، وإذا كان ( كذلك كان ) طبع يمينه مساوياً لطبع يساره وإلا لصار مركباً .
وإذا ثبت مساواة الجانبين في الطبيعة والماهية فكل ما كان ممسوساً بجانب يمينه وجب أن يصح كونه ممسوساً بجانب يساره ضرورة أن كل ما صح على شئ فإنه يصح أيضاً على مثله ، وإذا كان كذلك فكما صح على ذلك الجزء أن يماس الجزء الثاني بأحد وجهيه وجب أن يصح عليه أن يماسه بالوجه الثاني، وإذا ثبت جواز ذلك ثبت جواز صحة التفرق والتمزق عليه .
وإنما قلنا : إن ذلك محال لأنه لما صح الإجتماع والإفتراق على تلك الأجزاء لم يترجح الإجتماع على الإفتراق إلا بسبب منفصل ، فيلزم افتقاره في وجوده إلى السبب المنفصل. وواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون كذلك ، فيثبت أن واجب الوجود لذاته ليس جسماً .
الحجة السادسة : لو كان متحيزاً لكان جسماً لأنه لم يقل أحد من العقلاء بأنه في حجم الجوهر الفرد ، وإذا كان جسماً كان مركباً من الأجزاء فإما أن يكون الموصوف بالعلم والقدرة والصفات المعتبرة في الإلهية جزء واحدا من تلك الأجزاء وإما أن يكون الموصوف بتلك الصفات مجموع تلك الأجزاء . فإن كان الأول كان الإله هو ذلك الجزء الواحد منفرداً فيعود الأمر إلى ما ذكرناه من أن الإله يكون في حجم الجوهر الفرد .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 233 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وإن كان الثاني فنقول : إما أن تقوم الصفة الواحدة بجميع تلك الأجزاء ، وإما أن تتوزع أجزاء تلك الصفة على تلك الأجزاء ، وإما أن يقوم بكل واحد من تلك الأجزاء علم على حدة وقدرة على حدة ، والأول باطل لأن قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة غير معقول ، والثاني محال لأن كون العلم قابلاً للقسمة محال ، على ما بيناه في مسألة إثبات النفس ، والثالث أيضاً محال لأنه يلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء موصوفاً بجملة الصفات المعتبرة في الإلهية ، وذلك يوجب تعدد الآلهة ، وذلك محال .
فإن قيل : ما ذكرتموه من الدليل قائم في الإنسان فإن مجموع بدنه لا شك أنه مركب من الأجزاء الكثيرة فيلزم أن يقوم بكل واحد من تلك الأجزاء علم على حدة وقدرة على حدة ، فيلزم أن يكون الإنسان الواحد علماء قادرين كثيرين ، وذلك باطل .
قلنا : أما الفلاسفة فقد طردوا قولهم في الكل وزعموا أن الموصوف بالعلم والقدرة هو النفس لا الجسم وإلا لزم هذا المحال . وأما الأشعري فإنه التزم كون كل واحد من أجزاء الإنسان عالماً قادراً حياً وذلك في غاية البعد ، إلا أن التزامه وإن كان بعيدا لكن لا يلزم منه محال ، أما التزام ذلك في حق الله تعالى فهو محال ، لأنه يوجب القول بتعدد الآلهة ، وهو محال .
الحجة السابعة : لو كان جسماً لكان إما أن تكون الحركة جائزة عليه وإما أن لا تكون ، والقسمان باطلان فالقول بكونه متحيزاً باطل .
بيان أن الحركة ممتنعة عليه : أنه لو جاز في الجسم الذي تصح الحركة عليه أن يكون إلهاً فلم لا يجوز أن يكون إله العالم هو الشمس والقمر لأن الأفلاك والكواكب ليس فيها عيب يمنع من كونها آلهة إلا أموراً ثلاثة : وهي كونها
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 234 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مركبة من الأجزاء ، وكونها محدودة متناهية، وكونها قابلة للحركة والسكون. وإذا لم تكن هذه الأشياء مانعة من الإلهية فكيف يمكن الطعن في إلهية الشمس والقمر ! بل في إلهية العرش والكرسي . وذلك عين الكفر والإلحاد وإنكار الصانع .
وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إن إله العالم جسم ، ولكن الإنتقال والحركة عليه محال ، فنقول هذا باطل من وجوه ، الأول : أن هذا يكون كالزمن المقعد الذي لا يقدر على الحركة وذلك نقص وهو على الله محال . والثاني : أنه تعالى لما كان جسماً كان مثلا لسائر الأجسام فكانت الحركة جائزة عليه . والثالث : أن القائلين بكونه جسماً مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض لا يمتنعون من تجويز الحركة عليه ، فإنهم يصفونه تعالى بالذهاب والمجيء ، فتارة يقولون أنه جالس على العرش وقدماه على الكرسي وهذا هو السكون ، وتارة يقولون إنه ينزل إلى السماء وهذا هو الحركة .
فهذا جملة الدلائل الدالة على أنه تعالى ليس بجسم . والله أعلم ) .
بحث للجرجاني في نفي الجهة
* قال في شرح المواقف : 8/19 :
( المقصد الأول : أنه تعالى ليس في جهة من الجهات ولا في مكان من الأمكنة . وخالف فيه المشبهة وخصصوه بجهة الفوق اتفاقاً ، ثم اختلفوا فيما بينهم ، فذهب أبو عبد الله محمد بن كرام إلى أن كونه في الجهة ككون الأجسام فيها وهو أن يكون بحيث يشار إليه أنه ها هنا أو هناك ، قال : وهو مماس للصفحة العليا من العرش، ويجوز عليه الحركة والإنتقال وتبدل الجهات ، وعليه اليهود حتى قالوا العرش يئط من تحته أطيط الرحل الجديد تحت الراكب
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 235 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الثقيل ، وقالوا إنه يفضل على العرش من كل جهة أربعة أصابع ، وزاد بعض المشبهة كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي أن المخلصين من المؤمنين يعانقونه في الدنيا والآخرة !
ومنهم من قال هو محاذ للعرش غير مماس له، فقيل بعده عنه بمسافة متناهية، وقيل بمسافة غير متناهية . ومنهم من قال ليس كونه في الجهة ككون الأجسام في الجهة ، والمنازعة مع هذا القائل راجعة إلى اللفظ دون المعنى ، والإطلاق اللفظي متوقف على ورود الشرع به .
لنا في إثبات هذا المطلوب وجوه :
الأول : لو كان الرب تعالى في مكان أو جهة لزم قدم المكان أو الجهة ، وقد برهنا أن لا قديم سوى الله تعالى ، وعليه الاتفاق من المتخاصمين .
الثاني: المتمكن محتاج إلى مكانه بحيث يستحيل وجوده بدونه ، والمكان مستغن عن المتمكن لجواز الخلاء ، فيلزم إمكان الواجب ووجوب المكان ، وكلاهما باطل .
الثالث : لو كان في مكان ، فإما أن يكون في بعض الأحياز أو في جميعها وكلاهما باطل . أما الأول فلتساوي الأحياز في أنفسها ، لأن المكان عند المتكلمين هو الخلاء المتشابه ، وتتساوى نسبته أي نسبة ذات الواجب إليها ، وحينئذ فيكون اختصاصه ببعضها دون بعض آخر منها ترجيحاً بلا مرجح ، إن لم يكن هناك مخصص من خارج . أو يلزم الإحتياج أي احتياج الواجب في تحيزه الذي لا تنفك ذاته عنه إلى الغير إن كان هناك مخصص خارجي .
وأما الثاني وهو أن يكون في جميع الأحياز فلأنه يلزم تداخل المتحيزين، لأن بعض الأحياز مشغول بالأجسام وأنه أي تداخل المتحيزين مطلقاً محال بالضرورة .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 236 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأيضاً فيلزم على التقدير الثاني مخالطته لقاذورات العالم ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً .
الرابع : لو كان متحيزاً لكان جوهراً لاستحالة كون الواجب تعالى عرضاً، وإذا كان جوهراً فإما أن لا ينقسم أصلاً أو ينقسم ، وكلاهما باطل . أما الأول فلأنه يكون جزء لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء ، تعالى الله عن ذلك . وأما الثاني فلأنه يكون جسماً وكل جسم مركب ، وقد مر أنه أي التركيب الخارجي ينافي الوجوب الذاتي . وأيضاً فقد بينا أن كل جسم محدث فيلزم حدوث الواجب . وربما يقال في إبطال الثاني : لو كان الواجب جسماً لقام بكل جزء منه علم وقدرة وحياة مغايرة لما قام بالجزء الآخر ، ضرورة امتناع قيام العرض الواحد بمحلين ، فيكون كل واحد من أجزائه مستقلاً بكل واحد من صفات الكمال ، فيلزم تعدد الآلهة .
وهذا المستدل يلتزم أن الإنسان الواحد علماء قادرون أحياء كيلا ينقض دليله بالإنسان الواحد لجريانه فيه ، وهذا الإستدلال ضعيف جداً لجواز قيام الصفة الواحدة بالمجموع من حيث هو مجموع فلا يلزم ماذكر من المحذور.
وربما يقال في نفي المكان عنه تعالى : لو كان متحيزاً لكان مساوياً لسائر المتحيزات في الماهية ، فيلزم حينئذ إما قدم الأجسام أو حدوثه، لأن المتماثلات تتوافق في الأحكام ، وهو أي هذا الإستدلال بناء على تماثل الأجسام بل على تماثل المتحيزات بالذات .
وربما يقال : لو كان متحيزاً لساوى الأجسام في التحيز ولا بد من أن يخالفها بغيره فيلزم التركيب في ذاته ، وقد علمت في صدر الكتاب ما فيه ، وهو أن الإشتراك والتساوي في العوارض لا يستلزم التركيب . . .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 237 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المقصد الثاني : في أنه تعالى ليس بجسم وهو مذهب أهل الحق . وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم ثم اختلفوا ، فالكرامية أي بعضهم قالوا هو جسم أي موجود ، وقوم آخرون منهم قالوا هو جسم أي قائم بنفسه ، فلا نزاع معهم على التفسيرين إلا في التسمية أي إطلاق لفظ الجسم عليه ، ومأخذها التوقيف ولا توقيف ها هنا . والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة فقيل مركب من لحم ودم كمقاتل بن سليمان وغيره . وقيل هو نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء ، وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه . ومنهم أي من المجسمة من يبالغ ويقول إنه على صورة إنسان ، فقيل شاب أمرد جعد قطط أي شديد الجعودة ، وقيل هو شيخ أشمط الرأس واللحية ، تعالى الله عن قول المبطلين .
والمعتمد في بطلانه أنه لو كان جسماً لكان متحيزاً واللازم قد أبطلناه في المقصد الأول . وأيضاً يلزم تركبه وحدوثه ، لأن كل جسم كذلك . وأيضاً فإن كان جسماً لاتصف بصفات الأجسام ، أما كلها فيجتمع الضدان ، أو بعضها فيلزم الترجيح بلا مرجح إذا لم يكن هنالك مرجح من خارج ، وذلك الإستواء نسبة ذاته تعالى إلى تلك الصفات كلها . أو الاحتياج أي احتياج ذاته في الاتصاف بذلك البعض إلى غيره .
وأيضاً فيكون متناهياً على تقدير كونه جسماً فيتخصص لا محالة بمقدار معين وشكل مخصوص ، واختصاصه بهما دون سائر الأجسام يكون بمخصص خارج عن ذاته ، لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح . ويلزم حينئذ الحاجة إلى الغير في الإتصاف بذلك الشكل والمقدار . . . إلخ . ) .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 238 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 239 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل التاسع : المجسمون مبرؤون و الشيعة متهمون
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 240 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 241 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المجسمون مبرؤون و الشيعة متهمون
لو أن موجات الإضطهاد التي صُبَّتْ على الشيعة بعد النبي صلى الله عليه وآله إلى يومنا . . . صبت على أمة أو طائفة ، لكانت كافية لإبادتها وإنهائها من الوجود ! ولو أن سيول التهم والحملات الإعلامية التي وجهت ضد الشيعة . . وجهت إلى غيرهم ، لكانت كافية لانزوائهم وتلاشيهم !
ولكن الشيعة ما زالوا بخير ، يعيشون كأحسن ما يعيش الناس ، ويشكلون نحو ربع الأمة الإسلامية ، وعددهم يزداد ولا ينقص !
والسبب في ذلك أنهم تأقلموا مع الإضطهاد حتى صار جزء من حياتهم . . وتكيفوا مع التهم حتى صارت جزء من مسموعاتهم !
فمن أراد أن يتعلم كيف يواجه سيل التهم والشتائم الظالمة بأعصاب هادئة مرتاحة ، فليتعلم ذلك من الشيعة ! وأول ما يقولونه له : نحن معارضة ، ولا ننتظر من تاريخنا الإسلامي أن يتحملنا . . تاريخنا الذي لم يتحمل كلمة معارضة من بنت النبي صلى الله عليه وآله فجاءت الدولة وكومت الحطب حول دارها وأحرقت بابه وهددت بإحراق كل البيت بمن فيه ، وفيه علي وفاطمة والحسن والحسين ، عترة النبي الذي مات قبل ساعات وما زالت جنازته لم تدفن !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 242 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
هذا التاريخ من أين يأتي بسعة صدر يتحمل بها المعارضة وينصفها ؟ !
إنا لا ننتظر من دول اضطهدتنا وطاردتنا وشردتنا وقتلتنا ، أن تمدحنا وتمدح عقائدنا ، بل نتوقع منها أن ترمينا بكل تهمة وسبة ، وأن تبتكر من التهم والشتائم ما لا يخطر على بال المتخصصين في هذه المهنة !
لكن يحق لنا أن ننتظر من علماء إخواننا المنصفين بعد قرون وقرون ، أن لا يرثوا ظلم أهل بيت نبيهم وشيعتهم، وأن يقرأواعقائدهم وفقههم وفكرهم من مصادر مذهبهم، لامن مصادر الذين اضطهدوهم أو أبغضوهم، ولامن مصادر الذين سمعوا ناساً يسبون الشيعة فقالوا نحن مع الناس ، وأخذوا يسبونهم !
كتب الفرق والملل تفتري على الشيعة و تتستر على المجسمة
إذا أردت أن تصف كتب الملل والنحل المعروفة مثل كتاب مقالات الإسلاميين للأشعري ، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ، وكتاب الفصل في الملل لابن حزم ، والفرق بين الفرق للنوبختي . . وصفاً علمياً حديثاً فيمكنك أن تقول : إنها تقارير صحفية مسيسة وغير موثقة ، تشبه تقرير صحفي غربي عن مجموعة الفئات والجمعيات والإتجاهات الموجودة في بلد عربي ، يكتبه من مسموعاته وبعض مشاهداته ، والكثير من خلفياته وأهدافه !
ولا يتسع موضوعنا لأكثر من عرض نماذج من هذه الكتب ، لعل ذلك يفتح باب الدراسة النقدية الجادة لها .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 243 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ومن أول الأمور التي تحتاج إلى دراسة نسبة هذه الكتب إلى أصحابها ، فقد وجدت أن عدداً من القرائن مثلاً توجب الشك في نسبة كتاب ( مقالات الإسلاميين ) إلى أبي الحسن الأشعري . . إلخ .
من أمثلة تستر كتب الملل على المجسمة
* مقالات الإسلاميين للأشعري : 1/211 :
( وقالت المعتزلة إن الله استوى على العرش بمعنى استولى ، وقال بعض الناس : الإستواء القعود والتمكن . ) . انتهى .
فتراه يعني ببعض الناس : أكثر الأشعرية والحنابلة ، ولكن لماذا لم يصرح بهم ؟ !
* مقالات الإسلاميين للأشعري : 1/213 :
( واختلفوا في رؤية الباري بالأبصار . . . فقال قائلون : يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا، ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات ... ) . انتهى . وهو يعنى بقوله : فقال قائلون : المجسمة من الأشعرية والحنابلة والحشوية ! ! ولكن لماذا لم يصرح بهم ؟ !
* مقالات الإسلاميين للأشعري :1/211 :
( واختلف الناس في حملة العرش ما الذي تحمل ؟ فقال قائلون : الحملة تحمل الباري ، وإنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف . . . وقال بعضهم: الحملة ثمانية أملاك ، وقال بعضهم : ثمانية أصناف . ) انتهى .
فقد أخفى الأشعري هوية القائلين بهذه المقولات ، لأنهم هو وجماعته من
( أهل السنة والجماعة ) الذين يصححون حديث الأوعال وأمثاله . وهذا دأبه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 244 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عندما لا يستطيع أن ينسب المقولات المستهجنة إلى الشيعة أو المعتزلة ، فهو يتستر على قائليها ، ستر الله عليه !
هذا ، وللحنابلة والأشعرية أقوال سقيمة في حملة العرش تجدها في تفسير قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى ، وقد وصلوا فيها إلى تقليد اليهود والوثنيين فقالوا إن حملة العرش حيوانات . . أهلية ، وبرية ! ورووها بروايات موثقة بزعمهم ! وقد قدمنا طرفاً منها في فصل معبود الوهابيين .
* وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين :1/214 :
( وأجاز عليه ( تعالى ) بعضهم الحلول في الأجسام ، وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه . . . وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم ، وقالوا : إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك . . وامتنع كثير من القول إنه يرى في الدنيا . . وقالوا إنه يرى في الآخرة . ) . انتهى .
وأصحاب الحلول والذين ادعوا إمكان معانقة الله تعالى هم : الحشوية وبعض الحنابلة وبعض الأشعرية . والممتنعون هم بعض الأشاعرة وقليل من الحنابلة . والمخالفون لذلك هم بقية المسلمين . . فلماذا لم يسمهم ؟ ! !
* وقال الشهرستاني في الملل والنحل بهامش الفصل مجلد 1 جزء 1 ص 141 :
( وروى المشبهة عن النبي ( ص ) أنه قال : لقيني ربي فصافحني . . . ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ) . انتهى . وهو يقصد الحديث الموجود في مصادر إخواننا السنيين الذي صحح روايته مجسمة الحنابلة وابن تيمية
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 245 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وغيرهم من المشبهة ! وقد استنكر هذا الحديث الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم .
* وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين : 1/210 : ( باب اختلافهم في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان . . وقال هشام بن الحكم إن ربه في مكان دون مكان ، وإن مكانه هو العرش وإنه مماس للعرش وإن العرش قد حواه وحده . . . وقال بعض من ينتحل الحديث إن العرش لم يمتلئ به وإنه يقعد نبيه ( ع ) معه على العرش . . . ) . انتهى .
وحديث أطيط العرش وأزيزه وصريره ، والأربع أصابع الإضافية من العرش أو من الله تعالى ، قد صحت روايته عندهم عن الخليفة عمر وابنه عبد الله ، وغيرهما . وما نسبه الأشعري إلى هشام الشيعي هو مذهب المجسمة المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ، وهو في عصرنا مذهب الحشوية ، والوهابيين ، ومن انضم إليهم من متطرفي الأشاعرة ، والامعات الرياليين .
* وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين :1/211 :
( وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء ، وإنه على العرش استوى بلا كيف وإنه نور .. وإن له وجهاً... وإن له يدين . . . وإنه يجئ يوم القيامة . وإنه ينزل إلى السماء الدنيا . ) . انتهى .
هنا ذكر الأشعري أهل السنة وسماهم باسمهم لأنه نسب إليهم التنزيه ونفى عنهم التشبيه . أما عندما يذكر تشبيههم وتجسيمهم فيذكرهم باسم : قائلون، أو : بعضهم . ولكن مجسمة الحنابلة لا يقبلون نفي الجسم عن الله تعالى ، كما تقدم في كلام ابن باز ، ولا نفي الشبيه كما تقدم من ابن تيمية ! ويدعون أنهم هم أهل السنة ، وأن كل السلف على رأيهم !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 246 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
من أمثلة تخليط كتب الملل و نسبها الكاذبة
* وقال في الملل والنحل بهامش الفصل مجلد 1 جزء 2 ص 23 : ( وافق محمد بن النعمان هشام بن الحكم في أن الله تعالى لا يعلم شيئاً حتى يكون ، والتقدير عنده الإرادة والإرادة فعله تعالى . وقال إن الله تعالى نور على صورة إنسان ويأبى أن يكون جسماً لكنه قال : قد ورد في الخبر أن الله خلق آدم على صورته وعلى صورة الرحمن ، فلا بد من تصديق الخبر . . . ويحكى عن مقاتل بن سليمان مثل مقالته في الصورة ، ويحكى عن داود الجواربي ونعيم بن حماد المصري وغيرهما من أصحاب الحديث أنه تعالى ذو صورة وأعضاء ...).
* وفي الملل والنحل بهامش الفصل مجلد 1 جزء 1 ص 139 :
( إن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل الهشاميين من الشيعة ومثل كهمس وأحمد الهجيمي وغيرهم من أهل الشيعة قالوا : معبودهم صورة ذات أعضاء وأبعاض إما روحانية أو جسمانية ، يجوز عليه الإنتقال والنزول ) . انتهى . ومقاتل بن سليمان ناصبي مجسم توفي حدود سنة 150 . قال ابن حبان في المجروحين : 3/14 : ( مقاتل بن سليمان الخراساني ، مولى الأزد أصله من بلخ . . . كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم وكان شبهياً يشبه الرب بالمخلوقين وكان يكذب مع ذلك في الحديث ) . انتهى .
ومع أن القول بالتجسيم معروف مشهور عن مقاتل ، فقد نسبه صاحب الملل إليه بلفظ ( ويحكى ) بينما نسبه إلى جماعة من الشيعة على نحو الجزم ! ومحمد بن النعمان الذي نسب إليه القول بالتجسيم هو عالم الشيعة ومرجعهم في زمانه ، المعروف بالشيخ المفيد ، من أولاد سعيد بن جبير ، وأستاذ الشريفين الرضي
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 247 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والمرتضى ، توفي سنة 413 هجرية ، ومؤلفاته في العقائد والفقه والسيرة كثيرة ومشهورة من عصر صاحب الملل، ولكنه لم ينقل التهمة منها ! لأنه لا يوجد فيها ما افتراه على المفيد !
وهشام بن الحكم من تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام ، متكلم قدير مناظر عن التوحيد والنبوة ومذهب التشيع ، ورواياته ومناظراته مدونة في مصادر الشيعة وغيرهم ، توفي حدود سنة 200 هجرية ، ومخالفته للمشبهين والمجسمين أمر بديهي في مذهبه، وقيل إن أول من افترى عليه القول بالتجسيم هو الجاحظ ، كما سيأتي .
فانظر إلى تقرير صاحب الملل والنحل كيف لم يسند ادعاءاته ، وكيف خلط عباساً بدباس ، وجعل كهمس والجهيمي من أهل الشيعة ، وجعل الشيعي يأخذ عقائده من الناصبي ! وجعل حديث ( على صورته ) أي على صورة الله تعالى حديثاً مقبولاً عند الشيعة ، وزعم أنهم يقولون بالتجسيم بسبب صحة هذا الحديث عندهم ، مع أن أئمة الشيعة عليهم السلام حذروا من أمثال هذا الحديث وبينوا أنه محرف !
تقسيمهم الشيعة إلى فرق لا وجود لها
* مقالات الإسلاميين للأشعري :1/31 : ( واختلفت الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق : الفرقة الأولى الهشامية . . يزعمون أن معبودهم جسم . . وزعموا أنه نور ساطع . . . وأنه قد كان لا في مكان ، ثم حدث المكان بأن تحرك الباري فحدث المكان بحركته ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 248 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أقول : لا وجود لمثل هؤلاء في عصرنا ، ولا سمعنا بهم في تاريخ الشيعة ، ولا وجدنا لهم ذكراً في مصدر موثوق . ولكن مؤلفي كتب الملل يرمون الشيعة بتهم عظيمة ولا يذكرون لها مستنداً .
ثم قال الأشعري : ( والفرقة الثانية من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ، ولا يثبتون الباري ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض . . ) . انتهى .
أقول : هذه هي عقيدة الشيعة الإمامية من عهد علي عليه السلام إلى عصرنا ، ولكنا لا نقول إنه تعالى جسم ، بل نقول شئ لا كالأشياء ، لنخرج بذلك عن الحدين : حد التعطيل وحد التشبيه ، فإذا عبر أحد من الشيعة بأن الله تعالى جسم لا كالأجسام ، فهو تعبير غلط ، وإذا كان مقصوده ما ذكرناه فمعناه صحيح .
ثم قال الأشعري : ( والفرقة الثالثة من الرافضة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان ويمنعون كونه جسماً . والفرقة الرابعة من الرافضة : الهشامية . . . يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً ودماً ويقولون إنه نور ساطع . . وإنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان. ) انتهى .
أقول : لا وجود لمثل هؤلاء في عصرنا ، ولا في مصدر تاريخي موثوق ، ولكنها تقارير مفتريات مؤلفي كتب الملل ، أو من ألف هذه الكتب من أتباع الدولة ونسبها إليهم . ثم قال الأشعري : ( والفرقة الخامسة من الرافضة : يزعمون أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت .. وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 249 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أقول : إن كان يقصد النور المادي فلا وجود لمثل هؤلاء في عصرنا ولم نره في مصدر تاريخي موثوق . وإن كان يقصد نور السماوات والأرض الذي ليس كمثله نور ، فهذا نص القرآن الكريم الذي يؤمن به كل المسلمين .
ثم قال : ( والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء . . وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج ) . انتهى . وقوله هذا تكرار لمقولة الفرقة الثانية حسب تقسيمه ، ولكن مؤلفي الملل كمراسلي الصحف يريدون تطويل تقاريرهم ، بزيادة فرق وجماعات لا وجود لها ، أو بتكرار كلامهم ! ثم إن الجميع يعرفون أن الشيعة قبل الخوارج والمعتزلة ، فكيف يقول المذهب المتقدم بقول المتأخر ؟ !
* مقالات الإسلاميين للأشعري : 1/35 : ( واختلف الرافضة في حملة العرش . . . وهم فرقتان فرقة يقال لهم اليونسية أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين ، يزعمون أن الحملة يحملون الباري . . . وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والباري يستحيل أن يكون محمولاً ) . انتهى .
ونرجو توجيه هذا السؤال إلى المفتي ابن باز الذي يقول بأن حملة العرش يحملون ذات الله تعالى ، فهل هو شيعي ونحن لا نعلم !
* مقالات الإسلاميين للأشعري : 1/59 :
( واختلفت الروافض في الجسم . . . وزعموا أن معنى الجسم الطويل العريض العميق أنه شئ موجود وأن الباري لما كان شيئاً موجوداً كان جسماً . . والفرقة الثانية منهم يزعمون أن حقيقة الجسم أنه مؤلف مركب مجتمع ، وأن الباري عز وجل لما لم يكن مؤتلفاً مجتمعاً لم يكن جسماً . . ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 250 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* المواعظ والاعتبار للمقريزي : 2/348 : ( والجولقية أتباع هشام بن سالم الجولقي ، وهو من الرافضة أيضاً ، ومن شنيع قوله إن الله تعالى على صورة الإنسان ، نصفه الأعلى مجوف ونصفه الأسفل مصمت ) . انتهى .
أقول : من الواضح لمن راجع مصادر الشيعة أنه لا وجود لهذه الفرق ولا هذه المقولات بل هي مقولات مخالفيهم ، وأن أهل البيت عليهم السلام وعلماء مذهبهم قادوا حملة ضد التجسيم والتشبيه ، وأن تهمة خصومهم لهم بذلك من باب المثل القائل : رمتني بدائها وانسلت ! فقد اشتهر التجسيم في النواصب الذين خالفوا أهل البيت عليهم السلام حتى أنه يمكن للباحث المتتبع أن يقول : إذا وجدت ناصبياً فهو مجسم إلا من شذ ، وإذا وجدت موالياً لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله فهو منزه إلا من شذ .
وخلاصة القول : أنه يوجد إشكالان كبيران لا جواب لهما عند مؤلفي كتب الملل والنحل . . الأول : أنهم لم يذكروا المصادر التي أخذوا منها العقائد والمقولات التي نسبوها إلى الفرق والمذاهب بأسمائهاوإلى الأشخاص بأسمائهم؟!
والثاني : أنهم استعملوا سياسة التشهير بخصوم الدولة فنسبوا العقائد المستغربة والمستهجنة إلى المعارضة ووزعوها عليهم بأسمائهم ، بينما أبهموا أسماء القائلين ولم يسموهم عندما يكونون من أتباع الدولة أو من علماء مذهبهم!
وكفى بذلك نقصاً علمياً يسقطها عن الإعتبار والإستدلال في البحث !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 251 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقلد الغربيون كتب الملل وقلد الدكاترة الغربيين
* تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم : 2/158 :
( الشيعة انقسمت حسب اعتقادها إلى ثلاثة أقسام: غالية ورافضة وزيدية، والشيعة الغالية هم الذين غلواً في علي وقالوا فيه قولاً عظيماً . . . والشيعة الرافضة هم الذين قالوا إن الله قد وصورة وإنه جسم ذو أعضاء ) .
* تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم : 1/424 :
( الرافضة قالوا إن الله له قد وصورة وإنه جسم ذو أعضاء . . . هشام بن الحكم وهشام بن سالم وشيطان الطاق من معتقدي الرافضة ) .
* تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم : 1/422 :
( استطاع فقهاء لشيعة وعلماء التوحيد منهم أن يستفيدوا من أفكار المعتزلة ويستخدمونها لدعم عقائدهم ومذاهبهم الخاصة ، وهذا يدل أن الشيعة آثروا أن يسموا أنفسهم أهل العدل وهو نفس التسمية التي تسمى بها المعتزلة). انتهى . وقد غفل هذا المؤرخ عن أن الشيعة أقدم من المعتزلة في الوجود بأكثر من قرن من الزمان ، وأقدم منهم في القول بتنزيه الله تعالى وحرية الإنسان ومسؤليته ودور العقل . . فيستحيل أن يأخذ الشيعة من أفكار المعتزلة . . بل العكس هو الصحيح!
الفخر الرازي يرد بعض ادعاءات كتب الملل
* قال في لمطالب العالية مجلد 1 جزء 1 ص 10 : ( الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة ولا حالة في المتحيز مثل العقول والنفوس والهيولي . . . إن جمعاً من أكابر المسلمين اختاروا هذا المذهب مثل معمر بن عباد من المعتزلة ومحمد بن النعمان من الرافضة ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 252 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أقول : فأين التشبيه والتجسيم الذي نسبه مؤلفو كتب الملل والغربيون والوهابيون إلى المفيد محمد بن النعمان ، الذي رفض التحيز الحسي لبعض المخلوقات ، فكيف يقبله للخالق تعالى .
والشيخ الغزالي حلل دوافعهم إلى الكذب
* قال في كتابه ( دفاع عن العقيدة والشريعة ) صفحة 253 :
( ومن هؤلاء الأفاكين من روج أن الشيعة أتباع علي وأن السنيين أتباع محمد ، وأن الشيعة يرون علياً أحق بالرسالة ، أو أنها أخطأته إلى غيره ، وهذا لغو قبيح وتزوير شائن . وأضاف : الواقع أن الذين يرغبون في تقسيم الأمة طوائف متعادية لما لم يجدوا لهذا التقسيم سبباً معقولاً لجؤوا إلى افتعال أسباب الفرقة ، فاتسع لهم ميدان الكذب حين ضاق أمامهم ميدان الصدق). انتهى .
وقد فكرت في هذه التهمة للشيعة التي نشرها خصومهم في كل البلاد الإسلامية ، فلم أجد لها سبباً إلا أنهم رأوا تكبير الشيعة بعد صلاتهم ففسروه على هواهم . . فالشيعة يعتقدون أن أفضل التعقيب والذكر بعد الصلاة أن يكبر المسلم ربه ثلاثاً ، ثم يسبح التسبيح الذي علمه النبي صلى الله عليه وآله لفاطمة الزهراء سلام الله عليها . والذي يحدث عادة أن الشيعي يكبر بعد صلاته ولا يرفع يديه جيداً ، فيظهر كأنه يضرب على ركبتيه ثلاثاً كالمتأسف على شئ ..
وهنا تأتي عبقرية خصوم الشيعة ( وتقواهم ) فيقولون إن الشيعة بعد صلاتهم يتأسفون لأن النبوة لم تعط لعلي ويقولون (خان الأمين) والعياذ بالله ! يقولون هذا البهتان ويصرون على إلصاقه بنا وهم يرون أن الشيعة أكثر الفرق الإسلامية تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وأن من عقائدنا أنه خاتم الأنبياء وأن جبرئيل عليه السلام معصوم ، ويرون إنا نروي في مصادرنا أن علياًّ عليه السلام قال لشخص غلا فيه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 253 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( ويحك إنما أنا عبد من عبيد محمد صلى الله عليه وآله ) وقال ( كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله صلى الله عليه وآله ) .
وكفانا شيخ الأزهر الرد عليهم
* فتوى صدرت بتاريخ 17 ربيع الأول سنة 1378 عن مكتب شيخ الجامع الأزهر :
( قيل لفضيلته : إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية ، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه ، فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية مثلاً ؟ فأجاب فضيلته :
1 - إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معين ، بل نقول إن لكل مسلم الحق أن يقلد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة ، ولمن قلد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره ، أي مذهب كان ، ولا حرج عليه في شئ من ذلك.
2 - إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة ، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك ، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة ، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب ، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى ، يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والإجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم ، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات . محمود شلتوت
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 254 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم أكد فتواه مفتي مصر
نص السؤال :
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الأستاذ الدكتور فريد واصل نصر مفتي الديار المصرية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نرجو من سماحتكم أن تعطونا رأيكم الشريف في اقتداء أصحاب المذاهب بمن يتقلد بمذهب أهل البيت عليهم السلام من الشيعة الإمامية الإثنا عشرية ، هل يصح ذلك أم لا ؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 255 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
16 شوال المكرم 1421هـ
نص الجواب :
بسـم الله الرحمن الرحيم
كل مسلم يؤمن بالله ، ويشهد ألاّ إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ولا ينكر معلوماً من الدين بالضرورة ، وهو عالم بأركان الإسلام ، والصلاة وشروطها ، وهي متوفرة فيه فتصح إمامته لغيره وإمامة غيره له ، إذا توفرت فيه تلك الشروط ولو اختلف مذهبهما الفقهي وشيعة أهل البيت من نحلهم . ونتشيّع معهم لله ، ولرسوله ، وأهل بيته ، وصحابته جميعاً . ولا خلاف بيننا وبينهم في أصول الشريعة الإسلامية ، ولا فيما هو معلوم بالضرورة ، وقد صلًّينا خلفهم وصلُّوا خلفنا في طهران وفي قم في الأيام التي شرفنا الله بهم في دولة إيران الإسلامية . وندعو الله أن يحقق وحدة الأمة الإسلامية ويرفع عنهم أيّ شقاق أو نزاع أو خلاف قد حلَّ بهم في بعض مسائل الفروع الفقهية المذهبية . والله المؤيد والهادي إلى سواء السبيل .
16 شوال 1421 هـ
دكتور فريد نصر واصل - مفتي الديار المصرية
1-12-2001 م
وكفانا السيوطي الرد على رواياتهم
* قال في الدر المنثور : 6/379 في تفسير قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية :
( وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل علي قالوا : جاء خير البرية .
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً : علي خير البرية .
وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال لما نزلت : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين .
وأخرج ابن مردويه عن علي قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تسمع قول الله إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، أنت وشيعتك . وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب ، تدعون غراًّ محجلين ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 256 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أقول : ولا مجال لبحث أسانيد هذه الأحاديث وأمثالها ، ونكتفي بالإشارة إلى أن علماء الحديث شهدوا أنه لم يصدر من النبي صلى الله عليه وآله من الحديث والمديح في حق أحد من الصحابة ما صدر في حق علي عليه السلام . وفي كتاب النسائي صاحب الصحيح (خصائص علي ابن أبي طالب) كفاية .
وإن من عجائب التاريخ أن أحداً من الصحابة لم يتعرض لحملات التعتيم على مكانته وفضائله عشر معشار ما تعرض له علي عليه السلام ، حتى أن دولة النواصب جعلت لعن علي عليه السلام وشتمه فرضاً واجباً في صلاة الجمعة في جميع بلاد المسلمين نحو سبعين سنة . . . ومع ذلك بقيت في مصادر إخواننا السنة أمثال هذه الأحاديث العظيمة في فضله وفضل شيعته !
لقد صدق من قال : ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً ، وأخفاها أولياؤه خوفاً ، وظهر بين ذين وذين ما ملأ الخافقين .
وصدق من قال: ماذا نصنع لعلي بن أبي طالب ! إن أحببناه خسرنا دنيانا، وإن أبغضناه خسرنا آخرتنا !
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 257 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل العاشر : نموذج من أكاديمية الوهابيين
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 258 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 259 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
نموذج من أكاديمية الوهابيين
من بين سيل الكتب الكثيرة التي ينشرها الوهابيون ضدنا ، لفت نظري كتاب في ثلاث مجلدات ، اسمه ( أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية عرض ونقد ) اسم مؤلفه الدكتور ناصر بن عبد الله القفاري ، الطبعة الثانية 1415 هـ - 1994 م . وقد كتبوا في أوله هذه العبارة : ( أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه من قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، وقد أجيزت هذه الرسالة بمرتبة الشرف الأولى ، مع التوصية بطبعها وتبادلها بين الجامعات ) . انتهى .
ويبدو أن هذه الرسالة كانت بحثاً صغيراً أعجب الدكاترة الوهابيين لقوته العلمية مثلاً ، فأمدوا مؤلفها بعدد من المعاونين ومئات المصادر الشيعية ، وبذلت هذه المجموعة جهودها حتى أكملت تأليف هذا الموسوعة (الموضوعية) عن عقائد الشيعة ومذهبهم .
وإنما حكمنا بأن الكتاب من تأليف مجموعة لأن قلمه متفاوت وفي بعض مقاطعه عجمة لا يمكن أن تكون من قلم سعودي قفاري .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 260 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
على أن علينا أن نتعامل بالظاهر ونأمل من الكتاب خيراً لوفرة مصادره الشيعية ، ولأن أصله كتب ونوقش من قبل دكاترة ، فلا بد أن يتناسب مستواه مع مستوى الشهادة الجامعية . ويزداد أملنا خيراً عندما نقرأ من المؤلف بشائره التي بشر القارئ بها في مقدمته .
* فقال في ج 1 ص 14 و 16 : ( وإذا كان لا بد من إشارات في هذا التقديم فأقول : قد عمدت في بداية رحلتي مع الشيعة وكتبها ألا أنظر في المصادر الناقلة عنهم ، وأن أتعامل مباشرة مع الكتاب الشيعي حتى لا يتوجه البحث وجهة أخرى . وحاولت جهد الطاقة أن أكون موضوعياً ضمن الإطار الذي يتطلبه موضوع له صلة وثيقة بالعقيدة كموضوعي هذا . . والموضوعية الصادقة أن تنقل من كتبهم بأمانة ، وأن تختار المصادر المعتمدة عندهم ، وأن تعدل في الحكم ، وأن تحرص على الروايات الموثقة عندهم أو المستفيضة في مصادرهم ما أمكن ) .
( ثم إنني في عرضي لعقائدهم ألتزم النقل من مصادرهم المعتمدة ، لكن لا أغفل في الغالب ما قالته المصادر الأخرى ، ووضع الأمرين أمام القارئ مفيد جداً للموازنة . . . اكتنفت دراستي عدة صعوبات : أولها أن كتب الرواية عند الشيعة لا تحظى بفهرسة ، وليس لها تنظيم معين ، كما هو الحال في كتب أهل السنة ، ولذلك فإن الأمر اقتضى مني قراءة طويلة لكتب حديثهم ، حتى تصفحت البحار بكامل مجلداته ، وأحياناً أقرأ الباب رواية رواية ، وقرأت أصول الكافي ، وتصفحت وسائل الشيعة ، وكانت الروايات التي أحتاج إليها تبلغ المئات في كل مسألة في الغالب ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 261 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
حسناً ، لقد وعدنا المؤلف أن ينقل آراء الشيعة من مصادرهم . . وقد قرأ كثيراً كثيراً منها . . فماذا قال في موضوعنا ( التجسيم ) ؟
* قال في ج 2 ص 527 :
( الفصل الثالث : عقيدتهم في أسماء الله وصفاته .
للشيعة في هذا الفصل أربع ضلالات :
الضلالة الأولى : ضلالة الغلو في الإثبات ، وما يسمى بالتجسيم .
الضلالة الثانية : تعطيلهم الحق جل شأنه من أسمائه وصفاته .
الضلالة الثالثة : وصف الأئمة بأسماء الله وصفاته .
الضلالة الرابعة : تحريف الآيات بدافع عقيدة التعطيل للأسماء والصفات .
وسأتوقف عند كل مسألة من هذه المسائل الأربع وأبين مذهب الشيعة فيها من خلال مصادرها إن شاء الله .
المبحث الأول : الغلو في الإثبات ( التجسيم ) :
اشتهرت ضلالة التجسيم بين اليهود ، ولكن أول من ابتدع ذلك بين المسلمين هم الروافض ، ولهذا قال الرازي ( ؟ ) : اليهود أكثرهم مشبهة ، وكان بدء ظهور التشبيه في الإسلام من الروافض مثل هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم الجواليقي ، ويونس بن عبد الرحمن القمي وأبي جعفر الأحول ( 1 ) .
وكل هؤلاء الرجال المذكورين هم ممن تعدهم الإثنا عشرية في الطليعة من شيوخها ، والثقات من نقلة مذهبها ( 2 ) . . .
وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية أول من تولى كبر هذه الفرية من هؤلاء فقال (وأول من عرف في الإسلام أنه قال إن الله جسم هو هشام بن الحكم )(3) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 262 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقبل ذلك يذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين أن أوائل الشيعة كانوا مجسمة ، ثم بين مذاهبهم في التجسيم ، ونقل بعض أقوالهم في ذلك ، إلا أنه يقول بأنه قد عدل عنه قوم من متأخريهم إلى التعطيل ( 4 ) .
وهذا يدل على أن اتجاه الإثني عشرية إلى التعطيل قد وقع في فترة مبكرة ، وسيأتي ما قيل في تحديد ذلك ( 5 ) .
وقد نقل أصحاب الفرق كلمات مغرقة في التشبيه والتجسيم منسوبة إلى هشام بن الحكم وأتباعه تقشعر من سماعها جلود المؤمنين . يقول عبد القاهر البغدادي : زعم هشام بن الحكم أن معبوده جسم ذو حد ونهاية وأنه طويل عريض عميق وأن طوله مثل عرضه . . . ( 6 ) .
ويقول : إن هشام بن سالم الجواليقي مفرط في التجسيم والتشبيه لأنه زعم أن معبوده على صورة الإنسان . . . وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان ( 7 ) .
وكذلك ذكر أن يونس بن عبدالرحمن القمي مفرط أيضا في باب التشبيه ، وساق بعض أقواله في ذلك ( 8 ) . وقال ابن حزم ( قال هشام إن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه ) ( 9 ) . انتهى .
وقال في هامشه : ( 1 ) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 97 . ( 2 ) أنظر محسن الأمين / أعيان الشيعة: 1/106 . ( 3 ) منهاج السنة : 1/20 . ( 4 ) أنظر : مقالات الإسلاميين : 1/106 – 109 . ( 5 ) في المبحث الثاني . ( 6 ) الفرق بين الفرق ص 65 . ( 7 ) المصدر السابق : ص 68 69 . ( 8 ) السابق ص 70 . ( 9 ) الفصل : 5/40 .
سبحان الله ، لقد وعد المؤلف أن ينقل آراء الشيعة من مصادرهم ، ولم يذكر في مصادره إلا أعيان الشيعة وقد رجعنا إلى المكان الذي ذكره فلم نجد فيه شاهداً على كلامه ! لقد صار معنى نقل آراء الشيعة من مصادرهم أن ينقلها من مصادر خصومهم المتحاملين عليهم ، فما حدا مما بدا . . ؟ !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 263 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أين مصادر الشيعة المعتمدة التي تنادي كلها بالتنزيه وتدين التشبيه ، ومنها المصادر التي بين يدي المؤلف ، وقد أدرج أسماءها في آخر كتابه . . وفيها على الأقل مئة باب ومسألة تنفي التشبيه والتجسيم بالآيات والأحاديث والبحوث الكلامية ؟ فهل صدف نظر الدكتور عنها جميعاً ؟ !
أين أصول الكافي التي قال إنه قرأه وهو مجلدان ، وفي المجلد الأول منهما كتاب التوحيد وأبوابه كما يلي :
كتاب التوحيد
باب حدوث العالم وإثبات المحدث
باب إطلاق القول بأنه شئ
باب أنه لا يعرف إلا به
باب أدنى المعرفة
باب المعبود
باب الكون والمكان
باب النسبة
باب النهي عن الكلام في الكيفية
باب في إبطال الرؤية
باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى
باب النهي عن الجسم والصورة
باب صفات الذات
باب آخر وهو من الباب الأول
باب الإرادة أنها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل
باب حدوث الأسماء
باب معاني الأسماء واشتقاقها
باب آخر . . . الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء الله وأسماء المخلوقين
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 264 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب تأويل الصمد
باب الحركة والإنتقال
باب العرش والكرسي
باب الروح
باب جوامع التوحيد
باب النوادر . انتهى .
لقد رأى الدكتور كل ذلك ! فقد كشف في الصفحات اللاحقة عن
( سره ) واعترف بأنه أغمض عينيه عمداً عن مصادر الشيعة لأن خصومهم أخبر منهم بعقائدهم وأصدق منهم ! ! قال في ص 531 :
( وقد يقال إن ما سلف من أقوال عن هشام وأتباعه هي من نقل خصوم الشيعة فلا يكون حجة عليهم . ومع أن تلك النقول عن أولئك الضلال قد استفاضت من أصحاب المقالات على اختلاف اتجاهاتهم ، وهم أصدق من الرافضة مقالاً وأوثق نقلاً ، وهي تثبت أن الرافضة هم الأصل في إدخال هذه البدعة على المسلمين ، لكن القول بأن نسبة التجسيم إليهم قد جاءت من الخصوم ولا شاهد عليها من كتب الشيعة قد يتوسمه من يقرأ إنكار المنكرين لذلك من الشيعة ، وإلا فالواقع خلاف ذلك ) . انتهى .
ولم يبين لنا الدكتور الباحث أي واقع يقصده ؟ هل هو واقع مصادرهم التي أغمض عينيه عنها ، أم واقع الشيعة الذين هم حوله ، ويمكنه أن يرفع التلفون ويتصل بعشرين من علمائهم وخمسين من عوامهم ، من داخل المملكة السعودية وخارجها ، من أي بلد إسلامي وأي قومية أراد ؟ !
وهكذا طار وعد الدكتور بنقل آراء الشيعة من مصادرهم ، لأن معناه الواقعي عنده : نقل التهم الموجهة إليهم من خصومهم والحكم عليهم بها !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 265 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
حسناً ، لنا الله . . فلنطوِ هذه الصفحة ، ولننظر إلى موضوعية دكتورنا في البحث والإستدلال التي يؤكد عليها فيقول في ج 1 ص 14 : ( وحاولت جهد الطاقة أن أكون موضوعياً ضمن الإطار الذي يتطلبه موضوع له صلة وثيقة بالعقيدة كموضوعي هذا . . . ) . ويقول في ج 1 ص 57 : ( فالمنهج العلمي والموضوعية توصي بأخذ آراء أصحاب الشأن فيما يخصهم أولاً ) . انتهى .
ونكتفي بذكر نموذج لموضوعية هذ الدكتور حيث يقول في ج 2 ص 535: ( المبحث الثاني : التعطيل عندهم . بعد هذا الغلو في الإثبات بدأ تغير المذهب في أواخر المائة الثالثة حيث تأثر بمذهب المعتزلة في تعطيل الباري سبحانه من صفاته الثابتة له في الكتاب والسنة ، وكثر الإتجاه إلى التعطيل عندهم في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي الملقب بالشريف المرتضى ، وأبي جعفر الطوسي ، واعتمدوا في ذلك على كتب المعتزلة ( 1 ) . وكثيرا مما كتبوه في ذلك منقول عن المعتزلة نقل المسطرة ، وكذلك ما يذكرونه في تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك هو منقول من تفاسير المعتزلة ( 2 ) . ولهذا لا يكاد القارئ لكتب متأخري الشيعة يلمس بينها وبين كتب المعتزلة في باب الأسماء والصفات فرقاً ، فالعقل كما يزعمون هو عمدتهم فيها ذهبوا إليه والمسائل التي يقررها المعتزلة في هذا الباب أخذ بها شيوخ الشيعة المتأخرون كمسألة خلق القرآن، ونفي رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وإنكار الصفات . بل إن الشبهات التي يثيرها المعتزلة في هذا ، هي الشبهات التي يثيرها شيوخ الشيعة المتأخرون .) انتهى .
وقال في هامشه : ( 1 ) منهاج السنة : 1/229 . ( 2 ) المصدر السابق : 1/356
* وقال في ج 3 ص 537 : ( كما وصفت مجموعة من رواياتهم رب العالمين بالصفات السلبية التي ضمنوها نفي الصفات الثابتة له سبحانه ، فقد روى ابن بابويه أكثر من سبعين رواية تقول إنه تعالى ( لا يوصف بزمان ولا مكان ، ولا كيفية ، ولا حركة ، ولا انتقال ، ولا بشيء من صفات الأجسام ، وليس حساًّ ولا جسمانياً ولا صورة . . . ( 1 ) . وشيوخهم ساروا على هذا النهج الضال من تعطيل الصفات الواردة في الكتاب والسنة ووصفه سبحانه بالسلوب ) . انتهى . وقال في هامشه : ( 1 ) التوحيد لابن بابويه ص 57
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 266 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقال في ج 3 ص 536 : ( هذا والثابت عن علي رحمه الله وأئمة أهل البيت إثبات الصفات لله .. والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم. منهاج السنة : 2/44 . انتهى . وهكذا أصدر الدكتور حكمه على الشيعة بأنهم كانوا مجسمة إلى حوالي القرن الرابع فصاروا معطلة ضالين لأنهم لا يصفون الله تعالى ( بشئ من صفات الأجسام ) !
ثم أصدر حكمه على الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، بأن مذهبهم موافق لمذهب الوهابيين في حمل الصفات على ظاهرها اللغوي الحسي ووصف الله تعالى بصفات الأجسام ! وقد رأيت فيما تقدم أنه استدل على أن الشيعة مجسمة بأقوال خصوم الشيعة لأنهم بزعمه أصدق منهم ! فبماذا استدل هنا على أن الشيعة معطلة ؟ ! استدل بذكر أسماء علمائهم المتهمين ولم يذكر شيئاً من أقوالهم ! فقد قال ( وكثر الإتجاه إلى التعطيل عندهم في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي الملقب بالشريف المرتضى ، وأبي جعفر الطوسي ، واعتمدوا في ذلك على كتب المعتزلة ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 267 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بالله عليك أيها الدكتور القفاري هل يمكننا الإستدلال على تهمة بسرد أسماء المتهمين ؟ وهل يقبل ذلك منا الأساتذة المحترمون في حرم جامعي ، بل هل يقبله بسطاء الناس من سكان البوادي والقفار ؟ ! أما كان الواجب أن تنقل شيئاً من أقوال هؤلاء المتهمين ليرى القارئ تعطيلهم أو تجسيمهم ، ولا يقول عنك إنك أصدرت حكماً بدون دليل وقفزت عن حيثياته وأبقيتها سراً مستسراً في قلبك ؟ !
ثم إن الشيخ المفيد أيها الدكتور توفي سنة 413 هـ وتلميذه الشريف المرتضى توفي سنة 436 ، وتلميذه الطوسي توفي سنة 460 . . وإذا كان هؤلاء معطلة فكان اللازم أن يكون التعطيل بدأ عند الشيعة في المئة الخامسة لا الرابعة !
ثم إنك اعترفت أنك رأيت أحاديث الشيعة عن النبي وآله صلى الله عليه وآله في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق فقلت : ( روى ابن بابويه أكثر من سبعين رواية تقول إنه تعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ... الخ . ) انتهى.
وابن بابويه محمد بن الحسين الصدوق متوفى سنة 281 وبذلك صعد تاريخ التعطيل المدعى عند الشيعة إلى الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله ! فأين التجسيم الذي ادعيت أن الشيعة كانوا عليه إلى القرن الرابع أو الخامس، حتى ألف لهم المفيد والمرتضى والطوسي كتب التعطيل ؟ !
لقد حصحص الحق واعترف الدكتور الباحث بأنه رأى كتاب التوحيد للصدوق وأحاديثه الكثيرة عن النبي وآله صلى الله عليه وآله في التنزيه ، وأن الشيعة لم يكونوا مجسمة ولا معطلة .. إلا عند المجسمة الذين يعدون التنزيه تعطيلاً ! ويعدون من لا يصف الله تعالى بصفات الأجسام ضالاً ملحداً ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 268 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
إن أبسط حق للقارئ عليك أيها الدكتور أن تذكر له ولو رواية واحدة من هذه السبعين حتى يرى تعطيلهم المزعوم لوجود الله تعالى وإلحادهم به ! ! خاصة أنك اتهمت الشيعة بأنهم حرفوا كل هذه الروايات السبعين و (ضمنوها نفي الصفات الثابتة له سبحانه ) أي لم يفسروا آيات الصفات بالظاهر الحسي كما يفعل الوهابيون ؟ !
ومن حق القارئ علينا هنا أن نوضح له معنى تهمة التعطيل التي جعلها القفاري والوهابيون عصا يضربون بها وجه من يخالفهم ولا يفسر صفات الله تعالى بالتفسير المادي الوهابي ؟ !
معناها أنك إذا فسرت ( يد الله فوق أيديهم ) بأن قدرته فوق قدرتهم ، فأنت عندهم متأول معطل ملحد !
ولا تصير مؤمناً حتى تقول إن لله تعالى يداً حقيقية حسية ! !
وإذا قلت : أنا لا أعلم معنى يد الله وعين الله وجنب الله في القرآن ولا أفسرها لا بالمعنى الحسي ولابغيره ، بل أفوض معناها إلى الله تعالى ورسوله، فأنت أيضاً عندهم مفوض معطل ضال ، حتى تفسرها بالمعنى المادي ! !
فجميع المتأولين والمفوضين عندهم معطلون، لأنهم بزعمهم جعلوا الله تعالى وجوداً معطلاً عن الصفات والحس والكيف ! وهم عندهم ملحدون ، لأنهم بزعمهم ألحدوا في صفات الله المادية التي وردت في القرآن !! وبذلك يخرجون كل مذاهب المسلمين عن الإسلام ، ولا يبقى مسلم إلا هم والمجسمة ! !
وهكذا يرتكب الوهابيون كأجدادهم المجسمة إفراطا نحو المادية في تفسير وجود الله تعالى وصفاته بالحس ، ويحكمون بضلال من خالفهم وكفرهم ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 269 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم يرتكبون إفراطاً مادياً آخر في تحريمهم التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله والأولياء وزيارة قبورهم ويعتبرونها شركاً ، ويحكمون بضلال من خالفهم في ذلك وكفرهم !
والقاسم المشترك بين الإنحرافين أن أذهانهم مسكونة بالمادية ، فهي لا ترى غيرها ولا تؤمن بغيرها . . ورحم الله أصحابهم الماديين الغربيين ! !
بقي حكم الدكتور القفاري على أهل البيت عليهم السلام بأنهم كانوا مثله تيميين وهابيين ، حيث اكتفى بالإستدلال على ذلك بقول ابن تيمية الذي لم يذكر عليه دليلاً ! فقد نقل القفاري عن ابن تيمية قوله ( والثابت عن علي رحمه الله وأئمة أهل البيت إثبات الصفات لله . . . والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم ) . وقد كرر ابن تيمية هذا الادعاء في كتبه ولم يأت عليه بدليل !
* قال في مجموعة رسائله مجلد 1 جزء 3 ص 115 : ( لكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم ، فليس من أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد من كان ينكر الرؤية ) . انتهى .
ومن حق القارئ أن يطلب نموذجاً من هذا النقل المستفيض ، الذي ادعاه ابن تيمية ، ثم ادعاه به تلميذه الأكاديمي الدكتور القفاري ! ولا بد أنه فتش عنه هو وفريقه فلم يجدوا منه حتى رواية واحدة ، مع أنه حسب زعم إمامهم ابن تيمية ( مستفيض في كتب أهل العلم ) ولكنهم أصروا على دعواهم بدون بينة وعلى حكمهم بدون دليل!! وهكذا ، طار وعد الدكتور بالموضوعية والأكاديمية ، كما طار وعده سابقاً بالإستناد إلى مصادر الشيعة !
حسناً ، لنا الله . . فلنطوِ هذه الصفحة ولننظر إلى وعد الدكتور الثالث بأن يكون أميناً فيما ينقل من مصادر الشيعة ، حيث قال كما تقدم :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 270 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( والموضوعية الصادقة أن تنقل من كتبهم بأمانة ، وأن تختار المصادر المعتمدة عندهم ، وأن تعدل في الحكم ، وأن تحرص على الروايات الموثقة عندهم أو المستفيضة في مصادرهم ما أمكن ) . انتهى . فلننظر كيف طبق كلامه في مسألة رؤية الله تعالى بالبصر . .
* قال في ج 2 ص 551 : ( لقد ذهبت الشيعة الإمامية بحكم مجاراتهم للمعتزلة إلى نفي الرؤية وجاءت روايات عديدة ذكرها ابن بابويه في كتابه التوحيد وجمع أكثرها صاحب البحار تنفي ما جاءت به النصوص من رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة ... فنفيهم لرؤية المؤمنين لربهم في الآخرة خروج عن مقتضى النصوص الشرعية ، وهو أيضاً خروج عن مذهب أهل البيت ، وقد اعترفت بعض رواياتهم بذلك، فقد روى ابن بابويه القمي عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله قال : قلت له أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال : نعم ( 1 )
وقال في هامشه : ( 1 ) ابن بابويه التوحيد ص 117 ، بحار الأنوار : 4 44 ، وانظر : رجال الكشي ص 450 ( رقم 848 ) . انتهى .
ويبدو الدكتور هنا أكاديمياً موضوعياً ، لأنه يقول وجدت رواية في مصادر الشيعة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام تثبت أنه يعتقد برؤية الله تعالى بالعين يوم القيامة ، بينما ينفي الشيعة إمكان الرؤية بالعين في الدنيا والآخرة وينسبون رأيهم إلى أهل البيت عليهم السلام ! فكيف يدعون أنهم شيعة أهل البيت ويخالفون إمامهم جعفر الصادق ؟ !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 271 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ولكن دكتورنا لم يكن أميناً في نقله من مصادر الشيعة مع الأسف ، فقد بتر النص وقطع منه جزءاً ناقصاً ليستدل به على ما يريد ! فطارت بذلك
( موضوعيته الصادقة ) التي يدعيها وصارت ( موضوعية ) غربية مثلا ً !
* وإليك أصل الرواية : قال الصدوق في كتابه ( التوحيد ) ص 117 : ( . . عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال قلت له : أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال : نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت متى ؟ قال : حين قال لهم : ألست بربكم قالوا بلى ، ثم سكت ساعة ، ثم قال : وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟ قال أبو بصير : فقلت له جعلت فداك فأحدث بهذا عنك ؟ فقال : لا ، فإنك إذا حدثت به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر ، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون . ) . انتهى .
فالرواية الشريفة تثبت الرؤية بالبصيرة والعقل ، وتبين أنها حاصلة قبل الدنيا من يوم أخذ الله ميثاق ذرية آدم على ربوبيته وهي مستمرة في الدنيا ، وفي الآخرة تكون أجلى وأوضح . وتنفي ادعاء الرؤية بالعين وتعتبرها تشبيهاً لله تعالى بخلقه وكفراً ! ! ومع ذلك أقدم الدكتور على قطع السطر الأول منها فقط إلى قوله ( نعم ) وحذف السطور التي بعده ، لينسب بذلك رؤية الله تعالى بالعين إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام ! !
لقد ارتكب هذا الدكتور ما لا يناسب مسلماً بقالاً ، فضلاً عن دكتور من الدرجة الأولى في جامعة الإمام محمد بن سعود ! وبعمله هذا طار الشرف الذي منحته الجامعة لرسالته فقالت ( وقد أجيزت هذه الرسالة بمرتبة الشرف الأولى ، مع التوصية بطبعها وتبادلها بين الجامعات ) ولو كنت رئيس كليته وارتكب
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 272 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عندي مثل هذه الخيانة العلمية لسحبت منه درجته ومنعت تعميم رسالته ، ثم اعتذرت من الذين أساء إليهم وغرهم بشهادته . . حتى لا تسقط الجامعة عن الإعتبار العلمي . . ولكن أساتذة القفاري لا يفعلون لأن الأمر ليس بيدهم ، بل قد تزداد مكانة القفاري عند شيوخه لأنه أجاد سب الشيعة وشتمهم ، وألبس ذلك ثوباً جامعياً والحمد لله !
كنت أتصور عندما تصفحت كتاب القفاري لأول مرة أنه يستحق الإهتمام لأنه كتاب علمي ، لكن بعد أن وقفت على هذه الفضيحة قررت أن لا أتعب نفسي بتدقيق بقية ما نقله من مصادرنا ؟ لأن كذبة واحدة في كتاب تكفي شرعاً لإسقاطه عن الإعتبار .
نعم بقيت مسألتان من كتاب القفاري تتعلقان بموضوعنا بنحو وآخر :
المسألة الأولى : اتهامه إيانا بأنا أخذنا عقائدنا من اليهود و ...
المسألة الأولى : اتهامه إيانا بأنا أخذنا عقائدنا من اليهود والمجوس والوثنيات أو تأثرنا بها . . قال في ج 1 ص 87 تحت عنوان :
( المذهب الشيعي مباءة للعقائد الآسيوية القديمة : ويضيف البعض أن مذهب الشيعة كان مباءة ومستقراً للعقائد الآسيوية القديمة كالبوذية وغيرها . يقول الأستاذ أحمد أمين : وتحت التشيع ظهر القول بتناسخ الأرواح وتجسيم الله والحلول، ونحو ذلك من الأقوال التي كانت معروفة عند البراهمة والفلاسفة والمجوس قبل الإسلام . ويشير بعض المستشرقين إلى تسرب الكثير من العقائد غير الإسلامية إلى الشيعة ويقول إن تلك العقائد انتقلت إليها من المجوسية والمانوية والبوذية ، وغيرها من الديانات التي كانت سائدة في آسيا قبل ظهور الإسلام ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 273 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ونلاحظ أن دكتورنا صار هنا عصرياً علمانياً ، فقد اعتمد في اتهامه الشيعة على أحمد أمين المصري العلماني وعلى المستشرقين الموضوعيين ! لأنهم ضد الشيعة ! ! وقد قلد القفاري في ترديد مقولات العلمانيين والغربيين عن الشيعة وهابي آخر فكتب كتاباً باسم ( عون المعبود في إثبات أن الشيعة كاليهود ) !
وجوابنا لهما : أن أحاديث كعب الأحبار وجماعته ما زالت ضاربة أطنابها ومستوطنة في مصادركم ، لا في مصادرنا ! وما زالت تطبع بأحسن الطبعات وتدرس في المعاهد والجامعات ! ! وأن كعباً وجماعته كانوا يسكنون في دور الخلافة لا في بيوت أهل البيت عليهم السلام ! وقد تقدم شئ من ذلك في هذا الكتاب كما وثقناه في ( العقائد الإسلامية ) المجلد الثاني في بحث الرؤية ، وفي كتاب ( تدوين القرآن ) .
أما عن تأثر الشيعة بالمجوسية والعقائد الآسيوية ، فإن المجوس صاروا سنيين أولاً ، وألفوا للسنيين أهم مصادرهم وصحاحهم وعقائدهم وفقههم ، بل أسسوا لهم مذاهبهم ونظروا لها ، وبعد قرون طويلة صار أبناؤهم شيعة وساهموا في تأليف مصادرنا ! !
فإن كان المسلمين الفرس متأثرين بعقائدهم المجوسية والآسيوية فقد نقلوها معهم إلى التسنن الذي الذي صاروا أئمة مذاهبه وأئمة مصادره الى يومنا هذا!
وعندما صار أبناؤهم شيعة فالذي يمكن أن ينقلوه معهم إلى التشيع هو تأثرهم بالتسنن لا بالمجوسية ، إلا أن يكون ضمن هذا التسنن تأثراتهم السابقة بالمجوسية !
كأن هذا الدكتور لا يعرف أن التشيع لا يضاهيه مذهب بعروبته ! وأن مؤسسي مذهبه الذي يناقشنا به ، ومؤلفي مصادره التي يحاجنا بها عجم من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 274 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قرونهم إلى أقدامهم . . إن تسعين بالمئة من أئمته أصحاب المصادر السنية هم من الفرس ، ( والأئمة ) الذين يحتج بهم الوهابيون من مجسمة الحنابلة وواصفي الله تعالى بصفات الأجسام هم من اليهود أو الفرس ؟ !
وكأن هذا الدكتور لا يعرف أن عدداً من الذين يسبهم من علماء الشيعة الفرس هم أولاد أئمته الذين يقدسهم . . فالعلامة المجلسي الشيعي صاحب موسوعة ( بحار الأنوار ) المتوفى سنة 1111 هجرية هو من أولاد الحافظ أبي نعيم الإصفهاني السني المتوفى سنة 435 هجرية !
وأن ابن جزي، وابن خزيمة ، والجويني ، ومسلماً ، والنسائي ، والترمذي، وابن ماجة ، وأبا داود ، والحاكم ، وأبا حنيفة ، وعشرات الفرس بل مئاتهم ، إنما صار أبناؤهم شيعة بعد قرون طويلة، وصار منهم علماء من علماء الشيعة!
فمن أولى بتهمة التأثر بالعقائد المجوسية والآسيوية أيها الدكتور الباحث ، الأجداد السنيون وثقافتهم ، أم الأبناء الشيعيون ؟ !
على أن الباحث العاقل المتزن لا يرسل أحكامه جزافاً ، لأنه لا بد له أن يفحص الأفكار والعقائد واحدة واحدة ، ويرى ما تملكه من دليل من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ، ودلالة العقل القطعية ، فإن تم دليلها فلا يهمه أن يكون لها شبيه عند هؤلاء القوم أو أولئك ، وفي هذا الدين أو ذاك ، ولا يهمه أن يقبلها كل الناس أو يرفضوها ويهرجوا على من يتبناها... ورحم الله شاعرنا القائل : نحن أتباع الدليل أينما مال نميل
والمسألة الثانية مع الدكتور القفاري : في معنى المصادر المعتمدة عندنا :
فالظاهر أن إخواننا الجامعيين ومنهم القفاري لم يعرفوا أن مفهومنا عن المصادر المعتمدة هو من مفاخر المذهب الشيعي في تبني حرية البحث العلمي .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 275 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* قال القفاري في ج 1 ص 368 : ( قال جعفر النجفي ( ت 1227 هـ ) شيخ الشيعة الإمامية ورئيس المذهب في زمنه ، قال في كتابه كشف الغطاء عن مؤلفي الكتب الأربعة : والمحمدون الثلاثة كيف يعول في تحصيل العلم عليهم ، وبعضهم يكذب رواية بعض . . ورواياتهم بعضها يضاد بعضها . . ثم إن كتبهم قد اشتملت على أخبار يقطع بكذبها كأخبار التجسيم والتشبيه وقدم العالم ، وثبوت المكان والزمان .
ولكن أصحاب الكتب الأربعة نصوا في مقدماتهم بأنهم لا يذكرون إلا الصحيح ، فيجيب صاحب كشف الغطاء عن ذلك بقوله : فلا بد من تخصيص ما ذكر في المقدمات أو تأويله على ضرب من المجازات أو الحمل على العدول عما فات حيث ذكروا في تضاعيف كتبهم خلاف ما ذكروه في أوائلها ، أي أنهم عدلوا عن شرط الصحة الذي ذكروه في مقدمات كتبهم !
ثم يأتي الاعتراض الأكثر صعوبة وهو أن هذه الكتب الأربعة مأخوذة كما يقولون من أصول معروضة على الأئمة ، وأصول الكافي كتب في عصر الغيبة الصغرى ، وكان بالإمكان الوصول إلى حكم الإمام على أحاديثه ، بل قالوا بأنه عرض على مهديهم فقال بأنه كاف لشيعتنا ، كما أن صاحب من لا يحضره الفقيه أدرك من الغيبة الصغرى نيفا وعشرين سنة ) . انتهى .
ينبغي أن يعرف هؤلاء الأخوة أن معنى المصادر المعتمدة عندنا يختلف عن معناه عند إخواننا السنة ، فروايات مصادرنا المعتمدة وفتاواها جميعاً عندنا قابلة للبحث العلمي والإجتهاد .
وأن المصدر ( ما عدا كتاب الله تعالى ) ليس قطعة واحدة إما أن نقبله كله أو نتركه كله ، بل كل رواية فيه أو رأي أو فتوى ، لها شخصيتها العلمية المستقلة .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 276 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما السنيون فيرون أن مصادرهم المعتمدة فوق البحث العلمي ، فصحيح البخاري برأيهم كتاب معصوم من الجلد إلى الجلد ، بل هو عندهم أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى ، ورواياته قطعة واحدة ، فإما أن تأخذها وتؤمن بها كلها ، أو تتركها كلها ! فبمجرد أن تحكم بضعف رواية واحدة من البخاري فإنك ضعفته كله... وصرت مخالفاً للبخاري ولأهل السنة والجماعة!
وينتج عن ذلك أن الباحث الشيعي يمكن أن يبحث جدياً في رواية من كتاب الكافي وغيره من المصادر المعتبرة عند الشيعة ، ويتوصل إلى التوقف في سندها أو تضعيفه ، فلا يفتي بها ، ولا يضر ذلك بإيمانه وتشيعه .
بينما السني محرم عليه ذلك ، وإن فعل فقد تصدر فيه فتاوى الخروج عن المذاهب السنية ، وقد يتهم بالرفض ومعاداة الصحابة !
ولا بد أن يعرف الدكتور القفاري وأمثاله أن شهادة مؤلف الكتاب الحديثي بصحة كتابه ، إنما هي اجتهاده الشخصي وهي حجة عليه وعلى مقلديه فقط.
ويبقى من حق المجتهد الآخر أن يبحث ويصحح ما صححه مؤلف أو يضعفه .
وقد يتأثر بالمؤلف وتصحيحاته أو تضعيفاته وقد لا يتأثر ، والحجة الشرعية في النهاية بينه وبين الله تعالى هي اجتهاده ، وليس اجتهاد صاحب الصحيح .
وليت القفاري التفت إلى الكلام العلمي الذي نقله عن المرحوم الشيخ جعفر الجناحي ( كاشف الغطاء ) عندما قال ( والمحمدون الثلاثة كيف يعول في تحصيل العلم عليهم ، وبعضهم يكذب رواية بعض . . ورواياتهم بعضها يضاد بعضها . . ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 277 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فالشيخ الجناحي يقول لا يمكن للمجتهد أن يقلدهم ويقول حصل لي العلم بصحة الحديث من شهادة الكليني أو الصدوق أو الطوسي ، لأن كلا منهم اجتهد فصحح أو ضعف ، وبقي على المجتهد أن يجتهد في علم الفقه وفي الحديث والجرح والتعديل ، ويصحح أو يضعف . .
ونفس هذا الكلام يجب أن يقوله إخواننا السنة في صحاحهم ومصادر حديثهم ، فقد اجتهد أصحابها وشهدوا بصحتها ، والباحث فيها لا يحصل له العلم بصدور الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله من شهادة البخاري مثلاً ، لأن فيه أحاديث متعارضة متضادة لا يمكن الجمع بينها لأن بعضها يكذب بعضاً ، فلا بد للمجتهد أن يبحث بنفسه ويصحح أو يضعف . . والعوام في كل عصر يقلدون في تصحيح الأحاديث وتضعيفها علماء ذلك العصر من المجتهدين أهل الخبرة . . هذا هو الوضع الطبيعي لأتباع كل دين ، وهذا هو المنهج العلمي السليم الذي يقره العقل والمنطق . . أما القول بأنه يجب على الأمة أن تقفل على نفسها باب الإجتهاد في تصحيح أحاديث نبيها إلى يوم القيامة ، وتقلد مؤلفي ستة كتب أو خمسين كتاباً ، فهو بدعة عباسية ومرسوم من مراسيمهم ، لكن إخواننا ما زالوا يتمسكون به خوفاً على تجسيمهم وإسرائيلياتهم من فتح باب البحث العلمي والإجتهاد !
وإذا فتحوه أوجبوا تقلد الشيخ ناصر الألباني وحده لأنه وهابي !
إنهم أحرار إذا أرادوا الجمود على هذه الكتب أو تلك ، ولكن نرجوهم أن لا يتصورا أصحاب الرأي الآخر بدوا لا يفهمون ، ولا يتخيلوا أن الحرية العلمية التي يتبناها علماء الشيعة منقصة ومسبة ، ودليل على بطلان مصادرهم وأحاديثهم ، كما فعل هذا القفاري لعدم تأمله في معنى كلمات المجتهدين المتخصصين ! !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 278 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما اعتراضه الذي سماه ( الإعتراض الأكثر صعوبة ) لماذا دونت الكتب الأربعة عند الشيعة عن أصول رويت عن الأئمة ولم تدون عن الأئمة مباشرة؟ فهو يدل على قلة خبرته بتاريخ الحديث وتدوينه ، فإن هذا الإشكال يتوجه إلى تدوين الصحاح الستة وغيرها من مصادر إخواننا ، لأن أئمتهم منعوا تدوين الحديث أكثر من قرن من الزمان ، ثم دونوا كتبهم من محفوظات الرواة المرضيين عند الدولة !
أما نحن فإن أئمتنا من أهل البيت عليهم السلام كانوا حاضرين بيننا إلى سنة 260 هجرية حيث غاب الإمام المهدي عليه السلام ، فكانوا هم حجج الله على المسلمين بنص النبي صلى الله عليه وآله وكان الشيعة يرجعون إليهم في تصحيح الأحاديث وتلقي معالم دينهم ، وكان الرواة والعلماء يكتبون عنهم من زمن علي عليه السلام إلى القرن الثالث ، وبعد هذا التاريخ قام عدد من العلماء بجمع الأصول المكتوبة عنهم في موسوعات . .
فكتبنا الأربعة وغيرها مأخوذة باليد عن أصحاب الأئمة عليهم السلام ، وسند أئمتنا إلى جدهم صلى الله عليه وعليهم هو المسمى بسلسلة الذهب ، المقدسة عند جميع المسلمين ، والتي قال عنها الإمام أحمد بن حنبل : ( لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق من جنونه ) . قال في هامش مسند زيد بن علي ص 440 :
( أورد صاحب كتاب تاريخ نيسابور أن علياًّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق لما دخل نيسابور كان في قبة مستورة على بغلة شهباء وقد شق بها السوق ، فعرض له الإمامان الحافظان أبو زرعة وأبو مسلم الطوسي ومعهما من أهل العلم والحديث ما لا يحصى فقالا : يا أيها السيد الجليل ابن السادة الأئمة ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 279 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلا ما أريتنا وجهك الميمون ورويت لنا حديثاً عن آبائك عن جدك أن نذكرك به .
فاستوقف غلمانه وأمر بكشف المظلة وأقر عيون الخلايق برؤية طلعته ، وإذا له ذؤابتان معلقتان على عاتقه والناس قيام على طبقاتهم ينظرون ما بين باك وصارخ ، ومتمرغ في التراب ، ومقبل حافر بغلته وعلا الضجيج ، فصاحت الأئمة الأعلام : معاشر الناس ، أنصتوا واسمعوا ما ينفعكم ولا تؤذونا بصراخكم ، وكان المستملي أبا زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي ، فقال علي الرضا رحمه الله : حدثني أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه شهيد كربلا عن أبيه علي المرتضى قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله صلى الله عليه وآله قال حدثني جبريل عليه السلام قال حدثني رب العزة سبحانه وتعالى قال : لا إله إلا الله حصني ، فمن قالها دخل حصني ، ومن دخل حصني أمن من عذابي .
ثم أرخى الستر على المظلة وسار ، قال فعد أهل المحابر وأهل الدواوين الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفاً .
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق من جنونه ) . !
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 280 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 281 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الحادي عشر : النابغة هشام بن الحكم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 282 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 283 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
النابغة هشام بن الحكم
دأبت كتب الملل والمذاهب على اتهام عدد من كبار علماء الشيعة ورواتهم بالتجسيم ومن أبرزهم هشام بن الحكم . . .
وعندما يتتبع الباحث آراء هؤلاء الضحايا وسيرتهم لا يجد فيها لهذه التهمة عيناً ولا أثر ، ويعرف أنه لا يوجد سبب لهذا الإفتراء إلا أن هؤلاء كانوا مدافعين أقوياء عن أهل البيت عليهم السلام ومذهبهم !
والذي يظهر من أخبار هشام بن الحكم أنه كان في زمن الرشيد أقوى مناظر مسلم يهابه علماء اليهود والنصارى والمجوس والملحدين ، فقد تحداهم جميعاً وأفحمهم ! كما كان مناظراً شيعياً قديراً ، وقد أفحم عمرواً بن عبيد وأبا الهذيل العلاف وغيرهما من المعتزلة والأشاعرة .
وكان جعفر البرمكي يعقد في قصر هارون الرشيد جلسات للمناظرة بين علماء الأديان والمذاهب المختلفة وكان هارون يشاهد بعضها من وراء الستر!
وقد برز هشام بنبوغه وقوة منطقه في تلك المجالس وغيرها ، وذاعت شهرته ، وسجل التاريخ بعض مناظراته مع أئمة الأديان .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 284 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقد استطاع البرمكي وزير الرشيد بدهائه المجوسي وعدائه لأهل البيت عليهم السلام أن يجر هشاماً في إحدى الجلسات إلى المناظرة في الإمامة ليحرك عليه الرشيد ، فغضب الرشيد على هشام وأراد قتله ، ولكنه فر من قبضتهم وبقي مختفياً إلى أن توفي رحمه الله . وقد نص المسعودي في مروج الذهب على هذه الحادثة ، قال في ج 3 ص 379 : ( . . . مجلس عند يحيى بن خالد يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام وغيرهم فقال لهم يحيى : قد أكثرتم الكلام ونفي الصفات وإثباتها والاستطاعة والأفعال . . . والإمامة أنص هي أم اختيار . . . ؟ ) إلى آخره . .
ويكفي للرد على تهمتهم لهشام بالتجسيم ، وكذب ما رووه عه في طول معبوده وعرضه ولونه . . أن الأشعري نفسه نقل عن هشام تفسيره لقوله بأن الله تعالى جسم ، وأنه يقصد به نفي التعطيل وأنه شئ لا كالأشياء . . قال في مقالات الاسلاميين : 2/9 : (قال هشام بن الحكم : معنى الجسم أنه موجود، وكان يقول : إنما أريد بقولي : جسم ، أنه موجود ، وأنه شئ ، وأنه قائم بنفسه ) . انتهى .
ونكتفي هنا بذكر دفاع الشريف المرتضى عن هشام ، ثم نذكر نماذج من مناظراته التي تثبت وحدها براءة الرجل وبعده عن تهمة كتب الملل المعروفة .
قال الشريف المرتضى في الشافي ص 83 : ( فأما ما رمي به هشام بن الحكم رحمه الله بالتجسيم ، فالظاهر من الحكاية عنه القول بجسم لا كالأجسام . ولا خلاف في أن هذا القول ليس بتشبيه ولا ناقض لأصل ، ولا معترض على فرع ، وأنه غلط في عبارة يرجع في إثباتها ونفيها إلى اللغة .
وأكثر أصحابنا يقولون إنه أورد ذلك على سبيل المعارضة للمعتزلة فقال لهم: إذا قلتم إن القديم تعالى شئ لا كالأشياء فقولوا إنه جسم لا كالأجسام . وليس كل من عارض بشئ وسأل عنه يكون معتقداً له ومتديناً به ، وقد يجوز أن يكون
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 285 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قصد به إلى إستخراج جوابهم عن هذه المسألة ومعرفة ما عندهم فيها ، أو إلى أن يبين قصورهم عن إيراد المرتضى في جوابها . إلى غير ذلك مما لا يتسع ذكره .
فأما الحكاية عنه أنه ذهب في الله تعالى أنه جسم له حقيقة الأجسام الحاضرة ، وحديث الأشبار المدعى عليه فليس نعرفه إلا من حكاية الجاحظ عن النظام ، وما هو فيها إلا متهم عليه غير موثوق بقوله في مثله .
وجملة الأمر أن المذاهب يجب أن تؤخذ من أفواه قائليها وأصحابهم المختصين بهم ومن هو مأمون في الحكاية عنهم ، ولا يرجع فيها إلى دعاوى الخصوم ، فإنه إن يرجع إلى ذلك في المذهب اتسع الخرق وجل الخطب ، ولم نثق بحكاية في مذهب ولا استناد مقالة . ولو كان يذهب هشام إلى ما يدعونه من التجسم وجب أن يعلم ذلك ويزول اللبس فيه، كما يعلم قول الخوارزمي وأصحابه بذلك ، ولا نجد له دافعاً ، كما لا نجد لمقالة الخوارزمي دافعاً .
ومما يدل على براءة هشام من هذا القرف ورميه على هذا المعنى الذي يدعونه ، ما روي عن الصادق عليه السلام في قوله : لا تزال يا هشام مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك .
وقوله عليه السلام حين دخل عليه وعنده مشائخ الشيعة فرفعه على جماعتهم ، وأجلسه إلى جانبه في المجلس وهو إذ ذاك حديث السن : هذا ناصرنا بقلبه ويده ولسانه .
وقوله عليه السلام : هشام بن الحكم رائد حقنا وسايق قولنا ، المؤيد لصدقنا والدافع لباطل أعدائنا ، من تبعه وتبع أمره تبعنا ، ومن خالفه وألحد فيه فقد عادانا وألحد فينا .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 286 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأنه عليه السلام كان يرشد في باب النظر والحجاج ، ويحث الناس على لقائه ومناظرته . فكيف يتوهم عاقل مع ما ذكرناه على هشام هذا القول بأن ربه سبعة أشبار بشبره ؟
وهل ادعاء ذلك عليه رضوان الله عليه مع اختصاصه المعلوم بالصادق عليه السلام وقربه منه ، وأخذه عنه إلا قدح في أمر الصادق عليه السلام ونسبة له إلى المشاركة في الإعتقاد الذي نحلوه هشاما . وإلا كيف لم يظهر عنه من التنكير عنه ، والتبعيد له ما يستحقه المقدم على هذا الإعتقاد المنكر ، والمذهب الشنيع .
فأما حدوث العالم فهو أيضاً من حكاياتهم المختلقة وما نعرف للرجل فيه كتاباً ، ولا حكاه عنه ثقة ) . انتهى .
وقال في هامشه : قال الشهرستاني في الملل و النحل 1/185 : ( هشام بن الحكم صاحب غور في الأصول لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة ، فإن الرجل وراء ما يلزمه على الخصم ، ودون ما يظهره من التشبيه ، وذلك أنه ألزم العلاف فقال : إنك تقول الباري تعالى عالم بعلم وعلمه ذاته ، فيشارك المحدثات في أنه عالم بعلم ويباينها في أن علمه ذاته ، فيكون عالماً لا كالعالمين ، فلم لا تقول : إنه جسم لا كالأجسام وصورة لا كالصور ، وله قدر لا كالأقدار ) . انتهى .
ولكن العجيب أن الشهرستاني بعد وصفه هشاماً بما وصفه به من المعرفة نقل عنه القول بإلهية علي عليه السلام ، وهو أجل من ينسب إليه مثل هذا القول . انتهى .
هذا، ومن العجيب من باحث وهابي أن يشنع على هشام بن الحكم بسبب قوله إن الله تعالى جسم لا كالأجسام ، في حين أن ذلك هو مذهب الوهابية ، فقد رفض ابن باز وابن تيمية نفي صفة الجسم عن الله تعالى ، كما تقدم ! فالأولى
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 287 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بالوهابيين أن يدعوا أن هشاماً بن الحكم منهم بسبب مقولته هذه ! ! على أنك سترى من مناظراته براءة أفكاره عن القول بالجهة والتجسيم .
مناظرته مع مجوسي يؤمن بإله النور و إله الظلمة
* قال ابن قتيبة في عيون الأخبار : 2/153 :
( دخل الموبذ على هشام بن الحكم . فقال له : يا هشام ، حول الدنيا
شئ ؟ قال : لا . قال : فإن أخرجت يدي فثم شئ يردها ؟ قال هشام : ليس ثم شئ يردك، ولا شئ تخرج يدك فيه . قال : فكيف أعرف هذا ؟
قال له : يا موبذ ، أنا وأنت على طرف الدنيا ، فقلت لك يا موبذ : إني لا أرى شيئاً ، فقلت لي : ولم لا ترى ، فقلت لك : ليس هاهنا ظلام يمنعني ، قلت لي أنت : يا هشام إني لا أرى شيئاً ، فقلت لك : ولم لا ترى ؟ قلت : ليس ضياء أنظر به ، فهل تكافأت الملتان في التناقض ؟ قال : نعم .
قال : فإذا تكافأتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شئ ؟
فأشار الموبذ بيده أن أصبت !
ودخل عليه يوماً آخر ، فقال : هما في القوة سواء ؟ قال : نعم . قال : فجوهرهما واحد ؟
قال الموبذ لنفسه ومن حضر يسمع : إن قلت إن جوهرهما واحد ، عادا في نعت واحد ، وإن قلت مختلف ، اختلفا أيضاً في الهمم والإرادات ولم يتفقا في الخلق ، فإن أراد هذا قصيراً أراد هذا طويلاً ! !
قال هشام : فكيف لا تسلم ؟ ! قال : هيهات ! ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 288 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مناظرته مع جاثليق نصراني
* قال الصدوق في التوحيد للصدوق ص 270 : ( أبي رحمه الله قال : حدثنا أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى العطار ، عن محمد بن أحمد ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن محمد بن حماد ، عن الحسن بن إبراهيم ، عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن الحكم ، عن جاثليق من جثالقة النصارى يقال له بريهة ، قد مكث جاثليق النصرانية سبعين سنة وكان يطلب الإسلام ويطلب من يحتج عليه ممن يقرأ كتبه ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته ، قال وعرف بذلك حتى اشتهر في النصارى والمسلمين واليهود والمجوس ، حتى افتخرت به النصارى وقالت : لو لم يكن في دين النصرانية إلا بريهة لا جزأنا ، وكان طالباً للحق والإسلام مع ذلك ، وكانت معه امرأة تخدمه طال مكثها معه ، وكان يسر إليها ضعف النصرانية وضعف حجتها ، قال فعرفت ذلك منه ، فضرب بريهة الأمر ظهراً لبطن وأقبل يسأل فرق المسلمين والمختلفين في الإسلام ، من أعلمكم ؟
وأقبل يسأل عن أئمة المسلمين وعن صلحائهم وعلمائهم وأهل الحجى منهم ، وكان يستقرئ فرقة فرقة لا يجد عند القوم شيئاً ، وقال لو كانت أئمتكم أئمة على الحق لكان عندكم بعض الحق ، فوصفت له الشيعة ووصف له هشام بن الحكم . فقال يونس بن عبد الرحمن : فقال لي هشام : بينما أنا على دكاني على باب الكرخ جالس وعندي قوم يقرؤون علي القرآن فإذا أنا بفوج النصارى معه ما بين القسيسين إلى غيرهم نحو من مائة رجل عليهم السواد والبرانس ، والجاثليق الأكبر فيهم بريهة حتى نزلوا حول دكاني وجعل لبريهة كرسي يجلس عليه ، فقامت الأساقفة والرهابنة على عصيهم ، وعلى رؤوسهم برانسهم .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 289 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فقال بريهة : ما بقي من المسلمين أحد ممن يذكر بالعلم بالكلام إلا وقد ناظرته في النصرانية فما عندهم شئ ، وقد جئت أناظرك في الإسلام .
قال : فضحك هشام فقال : يا بريهة إن كنت تريد مني آيات كآيات المسيح فليس أنا بالمسيح ولا مثله ولا أدانيه ، ذاك روح طيبة خميصة مرتفعة ، آياته ظاهرة وعلاماته قائمة . قال بريهة : فأعجبني الكلام والوصف . قال هشام : إن أردت الحجاج فها هنا . قال بريهة : نعم ، فإني أسألك ما نسبة نبيكم هذا من المسيح نسبة الأبدان ؟ قال هشام : ابن عم جده ( لأمه ) لأنه من ولد إسحاق ومحمد من ولد إسماعيل . قال بريهة: وكيف تنسبه إلى أبيه ؟ قال هشام: إن أردت نسبه عندكم أخبرتك ، وإن أردت نسبه عندنا أخبرتك . قال بريهة : أريد نسبه عندنا ، وظننت أنه إذا نسبه نسبتنا أغلبه . قلت : فانسبه بالنسبة التي ننسبه بها . قال هشام : نعم ، تقولون : إنه قديم من قديم ، فأيهما الأب وأيهما الإبن ؟
قال بريهة : الذي نزل إلى الأرض الإبن . قال هشام : الذي نزل إلى الأرض الأب !
قال بريهة : الإبن رسول الأب . قال هشام : إن الأب أحكم من الإبن لأن الخلق خلق الأب . قال بريهة : إن الخلق خلق الأب وخلق الإبن . قال هشام : ما منعهما أن ينزلا جميعاً كما خلقا إذا اشتركا ؟ ! قال بريهة : كيف يشتركان وهما شئ واحد إنما يفترقان بالإسم .
قال هشام : إنما يجتمعان بالإسم . قال بريهة : جهل هذا الكلام . قال هشام : عرف هذا الكلام . قال بريهة : إن الإبن متصل بالأب . قال هشام : إن الإبن منفصل من الأب .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 290 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال بريهة : هذا خلاف ما يعقله الناس . قال هشام : إن كان ما يعقله الناس شاهداً لنا وعلينا فقد غلبتك ، لأن الأب كان ولم يكن الإبن فتقول هكذا يا بريهة ؟ قال : ما أقول هكذا . قال : فلم استشهدت قوماً لا تقبل شهادتهم لنفسك ؟ ! قال بريهة : إن الأب اسم والإبن اسم يقدر به القديم . قال هشام : الإسمان قديمان كقدم الأب والإبن ؟ قال بريهة : لا ولكن الأسماء محدثة . قال : فقد جعلت الأب إبناً والابن أباً . إن كان الإبن أحدث هذه الأسماء دون الأب فهو الأب ، وإن كان الأب أحدث هذه الأسماء دون الابن فهو الأب والإبن أب وليس ههنا ابن . قال بريهة : إن الإبن إسم للروح حين نزلت إلى الأرض .
قال هشام : فحين لم تنزل إلى الأرض ، فاسمها ما هو ؟ قال بريهة : فاسمها إبن نزلت أو لم تنزل . قال هشام : فقبل النزول هذه الروح كلها واحدة واسمها اثنان ؟ قال بريهة : هي كلها واحدة روح واحدة . قال : قد رضيت أن تجعل بعضها إبناً وبعضها أباً .
قال بريهة : لا ، لأن اسم الأب واسم الإبن واحد . قال هشام : فالإبن أبو الأب ، والأب أبو الابن ، والإبن واحد . قالت الأساقفة بلسانها لبريهة : ما مر بك مثل ذا قط ، تقوم ؟ فتحير بريهة وذهب ليقوم فتعلق به هشام ، قال : ما يمنعك من الإسلام ؟ أفي قلبك حزازة ؟ فقلها وإلا سألتك عن النصرانية مسألة واحدة تبيت عليها ليلك هذا فتصبح وليس لك همة غيري ، قالت الأساقفة : لا ترد هذه المسألة لعلها تشككك . قال بريهة : قلها يا أبا الحكم . قال هشام : أفرأيتك الإبن يعلم ما عند الأب ؟ قال : نعم . قال : أفرأيتك الأب يعلم كل ما عند الإبن ؟ قال : نعم . قال : أفرأيتك تخبر عن الإبن أيقدر على حمل كل ما يقدر عليه الأب ؟ قال : نعم . قال : أفرأيتك تخبر عن الأب أيقدر على كل ما يقدر عليه الإبن ؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 291 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال : نعم . قال هشام : فكيف يكون واحد منهما ابن صاحبه وهما متساويان ؟ ! وكيف يظلم كل واحد منهما صاحبه ؟ قال بريهة : ليس منهما ظلم . قال هشام : من الحق بينهما أن يكون الابن أب الأب والأب ابن الإبن ، بت عليها يا بريهة !
وافترق النصارى وهم يتمنون أن لا يكونوا رأوا هشاماً ولا أصحابه. قال: فرجع بريهة مغتماً مهتماً حتى صار إلى منزله . فقالت امرأته التي تخدمه : ما لي أراك مهتماً مغتماً . فحكى لها الكلام الذي كان بينه وبين هشام . فقالت لبريهة : ويحك أتريد أن تكون على حق أو على باطل ؟ ! فقال بريهة : بل على الحق .
فقالت له : أينما وجدت الحق فمل إليه ، وإياك واللجاجة فإن اللجاجة شك والشك شؤم وأهله في النار . قال : فصوب قولها وعزم على الغدو على هشام . قال : فغدا عليه وليس معه أحد من أصحابه . فقال : يا هشام ألك من تصدر عن رأيه وترجع إلى قوله وتدين بطاعته ؟ قال هشام: نعم يا بريهة. قال : وما صفته ؟ قال هشام : في نسبه أو في دينه ؟ قال : فيهما جميعاً صفة نسبه وصفة دينه .
قال هشام : أما النسب خير الأنساب : رأس العرب وصفوة قريش وفاضل بني هاشم كل من نازعه في نسبه ، وجده أفضل منه ، لأن قريشاً أفضل العرب وبني هاشم أفضل قريش، وأفضل بني هاشم خاصهم ودينهم وسيدهم، وكذلك ولد السيد أفضل من ولد غيره وهذا من ولد السيد . قال : فصف دينه . قال هشام : شرائعه أو صفة بدنه وطهارته ؟ قال : صفة بدنه وطهارته.
قال هشام : معصوم فلا يعصي ، وسخي فلا يبخل ، شجاع فلا يجبن ، وما استودع من العلم فلا يجهل ، حافظ للدين قائم بما فرض عليه ، من عترة الأنبياء ، وجامع علم الأنبياء ، يحلم عند الغضب ، وينصف عند الظلم ، ويعين عند الرضا ، وينصف من الولي والعدو ، ولايسأل شططاً في عدوه ولا يمنع إفادة وليه ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 292 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يعمل بالكتاب ويحدث بالأعجوبات ، من أهل الطهارات ، يحكي قول الأئمة الأصفياء ، لم تنقض له حجة ، ولم يجهل مسألة ، يفتي في كل سنة ، ويجلو كل مدلهمة .
قال بريهة : وصفت المسيح في صفاته وأثبته بحججه وآياته ، إلا أن الشخص بائن عن شخصه والوصف قائم بوصفه ، فإن يصدق الوصف نؤمن بالشخص . قال هشام : إن تؤمن ترشد وإن تتبع الحق لا تؤنب . ثم قال هشام : يا بريهة ما من حجة أقامها الله على أول خلقه إلا أقامها على وسط خلقه وآخر خلقه ، فلا تبطل الحجج ، ولا تذهب الملل ، ولا تذهب السنن . قال بريهة : ما أشبه هذا بالحق وأقربه من الصدق ، وهذه صفة الحكماء يقيمون من الحجة ما ينفون به الشبهة .
قال هشام : نعم ، فارتحلا حتى أتيا المدينة والمرأة معهما ، وهما يريدان أبا عبد الله عليه السلام فلقيا موسى بن جعفر‘ ، فحكى له هشام الحكاية ، فلما فرغ .
قال موسى بن جعفر‘ ، : يا بريهة كيف علمك بكتابك ؟ قال : أنا به عالم .
قال : كيف ثقتك بتأويله ؟ قال : ما أوثقني بعلمي فيه . قال : فابتدأ موسى بن جعفر‘ بقراءة الإنجيل . . قال بريهة : والمسيح لقد كان يقرأ هكذا وما قرأ هذه القراءة إلا المسيح . ثم قال بريهة : إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك ، قال فآمن وحسن إيمانه وآمنت المرأة وحسن إيمانها .
قال : فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد الله عليه السلام ، وحكى هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى عليه السلام وبريهة . فقال أبو عبد الله عليه السلام : ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم . فقال بريهة : جعلت فداك أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء ؟ قال : هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 293 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قرؤوها ونقولها كما قالوها . إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شئ فيقول لا أدري .
فلزم بريهة أبا عبد الله عليه السلام حتى مات أبو عبد الله عليه السلام ، ثم لزم موسى بن جعفر‘ حتى مات في زمانه ، فغسله بيده وكفنه بيده ولحده بيده ، وقال : هذا حواري من حواريي المسيح يعرف حق الله عليه ، قال : فتمنى أكثر أصحابه أن يكونوا مثله .
بعض ما نقله من مناظرات الإمام الصادق عليه السلام
* في الإحتجاج : 2/69 :
( روي عن هشام بن الحكم أنه قال : من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد الله عليه السلام أن قال : ما الدليل على صانع العالم ؟
فقال أبو عبدالله عليه السلام : وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعها صنعها . ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني ، علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني ، ولم تشاهده .
قال: فما هو ؟ قال: هو شئ بخلاف الأشياء ، أرجع بقولي شئ إلى إثباته ، وأنه شئ بحقيقته الشيئية ، غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ، ولا يغيره الزمان.
قال السائل : فإنا لم نجد موهوماً إلا مخلوقاً . قال أبو عبدالله عليه السلام : لو كان ذلك كما تقول ، لكان التوحيد عنا مرتفعاً لأنا لم نكلف أن نعتقد غير موهوم. لكنا نقول : كل موهوم بالحواس مدرك بها ، تحده الحواس ممثلاً فهو مخلوق ، ولابد من إثبات كون صانع الأشياء خارجاً من الجهتين المذمومتين: إحداهما
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 294 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
النفي إذ كان النفي هو الإبطال والعدم ، والجهة الثانية التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف ، فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين، والإضطرار منهم إليه أنهم مصنوعون، وأن صانعهم غيرهم وليس مثلهم ، إن كان مثلهم شبيهاً بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا ، وتنقلهم من صغر إلى كبر ، وسواد إلى بياض ، وقوة إلى ضعف ، وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها .
قال السائل : فأنت قد حددته إذ أثبت وجوده ! قال أبو عبد الله عليه السلام : لم أحدده ، ولكني أثبته إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة .
قال السائل : فقوله : الرحمن على العرش استوى ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام : بذلك وصف نفسه ، وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه، من غير أن يكون العرش محلاًّ له . لكنا نقول : هو حامل وممسك للعرش ، ونقول في ذلك ما قال : وسع كرسيه السماوات والأرض ، فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته ، ونفينا أن يكون العرش والكرسي حاوياً له ، وأن يكون عز وجل محتاجاً إلى مكان ، أو إلى شئ مما خلق ، بل خلقه محتاجون إليه .
قال السائل : فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء ، وبين أن تخفضوها نحو الأرض ؟ قال أبو عبد الله : في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ولكنه عز وجل أمر أوليائه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش لأنه جعله معدن الرزق ، فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول حين قال : إرفعوا أيديكم إلى الله عز وجل . وهذا تجمع عليه فرق الأمة كلها . ومن سؤاله أن قال : ألا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد ؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 295 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال أبو عبد الله : لا يخلو قولك إنهما اثنان من أن يكونا : قديمين قويين أو يكونا ضعيفين ، أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفاً . فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه وينفرد بالربوبية ، وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول ، للعجز الظاهر في الثاني . وإن قلت إنهما اثنان ، لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة ، أو مفترقين من كل جهة ، فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جارياً واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ، دل ذلك على صحة الأمر والتدبير وايتلاف الأمر ، وأن المدبر واحد .
وعن هشام بن الحكم قال : دخل ابن أبي العوجاء على الصادق عليه السلام فقال له الصادق عليه السلام : يا بن أبي العوجاء ! أنت مصنوع أم غير مصنوع ؟ قال : لست بمصنوع . فقال له الصادق : فلو كنت مصنوعاً كيف كنت ؟ فلم يحر ابن أبي العوجاء جواباً ، وقام وخرج .
وقال : دخل أبو شاكر الديصاني وهو زنديق على أبي عبد الله وقال : يا جعفر بن محمد دلني على معبودي ! فقال أبو عبد الله عليه السلام : أجلس ! فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال أبو عبد الله : ناولني يا غلام البيضة ، فناوله إياها. فقال أبو عبد الله : يا ديصاني هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مايعة ، وفضة ذائبة ، فلا الذهبة المايعة تختلط بالفضة الذائبة ، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المايعة ، فهي على حالها ، لا يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها ، ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها ، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبراً ؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 296 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال : فأطرق ملياًّ ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه ، وأنا تائب مما كنت فيه . . . .
وعن هشام بن الحكم قال : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد الله عليه السلام علم ، فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها وقيل هو بمكة ، فخرج إلى مكة ونحن مع أبي عبد الله عليه السلام ، فانتهى إليه وهو في الطواف فدنا منه وسلم . فقال له أبو عبد الله : ما اسمك ؟ قال : عبد الملك . قال : فما كنيتك ؟ قال : أبو عبد الله . قال أبو عبد الله عليه السلام : فمن ذا الملك الذي أنت عبده ، أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء ؟ وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء ، أم عبد إله الأرض ؟ فسكت.
فقال أبو عبد الله : قل ! فسكت . فقال : إذا فرغت من الطواف فأتنا ، فلما فرغ أبو عبدالله عليه السلام من الطواف أتاه الزنديق، فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده . فقال أبو عبد الله عليه السلام : أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً ؟ فقال : نعم . قال : فدخلت تحتها ؟ قال : لا . قال : فهل تدري ما تحتها ؟ قال : لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شئ . فقال أبو عبد الله : فالظن عجز ما لم تستيقن. ثم قال له : صعدت إلى السماء ؟ قال : لا . قال : أفتدري ما فيها ؟ قال: لا. قال : فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟ قال : لا.
قال : فالعجب لك ، لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد إلى السماء ، ولم تخبر ما هناك فتعرف ما خلفهن ، وأنت جاحد بما فيهن ، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟ !
فقال الزنديق : ما كلمني بهذا غيرك .
قال أبو عبد الله عليه السلام : فأنت من ذلك في شك ، فلعل هو ولعل ليس هو .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 297 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال : ولعل ذلك . فقال أبو عبدالله عليه السلام : أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ، ولا حجة للجاهل على العالم ، يا أخا أهل مصر تفهم عني . أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان ، يذهبان ويرجعان ، قد اضطرا ليس لهما مكان إلا مكانهما ، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان ، وأن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً ؟ اضطرا والله .
يا أخا أهل مصر ، إن الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر ، فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم ؟ وإن كان يردهم فلم يذهب بهم ؟ أما ترى السماء مرفوعة ، والأرض موضوعة ، لا تسقط السماء على الأرض ، ولا تنحدر الأرض فوق ما تحتها ، أمسكها والله خالقها ومدبرها . قال فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله ، فقال : يا هشام خذه إليك وعلمه ) .
* وفي الإحتجاج : 2/142 :
( وعن هشام بن الحكم قال : اجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الديصاني الزنديق وعبد الملك البصري وابن المقفع ، عند بيت الله الحرام يستهزؤون بالحاج ويطعنون بالقرآن ! فقال ابن أبي العوجا : تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن وميعادنا من قابل في هذا الموضع ، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله ، فإن في نقض القرآن إبطال نبوة محمد ، وفي إبطال نبوته إبطال الإسلام وإثبات ما نحن فيه .
فاتفقوا على ذلك وافترقوا ، فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام . فقال ابن أبي العوجاء : أما أنا فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية : فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً ، فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً ، فشغلتني هذه الآية عن التفكر في ما سواها .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 298 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فقال عبد الملك : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ، إن الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ، ضعف الطالب والمطلوب . ولم أقدر على الإتيان بمثلها . فقال أبو شاكر : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، لم أقدر على الإتيان بمثلها .
فقال ابن المقفع : يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر ، وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : وقيل يا أرض ابلعي مائك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين . لم أبلغ غاية المعرفة بها ، ولم أقدر على الإتيان بمثلها .
قال هشام بن الحكم : فبينما هم في ذلك ، إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقال : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا : لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصية محمد إلا إلى جعفر بن محمد ، والله ما رأيناه قط إلا هبناه واقشعرت جلودنا لهيبته ، ثم تفرقوا مقرين بالعجز ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 299 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مناظرته مع عمرو بن عبيد
* في لإحتجاج : 2/126 :
( قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد ، وجلوسه في مسجد البصرة ، وعظم ذلك علي ، فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة ، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتزر بها من صوف وشملة مرتد بها ، والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي . ثم قلت : أيها العالم أنا رجل غريب ، أتأذن لي فأسألك عن مسألة ؟ قال : إسأل ! قلت له : ألك عين ؟ قال : يا بني أي شئ هذا من السؤال إذ كيف تسأل عنه ؟ فقلت : هذا مسألتي . فقال : يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقى . قلت : أجبني فيها . قال فقال لي: سل ! فقلت : ألك عين ؟ قال : نعم . قال : قلت فما تصنع بها؟ قال : أرى بها الألوان والأشخاص . قال قلت : ألك أنف ؟ قال : نعم. قال قلت : فما تصنع به ؟ قال : أشم به الرائحة . قال قلت : ألك لسان ؟ قال: نعم . قال قلت : فما تصنع به ؟ قال : أتكلم به . قال قلت : ألك أذن؟ قال : نعم . قلت : ما تصنع بها ؟ قال : أسمع بها الأصوات . قال قلت : ألك يدان ؟ قال : نعم . قلت : فما تصنع بهما ؟ قال : أبطش بهما ، وأعرف بهما اللين من الخشن . قال قلت : ألك رجلان ؟ قال : نعم . قال قلت : فما تصنع بهما ؟ قال أنتقل بهما من مكان إلى مكان . قال قلت : ألك فم ؟ قال: نعم . قال قلت : فما تصنع به ؟ قال : أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها . قال قلت : ألك قلب ؟ قال : نعم . قال قلت : فما تصنع به ؟ قال : أميز به كلما ورد على هذه الجوارح . قال قلت : أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا . قلت : وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة ؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 300 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال : يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته ، ردته إلى القلب ، فتيقن بها اليقين ، وأبطل الشك . قال قلت : فإنما أقام الله عز وجل القلب لشك الجوارح ؟ قال : نعم . قلت : لا بد من القلب ، وإلا لم يستيقن الجوارح . قال : نعم .
قلت : يا أبا مروان إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها إماماً ، يصحح لها الصحيح وينفي ما شكت فيه ، ويترك هذه الخلق كله في حيرتهم وشكهم واختلافهم ، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماماً لجوارحك ، ترد إليه حيرتك وشكك . قال : فسكت ولم يقل لي شيئاً . قال : ثم التفت إلي فقال لي : أنت هشام ؟ قال قلت : لا . فقال لي : أجالسته ؟ فقلت : لا . قال : فمن أين أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة . قال : فأنت إذا هو . ثم ضمني إليه ، وأقعدني في مجلسه ، وما نطق حتى قمت ) ! !
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 301 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثاني عشر : نماذج من نصوص الشيعة في التوحيد
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 302 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 303 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
نماذج من نصوص الشيعة في التوحيد
استعمل مخالفو أهل البيت وشيعتهم سياسة التعتيم على أحاديث النبي صلى الله عليه وآله في فضائلهم ، والتعتيم على أحاديثهم وآرائهم .
وليس هذا موضوع كلامنا ، وإنما دعانا إليه أن الدكتور القفاري السالف الذكر ألف كتابه عن عقائد الشيعة من ثلاثة مجلدات ، وذكر في آخره قائمة بمصادر الشيعة التي اعتمد عليها بلغت نحو ثلاث مئة مصدر . .
ولكنه عندما وصل إلى اتهام الشيعة بالتجسيم جاء بنصوص من مصادر خصومهم ، وعندما اتهمهم بالتعطيل لم يورد نصاً واحداً عنهم !
بل ذكر أن الصدوق المتوفى سنة 281 هجرية روى في كتابه التوحيد أكثر من سبعين رواية كلها بزعمه مكذوبة لأنها تدل على التعطيل ، وقد بخل الدكتور الأكاديمي بذكر رواية واحدة منها ! !
والواقع أن كتاب التوحيد للصدوق رحمه الله من مفاخر المصادر الإسلامية القديمة في هذا الموضوع ، وسنقتصر من الروايات ( السبعين ) التي أشار إليها القفاري على عشر روايات :
* روى الصدوق في كتابه التوحيد ص 107 :
( عن أبي عبد الله ، عن آبائه عليهم السلام قال : مر النبي صلى الله عليه وآله على رجل وهو رافع بصره إلى السماء يدعو ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : غض بصرك فإنك لن تراه.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 304 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقال : ومر النبي صلى الله عليه وآله على رجل رافع يديه إلى السماء وهو يدعو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أقصر من يديك فإنك لن تناله .
. . . عن عاصم بن حميد قال : ذاكرت أبا عبد الله عليه السلام فيما يروون من الرؤية فقال : الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر ، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب .
. . . حدثنا ابن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لماأسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه جبرئيل قط ، فكشف لي فأراني الله عز وجل من نور عظمته ماأحب ) .
* وروى في ص 113 :
( . . . عن إبراهيم بن محمد الخزاز ، ومحمد بن الحسين قالا : دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه السلام فحكينا له ما روي أن محمداً صلى الله عليه وآله رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة رجلاه في خضرة ، وقلت : إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد ، فخر عليه السلام ساجداً ثم قال : سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك ، فمن أجل ذلك وصفوك ، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبهوك بغيرك .
إلهي لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك ، ولا أشبهك بخلقك ، أنت أهل لكل خير ، فلا تجعلني من القوم الظالمين .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 305 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم التفت إلينا فقال : ما توهمتم من شئ فتوهموا الله غيره ، ثم قال : نحن آل محمد النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي .
يا محمد ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله حين نظر إلى عظمة ربه كان في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة . يا محمد عظم ربي وجل أن يكون في صفة المخلوقين . قال : قلت جعلت فداك من كانت رجلاه في خضرة ؟
قال : ذاك محمد صلى الله عليه وآله كان إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب ! إن نور الله منه أخضر ما اخضر ، ومنه أحمر ما احمر ، ومنه أبيض ما ابيض ، ومنه غير ذلك . يا محمد ما شهد به الكتاب والسنة فنحن القائلون به .
* وروى في ص 398 :
( عن حفص بن غياث ، قال : حدثني خير الجعافر جعفر بن محمد ، قال: حدثني باقر علوم الأولين والآخرين محمد بن علي ، قال : حدثني سيد العابدين علي بن الحسين، قال : حدثني سيد الشهداء الحسين بن علي ، قال: حدثني سيد الأوصياء علي بن أبي طالب عليهم السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم جالساً في مسجده إذ دخل عليه رجل من اليهود. فقال : يا محمد إلى ما تدعو ؟
قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .
قال : يا محمد أخبرني عن هذا الرب الذي تدعو إلى وحدانيته وتزعم أنك رسوله . كيف هو ؟
قال: يايهودي إن ربي لا يوصف بالكيف لأن الكيف مخلوق وهو مكيفه .
قال : فأين هو ؟ قال : إن ربي لا يوصف بالأين ، لأن الأين مخلوق وهو أينه .
قال : فهل رأيته يا محمد ؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 306 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال : إنه لا يرى بالأبصار ولا يدرك بالأوهام .
قال : فبأي شئ نعلم أنه موجود ؟ قال : بآياته وأعلامه .
قال : فهل يحمل العرش أم العرش يحمله ؟
فقال : يا يهودي إن ربي ليس بحال ولا محل .
قال : فكيف خروج الأمر منه ؟ قال : بإحداث الخطاب في المحال ( جمع محل ) .
قال : يا محمد أليس الخلق كله له ؟ ! قال : بلى .
قال : فبأي شئ اصطفى منهم قوماً لرسالته ؟ قال : بسبقهم إلى الإقرار بربوبيته.
قال : فلم زعمت أنك أفضلهم ؟ قال : لأني أسبقهم إلى الإقرار بربي عز وجل.
قال : فأخبرني عن ربك هل يفعل الظلم ؟ قال : لا .
قال : ولم ؟ قال : لعلمه بقبحه واستغنائه عنه .
قال : فهل أنزل عليك في ذلك قرآناً يتلى ؟
قال : نعم إنه يقول عز وجل : وما ربك بظلام للعبيد ، ويقول : إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، ويقول : وما الله يريد ظلماً للعالمين ، ويقول : وما الله يريد ظلماً للعباد .
قال اليهودي : يا محمد فإن زعمت أن ربك لا يظلم ، فكيف أغرق قوم نوح وفيهم الأطفال ؟
فقال : يا يهودي إن الله عز وجل أعقم أرحام نساء قوم نوح أربعين عاماً فأغرقهم حين أغرقهم ولا طفل فيهم ، وما كان الله ليهلك الذرية بذنوب آبائهم ، تعالى عن الظلم والجور علواًً كبيراً .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 307 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال اليهودي : فإن كان ربك لا يظلم فكيف يخلد في النار أبد الأبدين من لم يعصه إلا أياماً معدودة ؟
قال : يخلده على نيته ، فمن علم الله نيته أنه لو بقي في الدنيا إلى انقضائها كان يعصي الله عزوجل خلده في ناره على نيته ، ونيته في ذلك شر من عمله . وكذلك يخلد من يخلد في الجنة بأنه ينوي أنه لو بقي في الدنيا أيامها لأطاع الله أبداً ، ونيته خير من عمله ، فبالنيات يخلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، والله عز وجل يقول : قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً .
قال اليهودي : يا محمد إني أجد في التوراة أنه لم يكن لله عز وجل نبي إلا كان له وصي من أمته ، فمن وصيك ؟
قال : يا يهودي وصيي على بن أبي طالب ، واسمه في التوراة إليا وفي الإنجيل حيدار ، وهو أفضل أمتي وأعلمهم بربي ، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وإنه لسيد الأوصياء كما أني سيد الأنبياء .
فقال اليهودي : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وأن علي بن أبي طالب وصيك حقاً ، والله إني لأجد في التوراة كل ما ذكرت في جواب مسائلي وإني لأجد فيها صفتك وصفة وصيك ، وأنه المظلوم ومحتوم له بالشهادة ، وأنه أبو سبطيك وولديك شبراً وشبيراً سيدي شباب أهل الجنة ) .
* وروى في ص 77 :
( أخبرني أبو العباس الفضل بن الفضل بن العباس الكندي فيما أجازه لي بهمدان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة قال : حدثنا محمد بن سهل يعني العطار البغدادي لفظاً من كتابه سنة خمس وثلاثمائة قال : حدثنا عبد الله بن محمد
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 308 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
البلوي قال : حدثني عمارة بن زيد قال : حدثني عبد الله بن العلاء قال : حدثني صالح بن سبيع ، عن عمرو بن محمد بن صعصعة بن صوحان قال : حدثني أبي عن أبي المعتمر مسلم بن أوس قال : حضرت مجلس علي عليه السلام في جامع الكوفة فقام إليه رجل مصفر اللون كأنه من متهودة اليمن . فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنا نراه وننظر إليه.
فسبح علي عليه السلام ربه وعظمه عز وجل وقال : الحمد لله الذي هو أول بلا بدء مما ، ولا باطن فيما ، ولا يزال مهما ، ولا ممازج مع ما ، ولا خيال وهما ، ليس بشبح فيرى ، ولا بجسم فيتجزى ، ولا بذي غاية فيتناهى ، ولا بمحدث فيبصر ، ولا بمستتر فيكشف ، ولا بذي حجب فيحوى . كان ولا أماكن تحمله أكنافها ، ولا حملة ترفعه بقوتها ، ولا كان بعد أن لم يكن ، بل حارت الأوهام أن تكيف المكيف للأشياء ، ومن لم يزل بلا مكان ، ولا يزول باختلاف الأزمان ، ولا ينقلب شأناً بعد شأن .
البعيد من حدس القلوب ، المتعالي عن الأشياء والضروب ، الوتر علام الغيوب ، فمعاني الخلق عنه منفية ، وسرائرهم عليه غير خفية ، المعروف بغير كيفية ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأفكار ، ولا تقدره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، فكل ما قدره عقل أو عرف له مثل فهو محدود ، وكيف يوصف بالأشباح ، وينعت بالألسن الفصاح ، من لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو عنها بائن ، ولم يخل منها فيقال أين ، ولم يقرب منها بالإلتزاق ، ولم يبعد عنها بالإفتراق ، بل هو في الأشياء بلا كيفية ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، وأبعد من الشبه من كل بعيد .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 309 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ، ولا من أوائل كانت قبله بدية ، بل خلق ما خلق ، وأتقن خلقه ، وصور ما صور ، فأحسن صورته ، فسبحان من توحد في علوه، فليس لشئ منه امتناع ، ولا له بطاعة أحد من خلقه انتفاع ، إجابته للداعين سريعة ، والملائكة له في السماوات والأرض مطيعة ، كلم موسى تكليما بلا جوارح وأدوات ، ولا شفة ولا لهوات ، سبحانه وتعالى عن الصفات ، فمن زعم أن إله الخلق محدود فقد جهل الخالق المعبود . . ) . انتهى ، والخطبة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة .
* وروى في ص 254 :
( عن أبي معمر السعداني أن رجلاً أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام . فقال : يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل !
قال له عليه السلام : ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل ؟ !
قال : لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضاً فكيف لا أشك فيه .
فقال علي بن أبي طالب عليه السلام : إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه بعضاً ، ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به ، فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز وجل .
قال له الرجل : إني وجدت الله يقول : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ، وقال أيضاً : نسوا الله فنسيهم ، وقال : وما كان ربك نسياً ، فمرة يخبر أنه ينسى ، ومرة يخبر أنه لا ينسى ، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين ؟ !
قال : هات ما شككت فيه أيضاً .
قال : وأجد الله يقول : يوم يقوم الروح والملئكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً ، و قال : قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ، وقال : يوم القيمة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 310 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ، وقال : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار، وقال : لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ، وقال: نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون . فمرة يخبر أنهم يتكلمون ومرة يخبر أنهم لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً ، ومرة يخبر أن الخلق لا ينطقون ، ويقول عن مقالتهم : والله ربنا ما كنا مشركين ، ومرة يخبر أنهم يختصمون . فأنى ذلك يا أمير المؤمنين ، وكيف لا أشك فيما تسمع ؟ قال : هات ويحك ما شككت فيه .
قال : وأجد الله عز وجل يقول : وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ، ويقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، ويقول : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، ويقول : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً . ومن أدركته الأبصار فقد أحاط به العلم . فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع ؟ !
قال : هات أيضاً ويحك ما شككت فيه . . . . . . .
فقال عليه السلام . . . . فأما قوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، فإن ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم إشراقاً فيذهب عنهم كل قذى ووعث ، ثم يؤمرون بدخول الجنة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم ، ومنه يدخلون الجنة ، فذلك قوله عز وجل من تسليم الملائكة عليهم : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 311 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والنظر إلى ماوعدهم ربهم ، فذلك قوله : إلى ربها ناظرة ، وإنما أراد بالنظر إليه النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى .
وأما قوله : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، فهو كما قال : لا تدركه الأبصار ، يعني لا تحيط به الأوهام . وهو يدرك الأبصار ، يعني يحيط بها وهو اللطيف الخبير ، وذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك وتعالى وتقدس علواً كبيراً ، وقد سأل موسى عليه السلام وجرى على لسانه من حمد الله عز وجل : رب أرني أنظر إليك ، فكانت مسألته تلك أمراً عظيماً ، فقال الله تبارك وتعالى : لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، فأبدى الله سبحانه بعض آياته وتجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميماً وخر موسى صعقاً يعني ميتاً ، ثم أحياه الله وبعثه وتاب عليه فقال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ، يعني أول مؤمن آمن بك منهم أنه لن يراك أحد .
وأما قوله : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدره المنتهى ، يعني محمداً صلى الله عليه وآله كان عند سدرة المنتهى حيث لا يتجاوزها خلق من خلق الله ، وقوله في آخر الآية: مازاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ، رأى جبرئيل عليه السلام في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى ، وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله رب العالمين ). انتهى.
* وروى نحوه الطبرسي في الإحتجاج :1/358 - 362 وفيه : ( جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام وقال له : لولا ما في القرآن من الإختلاف والتناقض لدخلت في دينكم. فقال له عليه السلام : وما هو ؟ ... إلى آخره وفيه زيادة . . ) . ورواه المجلسي في بحار الأنوار : 4/32 .
* وروى الصدوق في التوحيد ص 99 :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 312 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( أبي رحمه الله قال : حدثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن العباس بن عمرو ، عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال للزنديق حين سأله ما هو ؟ قال : هو شئ بخلاف الأشياء ، أرجع بقولي شئ إلى إثبات معنى ، وأنه شئ بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ) .
* وروى في ص 176 :
( عن إبراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرضا عليه السلام : يا بن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ؟
فقال عليه السلام : لعن الله المحرفين الكلم عن مواضعه ، والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله كذلك ، إنما قال : إن الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل فيأمره فينادي : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ يا طالب الخير أقبل ، يا طالب الشر أقصر ، فلا يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء حدثني بذلك أبي، عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله ) . انتهى .
وتمت مراجعته وتنقيحه في الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة
من سنة 1422 للهجرة .
وحرره علي الكوراني العاملي عامله الله بلطفه
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 313 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فهرس أهم المصادر
* الأسماء والصفات للبيهقي متوفى 458 تحقيق محمد زاهد الكوثري 1358 هجرية دار إحياء التراث العربي ، عن الطبعة المصرية
* إرشاد الساري للقسطلاني توفي 923 إحياء التراث العربي - بيروت
* أصول مذهب الشيعة د . ناصر القفاري الطبعة الثانية 1415 ه - 1994 م
* أبو هريرة للسيد شرف الدين متوفى 1957 م مؤسسة أنصاريان قم
* الأحاديث القدسية للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة 1389 - لم يذكر اسم مؤلفه .
* الإحتجاج للطبرسي توفي 548 طبع النجف العراق
* الإعتصام للشاطبي متوفى 790 دار المعرفة لبنان قدم له رشيد رضا
* الأمالي للشريف المرتضىمتوفى 436 مكتبة المرعشي النجفي قم1403ه
* الإمامة والتبصرة لابن بابويه القمي توفي 329 ه دار المرتضى بيروت الطبعة الأولى 1980 م تحقيق مدرسة الإمام المهدي - قم
* الأنساب للسمعاني توفي 562 دار الجنان - بيروت
* بحار الأنوار للمجلسي توفي 1111 مؤسسة الوفاء - بيروت
* بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني توفي 587 المكتبة الحبيبية - باكستان
* البداية والنهاية لابن كثير توفي 774 إحياء التراث العربي - بيروت عن الطبعة الأولى
* تاريخ الإسلام للذهبي توفي 748 ه دار الكتاب العربي بيروت تحقيق عمر تدمري الطبعة الثانية 1411 ه
* تاريخ الإسلام د . حسن إبراهيم دار الأندلس - بيروت الطبعة السابعة 1964
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 314 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* تاريخ ابن خلدون لعبد الرحمن بن خلدون توفي 808 إحياء التراث العربي - بيروت
* تاريخ بغداد للخطيب البغدادي توفي 463 المكتبة السلفية - المدينة المنورة
* تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة توفي 1415 دار الفكر العربي ومطبعة المدني - مصر .
* تذكرة الحفاظ لشمس الدين الذهبي توفي 748 إحياء التراث العربي - بيروت
* التسهيل إلى علوم التنزيل لابن جزي توفي 741 - دار الكتب العلمية - بيروت
* تفسير النسائي للنسائي صاحب السنن توفي 303 ه مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت
* تفسير الطبري لابن جرير الطبري توفي 310 دار المعرفة بيروت عن طبعة - بولاق مصر .
* تفسير الكشاف لمحمود بن عمر الزمخشري توفي سنة 528 ه طبع مصر - 1307 ه
* تفسير المنار للشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا توفي 1354 دار المعرفة - بيروت
* التفسير الكبير لابن تيمية توفي 728 دار الكتب العلمية لبنان 1408 - ه 1988 م
* تهذيب الكمال ليوسف المزي توفي 742 مؤسسة الرسالة بيروت
* التوحيد لابن خزيمة مكتبة الكليات الأزهرية تحقيق الشيخ خليل الهراس
* التوحيد للصدوق توفي 381 جامعة المدرسين - قم
* الجواهر الحسان للثعالبي توفي 875 دار الكتب العلمية - بيروت
* حياة الحيوان الكبرى للدميري توفي 808 البابي الحلبي وأولاده - مصر
* الدر المنثور لجلال الدين السيوطي توفي 911 دار الفكر - بيروت
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 315 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* رحلة ابن بطوطة لابن بطوطة دار التراث- بيروت 1388 ه -1968م
* الرسالة التدمرية لابن تيمية توفي 728 المكتب الإسلامي - بيروت 1391
* الروض الآنف للسهيلي توفي 581 دار الفكر - بيروت 1409 ه - 1989 م
* رياض الصالحين للنووي توفي 671 دار الكتاب العربي - بيروت تحقيق رضوان محمد .
* سنن الترمذي لمحمد بن عيسى الترمذي توفي 279 دار الفكر - بيروت
* سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث السجستاني توفي 275 دار الفكر - بيروت
* سير أعلام النبلاء للذهبي توفي 748 مؤسسة الرسالة - بيروت
* الشافي للشريف المرتضى توفي 436 مؤسسة الصادق - طهران
* شرح مسلم للنووي توفي 676 ه دار الكتاب العربي - بيروت / لبنان - 1407 ه
* شرح المواقف للجرجاني توفي812 ه مطبعة السعادة - مصر الطبعة الأولى - 1325 ه
* شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق للنبهاني توفي 1350 مكتبة إيشيق - استانبول
* الصحاح للجوهري توفي 393 دار العلم للملايين - بيروت
* الصحيح في شرح العقيدة الطحاوية حسن السقاف معاصر دار الإمام النووي - عمان - الطبعة الأولى 1416
* صحيح البخاري لمحمد بن إسماعيل البخاري توفي 256 - دار الفكر - بيروت
* صحيح مسلم لمسلم ابن الحجاج النيسابوري توفي 261 دار الفكر - بيروت
* طبقات الشافعية للسبكي توفي 771 ه إحياء الكتب العربية - القاهرة
* كتاب العين للخليل الفراهيدي توفي 175 طبع إيران عن طبعة مؤسسة دار الهجرة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 316 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* فتاوى الألباني الشيخ الألباني مكتبة التراث الإسلامي القاهرة الطبعة الأولى 1414 ه
* فتاوى لجنة الافتاء الوهابية جمع وترتيب أحمد بن عبد الرزاق الدرويش نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث - الرياض 1411
* فتاوى ابن باز عبد العزيز بن باز الإدارة العامة للطبع والترجمة الطبعة الثانية 1411 ه
* فتح الباري في شرح البخاري لابن حجر توفي 852 إحياء التراث العربي - بيروت
الطبعة الرابعة 1408 ه - 1988 م
* الفجر الصادق لجميل صدقي الزهاوي توفي 1360 مطبعة الواعظ - مصر 1382
* فردوس الأخبار لابن شيرويه الديلمي توفي 509 دار الكتاب العربي - لبنان
* الفصل في الملل لابن حزم متوفى 456 ه دارصادر عن طبعة - مصر سنة - 1317 ه
* الكافي للكليني متوفى 329 دار الكتب الإسلامية - طهران الطبعة الأولى 1388
* كشف الإرتياب عن أتباع عبد الوهاب للسيد محسن الأمين متوفى 1957 م - دار الكتاب الإسلامي - بيروت 1410 ه
* كشف المراد للعلامة الحلي متوفى سنة 726 جماعة المدرسين - قم سنة 1416 ه
* كمال الدين للصدوق توفي 381 جماعة المدرسين - قم الطبعة الثالثة 1416 ه
* كنز العمال للمتقي الهندي توفي 975 مؤسسة الرسالة - السعودية
* المبسوط لشمس الدين السرخسي توفي 483 دار المعرفة - بيروت
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 317 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* كتاب المجروحين لمحمد بن حبان التميمي توفي 354 طبعة الباز - مكة المكرمة
* مجمع الزوائد لنور الدين الهيثمي توفي 807 دار الكتب العلمية - بيروت
* المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس توفي 179 مطبعة السعادة - مصر الطبعة الأولى
* المسند للإمام أحمد بن حنبل توفي 241 دار صادر - بيروت
* مسند زيد الإمام زيد بن علي جمعه عبد العزيز البغدادي دار الكتب العلمية - بيروت .
* مصابيح السنة للبغوي توفي سنة 516 ه دار المعرفة - بيروت
* المصنف لعبد الرزاق الصنعاني توفي 211 دار الكتب السلفية - القاهرة - 1409 ه
* المطالب العالية للفخر الرازي توفي سنة 606 دار الكتاب العربي - بيروت تحقيق : أحمد حجازي السقا الطبعة الأولى 1407
* معالم السنن للخطابي السبتي توفي 388 دار الكتب العلمية - بيروت
* مفردات غريب القرآن للراغب الإصفهاني توفي 502 طبعة طهران - عن طبعة مصر
* مقالات الإسلاميين للأشعري توفي 324 تحقيق هلموت ريتر المانيا - 1400 ه .
* الملل والنحل بهامش الفصل للشهرستاني توفي سنة 548 ه دار صادر - بيروت عن الطبعة الأولى بمصر سنة 1317 ه وطبعة الحلبي وشركاه مصر 1968
* المواعظ والاعتبار للمقريزي توفي 845 الحلبي وشركاءه - القاهرة
* النهاية لابن الأثير تحقيق محمودمحمد الطناحي تصوير مؤسسة اسماعيليان - قم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 318 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
* نهج البلاغة كلام الإمام علي عليه السلام استشهد سنة 40 هجرية شرح الشيخ محمد عبده دار المعرفة - بيروت
* نهاية الإرب في فنون الأدب أحمد بن عبد الوهاب النويري توفي 733 وزارة الإرشاد القومي بمصر عن طبعة دار الكتب المصرية .
* *