حزب الدعوة نسخة من الإخوان المسلمين
حزب الدعوة نسخة من الإخوان المسلمين
نشر في شبكة هجر الثقافية- جمادى الأولى- 1435
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا
محمد وآله الطيبين الطاهرين
وبعد ، فما زلت أشعر بمسؤوليتي في تصحيح أفكارٍ كنت أنا أو غيري من قيادة الدعوة نطرحها للدعاة ، ثم اكتشفت خطأها مبكراً ، أو متأخراً .
وقد كتبت بعضها في كتاب الى طالب العلم ، وأقدم بعضها في هذا الكتاب .
وقد شاء الله تعالى أن أكون آخر من بقيَ من قيادة الدعوة ، فآخر من توفي منهم الدكتور جابر العطا ، وكان متحفظاً جداً في عمله ، فسلِمَ من بطش النظام ، فهو من جيل القيادة ، لكنه لم يكن فعالاً في مواكبة عملها .
وقد اتصل بي بعد سقوط صدام ، وقال لي: يا أبا ياسر، إن الدعوة منقسمة تعاني من الانشقاق كما تعلم ، والدعاة مختلفون ، وهذا أمر يضعفها .
ولم يبق من القيادة إلا أنا وأنت ، فرأيت أن أدعوك لتأتي الى العراق لنعمل معاً في لمِّ الشمل والإصلاح بين الدعاة ، فهم جميعاً يحترموننا وقد يسمعون كلامنا ، وآمل أن نؤدي خدمة للدعوة والعراق ، في هذه المرحلة الحساسة .
فقلت له: أشكرك كثيراً يا أبا محمد ، لكني منذ مدة تغيرتُ عما تعرفني، وصرتُ أعتقد أن ذمة المكلف لا تبرأ في العمل الإسلامي إلا بفتوى المرجع ، فأنا أؤمن بالعمل في خط المرجعية ، ولا أرى مشـروعية العمل في تنظيم يطرح نفسه في مقابل المرجعية أو بدلها .
فقال متعجباً: ( هالشِّكْل خُويَا ) أي هكذا يا أخي !
فقلت له: (نعم هالشكل خويا ) وودعته ، وودعني على تعجب .
كان اهتمامه بالإختلافات العملية بين الدعاة ، واهتمامي أكثر بالفكر الذي يتحركون به ، فهو متقدم رتبةً على الإختلاف العملي ، أو هو أساسه !
وبعد سنوات قليلة ارتحل الدكتور جابر العطا الى ربه ، وبقيت وحدي .
(2)
قال لي بعض الإخوة: والسيد طالب الرفاعي؟ فأجبته: أكرم به ، فقد واكب تأسيس الدعوة، وكان صديقاً لمؤسسها المرحوم أبي عصام ، وقادتها المرحومين: السيد الصدر ، والسبيتي ، والشيخ عارف ، وصديقاً لي ، لكنه لم يكن قيادياً في الدعوة .لأن القيادي الذي يُموِّن الدعوة بالفكر ، أو يدير خطاً من تنظيمها، ولم يكن السيد طالب في هذين المجالين فكيف يكون قيادياً !
عاش السيد طالب في العراق سنوات بعد تأسيس الدعوة ، لكنه لم يكن يعرف مواعيد جلسات قيادتها ، فقد كان أبو عصام يجلس مع السيد الصدر ومع السبيتي والشيخ عارف ، وأحياناً يدعون الدكتور جابر العطا .
ثم صاروا يجلسون وحدهم بدون الشهيد الصدر ، ثم قرروا ضمي اليهم ، وكنت ألتقي بهم فرادى في الكويت ، ومرات في بيت الشيخ عارف في بغداد وقد أرسل لي وصيته من السجن قبيل أن يحكموا عليه بالإعدام ، لكن الذي وصلت الى يده قال إنها ضاعت !
ولم يكن السيد طالب الرفاعي يعرف ماذا يجري في جلسات القيادة ، ولا في خطوط التنظيم ، وكذلك الأمر في السيد مرتضى العسكري ، والسيد مهدي الحكيم ، بل في السيد الصدر ، رحمهم الله جميعاً .
ومما يدل على ذلك أن السيد كاظم الحائري كان مسؤوله الشيخ عارف ، وكان يطيعه ولا يطيع السيد الصدر ، فعندما قامت الحكومة بتسفير الإيرانيين استشار السيد الحائري مسؤوله فأمره بالسفر ، بينما أمره السيد الصدر بالبقاء ، وأن يرتب وضع استثنائه من التسفير .فأطاع مسؤوله الشيخ عارف وخالف أستاذه ، وكان وقع ذلك شديداً على السيد الصدر ، لأنه هو الذي أقنعه بالتنظيم ، وطالت مناقشته في ذلك ، ففي زيارتي الى النجف من الكويت سنة 1969سألت السيد الصدر: هل اقتنع السيد كاظم بالتنظيم ، فقال وصلت معه الى بدايات اقتناع !
في ذلك الوقت لم يكن السيد الصدر في قيادة الدعوة ، لكنه كان مؤمناً بلزوم التنظيم كذراع للمرجعية يعمل بإرادتها ، فاكتشف أن الأمر ليس كما تصور.
ومما يدل على ما ذكرت أيضاً أن السيد سامي البدري ، وهو التلميذ المقرب من السيد العسكري ، اختلف مع الدعوة وانشق عنها ، فلم يعرف السيد العسكري ، ثم عرف ولم يستطع معالجة الأمر ، فعالجته أنا بتكليف القيادة .
ومما يدل على ذلك أنه بعد وفاة المرجع السيد الحكيم، طلب السيد الصدر من قائد الدعوة أبي عصام أن يجلسوا لبحث أمر المرجعية ، فجلس أبو عصام والسبيتي والشيخ عارف مع السيد الصدر في الكاظمية في بيت السيد إسماعيل الصدر جلسات مطولة ، ولم يتوصلوا الى صيغة لتبني مرجعية السيد الصدر . فأنهى أبو عصام الإجتماعات قائلاً للسيد الصدر:
على كل حال نحن لا نتركك ، وأنت لا تتركنا ! وذهب الى بيت أبي حسن وكتبوا النشرة التي هي بيان الدعوة التاريخي في المرجعية ، وهو أسوأ بياناتها ، وأعطى أبو عصام نسخة منه الى الشيخ عارف ليدرسه في حلقاته ، ونسخة الى السيد نوري طعمة ، ونسخة الى السيد حسين جلوخان . ليعمماه الى خطوط الدعوة ، فعمموه ودرسوه في كل خطوط الدعوة وانتهى الأمر ، ولا صلة للسيد الصدر بخطوط الدعوة ، ولا معرفة له بكثير منها ، وجاءني أبو عصام الى الكويت بنسخة فكانت مناقشتي معه .
فمن الذي يقود الدعوة ؟ الذي يكتب الموقف ويعممه على الخطوط والحلقات ، أم الذي يريد إقناعهم بموقف آخر ولا يستطيع ؟!
لكنك الى اليوم تجد الكُتَّاب المتحمسين المتحيزين يعدون من واكب التنظيم قيادياً فيه ، وهو لم يكتب للدعوة حرفاً ، ولا أدار فيها حلقة ، وإن واكب قيادتها ، أو تخيل نفسه ، أو تخيله غيره قيادياً .
(3)
أما المسائل التي تحتاج الى بحث فهي كثيرة ومتنوعة، ومن أهمها:
تقديس القائد وعصمته .
وتقليد الدعوة للإخوان المسلمين في ثقافتهم .
وتقليدها لحزب التحرير في تحليله السياسي .
وتقليدها للحزب الشيوعي في شكله التنظيمي.
وعلاقة الدعوة بالمرجعية ، واعتقادها بأن قيادة الأمة لقائد الدعوة ، لأنه المتصدي للقيادة ، وليس للمرجع القاعد بتعبيرهم .
وعلاقة الدعوة بالتشيع ، وأن من الدعاة من هم شيعة مستوعبون للتشيع لكن بجهدهم ونشأتهم ، ومنهم متأثرون بفكر الإخوان قليلاً أو كثيراً ، ومنهم ابتعدوا عن التشيع فلم يبق منهم إلا الإسم ، وهم يشبهون السنيين لكن السنة لا يعترفون بهم ، فصاروا كالغراب ضيع المشيتين !
(4)
وأكبر العقبات أمام تصحيح الأفكار: أنه يوجب كشف أفكار أشخاص وسلوكهم ، ولهم أتباع يعصمونهم ، ولا يقبلون لهم نقداً ، ويطيرون بالكلمة المادحة لهم ويحملونها أكثر مما تحمل ، ويتعاملون بها كأنها وحي منزل يحتجون بها على خصومهم ، كما أنهم يطيرون بالكلمة التي يحسبون أنها ذمٌّ لصاحبهم ، ويحملونها أكثر مما تحمل ، فيعادون من قالها ويستحلون دمه !
أسأل الله تعالى أن يعطينا البصيرة ووضوح الرؤية ، في الحكم والموضوع ، ويرينا الحق حقاً فنتبعه ، والباطل باطلاً فنجتنبه ، بجاه محمد وآله الطيبين الطاهرين .
*أبو عصام هو الذي أسس الدعوة وصبها في قالبها الفعلي
شارك في مداولات تأسيس تنظيم الدعوة بضعة عشرة نفراً ، وكانت جلساتهم متباعدة ، وبدأت سنة (1960م- 1379هـ) واستمرت نحو سنة حتى تم اتفاق من بقي منهم في الجلسات ، فبدأ أبو عصام بتشكيل الحلقات ، وطلب من السيد الصدر أن يكتب الأسس .
وكانت الجلسات عديدة ومتباعدة أو متقاربة ، وبعضهم حضر جلسة واحدة ، أو جزءاً من جلسة . ولم يكن اهتمامهم بالأمر بدرجة واحدة ، ولا تفريغهم لوقتهم واحداً . وكان بعضهم في بغداد وبعضهم في النجف . وبعضهم له حضوره الفاعل وبعضهم مستمع ، وآخر يثق بشخص ويرى أن حضوره يكفي عنه ..الخ.
لكن المرحوم أبا عصام عبد الصاحب دْخَيِّل ، كان محوراً ثابتاً في الجلسات من أولها الى آخرها ، وكان هو الذي يطرح الفكرة ويدير النقاش ، ويدعو الأشخاص الى الحضور ، ويتابعهم عندما يتأخرون .
ولا ننس أنهم كانوا يتخوفون من البعثيين والقوميين الذين يعملون لانقلاب على عبد الكريم ، وبعضهم من أقاربهم وأصدقائهم ، وكان أولئك يراقبون السيد مهدي الحكيم أن ينافسهم على محاولة انقلاب!
كما كان أعضاء الجلسة يتخوفون من حواشي المرجعية أن يشتكوا عليهم للسيد الحكيم أو السيد عبد الهادي الشيرازي ، أو لكبار الحوزة ، بأن هؤلاء يريدون تأسيس حزب سياسي!
ونقتصر على ذكر الأكثر تأثيراً منهم ، ونذكر أعمارهم ، لتعرف خطأ ما نسب الى بعضهم ، مما لا يتناسب مع عمره !
كنت يومها طالباً في نحو السابعة عشرة من عمري ، لكني كنت أدرس الكفاية ، وأدَرِّسُ النحو والمنطق والبيان . وكنت أحضر في مجلة الأضواء وأساعد في تصحيح ملازمها ، وأسمع بفكرة تأسيس تنظيم ، وأنها محل تداول بين عدد من الأساتذة والعلماء . وعندما تم الاتفاق أخبر السيد الصدر الشيخ مفيد الفقيه ، فأخبرني وانتظمت معهم .
وما أكتبه هنا سمعته من أستاذنا السيد الصدر ، أو من أبي عصام ، أو السبيتي ، أو السيد مهدي الحكيم رحمهم الله ، ممن حضروا تلك الجلسات ، وعايشوا الحدث .
كان أشد المهتمين بتأسيس حركة إسلامية عالمية الشهيد عبد الصاحب دْخَيِّل أبو عصام ، وكان عمره ثلاثون سنة (متولد1930م-1348هـ) .
وكان أبو حسن محمد هادي السبيتي صديقه وفي سنِّه تقريباً ، وكان في بغداد ، وكان رأيهما متقارباً فكان يكتفي بحضور أبي عصام وقلما يحضر الجلسات.
وكان عُمْر السيد محمد باقر الصدر 25سنة ، وكان السيد مهدي الحكيم في سِنِّه ، فهما أصغر من أبي عصام وأبي حسن بخمس سنين .
وكان احترام السيد الصدر لأبي عصام كبيراً واضحاً ، وقد رأيته يتعارف معه في الدخول والخروج فيقدمه ، وربما تقدم عليه أبو عصام ، وكان يدعوه: أبا عصام !
وأبو عصام يدعوه: يا سيد محمد باقر ، وسمعته بعد مدة يدعوه: يا أبا مرام. وشبيهاً به كان احترام السيد مهدي لأبي عصام.
ولم يكن في تلك المجموعة أكبر سناً من أبي عصام إلا الشاعر محمد صادق القاموسي ، كان أكبر منه بنحو ثمان سنوات (متولد 1922-1341) لكنه لم يكن متصدياً للأمر بدرجة أبي عصام ، ثم إنه انسحب من الجلسات عندما رفضوا مقترحه المكتوب ، والذي هو مشروع نظام داخلي لحركة الدعوة ، ولم يشارك في بقية جلساتهم ، ولا في عمل الدعوة .
وربما كان السيد طالب الرفاعي أكبر سناً من أبي عصام ، لكن لا يقاس حضور أبي عصام بحضوره ، وكذا الحاج صالح الأديب ، مضافاً الى أنه كان في كربلاء، ولم يحضر إلا جلسة أو اثنتين وكان موافقاً لرأي أبي عصام .
فالحضور القوي في تلك الجلسات كان لأبي عصام أولاً ، وللسيد مهدي الحكيم ثانياً ، وللسيد الصدر ثالثاً ، رحمهم الله .
أما السيد مرتضى العسكري فكان أكبر سناً منهم ، لكنه كان بعيداً عن هذا الجو ، مشغولاً بمشروع مدرسة وجمعية في بغداد ، وكان أبا عصام كان معنياً أكثر منه بالحركة وفكرها والتنظير لها .
وكانت الجلسات في النجف ، ولم يحضرها السيد العسكري ، ولم تعقد جلسة حول الموضوع في غير النجف .
وقد حضرت بعد تأسيس الدعوة وانتظامنا فيها ، مجالس تطرح فيها أمور فكرية حركية ، فرأيت أبا عصام هو المتحدث الذي يطرح الفكرة والرأي ، ورأيت السيد العسكري والسيد الصدر يؤيدانه ، أو يناقشانه باحترام كبير.
لذلك يجب أن نشهد بأن الشخصية الأولى في تأسيس الدعوة هو أبو عصام !
فهو الذي بدأ طرح الفكرة على أبي حسن السبيتي ، والسيد مهدي الحكيم ، والسيد محمد باقر الصدر ، وغيرهم ، حتى لو كانت قبل ذلك في أذهانهم .
وهو الذي كان يتابع الأمر ويجمع الشخصيات ، وينسق الوقت والمكان ، ويدير الحديث ويبتكر الحلول لتقريب وجهات النظر .
ثم كان هو الذي يتابع تنفيذ المقررات ، فبعد أن أنهوا مداولاتهم واتفقوا على بدء العمل ، بدأ أبو عصام بالعمل، فكلف السيد الصدر بكتابة الأسس ، وبدأ بمفاتحة الأشخاص وتشكيل اللجان ، فأعطى مجموعة للشيخ عبد الهادي الفضلي ، ومجموعة للسيد محمد باقر الحكيم ، ومجموعة للسيد عدنان البكاء ، ومجموعة للحاج محمد صالح الأديب في كربلاء ، ومجموعة للشيخ عارف في البصرة .
وهو الذي هيأ (رونيو) وهو شبيه بجهاز التصوير ، وكان اقتناؤه يومها جريمة !
ثم اشترى أبو عصام طابعة ، وجعلها في بيت السيد عدنان البكاء ، ثم طلب السيد عدنان إعفاءه ، فتبرعت أنا ونقلناها الى بيتنا ، وكان يطبع عليها الأخ عبود مزهر .
وكانت الطابعة ، وكل جهاز نسخ وتكثير ، مواد جرمية كالسلاح وأشد !
ويكفي أن تعرف أنك لكي ترسل رسالة بالبريد ، فعليك أن تعرضها على الرقيب العسكري مفتوحة فيقرؤها ويلصقها ويختمها ، ثم تلصق عليها طابعاً ، وتضعها في صندوق البريد !
وكان أبو عصام يكلف السيد الصدر بمفاتحة بعض الأشخاص الذين يرى فيهم القابلية ، فيقوم بذلك ويحولهم عليه أو على الشخص الذي عينه له .
وبهذه الطريقة كلم السيد الصدر أستاذنا الشيخ مفيد الفقيه ، فكلمني بالموضوع وكلم أخاه الشيخ عبد الإله وابن عمه الشيخ سامي ، فقبلنا الأمر ، ورتب لنا أبو عصام مسؤولاً هو السيد محمد باقر الحكيم ، فكنا عنده حلقة ، رابعنا السيد عبد الكريم القزويني .
ثم درسنا في الحلقة: الأسس التي كتبها السيد الصدر ، حتى حرَّم المرجع السيد الحكيم التنظيم على أولاده ، فاعتذر مشرفنا السيد محمد باقر الحكيم وفاجأنا بأن التنظيم انتهى! فتعجبنا واتصلنا بالسيد الصدر ، فأخبر أبا عصام فعين لنا مشرفاً آخر ، هو الشيخ عبد الهادي الفضلي .
*أبو عصام شخصية عجيبة !
كان أبو عصام شخصية عجيبة ، فمع أنه لا يملك إلا شهادة ثانوية ، لكنه كان واسع الثقافة كثير المطالعة ، وكل ثقافته بجهده الشخصي!
والأهم من ثقافته قوة شخصيته وفكره ، وقوة حضوره في أي مجلس أو عمل يقوم به ، وقدرته على الحوار ، والإقناع ، وطول نفسه على التجزئة والتحليل ، فكان الجميع يحسبون حساباً لآرائه وإشكالاته المنطقية .
وقد أخبرني أبو حسن السبيتي أنه كان يتردد عليه في بغداد ، أيام كان أبو حسن في حزب التحرير ، وأن أبا عصام التقى بالشيخ تقي النبهاني مؤسس حزب التحرير ، وجرى بينهما نقاش مقتضب ، فقد اعتقل النبهاني في العراق في زمن عبد الكريم ولم يعرفوه ، وغادر الى لبنان وبقي فيها متخفياً ، حتى توفي سنة 1977، ودفن في بيروت باسم آخر .
ثم التقى أبو عصام مطولاً بخليفة النبهاني الشيخ عبد القديم زلوم .
ويظهر أن أبا عصام أثَّر على أبي حسن السبيتي ، فترك حزب التحرير واتجها الى تأسيس تنظيم الدعوة ، وكان أبو حسن يثق بفكره ورأيه الى حد كبير، ويسميه صاحب النجف! فكان أبو عصام زميله ، وبمنزلة أستاذه .
وعندما كتب الشيخ تقي النبهاني كتابه «الخلافة» الذي سموه فيما بعد «نظام الحكم في الإسلام» أرسله الى النجف ، فرآه السيد الصدر وأبدى عليه ملاحظات شفهية ، ورأيته كتيباً في نحو مئة صفحة بالقطع العادي ، وتعجبت من أنه لا يتضمن آلية لنصب خليفة في عصرنا ، وأنه ليس فيه رأس سطر ولا نقطة ولا فاصلة ! فقلت: هذا كتابٌ كله سطر واحد ! فأعجبت كلمتي السيد الصدر ، وكان يعيدها ويتبسم !
وأراد زلُّوم وبعض جماعته أن يأتوا الى النجف ليبحثوا إشكالات علمائها على الكتاب ، فقرر أبو حسن والسيد الصدر أن يجلس معهم أبو عصام ، ورأيته قبل الجلسة وقد دون ملاحظاته على عدد من صفحات الكتاب .
وجلس معهم تلك الليلة وناقشهم حتى تعبوا ، وكان أبو حسن يقول: ناقشهم أبو عصام حتى أعجزهم ، وتعب بعضهم وغلب عليه النوم !
كان السيد الصدر يحترم أبا عصام كثيراً ويعامله كأخ أكبر، وإذا دخل عليه فرَّغ له وقته وسمعه ، فكان يعرف أن وقته ملئ وأنه جاء لعمل مهم ، ولم أرَ السيد الصدر اعترض عليه يوماً ، بل كان يُرجع اليه في المسائل الحركية .وقد كنت أراجع السيد الصدر في بعض القضايا ، وأعتبر أن رأيه كافٍ لأنه في القيادة ، لكنه كثيراً ما كان يقول لي: أنظر ماذا يقول أبو عصام ، فأنت تعرف أنا لانؤمن بالقيادة الفردية بل بالقيادة الجماعية ، وأننا إذا قال أبو عصام نقبل قوله !
لكن السيد الصدر تغير رأيه في القيادة الفردية والجماعية بعد ذلك .
وكان حيوي الذهن لماحاً ، متطور الفكر ، وليس كالذين يجمدون على رأي ، والكلام عن فكره والتطورات التي مر بها يحتاج الى حديث مستقل ، لكن حديثنا هنا عن مؤسس الدعوة أبي عصام .
*إعجابنا جميعاً بالإخوان المسلمين !
كان أبو عصام معجباً بالإخوان المسلمين وفكرهم أكثر من حزب التحرير ، وكان يميل أكثر الى منهج حزب التحرير في التحليل السياسي . أما في الفكر التنظيمي فكان يرى أن الشيوعيين متقدمون فيه أكثر من غيرهم ، وكان ينتقد الوضع التنظيمي للإخوان في عهد الصواف ، ثم في عهد الدكتور عبد الكريم زيدان ، وينتقد الوضع التنظيمي لحزب التحرير عند الشيخ تقي النبهاني ، ثم عند الشيخ عبد القديم زلوم .
ولذلك حرص على أن تكون في ثقافة الدعوة وتنظيماتها حسنات هؤلاء جميعاً ، وأن تتجنب نقاط ضعفهم ، فأشبهت ثقافتها ثقافة الإخوان بل تبنت عدداً من كتب الإخوان للتدريس في حلقاتها ، مثل شبهات حول الإسلام لمحمد قطب ، ومعالم في الطريق لسيد قطب .
وقد كتبت يومها إشكالات على كتاب معالم في الطريق خاصة على عنوان «الانحراف» وناقشت بعضهم فيه.. فلم يرض بذلك أبو عصام وأبو حسن السبيتي وقال: نحن بحاجة الى نقد الفكر الجامد لا نقد الفكر الحركي.. ولا مجال هنا للإفاضة في هذا الحديث..
ولإعجاب أبي عصام بالمستوى التنظيمي للحزب الشيوعي ، أخذ أحسن ما يراه منه للدعوة ، فكان شكل تنظيمها يشبه تنظيم الحزب الشيوعي، فالحلقة تتكون من خمسة أعضاء يرأسها مشرف ، واللجان المحلية وبقية اللجان الهرمية ، تشبه التنظيم في الحزب الشيوعي .
أما التحليل السياسي ، فكان أبا عصام ينتقد تحليل الشيوعين المملوء بتعبيرات الإقطاع والطبقية والبرجوازية والرأسمالية والبروليتاريا ..الى آخر منظومتهم ، ولا يعجبه تحليل الإخوان الذي يصفه بأنه يغلب عليه السطحية والعاطفية ، ويعجبه تحليل حزب التحرير الذي يتناول القضايا من زاوية الصراع بين المسلمين والمستعمرين خاصة الإنكليز الذين حكموا المنطقة وما زالوا يحركونها ، وهم يورثون نفوذهم طواعية ، أو يضطرون للتخلي عنه للاستعمار الأمريكي الجديد . وقد صار ذلك الطابع للتحليل السياسي في حزب الدعوة .
وكان أبو عصام معجباً بسيد قطب ، لكنه معجب أكثر بشخصية حسن البنا ، فكان يقول: سيد قطب لا يصل الى مستواه أبداً !
وكان يوماً يتحدث عن حسن البنا ، ويتعجب من أنه ركب الطائرة ست ساعات وبقي مستيقظاً يفكر ، ولم ينم ! فقلت له: مالك معجب به الى هذا الحد ؟! أنت أقوى منه شخصية وأعصاباً !
وهذه عقيدتي في شخصية أبي عصام ، وأشهد أنه أقوى شخصية من الشيخ حسن البنا وسيد قطب والشيخ تقي النبهاني وغيرهم ، بل هو من الشخصيات التاريخية النادرة ، في قوة فكرها وطموحها .
ومع مقاومتي للتعب والنوم ، فقد كان أبو عصام أقوى مقاومة مني ، وقد تواعدنا يوماً في منزلنا بعد الظهر لنرتب مواضيع ، فجاءني أبو عصام بعد الظهر في صيف النجف، ففتحت الباب ورأى أني كنت نائماً فقال مستنكراً: أنا تصورت أنك لا تنام بعد الظهر ، أنت قلت: أنا موجود بعد الظهر في أي ساعة ، فتفضل! فقلت له: نعم قلت إني موجود فتفضل ، ولم أقل إني مستيقظ حتى تأتي!
*كفاءة قيادية
وقد ظهرت كفاءة أبي عصام القيادية والإدارية بدرجة عالية ، فكان يدير كل تنظيم الدعوة ويوجهه ، من أكبر شخص الى أصغرهم ، في النجف ، وبغداد ، وبقية مناطق العراق ، وخارج العراق ، وكان يأتينا الى الكويت .
كان وحده يمسك كل خطوط التنظيم ويتابع أموره الداخلية والخارجية، ومع ذلك يعمل في التجارة ، فيشتري ويبيع داخل العراق وقد يستورد . وكان يهتم بأمر المناطق والوكلاء ، وهو الذي كان رتب أمر الشيخ عارف البصري ، فجاء به من البصرة الى النجف ، وبعد إكماله كلية الفقه ، أخذ له وكالة من السيد الحكيم عالماً في منطقة الزوية بالكرادة .
وكتب السيد مهدي الحكيم في مذكراته/36 ، أنه كان في الخمسينات قبل ثورة تموز يفكر في إنشاء تنظيم ، وأنه تحدث في ذلك مع أبي عصام والسيد طالب الرفاعي فوجدهما يؤمنان بهذه الفكرة ، فاتصلوا بالسيد الصدر لهذا الغرض ، فتجاوب معهم .
وذكر أن السيد طالب الرفاعي كان على علاقة بالشيخ عارف البصري والسبيتي وهما في حزب التحرير ، وأن الشيخ عارف جاء الى النجف ليفتح فرعاً لحزب التحرير ، فناقشه السيد مهدي ليثنيه عن ذلك .
وذكر السيد مهدي أنه التقى في الكاظمية بفلان ويقصد أبا حسن السبيتي ، وكان متخرجاً يومها من الجامعة (هندسة كهرباء) وناقش معه إنشاء تنظيم بدل عمله مع حزب التحرير ، فوجد منه تجاوباً .
وكل ذلك صحيح ، لكن ينبغي التنبيه الى أن هذه المفردات كانت بعد ثورة 14تموز وبدء موجة الشيوعيين ، وأن المحرك الأساسي لهؤلاء كان أبو عصام ! ويكفي أن نعرف أن كبيرهم السبيتي كان يعامل أبا عصام كأنه أخوه الأكبر وأستاذه ، مع أنهما في سن واحدة .
أما الشيخ عارف فكان أصغر منهما سناً ، وكان السبيتي في حزب التحرير مسؤوله أو بمثابة مسؤوله .
وأقدر أن أبا عصام هو الذي أقنع الشيخ عارف أن يستفتي السيد الحكيم في بقائه في حزب التحرير، فقد سمعت الشيخ عارف يقول: أنا خرجت من حزب التحرير بفتوى السيد الحكيم . ولعل تفكيره بفتح فرع لحزب التحرير كان في سفرة سابقة الى النجف .
فقد كان الشيخ عارف يومها في البصرة ، ثم جاء الى النجف ، وانتسب الى كلية الفقه ولبس العمامة ، ولما أكملها ذهب الى بغداد عالماً في منطقة الزوية وكان أبو عصام مهتماً بأموره .
ومن صفات أبي عصام أنه لا يتبجح بأعماله ، بل يحرص على سترها لكي تسير الأمور بشكل جيد . وكم من ابتكار واقتراح له على السيد الصدر ، والسيد مهدي الحكيم ، أخذ طريقه الى العمل ، ولم يقل إنه منه .
*قوي الفراسة
*وكان أبو عصام قوي الفراسة نافذ النظرة في تقييم الأشخاص ، وقد لمست ذلك عدة مرات ، وثبت لي أنه صَرَّاف شخصيات .
فقد كنتُ أعطيت مسؤولية الى شخص مثقف ذكي ، عملي ، من عائلة معروفة ، فقال لي أبو عصام: هذا لا ينفع ، إنه لِعْبِي ! فلم أقبل منه وقلت في نفسي: لعل انطباعه عنه خاطئ لأنه يناقشه كثيراً .
لكني بعد مدة اكتشفت صدق تقييمه ، وأن ذلك الشخص أهل لعب وليس أهل عمل ، فهو يهتم بالإشكال على الآخرين وعلى عملهم ، وينقدهم شخصياً لا ليصحح عملهم ، ويُقَيِّمُ الشخص والأمر بنقطة ضعف فيه ويترك مجموع جوانب قوته ! وكأن هدفه من عمله أن يثبت للآخرين أنه مصيب وغيره مخطئ ! وهذا هو اللعب والغرق في الذات !
*كاتب ومنظر
وقد ظهرت قدرة أبي عصام على الكتابة ، فكتب موضوعات عديدة للنشرة الداخلية «صوت الدعوة» أولها عن المرحلية وأهمية المرحلة التغييرية ، وهي نظريته . وكان يراجع ما يكتبه أبو حسن السبيتي، والشيخ عارف ، وكاتب هذه السطور ، وكذا ما يكتبه السيد الصدر .
وينبغي أن نسجل هنا أن المجلدات الثلاثة التي هي ثقافة الدعوة ، كتب قليلاً منها السيد الصدر ، وأكثر منه أبو عصام ، وأكثر منه الشيخ عارف ، وأكثر منه كاتب هذه السطور، وأكثر من الجميع أبو حسن السبيتي ، وأن بقية القياديين من أصدقاء القيادة ، أو من الصفوف الأخرى لم يكتبوا سطراً واحداً من ثقافة الدعوة .
*رجل علاقات اجتماعية
كان أبو عصام يقوم بأعمال كبيرة بعلاقته بالسيد مهدي الحكيم ، وكانت علاقتهما مميزة ، فهم جيران في النجف ، وعائلة دْخَيِّل لها علاقات مع العلماء والمراجع ، وهي من عوائل الوجاهة المحترمة في النجف .
وكان السيد مهدي حيوياً نشيطاً ، مبرزاً في أبناء السيد الحكيم شجاعاً ناشطاً في مواجهة الموجة الشيوعية .
وعندما أرسل البعثيون حسين الصافي الى المرجع السيد الحكيم بأسلوب تهديدي خبيث ، وحرَّم على أولاده دخول الأحزاب ، لتبقى المرجعية ومن يتعلق بها في موقع الاستقلال والأبوة لكل الناس ، وترك السيد مهدي والسيد باقر الدعوة.. يومها بقي أبو عصام على علاقته الحميمة معهما ، وقدر ظرفهما ، وكأنه لم يتغير شيء !
وعندما انتقل السيد مهدي الى بغداد كان أبو عصام يزوره باستمرار ، ويتداول معه في الأمور ، وقد يكلفه بأمر فلا يرد له طلباً ، ولو طلب منه مالاً لأعطاه ، فقد كان السيد مهدي سخياً ، أميراً من أمراء بني هاشم ، لكن أبا عصام كان وقوراً عالي النفس كزعماء بني شيبان.
وقد يكون طلب منه مساعدة لبعض الأعمال ، مثل مواكب طلبة الجامعات الى كربلاء ، الذي نظمه أبو عصام من مختلف المحافظات .
*مثال في الصلابة والصمود
وكان أبو عصام في معتقله وشهادته ، نموذجاً لصمود المؤمنين ، ثابت الجنان قوي الأعصاب ، عالي النفس ، وكان خبيراً بأمر أعدائه ، يستصغرهم ويحتقرهم !
ومن الثابت عنه أنه كان في السجن يتحدى مدير الأمن المجرم ناظم كزار ، وأنه أمر بتعذيبه تعذيباً وحشياً في حضوره ، وهو يقول له: إعترف ! فقال له أبو عصام: شوف يا ناظم كزار: كل أسرار الدعوة بصدري ، وشْما تسوِّي ما راح تعرف منها ولا حرف ! وعندما عجز ناظم كزار عن إجباره على الإعتراف بحرف ، اغتاظ من صموده وشموخه ، وأمر به فألقي في حوض (أسيد التيزاب) ! وهذا الفصل من حياته يستحق أن يكتب بالتفصيل ، ويصنع بفيلم .
كما ينبغي للباحث عن مقالع الشخصيات النادرة المؤثرة في تاريخ العراق والشيعة، أن يتعرف على عائلة أبي عصام آل دْخَيِّل ، وهم كما ذكروا من بني سلامة ، من بني شيبان من بكر بن وائل . وقد اشتهر منهم الصحابي القائد المثنى بن حارثة الشيباني في معركة ذي قار مع كسرى ، ثم كان قائد فتح العراق . وقد كتبنا عنهم في (سلسلة القبائل العربية في العراق)
أبو عصام هو الدعوة تأسيساً وقيادة
نسب بعضهم تأسيس الدعوة وقيادتها الى غير أبي عصام ، وهذا من سيئات التنظيم السري الذي يسهل فيه الادعاء والتسلق ، خاصة إذا استشهد عدد من قادته. ومما يكشف حقيقة الأمر: الكتابة للتنظيم ، وإدارة حلقاته ، وكسب الدعاة . فهذه الثلاثة مقياس لأولئك الذين ادعوا أو ادُّعِيَ لهم أنهم كانوا في قيادة الدعوة .
فإذا قيل فلان كان قيادياً ، فاسأل عن كتابته في النشرة الداخلية صوت الدعوة ، التي كانت تُدَرَّس في الحلقات ، واسأل عن الحلقات التي كانت بيده ، واسأل عن الذين كسبهم ونظمهم في الدعوة !
فإن لم يكتب سطراً ، ولم يُدر حلقة ، ولم يكسب شخصاً ، فلا يكون قيادياً نعم قد يكون صديقاً لقيادي ، أو يكون القيادي منفتحاً عليه ، أو يكون في جو تأسيس الدعوة ، أو في حلقاتها الأولى ، ثم لم يواصل العمل ، بسبب الخوف أو غيره .. الخ.
وينبغي أن نحسن الظن فنقول إن الأمر اختلط على بعض من كتب في الموضوع ، فجعلوا من القيادة أشخاصاً من الصف الثاني والثالث والخامس! أو حسبوا أصدقاء أبي عصام أو السبيتي من القيادة ، كالشاعر القاموسي ، والسيد العسكري ، والسيد مهدي ، والسيد طالب ، والسيد عدنان ، مع أنهم لم يكونوا في التنظيم ، ولم يكتبوا للدعوة سطراً ، ولا كان بيدهم داعية واحد ، وكان القيادي إذا جلس مع أحدهم لا يناقش أوضاع التنظيم الداخلية ، لأنه أمر لا يخصهم ولا يعرفون عنه ، بل يناقش بعض الأمور والأعمال الأخرى التي ترتبط بالدعوة .
أما السيد الصدر فكان أبو عصام أو غيره يلتقون به بصفته صديقاً، ولم يكن في تنظيم الدعوة ، ولم أكن أعرف ذلك ، فقد كنت أجلس معه وأراجعه على أنه في قيادتها فلا يقول لا ، حتى عرفت أنه ليس معهم ، فتفاجأت واستنكرت ، وأشكلت على أبي عصام وناقشته طويلاً !
وكان يطمئنني بقوله إنا لا نترك السيد الصدر ولا يتركنا ، فنحن معه وهو معنا ! واستقصيت منه سبب خروجه . وليس هذا محل الكلام فيه .
وينبغي التنبيه الى أن جميع خطوط الدعوة كانت بيد أبي عصام منذ تأسيسها الى شهادته ، فكان هو الذي يعطي المسؤوليات ويشكل اللجان ، وينصب المسؤولين ، وكان يتشاور مع السبيتي والشيخ عارف ، بصفتهما عضوي قيادة ولم يكن معه أحد غيرهما .
ثم أبلغوني بأنهم قرروا ضمي اليهم ، فكنت أجلس معهم جلسات متباعدة ، أو ثنائية مع أحدهم ، ويبلغني رأي الآخرين .
وبعد شهادة أبي عصام صارت القيادة ثلاثة ، وانتقلت خطوط الدعوة التي كانت بيد أبي عصام الى الشيخ عارف .
أما السبيتي فلم يكن من مزاجه إدارة حلقات ، وكان يتابع أوضاع الدعوة ويكتب لها، فكانت خطوط التنظيم بيد اثنين الشيخ عارف وأنا ، حتى استشهد الشيخ عارف فتقاسمتُ خطوط التنظيم مع أبي حسن السبيتي .
وكتب الشيخ عارف من سجنه رسالة الى الدعاة ، يؤكد فيها عليَّ ، فوصلت الرسالة الى يد شخص لا أحب تسميته ليوصلها اليَّ ، فأخبرني بمضمونها وزعم أنها ضاعت بين أوراقه ! وأما اللجنة التي شكلناها مع الشيخ عارف والسبيتي ، وكان فيها السيد العسكري ، والشيخ شمس الدين ، والسيد فضل الله ، والسيد الحائري ، وغيرهم ، فكانت هيئة تجتمع سنوياً ، ولم يكن بيد أحد منها شيء من التنظيم ، ولها حديث آخر .
*يحترمه السيد الصدر ويسمع منه ولا يخالفه
كان السيد الصدر يستمع اليه باحترام ، ويعتبره عالماً خبيراً بالمجتمع والتنظيم والحركات الإسلامية ، وكان يقدمه أمامه إذا دخل الى مجلس. وكان السيد الصدر أصغر من أبي عصام بخمس سنين ، وكنت أنا أصغر من السيد الصدر بثلاث عشرة سنة .
وكان السبيتي يعامله كأنه أخوه الأكبر وأستاذه ، مع أنهما في سن واحدة ، وقد دفعه أبو عصام الى ترك حزب التحرير ، ليؤسس معه حزب الدعوة .
أما الشيخ عارف فكان أصغر منهما سناً ، وكان السبيتي في حزب التحرير مسؤوله أو بمنزلة مسؤوله .
وأقدر أن أبا عصام أقنع الشيخ عارف أن يستفتي السيد الحكيم في بقائه في حزب التحرير ، فقد سمعت الشيخ عارف يقول: خرجت من حزب التحرير بفتوى السيد الحكيم .
ولعل تفكيره بفتح فرع لحزب التحرير كان في سفرة سابقة إلى النجف ، يوم كان في البصرة . ثم جاء إلى النجف بعد تركه حزب التحرير وانتسب إلى كلية الفقه ولبس العمامة ، ثم ذهب إلى بغداد عالماً في منطقة الزوية ، وكان ذلك بتدبير أبي عصام، فهو الذي حرك بعض أعضاء الحسينية ليطلبوه من المرجع.
وأظن أن أبا عصام اقترح أن يسكن السيد مهدي الحكيم في بغداد ، ليكون للمرجعية حضور في العاصمة وأحداثها .
ومن صفات أبي عصام أنه لا يتبجح بأعماله ، بل يحرص على سترها لكي تسير الأمور بشكل جيد ، وكم من ابتكار واقتراح له على السيد الصدر والسيد مهدي الحكيم ، أخذ طريقه إلى العمل ، ولم يقل إنه منه .
لذلك لا يعرف الكثيرون أنه وراء تأسيس حركة الدعوة ، والتي سماها السبيتي بعد وفاة أبي عصام (حزب الدعوة) .
وقد فسح هذا التكتم المجال لمدعين أن يدعوا أنهم أسسوا وقادوا ، بينما يعرف المؤسس والقائد بأن له اختيار المادة التي تدرس في حلقات الدعوة ، وبالإمساك بخطوطها التنظيمية ، وقد كان ذلك كله بيد المرحوم أبي عصام ، لا يشاركه فيه غيره ، حتى السيد الصدر رحمهما الله . فقد استكتب السيد الصدر فكتب النشرة المعروفة باسم الأسس ، ثم كان يختار كتب الإخوان للتدريس في الحلقات ، ثم كتب واستكتب السبيتي ، ثم استكتبني .
أما التنظيم فكان كله بيده ، فبه يرتبط مسؤولوا الحلقات ، وهو الذي شكل اللجان المحلية وربط مسؤوليها به ، ثم اتخذ معاونين من أبرزهم الشيخ عارف البصري والسيد نوري طعمة والسيد حسين جلوخان ، وسلمهم أكثر خطوط التنظيم في بغداد وبقية المحافظات . فمن يكون القائد غيره ؟
وقد ظهرت كفاءة أبي عصام القيادية والإدارية بدرجة عالية ، فكان يدير كل تنظيم الدعوة ويوجهه ، من أكبر شخص إلى أصغرهم ، في النجف ، وبغداد وبقية مناطق العراق ، وخارج العراق ، وكان يأتينا إلى الكويت .
كان وحده يمسك كل خطوط التنظيم ويتابع أموره الداخلية والخارجية ، ومع ذلك يعمل في التجارة ، فيشتري ويبيع داخل العراق وقد يستورد .
وقد سكن في بغداد ، وكان يهتم بأمر المناطق والوكلاء ويزور البصرة كثيراً .
كان يقوم بأعمال كبيرة بعلاقته بالسيد مهدي الحكيم وكانت علاقتهما مميزة ، فهم جيران في النجف ، وعائلة دْخَيِّل لها علاقات مع العلماء والمراجع وهي من عوائل الوجاهة المحترمة في النجف .وكان السيد مهدي حيوياً نشيطاً ، مبرزاً في أبناء السيد الحكيم شجاعاً ناشطاً في مواجهة الموجة الشيوعية .
وعندما أرسل البعثيون حسين الصافي إلى المرجع السيد الحكيم بأسلوب تهديدي خبيث ، وحرَّم المرجع على أولاده دخول الأحزاب ، لتبقى المرجعية في موقع الأبوة لكل الناس ، وترك السيد مهدي والسيد باقر الدعوة . يومها بقي أبو عصام على علاقته الحميمة بهما ، وقدر ظرفهما ، وكأنه لم يتغير شئ !
وعندما انتقل السيد مهدي إلى بغداد كان أبو عصام يزوره باستمرار ويتداول معه في الأمور ، وقد يكلفه بأمر فلا يرد له طلباً ، ولو طلب منه مالاً لأعطاه ، فقد كان السيد مهدي سخياً ، أميراً من أمراء بني هاشم ، لكن أبا عصام كان وقوراً عالي النفس ، كزعماء بني شيبان .وقد يكون طلب منه مساعدة لبعض الأعمال ، مثل مواكب طلبة الجامعات إلى كربلاء ، الذي نظمه أبو عصام من مختلف المحافظات .
*الإسم كبير والمزرعة خربانة
أول ما رأيت الإخوان الذين أعجبنا بهم في سنة 1976، فقد أردت أن أذهب الى مصر فقلت لأصدقائي قادة حركة الإخوان في لبنان: الشيخ فيصل المولوي ، والشيخ إبراهيم المصري: أنا ذاهب الى مصر، هل عندكم وصية ، وكان أنور السادات اتفق مع الإخوان ، وأخرجهم من السجون .
فقالوا: سلم عليهم ، أي على قادة الإخوان . وبعد أيام من وصولنا الى القاهرة ذهبنا بدون موعد ، الى مركز مجلة الدعوة ، وهو شقة صغيرة في الطابق الثاني قرب حرم السيدة زينب عليها السلام، فوجدنا الدكتور عمر التلمساني وكان جالساً وراء مكتبه ، وفي جانبٍ القيادي صلاح أبو شادي ، وآخرون من كبار الإخوان ، نسيت أسماءهم .
سألونا: من أين الإخوان؟ فقلتُ لهم من لبنان ، وقال صاحبي الدكتور حسين الحكيم: من صيدا ، وصدق ، لأنا كنا نسكن يومها في صيدا ، وأبلغناهم سلام الشيخ فيصل وابراهيم المصري وماهر حمود ، فرحبوا بنا .
بادر صلاح شادي بالقول: قولوا للأخ ابراهيم إنا لم ننس العمل لتمويل جريدة الإيمان ، وقد وَعَدَنَا الإخوة في السعودية ، ولكنهم أكدوا على ضرورة نشر موضوعات عن فضائل الصحابة ، في كل عدد .
فقلت في نفسي: كم هو ساذج ، يكلمنا كأنا مسؤولان في تنظيم الإخوان بلبنان ، وقد كشف أن تمويلهم من السعودية ، وكشف تعصبه للصحابة مقابل الشيعة ، ولم ينتبه الى أنه يتكلم مع شيعي ، يلبس عمامة شيعية !
وسألني التلمساني: كيف رأيت الجو ، يقصد جو الإخوان في مصر ، وكانوا يحُضـرون في وقتها لإقامة احتفالات بالمولد النبوي ، ولم يقل لهم ممولوهم السعوديون هذا حرام وبدعة !
وكانوا يمدحون أنور السادات لأنه أخرجهم من السجون ، وسموه الرئيس المؤمن ، وكتبوا له رسالة يطلبون منه أن يطبق الشـريعة الإسلامية ، ليكون الحاكم الإسلامي والخليفة الشرعي! فقلت للتلمساني: أرى أنكم كعصافير محبوسة ، فتحوا لها باب القفص فخرجت منه وأخذت تحوم ، ولا تعرف أين توكر وتحط ! قال: لماذا ؟ قلت له: لأنكم تطلبون المحال وتفكرون في الخيال ، تطلبون من أنور السادات الذي جاء به الأمريكان ، أن يطبق الشريعة !
فسكت التلمساني ولم يتكلم بشيء ، فخففت عليه وأخذت في لحديث آخر.
ورأيته بسيط الشخصية والإمكانات الذهنية . وبعد رجوعي سألني عنه الإخوان في لبنان فقلت لهم: رأيته يصلح أن يكون مديراً لمعمل لكن معمل صغير لا كبير! فلم يعجبهم كلامي ، لأن المرشد عندهم كبير !
*كتب الإخوان المسلمين تغزو السوق العراقية
نشأنا في حركة الدعوة على عشق الإخوان المسلمين مع الأسف ، فقد كان أساتذتنا معجبين بهم ، وكانت كتبهم تملأ مكتبات النجف ، فقد فسح عبد الكريم قاسم بدخولها الى العراق ، لأن الإخوان كانوا ضد عبد الناصر ، وكان عبد الكريم ضده .
كان الكتاب الإخواني يطبع في مصر وقد يشحن كله الى بغداد ، وكان المستورد قاسم الرجب صاحب مكتبة المثنى ، ربما شحن أكثر الكتاب الى النجف ، ليكون غذاء طلبة الحوزة (الواعين) في مقابل غير الواعين ، الذين يسميهم السيد الصدر: الجامدين ، ويسمي أساتذتهم بالخط المجمد !
كانت سياسة عبد الكريم قاسم تقوية الخط المناهض لجمال عبد الناصر ، حتى لا يفرض عليه الدخول في الوحدة العربية ، ويتحول من زعيم العراق الأوحد الى رقم شكلي كالرئيس السوري القوتلي الذي قبل بالوحدة !
ولم تنجح خطة عبد الكريم إلا فينا فجاء لنا بكتب الإخوان وأمعنا فيها أكلاً وشرباً ، وفي أولها كتب حسن البنا كلها ، وكتب سيد قطب وأخيه محمد !
فلو قيل لك إن السيد الصدر أو أبا عصام ، أو فلان من البارزين في ذلك الوقت ، لم يقرؤوا كتب الإخوان ، ولم يتأثروا بها ، فلا تصدقه !
قال لي أبو عصام ذات مرة وهو يبدي إعجابه بحسن البنا: لقد سافر بالطائرة ست ساعات ، وبقي مستيقظاً ولم ينم ، فانظر كم كانت أعصابه قوية !
فقلت له: أنت معجب بحسن البنا وتغالي فيه كثيراً ، وأنت أقوى منه ، وأعصابك أقوى من أعصابه !
وأسوأ ما ورثنا من كتب الإخوان: التغني الأعمى بأمجاد الخلافة ، وأمجاد الأمة ، ووجوب العمل لإعادة الخلافة ، والإغماض عن مظالمها لأئمتنا^ ولأجيالنا الشيعية المضطهدة طول العصور ! فكان مثلنا كالمسيحيين الذين سامحوا اليهود بدم المسيح، وأعلنوا العمل مع اليهود لإقامة دولة إسرائيل!
حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب
كانت هذه الشخصيات الثلاث أكثر الشخصيات المحبوبة عند قيادة الدعوة وأوساط الدعاة . فحسن البنا قائد أعجبنا فيه قوة شخصيته ، وقدرته الفكرية والقيادية ، وأنه بدأ مشروعه من الصفر ، وأوصله الى قرب الحكم .
وسيد قطب وأخوه محمد ، أعجبنا فيهما أنهما منظران للإسلام في مشـروع سياسي نتبنى شبيهاً له ، فقد قرأنا كل مؤلفاتهما وأعجبنا بها أيما إعجاب .
في أوائل إنشاء تنظيم الدعوة أوكلوا اليَّ إدارة حلقتين في النجف ، في كل حلقة أربعة أعضاء، وعندما أكملت تدريس الأسس التي كتبها السيد الصدر سألتهم ماذا أدرسهم؟ فقال المسؤول: إختر أنت موضوعات ، أو درسهم كتاب شبهات حول الإسلام لمحمد قطب .
كنا ندرِّس ذلك الكتاب في الحلقات ، وبعد مدة كتب السيد الصدر كتابه المدرسة الإسلامية ، فكنا ندرسه الى جانب مختارات من كتب الإخوان المسلمين . ثم بدأت تصدر نشرات الدعوة الداخلية لتدريسها في الحلقات . لكن بقيت كتب الإخوان محترمة عندنا احتراماً كبيراً.
وعندما أصدر جمال عبد الناصر حكم الإعدام على سيد قطب سنة 1963، كنا نحن في حزب الدعوة ، أهل العزاء كالإخوان في مصر!
وكان السيد الصدر شديد الانفعال فقد أغمي عليه مرات في تشييع أخيه السيد اسماعيل قدس سره ، وكان تأثره في إعدام سيد قطب مشابهاً ، وقال هو والسيد العسكري والسيد طالب الرفاعي وغيرهم ، إنهم لم يناموا ليلة أعلنوا حكم إعدام سيد قطب ، وكنت أنا من أقلهم تأثراً !
وكان السيد الصدر أقنع خاله الشيخ مرتضى آل ياسين بأن يرسل برقية باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف الى جمال عبد الناصر ، يستنكر فيها حكم الإعدام ويطالب بإلغائه .
وعندما أعدم أقيمت له الفاتحة في مسجد الهندي حيث تقام الفواتح المهمة .
وقال السيد طالب الرفاعي ( برنامج إضاءات - قناة العربية) إنه الذي اقترح على المرجع الراحل السيد محسن الحكيم إرسال برقية استنكار الى جمال عبد الناصر ، فقال له السيد محمد جمال الهاشمي: تريد من السيد أن يستنكر إعدام شخص يتهم أمير المؤمنين عليه السلام بأنه كان يشرب الخمر؟
قال الرفاعي: فخفت أن يمتنع السيد ، فقلت له: هل أنت متأكد ، هل هو الذي قال ذلك ، أو أخوه محمد قطب . قال: لا أدري، فقلت إنه أخوه محمد .
وقال الرفاعي إنه استعمل الخباثة وكَذَب ، ولكنها بتعبيره كذبة بيضاء !
لكن الذي قال ذلك هو سيد قطب وليس أخاه محمداً ، قال في ظلاله (2/664): (ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم ، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث ، وفيهم عمر ، وعلي ، وحمزة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأمثال هذا الطراز من الرجال.. ثم قال: وفي سبب نزول هذه الآية : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ، ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف ..).
وقد اتَّبع سيد قطب في ذلك مفسري الخلافة ، وأكثرهم من رواة بني أمية . ولايرى السيد الصدر بأساً في تولي سيد قطب رغم هذه الأخطاء ، لأنه برأيه معذور فيها ، فقد قلت له يوماً إني قرأت في كتاب معالم في الطريق لسيد قطب كلامه عن جيل الصحابة الفريد ، وفيه موضوع بعنوان: خط الإنحراف ، وقد وصل الى المؤامرة والإنحراف الذي وقع بعد النبي صلى الله عليه وآله ، ومعناه أنه فهمه ، فكيف يحاسبه الله تعالى على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام؟!
فأجاب السيد الصدر بأن الأمر الذي لا يخطر ببال الإنسان حتى بنحو الاحتمال لا يحاسب عليه ، وقد كان سيد قطب معجباً بعمر بن الخطاب الى حد لا يخطر في باله أنه صاحب مشروع السقيفة ، بل كان يرى أن التشكيك في عمر يساوي التشكيك في الإسلام كله ، ولهذا يسقط عنه التكليف بولاية أهل البيت عليهم السلام بالمعنى الذي نؤمن به ، لأن احتماله في ذهنه غير وارد .
ثم قال : إن حالته شبيهة بحالة بنت سافرة تعيش في مدينة نائية من كندا ولايخطر في بالها أن الحجاب واجب ، وأن الله تعالى يأمرها به ، فالتكليف بالحجاب ساقط عنها، وإن بقيت مكلفة بأن تبحث عن الإسلام .
وأضاف الشهيد الصدر: أما إذا كانت في جو لم تسمع فيه بالإسلام، أو سمعت بأنه يوجد دين اسمه الإسلام في مناطق من العالم ، أشبه بأديان قبائل إفريقيا الوثنية ، فلا بد من القول إنها غير مكلفة بالبحث حتى عن الإسلام ، وأن الله تعالى يكتفي منها يوم القيامة بمحاسبتها على ما وصل اليه عقلها من وجود الله تعالى وحلال وحرام ،وهذا معنى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا.
يومها ، قبلت هذا التحليل والفتوى من السيد الصدر ، لكني رأيت بعد ذلك أن قياس حالة سيد قطب بالبنت الكندية لا يصح ، لأن تقصيره في المقدمات الإرادية هو الذي سبب النتائج ، وإن كانت غير إرادية .
فعندما يختلف ابني مع غيره وأرى الحق مع ابني ، مع أنه الظالم والحق عليه ، فلا يصح القول إني معذور في الحكم لابني وموقفي الى جنبه ، لأني مقصـر في تزريق حب ابني في نفسي ، حتى صرت أرى أسوده أبيض وباطله حقاً !
ومن يرى شخصاً مقياساً للإسلام بدون نص بَيِّنٍ من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و آله و سلم مقصر في مقدمات رؤيته لأنه زرَّق في نفسه حبه فأنتج هذه النتيجة.
سألت الشهيد الصدر رضوان الله عليه يوماً عن الشخصيات التي أثرت فيه في أوائل نشأته وشبابه، وكنت أكثر تلامذته أسئلة له عن القضايا الفكرية بما فيها مكونات شخصيته ، فذكر لي إعجابه بالخطيب الشيخ كاظم آل نوح ، وأن مجالسه في صحن الحرم الكاظمي قد أثرت فيه كثيراً ، وأن صداها ما زال يرن في أذنه وهو يتحدث عن أمجاد تاريخ الإسلام ودولته وحضارته . وكيف شملت أكثر العالم ، وحققت أعظم الانجازات .
سألته هل كان يقرأ في ذلك الوقت الكتب المصـرية ، فلم يجبني بوضوح.
لكنه عاد ومدح الشيخ كاظم آل نوح وكيف كان يصور أمجاد الإسلام وأمته وحضارته ودولته التي كانت أكبر دولة في العالم، وكيف خسرها المسلمون لما ابتعدوا عن الإسلام ، وكيف يجب علينا العمل لإعادة أمجادنا .
وبحثت عن الشيخ كاظم آل نوح فوجدت أنه كان خطيباً بارزاً ، وله مؤلفات منها: طرق حديث الأئمة من قريش من الصحاح وغيرها. في نحو مئة صفحة .
وترجم له الزركلي في الأعلام فقال: (كاظم آل نوح ( 1302 - 1379): أديب ، من شعراء العراق ، من أهل الكاظمية . له ديوان شعر، وديوان في أهل البيت ومحمد والقرآن ،وملاحظات تاريخية حول كتاب تاريخ الأمة العربية للمقدادي ) .
ومثل هذا الشخص لا يتغنى بأمجاد الخلافة ويدعو الى إعادتها كما نفعل نحن أعضاء الدعوة ، بل يذكر أمجاد الإسلام باعتبار أنها أمجاد حققها المسلمون ، فيما بقي عندهم من الإسلام ، رغم انحراف الخلافة عنه ، فكيف لو لم تنحرف !
وقد فكرت في أعجاب السيد الصدر بمجلسه في صحن الكاظمية ، فقلت في نفسي إن ما سمعه منه السيد عندما كان عمره بضع عشـرة سنة قبل أن يأتي الى النجف ، لا بد أن يكون من هذا النوع ، فهو التزامن بين الأفكار التي تأثر بها من كتب الإخوان ، وبين مجالس هذا الخطيب التي ضربت على وترها .
إعجاب أبي عصام بالإخوان المسلمين
كان مؤسس الدعوة أبو عصام أكثر الأعضاء القياديين تأثيراً في الدعوة ، في الجانب الفكري والعملي . وكان أكثرهم إعجاباً بفكر الإخوان المسلمين وثقافتهم ، بينما كان أبو حسن محمد هادي السبيتي ، والشيخ عارف البصري معجبين أكثر بحزب التحرير ، لأنهما كانا عضوين فيه مدة ، ووصلا الى عضوية ولاية العراق ، كما يسميها حزب التحرير .
كان أبو عصام يرى أن حزب التحرير أنضج من الإخوان في التحليل السياسي ، فكان يميل الى طريقته . أما في التنظيم فيرى أن الشيوعيين متقدمون على غيرهم ، وكان ينتقد الوضع التنظيمي للإخوان في عهد الصواف ، ثم في عهد عبد الكريم زيدان ، وينتقد الوضع التنظيمي لحزب التحرير عند الشيخ تقي النبهاني ، ثم عند الشيخ عبد القديم زلوم .
ولذلك حرص على أن تكون في ثقافة الدعوة وتنظيماتها حسنات هؤلاء ، وأن يجنبها نقاط ضعفهم ، فتبنى ثقافة الإخوان ، ودرَّسَ في حلقات الدعوة كتاب شبهات حول الإسلام لمحمد قطب ، ومعالم في الطريق لسيد قطب .
وأذكر أني يومها كتبت ملاحظات نقدية على كتاب معالم في الطريق ، فقد ألفتني فيه عنوان فصل: الانحراف التاريخي ، ورأيت أن سيد قطب أدرك الانحراف الذي وقع بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، خاصة بملاحظة قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. (البقرة:253).
وطرحت ذلك مع أستاذنا السيد الصدر فأجاب بأن سيد قطب ليس مكلفاً بالبحث عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام لأنه لا يحتمل في حق فلان وفلان أن يكونوا خالفوا النبي صلى الله عليه وآله !
وأما أبو عصام و السبيتي ، فلم يرضيا بنقد كتاب سيد قطب وقالا: نحن بحاجة إلى نقد الفكر الجامد ، لا نقد الفكر الحركي !
أقول: طبعوا كتاب معالم في الطريق، وحذفوا منه هذا الفصل ! ويظهر أن الهوى الوهابي لفح الإخوان ، فحرفوا بعض كتبهم ليوافقوا هوى الوهابية .
كما أن جواب السيد الصدر يعني تطبيق قاعدة حسن الظن والحمل على الصحة لكن هل يطبقها على من يرى أن حزب الدعوة حزب ضلال ، ويرى أن مؤسسيه ضالون ، يجب البراءة منهم ومعاداتهم وحربهم ؟!
وكذلك أمر جواب أبي عصام وأبي حسن ، فمتى كانت حركية الكتاب فوق صحته الفكرية ، وبأي دليل يجب علينا السكوت على أخطائه لأنه حركي ؟
لكني يومها لم أجب السيد الصدر والأخوين ، لأني لم أنتبه الى وجه الحق في المسألة.
كان أبو عصام معجباً بسيد قطب، لكنه معجب أكثر بشخصية حسن البنا فكان يقول: سيد قطب لا يصل إلى مستواه أبداً !
وفي عقيدتي أن شخصية أبي عصام أقوى من شخصية حسن البنا وسيد قطب والشيخ تقي النبهاني وغيرهم ، بل هو من الشخصيات التاريخية النادرة ، في قوة فكرها وطموحها .
كان أصدقائي يقولون إني أقاوم التعب والنوم ، لكن أبا عصام كان أقوى مقاومة مني، وقد تواعدنا يوماً في منزلنا بعد الظهر لنرتب مواضيع ، فجاءني بعد الظهر في صيف النجف، ففتحت الباب ورأى أني كنت نائماً فقال مستنكراً: أنا تصورت أنك لا تنام بعد الظهر ،قلتَ: أنا موجود في أي ساعة ، فتفضل! فقلت له: نعم قلت إني موجود ، ولم أقل إني مستيقظ حتى تأتي !
كان أبو عصام معجباً بالمستوى التنظيمي للحزب الشيوعي ، فأخذ منه ما يراه حسناً للدعوة ، فجاء شكلها يشبه تنظيم الحزب الشيوعي ، فالحلقة خمسة أعضاء يرأسها مشرف ، واللجان المحلية وبقية اللجان الهرمية ، تشبه التنظيم في الحزب الشيوعي .
أما التحليل السياسي، فكان ينتقد تحليل الشيوعين المملوء بتعابير الإقطاع والطبقية والبرجوازية والرأسمالية . إلى آخر منظومتهم .
ولا يعجبه تحليل الإخوان ويقول: يغلب عليه السطحية والعاطفية ، ويعجبه تحليل حزب التحرير ، الذي يتناول القضايا من زاوية الصراع بين المسلمين والمستعمرين خاصة الإنكليز الذين حكموا المنطقة وما زالوا يحركونها ، وهم يُوَرِّثُون نفوذهم طواعية للاستعمار الأمريكي الجديد. أو يضطرون للخضوع لهم ، وقد صار ذلك طابع التحليل في حزب الدعوة .
وبعد مدة اكتشفت ما فعله بنا أبو عصام ، وأن تنظيمنا شكله التنظيمي من الشيوعية ، وثقافته من الإخوان المسلمين ، وتحليله السياسي من حزب التحرير، ونحن شيعة !
فاعجب لهذه الطبخة، التي تعودنا عليها وأحببناها !
هذه الطبخة التي كثر طباخوها بعد أبي عصام ، فشاطت !
حزب الدعوة والتشيع
لا يمكن لشيعي أن يدعو لإقامة الخلافة ؟
كان المرحوم أبو عصام يقول: نعم نحن شيعة ، ونحن نعيش ولاية أهل البيت عليهم السلام بدرجات متفاوتة مثل عامة الشيعة ، لكنا نرى أن قضيتهم إنما هي قضية الإسلام التي نعمل لها ، قضية الإسلام بأمجاد فتوحاته ودولته وحضارته وخلافته التي قوضها أعداؤه ، ونحن نعمل لإعادة هذه الأمجاد .
وفي هذا الكلام البسيط المقبول يكمن ابتعاد كبير عن التشيع ، قد يكون غير مقصود ، ولا ينتبه صاحبه الى أنا بذلك نتنازل عملياً ونظرياً عن التشيع !
فنحن بمقتضى تشيعنا نعتقد أن المشروع الالهي للإسلام أن تمتد القيادة بعد النبي ص بعترته المختارة من الله تعالى لقيادة الأمة، فيحكم أمير المؤمنين عليه السلام ويعمم الإسلام الى أرجاء العالم ، ويقيم دولة العدل الإلهي النموذجية ، التي تشد الشعوب الى فكرها وعدلها وخيراتها ورفاهها .
ثم يحكم بعده الإمام الحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين نص عليهم النبي صلى الله عليه وعليهم ، فتصل الأمة والبشرية في قرن من الزمان الى مالم تصل اليه حتى في عصرنا الحاضر!
ونعتقد أن ما حدث بعد النبي ص كان مؤامرة من قبائل قريش على قيادة الأمة الشرعية ، ورفضاً متعمداً للترتيبات الإلهية لقيادتها ومسيرتها .
وأن نقاط القوة في الفتوحات والحضارة الإسلامية إنما هي ثمالةٌ من بقايا الدفع النبوي للإسلام وأمته ، وومضةٌ من جهود علي والأئمة من أهل البيت عليهم السلام في لجم الانحراف ، ودفع الأمة بالممكن لحفظ ما يمكن حفظه ، وتحقيق ما يمكن إنجازه !
كان انسياقنا وراء تلك الأفكار تنازلاً عن عقيدتنا في أن كل ما عانت منه الأمة وتعاني ، إنما جاء من مؤامرة قريش وتحويلها الخلافة الى مطمع تتنازع عليها القبائل المتعادية لبني هاشم ، وتسفك من أجلها دماء المسلمين ، حتى وصلت الخلافة الى أيدي العثمانيين أخرجوها عن قريش، ثم جاء الغربيون وقتلوا الخليفة ودفنوا الخلافة في استانبول ، بلا تشييع ولا مراسم!
إن مقتضى كوننا شيعة أنا نعتقد أن الأمة دخلت في ضلال بعد نبيها ، وأنها لن تخرج منه إلا على يد الإمام الثاني عشر من العترة
فنحن ننظر بنظرة مختلفة الى تاريخ الإسلام ، والى مستقبله أيضاً !
صحيح أنا نشترك مع بقية المسلمين في هدف إعادة الإسلام الى الحياة ، وفي الدفاع عن أمته مقابل أعدائها ، لكنا مشروعنا له خصوصيته ، سواء في الدفاع عن الإسلام ، أو في المستقبل الذي نؤمن به .
والشيعي الذي يعمل لإعادة الخلافة لا يعني أنه متسامح مع إخوانه من المذاهب الأخرى ، بل يعني أنه فرَّط بخصوصيته الشيعية وهويته !
فخصوصيتنا: تعني أنا شركاء في إيجابيات التاريخ ، بسبب أدوار أئمتنا عليهم السلام العظيمة. لكن لا نتحمل أوزار التاريخ وظلمه وظلماته ، ولا أسباب انحطاط الأمة وضعفها وانهيارها ، فهذه كلها في رقبة الخلفاء وجنودهم .
وخصوصيتنا: أن مشروعنا هو الإسلام على مذهب أهل بيت النبوة عليهم السلام بميزاته في العقيدة والفقه، وخطابنا فيه يختلف عن خطاب العاملين لإعادة الخلافة ، ونظام الحكم فيه يختلف عنهم ، لأنا نؤمن بالانتخابات ، ويؤمنون بديكتاتورية الخليفة !
الفهم السطحي للتشيع وللإسلام
لم تقم نظرتنا الى الإسلام على دليل قوي ، وكذا نظرتنا الى التشيع ! فلم يكن في أسس الدعوة ولا بقية مواد ثقافتها أي بحث علمي عن فهمنا للتشيع، ولا رؤية فكرية ولا فقهية لعقيدة ولاية أهل البيت ع. فقد افترضنا عملياً أن التشيع لأهل بيت النبوة الطاهرين عليهم السلام ، مذهب كبقية المذاهب ، واستبعدنا أنه منهج في فهم الإسلام ، ورؤية لمشروعه الرباني ابتداء من النبي ص، ومروراً بانحراف الأمة وضلالها عنه ، الى ختام مشـروع الإسلام بالإمام المهدي أرواحنا فداه .
أما كتاب فدك فلم يكن متداولاً بيننا ، والدليل عليه أنه لم يطبع بعد طبعته الأولى أبداً في كل حياة مؤلفه ! وهو كتاب ألفه السيد الصدر (قده) في مطلع شبابه في الكاظمية ، ودرس فيه موقف الصديقة الزهراء عليها السلام في إدانة الانحراف الذي وقع عند وفاة النبي ص.
لم يكن متداولاً بيننا ، ولا متبنىً في ثقافتنا ، بل كان بعضنا يشعر به أنه نشاز ، لأنه بحث مذهبي لا يخدم الدعوة الى الإسلام ، وتوحيد الأمة حولها .
سألته يوماً عن ظروف تأليفه ، ولم يشعر أن دافعي للسؤال كان الإعجاب بالكتاب، فقال كالمعتذر: كنت في أول شبابي أحضر مجلس التعزية في حسينية آل ياسين في الكاظمية ، وهم أخواله ، وكتبت موضوعاً في أيام وفاة الزهراء عليها السلام عن فدك وألقيته في المجلس ، فأعجبوا به وشجعوني على تكميله في كتاب ، فأكملته باسم فدك في التاريخ ، فطبعوه .
وأما بحثه في الولاية ، وبحثه الآخر في الإمام المهدي ع، فكتبهما بعد أن قطع صلته بالعمل التنظيمي ، وكثر عليه الطلب أن يكتب جواباً لإشكالات المخالفين عن ولاية أهل البيت والإمام المهدي صلوات الله عليهم .
فكتب هذين الموضوعين دفاعاً عن التشيع، بروحية الحريص على عدم طرح القضايا المذهبية إلا بقدر الضرورة، والحريص على تقريب وجهات النظر فيها مهما أمكن. وفي هذين البحثين نقاط قوة ، ونقاط فيها مناقشة .
اتهموا الدعاة بالتسنن وبعضهم اعتقد فيهم ذلك
إلى الآن يرى بعض العلماء أن الدعوة حركة سنية ، وأن قادتها تسننوا وخرجوا عن التشيع ، وإن تصوروا أنهم شيعة. وقد تعجبت عندما رأيت آية الشيخ عبد الله السبيتي يعتقد أن ابنه محمد هادي سني! فقد زرته في بيتهم في قرية كفرا وهي قرب قريتنا ياطر ، وأخذت أمدح له ابنه محمد هادي أبا حسن ، فقال: لكن مع الأسف هو سني .
وناقشته فواصل تأكيده الجازم: إنه سني بالكامل ، وأنت لا تعرفه !
دعاة يستحون بتشيعهم !
لماذا لم ندرس موقع الأئمة المعصومين عليهم السلام من الإسلام ، وعلاقة ذلك بخلافة أبي بكر وعمر؟ في محاضراتنا وأحاديثنا عن حياة الأئمة عليهم السلام ؟
الجواب: أنها من القضايا التي قررنا أن نتجاوزها في عملنا، وفي ثقافتنا !
فنحن لا نريد أن نعيش مقام المعصومين عليهم السلام ، ولا أن نطرحه لدعاتنا والناس ، ولا ندرس علاقتهم بالخلافة القرشية ، لأن ذلك سيؤثر على فهمنا لحياتهم وأدوارهم في الدعوة الى الإسلام كما نريد ! وهنا يكمن الخلل ، بل تكمن مصادرتنا لشخصيات المعصومين ، لجعلهم دعاة الى الخلافة الإسلامية مثلنا ، بدل أن نجعل أنفسنا (مثلهم )!
كتبت في المقدمة أن الدعاة أنواع ، فمنهم شيعة مستوعبون للتشيع ، لكن ذلك جاءهم من نشأتهم وجهدهم ، وليس من الدعوة .
ومنهم متأثرون بفكر الإخوان المسلمين ، قليلاً أو كثيراً ، وبعضهم وصل الى مرحلة: شيعي بالاسم ، فهم أشبه بالسنيين ، لكن لا يعترف به السنة ، لأن رواسب تشيعه برأيهم كبيرة ، فهو كالغراب ، نسيَ مشيته ولم يُحسن غيرها !
ومن أتعس الدعاة حظاً ، داعية يستحي بتشيعه ، ولا يستحي بدعوته الى الخلافة ، ويستحي بأئمته ، ولا يستحي بالخلفاء الذين شوهوا وجه التاريخ !
وأتعس منه حظاً الذي يتحول الى عدواني على الشيعة ، فيزعم أنه ينتقد ممارسات الشيعة انتقاداً علمياً ، وقد يصل أمره الى انتقاد الأئمة عليهم السلام ، أو الاعتراف ببعضهم دون بعض !
وأعرف منهم من ينتقد صلاة الشيعة على التربة ، ويعتبرها بدعة ، كالمسؤول السابق لتنظيم الدعوة في البصرة! وقد حاولت تقويم ذهنه المنكوس!
وأعرف منهم من يعلن انتقاد مراسم عاشوراء ، وزيارة الإمام الحسين عليه السلام كمستشار رئيس وزراء العراق ، وقد رأيته متحمساً يصيح كالوهابيين: أتحدى من يثبت أن هذه المراسم كانت في زمن النبي ص والأئمة عليهم السلام !
فهو يستدل بأمر عدمي على تحريم ما لم يفعله النبي ص والأئمة عليهم السلام ! ولم يصل الى عقله مع أنه معمم درس شيئاً ما في الحوزة ، أن عدم فعل المعصوم لا يدل على التحريم ، ولم يفقه الأصول الثلاثة التي استند اليها الفقهاء في مشروعية المراسم ، وهي: أصالة الحل ، فكل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه وكل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي .
والثاني: قاعدة المواساة لرسول الله ص، وتعزيته بقتل ولده الحسين عليه السلام
والثالث: أن الجزع على الميت منهي عنه ، إلا الجزع على الحسين ع، فهو مستثنى مهما كان كبيراً ، فلا مانع أن يُظهر المسلمون الجزع عليه بأساليبهم. إن هؤلاء الدعاة كالعوام ، تحبك في ذهن أحدهم حبكة ، فيحسبها دليلاً وعلماً خصه الله به ، وينادي به ويدعو اليه ليهدي به الشيعة وعلماءهم !
النظرة الإسقاطية الى الأئمة عليهم السلام
من معجزات القرآن، أن كل صاحب تخصص في العلوم الإنسانية وربما في غيرها، يجد فيه بغيته، بل يجد فيه جديداً حتى كأنه كتاب في مجال تخصصه !
ذلك أن القرآن مصوغٌ من خالقه وخالق الإنسان ، على خريطة أبعاد الإنسان المتعددة ، في فكره ، وروحه ، وأوتار نفسه . وكذلك الأمر في النبي والمعصومين من أهل بيته ، سادة البشر وقادتهم ع، فقد صاغهم الله تعالى شخصياتهم بأبعاد متعددة ، إذا تأمل فيهم إنسان يجد أنهم أئمة شخصيون له في مجال فكره واهتماماته .
لهذا ، كان من الطبيعي لنا ونحن أصحاب مشروع في الدعوة الى الإسلام ، أن نرى في الأئمة من أهل البيت ع، دعاةً الى الإسلام قبل أي شيء ، وأن نطبق عليهم صفة الدعاة أكثر من غيرها .
وقد كان الشهيد أبو عصام عليه السلام يردد أن القرآن كتاب دعوة، وأن الأئمة عليهم السلام دعاة، وللإنصاف فقد سمعت منه هذه المقولة ، قبل أن أسمع شبيهاً لها من أستاذنا الشهيد الصدر بمدة .
كان يعجبنا أن نقرأ في زيارة الأئمة عليهم السلام: السلام عليكم أيها الدعاة الى الله . ويعجبنا أن نقرأ في دعاء الإفتتاح: اللهم إنا نرغب اليك في دولة كريمة ، تُعِزُّ بها الإسلام وأهله ، وتذل بها النفاق وأهله .
لكنا كنا نرتكب تحريفاً طريفاً في الدعاء الأخير، فنستبدل كلمة ( تذل بها النفاق وأهله) بكلمة ( تذل بها الكفر وأهله) أو نقول ( تذل بها الكفر والنفاق وأهله ) وهذا نموذج من ارتكابنا للإسقاط! ففي جميع نصوص الدعاء عن الأئمة عليهم السلام لا يوجد إلا عبارة: تذل بها النفاق وأهله ، ومعناه أن المعصوم يريد هذه العبارة ، لكنا نحن نريد عبارة: تذل بها الكفر وأهله , ولا نريد ذكر النفاق والتعرض للوضع الداخلي للأمة ، لكن من أجل مراعاة النص نقبل أن نضيف: والنفاق وأهله !
والسبب في هذا الاختلاف، أن المعصوم يرى أن المعركة بين الإسلام والنفاق هي الأساس، لأن النفاق أصل الكفر، فإن هو ذل في الداخل فقد ذل الكفر في الخارج، ولذا كانت مواجهة الإمام المهدي المباشرة مع النفاق .
وقد يكون المعنى أن الكفر والنفاق يتحدان في عهد الإمام المهدي
أما نحن فمشروعنا الدعوة الى إعادة أمجاد الإسلام ومقاومة الكفر فقط . ونحن نريد تحويل الدعاء الى دولتنا المأمولة ، بأن يذل الله بها الكفر وأهله . أما المعركة مع النفاق فلسنا بصددها !
أقول: هذا نوع من إسقاطاتنا أو تعديلاتنا ، لنصوص مذهب التشيع !
مشروع دراسة سيرة الأئمة عليهم السلام
شعرنا وشعر أستاذنا السيد الصدر (قدس سره) بحاجتنا الى جلسات مفتوحة معه لتوجيه أسئلتنا في الأوضاع والسياسة ، والتاريخ والعقائد .
فكانت جلسة ليلة الخميس ، وأكثر ما انعقدت في بيت أكبر تلاميذه سناً أو أقدمهم ، السيد نور الدين الإشكوري . وكانت جلسات أو سهرات مطولة ومفيدة ، تطرح فيها أسئلة متنوعة .
وكان لي فيها نصيب كبير، حتى أن بعض الزملاء قال إني أقدر من الجميع على طرح الأسئلة وتحقيق الفائدة من الجلسة .
وقال: إذا غاب فلان انخفض مستوى الجلسة ولم تحقق هدفها .
ومما طرحناه في تلك الجلسات حاجتنا الى دراسة حياة الأئمة عليهم السلام دراسة واعية طبعاً بمفهومنا للوعي ، واستجاب السيد الأستاذ قده الى اقتراح بأن يكون ذلك محاضرات في أيام التعطيل في يوم الخميس من كل أسبوع ، وفي التعطيلات بمناسبة أيام وفياتهم صلوات الله عليهم .وكانت محاضرات السيد في سيرة الأئمة عليهم السلام وسجلنا عدداً منها، ثم كتبها الأخ عادل الأديب في لبنان وشذبتها له ، وطبعناها في بيروت بعنوان: الأئمة الاثنا عشر عليهم السلام .
وخلاصة هذه الدراسة التي قدمها الأستاذ وساعدناه على استخراج نصوصها ، وفرحنا بها ، وحملناها الى الناس: أن الأئمة الاثني عشر عليهم السلام أئمة مختارون من الله تعالى ، وأن حياتهم تنوعٌ في الأدوار ووحدة في الهدف . والهدف هو نفس هدفنا ومشروعنا في الدعوة وإقامة دولة الإسلام العالمية ! أما الأدوار فثلاثة: الأول: تكميل مرحلة التغيير والإنقلاب في الأمة وثبيت أسس الإسلام في أذهانها ، لأن النبي ص لم يستكمل هذه المرحلة ، وقد قام بها الإمام أمير المؤمنين والإمامان الحسن والحسين وزين العابدين عليهم السلام .
والثاني: تحديد الكتلة الواعية من الأمة أو الفرقة الناجية، وتكميل بنائها، وقام بهذا الدور الأئمة: محمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم عليهم السلام
والدور الثالث: العمل لتسلم السلطة ، وقام بهذا الدور الأئمة: الرضا والجواد والهادي والعسكري . ويقوم به الإمام المهدي عليهم السلام .
وبتعبير آخر: كان عمل الأئمة برأيه إلى الإمام زين العابدين عليهم السلام ترسيخ الإسلام كدين، ثم إلى الإمام الرضا عليه السلام بناء الأمة الواعية والفرقة الناجية، ثم من الإمام الرضا إلى المهدي عليه السلام في الإعداد لإقامة الدولة .
لكن الإشكالات على هذا التقسيم كثيرة ، منها : أن الأئمة عليهم السلام لو عملوا لتسلم السلطة لتسلموها، فالذين هم أقل منهم وصلوا إلى السلطة بمدة قليلة وهم عليهم السلام أعرف بطرق الوصول إلى السلطة من الأمويين والعباسيين وغيرهم ومعهم قوة منطق القرآن والنبوة ، ومجد انتسابهم إلى رسول الله ص، فهل يعقل أنهم عملوا لتسلم السلطة أكثر من قرنين فلم يستطيعوا ؟!
ثم لو كانوا يريدون السلطة فلماذا رفضوا استلامها عندما عرضت عليهم ، فقد عرض المختار وإبراهيم بن الأشتر على الإمام زين العابدين عليه السلام أن يتسلم دولتهما التي كانت تضم العراق وإيران وغيرهما ، وكان الجو العام فيها ملائماً لأنها قامت على أخذ الثأر للإمام الحسين عليه السلام والد الإمام زين العابدين ولكنه رفض ذلك !
كما عرض أبو مسلم الخراساني وأبو سلمة الخلال ، قائدا الثورة الإيرانية على الإمام الصادق عليه السلام أن يأخذا له البيعة ، فلم يقبل ورفض رفضاً حاسماً !
فهذه المواقف وغيرها ، وتصريحات الأئمة عليهم السلام ،تدل على أن مشروعهم كان عدم تسلم السلطة بعد أمير المؤمنين والإمام الحسن عليهما السلام ، وعدم الثورة بعد الحسين عليه السلام ، حتى ظهور المهدي ع. كما لم يجيزوا العمل باسمهم لتسلم السلطة ، حتى مع إبعاد المسؤولية عنهم.
مقتضى فهمنا للأئمة ع
لا بد أن نذكِّر بأن الأئمة المعصومين عليهم السلام مشـروعٌ ربانيٌّ متقن ، فهم يعملون بتوجيه الحكيم الخبير عز وجل ، ولا يصح أن نحصـر دورهم في عصـر دون عصر، أو نلخصه في العمل لتسلم سلطة ، أو نختصـره في بيان بعض العلوم وبناء بعض الأوضاع ، فقضيتهم عليهم السلام أعمق وأوسع، وصاحب مشـروعهم العليم الحكيم عز وجل ، الذي أتقن كل شئ في هذا الكون الوسيع بأعلى درجات الإتقان والإعجاز، فلا يصح أن نُسَطِّح عمله في الطبيعة ، ولا مشـروعه في النبي والأئمة عليهم السلام ، لأن الإنسان أعظم عنده من الطبيعة بكثير!
إن معنى اعتقادنا بإمامة الأئمة عليهم السلام وعصمتهم أنهم معيَّنون من الله مفروضةٌ طاعتهم ، بل هم أفضل الخلق بعد نبينا ص ولهم مقاماتٌ عظيمة خصهم بها الله تعالى ، ولهم مع جدهم ص مقام الشفاعة العظمى في الآخرة ، وهم في الدنيا وسائط العطاء والرحمة والفيض الإلهي. ومما يترتب على هذا الفهم:
~ أن عصمتهم عصمةٌ كاملة عن جميع المعاصي الكبائر والصغائر ، قبل البعثة وبعدها ، في تبليغ الرسالة وغيره .
~أنهم مصدر التلقي الوحيد للكتاب والسنة بعد النبي صلى الله عليه وآله ،والميزان الوحيد لصلاح الصحابة والأمة أو انحرافهم عن الإسلام . والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة ، كقوله صلى الله عليه وآله : إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني تاركٌ فيكم الثقلين ، كتاب الله عز وجل وعترتي كتاب الله حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي . وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروني بِمَ تخلفوني فيهما . ( مسند أحمد:3 /17).
وقال السرخسي في أصول الفقه (1/314): (قال عليه السلام: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، إن تمسكتم بهما لم تضلوا بعدي . وقال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ).
~ أن مذهب أهل البيت عليهم السلام هو الإسلام كما نزل على رسول الله ص. ويصح وصف التشيع بأنه مذهب لكن بمعنى أشمل من المذاهب الفقهية والكلامية التي أنشئت في القرن الأول والثاني ، في العصر الأموي والعباسي.
~أن قضية أهل البيت عليهم السلام هي لبُّ الإسلام ، وظلامتهم ظلامة الإسلام ، وفضائلهم فضائل الإسلام ، والأولوية في العمل الإسلامي لتعريف المسلمين والعالم بهم ، ورد الشبهات عنهم وعن شيعتهم ، والدفاع عن حقهم ودفع ظلامتهم ، وتطبيق الإسلام الذي تلقيناه منهم .
~أن مسار تاريخ الإسلام على عمومه غير صحيح ، ما عدا ما أمضاه الأئمة المعصومون عليهم السلام وأقروه ، من فتوحات خطط لها النبي ص وأدارها علي عليه السلام وقاد تلامذته أهم مراحلها .
~ أن الذي صنعته قبائل قريش وارتكبته مع النبي وأهل بيته عليهم السلام أسوأ أنواع الإنقلابات التي قامت بها أمة في حياة نبيها وبعده ، ضده وضد أوصيائه! وقد فتحوا بذلك أبواب الظلم والصراع في الأمة ، وحرفوا مسيرة الإسلام عن خطها الصحيح ، حتى يظهر المهدي عليه السلام فيعيد الحق إلى نصابه ! ومن هنا كانت البراءة من ظالمي أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله من أصول مذهبنا ، إلى جنب ولايتهم ومودتهم وطاعتهم عليهم السلام.
لماذا زهدنا في فهم المعصوم عليهم السلام ومعايشته ؟
المعصوم إنسان اختاره الله تعالى بعلمه المطلق ، وقدرته المطلقة ، وعصمه عن الهوى والخطأ ، وجعله إماماً للناس ، وحجة على خلقه ! ألا يعني ذلك أن حلم المفكرين والعقلاء ، والمعذبين في الأرض، قد تحقق ، وانحلت مشاكلهم الفكرية والعملية ؟
وأن علينا جميعاً أن نعطل فلسفاتنا وفذلكاتنا ، ونطيف حول بيته الذي أذن الله أن يرفع ، ونتفكر في مقامه الشامخ ، لعلنا نفهمه؟ ألا يعني أن علينا أن نفتح عقولنا وقلوبنا لقوله وفعله وسلوكه ، حتى فتات أفعاله وأقوله ؟!ففتاته خير من كل خبزنا !
وما دام ثبت لنا بالدليل القطعي أن الله تعالى قد اختار ، فقد انتهى الأمر ، وانحسمت القضايا ، وكمل ما على الله ، وبدأ ما علينا .
وأول ما علينا أن نحب الذي اختاره الله ، وجعله علينا إماماً. ثم لا نلتفت الى من خالفه كائناً من كان ، لأن ما خالفه هواء وهباء .
~ المعصوم.. أكبر قضية عملية للأمة !
إمامٌ مفتوحةٌ له نوافذ الغيب ، مهديٌّ من ربه ، يملك الخريطة للبشرية . يملك العلم القطعي بمقصودات الله من كلامه وأفعاله .
وليس كعلماء الأرض ومفكريها ، أكثر بضاعتهم الظنون والإحتمالات !
وما دمنا نعتقد أنه قد وجد هذا المعصوم وأن النبي ص دل الأمة عليه ، وأعلنه لها إماماً، وأخذ منها البيعة والميثاق على اتباعه ، فالمسألة تختلف كثيراً.
لو أردنا أن نضرب مثلاً لذلك لقلنا إن كجماعة في صحراء قاحلة ، فيهم شخص واحد يملك الخريطة لنجاتهم ويجيد قراءتها ، فائتمروا عليه وعزلوه ورفضوا خريطته ! واتخذوا بدله أئمة لا خريطة عندهم ولا يجيدون قراء خريطة الإمام الذي عزلوه وكتفوه ، فتاهوا بالأمة يميناً وشمالاً، تيهاً بعد تيه ، وضلالاً في ضلال ، حتى شتتوا الأمة ، ومزقوها شر ممزق !
~كيف لم نهتم بفهم المعصوم ، ونحن نعتقد أن مشروع المعصومين من عترة النبي ص ما زال موجوداً فعلاً ولم ينتهِ . ولم يتركه الله تعالى بسبب ترك الأمة له ، فما زال قراره عز وجل أن يملأ الأرض بخاتمهم قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً . وما زال هذا الإمام موعوداً من ربه ، حياً يرزق ، مدَّ الله في عمره كما مدَّ في عمر الخضر ، فهو يعمل في برنامجه مع جنود الله في الغيب ، حتى يأذن الله له بالظهور، فيكمل مشـروع الإسلام .
ومادام الأمر كذلك ، فالتاريخ يختلف كثيراً ، والمستقبل أيضاً !
ومشروعنا في الدعوة الى الإسلام ، لابد أن يكون منسجماً مع المشروع الالهي للإسلام الذي نعتقده في المعصومين من العترة ، وأن يكون ممهداً لخاتمهم الموعود صلوات الله عليه .
ومن أول شروط الإنسجام أن ينص المشروع على مقام المعصوم في ثقافته .
العلاقة الجدلية بين الأئمة عليهم السلام وغاصبي سلطتهم
من الواضح أنها جدلية التناقض والنفي التام ، فالقيادة المعصومة والغاصبة ضدان يستحيل أن يجتمعا ، ومهما بدا لنا من إمضاء المعصوم لوضع من الأوضاع ، فلا بد أن يكون رحمةً بالأمة من أجل تقليل الضياع ، ومن أجل تأخير الإنهيار ، وحفظ ما يمكن من المهدور ، وتصريف ما يجب من الأمور . ومحالٌ أن يكون إعطاء روحٍ لميت ، أو منح شرعيةٍ لغاصب .
لكن هذه الرؤية كانت غائبة عن بنائنا الفكري، فقد كان الأستاذ الشهيد رحمه الله يرغب في العبور بنا عن نقاطها ، والتجاوز عن محطاتها .
بل لعله كان يتصور أن بيعة المعصوم بالإجبار، وإمضاءه لبعض الأمور يعتبر إعطاء نوع من الشرعية لخلافة أبي بكر وعمر.
فقد كنا نراه يتحفظ كثيراً عند الكتابة عنهما ، ونقرأ له كلاماً شبيهاً بكلام سيد قطب عن جيل الصحابة الفريد ، وعن الخلافة الراشدة ، وعن علي بن أبي طالب ، الجندي تحت قيادة أبي بكر..الخ.!
يقول قدس الله نفسه في بحثه حول الولاية/59:
( إن الدعوة عملية تغيير ، ومنهج حياة جديد ، وهي تكلف بناء أمة من جديد واقتلاع كل جذور الجاهلية ورواسبها من وجودها .
والأمة الإسلامية ككل لم تكن قد عاشت في ظل عملية التغيير هذه إلا عقداً واحداً من الزمن على أكثر تقدير ، وهذا الزمن لا يكفي عادة في منطق الرسالات العقائدية والدعوات التغييرية لارتفاع الجيل الذي عاش في كنف الدعوة عشر سنوات فقط إلى درجة من الوعي والموضوعية والتحرر من رواسب الماضي ، والإستيعاب لمعطيات الدعوة الجديدة ، تؤهله للقيمومة على الرسالة ، وتحمل مسؤوليات الدعوة ومواصلة عملية التغيير بدون قائد .
بل إن منطق الرسالات العقائدية يفرض أن تمر الأمة بوصاية عقائدية فترة أطول في الزمن ، تهيؤها للإرتفاع إلى مستوى تلك القيمومة .
وليس هذا شيئاً نستنتجه استنتاجاً فحسب ، وإنما يعبر أيضاً عن الحقيقة التي برهنت عليها الأحداث بعد وفاة القائد الرسول ص وتجلت بعد نصف قرن أو أقل من خلال ممارسة جيل المهاجرين والأنصار لإمامة الدعوة والقيمومة عليها ، إذ لم يمض على هذه القيمومة ربع قرن حتى بدأت الخلافة الراشدة والتجربة الرسالية التي تولى جيل المهاجرين والأنصار قيادتها ، تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجهها أعداء الإسلام القدامى ، ولكن من داخل إطار التجربة الإسلامية لا من خارجها ، فاستطاعوا أن يتسللوا إلى مراكز النفوذ في التجربة بالتدريج، ويستغلوا القيادة غير الواعية ، ثم صادروا بكل وقاحة وعنف تلك القيادة ، وأجبروا الأمة وجيلها الطليعي الرائد على التنازل عن شخصيته وقيادته ، وتحولت الزعامة إلى ملك موروث يستهتر بالكرامات ، ويقتل الأبرياء ، ويبعثر الأموال ، ويعطل الحدود ، ويجمد الأحكام ، ويتلاعب بمقدرات الناس ، وأصبح الفيئ والسواد بستاناً لقريش والخلافة كرةً يتلاعب بها صبيان بني أمية .
فواقع التجربة بعد النبي ص وما تمخض عنه بعد ربع قرن من نتائج ، يدعم الإستنتاج المتقدم، الذي يؤكد أن إسناد القيادة والإمامة الفكرية والسياسية لجيل المهاجرين والأنصار عقب وفاة النبي ص مباشرة ، إجراء مبكر وقبل وقته الطبيعي ، ولهذا ليس من المعقول أن يكون النبي ص قد اتخذ إجراء من هذا القبيل ) . انتهى.
ولب مطلبه العقدي: أن الأمة يمكن أن تصل بعد وصاية عقائدية مدة من الزمن ، الى درجة القيمومة على الرسالة ، وكان يعبر عن ذلك بمستوى عصمة الأمة ، ومعناه حاجة الأمة الى الإمامة تنتهي عندئذ !
لاحظ قوله (إن منطق الرسالات العقائدية يفرض أن تمر الأمة بوصاية عقائدية فترة أطول في الزمن ، تهيؤها للإرتفاع إلى مستوى تلك القيمومة )
وهذا من نوع كلام سيد قطب في الجيل الأول ، وكلام الفخر الرازي في عصمة من أو جب الله طاعتهم وهم الأمة . وهو مخالف لمذهبنا في أن الأرض لا تخلو من إمام ! ومعناه أن الأمة لن تبلغ درجة العصمة والقيمومة ، ولن تستغني عن إمام .
ولب مطلبه التاريخي: أن جيل الصحابة كان بمستوى الإمامة والقيمومة على الدعوة ، لكن شحنته كانت قليلة فلم تستمر إلا نصف قرن أو ربع قرن فتسلل بنو أمية أعداء الإسلام القدامى الى مراكز السلطة وأسقطوا دولة الدعوة النبوية ! وهذا يوهم شرعية السقيفة ودولة أبي بكر و عمر و عثمان، لولا أنه سلط عشيرته بني أمية على الدولة والأمة !
لاحظ قوله قده: ( ممارسة جيل المهاجرين والأنصار لإمامة الدعوة والقيمومة عليها ، إذ لم يمض على هذه القيمومة ربع قرن حتى بدأت الخلافة الراشدة والتجربة الرسالية التي تولى جيل المهاجرين والأنصار قيادتها تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجهها أعداء الإسلام القدامى ).
وهو قول لا ينسجم مع ضرورة مذهبنا وأساسه الذي هو إعلان الغدير القاطع لإمامة علي عليه السلام والعترة الطاهرة وعصمتهم .
ولا مع موقف أمير المؤمنين والصديقة الزهراء عليهما السلام من خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وهو موقف صريح قاطع قاصع ! فكل ترتيب في قبال ذلك ردٌّ على الله ورسوله ، وضلال بشري مقابل الهدى الالهي. ومهما أمَرَنا النبي والأئمة عليهم السلام أن نسكت ونتعايش مع المخالفين، أو نتعاون معهم، فلم يجيزوا لنا أن نعطيهم حرفاً من الشرعية !
على أن هذا الكلام قد يكون نسخه السيد الصدر قده بكلام آخر .
لماذا لم يكتب السيد الصدر كتاب: مجتمعنا ؟
بعد كتاب: فلسفتنا ، واقتصادنا ، انتظرنا كتاب: مجتمعنا ، وكان المتحمسون يسألون عنه . وذات مرة سأل أحدهم أستاذنا السيد محمد باقر الصدر قده: ما الذي يمنع من تأليف: مجتمعنا ؟ فأجاب متبسماً: مجتمعنا !
لكن كيف يمنع مجتمعنا تأليف كتاب ، وطرح نظرية في النظام الإجتماعي؟
الجواب: للمجتمع ثوابت ، إذا لم يراعها المؤلف وقف المجتمع ضد الكتاب!
والسؤال: هل كان السيد الصدر سينال من ثوابت المجتمع العلمية أو العقدية أو من أعرافه الراسخة؟
والجواب: نعم ، هذا ما كان يعتقده ، ولذا كان يرى أن المجتمع لا يتحمل كتاب مجتمعنا ، ولا يتقبله !
يقول بعض المتحمسين لحركة الدعوة التي أسسها أبو عصام ، وآمن بها السيد الصدر: كم نأسف لأن الشهيد السيد الصدر لم يكتب مجتمعنا ! فلو رسم هذا المفكر معالم المجتمع الإسلامي ونظامه ، لكان ثروة للعالم الإسلامي في عصرنا حيث كان يتحفز لإقامة نظام حكم إسلامي ، ولكان هادياً للإسلاميين والعلمانيين الذين يريدون إقامة نظام علماني لا يخالف الإسلام .
ويقول البعض الآخر: الحمد لله أن الشهيد الصدر لم يؤلف كتاب مجتمعنا ، لأنه كان سيقدم فيه مجتمع دولة الخلافة بديكتاتورية الخليفة، أو ديكتاتورية مجلس الفقهاء . بل ليته لم يؤلف كتاب اقتصادنا ،لأن بعض نظرياته بناها على فتاوى لا يقرها فقهاء الشيعة !
أقول: الحقيقة أن السيد الصدر واجه صعوبة في استنباط النظرية الإجتماعية في الإسلام، خاصة في الحريات ونظام الحكم ،كما واجه ثوابت اجتماعية عديدة ، ورأى أنه لا يمكنه المساس بها. رأى نفسه أمام طريق مسدود، لا يمكنه هو ولا غيره أن يقدم نظرية عن المجتمع في الإسلام ويقول إنها النظرية الإسلامية خاصة ، في نظام الحكم . وأول الصعوبات: الثوابت المذهبية ، فالسيد الصدر عالم في عاصمة المذهب الشيعي، فهل يقدم نظام الخلافة نموذجاً للمجتمع الإسلامي، والمذهب الشيعي يرى أن تسمية الحكم بعد النبي ص خلافةً ، هو أصل المشكلة ، بل هو افتراءٌ كبيرٌ على النبي ص وعلى الله تعالى !
كما لم يكن بإمكانه صرف نظره عن نظام الخلافة وتقديم النظام الديمقراطي الغربي على أنه نظام الحكم في الإسلام ، فقد كان الإتجاه الى الإنتخابات ، حسب ثقافة الإسلاميين يومها ، خروجاً عن الإسلام !
ماذا يقول أبو عصام؟: كان هذا السؤال في ذهن الشهيد الصدر ، أمام كل مشكلة عملية وفكرية ، فقد كان يرى أبا عصام عالماً مفكراً ، ويصـرح بذلك ، ويسأله ويرجعنا اليه ! وقد ساعد على ذلك أن أبا عصام أكبر منه سناً ، وأنه صاحب شخصية رصينة متينة !
كان رأي أبي عصام أن أقرب شكل لنظام الحكم الإسلامي الصحيح هو الحكم الفردي ، فالحاكم المسلم يحكم باجتهاده ، ويستعين بمجلس فقهاء فيختار منه الفتوى التي يراها مصلحة ويعمل بها !
فصاحب الحق في حكم المسلمين هو قائد الدعوة ، لأن الدعوة نخبة الأمة وقيادتها وهي التي تختار مجلس فقهاء ، والحاكم يستشير أعضاءه ويأخذ بمشورتهم إن شاء أو يتبنى حكماً شرعياً من خارج شورى الفقهاء !
وقد توصل أبو عصام الى هذا الحل ، محاولاً أن يرضي السنة والشيعة .
هكذا كان يتخيل وكنا نقلده فنتخيل ، وهكذا كتب الأستاذان: محمد عبد الساعدي وصالح الظالمي ، في فقه الدعوة وشورى الفقهاء في شكل الحكم!
أقول: هذا غاية ما توصل اليه فهمنا وعلمنا ، في أمر مجتمعنا ، وفي نظام الحكام الإسلامي وشكله . ولا شك أن ما توصلت اليه المرجعية التقليدية من كان أقوى فقهياً وأفضل اجتماعياً مما وصلنا اليه . فقد أفتوا بأن ينتخب الناس كلهم الحاكم ، ولا مانع أن يكون مدنياً ما دام لا يعادي الإسلام ، وفي هذه الحالة يكون نظام الحكم شرعياً مقبولاً .
وقد تراكض تلاميذ أبي عصام على رفع راية هذا الحكم والعمل في إطاره !
العمل للتشيع يجب تأجيله !
لم نبحث يوماً بجدية تأثير فهمنا للتشيع على فهمنا الذي نحمله للإسلام . وأن التشيع بصفته رؤية كاملة للإسلام يوجب تغييراً في مشروعه السياسي. وفي مواصفات القيادة ، وفي أساليب عملنا ، وصيغة خطابنا للأمة !
لم نبحث يوماً موقف الأئمة عليهم السلام من الخروج على الحاكم ، بل لعل طلبة العلم منا لم يقرؤوا رواياته المانعة والمجيزة ، ولا فتاوى الفقهاء في المسألة !
فقد اعتبرنا أن الثورة بالإسلام فريضةٌ متفقٌ عليها، وأن الذين لا يرونها فريضةً سنيون موالون للسلطات ، أو شيعةٌ من الخط المجمد ، أو خائفون لا يملكون الشجاعة ! وقد أفتينا لأنفسنا بأن أساليب العمل وأولوياته ومخاطبة الناس به ،لا يختلف أمرها سواء كان التشيع منهجاً في فهم الإسلام ، أو مذهباً عادياً كبقية المذاهب .
كانت نظرتنا الى التشيع أنه المذهب الصحيح الذي نؤمن به ونتبناه، لكن ليس الذي يجب أن نعمل له، فواجبنا العمل للإسلام لإنهاء نفوذ أعداء الأمة عن بلاده وإقامة دولته ، وبعد ذلك سيجري تطبيق الإسلام وفقه مذاهبه ، كل منطقة حسب مذهبها . فكأن مسألة ولاية أهل البيت عليهم السلام في برنامجنا مسألة شخصية كالتقليد ، أو مسألة إسلامية داخلية عليها أن تنتظر الوقت ، وعلينا أن نؤجلها كلياً ، الى أن نقيم الدولة الإسلامية في العالم !
إن هذا الفهم للتشيع، لا يختلف من الناحية النظرية المظهرية عن الفهم السائد عند عامة الشيعة ، لكنه في العمل والسلوك يختلف كثيراً !
والسبب في ذلك أنك عندما تقول لشيعي مؤمن بمذهبه: نعم إن ما تعتقده صحيح ، لكن الأولوية لغيره، فقد أعملت حق النقض على سلوكه الشيعي! ووضعت على جميع فعالياته للتشيع ( دليلاً وارداً ) من شأنه أن يجمدها ، بحجة أن غيرها أولى منها !
إن هذه الأولوية إنما تصح في حالة خاصة ، أو في مواجهة فعل ، أو رد فعل معين ، فيقال ينبغي أن نغمض عن الجانب المذهبي في الموضوع فعلاً ، من أجل مصلحة أعلى وأهم للإسلام والمذهب . لكن عندما تتحول مقولة الأولوية الى خط حياة وسياسة لطائفة ، فإنها تسبب للمذهب خسارات كبيرة ولأتباعه البعد عنه الى حد الإنفصال ، وهذا ما وقعنا فيه !
قاومنا الدفاع عن التشيع وساعدنا المهاجمين !
كنا ننظر الى كافة المناقشات المذهبية والبحوث العلمية والعملية المذهبية ، على أنها إشغال للأمة ببعضها ، ناتج عن عدم الوعي ، أو عن تحريك أعداء الإسلام ! وأن واجبنا الإبتعاد عنها ، ونصح أصحابها ، وأحياناً مقاومتها !
وبما أنا لا نستطيع أن نمنع وأن نقاوم حملات الأعداء والخصوم على مذهب أهل البيت عليهم السلام ، فقد اتجهنا بشكل وآخر الى مقاومة الدفاعات المتواضعة من علماء الشيعة وكُتَّابهم ، وحتى المناقشات العقدية من عوامهم ، بحجة أنها أعمال مذهبية تؤجج الخلاف ، وتضر بالدعوة وبمسيرة الأمة نحو وحدتها ، وإقامة حياتها على أساس الإسلام ! وبذلك لم تقتصر خسارتنا على فقدان الكثير من ثقافتنا المذهبية اللازمة ، بل تحولنا عن غير قصد ، الى عامل مساعد من الداخل ، يعضد تلك الحملات الضارية التي يشنها النواصب والأجانب على مذهب أهل البيت عليهم السلام وأتباعه بمن فيهم نحن ( الشيعة الواعون )!
غابت رؤية الإسلام بمنظار التشيع فحلت محلها رؤية هجينة !
هذه الرؤية الإسلامية الأصيلة للإسلام والأئمة عليهم السلام ، والمفاهيم الإسلامية النبوية الربانية عن الأئمة عليهم السلام ، كانت مغيبة عن عمد في الدعوة ، بحجة فكر الدعوة ، وثقافة الدعوة ، وعمل الدعوة ، وهدف الدعوة ! ومعنى ذلك: أن العمل لإعادة الخلافة أهم من فهم الإسلام نظرياً من وجهة نظر التشيع ، لأنه يخالفه. وأهم وأولى من طرح التشيع للناس، لأنه يناقضه!
ومعنى ذلك: أننا دعاةٌ الى إعادة الخلافة السنية ، ومعرضون عن العمل لإعادة الحكم الإسلامي بالفقه الشيعي، الذي يعني حكم الناس بالإنتخاب أوحكم المرجع بولاية الفقيه .
ومعنى ذلك: أنا شيعة بالإسم ، لكنا غيبنا الرؤية الشيعية للإسلام !
ومعنى ذلك: أنا انفصلنا عن بيئتنا ، ومراجعنا ، وحوزاتنا ، وتاريخنا . فكلها تهتف: الله ومحمد وأهل البيت عليهم السلام. ونحن نهتف: الله ومحمد والخلافة !
ومعنى ذلك: أنا نقدم أنفسنا الى الإخوان المسلمين ، فنقول لهم نحن منكم ، نشأنا على ثقافتكم وحبكم ، وهدفنا هو هدفكم في إعادة مجد الإسلام والخلافة الإسلامية . فنرى منهم البرود والتحفظ لأنا شيعة !
ونقدم أنفسنا الى الوهابية ، فيقولون هؤلاء رافضة باطنية ، لا يغركم كلامهم عن الإسلام والعمل لإعادة الخلافة !
ومعنى ذلك: أنا أعرضنا عن بيئتنا الشيعية فخسرناها ، ولم يقبلنا السنيون والوهابيون ، فمن هو أسوأ حالاً من حركة إسلامية ، مفصومة عن محيطها ، ولا يقبلها محيط آخر ! أليست هذه حالة الغراب الأسود بعينها ؟!
مناقشات حول إظهار مذهب الدعوة
في مطلع الدعوة حصلت بعض المناقشات الضعيفة في إعلان مذهب الدعوة وكانت تبدأ بسؤال: لماذا لا تعلن الدعوة مذهبها ، ألسنا شيعة ؟
وكان الجواب من أبي عصام والسيد الصدر وبقية القادة ، قاطعاً حاسماً: لا يجوز طرح المذهبية في العمل للإسلام ، بل يجب طرح الإسلام ككل ، والمذهب أمرٌ يخص الفرد المسلم ! كانوا يتصورون أن المذهب أمر شخصـي كالتقليد ، والعمل الإسلامي عام فيجب طرح الإسلام بدون مذهب !
المواجهة بين حزب الدعوة والسيد الصدر
كان الشهيد الصدرقدس سره من أبرز مؤسسـي حركة الدعوة الإسلامية ، التي عرفت فيما بعد باسم حزب الدعوة ، وأول المنظرين لها .
وقد اختاره المؤسس أبو عصام وزملاؤه في قيادتها فقيهاً للدعوة ومرجعاً ، لكن في حدود تبنيهم للفقيه والمرجع .
وقد تبنوا بالفعل بعض آرائه الفقهية المخالفة للمشهور ، كقبول توبة المرتد مطلقاً ، والحكم بإسلام كافة الفرق الإسلامية المقرة بالشهادتين .
لكني رأيتهم جميعاً أبا عصام وأبا حسن والشيخ عارف ، يعاملون السيد الصدر كزميل ، وليس كما نعامله نحن كأستاذ ومرجع وقائد .
وكثيراً ما كنت أمدح السيد الصدرقدس سره أمامهم فيؤيدون كلامي، لكنهم يعتبرونني ذائباً فيه أعطيه أكثر من حقه ، وكانوا يتهمونه بالأسرية .
وذات يوم قلت لهم معجباً: قال لي السيد الصدر إن آل الصدر جاؤوه ليساعدهم في بناء حسينية آل الصدر ، فقال لهم إنها مشروع أسري ! فقالوا له: نحن نتعجب من حظ آل الصدر ! فعندما يؤسس آل الحيدري أو آل ياسين أو غيرهم حسينية لا يقول لهم أحد شيئاً ، وعندما نؤسس نحن حسينية يتهمنا أبناؤنا بالأسرية .
قال ليقدس سره :قلت لهم: كان إسم حسينية آل الحيدري وآل ياسين مقبولاً عندما كانت الحسنية تعني مبكى، فكان معناها: مبكى آل ياسين ، ومبكى آل الحيدري ، أما اليوم فصارت تعني مركز قيادة ، فحسينية آل الصدر تعني قيادة آل الصدر ، وهذا خطأ ، فالقيادة للإسلام ، وليست لآل الصدر .
حكيت ذلك لقيادة الدعوة ، وأبديت إعجابي بأن السيد قدس سره فوق الأسرية . فقال لي أحدهم: أنت فيك طيبة ، يقصد بساطة وسذاجة ! فهذه الحسينية يديرها فرع آخر من آل الصدر ، هو فرع السيد هادي ، وأنت لم تَرَ تعصب السيد محمد باقر لفرعه فرع السيد حيدر .
وعندما توفي المرجع العام للشيعة السيد محسن الحكيمقدس سره ، لم يقبل قيادة الدعوة مرجعية السيد الصدرقدس سره مع أنه طلب منهم ذلك ، وتباحث معهم في مسجد الهاشمي بالكاظمية في جلسات عديدة مع أبي عصام والشيخ عارف!
وقد حدثني عنها أبو عصامقدس سره حيث جاء بعدها بفترة قصيرة الى الكويت ، ثم حدثني عنها أبو حسن السبيتي ، ولا أذكر أن الشيخ عارف حدثني عنها .
أما سبب رفضهم: فهو تبنيهم رأي القيادة الجماعية من أول تأسيس الدعوة ، ورفضهم القيادة الفردية ! وكانوا جميعاً يصرحون بذلك ، فكم مرة سمعت من السيد الصدر: إنا لا نؤمن بالقيادة الفردية ، فاسأل أبا عصام !
ومن الغريب أنا كنا نردد القايدة الجماعية كالببغاء ، ونتعامل مع قيادة أبي عصام الفردية ، ومع السيد الصدر ، وهو مشروع مرجعية وقيادة فردية !
كانت القيادة الجماعية في المرجعية تعني عندهم مجلس الفقهاء ، ولكنه لم يكن مبلوراً في أذهانهم ، وقد كتب محمد عبد الساعدي ، المدرس في ذلك الوقت في ثانويات الصندوق الخيري ، كتاباً فيه تصور لقيادة مجلس الفقهاء ، كان قريباً من تصور الشهيد الصدر ، وقيادة الدعوة آنذاك ، وبقي نظرياً . وخلاصته أن الحاكم الإسلامي يعين مجلس فقهاء يرجع اليه وقت الحاجة ويتبنى منه الفتوى التي يراها مناسبة !
ثم تراجع السيد الصدرقدس سره عن هذا التصور ، لكن قيادة الدعوة بقيت تتبناه .
وكان مجرى الأمور بعكس كلامهم جميعاً رحمهم الله ، فقد كانت قيادة أبي عصام فردية ، وكذا السيد الصدر ، ثم المسؤولين في التنظيم ، من مسؤول الإقليم الى مسؤول اللجنة المحلية ، الى مسؤولي الحلقات !
وقد اخترع المرحوم أبو عصام تعبيراً يلطف الأمر ، فكان يقول: رأي الدعوة وموقف الدعوة ، أي رأيه هو . وكأنَّ معنى القيادة الجماعية قيادته هو ، أو قيادته مع من وافقه فهم جماعة .
مهما يكن ، فلم يتوصلوا الى اتفاق مع السيد الصدرقدس سره بتبني مرجعيته ، خوفاً من تفرد المرجع بالقيادة الفردية ، فتخرج من أيديهم .
لكن أبا عصام أخبرني بصيغة ملطفة ، أنهم فضلوا التريث في تبني مرجعية السيد الصدر حتى يروا هل يتقدم معهم في قيادة الأمة ، وينسجم مع مشروعهم ، أم لا ؟ ولهذا ، أنهوا المباحثات معه .
وقال أبو عصام: قلت له إنا معاً في المسيرة ، وإن لم نتفق على إعلان مرجعيتك ، فنحن لانتركك ، وأنت لا تتركنا !
ثم ذهب أبو عصام وكتب البيان الرسمي أو النشرة كما كنا نسميها ، وقال فيها: إن المرجعية لها جانبان:الإفتاء والقيادة ، والإفتاء والتقليد أمرٌ شخصـي يرجع الى المكلف ، فهو الذي يشخص من يقلد . أما قيادة الأمة فهي للدعوة التي تتصدى وتقود الأمة ، لأن القيادة فعل قيادة وليست منصب قيادة .
وقد استاء السيد الصدرقدس سره من ذلك البيان كثيراً ، وكتب لي رسالة بخط تلميذه السيد كاظم الحائري ، أنه ليس من المصلحة أن نعلن مرجعيته فعلاً !
ويوجد سبب آخر في عدم توصلهم الى اتفاق مع السيد الصدر: أنهم يتبنون مشـروع المرجعية الموضوعية ، في مقابل المرجعية الذاتية ، أو المرجعية الرشيدة في مقابل المرجعية غير الرشيدة !
وهذه الفكرة كانت الى جنب فكرة القيادة الجماعية ، ثم تبناها السيد الصدر في المرجعية ، ودعا اليها وكتب فيها ، ثم تبناها علماء غيره ، ودعوا اليها وكتبوا فيها ، واتخذها بعضهم شعاراً يحارب به المرجعيات الموجودة !
لكن الملاحظ أن الفردية والأسرية كانت الحاكمة في مرجعيات هؤلاء بشكل ذريع ، حتى أن بعض الدعاة النجفيين قال لي: ذهبت الى فلان في غير النجف وقلت له: فَشَّلْتَنا ونَزَّلْت رؤوسنا ، فقد كنت تنتقد المرجعية الذاتية وتطرح المرجعية الموضوعية الرشيدة ، وعندما صارت لك مرجعية ما ، وصار عندك مبالغ مالية أعطيتها بيد ابنك فلان ، وصهرك فلان ، وأخيك فلان !
قال محدثي السيد علي فلان ، وهو حي يرزق: هل تعرف ماذا أجابني فلان؟ قال: إن أقاربي هؤلاء لا يأخذون رواتب ، فهم يعلمون تبرعاً .
فقلت له: أعطني ما تعطيه لصهرك فلان ، وأنا أعطيك راتباً كل عمرك !
أقول: ليست القضية كما تصوروها ، ورفعوا طروحاتها شعاراً ، ولا المشكلة في هيكلية نظام المرجعية ، وإنما في مدى نزاهة المرجع وتدينه وحسن إدارته ، ولا يتسع المجال للتفصيل .
تبقى القضية الأهم هنا: ماذا نسمي هذه المفاوضات بين الدعوة والسيد الصدر ، وكيف نفسرها فقهياً ؟ فإن كان السيد الصدر قدس سره عندهم هو الأعلم فيجب عليهم أن يقلدوه ويدعوا الى تقليده.وإن لم يكن أعلم فتقليده حرام ! فكيف يصير أمر التقليد موضوعاً للتفاوض ؟
الجواب: من وجهة نظر السيد الصدر أنه هو الأعلم ، ولا بأس أن يعمل لإقناع أبي عصام لكي تتبنى الدعوة مرجعيته .
ومن وجهة نظر أبي عصام: أن القيادة في الأمة لمن يتصدى ، والمتصدي هو الدعوة وهو قائدها ، ويمكنها أن تتبنى مرجعية مرجع إذا وافقها في خطها وهدفها ، وحيث أنها تشك في مواكبة السيد الصدر لها إن تبنت مرجعيته ، فالحل أن تتريث حتى ترى مساره في مرجعيته الناشئة ، في ظل مرجعية أستاذه السيد الخوئي القوية .
لذلك كتبت قيادة الدعوة يعني أبو عصام نشـرة الموقف من المرجعية ، وأعطاها الى الشيخ عارف ، والسيد نوري طعمة ، والسيد حسين جلوخان ، فعمموها على خطوط التنظيم ، ودَرَّسَها مسؤولوا الحلقات . وجاءني بنسخة الى الكويت ، لأدرسها في تنظيم الدعوة !
لكن السيد الحائري وصف مفاوضات السيد الصدر مع قيادة الدعوة بأنه كان مضطراً اليها، وزعم أنه كان لايرى لهم ولاية شرعية ، وهذا لا يصح!
قال في كتاب قرار الحذف صفحة/16: (فقيادة التنظيم فرضت نفسها كقيادة وكيان مستقل ، وللسيد كيانه وقيادته المستقلة ، كشرط للتفاوض مع السيد الشهيد ، فرفض ، لكن اضطرته المصلحة على أن يقبل بذلك ، وقال: إعملوا كقيادة ، لكن إذا اختلفنا فالرأي رأيي ، لكن المتفاوضين من التنظيم انشقوا قسمين: قسم وافق ، والآخر قال: القيادة لمن يعمل .
فهذا القسم الآخر والذي كانت القيادة الفعلية للتنظيم له ، يرى أن القيادة لا بد أن تكون للتنظيم ، وأما الفقيه فهو لابد أن يكون عضواً في الحزب ، أو في أحسن الأحوال لابد أن يكون المرجع متكئاً على حزب . هكذا انتهى تصور القيادة الحزبية في آخر المطاف ، وتبلورت رؤاهم عن مفهوم القيادة ، حتى كان لهم ذلك الموقف من مرجعية الأمة المتمثلة بالسيد الشهيد يومذاك . وهذا طبعاً من مخاطر ابتعاد التنظيم الحزبي عن إشراف وتوجيه الفقيه ).
أقول: لا أدري من أين أتى بمقوله أن ( المتفاوضين من التنظيم انشقوا قسمين: قسم وافق ، والآخر قال: القيادة لمن يعمل) .
فقد كانت الدعوة الى أن استشهد أبو عصام أطوع له من خاتمه ، وكان زملاؤه كلهم لايخالفون رأيه إن عزم ، ومنهم السيد الصدرقدس سره . فمن أين جاء السيد كاظم بهذا الإنشقاق في مفاوضاتهم أو بعده !
دلالة هذه الحادثة!
أكبر دلالتها: أن قيادة الدعوة لم تكن تعتقد بقيادة مرجع أو فقيه ، وحيث لم تقبل بمرجعية الشهيد الصدر قدس سره فيستحيل أن تقبل بقيادة غيره من المراجع .
من جهة أخرى: تأذى السيد الصدرقدس سره من موقف الدعوة ، لكنه لم يعلن انتهاء تضامنه مع التنظيم ، ولا القيادة أعلنت ، وبقي متضامناً معهم وهم متضامنون معه ، وصرت أنا بينهم مقسم القلب ، لأني أؤمن بضرورة التنظيم وضرورة المرجعية . فقال لي أبو عصام يومها: لماذا تتعجب ، إن السيد الصدر ليس معنا ، وقد تركنا من زمان ! وحدثني طويلاً عن مواقف السيد الصدر في ترجيح مصلحته على مصلحة الدعوة !
وبدا لي وقتها أن معهم حقاً في بعض الأمور، ومع السيد حق في بعضها ، وأخذت أناقشه فأخذ يطمئنني قائلاً إننا لا نتركه ولا يتركنا ، لكني لم أطمئن بذلك ، وأخذت أميل الى السيد الصدر ، وكان كل منهما يتمثل بقول الشاعر:
أعلمهُ الرمايةَ كل يومٍ** فلما اشتدَّ ساعِدُهُ رَمَاني
وكم علمتُهُ نَظْمَ القوافي** فلما قالَ قافيةً هَجَاني
أما كلام السيد الحائري ففيه عدة مغالطات ، منها قوله إن قيادة الدعوة فرضت نفسها كقيادة ، ولا يصح هذا الكلام ، لأن أول من فرضها السيد الصدر ، حيث كان طول المدة الى وفاة السيد الحكيمقدس سره يصـرح بأنا لانؤمن بالقيادة الفردية ، ويقول راجعوا أبا عصام، ويقول أبو عصام عالم، ويحترمه كأستاذه ، ويقدمه أمامه !
وكيف يكون ذلك انحرافاً ، وكان السيد الحائري يطيع مسؤوله الحزبي الشيخ عارف الى أن غادر النجف وبعدها ، ولا يطيع أستاذه ومرجعه السيد الصدر ، حتى غضب عليه ! فالوصف الواقعي لقيادة الدعوة هو: أنها كانت شورى بالإسم ، وفردية لأبي عصام في الواقع ، وكان السيد الصدر يمضيها ويتعامل معها ، ويحترمها الى حد التقديس ، ويكرسها بقوله وعمله !
ثم أراد السيد الصدر أن يتبنوا مرجعيته بلا شروط، وأرادوا أن يشترطوا عليه، وكلا المطلبين في اعتقادي خاطئ ، وفيه ما لايناسب مقام المرجعية .
مهما يكن ، فلم يتوصلوا الى اتفاق مع السيد الصدر، واستمر الأمر على ذلك الى أن اعتقل السيدقدس سره فطلب مني أن لا آتي الى العراق ، وأن أتحفظ في مراسلاتي له . ثم اعتقل أبو عصام رحمه الله وقتل .
وبعد سنوات اعتقلت السلطة الشيخ عارف البصـري ورفقاءه من قادة الدعوة وضغطت على السيد الصدر ، فأصدر فتوى بتحريم انتماء طلبة الحوزة الى تنظيم الدعوة ، فأخذت السلطة فتواه ، وواجهت بها الشيخ عارف ورفقاءه في السجن ، ثم أصدرت عليهم الحكم بالإعدام !
فغضب بعض الدعاة على السيد الصدر وسموه ابن الدعوة العاق ! وأفرط بعضهم فحملوه مسؤولية إعدام الشيخ عارف ورفاقه ، رحمهم الله جميعاً .
وزاد بعض الدعاة اتهامهم للسيد الصدرقدس سره عندما كان عضو القيادة القومية لحزب البعث زيد حيدر يتردد عليه مبعوثاً من صدام ، ويفاوضه على تحريم حزب الدعوة ، وطرح عليه أن يكون...
والذي يعرف صدام يعرف أنه سيعدم الشهداء سواء وجدت فتوى أم لو توجد .
وقال السيد الحائري إن الفتوى كانت بعد إعدام الشيخ عارف ورفاقه ، ولا يصح ذلك ، قال في كتابه قرار الحذف صفحة/15: (وبعد استشهاد الشهداء الخمسة: عارف وصحبه البررة وفي تلك الظروف الخاصة ، أفتى السيد الشهيد بحرمة انتماء الطلبة للحزب وكلف بعضاً من تلامذته الدعاة بالتحرك على الدعاة لإقناعهم بالخروج من تنظيم الدعوة , وعندها ثارت ثائرة البعض ، واتهموه بصنوف التهم، وتحدثوا ضده بحديث غير مناسب . ولعله في هذه الفترة قالوا عنه: إنه ابن الدعوة العاق ) !
وسئل السيد الحائري صفحة/180: ( ما هي المشكلة بين السيد الشهيد وقيادة الدعوة ؟ فأجاب: إنهم في فترة من الفترات عادَوْهُ معاداةً حقيقية ، وطبعاً في الفترة الأخيرة حصل شئ من التقارب )
ضعف الفكر الذي قامت عليه حركة الدعوة
الفهم العاطفي للاسلام
قامت نظرتنا الى الإسلام ودعوتنا اليه ، على مقولات أدبية عاطفية ، قلدنا فيها الإخوان المسلمين ! ولا بأس بالتعامل العاطفي مع العقائد والأحكام ، لكن بشـرط أن يكون أساسها العقلي والفقهي قوياً محكماً .
أما نحن فقد تلقينا من الأستاذ أن الإسلام دينٌ ودولة،ولم نطلب الدليل على ذلك.
والأسس التي كتبها الشهيد الصدر رحمه الله وأعجبتنا كثيراً ، ودرسناها في الحلقات ، لم يكن فيها دليل واحد على شرعية عمل الدعوة ، وإقامة الدولة .
لقد غاب عن ثقافتنا التدليل الفقهي على وجوب العمل السياسي لإقامة الدولة ، وحكم إنشاء تنظيمات وأحزاب لهذا الغرض ، وشرعية قيادة التنظيم للأمة . ودليل وجوب طاعة القيادة السرية المجهولة . والحكم في حالة تعارض تنظيمين أو تنظيمات تدعي الحق في قيادة الأمة ! ولم يكن عندنا شئ يذكر عن صيغة نظام الحكم الإسلامي، ولا في كيفية إدارة الدولة .كان الواجب في نظرنا أن نعمل في مشروعنا التوعوي الذي نسميه المرحلة التغييرية ، حتى يستجيب لنا أكبر عدد من الأمة ، فننتقل الى المرحلة الثانية ، المرحلة السياسية !
ضعف وعينا الإجتماعي والسياسي أيضاً
يأخذني العجب من المرحوم أبي عصام ، فمع شجاعته اختار لتنظيمه: السرية والخُفية لقيادته وأعضائه ، والعمل تحت الأرض ! وجعل المرحلة التغييرية التي هي أطول مرحلة في الدعوة: أن ننشئ أمة قيادية داخل الأمة ، حتى يأتي اليوم الذي نعلن فيه عن وجودها، ونفاجئ الناس بها تنظيماً له القدرة على تحريك الأمة ، وإسقاط الحكم الفاسد ، وإقامة حكم الإسلام !
هكذا كان يفكر وكنا نفكر ، بخيال جانح ! كأن أعين السلطة وأعداء الإسلام معصبة عن رؤية نشاطنا ، أو كأنا نملك طاقية إخفاء لمشـروع كبير خطير ، يعمل بين الناس وينشئ منهم جيلاً ، أو أمة واعية تحت الأرض!
* على أن تقديرنا لمدة هذه المرحلة التي نسميها التغييرية أو الإنقلابية ، كان متفاوتاً في أذهاننا تفاوتاً كبيراً ، مضافاً الى أنه تغير كثيراً على مدى سنوات !
كانت تفكير قيادة الدعوة في الستينات أن المرحلة الأولى التغييرية أساس كل المراحل التالية ، فكل مستقبل الإسلام والعالم يتوقف عليها !
سألت الشهيد الصدر في صيف سنة 1964، وكان عندنا في الكوفة مع كبار تلاميذه، وجلسنا معه بعد العشاء في جلسة استشراف للمستقبل ، وسألته: سيدنا كم تقدرون أن تطول المرحلة التغييرية حتى يمكن إقامة حكم إسلامي في العراق؟ فقال: ثلاث مئة سنة ! وأصاب بعضنا الذهول ! فأخذ السيد يبين الظروف الموضوعية ، وطبيعة ما يتطلبه مشـروع إنشاء أمة داخل الأمة ، ويهون الأمر علينا بالمتغيرات التي قد تقصر المدة .
ثم تغير هذا التقدير بعد ذلك في ذهنه رحمه الله وأذهان بقية أعضاء القيادة !
لكن مع ذلك ظلت الخيالية حاكمة على تفكيرنا، فكنا نرفض المشاركة في أي حركة مطلبية تقوم بها المرجعية ، بحجة خطة المرحلية عندنا !
ولا أنسى أن أبا عصام أبلغني مفتخراً أن السيد مهدي الحكيم طلب من الدعوة أن تشارك في تحرك مطلبي في أيام عبد الرحمن عارف فرفضت ، ثم كرر الطلب في أوائل مجئ البعثيين ، وجرت مباحثات بينهم وبينه في ذلك ، قال أبو عصام: كانت نتيجة مباحثتنا أنا أبلغناه أننا لن نشترك في أي تحرك مطلبي ، وأنا نعمل بمرحلية ، وموقفنا من أي حاكم أو وزير أو نظام هو موقفنا من النظام غير الإسلامي ككل .
بل رفضت قيادة الدعوة أن تقف علناً الى جانب السيد الحكيم قدس سره عندما هاجمته السلطة البعثية واتهمت ابنه بمحاولة انقلاب فاعتصم في منزله .
وقد امتنعت قيادة الدعوة حتى عن تنظيم مجالس دعاء الفرج ، بحجة أن ذلك يتنافى مع خطة المرحلية التي تتبناها !
كان هدفنا الذي عبؤوا به رؤوسنا ، هدف تغيير العالم ، وإقامة دولة الإسلام المثالية . وأنه لايجوز أن نرضى بأقل منها !
فاعجب لهذه الحنبلية المفرطة !
الفكر المثالي يوصل الى الإغراق في التبعية !
ما الذي جعل هذا القيادي الذي كان يحمل أفكار الدعوة بقوة ، وكان مسؤولاً في التنظيم في البصرة ، وكان مقرباً معتمداً عند قيادة الصف الأول ، مثل الشهيد أبي عصام ، والشهيد الشيخ عارف ، ما الذي جعله طائعاً مختاراً تابعاً لسياسي علماني مرتبط بالغرب؟ هل هي المثالية في أطروحة الدعوة ، التي اكتشف أنها خيالٌ غير قابل للتطبيق فتخلى عنها؟ أم أخذ يبحث عن باب معيشة فصادفه علماني وفره له . أم نوعية التدين الذي كان يعيش به ، وأنه كان تديناً سياسياً ، قام على إعجاب عاطفي بالفكرة ، ولم يكن تديناً فقهياً قائماً على تلقي العقيدة من الأسرة ، ثم دراستها من أساتذتها ، ودراسة الحكم الشرعي من رسالة عملية ومرجع تقليد ؟
ثم ، ما الذي جعل الدعوة ، التي لم ترض بالسير تحت لواء مرجعية السيد محسن الحكيم ، ولا مرجعية السيد الخوئي ، ولا رضيت أن ترفع لواء مرجعية السيد الصدر ، بل ولا مرجعية الإمام الخميني ، قدس الله أنفسهم ..
ما الذي جعلها تتحول الى تابعة مطيعة لمرجعية ناشئة يعيش صاحبها وأسرته البذخ الشخصي والدعائي ، وله مشكلة عقيدية مع مذهب الشيعة ومراجع الشيعة ، فتحول أكثر الدعاة بقرار من قيادة الدعوة أو رضاها ، الى مدافعين عن أفكاره المخالفة لإجماع الشيعة أو مشهور المذهب ، والتي يقف ضدها مراجع الشيعة وجمهورهم المتدين؟! هل هو التنازل عن الهدف لأنه خيالي؟ أم التفافٌ حول أي شخص شاخص ، يحقق لنا حالة العُصبة والحُزبة؟ أم هو غياب البناء العقلاني في فهم الإسلام والدعوة اليه ؟ أم غياب البناء الفقهي لتدين الدعاة ؟
أم هذه العوامل كلها ، ومعها غيرها ؟!
لاحق لأحد أن يدعو الى الله تعالى إلا بإذنه
حصـر مذهب أهل البيت عليهم السلام المأذون لهم بالدعوة إلى الإسلام بالمعصومين أي النبي والأئمة عليهم السلام فقط.«التهذيب:6/131». فالمعصوم وحده المخوَّل بدعوة الناس والشعوب إلى الإسلام ،لأنه مُنزَّهٌ عن ظلمهم ، وضامنٌ للعدل فيهم.
فقد سأل أبو عمرو الزبيري الإمام الصادق عليه السلام:« أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله ، أهو لقوم لا يحل إلا لهم ولا يقوم به إلا من كان منهم ، أم هو مباح لكل من وحد الله عز وجل وآمن برسوله ، ومن كان كذا فله أن يدعو إلى الله عز وجل وإلى طاعته ، وأن يجاهد في سبيله ؟ فقال عليه السلام: ذلك لقوم لا يحل إلا لهم ، ولا يقوم بذلك إلا من كان منهم . قلت: من أولئك؟ قال:من قام بشرائط الله عز وجل في القتال والجهاد على المجاهدين فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عز وجل،ومن لم يكن قائماً بشرائط الله عز وجل في الجهاد على المجاهدين، فليس بمأذون له في الجهاد ولا الدعاء إلى الله حتى يُحَكِّم في نفسه ما أُخذ الله عليه من شرائط الجهاد .
قلت: فبيِّن لي يرحمك الله. قال: إن الله تبارك وتعالى أخبر في كتابه عن الدعاء إليه ، ووصف الدعاة إليه فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضاً ، ويستدل بعضها على بعض ، فأخبر أنه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ، ودعا إلى طاعته واتباع أمره ، فبدأ بنفسه فقال:وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . ثم ثنى برسوله صلى الله عليه وآله فقال: أُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . يعني بالقرآن. ولم يكن داعياً إلى الله عز وجل من خالف أمر الله ويدعو إليه بغير ما أمر في كتابه والذي أمر أن لا يدعى إلا به . وقال:في نبيه صلى الله عليه وآله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . يقول:تدعو . ثم ثَلَّثَ بالدعاء إليه بكتابه أيضاً ، فقال تبارك وتعالى:إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ . أي يدعو ويبشر المؤمنين .
ثم ذكر من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله صلى الله عليه وآله في كتابه فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . ثم أخبر عن هذه الأمة وممن هي، وأنها من ذرية إبراهيم ومن ذرية إسماعيل من سكان الحرم ، ممن لم يعبدوا غير الله قط ، الذين وجبت لهم الدعوة دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من أهل المسجد ، الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أَذْهَبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرَا..
ثم أخبر تبارك وتعالى أنه لم يأمر بالقتال إلا أصحاب هذه الشـروط فقال عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ.. وذلك أن جميع ما بين السماء والأرض لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله ولأتباعهما من المؤمنين من أهل هذه الصفة .
فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول الله صلى الله عليه وآله والمولي عن طاعتهما ، مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات وغلبوهم عليه ، مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله فهو حقهم أفاء الله عليهم ورده إليهم ، وإنما معنى الفيئ كل ما صار إلى المشركين ثم رجع ، مما كان قد غُلب عليه أو فيه . فما رجع إلى مكانه من قول أو فعل، فقد فاء . وإن لم يكن مستكملاً لشرائط الإيمان فهو ظالم، ممن يبغي ويجب جهاده حتى يتوب ! وليس مثله مأذوناً له في الجهاد والدعاء إلى الله عز وجل، لأنه ليس من المؤمنين المظلومين الذين أذن لهم في القرآن في القتال. فليتق الله عز وجل عبدٌ ، ولايغترَّ بالأماني التي نهى الله عز وجل عنها ، من هذه الأحاديث الكاذبة على الله التي يُكذبها القرآن ، ويتبرأ منها ومن حملتها ورواتها » . «الكافي:5/13» .
أقول: هذا الحديث صريح في أن دعوة الناس إلى دين الله مَنصبُ نيابةٍ عن الله تعالى ، يحتاج إلى نص ، وليس تبرعاً ، أو تطوعاً مفتوحاً لكل الناس .
ويدل عليه من ناحية حقوقية أن الدعوة فيها تصـرفٌ في حقوق العباد وأنفسهم وأموالهم ، فهي تحتاج إلى مُجَوِّزِ قانوني من المالك عز وجل للتصرف في عباده .
بل ورد التصريح بذلك في وصية أمير المؤمنين عليه السلام الى كميل بن زياد رحمه الله ، كما في تحف العقول لابن شعبة/91، وبشارة المصطفى للطبري/51، بسنده الى كميل من وصيته له ، جاء فيها: «يا كميل أرأيت لو أن الله لم يُظهر نبياً ، وكان في الأرض مؤمن تقي ، أكان في دعائه إلى الله مخطئاً أو مصيباً؟ بل والله مخطئاً حتى ينصبه الله عز وجل ، ويؤهله » !
لاحظ تعبير أمير المؤمنين عليه السلام: ينصبه ويؤهله ، فالدعوة الى الله منصبٌ لا تصح الدعوة إلا به ، ولا يعطيه الله تعالى إلا لمن يؤهله تأهيلاً خاصاً ، ليكون مُعَبِّراً عن الله تعالى، رحيماً بمن يدعوه ، لا يريد رئاسة عليه ، ولا جعله عضواً مطيعاً في حزبه وحلقته ،كما يفعل أعضاء الحركات ! ولذا أجمع فقهاؤنا على أن القيادة للإمام المعصوم عليه السلام ، وبعده للفقيه في حدود ما خوله المعصوم عليه السلام لا أكثر .
بل روى أتباع المذاهب أن النبي صلى الله عليه وآله حصـر هذا الحق في أعلم الأمة وأفقهها:
ففي مغني ابن قدامه «2/20» عن رسالة أحمد بن حنبل: « إذا أمَّ الرجل القوم وفيهم من هو خير منه ، لم يزالوا في سِفَال ».
وفي طبقات الحنابلة «1/359»: «ومن الحق الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارهم وأهل الدين والفضل منهم ، وأهل العلم بالله تعالى ، الذين يخافون الله عز وجل ويراقبونه . وقد جاء الحديث: إذا أمَّ بالقوم رجلٌ وخلفه من هو أفضل منه ، لم يزالوا في سفال».ورواه السيوطي في الفتح الكبير«3/16» .
وفي مجموع النووي «1/41»: «قال مالك: ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلاً لشئ حتى يسأل من هو أعلم منه » .
وفي مصنف عبد الرزاق «5/445» بسند صحيح: «من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من غير مشورة من المسلمين ، فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه » !
وفي الكافي من مصادرنا (5/27) قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين من هو أعلم منه ، فهو ضال متكلف » !
وعلى هذا ، يجب على المسلمين الشيعة أخذ الشـرعية في دعوتهم الى الإسلام من المرجع الجامع للشروط ، وإلا فلا شرعية لعملهم !
ويجب على السنة أن يأخذوا الشرعية لدعوتهم من أعلم الفقهاء في المذاهب ، ثم ببيعة أهل الحل والعقد من المسلمين ، وإلا فلا شرعية لعملهم !
وبذلك اتضح أن قولنا في زيارة الإمام المهدي عليه السلام:السلام عليك يا داعيَ الله: تعني أن الإمام المهدي عليه السلام منصوبٌ من الله لدعوة الناس اليه ، وأن الذي يعطيه الله هذا المنصب ويبعثه لهذه المهمة ، لا بد أن يعطيه لوازم الدعوة ووسائلها من العلم والقدرات الأخرى ، ولذلك سمي المهدي ، لأن ربه يهديه الى كل ما يحتاجه الناس .
وكذلك الأئمة الإثنا عشرعليهم السلام فهم الدعاة الرسميون الى الله تعالى . كما في الزيارة الجامعة: « السلام على الأئمة الدعاة ، والقادة الهداة ».
ودعوتهم عليهم السلام الى الله تعالى امتدادٌ لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله الذي أمره ربه أن يستخلفهم ، فهو داعي الله الأكبرصلى الله عليه وآله : يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله.. وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ . «الأحقاف:31- 32 ».
* *