مكتبة الطالب (3) ـ بشارة النبي(ص) بالأئمة الإثني عشر(ع)ـ
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 1 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مكتبة الطالب ( 3 )
بشارة النبي صلى الله عليه وآله بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام
في خطب حجة الوداع
مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
برعاية المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني دام ظله
الناشر دار الهدى - قم
الطبعة الأولى - 1427
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 2 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الكتاب : . . . بشارة النبي صلى الله عليه وآله بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام
المؤلف : . . . علي الكوراني العاملي
الناشر : . . . دار الهدى - قم
الطبعة : . . . الأولى
العدد : . . . 10000 نسخة
الشابك : 1 - 171 - 497 - 964
1427 هجرية - 2006 ميلادية
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 3 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
وبعد ، فإن من معجزات نبينا صلى الله عليه وآله أنه أخبر أمته بأنه سيفارقها عن قريب ، مع أنه كان في كامل صحته ونشاطه ! ودعا المسلمين من أنحاء الجزيرة إلى موافاته والحج معه ، فاستجابوا وسموا تلك الحجة ( حجة الوداع ) وبلغ عدد الذين حجوا معه صلى الله عليه وآله أكثر من مئة ألف تشرفوا برؤية نبيهم صلى الله عليه وآله ، وحجوا معه ، واستمعوا إلى حديثه وتوجيهاته ، وخطبه التي بلغت ست خطب .
وهذا البحث في خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع ، وفي بشارته لأمته في خطبة عرفات ومنى بأن الله حل مشكلة الحكم فيها ، واختار لها بعده اثني عشر إماماً ربانياً عليهم السلام .
نرجو أن ينفعنا الله به في بلورة عقيدتنا ، وأن يشملنا بشفاعة النبي وآله الطاهرين صلوات الله عليهم .
علي الكوراني العاملي
في العاشر من شهر رمضان المبارك 1427
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 4 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 5 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الأول : الخط العام لعمل نبينا صلى الله عليه وآله
ثلاث مسائل في عمل نبينا صلى الله عليه وآله
ثلاث مسائل في عمل نبينا صلى الله عليه وآله
المسألة الأولى : أن أصل مهمة الأنبياء والرسل عليهم السلام تبليغ الناس الرسالة التي كُلِّفوا بها ، وإتمام الحجة لربهم عز وجل على عباده . فالرسول مؤدٍّ لرسالة ، وهو يخاف إن قصر في الأداء أو خالف حرفاً مما كلف به ، من غضب ربه عز وجل وعذابه ! لهذا تراه يُشهد الناس على أنه أدى إليهم ، ليشهدوا له عند ربه .
ومن جهة أخرى تراه يؤكد على أنه مبلغٌ ، ليس له إجبار الناس على قبول الهدى والالتزام به . فلا إكراه في الدين ، وحرية الناس يجب أن تبقى محفوظة ليؤمنوا إن شاؤوا أو يكفروا ، ومحاسبتهم في مرحلةٍ لاحقةٍ في دارٍ أخرى ، والإجبار يتنافى مع أصول الامتحان .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 6 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المسألة الثانية : أن هدف الأنبياء عليهم السلام يتركز على القضايا ( الكبرى ) في حياة الناس ومسار المجتمعات . فالرسول عليه السلام مهندسٌ رباني ، ولكنه مهندس مُدُن ومجتمع ومسيرة تاريخ ، وأعماله يجب أن ينظر إليها بهذا المنظار وهذا المقياس ، وأن يسأل الباحث نفسه : ماذا كان سيحدث في ثقافة الناس ومسار التاريخ لو لم يبعث هذا الرسول ، وماذا حدث بسبب بعثته وأدائه لرسالته ؟ ويسأل : كيف كانت حالة العالم الوثنية اليوم ، لو لم يبعث إبراهيم عليه السلام فيرسي أسس التوحيد ويوجه به مسيرة المجتمع الإنساني ؟ ! وكيف كانت حالة البلاد العربية والعالم في عصرنا ، لو لم يبعث نبينا صلى الله عليه وآله فينشئ هذا المد الأخير من التوحيد والحضارة ؟ !
لقد كان عمله صلى الله عليه وآله ( تكوين أمة ) ودفعها لتأخذ موقعها في مصاف أمم العالم وريادتها ، أو إنشاء سفينة وإطلاقها في بحر شعوب العالم ومجرى التاريخ ، وكان حريصاً أن يكون ربانها بعده أهل بيته عليهم السلام ، الذين اصطفاهم الله وطهرهم وأورثهم الكتاب ، لكن إن لم تقبل الأمة بقيادتهم فليكن الربان من يكون حتى يبلغ الله أمره ، ويبعث فيها المهدي الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 7 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المسألة الثالثة : أن الجانب الذاتي في الرسول موجود ومؤثر دون شك ، فهو إنسان مفكر مخطط مختار ، لكن الذاتية في عمله الرسالي ضئيلة جداً ! وما يقابل الذاتية هنا ليس الآلية ، بل طلب التوجيه من ربه دائماً عن قناعة وإيمان وتعبد ، فمساحة الأمور التي يسمح لنفسه أن يجتهد فيها ويعمل فيها برأيه جزءٌ قليلٌ من عمله الواسع .
فمثله كمثل مهندس أرسله رئيسه لتنفيذ مشروع كبير ، وهو مقتنع أن عليه أن يتصل دائماً برئيسه ليأخذ منه التعليمات الحكيمة الصحيحة ، ليتجنب الأخطاء ويحقق أكبر المكاسب ، فهو يعمل ويفكر وينفذ ، ومرسله على اتصال مستمر به ، يعطيه مراحل الخارطة ويرفع إشكالات تنفيذها ! وهذا مَثَلٌ مُصَغَّرٌ جداً لمهمة الرسول صلى الله عليه وآله .
والمتأمل في سيرة نبينا صلى الله عليه وآله يلمس أن الله تعالى كان يدير أمره من أول يوم إلى آخر يوم ، وكان يطيع أمر ربه ينفذه حرفياً ، لذا جاءت نتائج عمله صلى الله عليه وآله فوق ما يمكن لمهندسي المجتمعات ومؤسسي الأمم والحضارات ، فاستطاع أن يحدث مداً عقائدياً حضارياً عالمياً في أقل مدة وأقل كلفة من الخسائر البشرية والمادية ، فلم تبلغ قتلى الطرفين في كل حروبه صلى الله عليه وآله ست مئة قتيل !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 8 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ذلك أن إدارته بتوجيه ربه عز وجل ، حيث كان جبرئيل عليه السلام يأتيه دائماً بآيات قرآنٍ أو وحي غير القرآن ، وتوجيهات ، وإجابات . . . إلخ .
وقد ورد أن جبريل كان ينزل عليه بالسُّنَّة كما ينزل بالقرآن ( سنن الدارمي : 1 / 145 ) وأنه قال : أوتيت الكتاب ومثله معه ، أي ما كان جبريل يأتيه به من السنن ( الإيضاح / 215 ) ، وشمل ذلك كل حالاته صلى الله عليه وآله في حله وترحاله ورضاه وغضبه ، وأموره الشخصية من زواجه وطلاقه ولباسه وطعامه ونومه ويقظته ووضوئه وسواكه ، فضلاً عن عطائه ومنعه ، وحبه وبغضه . وقد نصت الأحاديث على ذلك .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 9 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
خلافة النبي صلى الله عليه وآله . . كانت مطروحة في حياته
خلافة النبي صلى الله عليه وآله . . كانت مطروحة في حياته
مضافاً إلى منطق الأمور ، توجد أدلة على أن خلافة النبي صلى الله عليه وآله كانت مطروحة في حياته صلى الله عليه وآله من أول بعثته ، وأن الكلام كان يجري في خليفته بشكل طبيعي ، لا كما تقول مصادر السنيين من أنه صلى الله عليه وآله لم يوص إلى أحد ، وأن جميع المسلمين لم يطرحوا معه هذا الموضوع في حياته أبداً ، ولا سألوه عنه حتى مجرد سؤال ! !
1 - من هذه الأدلة : ما ورد في سيرته صلى الله عليه وآله أنه كان يعرض نفسه على القبائل في أول بعثته ويطلب منها أن تحميه ليبلغ رسالة ربه ، وأن بعض القبائل قبلت بشرط أن يكون لها الأمر بعده فأجابها صلى الله عليه وآله بأنه مجرد رسول والأمر ليس له ، فالله تعالى هو الذي يعين خليفته !
ونذكر منها قبيلة عامر بن صعصعة ، وقبيلة كندة ، وذلك في أول بعثته صلى الله عليه وآله ، وقبيلة غطفان النجدية التي جاء رئيسها ابن الطفيل إلى المدينة ليفاوض النبي صلى الله عليه وآله على خلافته .
ففي سيرة ابن هشام : 2 / 289 : ( أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 10 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله ، يضعه حيث يشاء . قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ، لا حاجة لنا بأمرك ! فأبوا عليه . فلما صدر الناس ، رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم ، قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب ، يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا . قال : فوضع الشيخ يديه على رأسه ، ثم قال : يا بني عامر هل لها من تلاف ؟ ! هل لذناباها من مُطَّلب ؟ ! والذي نفس فلانٍ بيده ما تقوَّلها إسماعيليٌّ قط ، وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم ! ) . ورواه الطبري في تاريخه : 2 / 84 . وابن كثير في سيرته : 2 / 158 ، وحكاه في الغدير : 7 / 134 عن سيرة ابن هشام : 2 / 32 ، والروض الأنف : 1 / 264 ، وبهجة المحافل للعامري : 1 / 128 ، والسيرة الحلبية : 2 / 3 ، وسيرة زيني دحلان : 1 / 302 ، وحياة محمد لهيكل / 152 .
كما روى ابن كثير في سيرته : 2 / 159 ، حديث كندة فقال : ( قال عبد الله بن الأجلح : حدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له : إن ظفرت
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 11 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله ( ص ) : إن الملك لله يجعله حيث يشاء ، فقالوا لا حاجة لنا فيما جئتنا به ) ! انتهى .
وروى حديث عامر بن الطفيل رئيس قبائل غطفان : 4 / 114 ، قال : ( عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وعامر بن الطفيل بن مالك ، قدما المدينة على رسول الله ( ص ) فانتهيا إليه وهو جالس ، فجلسا بين يديه . فقال عامر بن الطفيل : يا محمد ، ما تجعل لي إن أسلمت ؟ فقال رسول الله ( ص ) : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم . قال عامر : أتجعل لي الأمر إن أسلمت ، من بعدك ؟
فقال رسول الله ( ص ) : ليس ذلك لك ولا لقومك ، ولكن لك أعنة الخيل . قال : أنا الآن في أعنة خيل نجد ! اجعل لي الوَبَر ولك المدَر .
قال رسول الله ( ص ) : لا . فلما قفل من عنده قال عامر : أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً ! فقال رسول الله ( ص ) : يمنعك الله ) .
وقال في / 112 : ( وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله ( ص ) فقال : أخيرك بين ثلاث خصال : يكون لك أهل السهل ويكون لي أهل الوبر ، وأكون خليفتك من بعدك ، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء ! قال فطُعن ( أصيب بالطاعون ) في بيت امرأة فقال : أغُدَّةٌ كغدة البعير وموتٌ في بيت امرأة من بني فلان ! ( وفي رواية في بيت سلولية ) إئتوني بفرسي ، فركب فمات على ظهر فرسه ! ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 12 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
2 - ومن هذه الأدلة : أن بيعة النبي صلى الله عليه وآله للأنصار تضمنت من أولها ثلاثة شروط : الأول : أن يحموا النبي صلى الله عليه وآله مما يحمون منه أنفسهم . والثاني : أن يحموا أهل بيته وذريته مما يحمون منه أولادهم وذراريهم . والثالث : أن لا ينازعوا الأمر أهله ! وهذا الشرط الأخير دليلٌ واضحٌ على أن مبدأ الاختيار الإلهي للأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله كان مفروغاً عنه من أول الرسالة ، وأن لهذا الأمر أهلاً بعد النبي صلى الله عليه وآله على الأمة أن تطيعهم ، وليس لها أن تختار ، ولا أن تنازع الأمر أولي الأمر الذين يختارهم الله تعالى لقيادتها بعد نبيه !
وقد وفَى الأنصار بالشرط الأول وفاء حسناً ، ولكن أكثرهم حنث بالشرطين الأخيرين حنثاً سيئاً مع الأسف ! وقد روت الصحاح هذه الشروط النبوية الثلاثة : ففي صحيح البخاري : 8 / 122 : ( عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله ( ص ) على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم ) . مسلم : 6 / 16 ، والنسائي : 7 / 137 ، بعدة روايات ، وعقد باباً بعنوان ( باب البيعة على أن لا ننازع الأمر أهله ) . وابن ماجة : 2 / 957 . وأحمد 5 / 316 ، و / 415 وقال : ( قال سفيان : زاد بعض الناس : ما لم تروا كفرا بواحاً ) والبيهقي في سننه : 8 / 145 .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 13 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وفي مجمع الزوائد : 6 / 49 : عن عبادة بن الصامت أن أسعد بن زرارة قال : يا أيها الناس ، هل تدرون على ما تبايعون محمداً ( ص ) ؟ إنكم تبايعونه أن تحاربوا العرب والعجم والجن والأنس ! فقالوا : نحن حرب لمن حارب وسلم لمن سالم . قالوا : يا رسول الله اشترط . قال : تبايعوني على أن : تشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، وأن لا تنازعوا الأمر أهله ، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم .
وعن حسين بن علي قال : جاءت الأنصار تبايع رسول الله ( ص ) على العقبة فقال : يا علي قم فبايعهم ، فقال علي : ما أبايعهم يا رسول الله ؟
قال : على أن يطاع الله ولا يعصى ، وعلى أن تمنعوا رسول الله ( ص ) وأهل بيته وذريته ، مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ) . انتهى .
ومن الملفت أن النبي صلى الله عليه وآله ضمَّنَ شروط بيعة الشجرة التاريخية ، نفس هذا الشرط الذي اشترطه على الأنصار ! أن يحموه وأهل بيته مما يحمون منه أنفسهم ، وأن لا ينازعوا الأمر أهله !
قال النووي في شرح مسلم : 13 / 2 : ( وفي حديث ابن عمر وعبادة : بايعنا على السمع والطاعة ، وأن لا ننازع الأمر أهله ) . وكان فيهم الأنصار والقرشيون ، فالأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله له أهلٌ معينون من الله تعالى ، ولذا اشترط النبي صلى الله عليه وآله على الجميع أن لا ينازعوهم السلطة بعده !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 14 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
3 - ومن هذه الأدلة : حديث الدار المعروف ، فقد كانت دعوة النبي صلى الله عليه وآله على ثلاث مراحل ، في أولاها كان يدعو الأفراد سراً إلى الإسلام ، وفي الثانية أمره الله أن يدعو عشيرته الأقربين بني هاشم ، وفي الثالثة أمره الله بدعوة الناس عامة .
لكن مدوني السيرة النبوية من أتباع السلطة طمسوا مرحلة دعوة بني هاشم وحذفوها ، وكأنه لا يوجد في القرآن آية : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين ، ( الشعراء : 214 ) واخترعوا بدلها مرحلة بيت الأرقم ، وما قبل بيت الأرقم ، وما بعد بيت الأرقم ! في كثير من الروايات الموضوعة !
وعندما أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين ، دعا بني هاشم وقال لهم ( بعثت إلى أهل بيتي خاصة ، وإلى الناس عامة ) ( المناقب : 1 / 305 ) ، واختار منهم كما أمره ربه أخاً ووزيراً ووصياً .
ومعنى ذلك أن بني هاشم أقرب إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله من غيرهم ، لقرابتهم ، ولأنه ليس فيهم عدو لدود له إلا أبو لهب ، ولذلك التفوا جميعاً حوله صلى الله عليه وآله مؤمنهم وكافرهم ، وتحملوا الحصار الذي فرضته عليهم قبائل قريش لثلاث سنين وأكثر ، ولم يقل أحد منهم آخ !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 15 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما مؤمنوهم وأولهم علي عليه السلام فكانوا أبطالاً مميزين ، وعندما كانت تقع الشدائد على المسلمين لم يكن أحدٌ ينهض بحملها إلا بنو هاشم فقد انهزم المسلمون جميعاً في أحد ولم يثبت غيرهم ! وفي الخندق لم يجرؤ أحد على مبارزة بطل العرب غيرهم ! وفي حنين انهزم المسلمون وهم عشرة آلاف ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وآله إلا بنو هاشم !
قال السيوطي في الدر المنثور : 5 / 97 : ( وأخرج ابن إسحق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي في الدلائل ، من طرقٍ ، عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله ( ص ) : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين ، دعاني رسول الله فقال : يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين . . . فاصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة ، واجعل لنا عساً من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغ ما أمرت به . ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول النبي ( ص ) بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ، ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : كلوا بسم الله ، فأكل القوم حتى نهلوا عنه ، ما ترى إلا آثار أصابعهم ! والله إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 16 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لجميعهم ! ثم قال : إسق القوم يا علي ، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً ! وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله ! فلما أراد النبي ( ص ) أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام ، فقال : لقد سحركم صاحبكم ! فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي ( ص ) ! فلما كان الغد قال : يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعُدْ لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ثم اجمعهم لي ، ففعلت ثم جمعتهم ( وكانت الدعوة في المرتين في بيت أبي طالب رحمه الله ) ثم دعاني بالطعام فقربته ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا حتى نهلوا ، ثم تكلم النبي ( ص ) فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على أمري هذا ؟ فقلت وأنا أحدثهم سناًّ : إنه أنا ، فقام القوم يضحكون ) .
ثم رواها السيوطي بسند آخر عن البراء بن عازب ، وبتر الحديث ولم يذكر بقية كلام النبي صلى الله عليه وآله ! وهو أسلوب رواة الخلافة القرشية ، لأن بقية الحديث تقول إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وآله من يومها أن يختار وزيره وخليفته من عشيرته الأقربين !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 17 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قال الأميني رحمه الله في الغدير : 1 / 207 : ( وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي ! قال في تاريخه : 2 / 217 ، من الطبعة الأولى : ( إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا . قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ) .
وقال الأميني في الغدير : 2 / 279 : وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفى 240 ، في كتابه نقض العثمانية وقال : إنه روي في الخبر الصحيح . ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء / 46 - 48 . وابن الأثير في الكامل : 2 / 24 وأبو الفداء عماد الدين الدمشقي في تاريخه : 1 / 116 وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض : 3 / 37 ( وبتر آخره ) وقال : ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح . والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره / 390 ، والحافظ السيوطي في جمع الجوامع ، كما في ترتيبه : 6 / 392 ، وفي / 397 ، عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : 3 / 254 ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 18 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم شكا الأميني رحمه الله من الذين حرفوا الحديث لإرضاء حكومات قريش ، ومنهم الطبري الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه لكنه أبهم كلام النبي صلى الله عليه وآله في حق علي عليه السلام فقال : ( ثم قال إن هذا أخي ، وكذا وكذا ) ! وتبعه ابن كثير في النهاية : 3 / 40 وتفسيره : 3 / 351 !
وفي هامش البحار : 32 / 272 : ( وناهيك من ذلك مؤاخاته مع رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر من الله عز وجل في بدء الإسلام حين نزل قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين . راجع : تاريخ الطبري : 2 / 321 ، كامل ابن الأثير : 2 / 24 ، تاريخ أبي الفداء : 1 / 11 ، والنهج الحديدي : 3 / 254 ، ومسند الإمام ابن حنبل : 1 / 159 ، وجمع الجوامع ترتيبه : 6 / 408 ، وكنز العمال : 6 / 401 . ثم ذكر تجديد النبي صلى الله عليه وآله مؤاخاته علياً عليه السلام في المدينة وقال له : والذي بعثني بالحق نبياً ما أخرتك إلا لنفسي ، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وأنت أخي ووارثي ، وأنت معي في قصري في الجنة . ثم قال له : وإذا ذاكرك أحد فقل : أنا عبد الله وأخو رسوله ، ولا يدعيها بعدي إلا كاذب مفتر . راجع : سيرة ابن هشام : 1 / 504 . المحبر : 71 / 70 . البلاذري : 1 / 270 الرياض النضرة : 2 / 168 . منتخب كنز العمال : 5 / 45 و 46 ) .
أقول : وروى حديث الدار في دعائم الإسلام : 1 / 15 ، وفيه : ( يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها ، إن الله لم يبعث نبياً إلا جعل له وصياً ووزيراً ووارثاً وأخاً وولياً ، فأيكم يكون وصيي ووارثي ووليي وأخي ووزيري ؟ فسكتوا ، فجعل يعرض ذلك عليهم رجلاً رجلاً ، ليس منهم أحد يقبله حتى لم يبق منهم أحد غيري ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 19 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأنا يومئذ من أحدثهم سناً ، فعرض علي فقلت : أنا يا رسول الله . فقال : نعم أنت يا علي . فلما انصرفوا قال لهم أبو لهب : لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم إلا بما رأيتم ، أتاكم بفخذ شاة وقدح من لبن فشبعتم ورويتم ! وجعلوا يهزؤون ويقولون لأبي طالب : قد قدم ابنك اليوم عليك ) . انتهى .
ولا بد أن دعوة النبي صلى الله عليه وآله لبني عبد المطلب واختياره وزيراً وخليفة منهم ، شاعت في قبائل قريش فاتهموا النبي صلى الله عليه وآله بأنه يريد تأسيس ملك لبني هاشم والترأس على قبائل قريش ! فنزلت سورة : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . ( النبأ : 1 - 3 ) فقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وآله نبأ عظيماً عليهم ، لأنهم لا يرون فيها إلا رئاسة بني هاشم عليهم ! ويرون تأكيدها في تعيين علي عليه السلام خليفته ! ( راجع : الكافي : 1 / 207 ، المناقب : 2 / 276 ، والقمي : 2 / 401 ، وفرات / 533 ، وشواهد التنزيل : 2 / 418 ، واليقين / 113 ، والطرائف / 94 ، وشواهد التنزيل : 1 / 335 ، وإحقاق الحق عن الثعلبي : 14 / 371 ، والبحار : 36 / 167 ) .
وتحير رواة الخلافة في تفسير النبأ العظيم فروت تفاسيرهم عن مجاهد أنه القرآن ، وقال بعضهم البعث ، وقال بعضهم القيامة ، وقال بعضهم النبوة ، وكلها ظنون واحتمالات بدون علم . ( عمدة القاري : 25 / 176 وتغليق التعليق : 5 / 360 ، وتفسير الطبري : 30 / 4 ، والميزان : 20 / 159 ، والأمثل : 19 / 323 ) .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 20 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
هذه الأدلة الثلاثة التي روتها مصادرهم الصحيحة ، وغيرها من نوعها كثير ، لا تدع مجالاً للشك في أن ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت مطروحةً من أول بعثته إلى آخر حياته صلى الله عليه وآله ، وأن القبائل كانت ترى في نبوته بحسابها المادي مشروعاً مغرياً ، وتطلب منه وعداً بأن يكون لها الأمر من بعده ، ومنها قبائل يمانية ، وعدنانية ، وزعيم قبائل غطفان وهوازن النجدية !
وبهذا تعرف السبب الذي جعل الحكومات القرشية تحذف ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وآله ، لأنه يكشف كذب مقولتهم التي أشاعوها بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يوص إلى علي عليه السلام ، بل تكشف عن وجود منافقين في المسلمين الأوائل من قبائل قريش وغيرها ، جذبتهم الحركة النبوية لا لأنها دينٌ نازلٌ من عند الله تعالى ، بل لأنها مشروعٌ مغرٍ يؤمل له النجاح وأن يجد المنافق القرشي المعدم موقعاً فيه ، ينقله من مهانة الهامش القبلي إلى مركز قيادي مع هذا المتنبئ من بني هاشم !
وبهذه الفرضية فقط يمكنك أن تفهم لماذا ذكر القرآن أسوأ أنواع المنافقين ( الذين في قلوبهم مرض ) في الآية 31 من سورة المدثر التي نزلت أوائل البعثة ! وأن تفهم سبب استعجال بعض ( المسلمين ) أن يقاتل النبي صلى الله عليه وآله قريشاً في مكة ! حتى نزل فيهم قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 21 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) ( النساء : 77 ) .
فلم يكن هؤلاء فرساناً ولا أهل قتال ، بل كانوا جبناء انتهازيين يريدون أن يقاتل بنو هاشم الأبطال قبائل قريش ، لعلهم ينتصرون عليهم فيكون لهم موقع معهم !
لكن عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وآله إلى مواجهة قريش في بدر جبنوا ونكصوا فنزلت فيهم الآية ! قال الطبري في تفسيره : 5 / 233 : ( نزلت في قوم من أصحاب رسول الله ( ص ) كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد . . . فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم ) ! وقد سمت بعض الروايات عدداً منهم ووصفتهم بالنفاق !
* *
أمام هذه الحقائق الصارخة ، لا يمكن للإنسان أن يصدق دعوى زعماء قريش ومصادرهم بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يعين خليفته من بعده ، وأنهم لم يطرحوا معه مسألة خلافته أبداً أبداً ، حتى بصيغة سؤال عن الحكم الشرعي وواجبهم عند وفاته ! فما أكثر من سأل النبي صلى الله عليه وآله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 22 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فبين لهم ، وما أكثر أحاديثه صلى الله عليه وآله عن مستقبل أمته ، وعن ارتداد أصحابه من بعده وصراعهم على السلطة ، وأنه سيدخلون النار بسبب ذلك ، ولا ينجو منهم من النار إلا قليلٌ بقدر ( هَمَل النَّعم ) حسب نص البخاري ( 7 / 209 ) !
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 23 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثاني : نصوص من خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع
النبي صلى الله عليه وآله يدعو المسلمين لوداعه والحج معه !
في السنة العاشرة من الهجرة أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله أن وفاته اقتربت ، وأمره أن يدعو أمته ويحج معهم ويوصيهم بوصاياه : ( ثم أنزل الله عز وجل عليه : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله يحج في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب ، واجتمعوا لحج رسول الله صلى الله عليه وآله . . فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله في أربع بقين من ذي القعدة . . . حتى انتهى إلى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة . . ) . ( الكافي : 4 / 245 ) .
ومجموع من شارك في حجة الوداع مئة ألف إلى مئة وعشرين ألفاً ، كما ذكرت الروايات ، وقد خطب فيهم النبي صلى الله عليه وآله ست خطب :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 24 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
خطبة في مكة يوم التروية الثامن ذي الحجة ، وخطبة في عرفات ، وخطبتان في منى يوم العيد وثاني العيد عند جمرة العقبة ، وخطبة في مسجد الخيف يوم النفر . . ثم خطبة الغدير في طريق عودته صلى الله عليه وآله عند غدير خم قرب الجحفة . قال في السيرة الحلبية : 3 / 333 : ( خطب ( ص ) في الحج خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر بمنى ، والرابعة يوم القر بمنى والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً ) . انتهى .
ومع أن المسلمين اهتموا بحجة الوداع ، وأحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله وتعلموا من كلماته وحركاته وسكناته ، ورووا أحاديث كثيرةً عنه ، لكن رواة السلطة القرشية ضيعوا روعة تلك الخطب ! فرووها نتفاً وخلطوا بين مضامينها ! وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله تعمد في وداعه لأمته أن يركز مكانة عترته من بعده عليهم السلام وخصهم بكلام كثير ، فتعمد الرواة إهماله أو إهمال أكثره ، لأنه ليس في مصلحة نظام الخلافة القرشي ، الذي أقامه زعماء القبائل بعد النبي صلى الله عليه وآله .
وقد راجعت نصوص هذه الخطب في أكثر من مائة مصدر ، فوجدتهم رووها نتفاً ، فيها التعارض والتضارب في الزمان والمكان والكلام ، ومؤشرات وأدلة على تدخلات السلطة في نصوصها ، وخوف الرواة منها ! وكل ذنب هذه الأحاديث الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 25 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده وحذر قريشاً والصحابة من الاختلاف وشرح لهم قوله تعالى : وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ . . وأتم عليهم الحجة !
لكن رغم التعتيم القرشي بقي منها في مصادرهم ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه صلى الله عليه وآله . وعندما تَجمع نُتَف الخطب تجدها منظومة كاملة من الأحكام والتوجيهات ، في حقوق الإنسان عامة والإنسان المسلم خاصة ، وفي مستقبل الأمة ومكانة العترة النبوية !
ونورد فيما يلي نماذج للأجزاء التي رووها منها ، ثم فهرساً لأسسها العامة ، والمبادئ التي تضمنتها :
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 26 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
من نصوص خطب حجة الوداع
من مصادرنا :
قال ابن شعبة الحراني رحمه الله في تحف العقول / 30 : خطبته صلى الله عليه وآله في حجة الوداع : ( الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على العمل بطاعته ، وأستفتح الله بالذي هو خير .
أما بعد : أيها الناس ! إسمعوا مني ما أبين لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا .
أيها الناس : إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد . فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها . وإن ربا الجاهلية موضوع ، وإن أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب . وإن دماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب . وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 27 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
السدانة والسقاية ، والعمد قَوَدٌ ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية .
أيها الناس : إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضي بأن يطاع فيما سوى ذلك ، فيما تحتقرون من أعمالكم .
أيها الناس : إنما النسئ زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ، ليواطؤوا عدة ما حرم الله . وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ، منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ، وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بين جمادى وشعبان . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقاً ، ولكم عليهن حقاً ، حقكم عليهن أن لا يوطئن أحداً فرشكم ، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ، وألا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف . أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكتاب الله ، فاتقوا الله في النساء ، واستوصوا بهن خيراً .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 28 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أيها الناس : إنما المؤمنون إخوة ، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ، فلا ترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
أيها الناس : إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ . وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : فليبلغ الشاهد الغائب .
أيها الناس : إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث ، والولد للفراش وللعاهر الحجر .
من ادعى إلى غير أبيه ، ومن تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ، والسلام عليكم ورحمة الله ) .
وفي الكافي : 1 / 403 : ( قال سفيان الثوري ( لصاحبه ) : إذهب بنا إلى جعفر بن محمد ، قال فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابته ، فقال له سفيان : يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف . قال : دعني حتى أذهب في حاجتي فإني قد ركبت فإذا جئت حدثتك . فقال : أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله لما حدثتني . قال : فنزل فقال له سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته ، فدعا به
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 29 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم قال أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف : نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه .
يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه : ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم . المؤمنون إخوةٌ تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم . فكتبه سفيان ثم عرضه عليه ، وركب أبو عبد الله وجئت أنا وسفيان ، فلما كنا في بعض الطريق قال لي : كما أنت ، حتى أنظر في هذا الحديث . قلت له : قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً ، لا يذهب من رقبتك أبداً ! فقال : وأي شئ ذلك ؟ فقلت له : ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، قد عرفناه . والنصيحة لأئمة المسلمين ، من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان ، ويزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وكل من لا تجوز الصلاة خلفهم ؟ وقوله : واللزوم لجماعتهم فأي الجماعة ؟ مُرْجِئٌ يقول : من لم يُصلِّ ولم يَصُم ولم يغتسل من جنابة ، وهدم الكعبة ونكح أمه ، فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل ؟ !
أو قدريٌّ يقول لا يكون ما شاء الله عز وجل ويكون ما شاء إبليس ؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 30 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب ، ويشهد عليه بالكفر ؟
أو جهميٌّ يقول إنما هي معرفة الله وحده ليس الإيمان شئ غيرها ؟ ! قال : ويحك وأي شئ يقولون ؟ ! فقلت : يقولون : إن علي بن أبي طالب والله الإمام الذي وجب علينا نصيحته . ولزوم جماعتهم : أهل بيته . قال فأخذ الكتاب فخرقه ثم قال : لا تخبر بها أحداً ! ) . انتهى .
وفي تفسير علي بن إبراهيم : 1 / 171 : ( وحج رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة ، فكان من قوله بمنى أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس : إسمعوا قولي واعقلوه عني فإني لا أدري ألقاكم بعد عامي هذا . ثم قال : هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة ؟ قال الناس : هذا اليوم . قال : فأي شهر ؟ قال الناس : هذا . قال : وأي بلد أعظم حرمة ؟ قالوا : بلدنا هذا . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، إلى يوم تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم . ألا هل بلغت أيها الناس ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 31 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم قال : ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية ، أو دم أو مال فهو تحت قدميَّ هاتين ، ليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبد المطلب . ألا وكل دم كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوع دم ربيعة . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد . ثم قال : ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد !
ألا أيها الناس : إن المسلم أخو المسلم حقاً ، لا يحل لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله إلا ما أعطاه بطيبة نفس منه .
وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله . ألا هل بلغت أيها الناس ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : أيها الناس : إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدي وافهموه تنعشوا ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن فعلتم ذلك ولتفعلن ! لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف ! ثم التفت عن يمينه فسكت ساعة ، ثم قال : إن شاء الله ، أو علي بن أبي طالب .
ثم قال : ألا وإني قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 32 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا ، ومن خالفهما فقد هلك . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وإنه سيرد علي الحوض منكم رجال فيدفعون عني ، فأقول : رب أصحابي ؟ فيقول : يا محمد إنهم أحدثوا بعدك وغيروا سنتك ! أقول : سحقاً سحقاً . فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : نُعِيَتْ إليَّ نفسي ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخَيْف ، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : نَضَّرَ اللهُ امرءً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه . ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ولزم جماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم . المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم .
أيها الناس : إني تارك فيكم الثقلين . قالوا : يا رسول الله وما الثقلان ؟ قال : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كإصبعيَّ هاتين وجمع بين سبابتيه ولا أقول كهاتين وجمع سبابته والوسطى ، فتفضل هذه على هذه ! فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 33 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بيته ! فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً : إن مات محمد أو قتل أن لا يردُّوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً ! فأنزل الله على نبيه في ذلك : أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ . أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ . ( الزخرف : 79 - 80 ) .
ومن مصادر السنيين :
في صحيح بخاري : 5 / 126 : عن أبي بكرة عن النبي ( ص ) قال : ( الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان . أي شهر هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس ذا الحجة ؟ قلنا : بلى . قال : فأي بلد هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس البلدة ؟ قلنا : بلى . قال : فأي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ! قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى . قال : فإن دماءكم وأموالكم ، قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم ، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، وستلقون ربكم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 34 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فسيسألكم عن أعمالكم . ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض . ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ) . وقد روت المصادر ومنها بخاري ( لا ترجعوا بعدي كفاراً ) ورواها بخاري وقليل غيره ( ضلالاً ) !
وروى أجزاء منها بخاري أيضاً في صحيحه : 1 / 24 ، مختصراً ، ومسلم في صحيحه : 4 / 41 ، قال : ( فأجاز رسول الله حتى أتى عرفة . . . فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس . . . وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله ) . لاحظ أنهم حذفوا وصية النبي صلى الله عليه وآله بعترته الطاهرين عليهم السلام !
وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1024 ، ومستدرك الحاكم : 1 / 77 : ( وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا أيها الناس إني فرط لكم على الحوض ، وإن سعته ما بين الكوفة إلى الحجر الأسود ، وآنيته كعدد النجوم ، وإني رأيت أناساً من أمتي ( أصله أصحابي ) لما دنوا مني خرج عليهم رجل فمال بهم عني ، ثم أقبلت زمرة أخرى ففعل بهم كذلك فلم يفلت إلا كمثل همل النعم ! فقال أبو بكر : لعلي منهم يا نبي الله ؟ ! قال : لا ) !
وقصد الراوي أن يبعد أبا بكر عن الصحابة المطرودين !
وفي ابن ماجة : 2 / 1016 : عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( ص ) وهو على ناقته المخضرمة بعرفات . . . ( ألا وإني مستنقذ أناساً ومستنقَذٌ مني أناس
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 35 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فأقول : يا رب أصيحابي ! فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) ! وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1300 : باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . . استنصت الناس فقال : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . عن ابن عمر أن رسول الله ( ص ) قال : ويحكم أو ويلكم لا ترجعوا بعدي كفاراً . . ) . وفي سنن الترمذي : 2 / 62 ، عن أبي أمامة : ( سمعت رسول الله ( ص ) يخطب في حجة الوداع فقال : اتقوا الله ربكم ، وصلُّوا خَمْسَكَم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم . قال : قلت لأبي أمامة : منذ كم سمعت هذا الحديث ؟ قال : سمعت وأنا ابن ثلاثين سنة ) .
وفي مسند أحمد : 5 / 412 : ( على ناقة حمراء مخضرمة فقال . . . ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم ، فلا تسوِّدُوا وجهي ! ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني وستسألون عني فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار . ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً ، ومستنقَذٌ مني آخرون فأقول : يا رب أصحابي . . . ) !
وفي مجمع الزوائد : 3 / 265 : عن الرقاشي قال : ( كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله ( ص ) في وسط أيام التشريق أذود عنه الناس فقال . . . وفيه : ( ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 36 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وعن ابن عمر : فوقف للناس بالعقبة ، واجتمع له ما شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال . . . أيها الناس : إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله . . . لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه . أيها الناس : إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله فاعملوا به ) . لاحظ أنه لم يذكر أهل بيته صلى الله عليه وآله !
وفي سنن الدارمي : 2 / 47 : ( حتى إذا زاغت يعني الشمس ( يوم عرفة ) أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ، وقال : إن دماء كم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة . . . فاتقوا الله في النساء ، فإنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله . . . وأنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فقال بإصبعه السبابة فرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد ) . انتهى .
أقول : من المؤكد أن مضامين خطبه صلى الله عليه وآله كانت أكثر مما رووه ، لكن الذي يعزي أن ما وصلنا فيه كفاية لمن أراد الدين واليقين . وسيأتي ذكر نصوص أخرى في محلها من البحث .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 37 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الأسس الإسلامية الخمسة في خطب الوداع
1 - أساس المساواة الإنسانية
وفيه مبدآن :
أ - الوحدة الإنسانية بين البشر ، وإلغاء التمايز القومي .
ب - مبدأ حسن معاملة النساء ، وعدم ظلمهن .
2 - أساس وحدة الأمة الإسلامية
وفيه أحد عشر مبدأً :
أ - مبدأ إلغاء آثار الجاهلية ومآثرها وتشريعاتها المخالفة للإسلام .
ب - مبدأ الأخوة والتكافؤ بين المسلمين .
ج - احترام الملكية الشخصية ، وتحريم أموال المسلمين على بعضهم .
د - مبدأ احترام حياة المسلم ، وتحريم دماء المسلمين على بعضهم .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 38 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ه - احترام عرض المسلم وكرامته ، وتحريم أعراضهم على بعضهم .
ز - مبدأ : من قال لا إله إلا الله ، فقد عصم ماله ودمه .
ح - مبدأ ختام النبوة به صلى الله عليه وآله ، وختام الأمم بأمته صلى الله عليه وآله .
ط - شهادته صلى الله عليه وآله على الأمة في الآخرة ، وموافاتها له على الحوض .
ي - الحذر من محقرات الأعمال ، التي تجر إلى انحراف الأمة .
ك - التحذير من الكذب على النبي صلى الله عليه وآله ، والتحقق فيما ينقل عنه .
3 - أساس وحدة الشريعة ووحدة ثقافة المسلمين
وفيه أربعة مبادئ :
أ - أداء الأمانة .
ب - قوانين الإرث .
ج - قوانين الديات والقصاص .
د - تشريعات مناسك الحج ( خذوا عني مناسككم ) .
4 - مبادئ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي صلى الله عليه وآله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 39 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وفيه ستة مبادئ :
أ - البشارة بالأئمة الاثني عشر من عترته .
ب - مبدأ التأكيد على الثقلين القرآن والعترة .
ج - مبدأ أن علياً عليه السلام ولي الأمة بعده والإمام الأول من الاثني عشر .
د - مبدأ أداء الفرائض ، وإطاعة ولاة الأمر .
ه - مبدأ تخليد تعاهد قريش وكنانة على حصار بني هاشم .
و - مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه وآله .
ز - مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد بعده والصراع على السلطة .
5 - أساس عقوبة المخالفين للخط النبوي
وفيه مبدأ :
أ - لعن من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه . . . .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 40 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ملاحظات على بعض هذه الأسس النبوية
1 - حقوق الإنسان وشريعة الغاب القبلية
يمثل هذا الجانب من خطب النبي صلى الله عليه وآله حلاً لمشكلة شريعة الغاب الجاهلية التي كان يعيشها المجتمع العالمي والعربي في عصره صلى الله عليه وآله الذي يقوم على التمييز الحاد القومي والقبلي والطبقي ، ويحكمه ( قانون الغلبة والقوة ) ، فجاءت تشريعات الإسلام الحضارية لتلغي ذلك وتعلن احترام الإنسان وحقوقه ، وتساوي بين الناس أمام الشرع وتحرِّم أنواع الاعتداء على النفس والملكية والكرامة .
وقد طبق النبي صلى الله عليه وآله ذلك وأسس احترام الإنسان وحرياته ، وكان عمله خطوة تأسيسية في تعويد المجتمع على احترام حقوق الإنسان .
لكنا نلاحظ غياب هذه القيم والقوانين بمجرد أن أغمض النبي صلى الله عليه وآله عينيه ، فقد استعمل أبو بكر وعمر وحزبهم الذي ضم الطلقاء ، قانون الغلبة والقهر في السقيفة ضد الأنصار ، وهموا بقتل سعد بن عبادة ، وبذلك غابت حقوق الإنسان عن نظام الحكم !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 41 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم استعملوه ضد بني هاشم ومن معهم من المهاجرين والأنصار الذين امتنعوا عن البيعة ، فهاجموهم في بيت علي وفاطمة عليهما السلام ، مع أنهم كانوا في عزاء بوفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وكانت جنازته مسجاة لم تدفن بعد ، وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يبايعوا ! ولما تأخروا عن الخروج جمعوا الحطب على باب الدار وأحرقوه !
بينما تمسَّك عليٌّ وأهل البيت عليهم السلام بتطبيق هذه القيَم والتشريعات فكان علي عليه السلام الحاكم الوحيد بعد النبي صلى الله عليه وآله الذي احترم حرية الإنسان المسلم فلم يجبر أحداً على بيعته ، ومنع المسلمين من إجبار أي ممتنع ، ولا استعمل قانون الأحكام العرفية ، ولا أي قانون استثنائي ، حتى في حروبه الثلاثة التي استوعبت مدة خلافته كلها !
كما لم يجبر أحداً على الحرب معه ، فكان كل من قاتل معه متطوعاً بقناعته وإرادته .
كما أعطى الحرية لمعارضيه والخوارج عليه ، أن يتكلموا ويتحزبوا ويحملوا السلاح ، ولم يقطع رواتبهم وحقوقهم من بيت المال وغيره ولم يواجههم ، ما لم يشهروا السلاح على المجتمع ، أو الدولة !
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 42 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
2 - من قال : لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه
فقد جاء في رواية تفسير القمي لخطبة الوداع : ( وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) .
ومعناه : أن من أعلن الشهادتين من أي دين أو قبيلة فهو مسلم يحرم ماله وعرضه ودمه ، إلا إذا انطبقت عليه مواد الفئة الباغية ، أو المفسد في الأرض ، أو قتل أحداً عمداً ، أو ارتد عن الإسلام ، أو زنى وهو محصن . أما أهل الكتاب فدماؤهم وأموالهم وحرياتهم محترمة أيضاً ، كما نصت عليه أحكام التعايش الشرعية الخاصة بهم .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 43 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
3 - تحذيره قريشاً أن تطغى بعده
تقدم قول النبي صلى الله عليه وآله : ( يا معشر قريش لا تجيؤوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجئ الناس بالآخرة فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ) .
وسبب تحذيره لقريش دون غيرها ، أن قريشاً قائدة العرب والقبائل تَبَعٌ لها ، فالخطر الذي يخشاه على أهل بيته إنما هو من قريش وحدها ! والتحريف الذي يخشاه على الإسلام ، والظلم الذي يخشاه على المسلمين ، إنما هو من قريش وحدها !
وهذا نفس تحذيره صلى الله عليه وآله للصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة ، الذي روته مصادر الجميع كقوله صلى الله عليه وآله : ( ويحكم أو ويلكم لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) ( ابن ماجة : 2 / 1300 ) . ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن فعلتم ذلك وَلَتَفْعَلُنَّ ) ( تفسير القمي : 1 / 1717 ) ! فقد أخبرهم صلى الله عليه وآله أنهم سيفعلون ، واستعمل كل بلاغته وعاطفته صلى الله عليه وآله وموجبات الخوف والحذر ، ليقيم الحجة عليهم لربه عز وجل ، حتى إذا وافوه يوم القيامة لا يقولوا : لماذا لم تحذرنا ؟ !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 44 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والذين يحذرهم من الاقتتال ليسوا إلا الصحابة فقط لا غير ، لا غير ! لا اليهود ولا الروم ولا القبائل العربية ، ولا زعماء قريش بدون شركائهم من الصحابة ! ذلك أن الدولة الإسلامية كانت قائمة ، مسيطرة على كل الجزيرة ، والخوف من الاقتتال بعد النبي صلى الله عليه وآله ليس من القبائل التي خضعت للإسلام طوعاً أو كرهاً ، مهما كانت كبيرة وموحدة مثل هوازن وغطفان . . فهي لا تطمح إلى قيادة هذه الدولة ، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة !
واليهود انكسروا وأجلى النبي صلى الله عليه وآله قسماً منهم من الجزيرة ، ولم تبق لهم قوة عسكرية تذكر ، ومكائدهم وخططهم مهما كانت قوية وخبيثة ، فلا حظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة !
وزعماء قريش ، مع أنهم يملكون جمهور قبائل قريش نحو ثلاثة آلاف مقاتل ، لكنهم لا يستطيعون أن يدَّعوا حقاً في قيادة الدولة بعد النبي صلى الله عليه وآله لأنهم أعداؤه وطلقاؤه ، فلا طريق لهم إلى قيادة الدولة إلا بالصحابة القريشي ! وبذلك تعرف أن تحذيره صلى الله عليه وآله من الصراع بعده ينحصر بهؤلاء الصحابة المهاجرين ، ثم بالأنصار فقط !
لكنك تقرأ في مصادر حديثهم عشرات الأحاديث في مدح قريش وأن تكون القيادة فيهم ! ولا ترى من أحاديث تحذيرهم إلا ما أفلت من الرواة ، وتجد بدل ذلك كذبهم وتأكيدهم على تحذير النبي صلى الله عليه وآله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 45 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لبني هاشم بأنه لا يغني عنهم من الله شيئاً ! ( صحيح بخاري : 6 / 17 ) وتحذيره لفاطمة ÷ بأنها لو سرقت لقطع يدها ! ( صحيح بخاري : 4 / 151 و : 5 / 97 و : 8 / 16 ) .
وبهذا نفهم تحذير النبي صلى الله عليه وآله المباشر لهم الذي لا ينقصه إلا الأسماء والذي قدمه النبي صلى الله عليه وآله على شكل لوحة من الغيب عن المصير الذي يمشي إليها هؤلاء الأصحاب المنحرفون المحرفون ! يوم يكون النبي صلى الله عليه وآله رئيس المحشر ويعطيه ربه الشفاعة وحوض الكوثر ، فيفد عليه الوافدون من الأمم فيشفع لهم ويعطيهم بطاقة للشرب من حوض الكوثر ، لتصلح أجسادهم لدخول الجنة والخلود في نعيمها ، وعندما يفد عليه جمهرة أصحابه تحدث المفاجأة ! فيأتي النداء الإلهي بمنعه من الشفاعة ، ومنعهم من ورود الحوض ، ويؤمر بهم إلى جهنم ! ! إنها صورة رهيبة جاء بها جبرئيل الأمين عليه السلام ليبلغها النبي صلى الله عليه وآله إلى الأمة في حجة الوداع ! وهي أعظم كارثة على صحابة أعظم رسول صلى الله عليه وآله ، لأنهم سيوقعون أعظم كارثة في أمته من بعده !
ولا ينجو من هؤلاء الصحابة إلا مثل ( هَمَل النَّعم ) كما في رواية البخاري ، وهو تعبير نبوي عجيب ، لأن همل النعم هي الغنم أو الإبل المنفردة عن القطيع ! ومعناه أن قطيع الصحابة في النار ، ولا يفلت منه إلا من يفلت منهم ! بل ذكر النبي صلى الله عليه وآله أن الصحابة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 46 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الجهنميين زمرتان ، فهم خطان من صحابته لا خط واحد : ( ثم أقبلت زمرة أخرى ، ففعل بهم كذلك ، فلم يفلت إلا كمثل همل النعم ) .
إنها مسألةٌ مذهلةٌ ، صعبة التصور والتصديق ، خاصة على المسلم السني المسكين الذي تربي على حب كل الصحابة ، وخير القرون ، والجيل الفريد ، وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . . ونشأ من صغره على الصور واللوحات الرائعة للصحابة ، فإذا به يفاجأ بهذه الصورة المخيفة عنهم !
لو كان المتكلم عن الصحابة غير الرسول صلى الله عليه وآله لقالوا عنه إنه عدو للإسلام ولرسوله صلى الله عليه وآله يريد أن يكيد للإسلام عن طريق الطعن في صحابة الرسول صلى الله عليه وآله ! ولكنه الرسول صلى الله عليه وآله نفسه ، وكلامه وحيٌ من رب العالمين وليس اجتهاداً منه ولا رأياً رآه ، حتى تقول قريش إنه بشر يغضب ويتكلم وكلامه في الغضب ليس وحياً !
إنها حقيقةٌ مُرَّة ، لكن هل يجب أن تكون الحقيقة دائماً حلوة كما نشتهي ، وأن يكون الحق دائماً مفصلاً على مزاجنا وموروثاتنا ؟ !
وتسأل هنا : وماذا فعل الصحابة بعد الرسول ؟ هل ارتدوا وتصارعوا سياسياً واجتماعياً على السلطة والحكم وتقاتلوا ؟ !
وجوابهم لك : أسكت عما جرى بين الصحابة ، ولا تكن رافضياً !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 47 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وتسأل : لماذا اختار الله تعالى هذا الأسلوب في التحذير ، ولم يهلك أولئك الصحابة الذين سينحرفون ، أو يأمر رسوله صلى الله عليه وآله بقتلهم أو يكشفهم للمسلمين ليحذروهم !
والجواب : هذه سياسته سبحانه وتعالى وقوانينه في إقامة الحجة على عباده وأن يترك لهم الحرية : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ . و : لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
فهو سبحانه يفضل هذا الوضع على إعلانهم الإرتداد !
وتسأل : ماذا كان وقع الخبر النبوي على الصحابة والمسلمين ؟ !
ألم يهرعوا إلى الرسول صلى الله عليه وآله ليحدد لهم الطريق أكثر ، ويعين لهم من يتبعونه بعده ، حتى لا يضلهم هؤلاء الصحابة الخطرون ؟ !
والجواب : لقد عيَّنَ لهم الثقليْن من بعده : كتابَ الله وعترته ، وبشرهم باثني عشر إماماً ربانياً عليهم السلام وحدد عترته وأهل بيته مراراً قبل حجة الوداع وبعدها بأسمائهم : علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، وأدار عليهم كساء يمانياً ! فهم مصطلح وليسوا بالمعنى اللغوي !
ولم يكتف بذلك حتى أوقف المسلمين في رمضاء الجحفة ، وأخذ بيد علي عليه السلام وأعلن إمامته بعده ، وجعل له ما جعل الله له من ولاية على الأمة ، ونصب له خيمة وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 48 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المؤمنين ويباركوا له ولايته عليهم ، فهنؤوه وباركوا له وبخبخوا له ، وأمر نساءه أن يهنئنه ، فجئن إلى باب خيمته وهنأنه وباركن له !
ثم أراد صلى الله عليه وآله في مرض وفاته أن يؤكد الحجة بوثيقة مكتوبة فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً . . ولكنهم رفضوا ذلك بشدة ! وقالوا له : شكراً أيها الرسول لا نريد أن تكتب لنا أطيعوا بعدي علياً ، ثم أولاد فاطمة حسناً ، ثم حسيناً ، ثم تسعة من ذرية الحسين ! وصاحوا : لا تقربوا له دواة ولا قرطاساً ! !
فماذا تريد من نبيك صلى الله عليه وآله أكثر من هذا ؟ !
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 49 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
4 - عقوبة المخالفين لوصية النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته صلى الله عليه وآله
من عجائب ما في خطب حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وآله بعد حديثه عن أهل بيته عليهم السلام أعلن مبدأ : ( لعن من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ) ! ففي مسند أحمد : 4 / 186 : ( خطبنا رسول الله ( ص ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرة من كاهل ناقته فقال : ولا ما يساوي هذه أو ما يزن هذه . لعن الله من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه ) .
وفي سنن ابن ماجة : 2 / 905 : ( خطبهم وهو على راحلته وإن راحلته لتقصع بجرتها ، وإن لغامها ليسيل بين كتفي ، قال : ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ ) . وفي الترمذي : 3 / 293 : عن أبي أمامة قال : ( سمعت رسول الله ( ص ) يقول في خطبته عام حجة الوداع : . . ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة ) . وفي مسند أحمد : 4 / 239 و : 4 / 187 : ( ألا ومن ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) . ورواه بعدة روايات في نفس الصفحة والتي قبلها ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 50 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وفي ص 238 و 186 . ورواه الدارمي في سننه : 2 / 244 و 344 ومجمع الزوائد : 5 / 14 ، عن أبي مسعود ، ورواه البخاري في صحيحه : 2 / 221 ، و 4 / 67 .
ولعلك تسأل : ما علاقة هذه اللعنة المشددة بوصية النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته ؟ ! فهي لعنة على الذي ينكر نسبه من أبيه وينسب نفسه إلى شخص آخر ، وعلى العبد الذي ينكر مالكه ويدعي أنه عبد لشخص آخر ، أو ينكر ولاءه وسيده الذي أعتقه ويدعي أن ولاءه لشخص آخر ! فهذا هو المفهوم من ( ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه ) !
والجواب : أن مقصود النبي صلى الله عليه وآله بالأبوة في هذه الأحاديث : أبوته المعنوية للأمة . وبالولاء : ولايته وولاية أهل بيته صلى الله عليه وآله عليها ، وليس مراده الأبوة النسبية ، ولا ولاء المالك لعبده !
والدليل عليه : أن حكم الشريعة في الولد الذي يهرب من أبيه ، ويدعي لنفسه والداً آخر ، أنه مسلم عاص وله توبة ، وقد يكون من أهل الجنة ! بينما الشخص الملعون في كلام النبي صلى الله عليه وآله محكوم بكفره مصبوب عليه الغضب الإلهي إلى الأبد ! ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) ! والصرف التوبة والعدل الفدية ، وهي عقوبة لحالات الخيانة العظمى كالارتداد ، ولا يعقل أن تكون عقوبة ولدٍ جاهل يدعو نفسه لغير أبيه ، أو عبد مملوك أو مظلوم يدعو نفسه لغير سيده ! وقد صرحت بعض
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 51 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
رواياتها بكفر من يفعل ذلك وخروجه من الإسلام ! كسنن البيهقي : 8 / 26 ، ومجمع الزوائد : 1 / 9 ، وكنز العمال : 5 / 872 و : 10 / 324 و / 326 و / 327 .
لقد استعمل النبي صلى الله عليه وآله هذا الأسلوب الكنائي البليغ متعمداً ، لكي تنقله الأجيال ولا تطمسه قريش ! وروت مصادرهم أنه كتبه في صحيفة صغيرة معلقة في ذؤابة سيفه صلى الله عليه وآله الذي ورثه لعلي عليه السلام فرواه بخاري في صحيحه : 4 / 67 ، ومسلم : 4 / 115 ، بروايات والترمذي : 3 / 297 ، وغيرهم أيضاً ، ورووا فيه لعن من تولى غير مواليه !
وفسرته مصادر أهل البيت عليهم السلام ، وروت أن النبي صلى الله عليه وآله استعمله في عدة مناسبات ، منها عندما كثر طلقاء قريش في المدينة ، وتصاعد عملهم ضد أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وقالوا : ( إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا ) أي في مزبلة ! فبلغ ذلك النبي فغضب وأمر علياً أن يصعد المنبر ويجيبهم وقال له : ( يا علي انطلق حتى تأتي مسجدي ثم تصعد منبري ثم تدعو الناس إليك ، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاة كثيرة ، ثم تقول : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 52 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصليت على رسول الله صلى الله عليه وآله صلاة كثيرة ثم قلت : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي ، على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره . قال : فلم يتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب فإنه قال : قد أبلغت يا أبا الحسن ولكنك جئت بكلام غير مفسر ، فقلت : أُبْلِغُ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته الخبر فقال : إرجع إلى مسجدي حتى تصعد منبري فاحمد الله وأثن عليه وصل عليَّ ثم قل : أيها الناس ، ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره ، ألا وإني أنا أبوكم ، ألا وإني أنا مولاكم ، ألا وإني أنا أجيركم ) . ( بحار الأنوار : 38 / 204 ، وتفسير فرات / 392 ، وغيرهما ) .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 53 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثالث : بشارة النبي صلى الله عليه وآله بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام
1 - الأحاديث النبوية في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام
كانت ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله أمراً مفروغاً عنه ، لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يبلغ الأمة ولاية عترته من بعده ، كما هي سنته تعالى في أنبيائه السابقين الذين ورَّث عترتهم الكتاب والحكم والنبوة ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران : 34 ) ونبينا صلى الله عليه وآله أفضلهم ولا نبوة بعده ، بل إمامةٌ ووراثةُ الكتاب ، وعترته صلى الله عليه وآله أفضل من عترة جميع الأنبياء عليهم السلام ، وقد طهرهم الله تعالى بنص كتابه ، واصطفاهم وأورثهم الكتاب : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ . ( فاطر : 32 ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 54 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فالذين اصطفاهم الله هم أبناء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله ، والسابقون بالخيرات منهم هم الأئمة المعصومون عليهم السلام وهم أولو الأمر في هذه الأمة . والمقتصد المؤمن بهم ، والظالم لنفسه من حسدهم وأنكرهم ! ولا يستقيم معنى الآية بتفسير آخر .
وكان النبي صلى الله عليه وآله طوال نبوته يبلّغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج والتلويح والتصريح ، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم ، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده ، وقد لمس صلى الله عليه وآله مرات عديدة عنف قريش ضدهم ، فأجابهم بغضب نبوي !
ونذكر فيما يلي أحاديث الأئمة الاثني عشر عليهم السلام من مصادرهم التي روتها في خطبه في حجة الوداع ! فقد روى بخاري في صحيحه : 8 / 127 : ( جابر بن سمرة قال : سمعت النبي ( ص ) يقول : يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش ) !
وفي مسلم : 6 / 3 : ( جابر بن سمرة يقول : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : كلهم من قريش ) ! ثم روى ثانية وفيها : ( ثم تكلم بشئ لم أفهمه ) . ثم روى ثالثة وفيها : ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة ، فقال كلمة صَمَّنِيَها الناس ! فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 55 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ولم يقل بخاري إن هذا الحديث جزءٌ من خطب حجة الوداع ! لكن عدداً من المصادر نصت عليه ، ففي مسند أحمد : 5 / 93 و 96 و 99 : ( عن جابر بن سمرة قال : خطبنا رسول الله ( ص ) بعرفات ) . وفي / 87 : ( يقول في حجة الوداع ) . وفي / 99 : ( سمعت رسول الله يخطب بمنى ) . وهذا يعني أنه صلى الله عليه وآله كرر الموضوع في عرفات ومنى ، ثم أعلنه صريحاً قاطعاً في غدير خم ! فما هي قصة الأئمة الاثني عشر ؟ ولماذا طرحها النبي صلى الله عليه وآله على أكبر تجمع من أمته وهو يودعها ؟ !
يجيبك بخاري وأمثاله : إن الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله أبو بكر وعمر . . . أما هؤلاء الأئمة الاثني عشر فليسوا مفروضي الطاعة دون غيرهم ، بل هم صالحون سيكونون في زمن ما ! وقد أخبر النبي أمته بأنهم من كل قريش لا من بني هاشم وحدهم ، وهذا كل ما في الأمر !
وتسأل البخاري : لماذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله أمته بهم في حجة الوداع في عرفات ومنى ؟ وما هو الأمر العملي الذي أراده منها ؟ !
يجيبك بخاري : بأن الموضوع مجرد خبر فقط ، أحب النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر أمته به لتأنس به ! كالخبر الصحفي للعلم ، وليس للعمل ! !
ولذلك لم يروِ بخاري في الأئمة الاثني عشر إلا هذه الرواية اليتيمة المجملة المبهمة ، التي لا يمكنك أن تفهمها أنت ولا قومك !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 56 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بينما روى عن حيض أم المؤمنين عائشة في حجة الوداع روايات عديدة ، واضحة مفهومة مكررة ، تبين كيف اهتم بها النبي صلى الله عليه وآله وأرسل معها من يساعدها على إحرامها وحجها . . إلخ .
أما مسلم فكان في صحيحه أكرم من بخاري قليلاً ، لأنه اختار رواية تدل على أن الاثني عشر هم خلفاء بعد النبي صلى الله عليه وآله !
ويكاد يفرح المسلم بأن الله تعالى حلَّ مشكلة الحكم بعد نبيه صلى الله عليه وآله فعين هؤلاء الأئمة عليهم السلام ، فلا يحتاج الأمر إلى سقيفة واختلاف وصراع دموي على الحكم من صدر الإسلام إلى يومنا هذا ، وملايين الضحايا على مذبح الخلافة ، وانقساماتٍ حادة في الأمة ، أدت إلى تراكم ضعفها ، حتى انهارت خلافتها وكيانها على يد العثمانيين !
لكن رواية مسلم تقول : كلا لم يحل النبي صلى الله عليه وآله مشكلة الحكم بعده لأنه أخبر عن عددهم ولم يخبر عن هويتهم وأسمائهم ؟ ولم يسأله أحد من عشرات الألوف الذين خاطبهم : من هم يا رسول الله ؟ !
ولو سأله أحد فسماهم أو سمى الأول منهم ، لرضيت بهم قبائل قريش وأطاعتهم ، لأنها قبائل مؤمنة مطيعة لله تعالى ولرسوله ، مترفعة عن حطام الدنيا !
وهكذا يقفل الشيخان بخاري ومسلم عليك الأبواب في أمر الأئمة الاثني عشر عليهم السلام ، ويقولان لك مقولة قريش : إن نبيك نفسه قصر في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 57 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
التبليغ والبيان ، وحاشاه ! وإنه تحدث في حجة الوداع عن رائحة الأئمة الاثني عشر فقط ، فَشُمَّهَا واسكت !
لكنك رغم ذلك تجد في مصادرهم نتفاً فيها عناصر مفيدة ! فقد رووا عن نفس الراوي سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال : ( يكون بعدي ) مما يدلك على أنهم بعده مباشرة . أكما تقدم من مسلم ، وأحمد : 5 / 92 ، و 94 : و / 99 و 108 والترمذي : 3 / 340 ، وتاريخ بخاري : 1 / 446 ، وصواعق ابن حجر / 20 : عن عبد الله بن عمر .
ثم رووا عن نفس الراوي أن الحديث كان في المدينة بعد حجة الوداع ، وأن قريشاً اهتمت به ! ففي مسند أحمد : 5 / 92 : أنه صلى الله عليه وآله قال : يكون ( بعدي . . . الخ . ثم رجع إلى منزله فأتته قريش فقالوا : ثم يكون ماذا ؟ قال ثم يكون الهرج ) . انتهى . فالأئمة الإثنا عشر بعده صلى الله عليه وآله وقد بشر بهم في المدينة أيضاً ! لكن ذلك لا يحل مشكلة الباحث ، بل يفتح باب الأسئلة على قريش ورواتها ، كما ترى في المسائل التالية :
2 - راوي الحديث عندهم صبي من الطلقاء !
لماذا حصر أتباع الخلافة روايات هذه القضية الضخمة براوٍ واحد هو جابر السوائي ، الذي كان صبياً ابن بضع سنوات في حجة الوداع وأبوه من الطلقاء ، ولم يثبت أن أباه أسلم ؟ ! ألم يروها غير هذا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 58 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الصبي من مئة ألف أو يزيدون ؟ أم فازت روايته بالجائزة لأنها تلائم الخلافة القرشية ، فسمحت بتدوينها !
بلى روت مصادرهم هذا الحديث عن : عبد الله بن مسعود . وأبي جحيفة ، وروته مصادرنا كالخزاز عن عمر بسند رواته سنيون !
لكن علماءهم اهتموا برواية جابر بن سمرة وصححوها وجعلوها المحور ، وجعلوا غيرها في الظل ، فلم يعتمدوها في بحثهم !
أما والد جابر ، أي سمرة بن جنادة السوائي فذكر ابن حجر في نسبه ( يُقاليْن ) : يقال : ( ابن عمرو بن جندب بن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة السوائي . ويقال : من قبيلة عامر بن صعصعة ) . ( تهذيب التهذيب : 2 / 35 ) . ويؤيد شك ابن حجر في نسبه أن الذهبي قال في سيره : 3 / 187 : ( وهو وأبوه من حلفاء زهرة ) .
وكان سمرة من الطلقاء ، ففي تهذيب التهذيب : 4 / 206 : ( وقرأت بخط الذهبي أنه مات في ولاية عبد الملك ابنه جابر ، وأما سمرة فقديم . وذكر ابن سعد أنه أسلم عند الفتح ، ولم أقف على من أرخ وفاته غير من تقدم ) . انتهى . ومعناه أن الذهبي يشك في أن سمرة قد أسلم ، لكن بخاري ذكر في تاريخه الكبير : 4 / 177 ، أن له صحبة .
أما جابر ابنه فهو فرخُ طليق كان صغيراً عند فتح مكة ، لأنه توفي سنة 76 ، ولأنه قال إن النبي صلى الله عليه وآله مسح على خد الصبيان المصلين في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 59 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المدينة بعد الفتح وكان هو منهم ( مسلم : 7 / 81 ) ومعناه أنه جاء بعد الفتح إلى المدينة وكان صبياً ابن عشر سنوات أو أقل وعاش ، وعاش مع خاله سعد بن أبي وقاص ، ثم سكن في الكوفة ومات سنة ست وسبعين ( أسد الغابة : 1 / 254 ) . ويظهر أن بعضهم شكك في إدراكه للنبي صلى الله عليه وآله فأجابهم : ( جالست رسول الله ( ص ) أكثر من مائة مرة ) . ( الطبقات : 1 / 372 ) . وقال العيني : 6 / 5 إنه روى 146 حديثاً اتفق الشيخان منها على اثنين .
فاعجب ما شئت لشيوخ قريش وكبار الصحابة ، حيث كان هذا الصبي الطليق أذكى منهم فاهتمَّ بمستقبل الأمة وأئمتها الربانيين عليهم السلام !
بل أعجب للخلافة القرشية كيف سيطرت على مصادر الحديث النبوي فلم تسمح بتدوين حديث في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام ، الذين بشر بهم رسول رب العالمين صلى الله عليه وآله ، إلا حديث هذا الصبي الذي كان عمره في حجة الوداع بضع سنين !
3 - كلمة السر المفقودة هوية الأئمة الاثني عشر عليهم السلام !
كان المسلمون يسألون النبي صلى الله عليه وآله عن صغير الأمور وكبيرها حتى أثناء خطبه ، وقد أخبرهم هنا بأمر كبير خطير ، عقائدي ، عملي ، مستقبلي ، ومصيري . . فادعوا أنه أبهمه وعَمَّاه ، ثم لم يسأله أحد من المسلمين عن هؤلاء الأئمة الربانيين عليهم السلام ، وواجب الأمة تجاههم ؟ !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 60 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ثم رواها نفس الراوي عن النبي صلى الله عليه وآله في المدينة فخفيت نفس الكلمة ! ففي الطبراني الكبير : 2 / 256 3 : عن ابن سمرة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يخطب على المنبر ويقول : إثنا عشر قيماً من قريش ، لا يضرهم عداوة من عاداهم ، قال : فالتفت خلفي فإذا أنا بعمر بن الخطاب وأبي في ناس ، فأثبتوا لي الحديث كما سمعت ) .
وقال عنه في مجمع الزوائد : 5 / 191 : رواه البزار عن جابر بن سمرة وحده ، وزاد فيه : ثم رجع ، يعني النبي ( ص ) إلى بيته فأتيته فقلت : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج . ورجاله ثقات ) . انتهى .
وعلى هذا صار الحديث : اثني عشر قيماً والناس يعادونهم ! وصار الذي أثبت له أن النبي صلى الله عليه وآله أبهم هويتهم جماعة فيهم عمر وأبوه . وبذلك تغير ومكان الحديث وصيغته وصفات الأئمة فيه ، والشخص الذي سأله عن الكلمة المفقودة ، لكنها ما زالت نفسها ، نفسها !
وعندما يقولون ( قريش ) في المدينة ، فهم يعنون عمر وأبا بكر ، ومعناه أنهما ذهبا إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله كما قال جابر وسألاه عما يكون بعد هؤلاء الاثني عشر عليهم السلام ! فهل يعقل أنهما لم يسألاه عنهم ؟ !
ومن الطريف أن جابر يقول هنا إنه هو ذهب إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسأله عما يكون بعد الأئمة الاثني عشر عليهم السلام !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 61 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والأعجب من الجميع أنهم رووا الحديث عن راوٍ آخر ، هو أبو جحيفة فخفيت عليه نفس الكلمة أيضاً ! فسأل عنها عمه وليس أباه ! ففي مستدرك الحاكم : 3 / 618 : عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : كنت مع عمي عند النبي صلى الله عليه وآله فقال : لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة ، ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال : قال يا بني : كلهم من قريش ) . وقال عنه في مجمع الزوائد : 5 / 190 : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، والبزار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح ) . انتهى . فهي ظاهرة لا مثيل لها في جميع أحاديث النبي صلى الله عليه وآله ! وهي دليل قاطع على أن أمر هذا الحديث مهم جداً جداً ، وأن في الأمر سراً يكمن في كلمة : كلهم من قريش ، أي من العشرين قبيلة ، وليسوا من بني هاشم فقط !
أقول : لعل الراوي الأصلي للحديث هو عمر بن الخطاب ، وهو الذي صححه لجابر بن سمرة وأمره أن يرويه هكذا ! فقد رواه الخزاز القمي الرازي في كفاية الأثر / 90 ، بسنده عن المفضل بن حصين ، عن عمر بدون ابن سمرة وأبيه ، وبدون أبي جحيفة وعمه ! قال عمر : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، ثم أخفى صوته فسمعته يقول : كلهم من قريش ) . انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 62 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
4 - أصل الحديث اثنا عشر إماماً كلهم من أهل بيتي
جاء في مسند أحمد : 5 / 100 و 107 ، أن الراوي لم يفهم الكلمة : ( ثم قال كلمة لم أفهمها ، قلت لأبي : ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش ) .
وفي الحاكم : 3 / 617 : ( وقال كلمة خفيت عليَّ ، وكان أبي أدنى إليه مجلساً مني فقلت : ما قال ؟ فقال كلهم من قريش ) .
وفي أحمد : 5 / 90 و 98 ، أن النبي صلى الله عليه وآله نفسه أخفاها وخفض بها صوته وهمس بها همساً ! ( قال كلمة خفية لم أفهمها ، قال : قلت لأبي ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش ) . وفي الحاكم : 3 / 618 : ( ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال : قال يا بني : كلهم من قريش ) . وفي الطبراني الكبير : 2 / 213 و 214 : ( عن جابر بن سمرة عن النبي ( ص ) قال : يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً ، لا يضرهم من خذلهم ، ثم همس رسول الله صلى الله عليه وآله بكلمة لم أسمعها ، فقلت لأبي : ما الكلمة التي همس بها النبي ( ص ) ؟ قال أبي : كلهم من قريش ) .
بينما تقول روايات أخرى إن الذي ضيع الكلمة هم الناس وليس الراوي ولا النبي صلى الله عليه وآله ! فالناس المحرمون لربهم في عرفات ، المودعون لنبيهم ، المنتظرون لكل كلمة تصدر منه صلى الله عليه وآله ، صاروا بزعم الرواية كأنهم في سوق مزدحم ، وصار فيهم مشاغبون يلغطون
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 63 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عند الكلمة الحساسة ليضيعوها على المؤمنين ، فيضجون ويكبرون ويتكلمون ويلغطون ويقومون ويقعدون ! ففي سنن أبي داود : 2 / 309 : ( قال : فكبر الناس وضجوا ، ثم قال كلمة خفية ، قلت لأبي : يا أبة ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) . ومثله أحمد : 5 / 98 ، وفي أحمد : 5 / 98 : ( ثم قال كلمة أصَمَّنِيها الناس ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) . وفي رواية مسلم المتقدمة ( صَمَّنيها الناس ) . وفي / 93 : ( وضج الناس . . ثم لغط القوم وتكلموا ، فلم أفهم قوله بعد كلهم ) . وفي نفس الصفحة : ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ، ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر خليفة . قال فجعل الناس يقومون ويقعدون . . . ) !
فهل فهمت لماذا ضاعت هوية الأئمة الربانيين ؟ ! وهل ضيعها الراوي ، أو النبي صلى الله عليه وآله ، أو الناس . . أو السلطة القرشية ؟ !
ثم هل عرفت الذين سألهم جابر عن كلمة السر ، فقالوا إن النبي صلى الله عليه وآله ضيع الأئمة وغنهم في قبائل قريش ، أو همس بهم همساً فسمعوها وحدهم ، دون المسلمين ؟ !
ثم إن أكثر الروايات كبخاري ومسلم تقول إنه سأل أباه سمرة ، فتكون الشهادة بتوسيع دائرة الإمامة والقيادة من العترة إلى قريش ، متوقفة على وثاقة سمرة الذي لم يثبت أنه دخل في الإسلام ! لكن في رواية أحمد : 5 / 92 : ( فسألت القوم كلهم فقالوا : قال كلهم من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 64 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
قريش ) ، ونحوه / 90 ، وفي / 108 : ( فسألت بعض القوم ، أو الذي يلي : ما قال ؟ قال كلهم من قريش ) ، وفي : 5 / 99 ، و 108 : ( فخفي عليَّ فسألت الذي يليني ) وفي معجم الطبراني الكبير : 2 / 249 ، قال : إن القوم زعموا زعماً : ( فزعم القوم أنه قال : كلهم من قريش ) !
فهل يمكن لباحث أن يقبل ضياع أهم كلمة تحدد هوية هؤلاء الأئمة الربانيين عليهم السلام ، الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله في جو هادئ منصت في عرفات ومنى ؟ ! ثم لم يسأله أحد من مئة وعشرين ألفاً كانوا يستمعون إليه ويودعونه ، عن الكلمة التي هي لب الموضوع !
ثم بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله في جو هادئ على منبر مسجده في المدينة فضاعت نفس الكلمة التي تحدد هوية الأئمة عليهم السلام ولم يسأله عنها أحد ولا هو بينها لهم ! وذهبت ( قريش ) إلى بيته صلى الله عليه وآله لتسألته عما يكون بعد هؤلاء الأئمة عليهم السلام ، ولم تسأله عنهم ولا عن عصورهم !
ومما يزيدك شكاً في تحريف قريش لهذا الحديث أنهم رووا أن النبي صلى الله عليه وآله اهتم كثيراً في عرفات بأن يصل كلامه إلى كل الحاضرين ، فكان يخطب وهو راكبٌ على ناقته ! ففي أحمد : 5 / 87 : ( ثم خفي من قول رسول الله ( ص ) قال : وكان أبي أقرب إلى راحلة رسول الله مني ) !
بل رووا أن النبي صلى الله عليه وآله أمر رجلاً جَهْوَرِيّ الصوت أن يلقي خطبته جملةً جملة ! ففي مجمع الزوائد : 3 / 270 : ( كان ربيعة بن أمية بن خلف ا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 65 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الجمحي وهو الذي كان يصرخ يوم عرفة تحت ناقة رسول الله ( ص ) وقال له رسول الله ( ص ) : أصرخ ، وكان صَيِّتاً ، أيها الناس أتدرون أيَّ شهر هذا ؟ فصرخ ، فقالوا : نعم ، الشهر الحرام . قال فإن الله عز وجل قد حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم . . . ثم قال : أصرخ : هل تدرون أي بلد هذا . . . . أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت ثدي ناقته . . . ) .
من أجل هذا ، لا يمكن الثقة بقولهم إن النبي صلى الله عليه وآله أخفى هوية هؤلاء الأئمة عليهم السلام وقال إنهم من قبائل قريش العشرين ، لأن هذا نفس الكلام الذي قاله زعماء قريش عندما دبروا السقيفة خفية بدون علم أهل البيت عليهم السلام ، وأبعدوهم عن خلافة النبي صلى الله عليه وآله ! فقالوا إن قريشاً تأبى أن تجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة ، فيجب أن تدور الخلافة بين بطون قريش العشرين أو أكثر !
فالصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله حدد الأئمة الاثني عشر بعترته عليهم السلام كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيزنا ، فكانوا كما قال الأول :
أدَمْتَ لعَمري شُرْبَك المحضَ صابحاً وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا
وكما قال أيضاً عليه السلام : ( أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 66 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأدخلنا وأخرجهم . بنا يُستعطى الهدى ، ويستجلى العمى . إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ) . ( نهج البلاغة : 1 / 82 ، و : 2 / 27 ) .
5 - من المحال أن يكون الوعد الإلهي بقيادة مجهولة !
الوعد الإلهي لهذه الأمة باثني عشر إماماً بعد نبيها صلى الله عليه وآله ، وعدٌ حكيمٌ من لدن حكيم خبير ، على سنته تعالى في الأمم السابقة ، لحل أصعب مشكلة تواجهها الأمم بعد أنبيائها ! فكيف تقبل عقولنا أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله أن يبشر أمته بقادة ضائعين في عشرين قبيلة ؟ !
لقد وعد الله على لسان عيسى عليه السلام برسول يأتي من بعده بخمس مئة سنة ، ومع ذلك سماه باسمه فقال : وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف : 6 ) ، فكيف يعقل أنه وعد الأمة الخاتمة على لسان نبيها بقادتها الربانيين القيمين عليها بعده ، ثم لم يسمهم ولا سمى أولهم على الأقل ، ولا سمى أسرتهم ، بل اكتفي بالقول إنهم من بضع وعشرين قبيلة تنتسب إلى إسماعيل عليه السلام ! وهل معنى ذلك إلا أن ننسب إلى الله عز وجل أنه أشعل الصراع بين هذه القبائل التي تتناحر على فرس وبعير وما هو دون رئاسة الدولة بآلاف المرات !
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 67 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
6 - من قريش ، لكن من عترة النبي صلى الله عليه وآله
لو صرفنا النظر عن الإشكالات المتقدمة ، وقبلنا أن الحديث صدر عن النبي صلى الله عليه وآله بصيغته في مصادرهم ، فهو إذن يقول : إن قادة الأمة الخاتمة اثنا عشر ربانياً قيماً على الأمة من قبائل قريش .
ولا يمكن أن يختارهم الله من غير بني هاشم بعد أن اختارهم على بطون قريش ! ففي صحيح مسلم : 7 / 58 ، عن واثلة بن الأسقع : ( سمعت رسول الله ( ص ) يقول : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ) . ورواه الترمذي : 5 / 243 و 245 ، وصححه ثم روى أحاديث بمضمونه ، منها : عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم ، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض ( الكَبْوَة : المزبلة ! ) فقال النبي : إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين ، ثم خيَّرَ القبائل فجعلني من خير قبيلة ، ثم خيَّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً ) . وحسنه ، ثم روى نحوه وصححه .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 68 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وفي صحيح بخاري : 4 / 138 : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . . إلى قوله يرزق من يشاء بغير حساب . قال ابن عباس : وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم ، وآل عمران وآل ياسين ، وآل محمد ( ص ) ) . انتهى .
إلى آخر ما ورد في اختيار الله لبني هاشم واصطفائهم وتفضيلهم ، وحقهم على الأمة ، فهو يدل على أن الأئمة الاثني عشر هم آل محمد صلى الله عليه وآله الذين اصطفاهم الله كآل إبراهيم .
7 - أحاديث النبي صلى الله عليه وآله فسرت الاثني عشر عليهم السلام
كلام النبي صلى الله عليه وآله كالقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وما صدر عنه صلى الله عليه وآله في حق عترته : علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريته عليهم السلام واتفق عليه المسلمون وحكموا بصحته ، لا يبقي شكاً في أنه يقصد هؤلاء الذين مدحهم في مناسبات عديدة ، وبيّن للأمة أن الله اختارهم ومدحهم وطهرهم من الرجس تطهيراً ، وأوجب على المسلمين مودتهم ، وأوجب عليهم أن يقرنوهم به ويصلوا عليهم في صلاتهم ، وحرم عليهم الصدقة وجعل لهم الخمس في ميزانية الدولة وجعلهم وصيته وأمانته في أمته ، عديلاً لكتاب الله تعالى وسماهما
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 69 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( الثقلين ) . فهذه الأحاديث عبرةٌ لمن كان له قلب ، وكفايةٌ لمن ألقى السمع ، وشهادةٌ لمن أراد الحجة .
8 - الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام في التوراة
قال ابن كثير في النهاية : 6 / 280 : ( في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه : إن الله تعالى بشر إبراهيم بإسماعيل ، وأنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً ) . انتهى .
وهو يقصد ما في التوراة الفعلية - العهد القديم والجديد : 1 / 25 - طبعة مجمع الكنائس الشرقية ، في سفر التكوين ، الإصحاح السابع عشر ، قال :
( 18 - وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك . 19 - فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحق ، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده . 20 - وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيراً جداً . اثني عشر رئيساً يلد ، وأجعله أمة كبيرة . 21 - ولكن عهدي أقيمه مع إسحق ، الذي تلده لك سارة في هذا الوقت ، في السنة الآتية ) . انتهى . وقد ترجمها كعب الأحبار ( قيماً ) وترجمها بعضهم ( إماماً ) وهذا يؤيد بشارة نبينا صلى الله عليه وآله بالأئمة الاثني عشر من عترته عليهم السلام .
* *
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 70 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
9 - اثنا عشر شهراً ، وإمام هدى ، وإمام ضلال !
ذكرت روايات خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع ، أنه ذكر الأئمة الاثني عشر ، وذكر استدارة الزمن كأول ما خلق الله الأرض ، وقرأ آية : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ . . ففي صحيح بخاري : 5 / 126 ، أنه صلى الله عليه وآله قال : ( الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب ) . و : 5 / 204 ، و 6 / 235 . وأبو داود : 1 / 435 . وأحمد : 5 / 37 .
ورواه مجمع الزوائد : 3 / 265 : بصيغة أقرب إلى أسلوب النبي صلى الله عليه وآله جاء فيها : ( ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ثم قرأ : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم . ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . . ) . انتهى . وذكر المفسرون والشراح أن المعنى إلغاء النسئ أي تأخير الشهور الحُرُم الذي ابتدعه العرب ، وأن النبي صلى الله عليه وآله أرجع التوقيت إلى هيئته الأولى يوم خلق الله السماوات والأرض !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 71 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لكنه تفسير غير مقنع ، فإن نسئ العرب لم يكن مؤثراً في الزمن والفلك حتى يرجع الزمن إلى حالته الأولى بإلغائه ! ولا دليل على ارتباط استدارة الزمان بالنسئ في كلامه صلى الله عليه وآله أبداً .
فالمرجح أنه صلى الله عليه وآله وهو يودع أمته ، حدثها عن استدارة الزمن برحيله ، وبدء مرحلة جديدة من قوانين الهداية والضلالة ! فكما أن حركة الزمن المادي قوامها الأشهر الإثنا عشر ، فحركة الزمن بقانون الهداية والضلال قوامها الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام ، الذين ينسجم وجودهم التكويني والمادي مع نظام الاثني عشر شهراً في تكوين السماوات والأرض ، شبيهاً بعنصري السلب والإيجاب في الطاقة ، والفجور والتقوى في النفس البشرية .
وقد ورد عن أهل البيت عليهم السلام تفسير الآية بالأئمة أو بالمعصومين الأربعة عشر عليهم السلام ، وأن الأربعة الحرم هم الذين اسمهم محمد عليهم السلام .
ومما يؤيد ذلك : قداسة عدد الاثني عشر في القرآن ، ونظام الاثني عشر نقيباً الذي شرعه الله في بني إسرائيل ، والاثنا عشر حوارياً لعيسى عليه السلام ، وطلب النبي صلى الله عليه وآله من الأنصار في أول بيعتهم أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً ، ثم بشر الأمة بالأئمة الاثني عشر من بعده ، ثم أخبرها أنه يقابلهم اثنا عشر ( إماماً ) مضلاً من أصحابه ، وشدد على
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 72 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
التحذير منهم ! فمقابل كل إمام هدى إمام ضلال ، كما أن مقابل كل نبي عدو أو أكثر من المجرمين ، يعملون لإضلال الناس !
روى مسلم : 8 / 122 ، أن النبي صلى الله عليه وآله قال : ( في أصحابي اثنا عشر منافقاً فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط . . . وقال حذيفة : أشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) . وأحمد : 4 / 320 ، وغيرها ، وغيره كثيرون .
وهؤلاء المنافقون هم الذين قال الله عن بعضهم : وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ، يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً . وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً . ( الفرقان : 27 - 31 ) .
10 - درجات الصحة التي منحوها لصيغ الحديث
في مصادر السنيين ثلاث صيغ لحديث الأئمة الاثني عشر ، وثلاثة رواة : وقد اتفقوا على تصحيح حديث ابن سمرة ، وتحسين حديث أبي جحيفة المشابه له فصحه بعضهم . واختلفوا في تصحيح حديث
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 73 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ابن مسعود ، الذي ينسف السقيفة ، بحجة أن في سنده مجالد بن سعيد ، الذي لم يوثقه إلا النسائي وغيره ، وضعفه آخرون .
ولا بد أن نضيف راويين آخرين هما : سمرة السوائي والد جابر ، وعمر بن الخطاب ، لأنه سألهما عن الكلمة الخفية فأخبراه بها . بل يجب أن نعدَّ عمر بن الخطاب راوياً مستقلاً ، لرواية كفاية الأثر عنه .
ونص حديث ابن مسعود كما في الزوائد : 5 / 190 : ( عن مسروق قال : كنا جلوساً عند عبد الله وهو يُقرؤنا القرآن فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله ( ص ) كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد مذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ولقد سألنا رسول الله ( ص ) فقال : اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل . رواه أحمد وأبو يعلى والبزار ، وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه الجمهور ، وبقية رجاله ثقات ) . انتهى .
وقد حسنه ابن حجر في الصواعق / 20 ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء / 10 ، قال : ( وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود ) وقال البوصيري : ( رواه مسدد وابن راهويه وابن أبي شيبة وأبو يعلى وأحمد بسند حسن ) . ( كنز العمال : 6 / 89 ) . وروته مصادرهم كأحمد : 1 / 398 و 406 ، وكنز العمال : 6 / 89 ، عن ابن سعد وابن عساكر ، و : 12 / 32 ، عن أحمد والطبراني وابن حماد ، وغيرهم . وروته مصادرنا بسند ليس فيه مجالد كالإختصاص للصدوق / 233 ، والخصال / 466 وكفاية الأثر للخزاز / 73 ، وغيبة النعماني / 106 .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 74 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ولكن ذلك لا يشفع للحديث عندهم ، لأنه يجعل هؤلاء الأئمة الحكام الشرعيين للأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله ، ويدين خلافة السقيفة !
11 - الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام لا يحتاجون إلى اختيار ولا بيعة
ما دام الله تعالى قد اختارهم فواجب الأمة أن تطيعهم : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً . فالأمة تملك اختيار حكامها في حالة عدم اختيار الله تعالى لهم ، وفي حدود ما ثبت في الشريعة ، أما إذا اختار الله إماماً فقد قضي الأمر : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) . ( الأحزاب : 36 ) وهو الحكيم الخبير بما يصلح عباده ، واختياره للناس أفضل من اختيارهم لأنفسهم . وبيعة الناس للأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام إنما هي بيعة اعتراف والتزام بحقهم في الإطاعة ، تؤكد هذا الحق ولا تنشؤه .
وكان النبي صلى الله عليه وآله يأخذ البيعة في المنعطفات الهامة في حياة الأمة ، لتأكيد التزامها بطاعته في السراء والضراء والحرب والسلم !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 75 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ولذلك بلغهم ولاية علي عليه السلام في غدير خم ، أمر أن تنصب له خيمة وأن يهنئه المسلمون بولايته التي أمر الله تعالى بها ويبايعوه ، فهي تهنئة ثم بيعة بمعنى إعلان الالتزام باختيار الله تعالى .
* *
12 - قرشية الحديث ألقاها عمر في البحر
من المفارقات أن عمر بن الخطاب مؤسس نظام الخلافة القرشية ، ورافع شعار ( الخلافة لا تكون إلا في قريش ) الذي احتج على الأنصار في السقيفة بأن قريشاً قبيلة النبي صلى الله عليه وآله فهم أحق بسلطانه ، وقال : من ذا ينازعنا سلطان محمد ونحن قومه وعشيرته ؟ ! فأسكت بذلك الأنصار مع أن القرشيون كانوا في بلدهم وضيافتهم ، وغلب هذا المنطق القبلي بسبب مناصرة الطلقاء وتفرق الأنصار .
لكن عمر نفسه تخلى عند وفاته عن شعار قرشية الخليفة وألقى به في البحر ، وقال لو كان سالم حياًّ لعهد إليه بالخلافة ، وسالم فارسي وهو عبدٌ لأبي حذيفة الأموي ! قال في تاريخ المدينة : 3 / 140 : ( لما طعن عمر عنه قيل له : لو استخلفت ؟ قال : لو شهدني أحد رجلين استخلفته أني قد اجتهدت ولم آثم أو وضعتها موضعها : أبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة ) . وفي مجمع الزوائد : 4 / 220 : ( فقال عمر : قد
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 76 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
رأيت من أصحابي حرصاً سيئاً . . . لو أدركني أحد رجلين ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت : سالم مولى أبي حذيفة ، وأبو عبيدة بن الجراح ) . انتهى . وبذلك فتح عمر الباب لأبي حنيفة فألغى شرط القرشية من الخلافة لمصلحة السلاجقة والمماليك والعثمانيين الأتراك ، فتسمَّوْا بخلفاء النبي صلى الله عليه وآله ونشروا مذهب أبي حنيفة ، وبنوا قبره !
موقف المذاهب في عصرنا من شرط القرشية في الحاكم
الأئمة الربانيون عندنا هم عترة النبي صلى الله عليه وآله : عليٌّ والأحد عشر من ولده عليهم السلام . وبما أن خاتمهم الإمام المهدي عليه السلام غائب ، فالحكم في عصرنا يكون للفقيه بالوكالة عنه ، أو يكون للأمة ، ولا نشترط أن يكون الفقيه قرشياً ، أما الشيعة الزيدية فالإمامة عندهم مفتوحة لكل عالم يقوم بالسيف من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام .
أما السنيون فمنهم من يوافقنا على إسقاط شرط القرشية في الحاكم عملاً بقول الخليفة عمر ، وفتوى أبي حنيفة ، وهم قلة ، وأكثرهم متعصبون لقريش أكثر من عمر ، كالوهابية ، فقد صحح الألباني حديث اشتراط القرشية في الحاكم في صحيحته برقم 1552 ، وقال في : 4 / 70 : ( ولذلك فعلى المسلمين إذا كانوا صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية ، أن يتوبوا إلى ربهم ويرجعوا إلى دينهم ويتبعوا أحكام شريعتهم ، ومن ذلك أن الخلافة في قريش ، بالشروط
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 77 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المعروفة في كتب الحديث والفقه ) . وصحح في : 3 / 7 ، حديث الخلافة في قريش رقم 1006 ، وقال : ( وفي هذه الأحاديث الصحيحة رد صريح على بعض الفرق الضالة قديماً ، وبعض المؤلفين والأحزاب الإسلامية حديثاً ، الذين لا يشترطون في الخليفة أن يكون عربياً قرشياً . . . ) .
وصحح حديثاً آخر برقم 1851 يقول : ( الخلافة في قريش والحكم في الأنصار والدعوة في الحبشة ) . وعلى فتواه يجب أن يكون الحاكم في عصرنا من قريش ، والوزراء من الأنصار ، ووزير الأوقاف والإعلام والمفتي من الأفارقة ، والأحوط أن يكونوا من أثيوبياً !
13 - تخبط الشراح السنيين في تفسير الأئمة الاثني عشر عليهم السلام
لا يدل حديث الأئمة الاثني عشر عليهم السلام على أنهم يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله ، بل يدل على أن إمامتهم تبدأ بعد وفاته صلى الله عليه وآله مباشرة ، سواء كانوا حكاماً أو محكومين . وقد نصت رواية ابن سمرة وابن مسعود على أن الأمة تخذلهم وتعاديهم ، ففي الطبراني الكبير : 2 / 213 : ( يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً لا يضرهم من خذلهم . . . إثنا عشر قيِّماً من قريش لا يضرهم عداوة من عاداهم ) ، وبذلك ينطبق الحديث على الأئمة الاثني عشر من عترة النبي صلى الله عليه وآله .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 78 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كما أن صيغ أحاديثهم تدل على أن مدتهم طويلة ، بل ثبت أنهم يبقون إلى آخر الدنيا ، ولا يستوعب وجودهم هذه العصور إلا بأن يمد الله في عمر خاتمهم عليهم السلام كما نصت أحاديثنا .
فقد روى أبو الصلاح الحلبي في تقريب المعارف / 173 : بسنده عن أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لا يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش ، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها ) . ونحوه إعلام الورى / 364 ، وفي الكافي : 1 / 179 و 534 ، أن أبا حمزة سأل الإمام الصادق عليه السلام : ( أتبقى الأرض بغير إمام ؟ قال : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ) !
فالمتعين تفسير الحديث النبوي بالأئمة الاثني عشر من عترة النبي صلى الله عليه وآله ، لأن تفسيره بغيرهم ترد عليه إشكالات كثيرة ، كما قال الكنجي في ينابيع المودة / 446 : ( قال بعض المحققين : إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله اثنا عشر ، قد اشتهرت من طرق كثيرة . . . فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان عُلم أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله من حديثه هذا الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته عليهم السلام ، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقِلَّتِهم عن اثني عشر ، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر ، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز ، ولكونهم من غير بني هاشم ، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال : كلهم من بني هاشم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 79 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
في رواية عبد الملك عن جابر . . . ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسية لزيادتهم على العدد المذكور . . . فلا بد من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه وآله ، لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلَّهم وأورعهم وأتقاهم ، وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً ، وأكرمهم عند الله ) . انتهى .
لكن الشراح السنيين لا يقبلون هذا التفسير ، لأنهم بذلك يصيرون شيعة ! ولذا قالوا لأتباعهم إن حديث الأئمة الاثني عشر صحيح ، لكن لا تقبلوا تفسير الشيعة ، ونحن نفسره لكم ! وإلى يومنا هذا لم يجدوا تفسيراً مقنعاً ولن يجدوا ! لأنهم يريدون تطبيقه على الخلفاء الذين حكموا بعد النبي صلى الله عليه وآله من الخلفاء الأربعة ، وابن الزبير ، وسلسلة خلفاء بني سفيان وبني مروان ، ثم بني العباس ، وبعضهم يضيف أمويي الأندلس ، والسلاجقة ، والمماليك ، والأتراك ! فيجدونهم أضعاف العدد المطلوب ، فيختارون أحسنهم ويخلعون عليهم صفة الأئمة الربانيين ويحذفون الباقي ! وهي تفسيرات اعتباطية لتكميل العدد ، لا تستند إلى أساس ولا تقف عند حد ، كمن يختار اثني عشر شخصاً من رؤساء المسلمين وملوكهم المعاصرين ، ويقول إنهم الأئمة الإثنا عشر الربانيون الذين اختارهم الله تعالى للأمة على لسان رسوله صلى الله عليه وآله ! فيواجه إشكالات لا فكاك له منها :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 80 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
منها : أنهم أئمة ربانيون فلا بد أن يكونوا متفقين ، لأنهم على خط واحد وهدى من ربهم ونبيهم ، بينما خلفاء السنيين وأئمتهم مختلفون متقاتلون . . فهل سمعتم بحرب وقتال بين الأنبياء عليهم السلام حتى تقنعونا بإمكانها بين الأئمة الربانيين عليهم السلام ، وكيف يكونون ربانيين وبعضهم يكيد للآخر ويقاتله ، ويفسقه ويكفره ، أو يذبحه ذبح الخروف ، أو يسمل عينيه ويقطع لسانه ويديه ورجليه ، لكي يجلس مكانه !
ومنها : ما دام النبي صلى الله عليه وآله قال : إنهم يكونون من بعده ، ولم يقل إنهم يحكمون ، فلماذا يلزمون أنفسهم بالعثور عليهم في الحكام فقط ؟ ! وقد حكم أكثر علماء الجرح والتعديل بأن وصفهم بأنهم يحكمون وتجتمع عليهم الأمة ، زيادة منكرة .
ومنها : أنهم بهذا التفسير يصيرون ملكيين أكثر من الملك والخليفة فيعطون صفة الإمام الرباني لحكام يحبونهم ، ويثبتون لهم ما لم يدَّعوه هم لأنفسهم ، ابتداءً من عمر بن الخطاب إلى آخر خلفاء العثمانيين ! فلو كان أحدهم إماماً بأمر الله تعالى لعرف نفسه ! بينما لم يدَّع أحد منهم أنه إمام من الله تعالى إلا أئمة العترة النبوية عليهم السلام .
ومنها : أن أكثر الذين يعدونهم أئمة ربانيين ، ملعونون على لسان النبي صلى الله عليه وآله ! فهل رأيتم أمة يحكمها أئمة ملعونون على لسان نبيها ؟ ! فقد ثبت عندهم أن النبي صلى الله عليه وآله لعن الحكم وابنه مروان ونفاهما من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 81 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المدينة ، ورأى أبا سفيان راكباً على جمل يجره معاوية ويقوده ولده الآخر ، فلعن الراكب والقائد والسائق ! ( مجمع الزوائد : 1 / 113 ) .
لهذه الإشكالات وغيرها ، كثرت أقوالهم في تفسير الأئمة المبشر بهم عليهم السلام ، حتى زادت عن ثلاثين قولاً ، وكلها معلولة ينقض بعضها بعضاً . ولعل أقدمها تفسير ابن حبان كما في عون المعبود في شرح أبي داود : 11 / 361 : قال : ( وأما : الخلفاء اثنا عشر ، فقد قال جماعة منهم أبو حاتم بن حبان وغيره : إن آخرهم عمر بن عبد العزيز ، فذكروا الخلفاء الأربعة ، ثم معاوية ، ثم يزيد ابنه ، ثم معاوية بن يزيد ، ثم مروان بن الحكم ، ثم عبد الملك ابنه ، ثم الوليد بن عبد الملك ، ثم سليمان بن عبد الملك ، ثم عمر بن العزيز . وكانت وفاته على رأس المائة ) . انتهى . وقد أثبت التفسير الأموي اسم يزيد بن معاوية فجعله من الأئمة الربانيين عليهم السلام ! وهي درجةٌ لا يطمع فيها يزيد ولا محبوه ، لأنهم إلى اليوم يكافحون لإثبات إسلامه وعدم ارتداده بسبب تصريحاته وجرائمه في كربلاء والمدينة والكعبة !
كما أن التفسير الأموي حذف اسم المهدي عليه السلام مع أنه إمام رباني بأحاديث صحيحة . واسم الإمام الحسن عليه السلام مع أنه بايعه المسلمون ما عدا أهل الشام وحكم ستة أشهر ، وأثبته السنييون المتأخرون عنهم .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 82 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بل يجب أن يثبتوا الحسنين عليهما السلام ، لأن النبي صلى الله عليه وآله نص على أنهما سيدا شباب أهل الجنة ، وإمامان قاما أم قعدا .
كما أن التفسير الأموي تجاهل حديث ( سفينة ) الآتي وهو صحيح عندهم ينص على أن الخلافة ثلاثون سنة وبعدها الملك العضوض ، فهو ينفي خلافة الأمويين والعباسيين ، لأن صاحب الملك العضوض الظالم لا يمكن أن يكون إماماً ربانياً !
ثم جاء علماء العهد العباسي فنسخوا التفسير الأموي وأدخلوا بعض ملوك بني عباس في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام ، وحذفوا بني أمية كلاً أو بعضاً ! لكنهم بشكل عام ظلوا إلى اليوم يدورون في فلك التفسير الأموي ! قال السيوطي في تاريخ الخلفاء / 10 : ( قال القاضي عياض : لعل المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة ، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد ، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية ، فاستأصلوا أمرهم . قال شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري : كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه ، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة : كلهم يجتمع عليه الناس . قلت : وعلى هذا فقد وجد من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 83 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الإثنا عشر خليفة : الخلفاء الأربعة ، والحسن ومعاوية ، وابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، هؤلاء ثمانية . ويحتمل أن يضم إليهم المهتدي من العباسيين ، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، وكذلك الظاهر ، لما أوتيه من العدل ، وبقي الاثنان المنتظران : أحدهم المهدي ، لأنه من آل بيت محمد ( ص ) ) . انتهى .
لاحظ أن السيوطي وابن حجر أخذا بزيادة ( كلهم تجتمع عليهم الأمة ) مع أنها لم تثبت ، وقال الألباني الوهابي وغيره : إنها منكرة .
كما أنهم تجاوزوا حديث سفينة الآتي الصحيح عندهم !
ويظهر أن السيوطي لم يقرأ كلام عياض وابن حجر جيداً ! فعياض لم يجزم بشئ ، بل ذكر وجوهاً عديدة بصيغة قيل ويحتمل ، ورجح ابن حجر الاحتمال الثالث منها ترجيحاً فقط ، قال : ( وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه أرجحها الثالث من أوجه القاضي ) .
وقد أورد في عون المعبود : 11 / 362 ، وجوهاً ومزيداً من تحيرهم ! ونقل عن صاحب " قرة العينين " أن ملك بني أمية عضوض وخلافتهم ليست خلافة نبوة ومع ذلك فسر بهم حديث الأئمة الربانيين ! وحذف منهم الإمام الحسن والإمام المهدي عليهما السلام ، كما حذف ابن الزبير الذي أثبته مالك وآخرون . . إلخ . ! ثم انتقد الذين غلطوا في تفسيره فقال : ( وقد وقعت أغلاطٌ كثيرةٌ في بيان معنى هذا الحديث ) !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 84 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقد كان وعد الناس بأن يرفع المعضلة فزادها إعضالاً ، وأن يحل المشكلة فزادها إشكالاً !
كما اعترف ابن الجوزي في كشف المشكل بتحريف الرواة فقال : ( قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلبت مظانه ، وسألت عنه ، فلم أقع على المقصود به ، لأن ألفاظه مختلفة ، ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة ) . ( فتح الباري : 13 / 183 ) .
وقد كتب ابن كثير في النهاية : 3 / 248 ، صفحات في ذكر الوجوه ومناقشة تفسير البيهقي وغيره ، قال : ( ذكر الإخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش وليسوا بالاثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة ، فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يلِ أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن ، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر بسرداب سامرا ، وليس له وجود ولا عين ولا أثر . بل هؤلاء الأئمة الإثنا عشر المخبر عنهم في الحديث : الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وعمر بن عبد العزيز . . .
ثم قال : فهذا الذي سلكه البيهقي وقد وافقه عليه جماعة من أن المراد بالخلفاء الاثني عشر المذكورين في هذا الحديث ، هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق ، الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد ، فإنه مسلك فيه نظر ، وبيان ذلك :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 85 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أن الخلفاء إلى زمن الوليد بن يزيد هذا أكثر من اثني عشر على كل تقدير ، وبرهانه أن الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة : الخلافة بعدي ثلاثون سنة . ثم بعدهم الحسن بن علي كما وقع ، لأن علياً أوصى إليه وبايعه أهل العراق ، وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام ، حتى اصطلح هو ومعاوية كما دل عليه حديث أبي بكرة في صحيح البخاري . ثم معاوية ، ثم ابنه يزيد بن معاوية ، ثم ابنه معاوية بن يزيد ، ثم مروان بن الحكم ، ثم ابنه عبد الملك بن مروان ، ثم ابنه الوليد بن عبد الملك ، فهؤلاء خمسة عشر ، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك . فإن اعتبرنا ولاية الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر ، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز ، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الاثني عشر يزيد بن معاوية ، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز ، الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه وعدُّوه من الخلفاء الراشدين ، وأجمع الناس قاطبة على عدله وأن أيامه كانت من أعدل الأيام ، حتى الرافضة يعترفون بذلك .
فإن قال : أنا لا أعتبر إلا من اجتمعت الأمة عليه ، لزمه على هذا القول أن لا يعدّ علي بن أبي طالب ولا ابنه ، لأن الناس لم يجتمعوا عليهما ، وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما ، وعدّ معاوية
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 86 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد ، ولم يقيد بأيام مروان ولا ابن الزبير ، فإن الأمة لم تجتمع على واحد منهما . . . ولكن هذا لا يمكن أن يسلك ، لأنه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر ، وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة بل والشيعة ، ثم هو خلاف ما دل عليه نصاً حديث سفينة عن رسول الله ( ص ) أنه قال : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً ) . انتهى .
ومن أعقل علمائهم وأكثرهم إنصافاً في هذا الموضوع : ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 ، فقد اعترف في عارضة الأحوذي بشرح الترمذي بأن تطبيق الحديث على هؤلاء يصل إلى طريق مسدود ، ورجح أن يكون الحديث ناقصاً ، لأن الموجود منه لا يفهم له معنى . . قال : ( روى أبو عيسى عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله ( ص ) : يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلهم من قريش . صحيح . فعددنا بعد رسول الله ( ص ) اثني عشر أميراً فوجدنا : أبا بكر ، عمر ، عثمان ، علي ، الحسن ، معاوية ، يزيد ، معاوية بن يزيد ، مروان ، عبد الملك ، مروان بن محمد بن مروان ، السفاح ، المنصور ، المهدي ، الهادي ، الرشيد ، الأمين ، المأمون ، المعتصم ، الواثق ، المتوكل ، المنتصر ، المستعين ، المعتز ، المهتدي ، المعتضد ، المكتفي ، المقتدر ، القاهر ، الراضي ، المتقي ، المستكفي ، المطيع ، الطائع ، القادر ، القائم ، المقتدي أدركته
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 87 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
سنة أربع وثمانين وأربعمائة وعهد إلى المستظهر أحمد ابنه ، وتوفي في المحرم سنة ست وثمانين ، ثم بايع المستظهر لابنه أبي منصور الفضل ، وخرجت عنهم سنة خمس وتسعين . وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة إلى سليمان بن عبد الملك . وإذا عددناهم بالمعنى كان معنا منهم خمسة : الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز ! ولم أعلم للحديث معنى ، ولعله بعض حديث ) ! انتهى .
فاتضح لك أن المفسرين السنيين حاولوا تفسير هؤلاء الأئمة الاثني عليهم السلام بملوك بني أمية فواجهوا مشكلة زيادة عددهم على الاثني عشر ، وأن الحذف والإثبات لا ضابط له !
والمشكلة الأكبر أن هذا الثوب الإلهي جبة كبيرة ، لم يدعها أئمتهم لأنفسهم ! فمثل هؤلاء المشايخ كمن يدعي نبوة لنبي ، ونبيه المزعوم لا خبر عنده ، لا من ربه ولا من الناس !
14 - تورط الشراح السنيين في حديث سفينة
( سفينة ) غلام لأم سلمة ، سموه سفينة لأنه كان يحمل على ظهره كثيراً ، وقد وثقه علماء الجرح والتعديل السنيون ، وروى عنه بخاري وغيره حديثاً يتعلق بالموضوع وصححوه . قال الترمذي : 3 / 341 : ( عن سعيد بن جمهان قال : حدثني سفينة قال : قال رسول الله ( ص ) : الخلافة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 88 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
في أمتي ثلاثون سنة ، ثم ملكٌ بعد ذلك عضوض . ثم قال لي سفينة : أمسك عليك : خلافة أبي بكر ، ثم قال : وخلافة عمر ، وخلافة عثمان ، ثم قال : أمسك خلافة علي ، فوجدناها ثلاثين سنة . قال سعيد : فقلت له : إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم ؟ قال : كذب بنو الزرقاء ! بل هم ملوك ، من شر الملوك . وفي الباب عن عمر وعلي قالا : لم يعهد النبي ( ص ) في الخلافة شيئاً . هذا حديث حسن ، قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان ) . ورواه أحمد في مسنده : 5 / 220 ، و و 221 ، وحذف منه كلام سفينة عن ملوك بني أمية . وقال عنه الحاكم : 3 / 71 : وقد أسندت هذه الروايات بإسناد صحيح مرفوعاً إلى النبي ( ص ) . ورواه ابن كثير في النهاية : 3 / 198 : ثم روى بعده عن عبد الرحمن أبي بكرة قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : خلافة نبوة ثلاثون عاماً ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء ، فقال معاوية : رضينا بالملك ) .
فحديث سفينة الصحيح عندهم إخبار نبوي عن انحراف الأمة بعد الثلاثين سنة ، وعدم شرعية الحكم فيها . والخلفاء الشرعيون في هذه الفترة لا يزيدون عن خمسة ، فلا يصح عد من بعدهم خلفاء وتطبيق الحديث النبوي عليهم ! لكن أكثر مشايخهم أشربوا في قلوبهم حب بني أمية ، وارتكبوا التناقض لجعل ملوكهم العضوضين أئمة ربانيين وسرقوا لهم حديث الأئمة الاثني عشر عليهم السلام !
قال في النهاية : 3 / 198 : ( فإن قيل : فما وجه الجمع بين حديث سفينة هذا ، وبين حديث جابر بن سمرة المتقدم في صحيح مسلم ؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 89 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
فالجواب : أن من الناس من قال : إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة ثم وقع تخبيط بعدهم في زمان بني أمية . وقال آخرون : بل هذا الحديث فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلاً من قريش ، وإن لم يوجدوا على الولاء ( التتابع ) وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة ، ثم كانت بعد ذلك خلفاء راشدون ، فيهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي ، وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين غير واحد من الأئمة ، حتى قال أحمد بن حنبل : ليس قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز ! ومنهم من ذكر من هؤلاء المهدي بأمر الله العباسي . والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضاً بالنص على كونه من أهل البيت ، واسمه محمد بن عبد الله ، وليس بالمنتظر في سرداب سامرا فإن ذاك ليس بموجود بالكلية ، وإنما ينتظره الجهلة من الروافض ) . انتهى . فترى ابن كثير لا جواب عنده على إشكال حديث سفينة ، فقال : من الناس من قال . . وقال آخرون . . ومنهم من ذكر ! وقد لاحظت هواه وتدليسه بحذفه بقية حديث سفينة ، كما روته مصادرهم ! ثم رأيت هواه الذي جعله يستدل على أن عمر بن عبد العزيز من الاثني عشر عليهم السلام بأن ابن حنبل وثقه ، فكأن توثيق ابن حنبل يكفي ليكون من يوثقه إماماً ربانياً !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 90 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما تكراره اتهام الشيعة بانتظار ظهور المهدي الموعود من سرداب سامراء ، فهو من مكذوباتهم علينا ، فنحن ننتظره عليه السلام من مكة كما ينتظره هو ، وسرداب سامراء غرفة في بيته وبيت أبيه وجده عليهم السلام وهو مكان مبارك نصلي فيه ونتبرك به ، ولكن ابن كثير كثير البغض للشيعة والافتراء عليهم ، وشديد التعصب لأسياده بني أمية أصحاب الملك الجاهلي الذين أخبر النبي صلى الله عليه وآله أنهم يَعُضُّون أمته كالكلاب بظلمهم ؟ ! وليته وأمثاله من غلمان بني أمية كابن حبان وابن حجر وابن قيم وصاحب قرة العينين ، ليتهم اكتفوا بموالاتهم لهم ، لكنهم أصروا على تحريف الأحاديث النبوية وتوظيفها لهم ، وغصب حق الأئمة الربانيين من العترة النبوية عليهم السلام وإعطائه لملوكهم العضوضين !
أما الوهابية المعاصرة ، فقد صحح عالمهم الألباني عدة أحاديث عن الانحراف والأئمة المضلين الذين سيحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله ، منها حديث برقم 2982 ( إن من أصحابي من لايراني بعد أن أفارقه ) ! وحديث برقم 2864 ( إنه سيلي أموركم من بعدي رجال يطفئون السنة ويحدثون بدعة ) . وحديث برقم 2865 ( إني ممسك بحجزتكم عن النار ، وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب ، ويوشك أن أرسل حجزتكم . . . ) . وحديث برقم 1749 ( أول من يغير سنتي رجل من بني أمية ) . وجعل هذا الحديث تحت عنوان : من أعلام نبوته الغيبية ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 91 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقال بعده : ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة ! وصحح حديث برقم 744 : ( إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دَخَلاً ، وعباد الله خَوَلاً ومال الله دِوَلاً ) .
كما صحح حديث سفينة برقم 459 ! ومع ذلك قال مدافعاً عن الأمويين : ( فلا ينافي مجئ خلفاء آخرين من بعدهم لأنهم ليسوا خلفاء النبوة ! فهؤلاء هم المعنيون في الحديث لا غيرهم كما هو واضح ! ويزيده وضوحاً قول شيخ الإسلام في رسالته المذكورة : ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكاً ولم يكونوا خلفاء الأنبياء . . ) . إلخ .
فقد أفتى الألباني تبعاً لابن تيمية بأن الأئمة الاثني عشر عليهم السلام القيمين على الأمة بتعيين رب العالمين هم خلفاء ، وإن كانوا ليسوا خلفاء الأنبياء والإسلام ، بل خلفاء جاهلية يعضون الأمة كالكلاب !
وهكذا يعطي هؤلاء النواصب بغلوهم في بني أمية ، الحجة على ربهم سبحانه وعلى نبيه صلى الله عليه وآله ! ليقول المستشرقون : إن ربكم ونبيكم أيها المسلمين مزاجيان ، فهما يلعنان أشخاصاً ويذمانهم ويتبرآن منهم ثم يرضيان عنهم ويعلنان للمسلمين : إنا نبشركم بهم وبأولادهم ، فهم أئمة ربانيون معصومون ! وهل دخل المستشرقون الخبثاء وطعنوا في الإسلام ، إلا من أكاذيب القرشيين وإمامهم كعب الأحبار لمدح زعمائهم والطعن في النبي صلى الله عليه وآله ؟ !
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 92 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
15 - أخفوا أحاديث النبي صلى الله عليه وآله في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام
ما أكثر ما أخفت الحكومات من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله حتى منعت مجرد التحديث عنه ، وحرَّمت وقاومت تدوين سنته لأكثر من قرن !
وما أكثر الأحاديث التي كذبوها على رسول الله صلى الله عليه وآله وأشاعوها رغم تحذيراته المشددة من الكذب عليه !
وطبيعي أن تكون أحاديثه صلى الله عليه وآله في حق أهل بيته عليهم السلام في طليعة الأحاديث التي حرصوا على إخفائها ، فإن أفلت منها شئ عملوا على معالجته بتكذيبه ، أو بتحريفه ، أو بوضع حديث مضاد له ! فإن لم يستطيعوا إحباطه بذلك ، قدموا له تفسيرات تخدم السلطة !
لذلك إذا أردت أن تعرف أحاديث النبي صلى الله عليه وآله في الأئمة الاثني عشر فعليك أن تطلبها من مصادر أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، فإنك لا تجد منها في مصادر غيرهم إلا نتفاً أفلتت وأجزاء من حديث كما قال عدد من علمائ السنة في حديث جابر بن سمرة !
ومن الأعمال الحديثية المهمة لعلمائنا في هذا الموضوع ، كتاب ( كفاية الأثر ) الذي صنفه المحدث الخبير علي بن محمد بن علي الخزاز القمي الرازي من علماء القرن الثالث ، وقد شرح سبب تأليفه بتضييع المخالفين لأحاديث الأئمة الاثني عشر وأمثالها ، قال في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 93 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مقدمته ص 7 : ( أما بعد : فإن الذي دعاني إلى جمع هذه الأخبار ، عن الصحابة والعترة الأخيار ، في النصوص على الأئمة الأبرار ، أني وجدت قوماً من ضعفاء الشيعة ومتوسطيهم في العلم متحيرين في ذلك ومتعجزين ، يشكون فرط اعتراض المشبهة عليهم وزمرات المعتزلة ، تلبيساً وتمويهاً عاضدتهم عليه ، حتى آل الأمر بهم إلى أن جحدوا أمر النصوص عليهم ، من جهة لا يقطع بمثلها العذر ، حتى أفرط بعضهم وزعم أن ليس لها من الصحابة أثر . . . فلما رأيت ذلك كذلك ، ألزمت نفسي الاستقصاء في هذا الباب موضحاً ما عندي من البينات ، ومبطلاً ما أورده المخالفون من الشبهات ، تحرياً لمرضاة الله وتقرباً إلى رسوله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام من بعده .
وأبتدئ بذكر الروايات في النصوص عليهم من جهة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله المعروفين مثل عبد الله بن العباس ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي وجابر بن سمرة ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وأبي هريرة وعمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وأبي أمامة ، وواثلة بن الأسقع ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعمار بن ياسر ، وحذيفة بن أسيد ، وعمران بن الحصين ، وسعد بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي قتادة الأنصاري ، وعلي بن أبي طالب ، وابنيه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 94 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الحسن والحسين عليهم السلام . ومن النساء : أم سلمة ، وعائشة ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله . ثم أعقبه بذكر الأخبار التي وردت عن الأئمة صلوات الله عليهم ، مما يوافق حديث الصحابة في النصوص على الأئمة ، ونص كل واحد منهم على الذي من بعده ، ليعلموا إن أنصفوا ويدينوا به ، ولا يكونوا كما قال الله سبحانه : فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ، إذ مثل هذه الأخبار تزيل الشك والريب ، ويقطع بها العذر ، وإن الأمر أوكد مما ذهبوا إليه ) . انتهى .
ثم عقد قدس سره باباً لما روي عن كل واحد من هؤلاء الصحابة ، بسنده المتصل إليه عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فحفظ بذلك عدداً من النصوص التي ضاعت ، أو تشتتت أجزاء ونتفاً . ولا يتسع المجال لإيراد نماذج كثيرة من أحاديثه ، وكلها تكشف الحق وتحيي القلب ، فنذكر منها حديثاً واحداً من ص 180 ، بسنده عن سداد بن أوس عن أم سلمة ، قال سداد : ( لما كان يوم الجمل قلت : لا أكون مع علي ولا أكون عليه ، وتوقفت عن القتال إلى انتصاف النهار ، فلما كان قرب الليل ألقى الله في قلبي أن أقاتل مع علي ، فقاتلت معه حتى كان من أمره ما كان ، ثم إني أتيت المدينة فدخلت على أم سلمة ، قالت : من أين أقبلت ؟ قلت : من البصرة . قالت : مع أي الفريقين كنت ؟ قلت : يا أم المؤمنين إني توقفت عن القتال إلى انتصاف النهار ، وألقى الله عز
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 95 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وجل في قلبي أن أقاتل مع علي . قالت : نعم ما عملت ، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : من حارب علياً فقد حاربني ومن حاربني فقد حارب الله ! قلت : فترين أن الحق مع علي ؟ قالت : إي والله علي مع الحق والحق معه والله ما أنصف أمة محمد نبيهم صلى الله عليه وآله إذ قدموا من أخره الله عز وجل ورسوله وأخروا من قدمه الله تعالى ورسوله ! وأنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم وأبرزوا حليلة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الفناء ! والله سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : لأمتي فرقة وخلفة ، فجامعوها إذا اجتمعت وإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط ، ثم ارقبوا أهل بيتي فإن حاربوا فحاربوا وإن سالموا فسالموا وإن زالوا فزولوا معهم ، فإن الحق معهم حيث كانوا . قلت : فمن أهل بيته ؟ قالت : أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم ؟ قالت : هم الأئمة بعده كما قال : عدد نقباء بني إسرائيل : علي وسبطاه ، وتسعة من صلب الحسين هم أهل بيته ، هم المطهرون والأئمة المعصومون . قلت : إنا لله هلك الناس إذاً ! قالت : كل حزب بما لديهم فرحون ) . انتهى .
وفي آخر عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، تسعة من صلب الحسين والتاسع مهديهم ) . انتهى .