السيرة النبوية عند أهل البيت (ع) المجلد الثاني
--------------------------- الغلاف 1 ---------------------------
.
--------------------------- 1 ---------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------- 2 ---------------------------
.
--------------------------- 3 ---------------------------
السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام
على الكوراني العاملي
المجلد الثاني
الطبعة الثانية - منقحة ومزيدة
1438 - 2017
دار المعروف
--------------------------- 4 ---------------------------
شابك : 9786006612881
شماره كتابشناسى ملى : 4793168
عنوان ونام پديد آور : السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام / على الكوراني العاملي
مشخصات نشر : قم ، دار النشر المعروف ، 1438 ق . = 2017 م . = 1396 .
مشخصات ظاهري : 2 ج . / يادداشت : عربي .
يادداشت : چاپ دوم . / يادداشت : ج . 2 ( چاپ دوم : 1438 ق . = 2017 م . ) .
يادداشت : كتاب حاضر اولين بار در سال 1388 تحت عنوان " جواهر التاريخ : السيرة النبوية عند أهل البيت ( ع ) " توسط انتشارات باقيات منتشر شده است .
عنوان ديگر : جواهر التاريخ : السيرة النبوية عند أهل البيت ( ع ) .
موضوع : محمد ( ص ) . پيامبر اسلام . 53 قبل از هجريت - 11 ق . / موضوع : 632 . Muhammad . Prohpet . d
موضوع : سنت نبوي / موضوع : Wonts of the Prophet
موضوع : اسلام - - تاريخ - - ازآغاز تا 11 ق / موضوع : 632 Islam - - History - To
رده بندى ديويى : 93 / 297
رده بندى كنگره : 1396 9 ج 9 ك / 46 / Bp 24
سر شناسه : كورانى ، على ، 1944 - م . Kurani Ali
وضعيت فهرست نويسى : فيپا
- *
السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام ( 2 )
المؤلف : على الكوراني
الناشر : دار المعروف ، قم المقدسة .
الطبعة : الأولى .
تاريخ النشر : ذي قعدة 1438 ه ق - July 2017
المطبعة : باقرى - قم المقدسة .
عدد المطبوع : 3000 نسخة .
شابك : 1 - 88 - 6612 - 600 - 978
دار المعروف
للطباعة والنشر
مركز النشر والتوزيع :
إيران - قم المقدسة - شارع مصلى القدس - رقم الدار : 682 . ص - ب : 37156 - 158 تلفون : 00982532926175
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للمؤلف
www . maroof . org
Email : nashremaroof @ gmail . com
--------------------------- 5 ---------------------------
الفصل الأربعون
سورة الأنفال سورة بدر
الأنفال فضحت كثيراً من الصحابة البدريين !
اتفق الرواة على أن سورة الأنفال نزلت بعد معركة بدر ، وهى خمس وسبعون آية . وأكثر آياتها في شأن بدر ، وموقف الإسلام من قريش ، وتوجيه المسلمين في جوانب من الحرب والسلم ، وتشريع الخمس لآل النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال سعيد بن جبير : « قلت لابن عباس : سورة التوبة ؟ قال : التوبة ، بل هي الفاضحة ! ما زالت تنزل ومنهم ومنهم . حتى ظنوا أن لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها ! قلت : سورة الأنفال ؟ قال : تلك سورة بدر . قلت : فالحشر ؟ قال : نزلت في بنى النضير » . مسلم : 8 / 245 .
وقد تقدمت بعض آيات السورة ، وهذا نصها مع شرح مختصر لمضمون الآيات :
اختلافهم على الغنائم
1 . يسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . 1 .
بدأت السورة حديثها عن أكبر معركة في تاريخ الإسلام ، باختلاف المسلمين على الغنائم ! لتقول لهم أيها المسلمون إن مشكلتكم الطمع بالماديات فانتبهوا !
--------------------------- 6 ---------------------------
المؤمنون حقاً لا يختلفون على غنائم !
2 . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيتْ عَلَيهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يتَوَكَّلُونَ . أَلَّذِينَ يقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . 2 - 4 .
عرَّضت هذه الآيات بقسم من الصحابة البدريين ، فمدحت المؤمنين حقاً الذين لا يختلفون على غنائم ، لأنهم أصحاب إيمان عميق ، ووصفتهم بأنهم ينفقون مما رزقهم الله ، لأنهم ينتظرون مغفرته ورزقه في الآخرة !
صحابة يجادلون نبيهم وكأنهم يساقون إلى الموت !
3 . كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يجَادِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَينَ كَأَنَّمَا يسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ ينْظُرُونَ . وَإِذْ يعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيرِيدُ اللهُ أَنْ يحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيحِقَّ الْحَقَّ وَيبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ . 5 - 8 .
ثم وبَّخهم عز وجل بتذكيرهم كيف أخرج نبيه ( صلى الله عليه وآله ) من بيته بالحق ، وقسم منهم خائفون يجادلون النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالباطل ، لأنه طرح عليهم احتمال الحرب وهم يريدون القافلة دون الحرب ! فكانوا كمن يساقون إلى الموت سوقاً رغماً عنهم !
الإمداد الإلهى للمسلمين في بدر
4 . إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . إِذْ يغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَينَزِّلُ عَلَيكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيطَانِ وَلِيرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ . إِذْ يوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبوُا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ . 9 - 14 .
ذكرت الآيات خوف المسلمين واستغاثتهم بربهم عندما واجهوا جيش قريش ،
--------------------------- 7 ---------------------------
وكيف استجاب الله تعالى لهم وأمدهم بأنواع من المدد الغيبي ، المعنوي والمادي المنظور وغير المنظور . وجعلت استغاثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) استغاثتهم ، والاستجابة لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) استجابة لاستغاثة المسلمين .
الفرار إلى الصفوف الخلفية كالفرار من المعركة
5 . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يوَلِّهِمْ يوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلامُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . 15 - 16 .
وهذا أمرٌ مشددٌ بأن لايفروا في المعركة ، وتهديدٌ لهم وتعريض بهم ! ولم ينقل فرار أحد منهم في بدر إلى خارج المعركة ، فلا بد أنها تقصد فرارهم من الصفوف الأمامية إلى الخلفية ، كما حدث عمر عن نفسه لما رأى العاص بن سعيد .
وتقدم قوله « ابن هشام : 2 / 464 » . « رأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ فهبته وزغت عنه ! فقال : إلى أين يا ابن الخطاب ! وصمد له على فتناوله ، فما رمت من مكاني حتى قتله » !
وهذا اعتراف بالفرار من الزحف !
قاتلَ النبي « صلى الله عليه وآله » ورمى المشركين بكف حصى
6 . فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيبْلى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيدِ الْكَافِرِينَ .
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَخَيرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِى عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ . 17 - 19 .
أخبر الله عز وجل بأنه هو طرف المعركة ، وهو الذي قتل المشركين ، وهو الذي رمى بيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو الذي أجرى المعركة على يد المؤمنين ليمتحنهم ويجزيهم جزاء حسناً . وخاطب الكفار ودعاهم إلى التوبة ، وتوعدهم إن
عادوا بالهزيمة .
--------------------------- 8 ---------------------------
أمر الله المسلمين بطاعة الرسول « صلى الله عليه وآله » وذكرهم بنعمه عليهم
7 . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يسْمَعُونَ . إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يحْييكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحْشَرُونَ . وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض تَخَافُونَ أَنْ يتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . 20 - 26 .
ثم أكد عز وجل على حقيقة إيمانية عملية هي طاعة المؤمنين لنبيهم ( صلى الله عليه وآله ) طاعة كاملة ، وفيه تعريض بالذين جادلوه بعد وضوح الأمر ، خوفاً من المعركة ، ثم لم يطيعوه واختلفوا في الغنيمة ! وحذرهم من أن مخالفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ظلمٌ ينتج عنه فتنة لا تختص بفاعلها ، فعليهم نهيه عن المنكر . ثم ذكَّرهم عز وجل بنعمته عليهم وأنه هيأ لهم المدينة موطناً ومأمناً وقاعدة ، وأنعم عليهم بنصره ورزقه .
وحذرهم من خيانة الله ورسوله « صلى الله عليه وآله » وخيانة أنفسهم
8 . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًاوَيكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيئَاتِكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ . 27 - 29 .
ثم حذرهم الله عز وجل من نوعين من الخيانة ، خيانة الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) بمخالفة أوامره . وخيانة أماناتهم بالتعدى على ما اؤتمن عليه أحدهم من حقوق الآخرين وأموالهم . وقد حدث ذلك في بدر ففي الطريق خان بعضهم الله ورسوله بجدلهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) متعمدين ! وفى بدر اتهموه ( صلى الله عليه وآله ) بأنه غلَّ وأخفى قطيفة من الغنائم فبرأه الله ! وبعضهم خان الأمانة وغلَّ ! وتحدثت الآية الثانية عن نعمة الفرقان بين الخير والشر والخطأ والصواب ، كما كانت بدر فرقاناً ميزت بين المسلمين والمشركين .
--------------------------- 9 ---------------------------
وذكَّر قريشاً بتآمرهم على الرسول « صلى الله عليه وآله » وعملهم لقتله
9 . وَإِذْ يمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيثْبِتُوكَ أَوْ يقْتُلُوكَ أَوْ يخْرِجُوكَ وَيمْكُرُونَ وَيمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ الْمَاكِرِينَ . وَإِذَا تُتْلَى عَلَيهِمْ آياتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَلِينَ . وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَينَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . وَمَا كَانَ اللهُ لِيعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يسْتَغْفِرُونَ . وَمَا لَهُمْ أَلا يعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعْلَمُونَ . وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ . 30 - 35 .
وهذه الفقرة في تكذيب قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وتآمرهم عليه لقتله أو نفيه من مكة ! وهى تؤكد أنهم فقدوا المنطق السَّلِيم بسبب تكبرهم ، فطلبوا من الله أن يقتلهم بحجارة من السماء إن كان محمد ( صلى الله عليه وآله ) صادقاً ! وهى حالة من العناد وعبادة الذات تجعل صاحبها عدوانياً وتعميه عن الإيمان ! وتعميهم حتى عن الإيمان بالكعبة التي يعيشون ببركتها ، ولذلك استحقوا العذاب الإلهي !
وذكَّر قريشاً بتآمرهم ضد الإسلام وهددهم
10 . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ينْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَينْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يحْشَرُونَ . لِيمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيبِ وَيجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ ينْتَهُوا يغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَلِينَ . وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يعْمَلُونَ بَصِير . وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ . 36 - 40 .
خصص الله هذه الفقرة لنشاط القرشيين ومن وراءهم ، وإنفاقهم الأموال لعداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخبر أنهم سيغلبون في هذا الصراع لأنه إرادة ربانية لفرز الأخيار من الأشرار . وأنذرهم بالهزيمة إن واصلوا معاركهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ،
--------------------------- 10 ---------------------------
وأطمعهم بالعفو عما أسلفوا إن انتهوا ، وأمر المسلمين بمواصلة قتالهم حتى يخمدوا فتنتهم ويزيحوهم من طريق انتشار الإسلام .
وشرَّع الله فريضة الخمس لبنى هاشم لأنهم أسسوا الأمة والدولة
11 . وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَئٍْ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يوْمَ الْفُرْقَانِ يوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيقْضِى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَينَةٍ وَيحْيى مَنْ حَى عَنْ بَينَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِذْ يرِيكَهُمُ اللهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الأمر وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِز . وَإِذْ يرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيتُمْ فِى أَعْينِكُمْ قَلِيلاً وَيقَلِّلُكُمْ فِى أَعْينِهِمْ لِيقْضِى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمور . 41 - 44 .
يقول الله بذلك للمسلمين : أيها المختلفون على الغنائم ، المتهمون لنبيهم ( صلى الله عليه وآله ) بأنه سرق منها ! إنكم مدينون بانتصاركم لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) وقرابته « عليهم السلام » ، فاعلموا أن لهم خمس ما غنمتم إن كنتم مؤمنين بالله تعالى وما عاينتم من فعله ! ألا ترون أن الله خطط ووقت وأدار المعركة ، ونصركم عليهم وحسم المعركة بالملائكة وبنى هاشم ، فلولاهم لما كنتم أمة ولا دولة ؟ فأدوا إليهم المالية التي خصهم الله بها !
وأمر المسلمين بالثبات في الحرب وأن لا يبطروا كالمشركين
12 . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يعْمَلُونَ مُحِيطٌ . وَإِذْ زَينَ لَهُمُ الشَّيطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِى مِنْكُمْ إِنِّى أَرَى مَا لاتَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ . 45 - 48 .
أكدت الفقرة على خمسة أحكام وقواعد في الحرب : وجوب الثبات وحرمة الفرار ، وذكر الله كثيراً في الحرب ، وطاعة الرسول ، والمحافظة على وحدة الجبهة الداخلية
--------------------------- 11 ---------------------------
وحرمة التنازع والاختلاف ، وعدم الاعتداد بالنفس والبطر كحالة قريش في بدر ، التي غشها الشيطان فأساءت تقدير المعركة وانهزمت !
وحذرهم من المنافقين ومرضى القلوب في داخلهم
13 . إِذْ يقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . « 49 » . وهذه الآية ذكرت المسلمين بموقف المنافقين ، ومرضى القلوب وهم أخطر المنافقين ! فهؤلاء كانوا يتوقعون هزيمة المسلمين أمام قريش لأنها برأيهم أكثر وأقوي ، ويصفون المؤمنين بأنهم مغرورون بدينهم ووعد نبيهم ! ومعنى الآية : واذكروا إذ يقول هذان النوعان منكم إنكم مغرورون ، فهم لضعف إيمانهم يرون التوكل على الله والإيمان بوعده غروراً ، مع أنه
إيمان ويقين !
وحذرهم من عاقبة أعداء الرسل « عليهم السلام »
14 . وَلَوْ تَرَى إِذْ يتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ . ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ . كَدَاْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِى شَدِيدُ الْعِقَابِ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يكُ مُغَيرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يغَيرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . كَدَأبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ . 50 - 54 .
صوَّرت هذه الفقرة حالة الكفار عند الموت وفى الآخرة ، وذكرتهم بأنهم تجرى عليهم سنة الله في عقوبة المكذبين للرسل ، كآل فرعون ومن قبلهم ، الذين انطبقت عليهم قاعدة تغيير النعم وسلبها ، بسبب كفرانها وتغير أنفس أصحابها !
ونبه المسلمين إلى شرالدواب الخائنين
15 . إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لايؤْمِنُونَ . الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ ينْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لايتَّقُونَ . فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
--------------------------- 12 ---------------------------
يذَّكَّرُونَ . وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لايحِبُّ الْخَائِنِينَ . 55 - 58 .
أنذرت هذه الفقرة الفئات اليهودية والقبائل التي عقد معها النبي ( صلى الله عليه وآله ) معاهدات تعايش وعدم اعتداء ، ثم نقض بعضهم عهده واعتدى على المسلمين . وأمرت النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمعالجة وضعهم والمبادرة إلى حربهم إن رأى بوادر الخيانة .
وعَلَّم المسلمين قواعد التعامل مع أعدائهم
16 . وَلا يحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لايعْجِزُونَ . وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَاللهِ وَعَدُوَكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَئٍْ فِى سَبِيلِ اللهِ يوَفَّ إِلَيكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ . وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وَإِنْ يرِيدُوا أَنْ يخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِى أَيدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَينَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَينَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . يا أَيهَا النَّبِى حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . يا أَيهَا النَّبِى حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يغْلِبُوا مِائَتَينِ وَإِنْ يكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يفْقَهُونَ . الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يغْلِبُوا مِائَتَينِ وَإِنْ يكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يغْلِبُوا أَلْفَينِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ . 59 - 66 .
وهنا أنذر الله تعالى الكافرين ، وأمر المسلمين بأن يعدوا العدة لحربهم ، وأن يسالموهم إن أرادوا السلم ، ولا يخافوا من مناوراتهم السياسية .
وبين للمسلمين أن وحدتهم والتفافهم حول نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) نعمةٌ غير عادية ، وهى من فعل الله تعالى ولطفه بهم فعليهم أن يعرفوا قيمتها ويؤدوا حقها .
وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن يقاتل الكفار بمن أطاعه من المؤمنين حتى لو كانوا قلة .
ثم كشف سبحانه تراجع في مستوى المسلمين في بدر ! فقد أراد أن يكون المسلم الواحد منهم مقابل عشرة ، لكنه بسبب ضعفهم في بدر ، جعل الواحد منهم مقابل اثنين فقط ! وقد ظهر هذا الضعف بجدلهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) واختلافهم في الغنائم ، وخيانة بعضهم ، وجبن آخرين .
--------------------------- 13 ---------------------------
وبَّخ الذين سارعوا إلى أسر القرشيين قبل أن يثخنوا فيهم
17 . مَاكَانَ لِنَبِى أَنْ يكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثْخِنَ فِى الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
يا أَيهَا النَّبِى قُلْ لِمَنْ فِى أَيدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يعْلَمِ اللهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيرًا يؤْتِكُمْ خَيرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَإِنْ يريدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . 67 - 71 .
وفى هذه الآية تفاسير تنشأ من معنى الإثخان ، ومعنى عرض الدنيا الذي أراده الصحابة ، وتكليف النبي ( صلى الله عليه وآله ) وموقفه بشأن الأسري .
والتفسير الصحيح : أن معنى الإثخان في الأرض الإثخان في قتال المشركين ، حيث نهاهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد هزيمة المشركين أن يأخذوا منهم أسرى قبل أن يثخنوهم قتلاً ويدمروا قوتهم القتالية ، لكنهم أخذوا أسرى طمعاً في فدائهم ! وقد اختاره أبو الفتح الكراجكي « رحمه الله » في : التعجب من أغلاط العامة / 88 ، قال : « وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر وطمعوا في الغنائم حتى نزل فيهم : مَاكَانَ لِنَبِى أَنْ يكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثْخِنَ فِى الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا . . » .
فالآية تنهى عن الأسر قبل الإثخان ، وقد أثخن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الأرض وقطع مسافة طويلة ، لكن المسلمين لم يثخنوا في قتالهم ومطاردتهم ، واكتفى الواحد منهم بأسير ليأخذ فديته ! وهذا المعنى يتسق مع السياق : تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ، وقوله : وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ . وقد اختاره السيد شرف الدين « رحمه الله »
في النص والاجتهاد / 323
واختاره السيد الخوئي « رحمه الله » في البيان / 365 ، قال : « المعروف بين الشيعة الإمامية أن الكافر المقاتل يجب قتله ما لم يسلم ، ولا يسقط قتله بالأسر قبل أن يثخن المسلمون الكافرين ويعجز الكافرون عن القتال لكثرة القتل فيهم » .
واختار شبيهه صاحب الصحيح من السيرة : 5 / 111 ، قال : « كانت ثمة أوامر
--------------------------- 14 ---------------------------
خاصة بالنسبة لأسرى بدر بينها النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه ، ولكنهم قد أصروا على مخالفتها فاستحقوا العذاب العظيم ، ثم عفا الله عنهم رحمة بهم وتألفاً لهم » .
وتوجد تفاسير أخرى تنفى اللوم عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) . كقول السيد الميلاني إن النهى فيها يدل على الترفع ولا يدل على التحريم .
لكن عمر زعم أنه أصاب وأخطأ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن الله وافقه ونهى نبيه عن الأسر وأخذ الفداء ، فخالف النبي ( صلى الله عليه وآله ) فنزلت الآية توبخه وتوبخ الأنصار لأنهم أخذوا الأسرى طمعاً بفدائهم ! راجع رواياتهم في تفسير الطبري : 10 / 55 .
ويرده أن الآية الأخيرة تدل على صحة أسرهم ، وقد تقدم من الكافي : 8 / 2020 : « نزلت في العباس وعقيل ونوفل وقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم ، وأبو البختري ، فأسروا ، فأرسل علياً فقال : أنظر من هاهنا من بني هاشم . . فجيئ بالعباس فقيل له : إفد نفسك وافد ابن أخيك ، فقال : يا محمد تتركني أسأل قريشاً في كفي ؟ فقال : أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها : إن أصابني في وجهي هذا شئ فأنفقيه على ولدك ونفسك ، فقال له : يا ابن أخي من أخبرك بهذا ؟ فقال : أتاني به جبرئيل ( عليه السلام ) من عند الله عز وجل فقال ومحلوفه : ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي ! أشهد أنك رسول الله ، قال : فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل . وفيهم نزلت هذه الآية » .
وأعلن الله وحدة الأمة من المهاجرين والأنصار
18 . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا اُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايتِهِمْ مِنْ شَئْ حَتَّى يهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَينَكُمْ وَبَينَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ . 72 - 75 .
أخبر الله أن بدر يوم الفرقان بين الحق والباطل وتمييز الأمة المسلمة عن غيرها .
--------------------------- 15 ---------------------------
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل ، وإنما كانا قبل ذلك اليوم هذا كذا ووضع كفيه أحدهما على الآخر » . الأصول الستة عشر / 2568 .
وجاءت هذه الفقرة ختاماً للسورة ، فبينت أن الأمة المسلمة أمة واحدة ، مهاجروها وأنصارها ، وأوجبت الهجرة إلى دولة الإسلام على كل مسلم ، إلا من أجاز لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أو أمرهم بالبقاء في بلادهم ، وقد استمرت هذه الفريضة حتى فتح مكة .
ثم أمر الله المسلمين أن يعتبروا الكفار أمة واحدة مهما كانت اختلافاتهم ، وحذرهم من وقوع فساد كبير في الأرض ، إن خالفوا ولم يوحدوا سياستهم تجاههم !
كثرة مكذوبات السلطة عن بدر !
تبين لك أن البدريين فيهم المميزون بإيمانهم وشجاعتهم ، وفيهم المتوسطون ، وفيهم المنافقون ، ومرضى القلوب . لكن رواة السلطة أكثروا المكذوبات فيهم ، ومنها ما يقصد به تنقيص مقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومنها ما يقصد به إثبات مناقب كاذبة لصحابة يحبونهم ، ومنها للتغطية على مثالب آخرين يحبونهم !
فمن ذلك : قولهم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نام يوم بدر : « فدنا القوم منهم ، فجعل الصديق يوقظه ويقول : يا رسول الله دنوا منا ، فاستيقظ » ! الدر المنثور : 3 / 167 وابن كثير : 2 / 405 .
ومنها : قولهم إن أول قتيل كان مهجع غلام لعمر ! ومستندهم في ذلك « يقال » ! ولم يبينوا متى قتل ومن قتله ! راجع الصحيح : 5 / 65 .
ومنها : قول عمر إنه قتل خاله هشام بن العاص ، وقد قتله على ( عليه السلام ) . « الواقدي : 1 / 149 » . على أن خالد بن الوليد كان لا يقبل أنه خاله وأن أم عمر من بنى مخزوم .
ومن مكذوباتهم قولهم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعطى سهماً من غنائم بدر لعثمان ، لأنه تخلف لتمريض زوجته بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وأنه أعطى لطلحة بن عبيد الله ولسعيد ابن عم عمر صاحب حديث العشرة المبشرة ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعثهما في استطلاع قافلة قريش ، والصحيح أنهما كانا في تجارة بالشام ! راجع الصحيح : 5 / 98 .
إلى كثير من المكذوبات في مناقب أبى بكر وعمر وعثمان وسعد بن أبي وقاص ، ومن على شاكلتهم ، للتعويض عن دورهم في المعركة !
--------------------------- 16 ---------------------------
الصحابة الأبرار الذين اسشتهدوا في بدر
في الصحيح من السيرة : 5 / 57 : « واستشهد من المسلمين ، قيل تسعة ، وقيل أحد عشر ، وقيل أربعة عشر ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار » .
والمشهور أربعة عشر ، ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار . البحار : 19 / 206 ، شرح النهج : 14 / 207 ، الطبري : 2 / 171 ، الطبقات : 2 / 17 ، النهاية : 3 / 366 والإمتاع : 1 / 119 .
وعدهم ابن هشام : 2 / 524 : عبيدة بن الحارث بن المطلب ، وعمير بن أبي وقاص ، وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة ، وعاقل بن البكير ، ومهجع مولى عمر ، وصفوان بن بيضاء ، وسعد بن خيثمة ، ومبشر بن عبد المنذر بن زنبر ، ويزيد بن الحارث « ابن فسحم » وعمير بن الحمام ، ورافع بن المعلي ، وحارثة بن سراقة بن الحارث ، وعوف ومعوذ ، ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد ، ابنا عفراء .
سورة الروم بشرت بالنصر في معركة بدر
كانت الدولتان الكبيرتان في عصرالنبى ( صلى الله عليه وآله ) فارس والروم . وقد مد الروم نفوذهم إلى مصر وبلاد الشام ، وكان النصارى في الجزيرة على ارتباط بهم ، خاصة نجران ، وكانت الحبشة قاعدتهم في أفريقيا .
ومد الفرس نفوذهم إلى العراق والبحرين واليمن ، وكانت بلاد الشام ومصر محل صراع بينهم وبين الروم ، وقد حكمها الفرس لمدة قرنين قبل المسيحية ، حتى غلبهم عليها الروم سنة 231 قبل الميلاد . وحاول الفرس في عهد كسرى أن يستعيدوا السيطرة عليها ، فكانت معارك بينهم وبين الروم ، ومنها معركة أذرعات وهى درعا الواقعة على الحدود السورية الأردنية ، فانتصر فيها الفرس وفرح مشركوا قريش الذين كانوا يتعاطفون مع الفرس لأنهم وثنيون مثلهم ، بينما تعاطف المسلمون مع الروم لأنهم أهل كتاب ، فنزلت سورة الروم تبشرهم بأن الروم سيغلبون الفرس وأن المؤمنين سيفرحون بنصر الله أي نصرهم في بدر .
قال الله تعالى : بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . اَلَمِ . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِى أَدْنَى الأرض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
--------------------------- 17 ---------------------------
سَيغْلِبُونَ . فِى بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمر مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيوْمَئِذٍ يفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللهِ ينْصُرُ مَنْ يشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ اللهِ لا يخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لايعْلَمُونَ . يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ . الروم : 1 - 7 .
قال في مجمع البيان : 8 / 43 والطبري : 21 / 22 : « هذه من الآيات الدالة على أن القرآن من عند الله عز وجل ، لأن فيها أنباء ما سيكون ، وما يعلم ذلك إلا الله عز وجل . قال عطية : سألت أبا سعيد الخدري عن ذلك ، فقال : التقينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومشركوا العرب ، والتقت الروم وفارس ، فنصرنا الله على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس ، ففرحنا بنصرالله إيانا على مشركي العرب ونصرأهل الكتاب على المجوس ، فذلك قوله : وَيوْمَئِذٍ يفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ » .
وفسرأهل البيت « عليهم السلام » فرح المؤمنين بفرحهم بانتصارهم على الفرس وفتحهم لبلادهم . « الكافي 8 / 269 » وفرحهم « بنصرالله عند قيام القائم ( عليه السلام ) » « تأويل الآيات : 1 / 434 » وفرحهم في القيامة : « يعنى نصر فاطمة لمحبيها » . « معاني الأخبار / 397 » . وعليه يكون معنى قوله تعالي : وَيوْمَئِذٍ يفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ، فرحهم بأول النصر في بدر ، ثم بمراحل انتصار المؤمنين في الدنيا والآخرة .
بدأ تدهور الأمبراطورية الفارسية من أيام بدر !
قال اليعقوبي : 2 / 46 : « أعز الله نبيه وقتل من قريش من قتل ، فأوفدت العرب وفودها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وحاربت ربيعة كسرى وكانت وقعتهم بذى قار « الناصرية » فقالوا : عليكم بشعار التهامي فنادوا : يا محمد يا محمد ! فهزموا جيوش كسرى وقتلوهم ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبى نصروا . وكان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة ، أو خمسة » .
وقال اليعقوبي : 1 / 225 : « وأما يوم ذي قار ، فإنه لما قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر بعث إلى هانئ بن مسعود الشيباني أن ابعث إلى ما كان عبدي النعمان استودعك من أهله وماله وسلاحه . وكان النعمان أودعه ابنته وأربعة آلاف درع ، فأبى هانئ وقومه أن يفعلوا ، فوجه كسرى بالجيوش من العرب والعجم ،
--------------------------- 18 ---------------------------
فالتقوا بذى قار فأتاهم حنظلة بن ثعلبة العجلي فقلدوه أمرهم ، فقالوا لهانئ : ذمتك ذمتنا ولا نخفر ذمتنا ! فحاربوا الفرس فهزموهم ومن معهم من العرب ، وكان مع الفرس إياس بن قبيصة الطائي وغيره من إخوة معد وقحطان ، فأتى عمرو بن عدي بن زيد كسرى وأخبره الخبر فخلع كتفه فمات ! فكان أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم » . راجع : المعارف لابن قتيبة / 603 والطبري : 1 / 600 .
وقال ابن خلدون : 2 ق : 1 / 302 : « وأما بنو عجل بن لجيم بن صعب ، وهم الذين هزموا الفرس بمؤتة يوم ذي قار ، فمنازلهم من اليمامة إلى البصرة ، وقد دثروا وخلفهم اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر ، وكان منهم بنو أبى دلف العجلي ، كانت لهم دولة بعراق العجم » .
وفى الإصابة : 2 / 117 ، أن رئيس ربيعة حنظلة بن سيار ، بلغه انتصار النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بدر ونزول سورة الأنفال ، فأرسل خمس غنائمه من الفرس إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال :
ونحن بعثنا الوفد بالخيل ترتمي * بهم قُلُصٌ نحو النبي محمدِ
بما لقى الهرموز والقوم إذ غزوا * وما لقى النعمان عند التورد »
- *
--------------------------- 19 ---------------------------
الفصل الحادي والأربعون
« الخلافة الإسلامية » تثأر من بني هاشم لقتلى بدر !
1 . تعصب قريش القبلي أشد من تعصب اليهود القومي
خسرت قريش في معركة بدر نحو سبعين من شخصياتها على يد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فرفعت شعار » قتلى بدر « وأقامت عليهم أكبر مناحة في التاريخ ! فلا توجد معركة أعمق تأثيراً في التاريخ من بدر ، وما زالت نتائجها ممتدةً في حياتنا إلى اليوم !
وإذا قارنا توظيف قريش لشعار قتلى بدر ، بتوظيف اليهود للهولوكوست ، نجد أن القرشيين فاقوا اليهود بالإبتزاز كثيراً ! وأول ابتزازهم سيطرتهم على الدولة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعزلهم عترته أهل بيته « عليهم السلام » .
قال عثمان لعلى ( عليه السلام ) : « ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم ، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين ، كأن وجوههم شنوف الذهب ، تشرب أنوفهم قبل شفاههم » !
أي وجوههم جميلة كأقراط الذهب وأنوفهم طويلة جميلة . نثر الدرر / 259 ، ابن حمدون / 1567 ، شرح النهج : 9 / 22 والمناقب : 3 / 21 .
فقريش لا يمكنها أن تحب بني هاشم أبداً ، لأنهم قتلوا ساداتها ! فهي صاحبة ثأر عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلى ( عليه السلام ) وجميع بني هاشم ، إلى يوم القيامة !
وقد أخبر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن قريشاً لن تنسى هزيمة بدر وقتل نخبة قادتها وفرسانها ! وبالفعل جعلتها كمحرقة اليهود ! واخترعت مبررات للانتقام من بني هاشم وشيعتهم ، وعزلت
--------------------------- 20 ---------------------------
بني هاشم عن الخلافة ، لأن في أعناقهم دماء قريش والعرب وقد أخذوا النبوة وهى كافية عليهم ، فالخلافة يجب أن تكون لبقية قبائل قريش !
لذلك قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) : « فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنها ضغائن في صدور قوم ، أحقاد بدر وتِراتُ أحد ! وإن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه إن ضلوا ثم وجد أعواناً أن يجاهدهم بهم ، فإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم ، فافعل أنت كذلك ، إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك » . كتاب سُلَيم / 305 .
2 . تأسست الخلافة القرشية على الثأر من بني هاشم !
اعترف ابن أبي الحديد ، وهو سنى معتزلي متعصب لأبى بكر وعمر ، أن ثارات بدر وأحُد أوجبت قيام خلافة قرشية على أساس الثأر من بني هاشم ، وقال إن بغض القرشيين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلى ( عليه السلام ) وبنى هاشم طبيعي حتى بعد أن أسلموا !
قال في شرح النهج : 13 / 299 : « ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له » علي « وانحرافها عنه ، فإنه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ! ونفوس العرب وأكبادهم كما تعلم ! وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهده اليوم عياناً ، والناس كالناس الأُوَل ، والطبائع واحدة ! فاحسب أنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم ، وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ، ثم أسلمت ، أكان إسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ؟ كلا ، إن ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة ، لا كإسلام كثير من العرب ! فبعضهم أسلم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه !
واعلم أن كل دم أراقه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بسيف على ( عليه السلام ) وبسيف غيره ، فإن العرب بعد وفاته ( صلى الله عليه وآله ) عصبت تلك الدماء بعلى بن أبي طالب وحده ، لأنه لم يكن في رهطه من
--------------------------- 21 ---------------------------
يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلى وحده ! وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته ، طالبت بها أمثل الناس من أهله !
لمَّا قَتَلَ قومٌ من بنى تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عَمْرواً عليهم :
من مُبْلغٌ عَمْراً بأن المَرْ * ء لم يخلق صَبارهْ
فاقتل زرارة لا أري * في القوم أمثلَ من زرارهْ !
فأمره أن يقتل زرارة رئيس بنى تميم ، ولم يكن قاتلاً أخ الملك ولاحاضراً قتله » !
أقول : يخاطب الشاعر الملك هند بن عمرو ملك الحيرة ، بأن الإنسان لم يخلق صَبَارة ، أي حجراً ، بل له إحساسات ومنها غريزة الثأر ، فيجب عليك أن تأخذ ثأرك من بنى تميم الذين قتل أحدهم أخاك حتى لو كان قتل خطأ ، وكان رئيسهم زرارة بن عدس غائباً عن قتله ، لكنه أنسب شخصية لتقتله بثأرك .
فأطاع الملك الشاعر وهاجم بنى تميم وقتل رئيسهم زرارة ، وقتل معه أكثر من مئتين ، وبقر بطون نسائهم وأحرقهم ! فالقاعدة عند القبائل أن الثأر لا ينسى بحال من الأحوال والأزمان ! وقريش لها ثأر عند محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأعظمه ثأرها في بدر وأحُد ، ولا يجوز أن تنساه حتى لو أسلمت !
وهذا اعتراف جرئ من ابن أبي الحديد ، وهو عالم متعصب للشيخين ، بأن خلافة قريش قامت على الثأر من بني هاشم ، وأن بطون قريش عصبت دماء قتلاها بعلى ( عليه السلام ) . أما وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعترته وجعلهم كالقرآن ، فلا يسقط ثأر قريش عندهم ! وأول الثأر أن تأخذ منهم دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتعزلهم .
وعلى المسلم المنصف أن يفهم النتيجة الضخمة لذلك ، على الإسلام كله .
ولذلك كانت أصوات علماء السلطة أنفسهم ترتفع أحياناً ، كما فعل قتادة !
قال أبان بن عثمان : « حدثني فضيل البرجمي قال : كنت بمكة وخالد بن عبد الله القشيري أمير « من قبل عبد الملك بن مروان » وكان في المسجد عند زمزم فقال : ادعوا لي قتادة ، قال : فجاء شيخ أحمر الرأس واللحية ، فدنوت لأسمع ، فقال
--------------------------- 22 ---------------------------
خالد : يا قتادة أخبرني بأكرم وقعة كانت في العرب ، وأعز وقعة كانت في العرب ، وأذل وقعة كانت في العرب ! فقال : أصلح الله الأمير ، أخبرك بأكرم وقعة كانت في العرب وأعز وقعة كانت في العرب ، وأذل وقعة كانت في العرب ، وهى واحدة ! قال خالد : ويحك واحدة ! قال : نعم أصلح الله الأمير . قال : أخبرني ؟ قال : بدر .
قال : وكيف ذا ؟ قال : إن بدراً أكرم وقعة كانت في العرب بها أكرم الله عز وجل الإسلام وأهله ، وهى أعز وقعة كانت في العرب بها أعز الله الإسلام وأهله ، وهى أذل وقعة كانت في العرب ، فلما قتلت قريش يومئذ ذلت العرب . فقال له خالد : كذبت لعمر الله إن كان في العرب يومئذ من هو أعز منهم .
ويلك يا قتادة أخبرني ببعض أشعارهم ؟ قال : خرج أبو جهل يومئذ وقد أعلم ليرى مكانه وعليه عمامة حمراء وبيده ترس مذهب وهو يقول :
ماتنقم الحرب الشموس مني * بازلُ عامين حديثُ السن
لمثل هذا ولدتنى أمي
فقال : كذب عدو الله إن كان ابن أخي لأ فرس منه ، يعنى خالد بن الوليد وكانت أمه قشيرية » من عشيرته « فقال : ويلك يا قتادة من الذي يقول : أُوفى بميعادى وأحمى عن حسب ؟ فقال : أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادى من يبارز ؟ فلم يخرج إليه أحد فقال : إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ، ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فليبرزن إلى رجل يجهزنى بسيفه إلى النار ، وأجهزه بسيفي إلى الجنة ! فخرج إليه على وهو يقول :
أنا ابن ذي الحوضين عبدِ المطلبْ * وهاشمِ المطعمِ في العامِ السَّغِبْ
أوفى بميعادى وأحمى عن حَسَبْ
فقال خالد : كذب لعمري ، والله أبو تراب ما كان كذلك ! فقال الشيخ : أيها الأمير إئذن لي في الانصراف ، قال : فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول : زنديقٌ ورب الكعبة ، زنديقٌ ورب الكعبة » ! الكافي : 8 / 111 . فالسلطة تريد إنكار بطولات على ( عليه السلام ) وكل تاريخه !
--------------------------- 23 ---------------------------
3 . ودون الرواة صفحات طويلة في حزن قريش على قتلى بدر
فقد حرَّمت قريش البكاء والزينة ، حتى أخذت بثارها نسبياً في معركة أحد ! قال ابن هشام : 2 / 474 : » ناحت قريش على قتلاهم ثم قالوا : لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بكم . وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده : زمعة بن الأسود ، وعقيل بن الأسود ، والحارث بن زمعة ، وكان يحب أن يبكى على بنيه ، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له ، وقد ذهب بصره : أنظر هل أُحِلَّ النَّحْبُ ، هل بكت قريش على قتلاها ؟ لعلى أبكى على أبى حكيمة ، يعنى زمعة ، فإن جوفي قد احترق . قال : فلما رجع إليه الغلام قال : إنما هي امرأة تبكى على بعير لها أضلته ، قال : فذاك حين يقول الأسود :
أتبكى أن يضل لها بعير * ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكى على بكر ولكن * على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بنى هصيص * ومخزوم ورهط أبى الوليد
وبكى إن بكيت على عقيل * وبكى حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمى جميعاً * وما لأبى حكيمة من نديد
وفى ديوان الحماسة للمرزوقي : 1 / 617 : « على بدر تقاصرت الجدود : يريد أن الذي يجب البكاء له ما جرى على رؤساء قريش وأرباب الجدود فيهم ببدر ، وأن الحيف العظيم والخسران المبين والغبن الشديد في ذاك ، لا في ضلال بَكر ، أي بعير » .
ونظم شعراء قريش قصائد كثيرة في رثاء قتلى بدر ، نشروها بين العرب ، خاصة من شعر ابن الزِّبَعْرَي ، وضرار بن الخطاب ، والحاخام كعب بن الأشرف ، وكلها هجاء للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والأنصار ، ومدح لمشركي قريش ، فكانت تقرأ في مجالس الأمراء ، وصارت ثقافة لمجالس الخمر ، حتى تأثر بها بعض المسلمين !
وسيأتي أن بعض الصحابة شربوا الخمر في المدينة ، وتغنوا بالنوح على قتلى بدر ! ومن شعر ضرار ، سيرة ابن هشام : 2 / 539 :
--------------------------- 24 ---------------------------
عجبت لفخر الأوس والحين دائر * عليهم غدا ، والدهر فيه بصائر
وفخر بنى النجار أن كان معشر * أصيبوا ببدر كلهم ثَمَّ صابر
فإن تك قتلى غودرت من رجالنا * فإنا رجال بعدهم سنغادر
وتردى بنا الجرد العناجيج وسطكم * بنى الأوس حتى يشتفى النفس ثائر
ومن شعرعبد الله بن الزبعرَى السهمي « ابن هشام : 2 / 541 » :
ماذا على بدر وماذا حوله * من فتية بيض الوجوه كرام
تركوا نبيهاً خلفهم ومنبهاً * وابنى ربيعة خير خصم فئام
والحارث الفياض يبرق وجهه * كالبدر جلى ليلة الأظلام
والعاصي بن منبه ذا مرة * رمحاً تميماً غير ذي أوصام
تنمى به أعراقه وجدوده * ومآثر الأخوال والأعمام . . .
واشتهرت قصيدته في أحُد أكثر من غيرها :
يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئاً قد فعل
أبلغن حسان عنى آية * فقريض الشعر يشفى ذا الغلل
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل
فسل المهراس من ساكنه ؟ * بين أقحاف وهام كالحجل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
بسيوف الهند تعلو هامهم * عَلَلاً تعلوهمُ يعد نهل
فأجابه حسان بن ثابت :
ذهبتْ يا بن الزبعرى وقعةٌ * كان منا الفضل فيها لو عدل
--------------------------- 25 ---------------------------
ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحياناً دول
نضع الأسياف في أكتافكم * حيث نهوى عللاً بعد نهل
ومن شعركعب بن الأشرف اليهودي ، « ابن هشام 2 / 564 » :
« طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم * لا تبعدوا ، إن الملوك تصرع
كم قد أصيب به من أبيض ماجد * ذي بهجة يأوى إليه الضيع . .
وقال أياس بن زنيم يحرض مشركي قريش على قتل على ( عليه السلام ) :
في كل مجمع غاية أخزاكم * جذعٌ أبرُّ على المذاكى القرَّح
لله دركم ألمَّا تنكروا * قد ينكر الحرُّ الكريم ويستحي
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم * ذبحاً وقتلاً قعصةً لم يذبح
أين الكهول وأين كل دعامة * في المعضلات وأين زين الأبطح
أفناهم قعصاً وضرباً يفتري * بالسيف يعمل حده لم يصفح
أعطوه خرجاً واتقوا بمصيبة * فعل الذليل وبيعة لم تربحِ »
الإصابة : 1 / 231 ، أنساب الأشراف / 188 وتاريخ دمشق : 42 / 8 .
4 . الشيخان يشربان الخمر وينوحان على قتلى بدر !
بلغ من تأثير الإعلام القرشي ، أن مجالس الخمر والسمر في المدينة كان يقرأ فيها شعر الرثاء والنياحة على قتلى بدر ! وقد رووا أن مجلساً ضم أحد عشر صحابياً فيهم الشيخان أبو بكر وعمر ، شربوا الخمر وغنوا بالنوح على قتلى بدر !
فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبيده سعفة أو مكنسة يريد أن يضربهم !
وتتفاجأ بأن هذا الحديث صحيح عندهم ، فقد رواه تمام الرازي المتوفي : 414 ، في كتابه الفوائد : 2 / 228 ، برقم : 1593 وطبعة : 3 / 481 ، بسند صحيح عن عوف ، عن أبي القموص قال : « شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم فأخذت فيه ، فأنشأ يقول :
--------------------------- 26 ---------------------------
تَحَيى بالسلامة أمَّ بكرٍ * وهل لك بعد رهطك من سلام
ذرينى أصطبح يا بكر إني * رأيت الموت نقَّبَ عن هشام
فودَّ بنو المغيرة أن فدوْهُ * بألف من رجال أو سوام
فكائن بالطوى طوى بدر * من القينات والخيل الكرام
فكائن بالطوى طوى بدر * من الشيزى تُكلل بالسنام
فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقام معه جريدة يجر إزاره حتى دخل عليه ، فلما نظر إليه قال : أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله ، والله لا يلج لي رأساً أبداً ! فذهب عن رسول الله ما كان فيه ، وخرج ونزل عليه : فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون ؟ ! فقال عمر : انتهينا والله » .
ورواه الثعلبي في تفسيره : 2 / 142 دون أن يسميهما قال : « وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم ، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة ، ويشربونها في غير حين الصلاة ، إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ، ويقول . . . فبلغ ذلك رسول الله فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى انتهى إليه ، ورفع شيئاً كان بيده « سعفة » ليضربه ، فلما عاينه الرجل قال : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله ، والله لا أطعمها أبداً » .
ورواها ابن هشام : 2 / 549 بأطول منه ، وفيها أبيات أبى بكر في إنكارالآخرة قال :
« يخبرنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداءٍ وهامِ » !
وفى الصحيح من السيرة : 5 / 301 :
أيوعدنى ابن كبشة أن سنحيا * وكيف حياة أصداءٍ وهامِ
أيعجز أن يرد الموت عني * وينشرني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمان عني * بأنى تارك شهر الصيام
فقل الله يمنعني شرابي * وقل لله يمنعني طعامي »
وروى ابن حجر في الإصابة : 7 / 39 عن الفاكهي في كتاب مكة أن الرجل كان
--------------------------- 27 ---------------------------
أبا بكر ! وفيه : « شرب أبو بكر الخمر فأنشأ يقول : فذكر الأبيات . فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقام يجر إزاره حتى دخل فتلقاه عمر وكان مع أبي بكر ، فلما نظر إلى وجهه محمراً ، قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله ! والله لا يلج لنا رأسا أبداً ! فكان أول من حرمها على نفسه ! واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال : شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم ، ورثى قتلى بدر من المشركين » !
وذكر ابن حجر في فتح الباري : 10 / 31 ، أن تلك الجلسة كانت حفلة خمر في بيت أبى طلحة ، وكانوا أحد عشر صحابياً ، وكان ساقيهم أنس بن مالك ! ثم قال : « ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس : كنت أسقى أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ، ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة . ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس ، أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً ، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم ، وأبهمهم في رواية سُلَيمان التيمي عن أنس . ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس ، أن أبا بكر وعمر كانا فيهم ! وهو منكر ، مع نظافة سنده ، وما أظنه إلا غلطاً » !
يقصد أن سند الحديث صحيح وكان فيهم أبو بكر وعمر ، لكن مكانتهما كثيرة فهو حديث مستنكر ! لكن مذهبه إذا صح الحديث فلا قيمة لاستغراب معناه !
والأدهى من ذلك أن القصةكانت عند تواصل نزول سورة المائدة ، أي قبل وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشهر أو شهرين ! لأن آية : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . « المائدة : 91 » . من سورة المائدة ، وهى آخر سورة نزلت من القرآن ، قبيل وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
كما نلاحظ أن القصة انتشرت بين المسلمين ، وقالوا إن القصيدة لأبى بكر ! فنفت عائشة أن يكون أبوها نظم هذا الشعر ، ولم تنف مشاركته في الحفلة وإنشاده !
فقد روى بخارى في صحيحه : 4 / 263 دفاعها فقال : « عن عائشة أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب يقال لها أم بكر ، فلما هاجر أبو بكر طلقها فتزوجها ابن
--------------------------- 28 ---------------------------
عمها هذا الشاعر ، الذي قال هذه القصيدة ، ورثى كفار قريش :
وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى تزين بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدر * من القينات والشرب الكرام
تحيى بالسلامة أم بكر * وهل لي بعد قومي من سلام
يحدثنا الرسول بأن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام »
لكن عائشة لم تحل المشكلة ، لأنها نفت أن أباها نظم القصيدة ولم تنف إنشاده لها ! فالمهم عندها نفى نظمها لأنها تثبت كفر ناظمها وإنكاره النبوة والآخرة ، أما إنشادها فهو أقل مصيبةً !
وروى ابن حجر في الإصابة : 7 / 39 أنها كانت غاضبة لأن الناس لم يصدقوها ! « كانت تدعو على من يقول إن أبا بكر الصديق قال هذه القصيدة ثم تقول : والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام ، ولكن تزوج امرأة من بنى كنانة ثم بنى عوف فلما هاجر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر ، فقال هذه القصيدة يرثى كفار قريش الذين قتلوا ببدر ، فتحامى الناس أبا بكر من أجل المرأة التي طلقها ، وإنما هو أبو بكر بن شعوب » .
تقصد أن أم بكر المخاطبة بالقصيدة هي زوجة أبيها لكنه طلقها عندما هاجر ، وتزوجها ابن شعوب وهو الذي نظم القصيدة ! راجع في الموضوع : أمالي الطوسي / 737 ، رواها بسبعة أبيات ، ابن هشام : 2 / 549 ورواها بتسعة أبيات ، الغدير : 6 / 251 ، 7 / 96 و 7 / 95 ، فتح الباري : 10 / 30 ، قد أطال في الموضوع ودافع بما يستطيع ، لكن كلامه فيه تعجب وتحير ، وسيرة ابن كثير : 2 / 535 ، مستدرك الوسائل : 17 / 83 ، السقيفة أم الفتن / 74 ، فيض القدير : 1 / 117 ، الإصابة : 7 / 38 ، الصحيح من السيرة : 5 / 301 و 304 ، مجمع الزوائد : 5 / 51 ، الهداية الكبري / 106 ، أمالي المرتضي : 2 / 18 ، النص والاجتهاد / 311 ، أحاديث الشعر للمقدسي / 57 ، النهاية : 3 / 412 ، تفسير الثعلبي : 2 / 142 والإصابة : 7 / 38 .
--------------------------- 29 ---------------------------
5 . دين قريش القبول بالتناقض !
من تناقض القرشيين أنهم أرادوا خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وبنفس الوقت أرادوا أن يأخذوا منه ثأر بدر ! وقد ظهرت « مناحتهم » على قتلى بدرعلى ألسنة « خلفاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) » ! الذين يعرفون جيداً أنه لولا معركة بدر لما كان إسلامٌ ، ولا خلافةٌ يجلسون على كرسيها ! ويعرفون أن الذي يجلس على كرسي خلافة محمد يفترض أنه مسلم ، وأنه إلى جانب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في معركة بدر ، وضد من قتلهم من المشركين ! لكن تعقيد الشخصية القرشية جعلتهم يتبنون نتيجة معركة بدر التي منها الخلافة ، ويتبنون « مناحة قومهم » على قتلى بدر ، لأنها تنفعهم ضد بني هاشم وتساعدهم في إبعادهم عن الخلافة !
قال عمر لابن عباس في محاورته الشهيرة في الخلافة : « كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجخفوا جخفاً « تكبراً » فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت . . أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول » ! تاريخ الطبري : 3 / 288 ، شرح النهج : 6 / 50 ، جمهرة الأمثال : 1 / 339 والعقد الفريد / 1378 .
وقال عبد الله بن عمر لعلى ( عليه السلام ) : « كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأحُد من ساداتهم سبعين سيداً ، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاهم » ! المناقب : 3 / 21 .
وتقدم قول عثمان لعلى ( عليه السلام ) مثل ذلك .
فالخليفة المحترم يعرف أنه لولا قتل بني هاشم لمشركي قريش في بدر ، لما كانت دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) التي يتنعم بحكمها ! ويعرف أن قتلى بدر طغاة ، عملوا لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بدر وقبلها . ويعرف أن قريشاً أعلنت إسلامها والمفروض أنها تبرأت من الشرك والمشركين !
ومع ذلك يعطى قريشاً الحق في كره بني هاشم ومطالبتهم بدماء مشركيها ! فاعجب لخليفةٍ يدين منطق الإسلام الذي يلبس ثوبه ويحكم بإسمه !
وعندما تقوم « الخلافة » على أساس الثأر من بني هاشم ، فمن الطبيعي أن تقوم بقتل الأئمة من عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتقمع شيعتهم ، وتشوه سمعتهم ، وتبيد
--------------------------- 30 ---------------------------
المصادر الثقافية لمذهبهم ! وما زالت هذه السياسة سارية في العالم الإسلامي إلى اليوم !
لاحظ جواب الزهراء لأم سلمة « عليها السلام » « المناقب : 2 / 49 » : « كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ فقالت : أصبحت بين كمد وكرب ! فُقِدَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) وظُلِمَ الوصي ، وهُتك والله حجابه ، وأصبحت إمامته مقتصة على غير ما شرع الله في التنزيل ، وسنها النبي ( صلى الله عليه وآله ) في التأويل ! ولكنها أحقاد بدرية وتِرات أحدية كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثارمن مخيلة الشقاق » .
وقال على ( عليه السلام ) لقريش : « وإني لصاحبكم بالأمس ، لعمر أبى وأمي لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة ، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أحد ! أما والله لو قلت ما سبق الله فيكم ، لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم ، كتداخل أسنان دوارة الرحي ! فإن نطقت يقولون حسداً ! وإن أسكت فيقال ابن أبي طالب جزع من الموت ! هيهات هيهات ، الساعة يقال لي هذا ؟ ! وأنا المميت المائت ، وخواض المنايا في جوف ليل حالك » . الإحتجاج : 1 / 127 .
وقال عبد الرحمن بن جندب : « لما بويع عثمان ، سمعت المقداد بن الأسود الكندي يقول لعبد الرحمن بن عوف : والله يا عبد الرحمن ما رأيت مثل ما أُتِى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال له عبد الرحمن : وما أنت وذاك يا مقداد ؟ قال : إني والله أحبهم لحب رسول الله لهم ويعتريني والله وجد لا أبثه بثة ، لتشرُّف قريش على الناس بشرفهم واجتماعهم على نزع سلطان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من أيديهم !
فقال له عبد الرحمن : ويحك والله لقد اجتهدت نفسي لكم ! فقال له المقداد : أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون ، أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم يوم بدر وأحد !
فقال له عبد الرحمن : ثكلتك أمك يا مقداد لا يسمعن هذا الكلام منك الناس ، أما والله إني لخائف أن تكون صاحب فرقة وفتنة . قال جندب : فأتيته بعد ما انصرف من مقامه وقلت له : يا مقداد أنا من أعوانك ، فقال : رحمك الله إن الذي نريد لايغنى فيه الرجلان والثلاثة . فخرجت من عنده فدخلت على على ( عليه السلام ) فذكرت له ما قال وما قلت . قال : فدعا لنا بالخير » . أمالي المفيد / 169 .
--------------------------- 31 ---------------------------
وقال في الصحيح من السيرة : 6 / 154 : « ولم تستطع قريش أن تنسى ثارات بدر وأحُد وسائر المعارك ، حتى أن حرب صفين كما قالت أم الخير بنت الحريش : كانت لإحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك ثارات بنى عبد شمس ! بل إن مجزرة كربلاء وفاجعة قتل الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه كانت لها دوافع بدرية وإحن أحدية أيضاً ، فقد قال اللعين يزيد بن معاوية : ليت أشياخي ببدر شهدوا . . . ولما وصل رأس الحسين ( عليه السلام ) إلى المدينة رمى مروان بالرأس نحو قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : يا محمد يوم بيوم بدر » !
وفى تاريخ الطبري : 8 / 187 : « طلب يزيد بثارات المشركين عند المسلمين ، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ، ولا أفحش مما ارتكب من الصالحين فيها ! وشفى بذلك حقد نفسه وغليله ، وظن أن قد انتقم من أولياء الله وبلغ النوى لأعداء الله ، فقال مجاهراً بكفره ، ومظهراً لشركه :
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من ساداتكم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بنى أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبرٌ جاء ولا وحى نزل !
هذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه » !
وقد أجابت زينب « عليها السلام » يزيداً في مجلسه فقالت له : « أتقول : ليت أشياخي ببدر شهدوا . . غير متأثم ولامستعظم ، وأنت تنكث ثنايا أبى عبد الله بمخصرتك ! ولمَ لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإهراقك دماء ذرية رسول الله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب . ولتردنَّ على الله وشيكاً موردهم ، ولتودن أنك عميت وبكمت ، وأنك لم تقل : فاستهلوا وأهلوا فرحاً . . اللهم خذ بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا » . بلاغات النساء لابن طيفور / 20 .
--------------------------- 32 ---------------------------
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « لقى المنهال بن عمرو علي بن الحسين بن علي ( عليه السلام ) فقال له : كيف أصبحت يا ابن رسول الله ؟ قال : ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت ؟ أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ! وأصبح خير البرية بعد محمد ( صلى الله عليه وآله ) يلعن على المنابر ! وأصبح عدونا يعطى المال والشرف ، وأصبح من يحبنا محقوراً منقوصاً حقه ، وكذلك لم يزل المؤمنون ! وأصبحت العجم تعرف للعرب حقها بأن محمداً منها ، وأصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً منها ، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقها بأن محمداً منها ، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها ! وأصبحنا أهل البيت لا يعرف لنا حق ! فهكذا أصبحنا يا منهال » ! تفسير القمي : 2 / 134 .
- *
--------------------------- 33 ---------------------------
الفصل الثاني والأربعون
النبي « صلى الله عليه وآله » والعرب من غزوة بدر إلى أحد
1 - ثلاث غزوات وعدة سرايا في سنة واحدة !
ينبغي التذكير بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسدد من ربه ، لا ينطق عن الهوى ولا يفعل إلا ما يؤمر به . ومن ذلك خروجه بنفسه لحرب عدوه ، أو إرساله سرايا .
« رجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من بدر في الثاني والعشرين من رمضان في السنة الثانية للهجرة وكانت حرب أحُد في الرابع عشر من شوال سنة ثلاث للهجرة » . المحبر / 111 .
وفى هذه السنة بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) عدة سرايا في مهمات دفاعية أو هجومية ، وشارك بنفسه في ثلاث غزوات ، وعدها بعضهم ستاً . عيون الأثر : 1 / 382 .
والصحيح أنها ثلاثة ، لكن تسميات الرواة لها متعددة .
كما بعث سرايا في مهمات خاصة لاغتيال يهود ناشطين في عداء الإسلام ، منها سرية سالم بن عمير لقتل أبى عفك اليهودي ، وسرية أخرى لقتل كعب بن الأشرف . « الطبقات : 2 / 27 » وسرية لقتل عصماء بنت مروان .
2 . غزوة بنى سُلَيم
غزوة بنى سُلَيم وبنى غطفان بناحية نجد ، وسماها بعضهم غزوة قرقرة الكَدَر لأنهم مروا فيها عليها ، والقرقرة الأرض الملساء ، والكَدَر اللون غير النقي . وهى نفسها غزوة الفرع ، وغزوة بحران ، وهو معدن بالحجاز ، « ابن هشام : 6 / 18 » قرب الفرع ، « الطبري : 2404 » وهى
--------------------------- 34 ---------------------------
نفسها غزوة ذي أمر ، لوحدة أحداثهما .
« ولما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة من بدر لم يقم بالمدينة إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بنى سُلَيم ، حتى بلغ ماء من مياههم يقال له الكَدَر ، فأقام عليه ثلاث ليال ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً . فأقام بها بقية شوال وذا القعدة ، وفادى في إقامته جل أسارى بدر من قريش » . إعلام الوري : 1 / 172 .
3 . غزوة ذات السويق
ثم كانت غزوة السويق ، وذلك أن أبا سفيان نذر أن لا يمس رأسه من جنابة حتى يغزو محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وكان العرب مع عبادتهم الأصنام فيهم بقايا شريعة إبراهيم الحنيفية ومنها غسل الجنابة . فخرج أبو سفيان في مائة راكب من قريش ليبرَّ يمينه ، حتى إذا كان على بريد من المدينة أتى بنى النضير ليلاً ، فضرب على حيى بن أخطب بابه فأبى أن يفتح له ، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم وكان سيد بنى النضير ، فاستأذن عليه فأذن له وسارَّه ، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه . وبعث رجلاً من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية يقال لها العريض ، فوجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له فقتلوهما ثم انصرفوا .
ونذر بهم الناس أحسُّوا فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكَدَر ، فرجع وقد فاته أبو سفيان ، ورأوا زاداً من أزواد القوم قد طرحوها يتخففون منها للنجاء . فقال المسلمون حين رجع رسول الله بهم : يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة ؟ فقال : نعم » . إعلام الوري : 1 / 173 .
وفى إمتاع الأسماع : 1 / 123 ، عن ابن إسحاق أنه ( صلى الله عليه وآله ) غزا قريشاً حتى بلغ بحران معدناً بالحجاز من ناحية الفرع ، فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولي ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً » .
والمرجح أنها نفس غزوة السويق ، وهى تدل على أن أبا سفيان لم يستطع تجنيد أكثر من مئتى راكب ، فجاء بهم خفية إلى قرب المدينة ، وتسلل ليلاً مع بضعة أشخاص
--------------------------- 35 ---------------------------
إلى حلفائه يهود بنى النضير في ضاحية المدينة ، فخاف رئيسهم حي بن أخطب أن يفتح له وينقض عهده مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) فذهب أبو سفيان إلى رئيس آخر من بنى النضير هو ابن مشكم ، ففتح له وتداول معه في حرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشرب معه الخمر ، ونصحه أن يرجع قبل أن يكتشف محمد ( صلى الله عليه وآله ) وجوده ، فرجع تلك الليلة ، لكنه أراد أن يقوم بعمل ما ، فأرسل بضعة نفر إلى مزرعة معبد بن عمرو الأنصاري المنفردة عن المدينة ، فقتلوه مع أجيره وأحرقوا زرعه ونخله !
فتبعهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأصحابه فأسرعوا وتخففوا من زادهم ورموه عن جمالهم ، وكان السويق وهو الحنطة المحمصة المطحونة ، يضاف إليها زيت أو سكر . فسميت غزوة السويق أو ذات السويق .
4 . غزوة ذي أمر
بعد غزوة السويق أقام ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم ، وكانت غزوة ذي أمر ، وذلك لما بلغه أن جمعاً من غطفان تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة ، عليهم رجل يقال له : دعثور بن الحارث بن محارب ، فخرج في أربع مائة وخمسين رجلاً ومعهم أفراس ، وهرب منه الأعراب فوق ذرى الجبال ونزل ( صلى الله عليه وآله ) ذا أمر وعسكر به ، وأصابهم مطر ، فذهب النبي ( صلى الله عليه وآله ) لحاجته فأصابه المطر فبلَّ ثوبه ، فنزع ثيابه ونشرها لتجف وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها ، وكان وادى أمر بينه وبين أصحابه ، والأعراب ينظرون إلى ما يفعل ، فقالت الأعراب لدعثور وكان سيدهم وأشجعهم : قد أمكنك محمد وقد انفرد من بين أصحابه ، فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً ، ثم أقبل مشتملاً على السيف حتى قام على رأس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالسيف مشهوراً فقال : يا محمد من يمنعك منى اليوم ؟ قال : الله ! ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقام على رأسه وقال : من يمنعك مني ؟ قال : لا أحد ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، والله لا أكثِّر عليك جمعاً أبداً ! فأعطاه
--------------------------- 36 ---------------------------
رسول الله سيفه وأدبر ، ثم أقبل بوجهه وقال : والله لأنت خير مني ! قال رسول الله : أنا أحق بذلك منك . فأتى قومه فقيل له : أين ما كنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك ؟ قال : قد كان والله ذلك ، ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري ، فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمداً رسول الله . والله لا أكَثِّرُ عليه ! وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ونزلت هذه الآية : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يبْسُطُوا إِلَيكُمْ أَيدِيهُمْ فَكَفَّ أَيدِيهُمْ عَنْكُمْ . . » .
أقول : وردت روايات أخرى في قصة دعثور « راجع الصحيح : 6 / 17 » وكان اليهود وقريش يحركون بعض قبائل نجد مثل بنى سُلَيم للغارة على المدينة ، وكانت لهم سابقة في غزو المدينة ، ومعارك مع الأوس والخزرج ، فبادر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى غزوهم لدفع شرهم ، فتفرقوا ولم يواجهوه ، وهدى الله رئيسهم .
5 . سرية حارثة بن زيد لاعتراض قافلة قريش
وأشهر سرايا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد بدر ، سرية زيد بن حارثة لاعتراض قافلة قريش الذاهبة إلى الشام عن طريق العراق ، وقد سميت غزوة قرقرة الكَدَر ، لأنهم مروا عليها ، وغزوة بنى سُلَيم لأنهم مروا عليهم ، وغزوة القِرَدَة ، باسم ماء في نجد . كما سميت غزوة مع أنها سرية واسم الغزوة خاص بالتي يشارك فيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال في إعلام الوري : 1 / 174 : « بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زيد بن حارثة بعد رجوعه من بدر إلى المدينة بستة أشهر ، فأصابوا عيراً لقريش على القردة فيها أبو سفيان ومعه فضة كثيرة ، وذلك لأن قريشاً قد خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ، فسلكوا طريق العراق واستأجروا رجلاً من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيان يدلهم على الطريق ، فأصاب زيد بن حارثة تلك العير وأعجزته الرجال هرباً . وفى رواية الواقدي : أن ذلك العير مع صفوان بن أمية ، وأنهم قدموا بالعير إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأسروا رجلاً أو رجلين ، وكان فرات بن حيان أسيراً فأسلم ،
فتُرِكَ من القتل » .
--------------------------- 37 ---------------------------
فأعطى النبي ( صلى الله عليه وآله ) خمسها لبنى هاشم ، فبلغ عشرين ألف درهم ، وقسم الباقي بين المقاتلين . الإمتاع : 1 / 129 .
وفى الطبقات : 2 / 36 : « كانت لهلال جمادى الآخرة . . والقردة من أرض نجد بين الربذة والغمرة . وأسر فرات بن حيان فأتى به النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقيل له إن تسلم تترك ، فأسلم فتركه رسول الله » .
6 . محاولة قريش قتل النبي « صلى الله عليه وآله » ثأراً ببدر
كان صفوان بن أمية زعيم كنانة المتحالفة مع مشركي قريش ، وكان ثرياً فجَنَّدَ شخصاً لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأرسله متخفياً إلى المدينة .
ففي الخرائج : 1 / 119 من حديث على ( عليه السلام ) مع اليهودي عن معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « ومنها : أن المشركين لما رجعوا من بدر إلى مكة أقبل عمير بن وهب الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية بن خالد الجمحي ، فقال صفوان : قبح الله العيش بعد قتلى بدر ! قال عمير : أجل والله ما في العيش بعدهم خير ، ولولا دينٌ على لا أجد له قضاء ، وعيال لا أدع لهم شيئاً ، لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه ، فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق ، وإن لي عندهم علة ، أقول قدمت على ابني هذا الأسير . ففرح صفوان بقوله وقال : يا أبا أمية هل نراك فاعلاً ؟ قال : إي ورب البنية . قال صفوان : فعلى دينك وعيالك أسوة عيالي ، وأنت تعلم أن ليس بمكة رجل أشد توسعاً على عياله مني . فقال عمير : قد عرفت بذلك يا أبا وهب . قال : صفوان : فإن عيالك مع عيالي لن يسعني شئ ويعجز عنهم ، ودَينك علي . فحمله صفوان على بعيره وجهزه وأجرى على عياله ما يجرى على عيال نفسه ، وأمر عمير بسيفه فشُحذ وسُمَّ ، ثم خرج إلى المدينة ، وقال لصفوان : أكتم على أياماً حتى أقدمها . فلم يذكرها صفوان ، فقدم عمير فنزل على باب المسجد وعقل راحلته وأخذ السيف فتقلده ، ثم عمد نحو رسول الله ، فلما رآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال له : ما أقدمك يا عمير ؟ قال : قدمت في أسيري
--------------------------- 38 ---------------------------
عندكم تفادوننا وتحسنون إلينا فيه فإنكم العشيرة . قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فما بال السيف ؟ قال : قبحها الله من سيوف وهل أغنت من شئ ! إنما نسيته حين نزلتُ وهو في رقبتي !
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فما شرطت لصفوان في الحجر ؟ ففزع عمير وقال : ماذا شرطت له ؟ قال : تحملت له بقتلى على أن يقضى دينك ويعول عيالك ، والله حائل بيني وبين ذلك ! قال عمير : أشهد أنك رسول الله وأنك صادق ، وأن لا إله إلا الله ، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء ، وإن هذا الحديث كان شيئاً بيني وبين صفوان كما قلت ، لم يطلع عليه غيرى وغيره ، وقد أمرته أن يكتم على أياماً فأطلعك الله عليه ، فآمنت بالله وبرسوله وشهدت أن ما جئت به صدق وحق ! قال ( صلى الله عليه وآله ) : علموا أخاكم القرآن ، وأطلقوا له أسيره .
فقال عمير : « إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله وقد هداني الله فله الحمد ، فأذن لي لألحق قريشاً فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام ، فأذن له فلحق بمكة ، وكان صفوان يسأل عن عمير فقيل له : إنه أسلم ، فطرح عياله ! وقدم عمير فدعاهم إلى الله وأخبرهم بصدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلم معه نفر كثير » . ورواه في مغازى الواقدي / 71 ، في الإحتجاج : 1 / 333 ، مختصراً ورواه ابن هشام : 2 / 485 ، لكن زاد فيه منقبة لعمر بأنه هو الذي اكتشف عميراً وحذر منه النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
- *
--------------------------- 39 ---------------------------
الفصل الثالث والأربعون
النبي « صلى الله عليه وآله » واليهود من غزوة بدرالى أحد
1 - حاخامات اليهود في زمن النبي « صلى الله عليه وآله »
يتشابه زعماء بطون قريش مع أقاربهم اليهود إلى حد كبير ، في عدائهم للنبي وعنادهم ! فقد كذَّبوه وآذوه ، وحاولوا قتله طول ثلاث عشرة سنة ، وبعدها !
ثم هاجر ( صلى الله عليه وآله ) عنهم وطلب منهم أن يتركوه والعرب ويقفوا على الحياد ، فلم يفعلوا ، وأصروا على حربه ، فحاربوه في بدر وانهزموا ، ولم يأخذوا العبرة . ثم أحُد والخندق ، ولم يأخذوا العبرة . وابتلاهم الله بالقحط والسنوات العجاف فكانوا كما قال الله عنهم : وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يتَضَرَّعُونَ . وباغتهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة ففتحها وأجبرهم على خلع سلاحهم فلم يعتبروا !
وكذلك اليهود في إصرارهم على عداوته ( صلى الله عليه وآله ) وحماقتهم وفتح الحروب عليه ! فقد جاؤوا بعد المسيح ( عليه السلام ) إلى جزيرة العرب ، وسكنوا في تيماء وأم القرى وخيبر والمدينة ومكة ، ينتظرون النبي الموعود ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانوا يتوعدون به العرب وأنه سيأتي ويكونون معه ، وبذلك هيؤوا أهل المدينة للإيمان به ! ولما بعثه الله تعالى كفروا به ، لأنه من أولاد إسماعيل ( عليه السلام ) وليس من أولاد إسحاق ( عليه السلام ) ! وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ . بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيا أَنْ ينَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ . البقرة : 89 - 90 .
--------------------------- 40 ---------------------------
وكان اليهود مجموعات قبلية يرأسهم حاخاماتهم . وقد جاؤوا لهدف ديني هو انتظار بعثة النبي الموعود ومعهم كتبهم ، وتحالفوا في المدينة مع الأوس والخزرج واشتغلوا بالزراعة والتجارة والصياغة .
وكان لهم في كل منطقة مدرستان : المدراس لتدريس التوراة وتسمى الفهر ، « لسان العرب : 5 / 66 » والمشناة ، التي لتدريس التلمود أو الشريعة .
وكان أسوأ حاخاماتهم : كعب بن الأشرف رئيس بنى النضير ، وخليفته حيى بن أخطب ، فقد أفرطا في عداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتحريك قريش والعرب ضده !
وذكر ابن هشام : 2 / 358 أسماء اليهود الذين نصبوا العداء للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان ابن إسحاق خبيراً بهم ، قال : « ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) العداوة بغياً وحسداً وضغناً . . وكانت أحبار يهودهم الذي يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم وفيما يسألون عنه . . منهم : حيى بن أخطب ، وأخواه أبو ياسر بن أخطب ، وجدى بن أخطب ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وسلام بن أبي الحقيق ، وأخوه سلام بن الربيع . . والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وعمرو بن جحاش ، وكعب بن الأشرف ، وهو من طيئ ، ثم أحد بنى نبهان ، وأمه من بنى النضير ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، وكردم ابن قيس ، حليف كعب بن الأشرف ، فهؤلاء من بنى النضير .
ومن بنى ثعلبة بن الفطيون : عبد الله بن صوريا الأعور ، ولم يكن بالحجاز في زمانه أعلم بالتوراة منه ، وابن صلوبا ، ومخيريق ، وكان حبرهم ، أسلم .
ومن بنى قينقاع : زيد بن اللصيت . . وسعد بن حنيف ، ومحمود بن سيحان ، وعزيز بن أبي عزيز ، وعبد الله بن صيف . قال ابن إسحاق : وسويد بن الحارث ، ورفاعة بن قيس ، وفنحاص ، وأشيع ، ونعمان بن أضا ، وبحري بن عمرو ، وشاس بن عدي ، وشاس بن قيس ، وزيد بن الحارث ، ونعمان بن عمرو ، وسكين بن أبي سكين ، وعدى بن زيد ، ونعمان بن أبي أوفي ، أبو أنس ، ومحمود بن دحية ، ومالك بن صيف . . وكعب بن راشد ، وعازر ، ورافع بن أبي رافع ، وخالد ، وإزار بن أبي إزار . . ورافع بن حارثة ،
--------------------------- 41 ---------------------------
ورافع بن حريملة ، ورافع بن خارجة ، ومالك بن عوف ، ورفاعة بن زيد بن التابوت ، وعبد الله بن سلام بن الحارث ، وكان حبرهم وأعلمهم ، وكان اسمه الحصين ، فلما أسلم سماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عبد الله ، فهؤلاء من بنى قينقاع .
ومن بني قريظة : الزبير بن باطا بن وهب ، وعزال بن شمويل ، وكعب بن أسد ، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقضه عام الأحزاب ، وشمويل بن زيد ، وجبل بن عمرو بن سكينة ، والنحام بن زيد ، وقردم بن كعب ، ووهب بن زيد ، ونافع بن أبي نافع ، وأبو نافع ، وعدى بن زيد ، والحارث بن عوف ، وكردم بن زيد ، وأسامة بن حبيب ، ورافع بن رميلة ، وجبل بن أبي قشير ، ووهب بن يهوذا ، فهؤلاء من بني قريظة .
ومن يهود بنى زريق : لبيد بن أعصم ، وهو الذي أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن نسائه . ومن يهود بنى حارثة : كنانة بن صورياء . ومن يهود بنى عمرو بن عوف : قردم بن عمرو . ومن يهود بنى النجار : سلسلة بن برهام .
فهؤلاء أحبار اليهود ، وأهل الشرور والعداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه » .
ومعنى قوله عن لبيد بن الأعصم بأنه أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن نسائه ، أنه سحر النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما زعمت عائشة فصار يتصور أنه قاربها ولم يقاربها ! وهذا عندنا من المكذوبات على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما بينا في محله .
قال في الصحيح : 6 / 21 : « اليهود شعب عنصرى مؤمن بتفوق عنصره على البشر كافة ! والناس عندهم لا قيمة لهم ولا اعتبار ، وإنما خلقوا لخدمة الإسرائيليين وحسب ! فكل الناس إذن يجب أن يكونوا في خدمتهم وتحت سلطتهم كما يقول لهم تلمودهم . فقد جاء في التلمود ما ملخصه : إن الإسرائيلى معتبر عند الله أكثر من الملائكة ، وإن اليهودي جزء من الله ، ومن ضرب يهودياً فكأنه ضرب العزة الإلهية ، والشعب المختار هم اليهود فقط ، وأما باقي الشعوب فهم حيوانات . ويعتبر اليهود غير اليهود أعداء لهم ولا يجيز التلمود أن يشفق اليهود على أعدائهم . ويلزم التلمود الإسرائيليين بأن يكونوا دنسين مع الدنسين ، ويمنع
--------------------------- 42 ---------------------------
من تحية غير اليهودي إلا أن يخشوا ضررهم ، ولا يجيزون الصدقة على غير اليهودي ويجوز لهم سرقة ماله وغشه . كما أن على الأمميين أن يعملوا ولليهود أن يأخذوا نتاج هذا العمل . ويجيز التلمود التعدي على عرض الأجنبي لأن المرأة إن لم تكن يهودية فهي كالبهيمة . ولليهودى الحق في اغتصاب غير اليهوديات . ويحرم على اليهودي أن ينجى غيره . إلى آخر ما هنالك » .
ولم يسلم منهم إلا النادر مثل الحاخام مخيريق ، وكان صادقاً ، واستشهد مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أحُد ، ورووا أن عبد الله بن سلام أسلم ، ولا أظنه صادقاً !
2 . كعب بن الأشرف رئيس بنى النضير
في المناقب : 1 / 48 : « قال كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهودا وفنحاص بن عازورا : يا محمد إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَينَا في التوراة أَلاّنُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ، فإن زعمت أن الله بعثك الينا فجئنا به نصدقك ، فنزلت : وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ . بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيا أَنْ ينَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ . البقرة : 89 - 90 .
وقوله : قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِى بِالْبَينَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . أراد زكريا ويحيى وجميع من قتلهم اليهود » .
وفى مجمع البيان : 3 / 347 أن كعباً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عند هجرته وطلب منه معجزة فأراه ، فاستكبر ولم يؤمن ! وسألوه عندما خرج من عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « أهو نبي ؟ فقال : هو هو ! فقيل : ماله عندك ؟ فقال : العداوة إلى الموت » !
وفى تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 92 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه ، وبينات نبوته ، كادته اليهود أشد كيد ، وقصدوه أقبح قصد ، يقصدون أنواره ليطمسوها ، وحججه ليبطلوها ! فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه : مالك بن الصيف ، وكعب بن الأشرف ، وحيى بن
--------------------------- 43 ---------------------------
أخطب ، وجدى بن أخطب ، وأبو ياسر بن أخطب ، وأبو لبابة بن عبد المنذر ، وشعبة . فقال مالك لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا محمد تزعم أنك رسول الله ؟
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين .
قال : يا محمد لن نؤمن لك أنك رسول الله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتنا ! ولن نشهد أنك عن الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط . وقال أبو لبابة بن عبد المنذر : لن نؤمن لك يا محمد أنك رسول الله ، ولا نشهد لك به حتى يؤمن ويشهد لك هذا السوط الذي في يدي . وقال كعب بن الأشرف : لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنه ليس للعباد الاقتراح على الله تعالى ، بل عليهم التَّسْليم لله والانقياد لأمره والاكتفاء بما جعله كافياً . أما كفاكم أنه أنطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم بنبوتي ودل على صدقي ؟ وبين لكم فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي وخير من أتركه على الخلائق من بعدى علي بن أبي طالب ، وأنزل على هذا القرآن الباهر للخلق أجمعين ، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله وأن يتكلفوا شبهه . وأما هذا الذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربي عز وجل ، بل أقول إنما أعطاني ربى تعالى من دلالة هو حسبي وحسبكم ، فإن فعل عز وجل ما اقترحتموه فذاك زائد في تطوله علينا وعليكم ، وإن منعنا ذلك فلعلمه بأن الذي فعله كاف فيما أراده منا . قال : فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من كلامه هذا أنطق الله البساط فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً صمداً حياً قيوماً أبداً ، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، ولم يشرك في حكمه أحداً ، وأشهد أنك يا محمد عبده ورسوله ، أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهرك على الدين كله ولو كره المشركون . وأشهد أن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخوك ووصيك ، وخليفتك في أمتك . . فعجب القوم وقال بعضهم لبعض : ما هذا إلا سحر مبين ! فاضطرب البساط وارتفع . . وأنطق الله سوط أبى لبابة ، ثم أنطق حمار كعب بن الأشرف ، فقال : هذا سحر !
--------------------------- 44 ---------------------------
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا كعب بن الأشرف حمارك خير منك ! فلما انصرف القوم من عند رسول الله ولم يؤمنوا أنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ . . » .
وكان كعب يقود الحاخامات ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويتصلون بالمؤمنين من الأنصار ويلقون عليهم الشبهات ليكفروا ، ونزلت فيهم آيات كقوله تعالي : الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَينَا أَلاّنُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِى بِالْبَينَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . آل عمران : 183 .
وقد وقع اليهود بطوائفهم الثلاث : قينقاع والنضير وقريظة ، معاهدات تعايش مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكنهم كانوا يتعاونون خفيةً مع قريش ، وعندما انهزمت في بدر أصابهم الذهول ، وقصد كعب وابن أخطب مكة يحرضانهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وفى شرح النهج : 14 / 196 عن الواقدي ، قال : « وفرق الله عز وجل ببدر بين الكفر والإيمان ، وأذل رقاب المشركين والمنافقين واليهود ، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا منافق إلا خضعت عنقه ! وقال قوم من المنافقين ليتنا خرجنا معه حتى نصيب غنيمة ! وقالت يهود فيما بينها : هو الذي نجد نعته في كتبنا والله لاترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت ! وقال كعب بن الأشرف : بطن الأرض اليوم خير من ظهرها ! هؤلاء أشراف الناس وساداتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن قد أصيبوا ! وخرج إلى مكة فنزل على أبى وداعة بن ضبيرة ، وجعل يرسل هجاء المسلمين ، ورثى قتلى بدر من المشركين فقال :
طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر يستهل ويدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم * لا تبعدوا ، إن الملوك تُصرَّع
نبئت أن الحارث بن هشامهم * في الناس يبنى الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما * يسعى على الحسب القديم الأروع
قال الواقدي . . فلما أرسل كعب هذه الأبيات أخذها الناس بمكة عنه وأظهروا المراثي ، وقد كانوا حرَّموها كيلا يشمت المسلمون بهم ! وجعل الصبيان والجواري ينشدونها بمكة ، فناحت بها قريش على قتلاها شهراً ، ولم تبق دار بمكة إلا فيها النوح ،
--------------------------- 45 ---------------------------
وجَزَّ النساء شعورهن ، وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه فتوقف بين أظهرهم فينوحون حولها ! وخرجن إلى السكك وضربن الستور في الأزقة ، فخرجن إليها ينحن » ! ورواه ابن هشام بنحوه : 2 / 564 والمقريزي في الإمتاع : 12 / 179 باثني عشر بيتاً .
وفى أسباب النزول / 62 : « وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه ، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا : لتكونن كلمتنا واحدة ، ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ . . » .
3 . غزوة النبي « صلى الله عليه وآله » ليهود بنى قينقاع بضاحية المدينة
كان بنو قينقاع صاغة يعملون بالذهب ، وليس عندهم بساتين ، ولهم سوق الذهب المعروف قرب المدينة . وكان بنو النضير أصحاب زراعة وبساتين ، ويشبههم بنو قريظة . وعددهم جميعاً بضعة آلاف نسمة .
قال في إعلام الوري : 1 / 157 : « قال علي بن إبراهيم بن هاشم : جاءته اليهود قريظة والنضير والقينقاع « كل يهود المدينة » فقالوا : يا محمد إلى مَ تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، وإني الذي تجدوني مكتوباً في التوراة ، والذي أخبركم به علماؤكم أن مخرجى بمكة ومهاجرى في هذه الحرة ، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام . فقال : تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبي يبعث في هذه الحرة ، مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، يركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزئ بالكسرة ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، ويضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لاقي ، وهو الضحوك القتال ، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر .
فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة ، على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ، ولا نتعرض لأحد من أصحابك ، ولا تتعرض لنا ولا لأحد من أصحابنا ، حتى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك !
--------------------------- 46 ---------------------------
فأجابهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ذلك وكتب بينهم كتاباً : أن لا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه ، بلسان ولايد ولا بسلاح ولا بكراع في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار ، والله بذلك عليهم شهيد . فإن فعلوا فرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حل من سفك دمائهم ، وسبى ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم !
وكتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة ، وكان الذي تولى أمر بنى النضير حيى بن أخطب . فلما رجع إلى منزله قال له أخواه جدى بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب : ما عندك ؟ قال : هو الذي نجده في التوراة ، والذي بشرنا به علماؤنا ، ولا أزال له عدواً ، لأن النبوة خرجت من ولد إسحاق وصارت في ولد إسماعيل ، ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً !
وكان الذي ولى أمر قريظة كعب بن أسد ، والذي تولى أمر بنى قينقاع مخيريق وكان أكثرهم مالاً وحدائق ، فقال لقومه : تعلمون أنه النبي المبعوث فهلمَّ نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين ! فلم تجبه قينقاع إلى ذلك » .
قال الشافعي في الأم : 4 / 181 : « ولم تخرج « اليهود » إلى شئ من عداوته ( صلى الله عليه وآله ) بقول يظهر ولا فعل حتى كانت وقعة بدر ، فكلم بعضها بعضاً بعداوته والتحريض عليه » . لكن في الصحيح : 6 / 36 : « بدأ اليهود قبل بدر بالتحريض على الرسول والمسلمين والتعرض لهم بمختلف أنواع الأذي ، فكان أبو عفك اليهودي يحرض على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويقول فيه الشعر ، فنذر سالم بن عمير أن يقتله أو يموت دونه ، فذهب إليه فقتله . . ثم كانت حرب بدر ونتائجها المذهلة ، فزاد ذلك من مخاوف اليهود والمشركين والمنافقين على حد سواء ، فصعَّدوا من نشاطاتهم » . وعدَّد أنشطتهم ضد المسلمين فقال : 6 / 30 :
« 1 - قد أشار الجاحظ إلى أنهم شبَّهوا على العوام واستمالوا الضعفة ، ومالؤوا الأعداء والحسدة ، ثم جاوزوا الطعن وإدخال الشبهة . الخ . . .
2 - طرح الأسئلة الإمتحانية على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بهدف تعجيزه ! ويلاحظ أن هذه المحاولات كانت تبذل من قبل مختلف قبائل اليهود .
--------------------------- 47 ---------------------------
3 - ولما فشلوا في محاولاتهم محاربة الإسلام على صعيد الفكر ، اتجهوا نحو أسلوب الضغط الاقتصادي على المسلمين فيذكرون أن رجالاً من أهل الجاهلية باعوا يهوداً بضاعة ثم أسلموا وطلبوا من اليهود دفع الثمن فقالوا : ليس علينا أمانة ، ولا قضاء عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ! وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ! فجاء في الآية المباركة الرد عليهم : وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يؤَدِّهِ إِلَيكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يؤَدِّهِ إِلَيكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيسَ عَلَينَا فِى الآمِّيينَ سَبِيلٌ وَيقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يعْلَمُونَ .
4 - ممالأة أعداء الإسلام ومساعدتهم بكل ما أمكنهم ، ولو بالتجسس .
5 - محاربة الإسلام أيضاً عن طريق إثارة الفتن بين المسلمين ، ولا سيما بين الأوس والخزرج ، ونذكر على سبيل المثال قضية شاس بن قيس .
6 - تآمرهم على حياة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) وتحريضهم الناس عليه .
7 - محاولات إثارة البلبلة وتشويش الأوضاع ، بإشاعة الأكاذيب وتخويف ضعاف النفوس من المسلمين .
8 - تآمرهم مع المنافقين على الإسلام ، وممالأتهم قريشاً على حرب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
9 - تآمرهم لمنع المسلمين من الخروج للحرب ، وكانوا يجتمعون في بيت سويلم اليهودي لأجل تثبيط الناس عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) . وقد صبر الرسول عليهم ، تفادياً لحرب أهلية في مقره الجديد . . حتى طفح الكيل وبلغ السيل الزبي » .
أقول : من طريف أخبار اليهود أن بني قريظة والنضير كانوا حلفاء الأوس ، وبنى قينقاع حلفاء الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حرب ، فكانت كل فئة من اليهود تحارب مع حلفائها فتقاتل إخوانها وتقتل منهم ! فوبخهم الله تعالى وقال لهم : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاتُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيهِمْ بِالآثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ ياتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ
--------------------------- 48 ---------------------------
وَهُوَمُحَرَّمٌ عَلَيكُمُ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْى فِى الْحَياةِ الدُّنْياوَيوْمَ الْقِيامَةِ يرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .
البقرة : 84 - 85 .
4 . سارع بنو قينقاع بعد بدر إلى نقض عهدهم
كانت هزيمة قريش في بدر صاعقة على اليهود ، فأسرع الحاخام كعب بن الأشرف إلى مكة لتقوية قلوب القرشيين ، ونشط في عداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهجائه حتى أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتله ! كما أعلن بنو قينقاع نقض عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأخذوا يستعدون لحربه ، وكانوا صاغة اليهود وأكثرهم ثروة ، ولهم سوق الذهب في ضاحية المدينة ، المعروف باسم : سوق بنى قينقاع . الحموي : 4 / 424 .
وكان رئيس بنى قينقاع الحاخام مخيريق رضي الله عنه ، ورأَّسوه عليهم لأنه من بنى النضير وهم وقريظة من ذرية هارون ( عليه السلام ) ، لكنهم لم يطيعوه لما دعاهم إلى الإيمان بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ونصحهم بعدم نقض عهدهم معه .
وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج وطرف حلفهم عبادة بن الصامت ، وكان من النقباء وخيار الصحابة ، وعبد الله بن سلول ، وكان رأس المنافقين من أهل المدينة ومن الذين في قلوبهم مرض ، أي الطبقة السياسية في المنافقين .
وكانت قريش تراسل ابن سلول وبنى قينقاع قبل بدر ، تحثهم على حرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومما كتبته إليهم : « إنكم آويتم صاحبنا ، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لتخرجنه ، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم » !
فلما بلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقيهم فقال : لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم ، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم ! فلما سمعوا ذلك من النبي ( صلى الله عليه وآله ) تفرقوا . فبلغ ذلك كفار قريش فكتبوا إلى اليهود بعد وقعة بدر : إنكم أهل الحلقة والحصون ، وإنكم لتقاتلن صاحبنا ، أو لنفعلن كذا وكذا . أبو داود : 2 / 33 .
--------------------------- 49 ---------------------------
هنا سارع بنو قينقاع فنقضوا عهدهم وأخذوا يستعدون للحرب ، فنزل قوله تعالي : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ . قَدْ كَانَ لَكُمْ آيةٌ فِى فِئَتَينِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يرَوْنَهُمْ مِثْلَيهِمْ رَأى الْعَينِ وَاللهُ يؤَيدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يشَاءُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِى الأَبْصَارِ .
وفى تفسير القمي : 1 / 97 : « لما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من بدرأتى بنى قينقاع وهو يناديهم ، وكان بها سوق يسمى سوق النبط ، فأتاهم رسول الله فقال : يا معشر اليهود قد علمتم ما نزل بقريش ، وهم أكثر عدداً وسلاحاً وكراعاً منكم ، فأدخلوا في الإسلام فقالوا : يا محمد أإنك تحسب حربنا مثل حرب قومك ؟ ! والله لو لقيتنا للقيت رجالاً ! فنزل عليه جبرئيل فقال : يا محمد : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ » . ونحوه ابن إسحاق : 3 / 294 .
وفى إعلام الوري : 1 / 175 : « كانت غزوة بنى قينقاع يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة . وروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حاصرهم ستة أيام حتى نزلوا على حكمه . . خرجوا من المدينة ، ونزلوا أذرعات » .
فكانت غزوتهم بعد بضعة وعشرين يوماً من رجوع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من معركة بدر .
وفى سيرة ابن إسحاق : 3 / 295 : « كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله وحاربوا فيما بين بدر وأحد ، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه ، فقام اليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال : يا محمد أحسن في موالي ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فأبطأ عنه رسول الله فقال : يا محمد أحسن ، فأعرض عنه رسول الله ، فأدخل يده في جيب درع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له رسول الله وغضب رسول الله ثم قال : ويحك أرسلني ، فقال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي ، أربع مائة حاسر وثلاث مائة دارع ، منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة ! إني والله امرؤ أخشى الدوائر ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هم لك » !
وفى الطبري : 2 / 173 : « فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم ، فأرسلوهم ، ثم أمر بإجلائهم وغَنَّمَ الله عز وجل رسوله والمسلمين ما كان لهم
--------------------------- 50 ---------------------------
من مال ، ولم تكن لهم أرضون إنما كانوا صاغة فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لهم سلاحاً كثيراً وآلة صياغتهم ، وكان الذي ولى إخراجهم من المدينة بذراريهم عبادة بن الصامت فمضى بهم حتى بلغ بهم ذباب وهو يقول : الأقصى فالأقصي » .
ونحوه الطبقات : 2 / 29 ، وفيه : « وجدوا في حصنهم سلاحاً كثيراً وآلة الصياغة ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صفيه والخمس ، وفض أربعة أخماس على أصحابه ، فكان أول خمسٍ خُمِّسَ بعد بدر » .
5 . رئيس بنى قينقاع خير بنى يهود
كان الحاخام مخيريق « رحمه الله » أغنى اليهود ، وقد وفقه الله للإسلام فقصد النبي ( صلى الله عليه وآله ) عند وصوله إلى قباء وأسلم على يده ، ودعا قومه إلى الإسلام وأن ينصروه في أحد فأبوا ، فذهب إلى أحد بعد أن أوصى للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بكل أمواله وكانت بساتين كبيرة وقاتل واستشهد في أحد رضي الله عنه .
قال في المناقب : 1 / 146 : « وكان مخرنق أحد بنى النضير حبراً عالماً أسلم وقاتل مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأوصى بماله لرسول الله وهو سبع حوائط وهي : المينب ، والصايفة ، والحسني ، ويرقد ، والعواف ، والكلاء ، ومشربة أم إبراهيم » .
وفى الإصابة : 6 / 46 : « كان عالماً وكان أوصى بأمواله للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى سبع حوائط . . . وشهد أحداً فقتل بها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : مخيريق سابق يهود ، وسلمان سابق فارس ، وبلال سابق الحبشة . . . فلما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى أحُد قال لليهود : ألا تنصرون محمداً ؟ والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم ! فقالوا : اليوم يوم السبت ! فقال : لا سبت لكم ! وأخذ سيفه ومضى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، فلما حضره الموت قال : أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء . . » .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 362 : « قال : لا سبت لكم ، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأحد ، وعهد إلى من وراءه من قومه : إن قتلت هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله . وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمواله فعامة صدقات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة منها » .
--------------------------- 51 ---------------------------
وقد أرى الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يوقف أموال مخيريق ، ويجعل ولايتها لابنته فاطمة الزهراء وذريتها « عليها السلام » ، وكذا نخل بنى النضير الذي أفاءه الله على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ولم يوجف عليه بخيل ولاركاب .
قال في فتح الباري : 6 / 140 : « فكان نخل بنى النضير لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها . . . وبقى منها صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) التي في أيدي
بنى فاطمة رضي الله عنها » . لكن أبا بكر وعمر صادرا ه من الزهراء « عليها السلام » وصادرا فدكاً ، بحجة أنهما وليا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقالا إنهما يعطيان المأكل والمشرب لعترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
6 . غزوة بنى النضير
لم يكتف بنو النضير وسيدهم كعب بخيانة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بل حاولوا اغتياله ! فأمره الله تعالى أن يقتل كعباً وبعض شرارهم لينذرهم بذلك ، ثم يغزوهم .
« أجمعت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك ، وليخرج منا ثلاثون حبراً ، حتى نلتقى بمكان المنصف فيسمعوا منك ، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالكتائب فحصرهم فقال لهم : إنكم والله لا تأمنون عندي ، إلا بعهد تعاهدوني عليه » . سنن أبي داود : 2 / 33 .
وفى الصحيح : 6 / 58 : « فبينما هم على مجاهرتهم وكفرهم إذ جاءت امرأة مسلمة إلى سوقهم ، فجلست عند صائغ منهم لأجل حلى لها ، فأرادوها على كشف وجهها فأبت ، فعمد الصائغ أو رجل آخر إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهى لا تشعر ! فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها ، فصاحت فوثب مسلم على من فعل ذلك فقتله ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستنصر أهل المسلم بالمسلمين فغضب المسلمون ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : ماعلى هذا أقررناهم ! فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم ، وقال : يا رسول الله أتولى الله ورسوله وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار » .
--------------------------- 52 ---------------------------
7 . حاصر النبي « صلى الله عليه وآله » بنى النضير وانتصرعليهم بعلي « عليه السلام »
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 92 ونحوه المناقب : 2 / 332 : « لما توجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بنى النضير عمل على حصارهم ، فضرب قبته في أقصى بنى خطمة من البطحاء فلما أقبل الليل رماه رجل من بنى النضير بسهم فأصاب القبة ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن تحول قبته إلى السفح ، وأحاط به المهاجرون والأنصار . فلما اختلط الظلام فقدوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال الناس : يا رسول الله لا نرى علياً ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أراه في بعض ما يصلح شأنكم ! فلم يلبث أن جاء برأس اليهودي الذي رمى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان يقال له عزورا ، فطرحه بين يدي النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : كيف صنعت ؟ فقال : إني رأيت هذا الخبيث جريئاً شجاعاً ، فكمنت له وقلت ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الظلام يطلب منا غِرة ، فأقبل مصلتاً سيفه في تسعة نفر من أصحابه اليهود ، فشددت عليه فقتلته ، وأفلت أصحابه ولم يبرحوا قريباً ، فابعث معي نفراً فإني أرجو أن أظفر بهم !
فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، فأدركوهم قبل أن يلجوا الحصن فقتلوهم وجاؤوا برؤوسهم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأمر أن تطرح في بعض آبار بنى حطمة ، وكان ذلك سبب فتح حصون بنى النضير . وفى تلك الليلة قتل كعب بن الأشرف . . « غير كعب المعروف » .
وفيما كان من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في هذه الغزاة وقتله اليهودي ، ومجيئه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) برؤوس التسعة النفر ، يقول حسان :
لله أي كريهة أبليتَها * ببنى قريظة والنفوس تطلَّعُ
أردى رئيسهم وآبَ بتسعة * طوراً يشلهم وطوراً يدفع »
وفى الصحيح : 8 / 92 تحت عنوان : الفتح على يد على ( عليه السلام ) : ما حاصله :
« كان لهذه الضربة تأثير كبير على معنويات بنى النضير ، وضج الرعب في قلوبهم فإن تصدى رجل واحد من المسلمين لعشرة منهم ، ثم قتل العشرة جميعاً ، يؤذن بأن
--------------------------- 53 ---------------------------
المسلمين قادرون على إبادتهم ، واستئصال شأفتهم بسهولة ويسر !
ويلاحظ أن شعر حسان ذكر أن هذه القضية وقعت في بني قريظة ، لكن الرواية تنص على حدوث ذلك في بنى النضير ، فيكون الخلل في الرواية لشعر حسان » .
8 . غرور بنى النضير عند جلائهم !
حكم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على بنى النضير بالجلاء عن المدينة بسبب خيانتهم وحربهم ، فهاجروا إلى درعا ، وتعمدوا أن يخرجوا بمظاهر الزينة والإحتفال !
قال في الصحيح ، ملخصاً : 8 / 174 : « فخرجوا ومعهم الدفوف والمزاميرتجلداً . . ثم شقوا سوق المدينة والنساء في الهوادج ، عليهن الحرير والديباج ، وقطف الخز الخضر والحمر ، قد صف لهم الناس فجعلوا يمرون قطاراً في إثر قطار ، فحملوا على ست مائة بعير . ومروا يضربون بالدفوف ويزمرون بالمزامير . ونادى أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ورفع مسك الجمل : إن هذا المسك مملوء من الحلي . . نعده لخفض الأرض ورفعها ، فإن يكن النخل تركناه فإنا نقدم على نخل بخيبر .
فقد كان بنو النضير أهل جبروت وقسوة وبغى وعنجهية واعتداد بالنفس ، حتى إنهم ليظلمون إخوانهم من بني قريظة ، وهم أيضاً من بنى هارون ظلماً فاحشاً ، ومخالفاً لأحكام التوراة الصريحة ، وحتى لأحكام أهل الجاهلية ! واستقبلهم يهود خيبر بالنساء والأبناء والأموال ، معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر ، مارؤى مثله من حي من الناس في زمانهم » . وفى الصحيح : 8 / 142 : « تنص الروايات على أن الرجل من بنى النضير كان يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به » !
9 . بداية حشر اليهود بإجلاء بنى النضير
في تفسير القمي : 2 / 358 : « سورة الحشر مدنية آياتها أربع وعشرون : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . سَبَّحَ للهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأَوَلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يخْرُجُوا . . .
--------------------------- 54 ---------------------------
سبب نزول ذلك أنه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود : بنو النضير وقريظة وقينقاع ، وكان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عهد ومدة فنقضوا عهدهم ، وكان سبب ذلك من بنى النضير في نقض عهدهم أنه أتاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة ، يعنى يستقرض ، وكان قصد كعب بن الأشرف فلما دخل على كعب قال : مرحباً يا أبا القاسم وأهلاً ! وقام كأنه يضع له الطعام وحدث نفسه أن يقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويتبع أصحابه ، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك ، فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة وقال لمحمد بن مسلمة الأنصاري : إذهب إلى بنى النضير فأخبرهم أن الله عز وجل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر ، فإما أن تخرجوا من بلدنا وإما أن تأذنوا بحرب !
فقالوا : نخرج من بلادك . فبعث إليهم عبد الله بن أبي ألا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمداً الحرب ، فإني أنصركم أنا وقومي وحلفاي ، فإن خرجتم خرجت معكم وإن قاتلتم قاتلت معكم . فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيؤوا للقتال ، وبعثوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع . فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكبر وكبر أصحابه ، وقال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : تقدم إلى بنى النضير ، فأخذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الراية وتقدم ، وجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأحاط بحصنهم . وغدر بهم عبد الله بن أبي ! وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم وخربوا ما يليه ، وكان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خربه ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك ، وقالوا يا محمد : إن الله يأمرك بالفساد ؟ إن كان لك هذا فخذه وإن كان لنا فلا تقطعه .
فلما كان بعد ذلك قالوا : يا محمد نخرج من بلادك وأعطنا ما لنا . فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل ، فلم يقبلوا ذلك فبقوا أياماً ، ثم قالوا : نخرج ولنا ما حملت الإبل ، فقال : لا ، ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئاً فمن وجدنا معه شيئاً من ذلك قتلناه ، فخرجوا على ذلك ، ووقع قوم منهم إلى فدك ووادى القري ، وخرج منهم قوم إلى الشام ، فأنزل الله فيهم : هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأَوَلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيثُ
--------------------------- 55 ---------------------------
لَمْ يحْتَسِبُوا . . إلى قوله : شديد العقاب .
وأنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل : مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيخْزِى الْفَاسِقِينَ . . إلى قوله : رَبَّنَا إِنَّكَ رُءُوفٌ رَحِيمٌ .
وأنزل الله عليه في عبد الله بن أبي وأصحابه : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يقُولُونَ لآخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ . . إلى قوله : ثُمَّ لا ينْصَرُونَ . ثم قال : مَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، يعنى بنى قينقاع ، قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . ثم ضرب في عبد الله بن أبي وبنى النضير مثلاً ، فقال : كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِئٌ مِنْكَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدَينِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ . . .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للأنصار : « إن شئتم دفعت إليكم فَيء المهاجرين منها ، وإن شئتم قسمتها بينكم وبينهم وتركتهم معكم ؟ قالوا : قد شئنا أن تقسمها فيهم ، فقسمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين المهاجرين ودفعها عن الأنصار ، ولم يعط من الأنصار إلا رجلين : سهيل بن حنيف وأبو دجانة ، فإنهما ذكرا حاجة » .
وتقدم أن بنى النضير أخذوا ما حملت الإبل ، فلا بد أن يكون هؤلاء بنو قريظة .
وفى هذا الموضوع أربع مسائل :
المسألة الأولي : معنى حشر اليهود وهو موضوع السورة :
فقد سماه الله تعالى الحشر الأول ، ولا تجد في كلام المفسرين ما يقنعك بحشرهم الأول والثاني ! وغاية ما ذكروه أن الحشر الأول إجلاؤهم من الحجاز إلى الشام والثاني حشرهم في الآخرة من بلاد الشام أيضاً أو من عدن ! ورتبوا عليهما ما رووه من أن الشام أرض المحشر والمنشر ، وأن الناس يحشرون من عدن بنار تسوقهم إلى الشام أرض المحشر .
لكن يردُّه أن سورة الحشر نزلت في حشر بنى النضير ، وقد بدأ حشر اليهود ببنى قينقاع الذين أجلاهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبلهم ؟ وأجابوا بأن بنى النضير أول من
--------------------------- 56 ---------------------------
حشروا إلى الشام ، ولا يصح ذلك لأن بنى قينقاع ذهبوا إلى أذرعات الشام ، وهى المعروفة اليوم بدرعا ، بينما ذهب أكثر بنى النضير إلى خيبر وقليل منهم إلى الشام !
والجواب المقنع : أن حشر اليهود الثاني يكون عند ظهور الإمام المهدى ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) ، ويعبر عنه بيوم الرجعة ، أي رجعة أهل البيت « عليهم السلام » . التفسير الأصفي : 2 / 1281 .
ويرتبط حشرهم بآيات إفسادهم في الأرض مرتين ، وقد كان إفسادهم الأول قبل الإسلام وانتهى بهزيمتهم وحشرهم الأول على يد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم كان إفسادهم الثاني بعد الإسلام وينتهى بحشرهم الثاني الذي قال عنه الله تعالى : وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرض فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا . الإسراء : 104 .
أما لماذا جعل الله تعالى إجلاء بنى النضير أول حشر اليهود وليس بنى قينقاع ؟ فقد يكون السبب أن بنى النضير كانت لهم أراض وبساتين فأجلاهم منها ، بينما كان بنو قينقاع صاغة وتجار ذهب ، وأن بنى النضير من ذرية هارون دون بنى قينقاع . فقد يكون للأرض ، أو لقادة بني إسرائيل ، دخلاً في بدء الإجلاء .
والجواب الأقوي : أن إجلاء اليهود وحشرهم بدأ ببنى قينقاع وتواصل ببقيتهم لكن الحكمة اقتضت تأخير نزول السورة التي ذكرت حشرهم إلى ما بعد إجلاء بنى النضير ، كما أجمع المفسرون ، أو بعد إجلاء بني قريظة كما هو محتمل ، ولعلها لو نزلت بعد إجلاء بنى قينقاع ، لأضر ذلك بخطة إجلاء الباقين .
المسألة الثانية : هل قطع النبي « صلى الله عليه وآله » نخل بنى النضير أو أحرقه ؟
ذكرت مصادر الجميع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر بقطع بعض النخلات من بساتين بنى النضير ، وقد تكون نخلات ملتفة تقع بين معسكره وحصونهم ، كانوا يتخذونها مخبأ لعمليات ليلية ، فقطع منها أو من سعفها الملتف بقدر الضرورة ، ويؤيده أنهم سموها البويرة أي الأرض الصغيرة التي كانت بوراً غير مغروسة ثم غرست .
لاحظ قول ابن شهرآشوب في المناقب : 1 / 170 : « ثم حاصرهم نيفاً وعشرين يوماً وأمر بقطع نخلات ، قوله : مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ ، وهى البويرة في قول حسان » .
--------------------------- 57 ---------------------------
فالمقطوع هو نخلات قطعها المسلمون بإجازة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لغرض مشروع ! لكن رواة السلطة بالغوا في المسألة وصوروا الأمر كأنه إبادة منطقة نخيل واسعة ، وغرضهم أن يبرروا ما ارتكبه بعضهم في الفتوحات أو الحروب الداخلية من إحراق أشجار وبيوت ! لاحظ تضخيم البخاري : 5 / 23 : « حرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نخل بنى النضير وقطعه ، وهى البويرة ، فنزل : مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ » . وغرضه إثبات منقبة لبعض الصحابة كانوا بزعمه أعقل من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأرحم فنهوه عن ذلك !
قال السرخسي في المبسوط : 10 / 32 : « وأمر بقطع النخيل بخيبر حتى أتاه عمر فقال : أليس أن الله تعالى وعدك خيبر ؟ فقال : نعم . فقال : إذاً تقطع نخيلك ونخيل أصحابك ! فأمر بالكف عن ذلك ! ولما حاصر ثقيفاً أمر بقطع النخيل والكروم ، حتى شق ذلك عليهم » !
وفى السير الكبير : 1 / 55 : « قال الراوي : فأخبرني رجال رأوا السيوف في نخيل النطاة وقيل لهم : هذا مما قطع رسول الله ! والنطاة اسم حصن من حصون خيبر » !
وفى دلائل النبوة للبيهقي : 5 / 157 وسننه : 9 / 90 : « وزاد عروة في روايته قال : وأمر رسول الله المسلمين حين حاصروا ثقيفاً أن يقطع كل رجل من المسلمين خمس نخلات أو حبلات من كرومهم ! فأتاه عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله إنها عفاء لم تؤكل ثمارها ! فأمرهم أن يقطعوا ما أكلت ثماره الأول فالأول » !
كما رووا أن أبا بكر كان أعقل من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً فأوصى بأن لا يقطع الشجر ! فهي روايات موظفة لمدح عمر وأبى بكر ولو بالطعن بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ! تعويضاً لهما عن عدم مشاركتهما في قتال ! وهذا كافٍ لإسقاط الرواية .
المسألةالثالثة : لماذا جعلاللهأرض بنيالنضير ملكاً خاصاً للنبي « صلى الله عليه وآله » ؟
نص القرآن على أن البلاد التي تفتح بدون قتال تكون ملكاً خاصاً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، قال تعالي : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيهِ مِنْ خَيلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يسَلِّطُ
--------------------------- 58 ---------------------------
رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . الحشر : 6 .
وفى المقنعة للمفيد / 278 : « الأنفال لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاصة في حياته ، وهى للإمام القائم مقامه من بعده خالصة ، كما كانت له عليه وآله السلام في حياته ، قال الله عز وجل : يسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ . وما كان للرسول من ذلك فهو لخليفته القائم في الأمة مقامه من بعده . والأنفال كل أرض فتحت من غيرأن يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، والأرضون الموات ، وتركات من لا وارث له من الأهل والقرابات ، والآجام ، والبحار ، والمفاوز ، والمعادن ، وقطايع الملوك . روى عن الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : نحن قوم فرض الله تعالى طاعتنا في القرآن ، لنا الأنفال ، ولنا صفو الأموال . يعنى بصفوها ما أحب الإمام من الغنائم واصطفاه لنفسه قبل القسمة ، من الجارية الحسناء والفرس الفارِهِ والثوب الحسن ، وما أشبه ذلك من رقيق أو متاع ، على ما جاء به الأثر من هذا التفسير عن السادة « عليهم السلام » » . وجواهر الكلام : 16 / 7 ، 117 ، 137 و 21 / 169 .
وقد اتفق المسلمون على أن أراضي بنى النضير خاصة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) دون غيره . ففي سنن أبي داود : 2 / 33 ، تاريخ المدينة : 1 / 173 وفتح الباري : 6 / 140 : « فكان نخل بنى النضير لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها . . وبقى منها صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) التي في أيدي بنى فاطمة رضي الله عنها » .
وقال المفيد في الإرشاد : 1 / 92 ونحوه المناقب : 2 / 332 : « واصطفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أموال بنى النضير ، فكانت أول صافية قسمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين المهاجرين الأولين ، وأمر علياً ( عليه السلام ) فحاز ما لرسول الله منها فجعله صدقة ، فكان في يده أيام حياته ، ثم في يد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعده ، وهو في ولد فاطمة « عليها السلام » حتى اليوم » .
أقول : يضاف إلى ما أجمع عليه فقهاؤنا ما روته مصادرنا : أن الله تعالى مَلَّكَ الأرض كلها لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) وبعده للإمام من أهل بيته « عليهم السلام » كقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله : خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة ، فما كان لآدم فلرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما كان لرسول الله فهو للأئمة من آل محمد « عليهم السلام » » . الكافي : 1 / 409 .
وفى الكافي : 1 / 407 ، عن أبي خالد الكابلي عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « وجدنا في كتاب
--------------------------- 59 ---------------------------
على ( عليه السلام ) أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ، ونحن المتقون والأرض كلها لنا ، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها . فإن تركها أو أخربها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها ، فهو أحق بها من الذي تركها ، يؤدى خراجها إلى الامام من أهل بيتي وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف ، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء ، جائز له ذلك من الله » . الكافي : 1 / 408 .
وقد صادروها بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم ردها عمر ، ثم صادروها وادعوا أنهم
أولى بها . . الخ .
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه الخطط السياسية / 311 :
1 - ترك رسول الله الحوائط السبعة اللاتي وهبهن له مخيريق .
2 - ما وهبه الأنصار إياه ، وهو كل ما ارتفع من أراضيهم الزراعية .
3 - أراضي بنى النضير الزراعية ونخيلها .
4 - ثمانية أسهم من مجموع : 36 سهماً من أراضي خيبر .
5 - أراضي وادى القرى الزراعية .
وبعد وفاة الرسول استولى عليها أبو بكر . جاء في مجمع الزوائد : 9 / 39 عن عمر ، أنه « لما قبض رسول الله جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله ؟ قال : نحن أحق الناس برسول الله ! قال فقلت : والذي بخيبر ؟ قال : والذي بخيبر . قلت : والذي بفدك ؟ قال : والذي بفدك . فقلت : أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير !
قرارات اقتصادية لا بد منها : لإجبار الآل الكرام على الاحتكام للسلطة ، بغض النظر عن طبيعة القرارات التي ستصدر عنها .
--------------------------- 60 ---------------------------
1 - تجريد الآل الكرام من سلاح خطير وهو المال ، فإذا استعمله الآل الكرام ، فقد يؤلفون به قلوب المسلمين ويستميلونهم لصالح قضيتهم .
2 - ربط الآل الكرام بالسلطة الحاكمة ، وجعل رغيفهم بيد هذه السلطة ، لتضمن السيطرة الكاملة عليهم وتحييدهم وإلغاء دورهم كقيادة سياسية شرعية .
3 - عزل الآل الكرام شعبياً حتى تميل عنهم أعين الناس .
4 - الحيلولة العملية بين الآل الكرام والمطالبة بالجمع بين النبوة والخلافة .
تحقيق هذه الأهداف :
فقد فاوض الآل الكرام واحتكموا إلى السلطة ، فحكمت السلطة بتنفيذ قراراتها الاقتصادية ، وحرمانهم من التركة ومن المنح ومن سهم ذوى القربى ! وبموت فاطمة انصرف الناس عن علي فشق بنفسه طريق المصالحة وبايع هو وبنو هاشم وسلموا بالأمر الواقع ! فعساه أن يتمكن يوماً من اطلاع الأمة على الحقيقة المرة وأن يبصر الناس بالتقاطيع الأساسية للمنظومة السياسية الإلهية فيقارنوا بينها وبين ما حدث في التاريخ » !
من أين يأكلون بحق السماء ؟ !
قال في الخطط السياسية / 321 ، تحت هذا العنوان : مشكلة الآل الكرام الحقيقية أنه محظور عليهم أن يأخذوا الصدقة فهي محرمة عليهم ، لذلك خصهم الله تعالى بسهم ذوى القربى لتغطية هذه الناحية . هل يعيش الآل الكرام وأهل البيت عيش السوقة ؟ هل يتسولون الناس ؟ من أين يأكلون ؟
عن أنس بن مالك أن أبا بكر قال لفاطمة عندما سألته عن سهم ذوى القربى : أفَلَكِ هو ولأقربائك ؟ قالت نعم ، قال : لا ، أنفق عليكم منه . وقال مرة : السهم لكم في حال حياة النبي ، وبعد موته ليس لكم . و « في سنن الترمذي : 7 / 111 » أن أبا بكر قال : إني أعول من كان يعول رسول الله ، وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه !
فالدولة إذاً هي تنفق على أهل بيت محمد بدليل قول أبى بكر : إن رسول الله قال لا نورث ما تركناه فهو صدقة ، أن يأكل آل محمد من هذا المال ، ليس لهم أن
--------------------------- 61 ---------------------------
يزيدوا على المأكل . فالحاكم يقدم لهم المأكل ولا يزيدون على المأكل ! فطوال التاريخ يجب على أهل البيت أن يرتبطوا بالحاكم الذي يقدم لهم المأكل ، ومن الحشمة وحسن الخلق أن يطيع الإنسان من يطعمه » ! راجع البخاري : 2 / 200 ،
أبا داود : 2 / 49 والنسائي : 2 / 179 .
المسألة الرابعة : مسجد الفضيخ وتحريم الخمر
قال في الصحيح : 8 / 186 ما حاصله : « قال اليعقوبي وغيره : في هذه الغزوة شرب المسلمون الخمر فسكروا فنزل تحريم الخمر . . قال في الروضة : إن غزوة بنى النضير سنة ثلاث : وإن تحريم الخمر بعد غزوة أحد . وروى القمي أنه لما نزل تحريم الخمر خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المسجد فقعد فيه ، ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينتبذون فيها فأكفأها كلها وقال : هذه كلها خمر وقد حرمها الله . وكان أكثر شى أكفئ يومئذ من الأشربة الفضيخ فلذلك سمى المسجد بمسجد الفضيخ .
وأكثر من ذلك كله جرأة على الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ما رووه عن ابن عمر : أن النبي أتى بجرة فضيخ فلذلك سمى مسجد الفضيخ ! والفضيخ : عصير العنب وشراب يتخذ من التمر . ومسجد الفضيخ هو المعروف بمسجد رد الشمس .
ونقول : إن تحريم الخمر كان في مكة ، فإن صح شئ من هذه الرواية فلابد أن يكون الصحابة خالفوا حكم الله فيها وارتكبوا الحرام فنهاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . . وقد يكون أتى به فرفضه ونهى عنه » .
- *
--------------------------- 62 ---------------------------
الفصل الرابع والأربعون
تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة
1 - مكة قبل بيت المقدس قبلة آدم ونوح وإبراهيم « عليهم السلام »
منذ أن أسكن الله آدم ( عليه السلام ) وبنيه في الأرض ، أمرهم أن يتجهوا في صلاتهم إلى مركز في الأرض يسمى القبلة ، فكانوا يصلون إلى الكعبة ، فهي كما قال الله تعالى : إِنَّ أَوَلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . ثم جعل الله بيت المقدس قبلة لإبراهيم ( عليه السلام ) ، وأمره في نفس الوقت أن يجدد بناء الكعبة .
وعندما بعث الله رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أمره أن يتجه إلى قبلة جده إبراهيم ( عليه السلام ) لحكمة ، ثم أمره بعد هجرته أن يتجه إلى القبلة الأولى لأجداده آدم والأنبياء « عليهم السلام » ، وأنزل عليه : وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ ينْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيهِ .
وقد جعل اليهود قبلة إبراهيم ( عليه السلام ) قبلة قومية وتعصبوا لها وفضلوها على الكعبة ، مع أن الكعبة أقدم منها ، وقد جدد إبراهيم ( عليه السلام ) بناءها .
في الكافي : 4 / 239 قال زرارة « رحمه الله » : « كنت قاعداً إلى جنب أبى جعفر ( عليه السلام ) وهو محتبٍ مستقبل الكعبة فقال : أما إن النظر إليها عبادة ، فجاءه رجل من بجيلة يقال له : عاصم بن عمر فقال لأبى جعفر : إن كعب الأحبار كان يقول : إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة ! فقال أبو جعفر : فما تقول فيما قال كعب ؟ فقال : صدق ، القول ما قال كعب !
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : كذبت وكذب كعب الأحبار معك ، وغضب ! قال زرارة : ما رأيته
--------------------------- 63 ---------------------------
استقبل أحداً بقول كذبت غيره ! ثم قال : ما خلق الله عز وجل بقعة في الأرض أحب إليه منها ، ثم أومأ بيده نحو الكعبة ، ولا أكرم على الله عز وجل منها ، لها حرَّم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض ، ثلاثة متوالية للحج : شوال وذو العقدة وذو الحجة ، وشهر مفرد للعمرة رجب » .
2 . الكعبة والأمة الوسط
قال الله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ ينْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّينَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يعْمَلُونَ . وَلَئِنْ أَتَيتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَمِنَ الظَّالِمِينَ . .
الَّذِينَ آتَينَاهُمُ الْكِتَابَ يعْرِفُونَهُ كَمَا يعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يعْلَمُونَ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيرَاتِ أَينَ مَا تَكُونُوا يأتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . وَمِنْ حَيثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون . وَمِنْ حَيثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيثُ مَاكُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلايكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاتَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلأُتِمَّ نِعْمَتى عَلَيكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون . البقرة : 143 - 150 .
قال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة : 6 / 368 : « في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سألته هل كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصلى إلى بيت المقدس ؟ قال نعم . فقلت أكان يجعل الكعبة خلف ظهره ؟ فقال أما إذا كان بمكة فلا ، وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم ، حتى حُوِّل إلى الكعبة .
وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي بإسناده إلى الصادق أن
--------------------------- 64 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلى بمكة إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة ، وبعد هجرته ( صلى الله عليه وآله ) صلى بالمدينة سبعة أشهر ، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة ، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويقولون له أنت تابعٌ لنا تصلى إلى قبلتنا ، فاغتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك غماً شديداً ، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمراً ، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بنى سالم قد صلى من الظهر ركعتين ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ . الآية . فصلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة . وقال الصدوق في الفقيه . . ثم أخذ بيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحول وجهه إلى الكعبة وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال ، فكان أول صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة . وبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبلة ، فكانت أول صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين . فقال المسلمون : صلاتنا إلى بيت المقدس تضيع يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأنزل الله عز وجل : وَمَا كَانَ اللهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ . يعنى صلاتكم إلى بيت المقدس » .
أقول : وروينا ، أن تحويل القبلة كان في النصف من رجب في السنة الثانية للهجرة كما في مسارّ الشيعة للمفيد / 57 ، إقبال الأعمال : 3 / 254 وغيرهما .
وفى تهذيب الأحكام : 2 / 43 : « إن بنى عبد الأشهل أتوْهم وهم في الصلاة وقد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس فقيل لهم : إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة ، فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين . فلذلك سمى مسجدهم مسجد القبلتين » .
وروى في تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 491 ، مناقشة اليهود للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في تغيير القبلة إلى الكعبة ، وفيه : « وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن ، أفحقاً كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل ، فإن ما يخالف الحق فهو باطل . أو باطلاً كان ذلك فقد كنت عليه طول هذه المدة ، فما يؤمننا أن تكون إلى الآن على باطل ؟
--------------------------- 65 ---------------------------
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « بل ذلك كان حقاً وهذا حق ، يقول الله : قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يهْدِى مَنْ يشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . إذا عرف صلاحكم يا أيها العباد في استقبال المشرق أمركم به ، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به ، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به ، فلا تنكروا تدبير الله تعالى في عباده وقصده إلى مصالحكم . ثم قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لقد تركتم العمل يوم السبت ، ثم عملتم بعده من سائر الأيام ، ثم تركتموه في السبت ثم عملتم بعده ، أفتركتم الحق إلى الباطل أو الباطل إلى حق ، أو الباطل إلى باطل أو الحق إلى حق ؟ قولوا كيف شئتم فهو قول محمد وجوابه لكم ! قالوا : بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق » .
3 . ترك بنو أمية الكعبة وحججوا الناس إلى بيت المقدس !
لما سيطر ابن الزبير على الحجاز ، استغل موسم الحج لنشر أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بنى مروان ولعنهم ، فخاف عبد الملك بن مروان من ذلك فمنع الحج ، وأمر الناس أن يحجوا بدل مكة إلى بيت المقدس !
قال اليعقوبي : 2 / 261 : « فضج الناس وقالوا : تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا ؟ ! فقال لهم : هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد بيت المقدس . وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام . وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة ! فبنى على الصخرة قبة ، وعلق عليها ستور الديباج ، وأقام لها سدنة ، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وأقام بذلك أيام بنى أمية » ! !
فانظر إلى جرأة حكومات الخلافة على تحريف الإسلام ، والى ضعف دين المسلمين ومطاوعتهم لها ! وفى مقابل ذلك قام الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بنشاط واسع لتركيز مكانة الكعبة الشريفة ، وإحباط عمل السلطة ، كما وثقناه في سيرته ( عليه السلام ) .
- *
--------------------------- 66 ---------------------------
الفصل الخامس والأربعون
زواج النبي « صلى الله عليه وآله » بعائشة وحفصة
زوجات الأنبياء « عليهم السلام » فيهم الصالحات والطالحات
اعتقادنا أن كل أعمال النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمر ربه ، فكما أنه لا ينطق عن الهوي ، لا يفعل عن الهوي ، وزواجه ( صلى الله عليه وآله ) كله بأمر ربه ، وحِكْمَته وأغراضه متعددة ، لجلب منفعة للرسالة أو دفع مفسدة عنها . لكنه لا يدل على اختيار إلهي لتلك الزوجة وأسرتها ، إلا إذا نص النبي ( صلى الله عليه وآله ) على ذلك . فلا قيمة لما تخيله البعض أو زعموه .
وقد بين الله عز وجل ذلك في المثل الذي ضربه لنساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بزوجتى نوح ولوط ، فقال : : ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يغْنِيا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ . وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِنْدَكَ بَيتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَمَرْيمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ . التحريم : 10 - 12 .
فلا يصح الإستدلال على مدح نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقوله تعالي : وَالطَّيبَاتُ للَّطَّيبِينَ وَالطَّيبُونَ للَّطَّيبَاتِ ، لأن الآية تقصد أهل الجنة ، لا أهل الدنيا .
وقد روت عائشة في مدح نفسها كثيراً ، وادعت أن جبرئيل جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بصورتها على منديل حرير ، وقال له : « هذه زوجتك في الدنيا والآخرة » . « تاريخ بغداد : 11 / 221 » . ورووا أن جبرئيل طبع صورتها على كف النبي ( صلى الله عليه وآله ) » ! وشهد الذهبي بأنه مكذوب ، ميزان الإعتدال : 3 / 44 .
--------------------------- 67 ---------------------------
وقال الشيخ أبو رية في كتابه أبو هريرة شيخ المضيرة / 135 : « أسرع أبو هريرة فتبرع بحديث من كيسه يقول فيه : إن طول تلك الخرقة ذراعان وعرضها شبر » !
ونحن لانثق بأحاديث عائشة ، وحفصة خاصة في مدح نفسيهما وأسرتيهما ، ونعتقد أنه تزوجهما لمصلحة ، وأنهما عملتا ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتظاهرتا عليه بنص القرآن ، فأنزل الله فيهما : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ . عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيبَاتٍ وَأَبْكَارًا .
وأنهما عصتا الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) وشقتا عصا المسلمين ، وخرجت عائشة على إمامها ( عليه السلام ) ، وسببت قتل ألوف المسلمين ، وانقسام الأمة !
عائلتا عائشة وحفصة
اسمها عائشة بنت أبي بكر واسمه عتيق بن أبي قحافة ، وقبيلته بنو تيم بن مرة . وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل ، وقبيلته بنو عَدِي ، وهما من القبائل الصغيرة ، ولعل عدد تيم عند بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) نحو ثلاث مئة نفر ، وعدد قبيلة عدى لا يبلغ مئة . ولم يكن لهما موقع بين قبائل مكة ، ولذلك قال أبو سفيان لعلى ( عليه السلام ) عندما تفاجأ ببيعة أبى بكر كما في تاريخ الطبري : 2 / 449 : « ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ! والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً » !
وذكر المؤرخ ابن حبيب في المنمق / 80 ، أن بنى عدى سرقوا ناقة لبنى عبد شمس فطردوهم من مكة ! « فارتحلوا ، وتعرض بنو سهم لهم وأنزلوهم بين أظهرهم ، وقالوا : والله لاتخرجون ! وأم سهم بن عمرو الأَلُوف بنت عدى بن كعب ، فأقاموا وهم حلف بنى سهم » .
وقال ابن حبيب / 129 ، إنهم لقلتهم لم يكن لهم رئيس : « ولم يكن من قريش قبيلة إلا وفيها سيد يقوم بأمرها ويطلب بثأرها ، إلا عدى بن كعب » .
وكان مسكنهم خارج مكة في الحثمات ، وقد رأيت الحثمات قريباً من غار ثور ،
--------------------------- 68 ---------------------------
وهى صخرات سوداء كبار ليس بينها فسحة لنصب خيمة كبيرة .
قال البكري في معجمه : 2 / 425 : « الحثمة بفتح أوله وإسكان ثانيه : صخرات بأسفل مكة بها رَبْعُ عمر بن الخطاب » . ومعجم البلدان : 2 / 218 ولسان العرب : 12 / 115 .
وعليه ، فقد ولدت عائشة وحفصة ونشأتا في بيت عادى فقير ، ولاصحة لزعم عائشة بأن أباها كان ثرياً ، وأنه كان ينفق على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
مبالغة عائشة في فضائل أبيها وثروته
أكثروا من روايات عائشة عن هجرة أبيها وثروته الطائلة ، وعن هجرتها وفضائلها هي . مع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صادف أبا بكر في طريق هجرته فأخذه معه ، وأمر علياً ( عليه السلام ) في الغار أن يشترى منه بعيراً لدليله ابن أريقط ، فاشتراه من أبى بكر ونقَّده الثمن أربع مئة درهم أو ثمان مئة كما روى ابن حجر ، ثم مات البعير في الطريق فاستأجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعيراً لدليله لبقية الطريق !
وعندما وصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى قباء أصرَّ عليه أبو بكر أن يدخل إلى المدينة فأبي ، فتركه من عصر ذلك اليوم وذهب إلى السنح فلا تسمع له خبراً في الهجرة !
أما عن ثروة أبى بكر : فكان في الجاهلية معلم صبيان وصار خياطاً . ولما ولى أمر المسلمين ، قال لهم : » إني أحتاج إلى القوت فجعلوا له في كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال . والنبي ( صلى الله عليه وآله ) كان قبل الهجرة غنياً بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش ، وبعد الهجرة لم يكن لأبى بكر شئ البتة . منهاج الكرامة / 187 .
وعندما استُخلف أبو بكر قال : « إن حرفتى لم تكن لتعجز عن مؤونة أهلي ، وقد شغلت بأمر المسلمين وسأحترف للمسلمين في مالهم ، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال » . « الطبقات : 3 / 184 » . فجعلوا له كل يوم درهمين ونصف شاة . « مغنى ابن قدامه : 11 / 377 » . ثم جعلوا له ألفي درهم في السنة : « فقال زيدونى فإن لي عيالاً ، وقد شغلتمونى عن التجارة ، فزادوه خمس مائة » . الطبقات : 3 / 184 .
وفى الطبقات : 3 / 186 : « فأقام هناك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر ، يغدو على
--------------------------- 69 ---------------------------
رجليه إلى المدينة ، وربما ركب على فرس له ، وعليه إزار ورداء ممشق ، فيوافى المدينة فيصلى الصلوات بالناس ، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح . فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى عمر بن الخطاب . وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر الجمعة فيجَمِّع بالناس . وكان رجلاً تاجراً ، فكان يغدو كل يوم السوق فيبيع ويبتاع ، وكانت له قطعة غنم تروح عليه ، وربما خرج هو نفسه فيها » .
قال في منهاج الكرامة / 187 : » أما إنفاقه على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فكذب ، لأنه لم يكن ذا مال ، فإن أباه كان فقيراً في الغاية وكان ينادى على مائدة عبد الله بن جدعان بمد في كل يوم يقتات به ! فلو كان أبو بكر غنياً لكفى أباه » .
أقول : تبارت أسماء بنت أبي بكر مع أختها عائشة في الحديث عن ثروة أبيهما التي حرمهم إياها وأنفقها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقالت أسماء « مسند أحمد : 6 / 350 » : « لما خرج رسول الله وخرج معه أبو بكر ، احتمل أبو بكر ماله كله معه ، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم ، قالت : وانطلق بها معه ، قالت : فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره ، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه ! قالت قلت : كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً ، قالت فأخذت أحجاراً فتركتها فوضعتها في كوة لبيت كان أبى يضع فيها ماله ، ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال ! قالت : فوضع يده عليه فقال : لا بأس ، إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفى هذا لكم بلاغ . قالت : ولا والله ما ترك لنا شيئاً ، ولكني قد أردت أن أسكِّن الشيخ بذلك » ! ورواه الحاكم : 3 / 5 والزوائد : 6 / 59 وصححاه ، واعتمده أئمتهم كالشاطبي ، فقال في الإعتصام : 2 / 201 : « فإنه هاجر بجميع ماله وكان خمسة آلاف » .
ثم إن أسماء بنت أبي بكر كانت عند الهجرة في المدينة ، فقد هاجرت مع زوجها الزبير وكانت حاملاً بعبد الله ، وولدته في قباء عندما وصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
ومن جهة أخري : رووا في % صحيح مسلم : 6 / 117 : « بينا أبو بكر قاعد وعمر
--------------------------- 70 ---------------------------
معه إذ أتاهما رسول الله ( صلى % الله عليه وآله ) فقال : ما أقعدكما هاهنا ؟ قالا : أخرجنا الجوع من بيوتنا »
وفى % الترغيب والترهيب : 3 / 148 : « فانطلقوا حتى % أتوا باب أبى % أيوب الأنصاري % فأطعمهم » ! وقال الرازي % في % تفسيره : 4 / 169 : « وأما الجوع فقد أصابهم في % أول مهاجرة النبي % إلى % المدينة لقلة أموالهم » .
فأين صارت ثروة أبى % بكر جد الفخر الرازي ، وهل ضاعت في % طريق الهجرة ؟ ! فالصحيح أن الجائعين كانا الشيخين وكان النبي % ( صلى % الله عليه وآله ) مدة سنة في % بيت أبى % أيوب « رحمه الله » .
أما عائشة فرفعت سقف ثروة أبيها وجعلتها خيالية فتحير فيها علماء السلطة ! قالت كما في % سنن النسائي : 5 / 358 « : « فخرتُ بمال أبى % في % الجاهلية ، وكان ألف ألف أوقية ! فقال النبي % ( صلى % الله عليه وآله ) « عليهم السلام » أسكتى % يا عائشة فإني % كنت لك كأبى % زرع لأم زرع ! ثم أنشأ رسول الله ( صلى % الله عليه وآله ) يحدث أن إحدى % عشرة امرأة اجتمعن في % الجاهلية ، فتعاهدن لتخبرن كل امرأة بما في % زوجها ولا تكذب ، فتحدثت كل منهن بمدح أو ذم ، وكانت آخرهم أم زرع فمدحته ، وذكرت أنه تزوج عليها ثم طلقها فتزوجت شاباً وأعطاها كثيراً ، لكنها بقيت تمدح أبا زرع وتفضله عليه ، فقالت عائشة في % آخر الحديث : « قلت : يا رسول الله بل أنت خير من أبى زرع » . وروته مصادرهم ووثقه علماؤهم أو صححوه ، كتهذيب الكمال : 23 / 392 ، ميزان الإعتدال : 3 / 375 ، مجمع الزوائد : 4 / 317 ، فتح الباري :
9 / 222 ، تاريخ بخارى الكبير : 1 / 224 ، تهذيب الكمال : 21 / 416 ، تهذيب التهذيب : 8 / 325 ، سنة ابن أبي عاصم / 225 ، إعانة الطالبين : 4 / 199 والطبراني الكبير : 23 / 174 .
وتبلغ الأوقية في ذلك الوقت أربعين درهماً ، وفى زمن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ألف درهم ، « الأوزان والمقادير / 16 » فتكون ثروة أبى بكر حسب قول عائشة ألف مليون درهم ، وهو أمرٌ غير معقول ! ولهذا اضطر الذهبي إلى معالجة هذه الكذبة فحذف منها صفراً ! قال في سيره : 2 / 185 : « وأعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة فإنه يكون أربعين ألف درهم ، وفى ذلك مفخر لرجل تاجر ، وقد أنفق ماله في ذات الله ، ولما هاجر كان قد بقي معه ستة آلاف درهم ، فأخذها صحبته . أما ألف ألف أوقية فلا تجتمع إلا لسلطان كبير » .
والصحيح أن الألف الثانية أيضاً زائدة ، ولا يمكن فصلها عن أختها لأن علماءهم
--------------------------- 71 ---------------------------
تلقوا الخبر وصححوه برواية : ألف ألف أوقية !
كما تبرع الذهبي بأن أبا بكر أنفق المليون درهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة ، لأن ذلك لم يروه أحد حتى في صاع حنطة في سنوات حصارهم في الشعب ! ولا بدراهم يسيرة أعطاها لمسلم ، إلا ما زعموه من شرائه لبلال ، ولم يثبت ، أما ما زعموه من إنفاقه على ابن خالته مسطح ، فقد كان يعمل معه .
قال الأميني « رحمه الله » في الغدير : 8 / 50 : ونضدت له « عائشة » ثلاث مائة وستين كرسياً في داره ، وأسدلت على كل كرسي حلة بألف دينار ، كما سمعته عن الشيخ محمد زين العابدين البكري ، وأنت تعلم ما يستتبع هذا التجمل من لوازم وآثار وأثاث ورياش ، ومناضد وأوانى وفرش ، لا تقصر عنها في القيمة ! وما يلزم من خدم وحشم ، وقصور شاهقة وغرف مشيدة ، وما يلازم هذه البسطة في المال من خيل وركاب وأغنام ومواش وضيع وعقار ، إلى غيرها من توابع !
من أي حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل الرجل على مليون أوقية من النقود ؟ وكان يومئذ يوم فاقة لقريش ، وكانوا كما وصفتهم الصديقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة أبا بكر والقوم معه : كنتم تشربون الطَّرَق ، وتقتالون الوَرق ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله ( صلى الله عليه وآله ) » !
وقال المفيد « رحمه الله » في الإفصاح / 229 ، ما خلاصته : « لو كان للرجلين فضل حسب ما ادعيتموه لوجب أن تأتى به الأخبار وترويه نقلة السير والآثار ، بل وجب أن يظهر على حد يوجب علم اليقين ، لأن جميع الدواعي إلى انتشار فضائل الرجلين متوفرة ! ألا ترى أنهما كانا أميري الناس ، وكان المُظهر لولايتهما من زمانهما إلى هذه الحال هو الظاهر على عدوه ، والمظهر لعداوتهما مهدور الدم أو خائفاً مطروداً عن البلاد ! حتى صار القتل مسنوناً لمن أظهر ولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإن كان مظهراً لمحبة أبى بكر وعمر ! ومن تبرأ من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حكموا له باعتقاد السنة وولاية أبى بكر وعمر وعثمان ، ونال القضاء والشهادات والإمارات ، وقربت منازلهم من خلفاء بنى أمية وبنى العباس بالعصبيه لهؤلاء والدعاء إلى
--------------------------- 72 ---------------------------
إمامتهم ، والتخرص بما يضيفونه إليهم من الفضل الذي يخالف القرآن وتنفيه السنة ، ويستحيل في العقول » !
وأما عمر فكان أفقر من أبى بكر : فقد حدث عن نفسه أنه كان يرعى بعيراً لأبيه ولا يعطيه قوته ! قال عمر ، تاريخ المدينة لابن شبة 2 / 655 : « لقد رأيتني وإني لأرعى على الخطاب في هذا المكان ، وكان والله ما علمت فظاً غليظاً . . وأنا في إبل للخطاب ، أحتطب عليها مرة وأختبط عليها أخري ! آتى بالخَبْط وهو ورق الشجر . »
وفى كنز العمال : 4 / 589 : « أخذ عمر يحدث عن نفسه فقال : لقد رأيتني وأختاً لي نرعى على أبوينا ناضحنا قد ألبستنا أمنا نقبتها ، وزودتنا من الهينة فنخرج بناضحنا فإذ طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي وخرجت أسعى عرياناً فنرجع إلى أمنا وقد جعلت لنا لعبة من ذلك الهينة فياخصباه » !
أي صنعت لهم طعاماً عصيدة من حب الحنظل على شكل هِينَة ، وهى الزَّنَمَة المدلاة تحت فم الماعز كالأصابع . الفائق : 3 / 405 وشرح النهج : 12 / 20 .
وعندما كبر عمر صار مبرطشاً . ففي النهاية لابن الأثير : 1 / 119 : « وهوالدلال أو الساعي بين البائع والمشتري ، وورد في الحديث كان عمر رضى الله تعالى عنه في الجاهلية مبرطشاً ، أي كان يكترى للناس الإبل والحمير ويأخذ عليه جعلاً ، أو هو بالسين المهملة كما ذهب إليه ابن دريد » . وتاج العروس : 9 / 58 ولسان العرب : 6 / 26 .
كم كان عمر عائشة لما تزوجها النبي « صلى الله عليه وآله »
روت في زواجها لا تصح ، فقد قالت إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عقد زواجه عليها وعمرها ست سنين ، وتزوجها وعمرها تسع سنين ، لكنهم قالوا إنها أصغر من أختها أسماء بعشر سنين : « عن ابن أبي الزناد أن أسماء بنت أبي بكر كانت أكبر من عائشة بعشر سنين » . البيهقي : 6 / 204 ، سير أعلام النبلاء : 3 / 380 ، تاريخ دمشق : 69 / 10 وسبل السلام : 1 / 39 .
وفى تهذيب الأسماء : 2 / 597 : « ولدت أسماء قبل هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بسبع وعشرين سنة ، وكان لأبيها أبى بكر حين ولدت إحدى وعشرون سنة » .
--------------------------- 73 ---------------------------
ومعناه أن عمر عائشة كان سبع عشرة سنة ، فأين الست سنين والتسع ؟ !
ومن ناحية ثانية ، كان عمر أبيها لما ولدت أسماء إحدى وعشرون سنة ، فعمره لما ولدت عائشة إحدى وثلاثون ، وعمره لما هاجر ست وخمسون لأنهم قالوا إنه أكبر من النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثلاث سنين ، فيكون عمر عائشة عند الهجرة خمساً وعشرين .
فأين الست سنين والتسع ؟ !
ومما يؤيد أن سن عائشة أكبر مما قالت سن أمها أم رومان فقد كانت في الجاهلية زوجة ابن سخبرة وولدت له الطفيل ، وجاؤوا من الأردن مع ابنهما وغلامهما ابن فهيرة وسكنوا في مكة ، ومات زوجها ابن سخبرة ، فتزوجها أبو بكر وولدت له ولدين : عبد الرحمن وعائشة ولم تلد له بعدهما ويبدو أنها بلغت سن اليأس ، وكان عبد الرحمن في بدر مع المشركين فطلب أن يبارزه أبوه فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما رووا : متعنا بنفسك يا أبا بكر . فلا بد أن يكون عبد الرحمن في العشرينات أوالثلاثينات ، وعائشة بعده مباشرة ، فأين الست سنوات والتسع ؟ !
النهاية : 8 / 95 ، الحاكم : 3 / 474 ، الحلبية : 2 / 414 ، البيهقي : 8 / 186 و 6 / 204 ، الإستيعاب 2 / 824 و 616 وسبل السلام : 1 / 39 . راجع في ابن سخبرة : الطبقات : 8 / 276 ، التعديل والتجريح : 3 / 1155 ، تهذيب الكمال : 13 / 389 ، تهذيب التهذيب : 8 / 149 والإصابة : 3 / 421 ، 4 / 117 و 8 / 391 .
ادعت عائشة أنها لم تتزوج قبل النبي « صلى الله عليه وآله »
لكن روى ابن سعد : 8 / 59 بسند صحيح عندهم : « خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عائشة بنت أبي بكر الصديق فقال : إني كنت أعطيتها مطعماً لابنه جبير ، فدعني حتى أسلها منهم ، فاستسلها منهم فطلقها ، فتزوجها رسول الله » .
وفى الطبراني الكبير : 23 / 26 : « وكان أبو بكر قد زوجها جبير بن مطعم فخلعها منه » .
وفى صفة الصفوة : 2 / 15 والمنتظم : 5 / 302 : « دعني حتى أسلها من جبير سلاً رفيقاً » .
يضاف اليه أنها كانت تكنى أم عبد الله ، فقد يكون لها ولد من مطعم بن جبير اسمه عبد الله ومات . روى البيهقي : 9 / 311 : « أنها قالت : يا رسول الله ألا تكنينى
--------------------------- 74 ---------------------------
فكل نسائك لها كنية ؟ فقال : بلى إكتنى بابنك عبد الله ، فكانت تكنى أم عبد الله . وفسروا ذلك بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قصد ابن أختها عبد الله بن الزبير ، لكن لم يعهد أن امرأة من العرب تكنت بابن أختها ! وروى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لها تَكَنَّي ، والصحيح أنها هي التي طلبت منه كنية ، وغرضها أن يسمى لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولداً حتى ترزقه ! أحمد : 6 / 186 ، الحاكم : 4 / 278 ، الطبراني الكبير : 23 / 18 ، الطبقات : 8 / 66 ، مفرد البخاري / 183 وغيرها .
عائشة أكثر نساء النبي « صلى الله عليه وآله » كلاماً
وأكثرهن إثارة للجدل ! فقد أثارت بأقوالها وأفعالها إشكالات وأسئلة عجز عن جوابها محبوها ، ومن أولها خروجها على الخليفة الشرعي وشقها عصا المسلمين ، وإشعالها حرب الجمل التي قتل فيها ألوف بدون سبب ، وقد هزمت فيها شر هزيمة ورجعت مملوءة غيظاً ! وكانت تقول : « إن يوم الجمل لمعترض في حلقي ، ليتني متُّ قبله أو كنت نسياً منسياً » ! مسند ابن راهويه : 2 / 34 .
ثم يعجزون عن تبرير إرسالها بضعة رجال إلى أختها وزوجة أخيها ، لترضع الواحد منهم ، فيصيرمحرماً عليها كما تزعم ، ويدخل عليها مع أنه أجنبي !
وكانت تحتجب عن الحسن والحسين « عليهما السلام » مع أنهما من محارمها ! ولم تزر فاطمة « عليها السلام » في مرضها ، وقد زارها أبو بكر وعمر !
ثم يعجزون عن تفسيرمدحها المفرط لنفسها ، وحديثها عن ملبسها ومأكلها ونومها ويقظتها وجمالها وفضلها على نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وادعت أنها كانت أحبهن اليه ( صلى الله عليه وآله ) ، كما تحدثت بابتذال عن أمورها الشخصية مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ثم مدحت أمها بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعا المسلمين إلى أن يتفرجوا عليها ، فقال : « من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين ، فلينظر إلى أم رومان ! الطبقات : 8 / 277 .
وقال الحشوية إنها تقصد أن يتأملها بعين البصيرة لا البصر . فيض القدير : 6 / 197 .
وقد رأت عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تولى دفن فاطمة بنت أسد ونزل في قبرها وقال إنها أمي ! فقالت إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نزل في قبر أمها أم رومان ! الإصابة : 8 / 392 .
--------------------------- 75 ---------------------------
حَكَمَتْ عائشة في دولة أبيها !
وصادرت قبرالنبى ( صلى الله عليه وآله ) وقالت إنه أعطاها المكان الذي دفن فيه ، فهو غرفتها . وأخذت امتيازات مالية ومعنوية كثيرة ، واستمرت على هذه الحالة في حكم عمر فكان يعطيها سنوياً مبلغاً كبيراً ، ويهديها هدايا كثيرة ، فصارت من أثرياء الصحابة واشترت بيتاً كبيراً في المدينة ، ثم باعته إلى معاوية بمئة وثمانين ألف درهم وقيل بمئتى ألف ، الطبقات : 8 / 165 . راجع جواهر التاريخ : 3 .
قطع عثمان مخصصاتهما فثارتا عليه
ولما قطع عثمان مخصصاتهما جاءتاه معترضتين فقال : « لا أجد لك موضعاً في الكتاب ولا في السنة ، وإنما كان أبوك وعمر بن الخطاب يعطيانك بطيبة من أنفسهما ، وأنا لا أفعل ! قالت له : فأعطني ميراثي من رسول الله » . أمالي المفيد / 125 .
« وكان متكئاً فجلس وقال : ستعلم فاطمة أي ابن عم لها أنا اليوم ! ثم قال لهما : ألستما اللتين شهدتما عند أبويكما ولفقتما معكما أعرابياً يتطهر ببوله ، مالك بن أوس بن الحدثان ، فشهدتما معه أن النبي قال : لا نورث » . المسترشد / 508 .
وفى كتاب سُليم بن قيس / 242 : « لا والله ولا كرامة لكما ولا نَعِمْتُ عنه ! ولكن أجيز شهادتكما على أنفسكما ، فإنكما شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله يقول : النبي لا يورث ، ما ترك فهو صدقة ! ثم لقنتما أعرابياً جلفاً يبول على عقبيه ويتطهر ببوله » مالك بن أوس بن الحدثان « فشهد معكما ! ولم يكن في أصحاب رسول الله من المهاجرين ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غيركما وغير أعرابي . « أما والله ما أشك أنه قد كذب على رسول الله وكذبتما عليه معه ، ولكني أجيز شهادتكما على أنفسكما فاذهبا فلا حق لكما ! فانصرفتا من عنده تلعنانه وتشتمانه » !
وفى رواية الجوهري في السقيفة : 82 ، وشرح النهج : 9 / 5 ، أنهما تكلمتا في المسجد تحركان الناس على عثمان فقال : « إن هاتين لفتانتان يحل لي سبهما ، وأنا بأصلهما
--------------------------- 76 ---------------------------
عالم ! فقال له سعد بن أبي وقاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله ؟ فقال : وفيم أنت وما هاهنا ، ثم أقبل نحو سعد عامداً ليضربه ، فانسل سعد من المسجد » .
وأصرت عائشة وحفصة على ادعاء إرثهما من النبي ( صلى الله عليه وآله ) لتبرير دفن أبويهما في ملكه ( صلى الله عليه وآله ) ! فكان الشيعة يحتجون عليهما . ومن أمثلة احتجاجهم ما رواه في الفصول المختارة / 74 ، أن الفضال بن الحسن بن فضال مرَّ على أبي حنيفة : « وهو في جمع كثير يملى عليهم شيئاً من فقهه وحديثه ، فقال لصاحب كان معه : والله لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة ! فقال صاحبه : إن أبا حنيفة ممن قد علمت حاله ومنزلته وظهرت حجته ، فقال : مه هل رأيت حجة كافر علت على مؤمن ؟ ثم دنا منه فسلم عليه فرد ورد القوم بأجمعهم السلام . فقال : يا أبا حنيفة رحمك الله إن لي أخاً يقول : إن خير الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب وأنا أقول : إن أبا بكر خير الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبعده عمر ، فما تقول أنت رحمك الله ؟ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال : كفى بمكانهما من رسول الله كرماً وفخراً ، أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره ، فأي حجة أوضح لك من هذه ؟ فقال له فضال : إني قد قلت ذلك لأخي فقال : والله لئن كان الموضع لرسول الله دونهما ، فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق ، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لقد أساءا وما أحسنا إليه ، إذ رجعا في هبتهما ونكثا عهدهما ! فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال قل له : لم يكن لهما ولا له خاصة ، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما . فقال له فضال : قد قلت له ذلك فقال : أنت تعلم أن النبي مات عن تسع حشايا ، فنظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع ، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر ، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك ، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفاطمة ابنته تمنع الميراث ؟ فقال أبو حنيفة : يا قوم نحوه عنى فإنه والله رافضي خبيث » !
--------------------------- 77 ---------------------------
زعمت أن النبي « صلى الله عليه وآله » جعل الخلافة لأبيها وأولاده !
فقد وضعت حديثاً مقابل حديث : إيتونى بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً . . فقالت : « قال لي رسول الله في مرضه : أدعى لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولي » . مسلم : 7 / 110 وأحمد : 6 / 144 .
ورواه بخاري : 7 / 8 و 8 / 126 بلفظ : « أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه وأعهد ، أن يقول القائلون ، أو يتمنى المتمنون » .
وقال ابن حجر : 1 / 186 و 13 / 177 : « أفرط المهلب فقال فيه دليل قاطع في خلافة أبى بكر ، والعجب أنه قرر بعد ذلك أنه ثبت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يستخلف » !
أما عبد الرحمن بن أبي بكر فصرح أكثر من أخته فقال : « قال رسول الله : إئتونى بكتاب وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً » . مجمع الزوائد : 5 / 181 .
أي ليكتب الخلافة لأبى بكر وبنيه ! ولم يذكروا سبباً مقنعاً لعدم كتابة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الخلافة لهم ! ولم يذكروا هل قال أحدٌ إن نبيكم يهجر ، لا تقربوا له شيئاً ، حسبنا كتاب الله ! ولم يذكروا أن الصحابة لغطوا واختلفوا ، فطردهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : قوموا عني !
إن حديث عائشة في مسلم والبخاري يفسرلنا المقصود النبوي بالحديث المتواتر : إيتونى بدواة وقرطاس . ولا يدع مجالاً للشك بأن هذه الأحاديث وضعوها مقابله !
وقد عملت عائشة ليكون أخوها عبد الرحمن خليفة ، فقتله معاوية ، ثم عملت ليكون ابن عمها طلحة خليفة ، فقتله مروان في معركة الجمل .
ثم كانت تمدح موسى بن طلحة ، الذي ادعى أنه المهدى الموعود ، وأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، ولكنه لم يصل إلى شئ ، ولم يملأ شيئاً !
واشتهرت عائشة بجرأتها على النبي « صلى الله عليه وآله »
من ذلك قولها له ( صلى الله عليه وآله ) : « ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك » ! البخاري : 6 / 24 .
وقالت له مرة في كلام غضبت عنده : أنت الذي تزعم أنك نبي الله ! وقالت
--------------------------- 78 ---------------------------
له مرة : ما تشبع من أم سلمة ! وكانت تتفقده وتعقبته ليلة لما ذهب إلى زيارة البقيع . وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يصلى وهى نائمة معترضة بين يديه ، أو مادة رجلها .
وزعمت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سُحر فكان يتخيل أنه قاربها ولم يقاربها !
وقالت : مرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بيتي فمرضته وقبض ولم يشهده غيرى والملائكة !
وقالت : سلَّمَ جبرئيل على وبلغنى سلام الله !
وقالت : إنها رأت جبرئيل ( عليه السلام ) ، ولم تره امرأة غيرها .
وقالت : نزل الوحي على رسول الله وهى معه في لحاف واحد .
وقالت : صُوِّرت لرسول الله قبل أن أصور في رحم أمي !
وقالت : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يقاربها وهى حائض !
وقالت إن آية رضاع الكبير كانت تحت سريرها فأكلتها السخلة .
وكانت تكره علياً والعباس فقالت : قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : من أراد أن ينظر إلى رجلين من أهل النار فلينظر اليهما ! راجع المراجعات / 325 .
وكانت معجبة بطلحة التيمي وابنه موسي
كان طلحة يأتيها فيجلس معها فنهاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأجابه طلحة بخشونة وجاهلية ! ثم قال : لئن مات محمد لأتزوجن عائشة ! « فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) « عليهم السلام » لاتقومن هذا المقام بعد يومك هذا ! فقال : يا رسول الله إنها ابنة عمى والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي ! قال النبي : قد عرفت ذلك . إنه ليس أحد أغْيرُ من الله وإنه ليس أحد أغْير مني ! فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمى لأتزوجنها من بعده ! فأنزل الله هذه الآية : وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا » . سنن البيهقي : 7 / 69 ، الدر المنثور : 5 / 214 .
ثم عملت ليكون طلحة الخليفة بعد عثمان ، فتفاجأت ببيعة المسلمين لعلى ( عليه السلام ) ! فقالت : وددتُ أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا ! وكانت في الطريق إلى المدينة فرجعت إلى مكة وضربت خيمتها في حجر إسماعيل ، وأخذت تُخذِّلُ الناس
--------------------------- 79 ---------------------------
عن بيعة على ( عليه السلام ) ، وأعلنت أن عثمان قتل مظلوماً وأنها ستطلب بدمه ! والتحق بها طلحة والزبير في مكة ، وأرسلوها لأم سلمة لتخرج معهم على على ( عليه السلام ) ! فنهتها أم سلمة وحذرتها وأقامت عليها الحجة فوعدتها أن لاتذهب ، ثم ذهبت راكبةً على الجمل الأدبب كما أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى وصلت إلى الحوأب فنبحتها كلابها كما أخبر ( صلى الله عليه وآله ) فقالت ردوني فشهدوا لها بأن المكان ليس الحوأب !
وروى الجميع تحذيرات النبي ( صلى الله عليه وآله ) للمسلمين من فتنتها ، فقد روى البخاري أنه ( صلى الله عليه وآله ) أشار إلى بيتها وقال : هاهنا الفتنة ! وقال لها عندما شكت من وجع رأسها : ماضرك لو متِّ قبلي ! وحذرها أن تكون التي تخرج فتنبحها كلاب الحوأب . وكان سعيد بن العاص معها فلما نبحتها كلاب الحوأب رجع .
أدارت عائشة معركة الجمل سبعة أيام
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن جند المرأة ، والقاسطين ، وأهل النهروان ، ملعونون على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وأرسل ابن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة للمفاوضة ، فقالت ليس بيني وبينه إلا السيف ، مغترة بكثرة جيشها وقلة جيش على ( عليه السلام ) . وخرجت راكبة الجمل الأدبب تعبئ أصحابها ! وانسحب الزبير وقتل طلحة قبل بدء المعركة ، وبقيت وحدها ، وأدارت المعركة سبعة أيام ! وفى اليوم السابع نشر على ( عليه السلام ) راية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهزمهم وسقط الجمل ، فأرسل أخاها محمداً فحملها من ساحة المعركة ، وأعلن العفو العام ومنع أن يعتدى على أحد ، وزارها في منزلها ، ثم أعادها إلى المدينة يحرسها نساء ملثمات وهى تحسبهن رجالاً !
وقالوا إنها ندمت وتابت ، ومدحت علياً ( عليه السلام ) لكن لما جاءها خبر قتله سجدت شكراً لله ! فاستنكرت عليها زينب بنت أم سلمة فقالت : إذا نسيت فذكروني !
قتل معاوية أخويها وسَكَّتَها
لما جاءها خبر قتل معاوية لأخيها محمد بن أبي بكر في مصر وإحراق جثته ، بكت عليه ولعنت معاوية وعمرو بن العاص ! وزاد من غيظها أن ضرتها أم
--------------------------- 80 ---------------------------
حبيبة أخت معاوية أرسلت لها كبشاً مشوياً وقالت : هكذا فعلنا بأخيك محمد ! فلم تأكل عائشة شواء كل عمرها !
لكن معاوية استرضاها بالمال فسكتت عن قتله لأخيها ، ثم ساءت علاقتها به لما أراد أن يأخذ البيعة ليزيد ، ودعا مروان في مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيعة يزيد فوقف عبد الرحمن بن أبي بكر في وجهه وتشاتما ، فأمر مروان الشرطة بأخذه فهرب إلى غرفة عائشة ، فخرجت إلى المسجد وشتمت مروان ، وهرَّبت أخاها من المدينة ، فقتلوه بالسم قرب مكة .
ثم أرضاها معاوية بالمال فسكتت عن قتله لأخيها الثاني ، وفى مسند أحمد : 4 / 92 : « عن سعيد بن المسيب أن معاوية دخل على عائشة فقالت له : أما خفت أن أُقعد لك رجلاً فيقتلك ؟ فقال : كيف أنا في الذي بيني وبينك ، حوائجك ؟ قالت : صالح . قال : فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا عز وجل » .
وتوفيت في عهد معاوية سنة 57 ، وقيل قتلها بالسم ، وقيل وقعت في بئر حفره لها في طريقها ، وكانت تصيح وهى تحتضر : إني أحدثت بعد رسول الله فلا تدفنونى عنده ! يا ليتني لم أخلق ، لوددت أنى كنت مدرة ، ولم أكن شيئاً مذكوراً ! ودفنت في البقيع ، وصلى عليها أبو هريرة .
نقاط عن حفصة زوجة النبي « صلى الله عليه وآله »
كان أبو بكر وعمر يعملان للتقرب السياسي من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أكثر من جميع أصحابه ، ولكن الله عز وجل أمره أن لايصطدم بأصحابه ، وأن يترك الأمور تجرى بشكل طبيعي ، لتجرى مقادير الله وقوانينه في هداية الأمم وضلالها .
وقد رأى عمر أن زواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من عائشة امتيازٌ مهم لأبى بكر ، ولم تكن عنده بنت ليعرضها على النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا حفصة وهى أرملة كبيرة السن غير جميلة ! لذلك لم يعرضها عليه وعرضها على عثمان وأبى بكر فرفضا !
ففي مسند أحمد : 2 / 27 : « عن ابن عمر قال : لما تأيمَتْ حفصة وكانت تحت خنيس
--------------------------- 81 ---------------------------
بن حذافة ، ولقى عمر عثمان فعرضها عليه فقال عثمان : مالي في النساء حاجة وسأنظر ! فلقى أبا بكر فعرضها عليه فسكت ! فوجد عمر في نفسه على أبى بكر ، فإذا رسول الله قد خطبها ، فلقى عمر أبا بكر فقال : إني كنت عرضتها على عثمان فردنى وإني عرضتها عليك فسكتَّ عني ، فلأنا عليك كنت أشد غضباً منى على عثمان وقد ردني ! فقال أبو بكر إنه قد كان ذكر من أمرها وكان سراً ، فكرهت أن أفشى السر » . وفى الإصابة : 8 / 85 ، أن عمر عرضها على أبى بكر أولاً !
وفى الطبقات : 8 / 83 و 189 ، أن عمر شكى أبا بكر وعثمان للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فخطبها منه ففرح فرحاً شديداً ! ولهذا لما طلقها النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال عمر : « يا ويح حفصة » .
وفى البخاري : 3 / 103 وأحمد : 1 / 33 : « قد خابت حفصة وخسرت ، قد كنت أظن هذا كائناً » !
وعندماتزوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفصة اكتفى بوليمة عادية كبقية زوجاته : « تزوج حفصة أو بعض أزواجه فأولم عليها بتمر وسويق » . مكارم الأخلاق / 212 والمنتقي / 181 .
أما عرس عائشة فكان بدون وليمة ، ففي مسند أحمد : 6 / 438 : « عن أسماء بنت يزيد قالت : كنت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعي نسوة قالت : فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحاً من لبن » ! أما عرس الزهراء « عليها السلام » فأقام لها أوسع مراسم أقامها نبي في تزويج ابنته ، كما بينا في محله !
وكان زواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفصة : « في شعبان على رأس ثلاثين شهراً قبل أحد » « الطبقات : 8 / 83 » . أي قبل ولادة الحسن بشهر وأيام ، لأنه ولد منتصف شهر رمضان سنة ثلاث . وأما مهرها فكان أربع مئة درهم . « ابن هشام : 4 / 1059 » .
وفى الطبقات : 8 / 86 : « توفيت حفصة في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان وهى يومئذ ابنة ستين سنة » . وقد صغروا من عمرها لأنهم نصوا على أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين وأكثر . الحاكم : 4 / 15 .
كانت حفصة أكبر أولاد أبيها ، وقد اشتق كنيته من اسمها فتكنى بأبى حفص ، وكانت معتمدته في أموره ، فكان يضع نسخة القرآن التي يريد أن ينشرها عندها ،
--------------------------- 82 ---------------------------
قال البخاري : 5 / 211 ، 6 / 98 و 8 / 119 : « وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه الله ، ثم عند حفصة بنت عمر » .
وعندما وحَّد عثمان نسخة القرآن حاول أن يأخذها منها فلم تعطها ، لأن فيها اجتهادات عمر الكثيرة المخالفة للقرآن المعروف ! فلما ماتت أخذها مروان وأحرقها ! قال ابن شبة في تاريخ المدينة : 3 / 1003 : « عن ابن شهاب قال : حدثني أنس قال : لما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن المصاحف ليمزقها ، وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضاً فمنعتها إياه ! قال الزهري : فحدثني سالم قال : لما توفيت حفصة أرسل مروان إلى ابن عمر بعزيمة ليرسلن بها ، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابن عمر فشققها ومزقها ، مخافة أن يكون في شئ من ذلك خلاف لما نسخ عثمان » !
وكانت حفصة قوية الشخصية جداً ، وجعلها عمر وصيته : « وقال أحمد بن حنبل : إن عمر أوصى إلى حفصة » . « الأم للشافعي : 7 / 236 » . وخصها بالولاية على ما أوقفه على ذريته ، وأهمها بساتين خيبر « ثمغ » التي أهداها له اليهود في زمن النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وكان لها مخصصات من الخليفة ، فأوقفت ذهباً على نساء عشيرتها : « ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً فحبسته على نساء آل الخطاب » . المجموع : 15 / 325 .
اعترف محبوها أنها كانت تؤذى النبي « صلى الله عليه وآله »
كانت حفصة تؤمن بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكن ذلك لم يمنعها من مخالفته ، وحتى مقاطعته وأذيته ! قال عمر : « فدخلت على حفصة فقلت : أتغاضب إحداكن رسول الله اليوم حتى الليل ؟ فقالت : نعم » . صحيح بخاري : 3 / 103 .
قال عمر : « وكان بيني وبين امرأتي كلام فأغلظت لي فقلت لما وإنك لهناك ؟ قالت : تقول هذا لي وابنتك تؤذى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! » صحيح بخاري : 7 / 47 .
وكانت تعرف حرص عمر على استمرار زواجها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه يغضب من سوء أخلاقها معه ( صلى الله عليه وآله ) ، لكنها مع ذلك كانت تخالفه وتؤذيه !
ففي السيرة ، الحلبي : 3 / 406 : « شجر بين النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبين حفصة أمر فقال لها : إجعلى
--------------------------- 83 ---------------------------
بنى وبينك رجلاً . قالت : نعم . قال : فأبوك إذن ، فأرسلت إلى عمر فجاء ، فلما دخل عليها قال لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) تكلمي . فقالت : بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقاً ! فرفع عمر يده فوجأها في وجهها فقال له النبي : كف يا عمر ، فقال عمر : يا عدوة الله النبي لا يقول إلا الحق ، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي ! » وتفسير السمعاني : 4 / 276 ، مجمع البيان : 8 / 151 ، عن الواحدي ، عن ابن عباس .
وفى الكافي : 6 / 138 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أن زينب قالت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا تعدل وأنت رسول الله ! وقالت حفصة : إن طلقنا وجدنا أكفاءنا في قومنا ! فاحتبس الوحي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عشرين يوماً ، قال : فأنف الله عز وجل لرسوله فأنزل : يا أَيهَا النَّبِى قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً . . إلى قوله : أَجْرًا عَظِيمًا . قال : فاخترن الله ورسوله ولو اخترن أنفسهن لبنَّ » .
وقد طلق النبي ( صلى الله عليه وآله ) حفصة مرتين ورجع إليها ، وكانت الثانية في السنة التاسعة قبيل غزوة تبوك ، كما نص أبوها ورواه البخاري وغيره . أما الأولى فيبدو أنها في نفس سنة زواجه بها ، كما في الطبقات : 8 / 84 والحاكم : 4 / 15 : « عن قيس بن زيد أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) طلق حفصة بنت عمر ، فأتاها خالاها عثمان وقدامة ابنا مظعون فبكت وقالت : والله ما طلقني رسول الله عن شبع ، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدخل عليها فتجلببت ، فقال رسول الله : إن جبريل أتاني فقال لي أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة » . وتوفى خالها عثمان بن مظعون بعد رجوعه من بدر . الطبري : 2 / 177 .
وفى الإصابة : 8 / 86 : « طلق رسول الله حفصة بنت عمر فبلغ ذلك عمر ، فحثا التراب على رأسه وقال : مايعبأ الله بعمر وابنته بعدها ! فنزل جبريل من الغد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر » .
والصحيح أن الله تعالى أمر نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بزواجها ثم بطلاقها ثم بإرجاعها ، لمصالح لا تتعلق بأبيها ولا بإيمانها وعبادتها كما زعموا ، فقد ضرب الله لها ولعائشة مثلاً بامرأتي نوح ولوط وهما كافرتان . بل لتحزبها مع عائشة وعملهما
--------------------------- 84 ---------------------------
ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما نصت سورة التحريم . قالت عائشة : « إن نساء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كنَّ حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة . والحزب الآخر : أم سلمة وسائر نساء رسول الله » . بخاري : 3 / 132 .
نزلت فيها وفى عائشة آية النهى عن السخرية
ولم تكن صفية من حزبهما ، قال المجموع : 15 / 353 : « بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى تبكى وقالت : قالت لي حفصة : أنت ابنة يهودي ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) « عليهم السلام » إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي فبمَ تفتخر عليك ؟ ثم قال : إتقى الله يا حفصة » .
وروى الجميع أن آية : لا يسخر قوم من قوم ، نزلت في حفصة وعائشة ! لسخريتهما من صفية بنت حيي ، ففي تفسير القمي : 2 / 321 : « نزلت في صفية بنت حيى بن أخطب وكانت زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وذلك أن عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها يا بنت اليهودية ! فشكت ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لها : ألا تجيبنهما ؟ فقالت بماذا يا رسول الله ؟ قال قولي : أبى هارون نبي الله ، وعمى موسى كليم الله ، وزوجي محمد رسول الله ، فما تنكران مني ؟ فقالت لهمافقالتا : هذا علمك رسول الله ! فأنزل الله في ذلك : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يكُونُوا خَيرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يكُنَّ خَيرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان وَمَنْ لَمْ يتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . والحاكم : 4 / 29 ، عمدة القاري / 122 ، الأحوذي : 10 / 267 ، أوسط الطبراني : 8 / 236 .
وفى أسباب النزول للواحدي / 263 ، أن سبب نزول الآية أن حفصة وعائشة سخرتا من أم سلمة « وذلك أنها ربطت حقويها بسبنية وهى ثوب أبيض وسدلت طرفها خلفها فكانت تجره ، فقالت عائشة لحفصة : أنظرى ما تجر خلفها كأنه لسان كلب . . » !
واتفقت حفصة مع عائشة على الكذب والحيلة ! ففي الكافي : 5 / 568 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدخلت عليه وهو في
--------------------------- 85 ---------------------------
منزل حفصة والمرأة متلبسة متمشطة ، فدخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت : يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج وأنا امرأة أيم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد ، فهل لك من حاجة ، فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني ، فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : خيراً ودعا لها ثم قال : يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيراً فقد نصرني رجالكم ورغبت في نساؤكم ، فقالت لها حفصة : ما أقل حياءك وأجراك وأنهمك للرجال ! فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كفى عنها يا حفصة فإنها خير منك ، رغبت في رسول الله فلمتها وعيبتها ، ثم قال للمرأة : إنصرفى رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك في وتعرضك لمحبتي وسروري ، وسيأتيك أمرى إن شاء الله ، فأنزل الله عز وجل : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِى إِنْ أَرَادَ النَّبِى أَنْ يسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ . « الأحزاب : 50 » قال : فأحل الله عز وجل هبة المرأة نفسها لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا يحل ذلك لغيره » .
وفى الخصال / 419 ، أن اسمها : خولة بنت حكيم السلمي . وروى أنها أسدية .
وفى الحدائق : 23 / 98 : « الظاهر أنه بعد نزول الآية على أثر هذه الواقعة ، نكح النبي ( صلى الله عليه وآله ) المرأة ولا إيجاب هنا ولا قبول » .
كانت حفصة عنيفة فقتلت امرأتين !
قتلت عائشة امرأة واحدة ، زعمت أنها كتبت لها سحراً ، أماحفصة فقتلت امرأتين زعمت أنهما كتبتا لها سحراً ! « المحلي : 11 / 395 » . وروى في الطبقات : 3 / 356 ، أنها دفعت عبيد الله بن عمر لقتل الهرمزان وجفينة طفلة أبى لؤلؤة ، على أثر قتل عمر ! قال أخوها عبد الله : « يرحم الله حفصة فإنها ممن شجع عبيد الله على قتلهم » !
كانت حفصة وعائشة حليفتين
وكان تحالفهما كتحالف أبويهما ، وكانت حفصة تقلد عائشة في كثير من الأمور ، وقد أخذت برأيها في رضاع الكبير ، فكانت ترسل الأجنبي إلى أختها لترضعه خمس رضعات ويدخل عليها ! الأم للشافعي : 7 / 236 .
--------------------------- 86 ---------------------------
« وأرسلت عائشة إلى حفصة وغيرها من أمهات المؤمنين كما نص عليه غير واحد من أثبات أهل الأخبار ، تسألهن الخروج معها إلى البصرة ، فما أجابها إلى ذلك منهن إلا حفصة ، لكن أخاها عبد الله أتاها فعزم عليها بترك الخروج ، فحطت رحلها بعد أن همت » . النص والاجتهاد / 432 .
تهديد الله تعالى لعائشة وحفصة !
اتفق الجميع على أن نزول سورة التحريم كان بسبب أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ائتمن حفصة على سره فأذاعته ، وتآمرت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) هي وعائشة ! فهددهما الله تعالى بأشد تهديد وضرب الله لهما مثلاً بكافرتين من زوجات الأنبياء « عليهم السلام » خانتا زوجيهما في أمر الرسالة ، وأمر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) أن يشدد على المنافقين والمنافقات ، فقال تعالي : يا أَيهَا النَّبِى جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يغْنِيا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ .
قال المفيد في المسائل العكبرية / 77 : « جاء في حديث الشيعة عن جعفر بن محمد ( عليه السلام ) أن السر الذي كان من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بعض أزواجه إخباره عائشة أن الله أوحى إليه أن يستخلف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأنه قد ضاق ذرعاً بذلك ، لعلمه بما في قلوب قريش له من البغضاء والحسد والشنآن ، وأنه خائف منهم فتنة عاجلة تضر بالدين ، وعاهدها أن تكتم ذلك ولا تبديه وتستره وتخفيه . فنقضت عهد الله سبحانه عليها في ذلك وأذاعت سره إلى حفصة ، وأمرتها أن تعلم أباها ليعلمه صاحبه ، فيأخذ القوم لأنفسهم ويحتالوا في بعض ما يثبته رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حديث طويل له أسباب مذكورة . ففعلت ذلك حفصة واتفق القوم على عقد بينهم إن مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولايؤتوهم مقامه ، واجتهدوا في تأخيرهم والتقدم عليهم ، فأوحى الله إلى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بذلك وأعلمه ما صنع القوم وتعاهدوا عليه ، وأن الأمر يتم لهم محنة من الله تعالى للخلق بهم . فأوقف النبي ( صلى الله عليه وآله ) عائشة على ذلك وعرفها ما كان منها من إذاعة السر ، وطوى عنها الخبر بما علمه من تمام الأمر لهم ، لئلا تتعجل إلى
--------------------------- 87 ---------------------------
المسرة به وتلقيه إلى أبيها فيتأكد طمع القوم فيما عزموا عليه ، وهو قوله تعالي : عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ، فالبعض الذي عرفه ما كان منها من إذاعة سره ، والبعض الذي أعرض عنه ذكر تمام الأمر لهم » .
وروى الطبراني في الكبير : 12 / 91 ، عن ابن عباس : « فقال لها رسول الله : لاتخبرى عائشة حتى أبشرك ببشارة ، فإن أباك يلي من بعد أبي بكر إذا أنا مت ، ويلي عمر من بعده ، فذهبت حفصة فأخبرت عائشة ! »
وقد بحثنا ذلك في اتهامهم لمارية القبطية رضي الله عنها ، ونزول براءتها .
هذا ، وقد انفردت حفصة بأحاديث لم يروها غيرها ! مثل حديث أن أهل بدر كلهم في الجنة ، وأهل بيعة الرضوان كلهم في الجنة ، وحديث : « اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر » . فهي متهمة بوضعها ! راجع : الإفصاح للمفيد / 219 .
أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها
في مناقب آل أبي طالب : 1 / 138 : « وميمونة بنت الحارث الهلالية خالة ابن عباس ، وكانت عند عمير بن عمرو الثقفي ، ثم عند أبي زيد بن عبد العامري ، خطبها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) جعفر بن أبي طالب ، وكان تزويجها وزفافها وموتها وقبرها بسَرَف ، وهو على عشرة أميال من مكة . » تزوجها « في سنة سبع ، وماتت في سنة ست وثلاثين . وأفضلهن خديجة ، ثم أم سلمة ، ثم ميمونة » .
وفى الكافي : 5 / 368 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين تزوج ميمونة بنت الحارث أوْلَمَ عليها وأطعم الناس الحَيس . » وهو التمر بالسمن .
وذكر في الإصابة : 8 / 328 ، أنها آخر من مات من أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) . لكن يظهر أن أم سلمة ماتت بعدها ، فقد عاشت إلى خلافة يزيد ووقعة الحرة سنة 63 .
وروى ابن عبد البر في الإستيعاب : 4 / 1917 ، أن العباس اقترح على النبي ( صلى الله عليه وآله ) الزواج بها : « فقال له العباس : يا رسول الله تأيمت ميمونة بنت الحارث بن حزن بن أبي رهم بن عبد العزي ، هل لك في أن تزوجها ؟ فتزوجها
--------------------------- 88 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو مُحرم . فلما أن قدم مكة أقام ثلاثاً فجاءه سهيل بن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة فقال : يا محمد أُخرج عنا ، اليوم آخر شرطك ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) « عليهم السلام » دعوني أبتنى بامرأتي وأصنع لكم طعاماً . فقال : لا حاجة لنا بك ولا بطعامك ، أخرج عنا » ! فأجابه سعد بن عبادة بشتيمة فهدأه النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وهذا يدل على فظاظة سهيل بن عمرو وعدائه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والإسلام ! ولهذه الصفات اختارته قريش لقيادتها بعد فتح مكة وعزلت أبا سفيان واتهمته بأنه خضع لمطلب النبي ( صلى الله عليه وآله ) بخلع سلاحها ! ويدل على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أراد أن يتأخر في مكة ويدعو القرشيين إلى وليمة عرسه ، ليخفف العداء ويهدئ الأجواء المتوترة بينهم ، ولو قبلوا بذلك لكان خيراً لهم ، لأن نجمهم كان في أفول ونجم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في صعود .
وغطى ابن هشام : 3 / 829 فظاظة سهيل بن عمرو مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وزعم أن الذي جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش .
وفى الحدائق : 22 / 3 وقاموس الرجال : 12 / 345 : « بلغ سعيد ابن المسيب أن عكرمة قال : تزوجها وهو محرم فقال : كذب عكرمة ! قدم وهو محرم فلما حل تزوجها . فخرج وخلف أبا رافع وقال : إلحقنى بميمونة ، فحملها على قلوص ، فجعل أهل مكة ينفرون بها ويقولون : لا بارك الله لك ! فوافى النبي بسرف وهو على أميال من مكة ، فبنى بها بسرف . ودفنت بسرف سنة 61 » .
أم المؤمنين ميمونة من أهل الجنة
وردت أحاديث في مدح ميمونة رضي الله عنها وفى بعضها شهادة لها بالجنة . واتفقت أحاديثنا على أنها كانت موالية لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ففي الأصول الستة عشر / 62 ، عن جابر بن يزيد الجعفي قال : « قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا ينجو من النار وشدة تغيظها وزفيرها وقرنها وحميمها من عادى علياً وترك ولايته وأحب من عاداه ! فقالت ميمونة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) : والله ما أعرف من أصحابك يا رسول الله من يحب علياً إلا قليلاً منهم ! فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : القليل
--------------------------- 89 ---------------------------
من المؤمنين كثير ، ومن تعرفين منهم ؟ قالت : أعرف أبا ذر والمقداد وسلمان ، وقد تعلم أنى أحب علياً بحبك إياه ونصيحته لك . قال فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : صدقت ، إنك صديقة ، امتحن الله قلبك للإيمان . »
وفى أمالي الطوسي / 505 ، عن : « يزيد بن الأصم قال : قدم شقير بن شجرة العامري المدينة ، فاستأذن على خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكنت عندها فقالت : إئذن للرجل ، فدخل فقالت : من أين أقبل الرجل ؟ قال : من الكوفة . قالت : فمن أي القبائل أنت ؟ قال : من بنى عامر . قالت : حُييت ، إزدد قرباً ، فما أقدمك ؟ قال : يا أم المؤمنين ، رهبت أن تكبسنى الفتنة لما رأيت من اختلاف الناس فخرجت . قالت : فهل كنت بايعت علياً ؟ قال : نعم . قالت : فارجع فلا تزولن عن صفِّه ، فوالله ما ضل ولا ضُلَّ به . قال : يا أماه فهل أنت محدثتى في علي بحديث سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قالت : اللهم نعم ، سمعت رسول الله يقول : على آية الحق ، وراية الهدي ، على سيف الله يسله على الكفار والمنافقين ، فمن أحبه فبحبي أحبه ، ومن أبغضه فببغضي أبغضه ، ومن أبغضني أو أبغض علياً لقى الله عز وجل ولا حجة له » !
ورواه في شرح الأخبار / 256 ، عن أبي قتادة بسنده عن أبي إسحاق ، وفيه : « فأردت الخروج معه فوجدت في نفسي من ذلك وجئت أسألك . قالت : أخرج معه فإنه لن يضل ولن يضل به . قال أبو إسحاق : وما شك في علي إلا فاسق » .
وقد وبخت ميمونة عائشة لما أرادت الخروج وذكرتها بحديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
يا حميراء إنك لتقاتلين علياً وأنت ظالمة له ! قالت نعم . الجمل لابن شدقم / 106 .
وفى الخصال / 363 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « رحم الله الأخوات من
أهل الجنة فسماهن : أسماء بنت عميس الخثعمية وكانت تحت جعفر بن أبي طالب ، وسلمى بنت عميس الخثعمية وكانت تحت حمزة . وخمس من بنى هلال : ميمونة بنت الحارث كانت تحت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأم الفضل عند العباس اسمها هند ، والغميصاء أم خالد بن الوليد ، وعزة كانت في ثقيف تحت الحجاج
--------------------------- 90 ---------------------------
بن علاط . وحميدة ولم يكن لها عقب » .
وفى مقاتل الطالبيين / 11 ، أن هنداً أم ميمونة قيل فيها : « الجرشية أكرم الناس أحماءً « أصهاراً » وجرش من اليمن ، وابنتها أسماء بنت عميس تزوجها جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر ، ثم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . وابنتها الأخرى ميمونة أم المؤمنين زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وابنتها الأخرى لبابة أم الفضل أخت ميمونة أم ولد العباس بن عبد المطلب . وابنتها الأخرى سلمى بنت عميس أم ولد حمزة بن عبد المطلب . وأحماء هذه الجرشية : رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ، والحمزة ، والعباس ، وجعفر ، وأبو بكر . ومن أحمائها أيضاً الوليد بن المغيرة المخزومي » . فأم خالد بن الوليد أخت أسماء بنت عميس ، ومن هنا كانت نجابة بعض أولاد خالد
كالمهاجر بن خالد « رحمه الله » .
- *
--------------------------- 91 ---------------------------
الفصل السادس والأربعون
غزوة أحد
1 . استعداد قريش لحرب أحُد
تلقى زعماء قريش ضربة شديدة في بدر ، فقد خسروا سبعين فارساً وسبعين أسيراً ! وانهزمت بقيتهم إلى مكة في حالة من الذل والغيظ ! وكانت قافلتهم التي نجت من النبي ( صلى الله عليه وآله ) محتبسة في دار الندوة فقالوا لأصحابها : يا معشر قريش إن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم ، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرنا ! وكانوا يربحون بالدينار ديناراً فبلغ المال خمسين ألف دينار . وقيل نزل يومها قوله تعالي : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ينْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَينْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يغْلَبُونَ . « نزلت في أبي سفيان ، أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية ، وكانت الأوقية اثنين وأربعين مثقالاً » . عين العبرة / 53 .
« وكانت وقعة أحد في شوال ، بعد بدر بسنة » . تاريخ اليعقوبي : 2 / 47 .
وبعثت قريش رسلها إلى قبائل كنانة وتهامة يستنصرونهم ، وبرز أبو سفيان زعيماً لقريش بلا منازع ، بعد أن قُتل منافساه عتبة بن ربيعة الأموي وأبو جهل المخزومي ، فقام لإثبات زعامته بغارة على ضواحى المدينة في مئتى راكب ، ليبِرَّ يمينه ! ووصل إلى ضواحى المدينة ليلاً ، والتقى بأحد زعماء اليهود ، وأغار على مزرعة للأنصار فقتل رجلين ، وعندما قصده النبي ( صلى الله عليه وآله ) سارع بالهرب وتخفف أصحابه من مؤونتهم ، فأخذها المسلمون وسميت غزوة ذات السويق !
--------------------------- 92 ---------------------------
وخلال سنة حشدت قريش ثلاثة آلاف مقاتل ، فيهم سبع مائة دارع ومئتا فارس وتوجهوا إلى المدينة ومعهم فتيانٌ بالمعازف وغلمان بالخمور ، وخمس عشرة امرأة من نساء شخصياتهم ، فيهن هند زوجة أبي سفيان ، يغنين ويضربن بالدفوف ليحمسنهم للثأر لقتلى بدر ، ومعهم أبو عامر الفاسق الذي ترك المدينة كراهيةً لمحمد ، وسكن مكة مع خمسين رجلاً من الأوس ، وكان يحرض قريشاً ويقول لهم إنهم على الحق ومحمد على الباطل ، ويزعم لهم أن أهل المدينة معه !
وفى مقابل هؤلاء كان المسلمون سبع مئة مقاتل ، فيهم مائتا دارع ، وفارسان . الصحيح من السيرة : 6 / 77 ، النص والاجتهاد / 341 وابن هشام : 3 / 581 .
ولما وصل القرشيون إلى الأبواء وفيها قبر أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) اقترحت عليهم هند أن ينبشوه ويأخذوا رمتها رهينة ، ليأخذوا فداءها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! قالت : « فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثير ، إنه كان بها براً » . الصحيح : 6 / 85 .
فتشاوروا ثم أعرضوا عن ذلك ، خوفاً من أن تنبش قبور موتاهم في مناطق المسلمين وحلفائهم ! ووصلوا إلى ذي الحليفة قبل المدينة بقليل ، فتركوا خيولهم وإبلهم ترعى زروع أهل المدينة ، وأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) من يخمِّن عددهم وعُدتهم ، ثم واصلوا مسيرهم حتى نزلوا في آخر وادى قُبا عند جبل أحد ، قبالة المدينة .
2 . رؤيا النبي « صلى الله عليه وآله » واستعداده للدفاع
عندما بلغ أهل المدينة تحرك قريش لحربهم قال قسم منهم نتحصن في المدينة ونرد هجوم قريش من مداخلها وسككها وأزقتها ، وقال آخرون بل نخرج إليهم فنقاتلهم خارجها ، لأنه ما غُزِى قومٌ في عقر دارهم إلا ذلوا !
قال ابن إسحاق : 3 / 303 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للمسلمين : إني قد رأيت بقراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة وتأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث قد نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها . وكان رأى عبد الله بن أبي سلول مع رسول الله . فقال رجال من
--------------------------- 93 ---------------------------
المسلمين ممن كان فاتته بدر : يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم أو رضخنا » . وابن هشام : 3 / 583 ، تفسير الطبري : 4 / 94 .
وقال علي بن إبراهيم في تفسيره : 1 / 110 : « كان سبب غزوة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر ، لأنه قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون ، فلما رجعوا إلى مكة قال أبو سفيان : يا معشر قريش لاتدعوا النساء تبكى على قتلاكم ، فإن البكاء والدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد ! ويشمت بنا محمد وأصحابه ! فلما غزوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم أحد أذنوا لنسائهم بعد ذلك في البكاء والنوح .
فلما أرادوا أن يغزوا رسول الله إلى أحُد ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها فجمعوا الجموع والسلاح . فلما بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذلك جمع أصحابه وأخبرهم أن الله قد أخبره أن قريشاً قد تجمعت تريد المدينة ، وحث أصحابه على الجهاد والخروج ، فقال عبد الله بن أبي سلول وقومه : يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها ، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح ، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا ، وما خرجنا إلى أعدائنا قط إلا كان الظفر لهم . فقام سعد بن معاذ « رحمه الله » وغيره من الأوس فقالوا : يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام ، فكيف يطمعون فينا وأنت فينا ! لا ، حتى نخرج إليهم فنقاتلهم ، فمن قتل منا كان شهيداً ، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله ، فقبل رسول الله قوله وخرج مع نفر من أصحابه يبتغون موضع القتال كما قال الله : وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » .
والظاهر أن رأى سعد بن معاذ كان سبب قبول النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالخروج إليهم ، لأن سعداً أكبر زعيم عند الأنصار .
--------------------------- 94 ---------------------------
3 . النبي « صلى الله عليه وآله » يختار مكان معسكره
لم يكن للعدو طريق لمهاجمة المدينة إلا من وادى قباء وهى غربى المدينة وتمتد من الجنوب إلى الشمال . أما الجهات الأخرى فمرتفعات أو بساتين يصعب النفوذ منها ، لذلك هاجمت قريش المدينة في أحُد من وادى قباء . وينتهى الوادي بجبل أحد الذي يعترضه ويمتد بعكسه من الشرق إلى الغرب ، ويوجد قبله جبلٌ صغير اسمه : جبل عَينَين ، وهو جبل الرماة ، ويسمى يوم أحد يوم عَينين أيضاً .
ويظهر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خرج صبح الجمعة أو قبله واختار مكاناً لمعسكره ، كما قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالي : وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ، أي خرجت غدوةً صباحاً ، ثم تابع النبي ( صلى الله عليه وآله ) مشاورة أصحابه في الخروج أو البقاء في المدينة ، واتخذ قراره بالخروج ، وصلى بهم الجمعة وخرج بهم بعد الصلاة وباتوا في أحد ، وكانت المعركة صبيحة السبت .
وعسكر المشركون في الوادي مقابل جبل عينين ، فاختار النبي ( صلى الله عليه وآله ) غربى قبر حمزة ليكون ظهرهم محمياً بجبل أحد ووجههم إلى المشركين ، فكان جبل عينين عن يسارهم . وكان المسلك الوحيد للالتفاف عليهم من خلف جبل عَينين من جهة المدينة ، وهو معبر ضيق تجرى فيه عين المِهْراس التي تنبع من آخر الوادي من جهة أحد . لذلك أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) خمسين من الرماة أن يتخذوا مواقعهم في أصل جبل الرماة من جهة المدينة ، وشدد عليهم أن لا يتركوا مواقعهم !
وقد رأيت عين المهراس سنة 1961 ميلادية ، بين قبرحمزة والمسجد الذي في شرقيه ، وهى نبع على عمق بضعة أمتار ، ينزل اليه في درج واسع ، لكن الوهابيين ردموها وأزالوها . ويسمى يوم أحُد يوم المِهْراس أيضاً ، وسيأتي أن علياً ( عليه السلام ) كان يأتي بالماء من المهراس وفاطمة « عليها السلام » تغسل جراح النبي ( صلى الله عليه وآله ) . أمالي الطوسي / 551 .
--------------------------- 95 ---------------------------
4 . انتصار المسلمين الكاسح في الجولة الأولي
في صبيحة يوم السبت منتصف شوال سنة ثلاث للهجرة صفَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) المسلمين في أحُد ، ووضع الرماة الخمسين شرقي جبل عينين .
ابن إسحاق : 3 / 301 .
وفى تفسير القمي : 1 / 112 : « وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري فبرز ونادي : يا محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إلي ! فبرز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول :
ياطلحُ إن كنت كما تقولُ * لنا خيولٌ ولكم نَصول
فاثبت لننظر أينا المقتول * وأينا أولى بما تقول
فقد أتاك الأسد الصؤول * بصارم ليس به فلول
ينصره القاهر والرسول
فقال طلحة : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال : قد علمتُ يا قُضَيم أنه لايجسر على أحد غيرك ! فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه أمير المؤمنين بالجحفة ، ثم ضربه على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره وسقطت الراية ! فذهب على ( عليه السلام ) ليجهز عليه فحلَّفه بالرحم فانصرف عنه ، فقال المسلمون : ألا أجهزت عليه ؟ قال : قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً !
وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحه فقتله على ( عليه السلام ) وسقطت الراية على الأرض . فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله على ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض .
فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله على ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض .
فأخذها الحارث بن أبي طلحة فقتله على ( عليه السلام ) ، فسقطت الراية إلى الأرض . وأخذها أبو عذير بن عثمان فقتله على ( عليه السلام ) ، وسقطت الراية إلى الأرض .
فأخذها عبد الله بن أبي جميلة بن زهير فقتله على ( عليه السلام ) وسقطت الراية
إلى الأرض !
--------------------------- 96 ---------------------------
فقَتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التاسع من بنى عبد الدار ! وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزةً وسقطت الراية إلى الأرض ! فأخذها مولاهم صواب فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على يمينه فقطعها ، وسقطت الراية إلى الأرض ، فأخذها بشماله فضربه أمير المؤمنين على شماله فقطعها وسقطت الراية إلى الأرض ، فاحتضنها بيديه المقطوعتين ، ثم قال : يا بنى عبد الدار هل أعذرت فيما بيني وبينكم ؟ فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على رأسه فقتله ، وسقطت الراية إلى الأرض !
فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها !
وحدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي : يا قُضَيم ؟ قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبى طالب ، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرمونه بالحجارة والتراب فشكى ذلك إلى علي ( عليه السلام ) فقال : بأبى أنت وأمي يا رسول الله ، إذا خرجت فأخرجني معك فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتعرض الصبيان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كعادتهم فحمل عليهم أمير المؤمنين وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون قضمنا على قضمنا علي ! فسمى لذلك : القَضِيم » !
وقال ابن هشام : 3 / 593 : « وأرسل رسول الله إلى علي بن أبي طالب : أن قدم الراية فتقدم على فقال : أنا أبو القُضَم ، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين : أن هل لك يا أبا القضم في البراز من حاجة ؟ قال : نعم ، فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه على فصرعه ثم انصرف عنه ولم يجهز عليه ، فقال له أصحابه : أفلا أجهزت عليه ؟ فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفتنى عنه الرحم ، وعرفت أن الله عز وجل قد قتله » .
وفى الكافي : 8 / 111 أن خالد بن عبد الله القشيري أمير مكة سأل قتادة : « من الذي يقول : أوفى بميعادى وأحمى عن حسب ؟ ! فقال : أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ ، هذا يوم أحد خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادى من يبارز ؟ فلم يخرج إليه أحد
--------------------------- 97 ---------------------------
فقال : إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة ، فليبرزن إلى رجل يجهزنى بسيفه إلى النار وأجهزه بسيفي إلى الجنة ، فخرج إليه علي بن أبي طالب وهو يقول :
أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب * وهاشم المطعم في العام السغب
أوفى بميعادى وأحمى عن حسب *
فقال خالد : كذب لعمري ، والله أبو تراب ما كان كذلك ! فقال الشيخ : أيها الأمير إئذن لي في الانصراف ، قال : فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول : زنديق ورب الكعبة ، زنديق ورب الكعبة » !
أقول : هذا يدل على حرص السلطة على إخفاء دور على ( عليه السلام ) . وقد ارتاعت قريش بقتل طلحة وأصحاب الألوية ، وتزعزعت صفوفها ، فلم يتقدم لحمل رايتهم بعدهم ، إلا امرأة جمعتها عن الأرض ولم ترفعها ! فأصدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمره بالحملة فتقدم على وحمزة وأبو دجانة وفرسان المسلمين وحملوا عليهم ، فكانت هزيمة المشركين : « فانكشف الكفار حينئذ عن المسلمين هاربين على غير انتظام ، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن . فلما نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلهم الذي أمروا أن لا يفارقوه ، فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير فلم ينتهوا وقالوا : ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون ! فقال عبد الله : والله لا أجاوز أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! وثبت مكانه مع أقل من عشرة ، فنظر خالد بن الوليد المخزومي إلى قلة من في الجبل من الرماة ، فكرَّ بالخيل عليهم ومعه عكرمة بن أبي جهل فقتلوهم ، ومثلوا بعبد الله بن جبير فأخرجوا حشوة بطنه ! وهجموا على المسلمين وهم غافلون وتنادوا بشعارهم يا للعزى يا لهُبل ، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون فكان البلاء ، وقتل حمزة سيد الشهداء وسبعون من صناديد المهاجرين والأنصار ، وأصيب النبي بأبى هو وأمي بجروح يقرح
--------------------------- 98 ---------------------------
القلوب ذكرها ويهيج الأحزان بيانها ، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته . وإنما كان هذا البلاء كله لمخالفة أوامره ونواهيه » . الفصول المهمة / 114 .
5 . هزيمة المسلمين بعد انتصارهم !
قال علي بن إبراهيم في تفسيره : 1 / 111 : « أمَّرَ رسول الله على الرماة وهم خمسون رجلاً عبد الله بن جبير أخا بنى عمرو بن عوف ، وهو يومئذ معلم بثياب بياض وقال : اِنضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا أثبت مكانك لا نؤتين من قبلك . إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان ، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة ، فلا تبرحوا والزموا مراكزكم . ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً ، وقال لهم إذا رأيتمونا قد اختلطنا بهم فأخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا من ورائهم . فحملت الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ، ووقع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في سوادهم . . .
فانهزم أصحاب رسول الله هزيمة قبيحة وأقبلوا يصعدون في الجبال وفى كل وجه ، فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إني أنا رسول الله ، إلى أين تفرون عن الله وعن رسوله » !
وفى تفسير فرات / 94 : « عن حذيفة قال : « رفع البيضة عن رأسه وجعل ينادي : أيها الناس أنا لم أمت ولم أقتل ، وجعل الناس يركب بعضهم بعضاً لايلوون على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا يلتفتون إليه : فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا المدينة ، فلم يكتفوا بالهزيمة حتى قال أفضلهم رجلاً في أنفسهم : قتل رسول الله ، فلما آيس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من القوم رجع إلى موضعه الذي كان فيه فلم يزل علي بن أبي طالب وأبو دجانة الأنصاري ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا دجانة ذهب الناس فالحق بقومك ! فقال أبو دجانة : يا رسول الله ما على هذا بايعناك وبايعنا الله ، ولا على هذا خرجنا يقول الله : إِنَّ الَّذِينَ يبَايعُونَكَ إِنَّمَا يبَايعُونَ اللَّهَ يدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا دجانة أنت في حل من بيعتك فارجع ، فقال أبو دجانة : يا رسول الله لاتحدث نساء
--------------------------- 99 ---------------------------
الأنصار في الخدور أنى أسلمتك ورغبت نفسي عن نفسك يا رسول الله ، لا خير في العيش بعدك . قال : فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحةً فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجلس إلى جنبه مثخناً لا حراك به . قال : وعلى لا يبارز فارساً ولا راجلاً إلا قتله الله على يديه حتى انقطع سيفه ، فلما انقطع سيفه جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله انقطع سيفي ولا سيف لي ، فخلع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيفه ذا الفقار فقلد ه علياً ، ومشى إلى جمع المشركين ، فكان لايبرز إليه أحد إلا قتله ، فلم يزل على ذلك حتى وهت دراعته ، فنظر رسول الله إلى السماء وقال : اللهم إن محمداً عبدك ورسولك جعلت لكل نبي وزيراً من أهله لتشد به عضده وتشركه في أمره ، وجعلت لي وزيراً من أهلي ، علي بن أبي طالب أخي ، فنعم الأخ ونعم الوزير ، اللهم وعدتني أن تمدنى بأربعة آلاف من الملائكة مردفين ، اللهم وعدك وعدك ، إنك لا تخلف الميعاد ، وعدتني أن تظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون .
قال : فبينما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يدعو ربه ويتضرع إليه ، إذ سمع دوياً من السماء فرفع رأسه فإذا جبرئيل ( عليه السلام ) على كرسي من ذهب ومعه أربعة آلاف من الملائكة مردفين وهو يقول : لا فتى إلا على ولا سيف إلا ذو الفقار ، فهبط جبرئيل على الصخرة وحفت الملائكة برسول الله فسلموا عليه ، فقال جبرئيل : يا رسول الله والذي أكرمك بالهدى لقد عجبت الملائكة المقربون لمواساة هذا الرجل لك بنفسه . فقال : يا جبرئيل ما يمنعه يواسينى بنفسه وهو منى وأنا منه . فقال جبرئيل : وأنا منكما ، حتى قالها ثلاثاً . ثم حمل علي ، وحمل جبرئيل والملائكة ، ثم إن الله تعالى هزم جمع المشركين وتشتت أمرهم » .
وفى إمتاع الأسماع : 1 / 144 : « انكشف المشركون منهزمين لايلوون ، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح ، ولكن المسلمين أُتُوا من قبل الرماة . وبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم ، إذ دخلت الخيول تنادى فرسانها بشعارهم : يا للعزى يا لهبل ! ووضعوا في المسلمين السيوف وهم آمنون وكل
--------------------------- 100 ---------------------------
منهم في يده أو حضنه شئ قد أخذه ، فقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً ، وتفرق المسلمون في كل وجه ! وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا .
ونادى إبليس عند جبل عينين وقد تصور في صورة جعال بن سراقة : إن محمداً قد قتل : ثلاث صرخات ، فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين ! واختلط المسلمون وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من العجلة والدهش ، وجرح أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو برده بن نيار وما يدري ! وضرب أبو زعنة أبا بردة ضربتين وما يشعر ! والتقت أسياف المسلمين على اليمان حسيل بن جابر وهم لا يعرفونه حين اختلطواوحذيفة يقول : أبى أبي » !
وفى تفسير الطبري : 4 / 194 ، عن السدى قال : « لما انهزموا يومئذ تفرق عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه فدخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها . عن ابن إسحاق قال : فرَّ عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان حتى بلغوا الجلعب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص ، فأقاموا به ثلاثاً ثم رجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة » !
قال ابن إسحاق : 3 / 306 : « قال الزبير : لقد رأيتني أنظر إلى خدم « خلاخيل » هند ابنة عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ، ما دون أخذهن قليل ولا كثير ! إذ مالت الرماة عن العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل فأُتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل ! فانكفأنا وانكفؤوا علينا بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم ! فانكشف المسلمون فأصاب منهم العدو فكان يوم بلاء وتمحيص ، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة » .
6 - ثبت مع النبي « صلى الله عليه وآله » أول الأمر بضعة أشخاص
روى المفيد في الإرشاد : 1 / 80 ، عن زيد بن وهب قال : « وجدنا من عبد الله بن مسعود يوماً طِيبَ نفس فقلنا له : لو حدثتنا عن يوم أحُد وكيف كان ؟ فقال : أجل ثم ساق الحديث حتى انتهى إلى ذكر الحرب فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « أخرجوا إليهم على اسم الله فخرجنا ، فصفَّنا لهم صفاً طويلاً ، وأقام على الشعب خمسين رجلاً من الأنصار
--------------------------- 101 ---------------------------
وأمَّر عليهم رجلاً منهم وقال : لا تبرحوا عن مكانكم هذا وإن قتلنا عن آخرنا ، فإنما نؤتى من موضعكم هذا ! إلى أن قال : وثبت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأبو دجانة الأنصاري ، وسهل بن حنيف يدفعون عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكثر عليهم المشركون ، ففتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عينيه فنظر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد كان أغمي عليه مما ناله فقال : يا علي ما فعل الناس ؟ قال : نقضوا العهد وولوا الدبر ، فقال له : فاكفنى هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي ، فحمل عليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكشفهم ، ثم عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية أخرى فكر عليهم فكشفهم ، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه ( صلى الله عليه وآله ) بيد كل واحد منهما سيفه ليذب عنه . قال زيد بن وهب : قلت لابن مسعود : انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب وأبو دجانة وسهل بن حنيف ؟ ! قال : انهزم الناس إلا علي بن أبي طالب وحده ، وثاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفر ، وكان أولهم عاصم بن ثابت ، وأبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، ولحقهم طلحة بن عبيد الله .
فقلت له : فأين كان أبو بكر وعمر ؟ قال : كانا ممن تنحي . قال قلت . فأين كان عثمان ؟ قال : جاء بعد ثلاثة من الوقعة ، قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لقد ذهبت فيها عريضة ! قال فقلت له : فأين كنت أنت ؟ قال : كنت فيمن تنحي ! قال فقلت له : فمن حدثك بهذا ؟ قال : عاصم وسهل بن حنيف . قال قلت له : إن ثبوت على في ذلك المقام لعجب ! فقال : إن تعجبت من ذلك لقد تعجبت منه الملائكة ، أما علمت أن جبرئيل قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ! فقلت له : فمن أين علم ذلك من جبرئيل ؟ فقال : سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك ، فسألوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنه فقال : ذاك جبرئيل .
وفى حديث عمران بن حصين قال : لما تفرق الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في يوم أحد ، جاء على متقلداً سيفه حتى قام بين يديه ، فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رأسه إليه فقال له : ما لك لم تفر مع الناس ؟ فقال : يا رسول الله أأرجع كافراً بعد إسلامي ! فأشار له إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم ، ثم أشار له إلى قوم آخرين
--------------------------- 102 ---------------------------
فحمل عليهم فهزمهم ، ثم أشار إلى قوم فحمل عليهم فهزمهم ! فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله ، لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة على لك بنفسه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وما يمنعه من هذا ، وهو منى وأنا منه ! فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : وأنا منكما » .
وزعموا أن أبا بكر ثبت في أحد ولم يهرب فقال ابن سعد : 2 / 42 : « وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلاً ، سبعة من المهاجرين فيهم أبو بكرالصديق وسبعة من الأنصار » لكنهم كذَّبوا أنفسهم فقالوا كان في أوائل من رجع من الهزيمة ! قال ابن سعد : 3 / 155 : « عن عائشة قالت : حدثني أبو بكر قال : كنت في أول من فاء إلى رسول الله يوم أحد » .
7 - بقي النبي « صلى الله عليه وآله » وعلي « عليه السلام » وحدهما
فبعد جرح أبى دجانة ونسيبة ، لم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا على ( عليه السلام ) ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) كما في الكافي : 8 / 110 : « انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فغضب غضباً شديداً قال : وكان إذا غضب انحدر عن جبينيه مثل اللؤلؤ من العرق ، قال : فنظر فإذا على ( عليه السلام ) إلى جنبه فقال له : إلحق ببنى أبيك مع من انهزم عن رسول الله ! فقال : يا رسول الله لي بك أسوة ! قال : فاكفنى هؤلاء ، فحمل فضرب أول من لقى منهم . فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى جبرئيل على كرسي من ذهب بين السماء والأرض وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي » .
وفى الإرشاد : 1 / 89 : « فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أبشر يا علي ، فإن الله منجز وعده ، ولن ينالوا منا مثلها أبداً » . وفى تفسير القمي : 1 / 115 : « ولم يبق مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا أبو دجانة الأنصاري سماك بن خرشة وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، فكلما حملت طائفة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استقبلهم فيدفعهم عن رسول الله ويقتلهم ، حتى انقطع سيفه . وبقيت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نسيبة بنت كعب وكانت تخرج مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزواته تداوى الجرحي ، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع ، فحملت عليه فقالت : يا بنى إلى أين تفر عن الله وعن رسوله ؟ ! فردته فحمل عليه رجل فقتله ، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بارك الله عليك
--------------------------- 103 ---------------------------
يا نسيبة ، وكانت تقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصدرها وثدييها ويديها ، حتى أصابتها جراحات كثيرة !
وحمل ابن قميئة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أروني محمداً لانجوتُ إن نجا ! فضربه على حبل عاتقه ، ونادى قتلت محمداً واللات والعزي !
ونظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه : يا صاحب الترس ألق ترسك ، ومُرَّ إلى النار ! فرمى بترسه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس ، وكانت تقاتل المشركين فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لَمَقَامُ نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان !
ولم يكن يحمل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحد إلا يستقبله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فإذا رأوه رجعوا ! فانحاز رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ناحية أحُد فوقف . فلم يزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة فتحاموه ! وسمعوا منادياً ينادى من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي . وتراجعت الناس فصارت قريش على الجبل ، فقال أبو سفيان وهو على الجبل : أعلُ هبل ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأمير المؤمنين قل له : الله أعلى وأجل . فقال : يا علي إنه قد أنعم علينا ! فقال على ( عليه السلام ) : بل الله أنعم علينا .
ثم قال أبو سفيان : يا علي أسألك باللات والعزى هل قتل محمد ؟ فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لعنك الله ولعن الله اللات والعزى معك ! والله ما قتل محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهو يسمع كلامك ! فقال : أنت أصدق ، لعن الله ابن قميئه زعم أنه قتل محمداً » .
أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتي !
في كشف اليقين / 59 : « خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوماً فرحاً مسروراً وقال : أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتي ! أما أنه الفتى فلأنه سيد العرب . وأما ابن الفتى فلأنه ابن إبراهيم خليل الرحمن ( عليه السلام ) الذي نزل في حقه : قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يذْكُرُهُمْ يقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . وأما أنه أخو الفتي ، فلأنه أخو على ( عليه السلام ) الذي قال جبريل عنه أنه : إنه لا فتى إلا علي » .
--------------------------- 104 ---------------------------
8 - نزل جبرئيل « عليه السلام » وبقى مع النبي « صلى الله عليه وآله » حتى انسحب المشركون
يفهم من حديث دعائم الإسلام : 1 / 374 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أن جبرئيل ( عليه السلام ) بقي مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى انسحب المشركون ، قال : « لما كان يوم أحد وافترق الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وثبت معه على ( عليه السلام ) وكان من أمر الناس ما كان ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) : إذهب يا علي ، فقال : كيف أذهب يا رسول الله وأدعك ! بل نفسي دون نفسك ودمى دون دمك ، فأثنى عليه خيراً . ثم نظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى كتيبة قد أقبلت فقال : إحمل عليها يا علي ، فحمل عليها ففرقها وقتل هشام بن أمية المخزومي ، ثم جاءت كتيبة أخرى فقال : إحمل عليها يا علي ، فحمل عليها ففرقها وقتل عمر بن عبد الله الجمحي ، ثم أقبلت كتيبة أخرى قال : إحمل عليها يا علي . فحمل عليها ففرقها وقتل شيبة بن مالك أخا بنى عامر بن لؤي ، وجبرئيل مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال جبرئيل : يا محمد إن هذه للمواساة ! فقال : يا جبرئيل ، إنه منى وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما يا محمد » .
9 - ركز المشركون على قتل النبي « صلى الله عليه وآله » في أحُد فأصابته جراحات
« لما اشتد البلاء وعظم الخطب بفرار المسلمين ، أرهف المشركون لقتل رسول الله غِرار عزمهم ، وأرصدوا لذلك جميع أهبهم ، فتعاقد خمسة من شياطينهم على ذلك ، كانوا كالفدائية في هذا السبيل وهم : عبد الله بن شهاب الزهر » والد الزهري المعروف وهو يهودي حداد حليف بنى زهرة « وعتبة بن أبي وقاص ، وابن قميئة الليثي أبي بن خلف ، وعبد الله بن حميد الأسدي القرشي ، لعنهم الله وأخزاهم ، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته الميمونة ، وأما عتبة فرماه - تبَّت يداه - بأربعة أحجار فكسر رباعيته وشق شفته ، وأما ابن قميئة قاتله الله فكمَّ وجنته ودخل من خلف المغفر فيها وعلاه بالسيف - شُلَّت يداه - فلم يطق أن يقطع فسقط ( صلى الله عليه وآله ) إلى الأرض . وأما أبي بن خلف فشد عليه بحربته فأخذها رسول الله منه وقتله بها ، وأما عبد الله بن حميد فقتله أبو دجانة الأنصاري شكر الله سعيه وأعلى في الجنان مقامه ، فإنه ممن أبلى يومئذ بلاء حسناً . ثم حمل ابن قميئة على مصعب
--------------------------- 105 ---------------------------
بن عمير وهو يظنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقتله ، ورجع إلى قريش يبشرهم بقتل محمد ، فجعل الناس يقولون : قتل محمد قتل محمد ! فانخلعت قلوب المسلمين جزعاً وكادت نفوسهم أن تزهق هلعاً ، وأوغلوا في الهرب مدلهين مدهوشين ، لا يرتابون في قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد أسقط في أيديهم » . الفصول المهمة للسيد شرف الدين / 118 .
وفى المناقب : 1 / 166 : « فرماه ابن قمئة بقذافة فأصاب كفه ، ورماه عبد الله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه ، وضربه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد على وجهه ، فشج رأسه فنزل عن فرسه ، ونهبه ابن قمئة ، وقد ضربه على جنبه » !
وروى ابن هشام : 3 / 597 ، نحوه وذكر أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلي ، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته ، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ، ووقع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، فأخذ علي بن أبي طالب بيده !
وفى تفسير فرات / 93 : « إنتهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى صخرة فاستتر بها ، ليتقى بها من السهام سهام المشركين » .
« فلما انتهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى فم الشعب خرج على ( عليه السلام ) حتى ملأ درقته من المهراس فجاء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليشرب منه فوجد له ريحاً فعافه فلم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه » . والمناقب : 1 / 96 ، 102 والخرائج / 62 .
وقد كسر خوذته عبد الله بن شهاب جد الزهري فجُرح في رأسه ، وأَدمى وجهه فوق حاجبه عبد الله أو عمرو بن قمئة وجرحه في وجنته ، وكسر رباعيته عتبة بن أبي وقاص ، وجرح شفته السفلى من داخل فمه الشريف . « مقدمة فتح الباري / 287 » . وفى فتح الباري : 7 / 286 : ( شُجَّ وجهه وكسرت رباعيته ، وجرحت وجنته وشفته السفلى من باطنها ، ووهى منكبه من ضربة ابن قمئة وجحشت ركبته ) .
وفى صحيح البخاري : 7 / 19 : ( عن سهل بن سعد الساعدي قال : لما كسرت على رأس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) البيضة وأدمى وجهه وكسرت رباعيته وكان على يختلف بالماء
--------------------------- 106 ---------------------------
في المجن ، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم ، فلما رأت فاطمة « عليها السلام » الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرقأ الدم ) .
وفى مصنف ابن أبي شيبة : 4 / 586 : ( شُجَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكسرت رباعيته ، وذلق من العطش حتى جعل يقع على ركبتيه وتركه أصحابه ، فجاء أبي بن خلف يطلب بدم أخيه أمية بن خلف فقال : أين هذا الذي يزعم أنه نبي فليبرز لي فإن كان نبياً قتلني ! فأخذ ( صلى الله عليه وآله ) الحربة ثم مشى إليه فطعنه فصرعه عن دابته ، وحمله أصحابه فاستفردوه فقالوا : ما نرى بك بأساً ! فقال : إنه قد استسقى الله دمي ، إني لأجد لها ما لو كان على مضر وربيعة لوسعتهم ) .
وفى الدرر لابن عبد البر / 148 : ( فقاتل دونه مصعب بن عمير حتى قتل . وجُرح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في وجهه ، وكُسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر ، وهشمت البيضة على رأسه . . وكان الذي تولى ذلك من النبي عمرو بن قمئة الليثي وعتبة بن أبي وقاص ، وقد قيل إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله في جبهته ، وأكبت الحجارة على رسول الله حتى سقط في حفرة كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين فخر على جنبه فأخذ على بيده ) .
وفى شرح الأخبار : 1 / 94 : ( عن عمر بن علاء ، قال : لما كان يوم أحد وتفرق الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ضُرب رسول الله ستين ضربة بالسيف ، وعليه يومئذ درعان قد تظاهر بينهما ، وكسرت رباعيته وشج في وجهه وتفرق الناس عنه ، وبقى معه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال له رسول الله : إرجع يا علي ، فقال : إلى أين أرجع عنك يا رسول الله ؟ أرجع كافراً بعد أن أسلمت ! وأقبل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كردوس من المشركين . فقال لعلي : فاحمل إذن على هؤلاء ، فحمل عليهم ففرجهم وأصاب منهم . فقال جبرائيل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا محمد إن هذه للمواساة . فقال : يا جبرائيل : إنه منى وأنا منه . فقال جبرائيل : وأنا منكما ) .
وفى النص والاجتهاد / 343 : ( وقاتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومئذ قتالاً شديداً ، فرمى بالنبل حتى فنى نبله ، وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره ، وأصيب بجرح في وجنته ، وآخر
--------------------------- 107 ---------------------------
في جبهته ، وكسرت رباعيته السفلي ، وشقت بأبى هو وأمي شفته وعلاه ابن قمئة بالسيف . وقاتل دونه على ومعه خمسة من الأنصار استشهدوا في الدفاع عنه رضي الله عنهم وأرضاهم ، وترس أبو دجانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، فكان يقع النبل بظهره وهو منحن عليه ، وقاتل مصعب بن عمير فاستشهد ، قتله ابن قمئة الليثي وهو يظنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرجع إلى قريش يقول لهم : قتلت محمداً ، فجعل الناس يقولون : قتل محمد ، قتل محمد ! فأوغل المسلمون في الهرب على غير رشد ، وكان أول من عرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كعب بن مالك ، فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله حي لم يقتل ، فأشار إليه ( صلى الله عليه وآله ) أن أنصت ) . لئلا يعرفوا مكانه .
وروينا عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) « إعلام الوري : 1 / 179 » : ( فلما دنت فاطمة « عليها السلام » من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورأته قد شُج في وجهه وأدمى فوه إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله ! وكان رسول الله يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء ، فلا يتراجع منه شئ ! قال الصادق ( عليه السلام ) : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب .
قال أبان بن عثمان : حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت : كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء ؟ قال : لا والله ما قبضه الله إلا سليماً ، ولكنه شُجَّ في وجهه . قلتُ : فالغار في أحُد الذي يزعمون أن رسول الله « عليهما السلام » صار إليه ؟ قال : والله ما برح مكانه ، وقيل له : ألا تدعو عليهم ؟ قال : اللهم اهد قومي ) !
10 - أشد الأيام على النبي « صلى الله عليه وآله »
« روى عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) : أنه نظر يوماً إلى عبيد الله بن العباس بن علي فاستعبر ثم قال : ما من يوم أشد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من يوم أحُد ، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب . ولا يوم كيوم الحسين ( عليه السلام ) : ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل
--------------------------- 108 ---------------------------
يزعمون أنهم من هذه الأمة ، كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه ! وهو يذكرهم بالله فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً » ! مقتل الحسين « عليه السلام » مخنف / 176 .
11 - أصعب اللحظات في حياة علي « عليه السلام »
وصف على أصعب اللحظات في أحُد ، كما في الإرشاد : 1 / 86 والمناقب : 2 / 315 ، قال : « لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي ، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أره ، فقلت : ما كان رسول الله ليفر وما رأيته في القتلي ، وأظنه رفع من بيننا إلى السماء ، فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي : لأقاتلن به عنه حتى أقتل ، وحملت
على القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد وقع على الأرض مغشياً عليه ، فقمت على رأسه فنظر إلى وقال : ما صنع الناس يا علي ؟ فقلت : كفروا يا رسول الله وولوا الدبر وأسلموك ! فنظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي : رد عنى يا علي هذه الكتيبة فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار .
فقال لي النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أما تسمع يا علي مديحك في السماء ، إن ملكاً يقال له رضوان ينادي : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي . فبكيت سروراً وحمدت الله سبحانه على نعمته » .
وتقدم من الإرشاد : 1 / 80 ، قوله : « وقد كان أغمي عليه ( صلى الله عليه وآله ) مما ناله » ! لما جرح ووقع في الحفرة وتكاثر عليه المشركون ، وجاء على وجبرئيل فأخذاه إلى الصخرة .
وفى المناقب لابن سُلَيمان : 1 / 466 ، عن ابن أبي ليلى قال : « لم يمر على الناس يوم مثل يوم أحد أشد منه ! جرح النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقتل حمزة ، وانكشف الناس عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فتركوه وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب . . الخ . » .
12 - قميص النبي « صلى الله عليه وآله » الذي أصيب به في أحد
في الكافي : 1 / 236 ، « عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) من حديث ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما حضرته الوفاة عرض على عمه العباس أن يأخذ تراثه ويقضى دينه ومواعيده ، فاعتذر بأنه ل
--------------------------- 109 ---------------------------
ايطيق ، فعرض ذلك على على ( عليه السلام ) فقبله فأعطاه تراثه ، وفيه : والقميص الذي أسرى به فيه ، والقميص الذي جرح فيه يوم أحد » .
وروى ابن عقدة في فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) / 88 ، أن المهدى ( عليه السلام ) عندما يظهر : « يكون عليه قميص رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي كان عليه يوم أحد » .
13 - لماذا انسحبت قريش ولم تهاجم المدينة ؟ !
كان القرشيون يقولون : نقتل محمداً ونردف الكواعب من المدينة ، أي نأتى بالسبايا من الأنصار ! « ندموا على انصرافهم عن المسلمين ، وتلاوموا فقالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم » ! مجمع البيان : 2 / 446 .
وفى مناقب آل أبي طالب : 1 / 109 : « لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة قالوا : ما صنعنا ! قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد وتركناهم إذ هم ! وقالوا : إرجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا » .
لكن الذي حدث أن قائدهم أبا سفيان أصابه الذعر من على ( عليه السلام ) وكان يرى جبرئيل ( عليه السلام ) معه راكباً فرساً أشقر ، فقرر العودة إلى مكة !
فاعجب من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل علياً ( عليه السلام ) وحده خلفهم وهم ثلاثة آلاف ، فذهب غير هياب ، ولما فاجأهم من أمامهم قالوا هذا الذي فعل فينا الأفاعيل ! وصاح أبو سفيان بأنا منسحبون فلماذا تتبعنا !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 8 / 318 » : « لما رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) اختلاج ساقيه من كثرة القتال ، رفع رأسه إلى السماء وهو يبكى وقال : يا رب وعدتني أن تظهر دينك وإن شئت لم يعْيك . فأقبل على ( عليه السلام ) إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله أسمع دوياً شديداً وأسمع أقدم حيزوم ، وما أهمُّ أضرب أحداً إلا سقط ميتاً قبل أن أضربه ! فقال هذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في الملائكة . . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي إمض بسيفك حتى تعارضهم ، فإن رأيتهم قد ركبوا القلاص « الإبل » وجنبوا
--------------------------- 110 ---------------------------
الخيل فإنهم يريدون مكة ، وإن رأيتهم قد ركبوا الخيل وهم يجنبون القلاص فإنهم يريدون المدينة ، فأتاهم على ( عليه السلام ) فكانوا على القلاص فقال أبو سفيان لعلي : يا علي ما تريد ! هو ذا نحن ذاهبون إلى مكة فانصرف إلى صاحبك ! فأتبعهم جبرئيل فكلما سمعوا وقع حافر فرسه جدوا في السير ! وكان يتلوهم ، فإذا ارتحلوا قالوا : هو ذا عسكر محمد قد أقبل ! فدخل أبو سفيان مكة فأخبرهم الخبر ، وجاء الرعاة والحطابون فدخلوا مكة فقالوا : رأينا عسكر محمد كلما رحل أبو سفيان نزلوا يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم » !
14 - علي « عليه السلام » بطل أحُد وصاحب انتصاراتها
قال ابن هشام : 3 / 655 : « أنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي ، يمدح علي بن أبي طالب ، ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، صاحب لواء المشركين يوم أحد :
لله أي مذبَّبٍ عن حرمة * أعنى ابن فاطمةَ المُعِمَّ المُخْولا
سبقت يداك له بعاجل طعنة * تركتْ طليحة للجبين مجدَّلا
وشددت شدةَ باسلٍ فكشفتهم * بالسفح إذ يهْوُون أخولَ أخولا
وعللتسيفك بالدماءولم يكن * لتردَّه ظمآنَ حتى ينهلا »
والإرشاد : 1 / 90 ، رسائل المرتضي : 4 / 125 والنهاية : 7 / 372 .
وقال المفيد في الإرشاد : 1 / 90 : « ذكر أهل السير قتلى أحُد من المشركين ، فكان جمهورهم قتلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فروى عبد الملك بن هشام قال . . كان صاحب لواء قريش يوم أحُد طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، قتله علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وقتل ابنه أبا سعيد بن طلحة ، وقتل أخاه كلدة بن أبي طلحة ، وقتل عبد الله بن حميد بن زهرة بن الحارث بن أسد بن عبد العزي ، وقتل أبا الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي ، وقتل الوليد بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وقتل أخاه أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وقتل أرطاة بن شرحبيل ، وقتل هشام بن أمية ، وعمرو بن
--------------------------- 111 ---------------------------
عبد الله الجمحي ، وبشر بن مالك ، وقتل صواباً مولى بنى عبد الدار ، فكان الفتح له ورجوع الناس من هزيمتهم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمقامه يذب عنه دونهم ! وتوجه العتاب من الله تعالى إلى كافتهم لهزيمتهم يومئذ سواه ومن ثبت معه من رجال الأنصار ، وكانوا ثمانية نفر وقيل : أربعة أو خمسة » .
وقال العلامة في كشف اليقين / 131 : « وكان جمهور قتلى أحُد مقتولين بسيف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان الفتح ورجوع الناس إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثبات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .
وفى الثاقب في المناقب / 63 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قَتَل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يوم أحد أربعة عشر رجلاً ، وقتل سائر الناس سبعة ، وأصابه يومئذ ثمانون جراحة ، فمسحها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلم ينفح منها شئ » .
وفى المناقب : 1 / 385 و 2 / 78 : « عن أبان بن عثمان ، أنه أصاب علياً يوم أحد ستون جراحة ، وأصاب علياً يوم أحد ستة عشر ضربة ، وهو بين يدي رسول الله يذب عنه في كل ضربة يسقط إلى الأرض ، فإذا سقط رفعه جبرئيل . .
أصابني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح فأخذ بضبعى فأقامني ، ثم قال : أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله وهما عنك راضيان ، قال على ( عليه السلام ) : فأتيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأخبرته فقال : يا علي أقر الله عينك ، ذاك جبرئيل » .
وفى المناقب : 3 / 85 ، عن زيد بن علي قال : « كسرت زند على يوم أحد وفى يده لواء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسقط اللواء من يده ، فتحاماه المسلمون أن يأخذوه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فضعوه في يده الشمال فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة . وفى رواية غيره : فرفعه المقداد وأعطاه علياً » . ورواه السرخسي في المبسوط : 1 / 73 .
وفى تحفة الفقهاء للسمرقندي : 1 / 90 ، أنه كسر زنداه يومئذ ! ولم يذكر متي ، ولعله في الجولة الأولى بعد قتله أصحاب الألوية ، وقد واصل جهاده وكأنه لم يصبه شئ فقد مسح النبي ( صلى الله عليه وآله ) جراحه !
--------------------------- 112 ---------------------------
وفى المناقب : 1 / 341 : « المعروفون بالجهاد : علي ، وحمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحارث ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، وسعد بن أبي وقاص ، والبراء بن عازب وسعد بن معاذ ، ومحمد بن مسلمة . وقد أجمعت الأمة على أن هؤلاء لا يقاسون بعلى ( عليه السلام ) في شوكته وكثرة جهاده . فأما أبو بكر وعمر فقد تصفحنا كتب المغازي فما وجدنا لهما فيه أثراً البتة . وقد أجمعت الأمة على أن علياً ( عليه السلام ) كان المجاهد في سبيل الله والكاشف الكروب عن وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، المقدم في ساير الغزوات إذا لم يحضر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإذا حضر فهو تاليه وصاحب الراية واللواء معاً ، وما كان قط تحت لواء أحد ، ولا فر من زحف ! وإنهما فرَّا في غير موضع ، وكانا تحت لواء جماعة » .
فأعطى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذا الفقار يومها إلى علي ( عليه السلام ) وكان نزل في بدر فأعطاه علياً ( عليه السلام ) في بدر وقاتل به ، أما يوم أحد فأعطاه إياه عندما تقطع سيفه فصار له ، ونادى جبرئيل في أحُد بندائه يوم بدر .
أقول : مع كل هذا ترى رواة السلطة ينتقصون علياً ( عليه السلام ) ويذمونه ، فقد قالوا إنه أعطى سيفه لفاطمة « عليها السلام » لتغسله وافتخر فقال : « خذيه فلقد أحسنت به القتال » ! فوبخه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال له : « إن كنت قد أحسنت القتال اليوم ، فلقد أحسن سهل بن حنيف وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وأبو دجانة » . « الحاكم 3 / 409 والحلبية 2 / 547 » . وهذا من الحقد القرشي على على ( عليه السلام ) !
15 - حب علي « عليه السلام » فريضة لا رخصة فيها
في الجواهر السنية / 301 ، عن سلمان الفارسي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « هبط جبرائيل ( عليه السلام ) يوم أحد وقد انهزم المسلمون ولم يبق غير على ( عليه السلام ) ، وقد قتل الله على يده يومئذ من المشركين من قتل فقال جبرئيل : يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : أخبر علياً أنى عنه راض ، وأنى آليت على نفسي أن لا يحبه عبد إلا أحببته ، ومن أحببته لم أعذبه بناري ، ولا يبغضه عبد إلا أبغضته ، ومن أبغضته ما له في الجنة من نصيب ! قال : وهبط على جبرئيل ( عليه السلام ) يوم الأحزاب لما قتل علي بن أبي طالب عمرواً فارسهم فقال : يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني افترضت الصلاة
--------------------------- 113 ---------------------------
على عبادي فوضعتها عن العليل الذي لايستطيعها ، وافترضت الزكاة فوضعتها عن المقل ، وافترضت الصيام فوضعته عن المسافر ، وافترضت الحج فوضعته عن المعدم ومن لا يجد السبيل إليه ، وافترضت حب علي بن أبي طالب ومودته على أهل السماوات وأهل الأرض ، فلم أعذر فيه أحداً ! فمر أمتك بحبه فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه ، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه » !
16 - جاءت فاطمة الزهراء « عليها السلام » منقضة كالصقر إلى قلب المعركة !
في إعلام الوري : 1 / 177 : « ذهبت صيحة إبليس حتى دخلت بيوت المدينة فصاحت فاطمة « عليها السلام » ، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلا وضعت يدها على رأسها ، وخرجت فاطمة « عليها السلام » تصرخ ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : فلما دنت فاطمة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورأته قد شج في وجهه وأدمى فوهُ إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله ! وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شئ !
قال الصادق ( عليه السلام ) : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب !
قال أبان بن عثمان : حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة قال قلت : كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء ؟ قال ( عليه السلام ) : لا والله ما قبضه الله إلا سَليماً ولكنه شُجَّ في وجهه . قلت : فالغار في أحد الذي يزعمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صار إليه ؟ قال : والله ما برح مكانه ، وقيل له ( صلى الله عليه وآله ) : ألا تدعو عليهم ؟ قال : اللهم اهد قومي » .
وفى المناقب : 1 / 166 : « وصاح إبليس من جبل أحد : ألا إن محمداً قد قتل ! فصاحت فاطمة « عليها السلام » ووضعت يدها على رأسها ، وخرجت تصرخ » !
وفى تفسير القمي : 1 / 124 : « خرجت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقعدت بين يديه ، فكان إذا بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكت لبكائه ، وإذا انتحب انتحبت » ! وكان بكاؤه ( صلى الله عليه وآله ) حباً وشكراً لفاطمة « عليها السلام » ، وبكاؤها تأثراً لوحدته وجراحه !
--------------------------- 114 ---------------------------
ومعنى ذلك أنها حضرت عندما جاء على وجبرئيل « عليهما السلام » بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى ظل الصخرة ، بعد أن جرح ووقع في حفرة ، فجاء بها الله تعالى لتغسل جراحه وتكون إلى جنبه ! فجاءت ركضاً تمشى في سفوح وادى قُبا الشرقية ، لأن الوادي كانت بيد جيش قريش ، ولو رأوها لأخذوها أسيرة ، وكان ذلك نصراً عظيماً لهم !
ويظهر أنها جاءت وحدها ، فلم تذكر المصادر أحداً معها !
كما أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما أرسل علياً ( عليه السلام ) خلف جيش قريش ، بقيت فاطمة معه وحدهما ، وهذا خطر آخر تعرض له النبي ( صلى الله عليه وآله ) والزهراء « عليها السلام » !
وقد طمس رواة السلطة دورها « عليها السلام » في أحُد ، ولم يشيدوا بمجيئها إلى المعركة والناس فارُّون ! وغاية ما رووه أنها وعلياً « عليهما السلام » غسلا جرح النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
قال بخارى في صحيحه : 3 / 227 : « لما كسرت بيضة النبي ( صلى الله عليه وآله ) على رأسه وأدمى وجهه وكسرت رباعيته ، كان على يختلف بالماء في المجن وكانت فاطمة « عليها السلام » تغسله ، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه يعنى رمادها ، فرقأ الدم » .
17 - الصحابة الهاربون على جبل أحد
في سيرة ابن إسحاق : 3 / 309 ، وغيره ، أن أنس بن النضر : « انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم « انهاروا » فقال : ما يجلسكم ؟ ! قالوا : قتل رسول الله ! قال : فما تظنون بالحياة بعده ؟ ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ! ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل « رحمه الله » » .
وفى الطبري : 2 / 201 : « فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أَمَنَةً من أبي سفيان ! يا قوم إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم ! قال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ! اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ! ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل » .
--------------------------- 115 ---------------------------
وهذا يدل على أن همهم كان تدبير سلامتهم ، وأخذ الأمان من أبي سفيان ، ويدل قولهم فارجعوا إلى قومكم أو إلى دين قومكم ، على أنهم قرشيون !
18 - نادى النبي « صلى الله عليه وآله » الفارين بأسمائهم
في شرح النهج : 15 / 24 ، عن محمد بن مسلمة قال : « سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول يوم أحد وقد انكشف الناس إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لايلوون عليه ، سمعته يقول : إلى يا فلان ، إلى يا فلان ، أنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فما عرج عليه واحد منهما ومضيا ، فأشار ابن معد إلى أي إسمع ، فقلت : وما في هذا ؟ قال : هذه كناية عنهما . فقلت : ويجوز أن لا يكون عنهما لعله عن غيرهما .
قال : ليس في الصحابة من يحتشم من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى الكناية إلا هما . قلت له : هذا ممنوع . فقال : « دعنا من جدلك ومنعك ، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما ، وأنه لو كان غيرهما لذكرهما صريحاً » .
وروى الطبري في تفسيره : 4 / 193 : « خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران قال : لما كان يوم أحد ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروي ، والناس يقولون : قتل محمد » ! والأروي : العنزة الجبلية التي تجيد تسلق الصخور !
ونص الرواة على أن طلحة كان مع الفارين في الجبل عند الصخرة . وذكر ابن مسعود أنه كان من أول الراجعين ، لكن بعد انتهاء المعركة !
وقد كثرت مكذوبات رواة السلطة في ادعاء حضور فلان وفلان بعد فرارهم ، وكذا الحوار الذي اخترعوه بين أبي سفيان وعمر وأبى بكر ! مع أنهم كانوا على الصخرة فوق جبل أحُد يريدون إرسال أحد إلى أبي سفيان ليأخذوا منه الأمان ، فلو كان يسمع صوتهم لما احتاجوا إلى إرسال أحد اليه ! راجع الصحيح من السيرة : 6 / 203 .
19 - ولحقهم علي « عليه السلام » في أول فرارهم ووبخهم !
في تفسير القمي : 1 / 114 : « وروى عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال : كنت أماشى فلاناً « عمر » إذ سمعت منه همهمة فقلت له مه ، ماذا يا فلان ؟ قال ويحك
--------------------------- 116 ---------------------------
أما ترى الهزير القضم ابن القضم . فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب ، فقلت له : يا هذا هو علي بن أبي طالب ! فقال : أدن منى أحدثك عن شجاعته وبطولته ، بايعنا النبي يوم أحد على أن لا نفر ومن فر منا فهو ضال ، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي زعيمه ، إذ حمل علينا مائة صنديد تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون فأزعجونا عن طحونتنا ، فرأيت علياً كالليث يتقى الدر ، وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا ثم قال : شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت ، إلى أين تفرون ، إلى النار ؟ ! فلم نرجع ، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت فقال : بايعتم ثم نكثتم ؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل ! فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً ، أو كالقدحين المملوين دماً ، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا ، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت : يا أبا الحسن الله الله ، فإن العرب تكر وتفر وإن الكرة تنفى الفرة ، فكأنه استحيا فولى بوجهه عني ، فما زلت أسكن روعة فؤادي ! فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة » !
20 - بعض الصحابة الهاربين كفروا وشبعوا كفراً !
قال أحد الهاربين يوم أحد : « والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي لنعطينهم بأيدينا ! إنهم لعشائرنا وإخواننا ! وقالوا : لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل ! فترخصوا في الفرار حينئذ » ! الدر المنثور : 2 / 80 .
وقال مرضى القلوب منهم : « قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فرَّ الناس عن النبي : قد قتل محمد ، فالحقوا بدينكم الأول » ! تفسير الطبري : 4 / 151 .
قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 80 : « وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد : ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول . . وأخرج ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس أن رسول الله اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة والناس يفرون ورجل قائم على الطريق يسألهم : ما فعل رسول الله ؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم فيقولون : والله ما ندري ما فعل ! فقال : والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا وقالوا : لو أن محمداً كان نبياً لم يهزم ولكنه قد قتل ! فترخصوا في الفرار » .
--------------------------- 117 ---------------------------
21 - قالوا كل التقصير من النبي « صلى الله عليه وآله » !
قال عمر : « فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون ، وفرَّ أصحاب رسول الله عن النبي ، فكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه وأنزل الله : وَلَمّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بأخذكم الفداء » ! « مجمع الزوائد : 6 / 115 » . وصححه ابن حجر في العجاب : 2 / 780 .
وهو معنى قوله تعالي : يقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِمْ مَا لايبْدُونَ لَكَ يقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا . .
22 - شهادة حمزة عم النبي « صلى الله عليه وآله »
في تفسير القمي : 1 / 117 : « وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر ، فكلما انهزم رجل من قريش رفعت إليه ميلاً ومكحلة وقالت : إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا ، وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم ، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له واحد . وكانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشياً عهداً لئن قتلت محمداً أو علياً أو حمزة لأعطيتك رضاك . وكان وحشى عبداً لجبير بن مطعم ، حبشياً ، فقال وحشي : أما محمد فلا أقدر عليه وأما على فرأيته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلم أطمع فيه .
قال : فكمنت لحمزة فرأيته يهدُّ الناس هدّاً فمر بي فوطأ على جرف نهر فسقط ، فأخذت حربتى فهززتها ورميته فوقعت في خاصرته وخرجت من مثانته مغمسة بالدم ، فسقط ، فأتيته فشققت بطنه وأخذت كبده وأتيت بها إلى هند فقلت لها : هذه كبد حمزة ! فأخذتها في فيها فلاكتها فجعلها الله في فيها مثل الداغصة فلفظتها ورمت بها ! فبعث الله ملكاً فحملها وردها إلى موضعها !
فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : يأبى الله أن يدخل شيئاً من بدن حمزة النار ، فجاءت إليه هند فقطعت مذاكيره ، وقطعت أذنيه ، وجعلتهما خرصين وشدتهما في عنقها ، وقطعت يديه ورجليه » ! ونحوه الإرشاد : 1 / 83 .
--------------------------- 118 ---------------------------
وفى المناقب : 1 / 166 : « قال الصادق ( عليه السلام ) : فزرقه وحشى فوق الثدي فسقط ، وشدوا عليه فقتلوه ، فأخذ وحشى الكبد فشد بها إلى هند ، فأخذتها فطرحتها في فيها فصارت مثل الداغصة فلفظتها ! ورأى الحليس بن علقمة أبا سفيان وهو يشد الرمح في شدق حمزة فقال : أنظروا إلى من يزعم أنه سيد قريش ما يصنع بعمه الذي صار لحماً ؟ ! وأبو سفيان يقول : ذق يا عقق . وأتت هند وجدعت أنفه وأذنه ، وجعلت في مخنقتها بالذريرة مدة » .
وفى رسائل المرتضي : 4 / 125 ، أن هنداً نذرت يوم بدر أن تأكل كبد حمزة ( عليه السلام ) .
وفى شرح الأخبار : 1 / 268 : « قال وحشي : رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسفيه هداً ما يقوم له أحد ، فاستترت بشجرة أو قال بحجر منه ليدنو إلى فأرميه بالحربة من حيث لا يراني ، إذ لم أكن أقدر على مواجهته ، فإني على ذلك إذ بسباع بن عبد العزى قد سبقني إليه يريد نزاله . . ثم حمل عليه حمزة حملة أسد فضربه بالسيف ، فكأنما أخطى رأسه ووقف عليه وقد خر ميتاً وهو لا يراني ، وأرسلت الحربة إليه ، فأصبته في مقتل فسقط ميتاً ! يخبر وحشى بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد جاء مسلماً وسأله عن ذلك ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا وحشى غيب عنى وجهك ، فلا أراك » !
وفى تفسير القمي : 1 / 123 : « فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى وقف عليه فلما رأى ما فعل به بكى ثم قال : والله ما وقفت موقفاً قط أغْيظَ على من هذا المكان ! لئن أمكنني الله من قريش لأمثلن بسبعين رجلاً منهم ! فنزل عليه جبرئيل فقال : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بل أصبر . . فألقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على حمزة بُردة كانت عليه فكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه وإذا مدها على رجليه بدا رأسه ، فمدها على رأسه وألقى على رجليه الحشيش وقال : لولا أنى أحذر نساء بنى عبد المطلب لتركته للعادية والسباع حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع والطير ! وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالقتلى فجمعوا فصلى عليهم ودفنهم في مضاجعهم ، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة » .
وفى تاريخ اليعقوبي : 2 / 49 : « فجزع عليه رسول الله جزعاً شديداً وقال : لن أصاب بمثلك وكبَّر عليه خمساً وسبعين تكبيرة » .
--------------------------- 119 ---------------------------
وقال ابن هشام : 3 / 607 : « أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بحمزة فسجّى ببردة ، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ، ثم أتى بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة . قال ابن إسحاق : وقد أقبلت فيما بلغني صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه وكان أخاها لأبيها وأمها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لابنها الزبير بن العوام : إلقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها فقال لها : يا أمه ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يأمرك أن ترجعي ، قالت : ولم ؟ وقد بلغني أن قد مُثِّل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك ! لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله .
فلما جاء الزبير إلى رسول الله فأخبره بذلك ، قال : خل سبيلها ، فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له ، ثم أمر به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدفن » .
« عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة » . « مسند أحمد : 5 / 135 » . وروى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « أشهد أنكم أحياء عند الله ، فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفس محمد بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة » . مجمع الزوائد : 3 / 60 .
وفى كشف الغمة : 1 / 189 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سئل على منبر الكوفة عن قوله تعالي : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ ينْتَظِرُ . . فقال : اللهم غفراً ، هذه الآية نزلت في وفى عمى حمزة وفى ابن عمى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر ، وأما عمى حمزة فإنه قضى نحبه شهيداً يوم أحد ، وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذه ، وأومى بيده إلى لحيته ورأسه ، عهدٌ عهده إلى حبيبي أبو القاسم ( صلى الله عليه وآله ) » !
وفى شرح الأخبار : 1 / 282 : « ثم انصرف ( صلى الله عليه وآله ) راجعاً إلى المدينة وانصرف الناس معه ، فلما دخل المدينة مر على دور الأنصار وهم يبكون قتلاهم ، فذرفت عيناه ( صلى الله عليه وآله ) فبكى ثم قال : لكن حمزة لا بواكى له ! فأمر الأنصار نساءهم أن يبكين عليه ففعلن ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهن يبكين حمزة على باب المسجد فقال : إرجعن رحمكن الله ، فقد آسيتن بأنفسكن ، ونهاهن عن النوح وقال : كل نادبة
--------------------------- 120 ---------------------------
كاذبة إلا نادبة حمزة » . وقد روته مصادرهم ، كمسند أحمد : 1 / 463 وفتح الباري : 7 / 272 .
وفى الطرائف / 503 : « قيل لعبد الله بن يحيي : هل تصلى مع معاوية ؟ قال : لا والله لا أجد فرقاً بين الصلاة خلفه وبين الصلاة خلف امرأة يهودية حائض ، ولذا لو صليت خلفه تقية أعدتها ! وسئل شريك عن فضائل معاوية فقال : إن أباه قاتلَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو قاتلَ وصى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمه أكلت كبد حمزة عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وابنه قتل سبط النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وهو ابن زنا ! فهل تريد له منقبة بعد ذلك » !
23 - شهادة الحاخام مخيريق أفضل بني إسرائيل
في المناقب : 1 / 146 : « أسلم وقاتل مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأوصى بماله لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو سبع حوائط وهي : المينب ، والصايفه ، والحسني ، ويرقد ، والعواف ، والكلاء ، ومشربة أم إبراهيم » . وقد ذكرناه في اليهود بعد بدر .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 362 : « وكان من حديث مخيريق وكان حبراً عالماً ، وكان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل ، وكان يعرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصفته وما يجد في علمه ، وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك ، حتى إذا كان يوم أحُد وكان يوم أحُد يوم السبت قال : يا معشر يهود ، والله إنكم لتعلمون إن نصر محمد عليكم لحق ، قالوا : إن اليوم يوم السبت ، قال : لا سبت لكم ، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأحد ، وعهد إلى من وراءه من قومه : إن قتلت هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله ، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيما بلغني يقول : مخيريق خير يهود . وقبض رسول الله أمواله فعامة صدقات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة منها » .
24 - جهاد أبى دجانة الأنصاري « رحمه الله »
في شرح الأخبار : 1 / 273 : « أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيفاً بيده فهزه وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقال الزبير بن العوام : أنا يا رسول الله ، فأعرض عنه رسول الله وقال : من يأخذ بحقه ؟ فقام إليه أبو دجانة الأنصاري وكان من أبطال الأنصار فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : ألا يقف به في الكبول يعنى أواخر الصفوف وأن يضرب به
--------------------------- 121 ---------------------------
في العدو حتى ينحني . فقال : أنا آخذه يا رسول الله فدفعه إليه ، فأخذه أبو دجانة وهو مالك بن حرشة أخو بنى سعدة من الأنصار ، ثم أخرج عصابة معه حمراء فتعصب بها فقالت الأنصار : تعصب أبو دجانة عصابته قد نزل الموت ، وكان ذلك من فعله . ثم خرج يتبختر بين الصفين ويقول :
إني امرؤٌ عاهدنى خليلي * ونحن بالسفح لذي النخيل
ألا أقوم الدهر في الكبول * أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنها مشية يبغضها الله عز وجل إلا في مثل هذا المقام . قال الزبير : فقلت : منعني رسول الله السيف وأعطاه أبا دجانة ، والله لأتبعنه حتى لأنظر ما يصنع ، فاتبعته حتى هجم في المشركين فجعل لا يلقى منهم أحداً إلا قتله ، فقلت : الله ورسوله أعلم ! قال : وكان في المشركين رجل قد أبلى ولم يدع منا جريحاً إلا دق عليه أي قتله فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت الله أن يجمع بينهما ، فالتقيا واختلفا بضربتين فضرب المشرك أبا دجانة ضربة بسيفه فاتقاها أبو دجانة بدرقته فعضب السيف ، وضربه أبو دجانة فرمى برأسه !
ثم رأيته حمل السيف على مفرق رأس هند ابنة عتبة ثم عدله عنها ! فقيل : لأبى دجانة في ذلك ! فقال : رأيت إنساناً يخمِّش الناس خمشاً شديداً يعنى يحركهم القتال فصدرت إليه يعنى قصدته فلما حملت السيف على رأسه لأضربه وَلْوَلَ ، فإذا به امرأة فأكرمت سيف رسول الله من أن أضرب به امرأة » ! ومسلم : 7 / 151 .
وفى علل الشرائع : 1 / 7 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما كان يوم أحد انهزم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأبو دجانة سماك بن خرشة ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا دجانة أما ترى قومك ؟ قال : بلي . قال : إلحق بقومك قال : ما على هذا بايعت الله ورسوله ! قال : أنت في حل . قال : والله لا تتحدث قريش بأنى خذلتك وفررت حتى أذوق ما تذوق ! فجزَّاه النبي خيراً ، وكان على كلما حملت طائفة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استقبلهم وردهم حتى أكثر فيهم القتل والجراحات حتى انكسر سيفه ، فجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا
--------------------------- 122 ---------------------------
رسول الله إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي ، فأعطاه ( عليه السلام ) سيفه ذا الفقار ، فما زال يدفع به عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى أثَّر وانكسر ، فنزل عليه جبرئيل وقال : يا محمد ، إن هذه لهى المواساة من على لك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنه منى وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما » .
قال : مصنف هذا الكتاب « رحمه الله » : قول جبرئيل ( عليه السلام ) : وأنا منكما تمنٍّ منه لأن يكون منهما ، فلو كان أفضل منهما لم يقل ذلك ولم يتمن أن ينحط عن درجته إلى أن يكون ممن دونه ، وإنما قال : وأنا منكما ، ليصير ممن هو أفضل منه فيزداد محلاً إلى محله وفضلاً إلى فضله » .
ورواه فرات في تفسيره / 93 ، عن حذيفة وفيه : « فلما سمع رسول الله كلامه ورغبته في الجهاد إنتهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى صخرة فاستتر بها ليتقى بها من السهام سهام المشركين ، فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحة فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجلس إلى جنبه مثخناً لا حراك به » .
وفى الإرشاد : 2 / 386 ، عن المفضل عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « يخرج القائم ( عليه السلام ) من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلاً ، خمسة عشر من قوم موسى ( عليه السلام ) الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون ، وسبعة من أهل الكهف ، ويوشع بن نون ، وسلمان ، وأبا دجانة الأنصاري ، والمقداد ، ومالكاً الأشتر ، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً » . ومعجم أحاديث الإمام المهدي « عليه السلام » : 5 / 122 .
25 - جهاد نسيبة أم عمارة بنت كعب المازنية
في تفسير القمي : 1 / 115 : « وبقيت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نسيبة بنت كعب المازنية ، وكانت تخرج مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزواته تداوى الجرحي ، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه فقالت : يا بنى إلى أين تفر عن الله وعن رسوله ؟ ! فردته فحمل عليه رجل فقتله ، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بارك الله عليك يا نسيبة . وكانت تقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصدرها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة !
--------------------------- 123 ---------------------------
وحمل ابن قميئة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أروني محمداً لا نجوت إن نجا ، فضربه على حبل عاتقه ، ونادى قتلت محمداً واللات والعزي .
ونظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة فناداه : يا صاحب الترس ألق ترسك ومُرَّ إلى النار ! فرمى بترسه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان » .
وقال ابن هشام : 3 / 599 : « وقاتلت أم عمارة ، نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد . فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري : أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول : دخلت على أم عمارة ، فقلت لها : يا خالة أخبريني خبرك ، فقالت : خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس حتى خلصت الجراح إلي ، قالت : فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور ، فقلت : من أصابك بهذا ؟ قالت : ابن قمئة أقمأه الله ! لما ولى الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أقبل يقول : دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله فضربني هذه الضربة فلقد ضربته على ذلك ضربات ، ولكن عدو الله كان عليه درعان » .
وفى قاموس الرجال : 12 / 347 : « شهدت نسيبة العقبة مع زوجها ، وشهدت أحداً وشهدت اليمامة . قاتلت حين كر المشركون فضربها ابن قميئة ضربة بالسيف على عاتقها ، وقاتلت نسيبة يوم اليمامة فقطعت يدها وهى تريد
مسيلمة لتقتله » .
--------------------------- 124 ---------------------------
26 - دخل الجنة ولم يصلِّ ركعة
كان عمرو بن قيس قد تأخر إسلامه ، فلما بلغه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الحرب أخذ سيفه وترسه وأقبل كالليث العادي يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم خالط القوم فاستشهد ، فمر به رجل من الأنصار فرآه صريعاً بين القتلى فقال : « يا عمرو أنت على دينك الأول ؟ فقال معاذ الله ، والله إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم مات ! فقال رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا رسول الله إن عمرو بن قيس قد أسلم فهو شهيد ؟ فقال : إي والله إنه شهيد ، ما رجل لم يصل لله ركعة دخل الجنة غيره » .
27 - شهادة حنظلة غسيل الملائكة « رحمه الله »
في شرح الأخبار : 1 / 269 : « وبارز يومئذ أبو سفيان حنظلة بن أبي عامر الغسيل من الأنصار ، فصرع حنظلة أبا سفيان وعلاه ليقتله ، فرآه شداد بن الأسود فجاءه من خلفه فضربه فقتله ، وقام أبو سفيان من تحته ، وقال : حنظلة بحنظلة ! يعنى ابنه حنظلة المقتول ببدر ، الذي ذكر أن علياً ( عليه السلام ) قتله يومئذ .
ولما انهزم المشركون عن أحد وقف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على قتلى المسلمين ، وأمر بدفنهم في مصارعهم ، ورد من حمل منهم فدفن هناك ، وأمر بدفنهم في ثيابهم وبدمائهم من غير أن يغسلوا كما يفعل بالشهداء ، فرأى الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر الأنصاري . فلما قدم المدينة قال : سلوا عنه امرأته . فقالت : فلما سمع بخروج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرج مبادراً وهو جنب من قبل أن يغتسل . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فلذلك ما رأيت من غسل الملائكة إياه » . ونحوه ابن هشام : 3 / 592 .
وفى تفسير القمي : 1 / 112 : « وكان حنظلة بن أبي عامر رجل من الخزرج ، قد تزوج في تلك الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد ، بنت عبد الله بن أبي سلول ودخل بها في تلك الليلة . . فأصبح وخرج وهو جنب ، فحضر القتال فبعثت امرأته إلى أربعة نفر من الأنصار لما أراد حنظلة أن يخرج من عندها وأشهدت عليه أنه قد واقعها ، فقيل
--------------------------- 125 ---------------------------
لها : لم فعلت ذلك ؟ قالت رأيت في هذه الليلة في نومى كأن السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ثم انضمت ، فعلمت أنها الشهادة ، فكرهت أن لا أشهد عليه فحملت منه . فلما حضر القتال نظر حنظلة إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكرين فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرص وسقط أبو سفيان إلى الأرض وصاح : يا معشر قريش أنا أبو سفيان ، وهذا حنظلة يريد قتلي ، وعدا أبو سفيان ومر حنظلة في طلبه ، فعرض له رجل من المشركين فطعنه ، فمشى المشرك في طعنته فضربه فقتله ، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن حزام وجماعة من الأنصار ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : رأيت الملائكة يغسلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحائف من ذهب ، فكان يسمى غسيل الملائكة » .
28 - جهاد رُشَيد الهَجَرى في أحُد
واسمه عبد الرحمن بن عقبة ، قال : « شهدت مع نبي الله يوم أحد فضربت رجلاً من المشركين فقلت : خذها منى وأنا الغلام الفارسي ، فبلغت النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هلا قلت : خذها منى وأنا الغلام الأنصاري » . أحمد : 5 / 295 ، راجع : جواهر التاريخ : 2 / 406 .
29 - أبو عزة الذي أراد اغتيال النبي « صلى الله عليه وآله »
في الخرائج : 1 / 149 : « كان أبو عزة الشاعر ، حضر مع قريش يوم بدر يحرض قريشاً بشعره على القتال ، فأسر في السبعين الذين أسروا . فلما وقع الفداء على القوم قال أبو عزة : يا أبا القاسم تعلم أنى رجل فقير فامنن على بناتي ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إن أطلقتك بغير فداء أتكثر علينا بعدها ؟ قال : لا والله . فعاهده أن لا يعود ، فلما كانت حرب أحد دعته قريش إلى الخروج معها ليحرض الناس بشعره على القتال ، فقال : إني عاهدت محمداً ألا أكثر عليه بعدما من علي . قالوا : ليس هذا من ذاك ، إن محمداً لا يسلم منا في هذه الدفعة ، فقلبوه عن رأيه فلم يؤسر يوم أحد من قريش غيره ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ألم تعاهدني ؟ قال : إنما غلبوني
--------------------------- 126 ---------------------------
على رأيي فامنن على بناتي . قال : لا ، تمشى بمكة وتحرك كتفيك فتقول : سخرت من محمد مرتين ! المؤمن لايلسع من جحر مرتين ! يا علي اضرب عنقه » . والخلاف : 4 / 193
وابن إسحاق : 3 / 302 .
30 - النبي « صلى الله عليه وآله » يشفى عين قتادة من أجل عروسه
في كشف الغمة : 1 / 187 : « أصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته ، قال : فجئت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : يا رسول الله إن تحتى امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني ، وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني ! فأخذها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فردها فأبصرت وعادت كما كانت لم تؤلمه ساعة من ليل أو نهار ، فكان يقول : بعد أن أسن هي أقوى عيني ، وكانت أحسنهما » . ونحوه الإحتجاج : 1 / 332 والثاقب في المناقب / 64 .
31 - عندما اضطرب المسلمون قتلوا والد حذيفة خطأ !
« اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبى حذيفة يوم أحد ولا يعرفونه ، فقتلوه ، فأراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يدِيه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين » . أحمد : 5 / 429 .
32 - لعن النبي « صلى الله عليه وآله » أبا سفيان يوم أحُد
روى في الخصال / 397 ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، قال : « إن رسول لله ( صلى الله عليه وآله ) لعن أبا سفيان في سبعة مواطن في كلهن لا يستطيع إلا أن يلعنه ، أولهن : يوم لعنه الله ورسوله وهو خارج من مكة إلى المدينة مهاجراً وأبو سفيان جائى من الشام ، فوقع فيه أبو سفيان يسبه ويوعده وهمَّ أن يبطش به فصرفه الله عن رسوله .
والثانية : يوم العير إذا طردها ليحرزها عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلعنه الله ورسوله .
والثالثة : يوم أحد قال أبو سفيان : أُعل هبل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان : لنا عزى ولا عزى لكم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الله مولانا ولا مولى لكم .
والرابعة : يوم الخندق يوم جاء أبو سفيان في جميع قريش فرد هم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وأنزل الله عز وجل في القرآن آيتين في سورة الأحزاب فسمى أبا سفيان وأصحابه كفاراً ، ومعاوية مشرك عدو لله ولرسوله .
--------------------------- 127 ---------------------------
والخامسة : يوم الحديبية والهدى معكوفاً أن يبلغ محله ، وصد مشركوا قريش رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن المسجد الحرام وصدوا بُدْنَهُ أن تبلغ المنحر ، فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يطف بالكعبة ولم يقض نسكه ، فلعنه الله ورسوله .
والسادسة : يوم الأحزاب يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش وعامر بن الطفيل بجمع هوازن وعيينة بن حصن بغطفان ، وواعد لهم قريظة والنضير أن يأتوهم فلعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القادة والأتباع وقال : أما الأتباع فلا تصيب اللعنة مؤمناً ، وأما القادة فليس فيهم مؤمن ولا نجيب ولا ناج .
والسابعة : « يوم حملوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في العقبة وهم اثنا عشر رجلاً من بنى أمية وخمسة من سائر الناس فلعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من على العقبة غير النبي ( صلى الله عليه وآله ) وناقته وسائقه وقائده . قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : جاء هذا الخبر هكذا . والصحيح أن أصحاب العقبة كانوا أربعة عشر » . والاحتجاج : 1 / 408 وشرح الأخبار : 2 / 165 .
33 - لماذا قرر المشركون أن يبقوا عمر بن الخطاب ولا يقتلوه ؟
قال ابن هشام : 2 / 282 : « وكان ضرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد ، فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول : أنج يا ابن الخطاب . لا أقتلك ! فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه » ! وقد عقد في الصحيح من السيرة : 6 / 235 فصلاً ، لمعرفة سبب قول ضرار بن الخطاب لعمر بن الخطاب : « والله ما كنت لأقتلك » ! وكان ضرار بن الخطاب مقرباً من أبي سفيان ، وهو من فرسان قريش وشعرائها ، وشعره في هجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) مشهور !
وكذا جرى لعمر في غزوة الخندق وتعمد المشركين تركه وعدم المساس به !
34 - فداءً لك يا رسول الله !
« عن أنس قال : « لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة فقالوا : قتل محمد ! حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة ، فخرجت امرأة من الأنصار متحزنة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها ، لا أدرى أيهم استقبلت أولاً ، فلما
--------------------------- 128 ---------------------------
مرت على آخرهم قالت : من هذا ؟ قالوا : أخوك وأبوك وزوجك وابنك ! قالت : ما فعل النبي ؟ قالوا : أمامك ، فمشت حتى جاءت إليه فأخذت بناحية ثوبه وجعلت تقول : بأبى أنت وأمي يا رسول الله لاأبالى إذا سلمت من عطب » مسكن الفؤاد / 72 .
35 - بركة النبي « صلى الله عليه وآله » على تمر جابر الأنصاري
في الخرائج : 1 / 154 ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : « استشهد والدي بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم أحد وهو ابن مائتي سنة ، وكان عليه دين ، فلقيني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوماً فقال : ما فعل دين أبيك ؟ قلت : على حاله . فقال : لمن هو ؟ قلت : لفلان اليهودي . قال : متى حينه ؟ قلت : وقت جفاف التمر . قال : إذا جففت التمر فلا تحدث فيه حتى تعلمني واجعل كل صنف من التمر على حدة . ففعلت ذلك وأخبرته ( صلى الله عليه وآله ) ، فصار معي إلى التمر وأخذ من كل صنف قبضة بيده وردها فيه ، ثم قال : هات اليهودي . فدعوته فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إختر من هذا التمر أي صنف شئت فخذ دينك منه . فقال اليهودي : وأي مقدار لهذا التمر كله حتى آخذ صنفاً منه ؟ ولعل كله لا يفي بديني ! فقال : إختر أي صنف شئت فابتدئ به ، فأومى إلى صنف الصيحاني فقال : أبتدئ به ؟ فقال : إفعل باسم الله ، فلم يزل يكيل منه حتى استوفى منه دينه كله ، والصنف على حاله ما نقص منه شئ ! ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : يا جابر هل بقي لأحد عليك شئ من دينه ؟ قلت : لا . قال : فاحمل تمرك بارك الله لك فيه ، فحملته إلى منزلي وكفانا السنة كلها ، فكنا نبيع لنفقتنا ومؤونتنا ونأكل منه ، ونهب منه ونهدي ، إلى وقت التمر الحديث ، والتمر على حاله إلى أن جاءنا الجديد » .
36 - قزمان مثلٌ لسيئ التوفيق
في سيرة بن هشام : 2 / 368 و 605 : « قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : كان فينا رجل أتى لا يدرى ممن هو يقال له قزمان ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول إذا ذكر له : إنه لمن أهل النار ! قال : فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس ، فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بنى
--------------------------- 129 ---------------------------
ظفر . قال : فجعل رجال من المسلمين يقولون له : والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر . قال : بماذا أبشر ؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت . قال : فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته فقتل به نفسه » !
37 - عثمان يؤوى عمه المشرك القاتل !
كان معاوية بن المغيرة بن العاص الأموي ابن عم عثمان بن عفان ، شديد العداء للنبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى هدر دمه ، وهو جدُّ عبد الملك بن مروان لأمه .
وكان مع أبي سفيان في جيش أحد ، ولما انهزم القرشيون أمام المسلمين في الجولة الأولى هرب ابن المغيرة فدخل المدينة وآوى إلى بيت ابن عمه عثمان ، فتشفع فيه عثمان وألح على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأمهله ثلاثاً على أن لا يراه في المدينة ولا حولها ، ولعن من أعانه وجهزه فجهزه عثمان ، وتأخر في المدينة ليأخذ أخبار النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقريش ! فنزل جبرئيل وأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمكانه أيام حمراء الأسد ، فأرسل علياً وعماراً فقتلاه ! وحكى الإمام الصادق ( عليه السلام ) قصته كما في الكافي : 3 / 251 قال : « إن الفاسق آوى عمه المغيرة بن أبي العاص وكان ممن هدر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دمه ، فقال لابنة رسول الله : لا تخبري أباك بمكانه كأنه لا يوقن أن الوحي يأتي محمداً ! فقالت : ما كنت لأكتم رسول الله عدوه ! فجعله بين مشجب له ولحفه بقطيفة ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوحي فأخبره بمكانه فبعث إليه علياً ( عليه السلام ) وقال : اشتمل على سيفك وائت بيت ابنة ابن عمك ، فإن ظفرت بمعاوية بن المغيرة فاقتله !
فأتى البيت فجال فيه فلم يظفر به فرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره فقال : يا رسول الله لم أره ، فقال : إن الوحي قد أتاني فأخبرني أنه في المشجب ! ودخل عثمان بعد خروج على فأخذ بيد عمه فأتى به النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلما رآه أكب عليه ولم يلتفت إليه ! وكان نبي الله ( صلى الله عليه وآله ) حيياً كريماً فقال : يا رسول الله هذا عمي ، هذا المغيرة بن أبي العاص وقد والذي بعثك بالحق آمنته . قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : وكذب ، والذي بعثه بالحق ما آمنه ! فأعادها ثلاثاً أنى آمنته ، وأعادها أبو عبد الله ( عليه السلام ) ثلاثاً ، إلا أنه يأتيه
--------------------------- 130 ---------------------------
عن يمينه ثم يأتيه عن يساره ، فلما كان في الرابعة رفع رأسه إليه فقال له : قد جعلته لك ثلاثاً فإن قدرتُ عليه بعد ثالثة قتلته ، فلما أدبر قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم العن المغيرة بن أبي العاص ، والعن من يؤويه ، والعن من يحمله ، والعن من يطعمه ، والعن من يسقيه ، والعن من يجهزه ، والعن من يعطيه سقاء أو حذاء أو رشاء أو وعاء ، وهو يعدهن بيمينه !
وانطلق به عثمان فآواه وأطعمه وسقاه وحمله وجهزه ، حتى فعل جميع ما لعن عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) من يفعله به ! ثم أخرجه في اليوم الرابع يسوقه فلم يخرج من أبيات المدينة حتى أعطب الله راحلته ونقب حذاه وورمت قدماه ، فاستعان بيديه وركبتيه وأثقله جهازه حتى وجس به ، فأتى شجرة فاستظل بها ، لو أتاها بعضكم ما أبهره ذلك ! فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوحي فأخبره بذلك فدعا علياً ( عليه السلام ) فقال : خذ سيفك وانطلق أنت وعمار وثالث لهم فأت المغيرة بن أبي العاص تحت شجرة كذا وكذا ، فأتاه على فقتله .
فضرب عثمان بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أنت أخبرت أباك بمكانه ! فبعثت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تشكو ما لقيت ، فأرسل إليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إقنى حياءك ، ما أقبح بالمرأة ذات حسب ودين في كل يوم تشكو زوجها ! فأرسلت إليه مرات كل ذلك يقول لها ذلك ، فلما كان في الرابعة دعا علياً ( عليه السلام ) وقال : خذ سيفك واشتمل عليه ثم ائت بيت ابنة ابن عمك فخذ بيدها ، فإن حال بينك وبينها أحد فاحطمه بالسيف ، وأقبل بها إلى رسول الله ! فلما نظرت إليه رفعت صوتها بالبكاء واستعبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبكي ، ثم أدخلها منزله وكشفت عن ظهرها ، فلما أن رأى ما بظهرها قال : ثلاث مرات : ماله قتلك قتله الله ! وكان ذلك يوم الأحد ، وبات عثمان ملتحفاً بجاريتها فمكث الاثنين والثلاثاء وماتت في اليوم الرابع ، فلما حضر أن يخرج بها أمر رسول الله ( عليه السلام ) فاطمة « عليها السلام » فخرجت ونساء المؤمنين معها ، وخرج عثمان يشيع جنازتها ، فلما نظر إليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : من أطاف البارحة بأهله أو بفتاته فلا يتبعن جنازتها ! قال ذلك ثلاثاً ، فلم ينصرف فلما كان في الرابعة قال : لينصرفن أولأسمين باسمه ، فأقبل عثمان متوكئاً على مولى له ممسك ببطنه فقال : يا رسول الله إني أشتكى بطني ،
فإن رأيت أن تأذن لي أنصرف ، قال : انصرف . وخرجت فاطمة « عليها السلام » ونساء المؤمنين
--------------------------- 131 ---------------------------
والمهاجرين فصلين على الجنازة » . راجع الصحيح من السيرة : 6 / 206 ، الخرائج : 1 / 94 ، الدرر / 158 وابن هشام : 3 / 617 .
38 - أسماء شهداء أحُد وقتلى المشركين فيها
في سيرة ابن هشام : 3 / 635 : » قال ابن إسحاق : واستشهد من المسلمين يوم أحد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من المهاجرين من قريش ، ثم من بني هاشم بن عبد مناف : حمزة بن عبد المطلب بن هشام رضي الله عنه ، قتله وحشي ، غلام جبير بن مطعم . ومن بنى أمية بن عبد شمس : عبد الله بن جحش ، حليف لهم ، من بنى أسد بن خزيمة . ومن بنى عبد الدار بن قصي : مصعب بن عمير قتله ابن قمئة الليثي . ومن بنى مخزوم بن يقظة : شماس بن عثمان . أربعة نفر . ومن الأنصار ، ثم من بنى عبد الأشهل : عمرو بن معاذ بن النعمان ، والحارث بن أنس بن رافع ، وعمارة بن زياد بن السكن . قال ابن هشام : السكن : ابن رافع بن امرئ القيس ، ويقال : السكن . قال ابن إسحاق : وسلمة بن ثابت بن وقش ، وعمرو بن ثابت بن وقش . رجلان .
قال ابن إسحاق : وقد زعم لي عاصم بن عمر بن قتادة : أن أباهما ثابتاً قتل يومئذ . ورفاعة بن وقش ، وحسيل بن جابر ، أبو حذيفة وهو اليمان ، أصابه المسلمون في المعركة ولا يدرون ، فتصدق حذيفة بديته على من أصابه .
وصيفي بن قيظي ، وحباب بن قيظي ، وعباد بن سهل ، والحارث بن أوس بن معاذ . اثنا عشر رجلاً . ومن أهل راتج : إياس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن زعوراء بن جشم بن عبد الأشهل ، وعبيد بن التيهان .
قال ابن هشام : ويقال : عتيك بن التيهان وحبيب بن يزيد بن تيم . ثلاثة نفر . ومن بنى ظفر : يزيد بن حاطب بن أمية بن رافع . رجل ومن بنى عمرو بن عوف ، ثم من بنى ضبيعة بن زيد : أبو سفيان بن الحارث ابن قيس بن زيد ، وحنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن نعمان بن مالك بن أمة ، وهو غسيل الملائكة ، قتله
شداد بن الأسود بن شعوب الليثي . رجلان .
--------------------------- 132 ---------------------------
قال ابن هشام : قيس : ابن زيد بن ضبيعة ، ومالك : ابن أمة بن ضبيعة .
قال ابن إسحاق : ومن بنى عبيد بن زيد : أنيس بن قتادة . رجل . ومن بنى ثعلبة بن عمرو بن عوف : أبو حية ، وهو أخو سعد بن خثيمة لأمه . قال ابن هشام : أبو حية : ابن عمرو بن ثابت . قال ابن إسحاق : وعبد الله بن جبير النعمان وهو أمير الرماة . رجلان . ومن بنى السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس : خيثمة أبو سعد بن خيثمة . رجل . ومن حلفائهم من بنى العجلان : عبد الله بن سلمة رجل . ومن بنى معاوية بن مالك : سبيع بن حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة . رجل .
قال ابن هشام : ويقال . سويبق بن الحارث بن حاطب بن هيشة .
قال ابن إسحاق : ومن بنى النجار ، ثم من بنى سواد بن مالك بن غنم : عمرو بن قيس ، وابنه قيس بن عمرو . قال ابن هشام : عمرو بن قيس : ابن زيد بن سواد .
قال ابن إسحاق : وثابت بن عمرو بن زيد ، وعامر بن مخلد . أربعة نفر . ومن
بنى مبذول : أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو بن ثقف بن مالك بن مبذول ، وعمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو . رجلان . ومن بنى عمرو بن مالك : أوس بن
ثابت بن المنذر . رجل .
قال ابن هشام : أوس بن ثابت ، أخو حسان بن ثابت . قال ابن إسحاق : ومن بنى عدى بن النجار : أنس بن النضر بن ضمضم ابن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار . رجل ، قال ابن هشام : أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك : خادم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . ومن بنى مازن بن النجار : قيس بن مخلد ، وكيسان ، عبد لهم . رجلان . ومن بنى دينار بن النجار : سليم بن الحارث ، ونعمان بن عبد عمرو . رجلان . ومن بنى الحارث بن الخزرج : خارجة بن زيد بن أبي زهير ، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير ، دفنا في قبر واحد ، وأوس بن الأرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب . ثلاثة نفر . ومن بنى الأبجر ، وهم بنو خدرة : مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر ، وهو أبو أبي سعيد الخدري . قال ابن هشام : اسم أبي سعيد الخدري : سنان ، ويقال : سعد . قال ابن إسحاق : وسعيد بن سويد بن قيس بن عامر بن عباد بن
--------------------------- 133 ---------------------------
الأبجر ، وعتبة بن ربيع بن رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر . ثلاثة نفر . ومن بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج : ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد ابن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة ، وثقف بن فروة بن البدي . رجلان . ومن بنى طريف ، رهط سعد بن عبادة : عبد الله بن عمرو بن وهب ابن ثعلبة بن وقش بن ثعلبة بن طريف ، وضمرة ، حليف لهم من بنى جهينة . رجلان . ومن بنى عوف بن الخزرج ، ثم من بنى سالم ، ثم من بنى مالك بن العجلان ابن زيد بن غنم بن سالم : نوفل بن عبد الله ، وعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك ابن العجلان ، ونعمان بن مالك بن ثعلبة بن فهر بن غنم بن سالم ، والمجذر بن زياد ، حليف لهم من بلي ، وعبادة بن الحسحاس . دفن النعمان بن مالك ، والمجذر ، وعبادة ، في قبر واحد . خمسة نفر . ومن بنى الحبلي : رفاعة بن عمرو . رجل ، ومن بنى سلمة ، ثم من بنى حرام : عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام ، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام ، دفنا في قبر واحد ، وخلاد بن عمرو بن الجموح ، وأبو أيمن ، مولى عمرو بن الجموح . أربعة نفر . ومن بنى سواد بن غنم : سليم بن عمرو بن حديدة ، ومولاه عنترة ، وسهل ابن قيس بن أبي كعب بن القين . ثلاثة نفر . ومن بنى زريق بن عامر : ذكوان بن عبد قيس وعبيد بن المعلى بن لوذان . رجلان . قال ابن إسحاق : فجميع من استشهد من المسلمين مع رسول الله من المهاجرين والأنصار خمسة وستون رجلاً .
قال ابن هشام : وممن لم يذكر ابن إسحاق من السبعين الشهداء الذين ذكرنا ، من الأوس ، ثم من بنى معاوية بن مالك : بن تميلة ، حليف لهم من مزينة . ومن بنى خطمة - واسم خطمة : عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس - الحارث بن عدي بن خرشة بن أمية بن عامر بن خطمة . ومن بنى الخزرج ، ثم من بنى سواد بن مالك : مالك بن إياس . ومن بنى عمرو بن مالك بن النجار : إياس بن عدي . ومن بنى سالم بن عوف : عمرو بن إياس .
- *
--------------------------- 134 ---------------------------
الفصل السابع والأربعون
آيات معركة أحد كشفت أكثرية الصحابة !
ستون آية في معركة أحد
نزلت في معركة أحد أكثر من ستين آية ، فيها حقائق مهمة عملَ رواة الحكومة القرشية على إخفائها أو تحريفها ، لمدح بعض الصحابة أو التغطية عليهم ، وسلب مناقب آخرين ! ونورد فيما يلي نص الآيات ، وفهرساً لأهم موضوعاتها :
قال الله تعالى في سورة آل عمران : « وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يكْفِيكُمْ أَن يمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ . بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . لِيقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يكْبِتَهُمْ فَينْقَلِبُوا خَائِبِينَ . لَيسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئٌ أَوْ يتُوبَ عَلَيهِمْ أَوْ يعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ . وَللهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأرض يغْفِرُ لِمَنْ يشَاءُ وَيعَذِّبُ مَنْ يشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ . وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ . وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ ينْفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يصِرُّوا
--------------------------- 135 ---------------------------
عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ . قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأرض فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ . هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .
ولاتَهِنُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِن يمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ وَلِيعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لايحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيمْحَقَ الْكَافِرِينَ .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيعْلَمَ الصَّابِرِينَ . وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ .
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ ينْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيهِ فَلَنْ يضُرَّ اللهَ شَيئًا وَسَيجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ .
وبعدها آية الانقلاب والكفر الذي حصل في الصحابة لخبر قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ ينْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيهِ فَلَنْ يضُرَّ اللهَ شَيئًا وَسَيجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ !
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ .
وَكَأَينْ مِنْ نَبِى قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَخَيرُ النَّاصِرِينَ .
سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ ينَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ . وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الأمر وَعَصَيتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يرِيدُ الأَخِرَةَ ثُمَّ
--------------------------- 136 ---------------------------
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاتَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَى لا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يظُنُّونَ بِاللهِ غَيرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيةِ يقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَئٍْ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ يخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِمْ مَا لايبْدُونَ لَكَ يقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِى بُيوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيبْتَلِى اللهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ .
يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لآخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِى الأرض أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يحْيى وَيمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيرٌ مِمَّا يجْمَعُونَ . وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللهِ تُحْشَرُونَ .
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ . إِنْ ينْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى ينْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَمَا كَانَ لِنَبِى أَنْ يغُلَّ وَمَنْ يغْلُلْ يأْتِ بِمَا غَلَّ يوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لايظْلَمُونَ .
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يعْمَلُونَ . لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يتْلُوا عَلَيهِمْ آياتِهِ وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ .
أَوَلَمّآ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . وَمَا أَصَابَكُمْ يوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلِيعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإِيمَانِ يقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَالَيسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يكْتُمُونَ . الَّذِينَ قَالُوا لآخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وَلاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
--------------------------- 137 ---------------------------
وَيسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلا هُمْ يحْزَنُونَ . يسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لايضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ . الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَلايحْزُنْكَ الَّذِينَ يسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يضُرُّوا اللهَ شَيئًا يرِيدُ اللهُ أَلا يجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمان لَنْ يضُرُّوا اللهَ شَيئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلايحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . مَا كَانَ اللهُ لِيذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيهِ حَتَّى يمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيبِ وَلَكِنَّ اللهَ يجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ .
وَلايحْسَبَنَّ الَّذِينَ يبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيطَوَقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يوْمَ الْقِيامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .
لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِياءَ بِغَيرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقَ . ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ . الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَينَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِى بِالْبَينَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَينَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ . لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور . وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَينُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاتَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يشْتَرُونَ .
لاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيحِبُّونَ أَنْ يحْمَدُوا بِمَا لَمْ يفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ
--------------------------- 138 ---------------------------
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ . إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِى الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يذْكُرُونَ اللهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . رَبَّنأَ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيا ينَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاتُخْزِنَا يوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ . فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاأُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ . آل عمران : 121 - 195 .
أهم موضوعات آيات أحد
1 . ذكرت الآية الأولى ذهاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) صباحاً ليختار مكاناً لمعسكر المسلمين في أحُد ، ثم ذكَّرهم الله تعالى بحركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد صلاة الجمعة إلى أحد ، وكيف تخلف عنه المنافقون وهم ثلث الجيش بقيادة رئيسهم ابن سلول ، فهمت طائفتان من غيرهم أن تتخلفا ، وهم بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، لكن الله عصمهم . البحار : 20 / 17 .
2 . وجاءت الآيات السبع بعدها تذكيراً ببدر : وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ . إلى قوله : غَفُورٌ رَحِيمٌ . فذكرهم بنصره إياهم وقد كانوا قلة ضعفاء ، وأخبرهم أنه عز وجل هو الذي يدير الصراع مع المشركين ، وفق المصلحة التي تهدف إلى نصرة نبيه وتثبيت دينه ، والمغفرة لمن يشاء من عباده وتعذيب بعض من يستحق .
3 . وجاءت الآيات التسع بعدها : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً . . إلى قوله : وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ، توجيهات اقتصادية واجتماعية وتربوية للمسلمين .
4 . والآيات الثلاث بعدها : ولاتَهِنُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ . . إلى قوله : يمْحَقَ الْكَافِرِينَ ، توجيه للمسلمين أن لايضعفوا لما أصابهم في معركة أحد من قتل وجراح وهزيمة ، وأخبرهم بأن الله تعالى أذن بذلك ليحقق أربعة أهداف : تمييز المؤمنين ، واتخاذ الشهداء منهم ، وتمحيص المؤمنين ، ومحق الكافرين .
--------------------------- 139 ---------------------------
5 . ثم نبهت الآية بعدها : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ . . المسلمين أن لا يتصوروا أنهم يمكنهم أن يدخلوا الجنة بدون أن يثبتوا عملياً جهادهم وصبرهم !
6 . ثم وبختهم الآية : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ . . بأنهم كانوا قبل أحُد يتمنون الموت في سبيل الله ، لكنهم عندما رأوا الموت والشهادة هرب أكثرهم !
7 . وبعدها آية الانقلاب : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . . تحدثت عن انقلاب الصحابة عندما شاع خبر قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وقال بعضهم : لو كان نبياً ما قتل ! وقال بعضهم : إرجعوا إلى دينكم الأول ! وقال بعضهم : من يذهب ويأخذ لنا أماناً من أبي سفيان !
8 . وقررت الآية بعدها : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ . . أن تعريض الإنسان نفسه للشهادة لايقصِّر عمره ، لأن الموت حتى لو تمت شروطه الظاهرة لا يتحقق إلا بإذن خاص من الله تعالى ! وهو إذن يتبع قانون الثواب والعقاب ، وهو قانونٌ يتبع إرادة الإنسان ونيته !
9 . ثم مدح الله عز وجل في الآيات الثلاث التي بعدها من سماهم الرِّبِّيين : وَكَأَينْ مِنْ نَبِى قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيونَ كَثِيرٌ . وهم الذين ثبتوا في المعركة ولم يضعفوا ولم يستكينوا ، فهو نص بمدح على وأبى دجانة ونسيبة ، ومن ثبت من الصحابة واستشهد في الجولة الثانية ، وأولهم حمزة .
10 . ثم كشف عز وجل في الآيتين بعدها : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا . . عن تأثير الكفار على بعض الصحابة لأنهم يتولونهم ! وحذرهم من أن موالاتهم تجرهم إلى الانقلاب على أعقابهم ، وأن عليهم أن يتولوا بدلهم الله تعالى ومن أمرهم بموالاته : بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَخَيرُ النَّاصِرِينَ !
11 . وفى الخمس آيات التي تلتها : سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ . . إلى قوله : إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ، تحدث عز وجل عن معركة أحد وانتصارهم فيها أولاً ، ثم انهيارهم وفرارهم المعيب ، وتركهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهجوم المشركين وسيوفهم ،
--------------------------- 140 ---------------------------
وهروبهم إلى جبل أحُد وغيره ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يناديهم فلا يرجعون !
ومع ذلك فقد وعدهم بأنه سيلقى الرعب في قلوب الكفار في المعركة القادمة وذكرهم بأنه صدقهم وعده في أحُد ، ولكنهم لما رأوا النصر والغنائم نسوا ربهم وأرادوا الدنيا فابتلاهم بالهزيمة ، وقلَّ منهم الربيون الذين ثبتوا وأرادوا الآخرة .
12 . وفى الآيات الثلاث التي تلتها : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا . . إلى قوله : لإلَى اللهِ تُحْشَرُونَ ، صحح الله عز وجل نظرتهم إلى الموت ، ونهاهم عن نظرة الكفار التي ابتلاهم الله بها لتكون حسرة في قلوبهم . بينما النظرة الإسلامية للموت بأنه مجرد انتقال إلى الأحسن ، وحشرٌ إلى الله تعالى .
13 . وفى الآيات الثلاث التي تلتها : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ . . إلى قوله : وَهُمْ لايظْلَمُونَ ، أخبر نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بأن لينه مع المسلمين كان من أسباب نجاحه وإلا لنفروا منه وعنه ، وأوصاه أن يواصل هذا اللين ويطيب خاطرهم ويعفو عن أخطائهم ويستغفر الله لهم ، ويشاورهم فيما يناسب من الأمور ، فإذا عزم حسب أمر ربه ، فليتوكل عليه ولا يهتم بمن خالفه .
ثم وبَّخ الذين اتهموه ( صلى الله عليه وآله ) بأنه غلَّ قطيفة من الغنائم ، وأوضح لهم أن الغل لا وجود له عند الأنبياء ( عليه السلام ) لأنهم يريدون الآخرة ، أما الذين يريدون الدنيا ويخونون المال العام ، فهم غير الأنبياء والأوصياء « عليهم السلام » وخيار المؤمنين !
14 . وفى الأربع التي تلتها : أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ إلى قوله : إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ نبه المسلمين إلى عدم الخلط في المقاييس ونوعيات الناس ، وأن لايجعلوا الذين اتبعوا رضوان الله كمن خانوا الله ورسوله والمسلمين ، فغلوا أو نقضوا بيعتهم وفروا من المعركة ! ونبههم إلى أن درجات هؤلاء متفاوتة عند الله تعالى .
15 . وفى الآيات السبع التي تلتها : وَلاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا إلى قوله : وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، أخبر عز وجل عن حياة الشهداء عند ربهم ونعيمهم ، وأنهم يستبشرون بمن بقي منهم حياً من الربيين : الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ . . وخرجوا
--------------------------- 141 ---------------------------
في اليوم التالي لتعقب المشركين وإبلاغهم رسالة قوة . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ . .
16 . وفى الآيات الأربع : وَلايحْزُنْكَ الَّذِينَ يسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ . . . إلى قوله : فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، عزَّى الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) عن خسارة الذين كانوا « مسلمين » فسارعوا بالكفر واشتروه بالإيمان وكفروا بالكامل ، فهددهم بالعذاب الأليم ، وأخبرهم بأنه يملى لهم ويمهلهم إلى مدة ، فلا يغتروا بذلك !
ثم بين عز وجل أن « المؤمنين » من الصحابة وغيرهم فيهم الخبيث والطيب ، وأن القانون الإلهى يعمل فيهم لفرزهم : حَتَّى يمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيبِ ، وأن هذا القانون وانطباقاته من غيب الله تعالى الذي لا يطلع عليه المؤمنين !
17 . ثم تحدث عز وجل في الآيات الخمس التي تلتها : وَلايحْسَبَنَّ الَّذِينَ يبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ . . إلى قوله : وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ، عن بخل بعض الأغنياء عن الإنفاق في سبيل الله ، وأشار إلى منطق البخل عند جيرانهم اليهود الذين قالوا إن الله فقير يطلب منا الإنفاق ، وقالوا إن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) لم يأتنا بالآية المكتوبة عندنا .
18 . ثم بين تعالى في خمس آيات أن الدنيا كلها موقتة وعمر الإنسان فيها محدود : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ . . والجزاء على العمل يوم القيامة .
ونبه المسلمين على أن ابتلاءات وخسارات في الأنفس والأموال تنتظرهم ، وأذى من أهل الكتاب والمشركين . فلا يكونوا كأهل الكتاب الذين نبذوا الكتاب وحرفوه لأغراض دنيوية . ثم حذر الذين يفرحون بقدراتهم ويحبون أن تنسب إليهم مناقب كاذبة ، بأنهم سيصيبهم العذاب !
19 . وختم عز وجل آياته عن معركة أحد بلوحة من خمس آيات : إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأرض . . رسمت المؤمنين الرِّبيين ، المهاجرين منهم خاصة ، في مستواهم الفكري الرفيع ومعرفتهم بالله تعالى ومفاهيمهم عنه ، وعبادتهم له وتضرعهم اليه بأن يختم لهم مع الأبرار . فاستجاب لهم بأنه سيجزيهم رجالاً ونساءً ثواباً
--------------------------- 142 ---------------------------
حسناً ، لإيمانهم ، وهجرتهم ، وإخراجهم من ديارهم ، وتحملهم الأذي ، وقتالهم وشهادتهم في سبيله ! وهذا لا ينطبق إلا على قلة قليلة من المهاجرين ، وعمدتهم عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبرار بني هاشم .
حقائق مهمة في آيات أحُد
في هذه الآيات أبحاث مهمة نشير إلى أكثرها مساساً بأحُد وسيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
أ . قلنا إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذهب صباح الجمعة أو الخميس سراً واستطلع معسكر قريش واختار مكان معسكره ، بدليل قوله تعالي : وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ . . وكتم ذلك كما كتمه الله تعالى وأشار له بخفاء . وهذا من الحكمة النبوية واللين بالمسلمين .
ب . نزلت آيات بدر ضمن آيات أحُد لتذكير المسلمين بنصر الله لهم ، وأن قانونه في ذلك لم يتغير وإنما تغير المسلمون بحبهم للغنيمة ثم تركوها وانهزموا ! وقال لهم في سورة الأنفال وهى سورة بدر : ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يكُ مُغَيرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يغَيرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . « الأنفال : 53 » . فالتغيير إلى الأسوأ بسلب النعمة الموجودة مشروط بتغيرالمسلمين إلى الأسوأ . أما التغيير إلى الأحسن وإعطاء النعمة ، فلا يتوقف على تغيير الناس إلى الأحسن !
ج . الأهداف المذكورة في قوله تعالي : وَتِلْكَ الأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ ، وَلِيعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لايحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيمْحَقَ الْكَافِرِينَ . إنما تتحقق بقانون مداولة الأيام بين خيار الناس وشرارهم ، وقوانين صراع الهدى الإلهى والضلال البشري ، والتدخلات الإلهية لمصلحة المؤمنين تحصل أحياناً بقوانين ، وستتحقق غلبة الخير على يد المهدى الموعود ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) وتقوم دولة العدل وتنتهى دولة الشر إلى يوم القيامة ، وهى بقانون أيضاً .
د . يبدو من قوله تعالي : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيعْلَمَ الصَّابِرِينَ . . أن من شروط دخول المسلم الجنة الجهاد والصبر وعدم الفرار من المعركة ، أو الوصول إلى هذا المستوى الإيماني ، وهو أمر صعب ، والمؤكد أنه شرط في أصحاب
--------------------------- 143 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذين عاصروه .
ه - . دلت آية الانقلاب على أن الإرتداد حصل من عدد من الصحابة يوم أحُد ! فقد قال بعضهم قتل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ولو كان نبياً ما قتل ، إرجعوا إلى دينكم الأول ، وبحثوا عمن يذهب إلى ابن سلول ليأخذ لهم أماناً من أبي سفيان . الخ .
و . من المسائل المهمة في أحُد وغيرها حكم الفارين بعد بيعتهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على عدم الفرار ، وبعد نداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيهم بالرجوع وإمعانهم في الصعود على جبل أحُد ، كما وصفهم الله تعالى ! وقد نص القرآن على أن مأواهم جهنم : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . وَمَنْ يوَلِّهِمْ يوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . الأنفال : 16 .
وفى علل الشرائع : 1 / 203 ، أن عبد الله بن يزيد الأباضى قال لهشام بن الحكم : « من أين زعمت يا هشام أنه لابد أن يكون « الإمام » أعلم الخلق ؟ قال إن لم يكن عالماً لم يؤمن أن يقلب شرايعه وأحكامه فيقطع من يجب عليه الحد ويحد من يجب عليه القطع ! وتصديق ذلك قول الله عز وجل : أَفَمَنْ يهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يهِدّى إِلا أَنْ يهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيفَ تَحْكُمُونَ . . . قال له : فمن أين زعمت أنه لا بد أن يكون أشجع الخلق ؟ قال لأنه قيمهم الذي يرجعون إليه في الحرب ، فإن هرب فقد باء بغضب من الله ، ولا يجوز أن يبوء الإمام بغضب من الله ، وذلك قوله عز وجل : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ . . الآية » . وعليه ، فكل من فرَّ فقد استحق غضب الله وجهنم ، إلا إذا ثبتت توبته . وقد يقال : إن الله تعالى عفا عنهم فقال : ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ . وقال : إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ . فهذا العفو يعنى غفران الله لذنبهم مهما كان عظيماً ، ومن عفا الله عن ذنبه فلا ذنب له .
والجواب : أن عثمان أجاب بذلك عبد الرحمن بن عوف عندما عيره بفراره يوم أحد فقال له : « وأما قولك فررت يوم أحد . . وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ . . فلم تعيرني بذنب
--------------------------- 144 ---------------------------
قد عفا الله عنه ! » . مجمع الزوائد : 9 / 85 وحسنه .
لكن الصحابة قالوا إن العفو في آيات أحُد خاص بالرماة ، أو بالذين رجعوا من هربهم ! ففي الحاكم : 2 / 296 والطبراني الكبير : 10 / 301 : « وإنما عنى بهذا الرماة » .
بل فسره عدد من أئمتهم بأنه ليس عفواً عن ذنب بل عفوٌ تكويني بأنه لم يسمح باستئصالهم . ففي عمدة القاري : 17 / 141 : « قال ابن جريج : ولقد عفا عنكم بأن لم يستأصلكم ، وكذا قال محمد بن إسحاق ، رواه ابن جرير » .
وفى تفسير الطبري : 4 / 175 ، أن الحسن البصري كان يستنكر تفسيرهم هذا العفو بالعفو عن ذنبهم : « قال الحسن وصفق بيديه : وكيف عفا عنهم وقد قتل منهم سبعون ، وقتل عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكسرت رباعيته وشج في وجهه ؟ ! قال الله عز وجل : قد عفوت عنكم إذ عصيتمونى أن لا أكون استأصلتكم » .
فالعفو في آيات أحد خاص بمن رجع من هروبه ، وهم قلة ، أو بالرماة وهم أقل ، أو هو عفو تكويني وليس عفواً عن الفرار وترك الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
ولو سلمنا أنه عفو عن ذنب مضي ، فقد كان بعده ذنب مثله ، وهو الفرار في غزوة الخندق وخيبر وحنين !
وقد يقال : إن الله تعالى رضى عن الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة بقوله : لَقَدْ رَضِى اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً . « الفتح : 18 » . وهو يعنى غفران ذنوبهم قبل بيعة الشجرة .
والجواب : أنه تعالى قال : لَقَدْ رَضِى اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يبَايعُونَكَ ، ولم يقل : رضى عن الذين يبايعونك ! فقيد الرضا بظرفٍ وبالإيمان ، ولو سلمنا إطلاقه فقد كان ذلك في الحديبية في السنة السابعة ، وقد بايعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن لايفروا في معركة ، ثم فروا بعدها بسنة في حنين فنقضوا بيعتهم ! فلا يشملهم العفو السابق .
ز . لم يقتصر أمر هؤلاء الصحابة على الفرار ، بل ارتدوا وصاحوا داعين إلى الردة والاستسلام ! ووقف أحدهم على تل يدعو المنهزمين للتَّسْليم إلى أبي سفيان ! وروى أتباع السلطة كل ذلك لكنهم أخفوا أبطال القصة فقالوا : نادى مناد : ألا إن محمداً قد
--------------------------- 145 ---------------------------
قتل فارجعوا إلى دينكم الأول ! وقال أناس : لو كان نبياً ما قتل !
قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 80 : « وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد : ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول » . إلى آخر ما تقدم .
وقال الفخر الرازي : 9 / 22 : « وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين : إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار : إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل » . وهو أنس بن النضر . « ابن هشام : 3 / 600 » وكان حواره مع عمر وطلحة وأصحاب الصخرة ! ولم يرو أحدٌ أنهم جددوا إسلامهم !
ح . تدل آيات أحُد أن الصحابة كانوا أنواعاً : فمنهم المجاهدون الثابتون المحسنون ، وهم الربيون الذين لايهنون ولا يحزنون . ومنهم المنافقون . ومنهم : المؤمنون أصحاب الذنوب ، الذين استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فهربوا ! وهؤلاء طائفتان : فمنهم : مؤمنون ضعفوا وفروا فأصابهم الغم والندم
وأنزل الله عليهم النعاس : ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ . ومنهم من لم ينزل عليه النعاس ، وبقيت عيونهم تبحلق !
ففي تفسير القمي : 1 / 120 : « وتراجع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المجروحون وغيرهم فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأحب الله أن يعرِّف رسوله الصادق منهم والكاذب ، فأنزل الله عليهم النعاس في تلك الحالة حتى كانوا يسقطون إلى الأرض وكان المنافقون الذين يكذبون لايستقرون ، قد طارت عقولهم وهم يتكلمون بكلام لا يفهم » .
والأسوأ من الجميع : وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يظُنُّونَ بِاللهِ غَيرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيةِ ولم يهمهم الرسول ولا المسلمون ولم ينزل الله عليهم النعاس ! وهؤلاء هم مرضى القلوب وأصحاب آية الانقلاب ! وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات خطيرة :
1 - أنهم طائفة مقابل المؤمنين ، وإن اشتركوا مع الفارين منهم .
2 - أن ظنهم بالله جاهلي فهم كاليهود يتعاملون مع الله تعالى بميزان مادي كما
--------------------------- 146 ---------------------------
يتعامل المشركون مع أصنامهم ! ولايعتقدون بحكمته تعالى وإدارة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بل يرون أن قيادتهم أفضل ، ويحملون النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسؤولية الهزيمة : يقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئٌْ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا !
3 - أنهم يظهرون للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أنهم مؤمنون به وهم كاذبون ، لأنهم يريدون الشراكة في القيادة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو بدونه ! يخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِمْ مَا لايبْدُونَ لَكَ ، من رفضهم لقيادتك ! وهم يتكلمون باسم المسلمين لأن غرضهم قيادتهم بدل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! ويحاولون بهذا الكلام الخبيث تحريك المسلمين ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فهم كابن سلول بل أشد خطراً منه .
4 - مشكلتهم ومرضهم عبادة ذواتهم بدل الله تعالى ، وإطاعة هواهم بدل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولذا كانت هذه الصفة أول صفاتهم : وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ، أما أمر الإسلام كدين وأمر المسلمين كأمة ، فلا يهمهم إلا كأداة لهدفهم !
ط - وبهذا تعرف مشكلة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع هذه الطائفة من منافقى صحابته فهم في كمين له ينتظرون فرصة ليطرحوا أنفسهم بديلاً عنه ( صلى الله عليه وآله ) لقيادة المسلمين ! فطمأنه الله مما يفعلونه وقال له : وَلايحْزُنْكَ الَّذِينَ يسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يضُرُّوا اللهَ شَيئاً يرِيدُ اللهُ أَلا يجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
ي - سمى القرآن هذه الطائفة في مكة وفى بدر وفى الأحزاب « مرضى القلوب » وذكرهم في اثنتي عشرة آية ، ووصفهم في أحُد بأشد أوصافهم ولم يسمهم باسمهم الرسمي ، وكأن سبب ذلك أن مرض قلوبهم خرج إلى العلن ، وصار كفراً وتحميلاً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) مسؤولية الهزيمة وطرحوا أنفسهم بديلاً له لقيادة المسلمين !
وقد فسر الإمام الصادق ( عليه السلام ) مرض قلوبهم بأنه عداوة أهل البيت « عليهم السلام » فقال : ( عليه السلام ) : « والمرض والله عداوتنا » . لأن هدفهم دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) والعقبة أمامهم هم العترة ! غيبة النعماني / 267 .
- *
--------------------------- 147 ---------------------------
الفصل الثامن والأربعون
مختارات من شعر أحد
أكثرَ القرشيون والمسلمون من الشعر في أحد
وهو كثيرٌ ، نكتفي بمختارات نقلها ابن هشام : 3 / 639 . منها لعبد الله بن الزِّبَعْرَى في يوم أحد :
يا غرابَ البين أسمعتَ فقل * إنما تنطق شيئاً قد فعل
أبلغن حسان عنى آية * فقريض الشعر يشفى ذا العلل
كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أترَّت ورجل
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقداماً بطل
فسل المهراس من ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
تم خفوا عند ذاكم رُقَّصاً * رقَصَ الحفَّان يعلو في الجبل
فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا مَيلَ بدر فاعتدل
فأجابه حسان بن ثابت :
ذهبَتْ يا ابن الزِّبَعْرى وقعةٌ * كان منا الفضل فيها لو عدل
ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحياناً دول
--------------------------- 148 ---------------------------
نضع الأسياف في أكتافكم * حيث تهوى عللاً بعد نهل
إذ تولون على أعقابكم * هرباً في الشعب أشباه الرَّسَل
إذ شددنا شدة صادقة * فأجأناكم إلى سفح الجبل
برجال لستم أمثالهم * أيدوا جبريل نصراً فنزل
وعلونا يوم بدر بالتقي * طاعة الله وتصديق الرسل
وقتلنا كل رأس منهم * وقتلنا كل جحجاجٍ رفل
وتركنا في قريش عورة * يوم بدر وأحاديثَ المثل
ورسول الله حقاً شاهد * يوم بدر والتنابيل الهبل
نحن لا أمثالكم ولد استها * نحضر البأس إذا البأس نزل
وقال كعب بن مالك يبكى حمزة وقتلى المسلمين :
نشجتَ وهل لك من منشجِ
وكنتَ متى تدكرْ تلجَجِ
تذكر قوماً أتاني لهم
أحاديث في الزمن الأعوج
وقتلاهم في جنان النعيم
كرام المداخل والمخرج
بما صبروا تحت ظل اللواء
لواء الرسول بذى الأضوج
غداة أجابت بأسيافها
جميعاً بنو الأوس والخزرج
وأشياع أحمد إذ شايعوا
على الحق ذي النور والمنهج
فما برحوا يضربون الكماة
ويمضون في القسطل المرهج
كذلك حتى دعاهم مليك
إلى جنة دوحة المولج
فكلهم مات حر البلاء
على ملة الله لم يحرج
كحمزة لما وفى صادقاً
بذى هبة صارم سلجج . . .
أولئك لا من ثوى منكم
من النار في الدرك المرتج
--------------------------- 149 ---------------------------
فأجابه ضرار بن الخطاب الفهري فقال :
أيجزع كعب لأشياعه * ويبكى من الزمن الأعوج
فقولا لكعب يثنى البكا * وللنئ من لحمه ينضج
فياليت عمراً وأشياعه * وعتبة في جمعنا السورج
فيشفوا النفوس بأوتارها * بقتلى أصيب من الخزرج
ومقتل حمزة تحت اللواء * بمطرد مارن مخلج
وحيث انثنى مصعب ثاوياً * بضربة ذي هبة سلجج
بأحد وأسيافنا فيهم * تلهب كاللهب الموهج
وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكى أخاها حمزة :
أسائلة أصحاب أحد مخافة * بنات أبى من أعجم وخبير
فقال الخبير إن حمزة قد ثوي * وزير رسول الله خير وزير
دعاه إله الحق ذو العرش دعوة * إلى جنة يحيا بها وسرور
فذلك ما كنا نرجى ونرتجي * لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوالله لا أنساك ما هبت الصبا * بكاء وحزناً محضرى ومسيري
على أسد الله الذي كان مدرهاج * يذود عن الإسلام كل كفور
فياليت شلوى عند ذاك وأعظمي * لدى أضبع تعتادنى ونسور
أقول وقد أعلى النعي عشيرتي * جزى الله خيراً من أخ ونصير
وقال عبد الله بن رواحة يبكى حمزة :
بكت عيني وحق لها بكاها * وما يغنى البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا * أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعاً * هناك وقد أصيب به الرسول
--------------------------- 150 ---------------------------
أبا يعلى لك الأركان هدت * وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان * مخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبراً * فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم * بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عنى لؤياً * فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا * وقائعنا بها يشفى الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر * غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعاً * عليه الطير حائمة تجول
وعتبة وابنه خرا جميعاً * وشيبة عضه السيف الصقيل
ومتركنا أمية مجلعباً * وفى حيزومه لدن نبيل
وهام بنى ربيعة سائلوها * ففي أسيافنا منها فلول
ألا يا هند فابكى لا تملي * فأنت الواله العبري الهبول
ألا يا هند لا تبدى شماتاً * بحمزة إن عزكم ذليل
وقال حسان بن ثابت يبكى حمزة :
أتعرف الدار عفا رسمها * بعدك صوب المسبل الهاطل
ساءلتها عن ذاك فاستعجمت * لم تدر ما مرجوعة السائل ؟
دع عنك دارا قد عفا رسمها * وابك على حمزة ذي النائل
المالئ الشيزى إذا أعصفت * غبراء في ذي الشبَم الماحل
والتارك القرن لدى لبدة * يعثر في ذي الخرص الذابل
واللابس الخيل إذ أجحمت * كالليث في غابته الباسل
أبيض في الذروة من هاشم * لم يمر دون الحق بالباطل
--------------------------- 151 ---------------------------
مال شهيداً بين أسيافكم * شلت يدا وحشى من قاتل
أظلمت الأرض لفقدانه * واسود نور القمر الناصل
صلى عليه الله في جنة * عالية مكرمة الداخل
كنا نرى حمزة حرزاً لنا * في كل أمر نابنا نازل
وكان في الإسلام ذا تدرأ * يكفيك فقد القاعد الخاذل
لا تفرحى يا هند واستحلبي * دمعاً واذرى عبرة الثاكل
وابكى على عتبة إذ قطه * بالسيف تحت الرهج الجائل
إذ خرَّ في مشيخة منكم * مِن كل عات قبله جاهل
أرداهم حمزة في أسرة * يمشون تحت الحلق الفاضل
غداة جبريل وزير له * نعم وزير الفارس الحامل
وقال حسان بن ثابت يبكى حمزة :
يا مى قومي فاندبنْ * بسحيرة شجو النوائح
كالحاملات الوقر بالثقل * الملحات الدوالح
المعولات الخامشات * وجوه حرات صحائح
وكأن سيل دموعها الأنصاب * تخضب بالذبائح
ينقضن أشعاراً لهن * هناك بادية المسائح
وكأنها أذناب خيل * بالضحى شمس روامح
ولقد أصاب قلوبها * مجل له جلب قوارح
إذ أقصد الحدثان من * كنا نرجِّى إذ نشايح
أصحاب أحْد غالهم * دهر ألمَّ له جوارح
من كان فارسنا * وحامينا إذا بعث المسالح
--------------------------- 152 ---------------------------
يا حمزُ لا والله لا * أنساك ما صر اللقائح
ذكرتني أسْد الرسول * وذاك مدرهنا المنافح
يعلو القماقم جهرة * سبط اليدين أغر واضح
لا طائش رعش ولا * ذو علة بالحمل آنح
بحر فليس يغب جاراً * منه سيب أو منادح
لهفى لشبان رزئناهم * كأنهم المصابح
شم بطارقة غطارفة * خضارمة مسامح
المشترون الحمد بالأموال * إن الحمد رابح
والجامزون بلجمهم * يوما إذا ما صاح صائح
يا حمز قد أوحدتني * كالعود شذبه الكوافح
أشكو إليك وفوقك الترب * المكور والصفائح
وقال حسان يذكر قتل على ( عليه السلام ) أصحاب اللواء يوم أحد :
منع النوم بالعشاء الهموم * وخيال إذا تغور النجوم . .
من حبيب أضاف قلبك منه * سقم فهو داخل مكتوم
يا لقومي هل يقتل المرء مثلي * واهن البطش والعظام سؤوم
وأنا الصقرعند باب ابن سلمي * يوم نعمان في الكبول سقيم
تلك أفعالنا وفعل الزبعري * خامل في صديقه مذموم
رب حلم أضاعه عدم المال * وجهل غطى عليه النعيم
ما أبالي أنب بالحزن تيس * أم لحانى بظهر غيب لئيم
ولى البأس منكم إذ رحلتم * أسرة من بنى قصى صميم
تسعة تحمل اللواء وطارت * في رعاع من القنا مخزوم
وأقاموا حتى أبيحوا جميعاً * في مقام وكلهم مذموم
--------------------------- 153 ---------------------------
وقريش تفر منا لواذا * أن يقيموا وخف منها الحلوم
لم تطق حمله العواتق منهم * إنما يحمل اللواء النجوم
واعتبرها ابن هشام أحسن ما قيل مع أنها ليست كذلك ! وقال : « قال حسان هذه القصيدة منع النوم بالعشاء الهموم ، ليلاً ، فدعا قومه فقال لهم : خشيت أن يدركني أجلى قبل أن أصبح فلا ترووها عني » . ولعلها كانت أطول من ذلك فحذفوا منها مدحه لعلى ( عليه السلام ) ! فقد روى ابن هشام : 3 / 655 مدح الحجاج السلمى لعلى ( عليه السلام ) لقتله أصحاب الألوية ، قال :
لله أي مذبِّبٍ عن حرمة * أعنى ابن فاطمة المعمَّ المُخولا
سبقت يداك له بعاجل طعنة * تركت طليحة للجبين مجدلا
وشددت شدة باسل فكشفتهم * بالجر إذ يهوون أخول أخولا
وقال عائذ بن عمران بن مخزوم :
ما بال همٍّ عميدٍ بات يطرقني * بالود من هند إذ تعدو عواديها
باتت تعاتبنى هند وتعذلني * والحرب قد شغلت عنى مواليها
سقناكنانة من أطراف ذي يمن * عرضالبلاد على ما كان يزجيها
قالت كنانة أنى تذهبون بنا ؟ * قلنا : النخيل فأموها ومن فيها
نحنالفوارسيوم الجر من أحد * هابت معد فقلنا نحن نأتيها
فأجابه حسان بن ثابت :
سقتم كنانة جهلاً من سفاهتكم * إلى الرسول فجند الله مخزيها
أوردتموهاحياضالموتضاحية * فالنار موعدها والقتل لاقيها
جمعتموها أحابيشاً بلا حسب * أئمة الكفر غرتكم طواغيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت * أهل القليب ومن ألقينه فيها
كم من أسير فككناه بلا ثمن * وجز ناصية كنا مواليها
--------------------------- 154 ---------------------------
وقال عبد الله بن الزبعرى يبكى قتلى المشركين :
ألا ذرفت من مقلتيك دموع * وقد بان من حبل الشباب قطوع
وشطبمنتهوى المزار وفرقت * نوى الحي دار بالحبيب فجوع
فذر ذا ، ولكنهل أتى أم مالك * أحاديث قومي والحديث يشيع
عشية سرنا في لهام يقودنا * ضرور الأعادى للصديق نفوع
فلما رأونا خالطتهم مهابة * وعاينهم أمر هناك فظيع
وودوا لو أن الأرض ينشق ظهرها * بهم وصبور القوم ثم جزوع
بأيماننا نعلو بها كل هامة * ومنها سمام للعدو ذريع
فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم * ضباع وطير يعتفين وقوع
وجمع بنى النجار في كل تلعة * بأبدانهم من وقعهن نجيع
ولولا علو الشعب غادرن أحمداً * ولكن علا والسمهرى شروع
فأجابه حسان بن ثابت فقال :
أشاقك من أم الوليد ربوع * بلاقع ما من أهلهن جميع
عفاهن صيفي الرياح وواكف * من الدلو رجَّافالسحاب هموع
فلم يبق إلا موقد النار حوله * رواكد أمثال الحمام كنوع
فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم * وكان لهم ذكر هناك رفيع
وحامى بنو النجار فيه وصابروا * وما كان منهم في اللقاء جزوع
أمام رسول الله لا يخذلونه * لهم ناصر من ربهم وشفيع
وفوا إذ كفرتم يا سخين بربكم * ولا يستوى عبد وفى ومضيع
بأيديهم بيض إذا حمش الوغي * فلا بد أن يردى لهن صريع
أولئك قوم سادة من فروعكم * وفى كل قوم سادة وفروع
بهن نعز الله حتى يعزنا * وإن كان أمر ياسخين فظيع
--------------------------- 155 ---------------------------
فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم * قتيل ثوى لله وهو مطيع
فإن جنان الخلد منزلة له * وأمر الذي يقضى الأمور سريع
وقتلاكم في النار أفضل رزقهم * حميم معاً في جوفها وضريع
وقال عمرو بن العاص في يوم أحد :
خرجنا من الفيفا عليهم كأننا * مع الصبح من رضوى الحبيك المنطق
تمنت بنو النجار جهلاً لقاءنا * لدى جنب سلع والأماني تصدق
فما راعهم بالشر إلا فجاءة * كراديس خيل في الأزقة تمرق
أرادوا لكيما يستبيحوا قبابنا * ودون القباب اليوم ضرب محرق
كأن رؤوس الخزرجيين غدوة * وأيمانهم بالمشرفية بروق
فأجابه كعب بن مالك :
ألا أبلغا فهراً على نأى دارها * وعندهم من علمنا اليوم مصدق
بأنا غداة السفح من بطن يثرب * صبرنا ورايات المنية تخفق
صبرنا لهم والصبر منا سجية * إذا طارت الأبرام نسمو ونرتق
لنا حومةٌ لا تستطاع يقودها * نبي أتى بالحق عفٌّ مصدق
ألا هل أتى أفناء فهر بن مالك * مقطع أطراف وهام مفلق
وقال ضرار بن الخطاب :
لما أتت من بنى كعب مزينة * والخزرجية فيها البيض تأتلق
وجردوا مشرفيات مهندة * وراية كجناح النسر تختفق
فقلت يوم بأيام ومعركة * تنبى لماخلفها ماهزهز الورق . . . الخ .
--------------------------- 156 ---------------------------
وقال عمرو بن العاص :
لما رأيت الحرب ينزو * شرها بالرضف نزوا
وتناولت شهباء تلحو * الناس بالضراء لحوا . . . الخ .
فأجابهما كعب بن مالك :
أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه * والصدق عنه ذوى الألباب مقبول
أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم * أهل اللواء ففيما يكثر القيل
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد * فيه مع النصر ميكال وجبريل
إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا * والقتل في الحق عند الله تفضيل
وإن تروا أمرنا في رأيكم سفهاً * فرأى من خالف الإسلام تضليل . . الخ
وقال كعب أيضاً يبكى حمزة :
صفية قومي ولا تعجزي * وبكِّى النساء على حمزة
ولا تسأمى أن تطيلى البكا * على أسد الله في الهزة
فقد كان عزاً لأيتامنا * وليث الملاحم في البزة
يريد بذاك رضا أحمد * ورضوان ذي العرش والعزة
وقد رووا لكعب بن مالك قصائد في رثاء حمزة وشهداء أحُد ، فيها :
رقت همومك فالرقاد مسهد * وجزعت أن سلخ الشباب الأغيد
ولقد هددت لفقد حمزة هدة * ظلت بنات الجوف منها ترعد
قرم تمكن في ذؤابة هاشم * حيث النبوة والندى والسودد
والعاقر الكوم الجلاد إذ غدت * ريح يكاد الماء منها يجمد
والتارك القرن الكمي مجدلاً * يوم الكريهة والقنا يتقصد
وتراه يرفل في الحديد كأنه * ذو لبدة شثن البراثن أربد
--------------------------- 157 ---------------------------
عم النبي محمد وصفيه * ورد الحمام فطاب ذاك المورد
وأتى المنية معلماً في أسرة * نصروا النبي ومنهم المستشهد
شتان من هو في جهنم ثاوياً * أبداً ومن هو في الجنان مخلد
ومن مقطوعاته :
فإن تسألى ثم لاتُكذبي * يخبرك من قد سألت اليقينا
بأنا ليالي ذات العظام * كنا ثمالاً لمن يعترينا
تلوذ النجود بأذرائنا * من الضر في أزمات السنينا
ويوم له رهج دائم * شديد التهاول حامى الارينا
شهدنا فكنا أولى بأسه * وتحت العماية والمعلمينا
وعلمنا الضرب آباؤنا * وسوف نعلم أيضا بنينا
سألت بك ابن الزبعرى فلم * أنبئك في القوم إلا هجينا
خبيثاً تطيف بك المنديات * مقيماً على اللؤم حينا فحينا
تبجست تهجو رسول المليك * قاتلك الله جلفا لعينا
تقول الخنا ثم ترمى به * نقى الثياب تقيا أمينا
ومنها :
سائل قريشاً غداة السفح من أحد * ماذا لقينا وما لاقَوْا من الهرب
فكم تركنا بها من سيد بطل * حامى الذمار كريم الجد والحسب
فينا الرسول شهابٌ ثم يتبعه * نور مضى له فضل على الشهب
الحق منطقه والعدل سيرته * فمن يجبه إليه ينجُ من تبب
يمضى ويذمرنا عن غير معصية * كأنه البدر لم يطبع على الكذب
بدا لنا فاتبعناه نصدقه * وكذبوه فكنا أسعد العرب
جالوا وجلنا فما فاءوا وما رجعوا * ونحن نثفنهم لم نأل في الطلب
ليس سواء وشتى بين أمرهما * حزب الإله وأهل الشرك والنصب
--------------------------- 158 ---------------------------
ومنها :
ألا هل أتى غسان عنا ودونهم * من الأرض خرق سيره متنعنع
صحار وأعلام كأن قتامها * من البعد نقع هامد متقطع
مجالدنا عن ديننا كل فخمة * مذربة فيها القوانس تلمع
ولما ابتنوا بالعرض قال سراتنا * علامَ إذا لم نمنع العرض نزرع
وفينا رسول الله نتبع أمره * إذا قال فينا القول لا نتطلع
تدلى عليه الروح من عند ربه * ينزل من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وقصرنا * إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع
وقال رسول الله لما بدوا لنا * ذروا عنكم هول المنيات واطمعوا
وكونوا كمن يشرى الحياة تقرباً * إلى ملك يحيا لديه ويرجع
ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا * على الله إن الأمر لله أجمع
فسرنا إليهم جهرة في رحالهم * ضحياً علينا البيض لا نتخشع
فجئنا إلى موج من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصية * ثلاث مئين إن كثرنا وأربع
فلما تلاقينا ودارت بنا الرحي * وليس لأمر حمسه الله مدفع
ضربناهم حتى تركنا سراتهم * كأنهم بالقاع خشب مصرع
وراحوا سراعاً موجفين كأنهم * جهام هراقت ماءه الريح مقلع
فنلنا ونال القوم منا ، وربما * فعلنا ، ولكن ما لدى الله أوسع
ونحن أناس لا نرى القتل سبة * على كل من يحمى الذمار ويمنع
بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش * ولا نحن من إظفارها نتوجع
- *
--------------------------- 159 ---------------------------
الفصل التاسع والأربعون
غزوة حمراء الأسد خاصة بجرحى أُحد !
التدخل الإلهى في انسحاب قريش
لا نجد سبباً مادياً لسحب قريش جيشها من أحُد قبل أن تحقق هدفها في قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) واحتلال المدينة ، إلا التدخل الإلهي ! فقد بعث الله الملائكة فقاتلوا مع علي ( عليه السلام ) حتى انسحب المشركون ، ثم بعث علياً ( عليه السلام ) لاعتراضهم ليتأكد من أن وجهتهم مكة وليست المدينة !
غزوة حمراء الأسد خاصة بالمجروحين في أحُد
قال القمي في تفسيره : 1 / 124 : « فلما دخل رسول الله المدينة نزل عليه جبرئيل فقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ، ولا يخرج معك إلا من به جراحة ! فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منادياً ينادى يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم يكن به جراحة فليقم ، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها ! فأنزل الله على نبيه : وَلاتَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يألَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لايرْجُونَ . . فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح ، فلما بلغ رسول الله بحمراء الأسد وقريش قد نزلت الروحاء ، قال عكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام ، وعمرو بن عاص ، وخالد بن الوليد : نرجع فنغير على المدينة فقد قتلنا سراتهم وكبشهم يعنى حمزة ، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال : تركت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب فقال أبو سفيان : هذا النكد والبغي قد ظفرنا بالقوم وبغينا ! والله ما أفلح قوم قط بغوا » . أي إرجعوا يكفينا انتصارنا .
--------------------------- 160 ---------------------------
وفى شرح الأخبار : 1 / 282 : « وخرجوا معه ( صلى الله عليه وآله ) من غد يوم الاثنين حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهى من المدينة على ثمانية أميال ، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ومر به معبد بن أبي معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عَيبَة نصحٍ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بتهامة لا يخفون عنه شيئاً بها ، ومعبد يؤمئذ مشرك ، فقال : يا محمد والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله عز وجل عافاك فيهم ، ثم مضى يريد مكة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بحمراء الأسد ، فلقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد اجتمعوا للرجوع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه وذلك أنهم اجتمعوا هنالك وقالوا : والله ما صنعنا شيئاً ، أصبنا جل القوم وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ! فلما رأى أبو سفيان معبداً قال له : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقاً ، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ذلك وندموا على ما صنعوا ، وبهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط !
قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترحل حتى نرى نواصي الخيل ! قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم حتى نستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيت أن قلت أبياتاً أردت أن أبعث بها إليك ، ثم جئت بنفسي . قال : وما قلت ؟ قال :
كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلةٍ * عند اللقاء ولا ميلٍ معازيل
فظلت عدواً أظن الأرض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول
وقلت ويلُ ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل الحزم ضاحية * لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا أحصى قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
فساء ذلك أبا سفيان ومن معه ! وقال لهم صفوان بن أمية بن خلف : إن القوم قد
--------------------------- 161 ---------------------------
حزبوا أي غضبوا ، وقد خشيت إن عاودتموهم أن يكون لهم قتال غير الذي كان ، وقد أصبتم ما أصبتم فارجعوا ! فرجعوا .
ولقى أبو سفيان ركباً من عبد القيس يريدون المدينة يمتارون منها ، فقال : هل تبلغون عنى محمداً رسالة ، وأنا أحمل لكم جمالكم إذا انصرفتم زبيباً بعكاظ ؟
قالوا : نعم . قال : تخبروه أنا أزمعنا الرجوع إليه وإلى أصحابه لنستأصل شأفتهم ، فمروا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو بحمراء الأسد فقالوا ذلك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كالأمس الذاهب وانصرف إلى المدينة » . ونحوه البحار : 20 / 110 ، عن تفسير النعماني .
أقول : أخذ النبي ( صلى الله عليه وآله ) معه دليلاً وأرسل أمامه ثلاثة رجال لاستطلاع العدو ، فأمسك المشركون اثنين وقتلوهم فدفنهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما وصل إليهم ونجا الثالث .
كما استعمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إيقاد النيران المتعددة العالية لنشر خبر مسيره وتخويف المشركين ، وروى أنهم أشعلوا خمس مئة نار ، مع أنهم كانوا نحو سبعين ! وهذا يكشف عدد الثابتين مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبضمنهم الذين رجعوا من الفرار وشاركوا في دفن شهداء أحُد ، وهم عشر السبع مئة الذين ذهبوا إلى أحُد .
هذا ، وقد ذكر رواة السلطة أسماء صحابة في حمراء الأسد ، وجعلوا فيهم فارين ولم يكونوا جرحي ! راجع : الصحيح : 6 / 302 ، المناقب : 1 / 167 والطبقات : 2 / 49 وعيون الأثر : 2 / 7 .
وفى هذه الغزوة نزل قوله تعالي : « الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » . آل عمران : 172 - 175 .
- *
--------------------------- 162 ---------------------------
الفصل الخمسون
أهم الأحداث بين غزوة أحد وغزوة الأحزاب
1 - سرية جبل قَطَن
جبل قطن في نجد في ديار بنى أسد وعبس « معجم البلدان : 4 / 375 » . ويقع : « غرب القصيم على بعد 170 كم من مدينة بريدة » . موقع : http : / / www . harb - tribe . net / showtopic . asp ? id = 79
قال في الصحيح من السيرة : 7 / 143 ، ملخصاً : « كان بين أحد والخندق عدد من السرايا والغزوات وكان لها نتائج إيجابية على الصعيد السياسي والاجتماعي والعسكري . وكثير منها يحتاج إلى بحث وتمحيص ، وهى حسب الترتيب الزمني : سرية أبى سلمة إلى قطن في أول محرم بعد أحُد وكانت أحُد في شوال ، وكان مع أبي سلمة مئة وخمسون رجلاً من الأنصار والمهاجرين ، منهم أبو عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، وأسيد بن خضير ، وسالم مولى أبى حذيفة ، وغيرهم .
وسببها أن رجلاً من طئ قدم المدينة فأخبر صهره أن طليحة وسلمة ابني خويلد سارا في قومهما ومن أطاعهما وقالوا : نسير إلى محمد في عقر داره ونصيب من أطرافه ، ونخرج على متون الخيل والنجائب المخبورة ، فإن أصبنا نهباً لم ندرك وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها ، معنا خيل ولا خيل معهم ، والقوم منكوبون قد أوقعت بهم قريش .
فقال رجل منهم اسمه قيس بن الحارث : يا قوم ، إن دارنا لبعيدة من يثرب ، وقد مكثت قريش دهراً تسير في العرب تستنصرها ولهم وتر يطلبونه ، وكانوا ثلاثة آلاف مقاتل سوى
--------------------------- 163 ---------------------------
أتباعهم وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاث مئة رجل ، فلا آمن أن تكون الدائرة عليكم . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأبى سلمة : سر حتى تنزل أرض بنى أسد فأغر عليهم قبل أن تلاقى عليك جموعهم . فخرج وكان الطائي دليلاً خريتاً أي ماهراً ، فأغذ السير فسار بهم أربعاً إلى قطن ، وسلك بهم غير الطريق وسار بهم ليلاً ونهاراً ، فأغار أبو سلمة على سرحهم ودوابهم وأصابوا ثلاثة أعبد كانوا رعاة ، وهرب الباقون ، وأخبروا بمجئ أبى سلمة فخافوا وهربوا عن منازلهم في كل وجه ، فجمعوا ما قدروا عليه من الأموال ورجعوا إلى المدينة » .
2 - سرية يوم الرجيع
الرجيع وبئر معونة : إسمان لمكانين بين مكة والمدينة ، وبئر معونة أقرب إلى المدينة . البكري : 2 / 641 و 4 / 1246 وعمدة القاري : 17 / 163 .
وروت مصادر السيرة أنه وقعت فيهما غزوتان ، وفى روايتهم تعارض وتهافت ، ولم يصلنا فيهما شئ يذكر عن أهل البيت « عليهم السلام » ، والمرجح أنهما حادثتان صغيرتان ضخموهما لمدح شخص أو جماعة .
قال ابن هشام : 3 / 667 : « يوم الرجيع في سنة ثلاث » وسماه ابن سعد في الطبقات : 2 / 55 : « سرية مرثد بن أبي مرثد » . وخلاصة ماذكراه : أنه قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد أحد رهط من قبيلتى عضل والقارة وقالوا له : يا رسول الله إن فينا إسلاماً ، فابعث نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ، فبعث نفراً ستة هم : مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب ، وخالد بن البكير الليثي ، حليف بنى عدى بن كعب ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، أخو بنى عمرو بن عوف من الأوس ، وخبيب بن عدي من الأوس أيضاً ، وزيد بن الدثنة من بنى بياضة من الخزرج ، وعبد الله بن طارق حليف الأوس ، وأميرهم مرثد ، حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز غدرت بهم هذيل وقالوا لهم ما نريد قتلكم ولكن نبيعكم إلى قريش ! فقاتلهم خمسة فقتلوا وهم
--------------------------- 164 ---------------------------
عاصم ومرثد وخالد ومعتب وعبد الله بن طارق ، واستأسر زيد وخبيب فأخذوهم وباعوهما إلى أهل مكة فقتلوهما ، وأرادوا أن يأخذوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد زوجة طلحة بن أبي طلحة وكانت معه في أحد ، وقالوا إن عاصماً قتل زوجها وأبناءها ، فنذرت أن تشرب برأسه خمراً ! ولما أرادوا قطع رأسه جاءت الزنابير وحمته منهم ، وجاء سيل في الليل فأخذ جثته . واستقرب صاحب الصحيح من السيرة : 7 / 167 ، أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل هؤلاء أو بعضهم عيوناً على قريش ، فأمسكوا منهم زيداً وخبيباً وقتلوهما .
قال : « وما عدا ذلك فهو مشكوك فيه ، إن لم نقل إن فيه الكثير مما نقطع بأنه مكذوب وموضوع أو محرف عن عمد ، أو عن غير عمد » .
3 - سرية بئر معونة
وهى تشبه غزوة الرجيع وغزوة بنى لحيان ، وسماها ابن هشام : 3 / 677 : حديث بئر معونة في صفر سنة أربع . ونقل عن ابن إسحاق أن الزعيم النجدي أبا براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة ، جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وطلب منه أن يبعث رجالاً من أصحابه إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إني أخشى عليهم أهل نجد ، قال أبو براء : أنا لهم جار ، فبعث أربعين رجلاً ، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو من بنى ساعدة ، ومنهم الحارث بن الصمة ، وحرام بن ملحان ، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ، في رجال من خيار المسلمين ، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة ، فبعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى عامر بن الطفيل ، فقتله عامر واستعان بقبائل من بنى سُلَيم هم : عصية ورعل وذكوان ، فقصدوهم وقتلوهم عن آخرهم !
وقالوا إن عمرو بن أمية الضمري أراد الثأر لهم ، فقتل رجلين من قوم متحالفين مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) فالتزم ( صلى الله عليه وآله ) بإعطاء ديتهما . وأكثروا من مناقب شهداء بئر معونة خاصة عامر بن فهيرة غلام أبى بكر وزعموا أنه رفع إلى السماء ، وأنه نزل فيهم قرآن ونسخ ! فقد
--------------------------- 165 ---------------------------
روى بخارى في صحيحه : 3 / 204 / 208 ، 4 / 35 و 5 / 42 ، روايات في أنه نزلت آية : ألا بلغوا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا ! في شهداء بئر معونة الذين غدر بهم أهل نجد من قبائل رعل وذكوان وعصية من بنى لحيان ، وأن المسلمين قرؤوا هذه الآية ! ومسلم : 2 / 135 وأحمد بروايات : 3 / 109 ، 210 ، 215 ، 255 و 289 والبيهقي : 2 / 199 .
وذكروا في أكثرها أنها نسخت بعد ذلك ، أو رفعت ! وكله غير صحيح !
وقال ابن سعد في الطبقات : 2 / 53 : « وجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خبر أهل بئر معونة وجاءه تلك الليلة أيضاً مصاب خبيب بن عدي ، ومرثد بن أبي مرثد ، وبعث محمد بن مسلمة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذا عمل أبى براء ، قد كنت لهذا كارهاً .
ودعا رسول الله على قتلتهم بعد الركعة من الصبح فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم سنين كسنى يوسف . اللهم عليك ببنى لحيان ، وعضل ، والقارة وزغب ، ورعل ، وذكوان ، وعصية ، فإنهم عصوا الله ورسوله .
وأقبل عمرو بن أمية سار أربعاً على رجليه ، فلما كان بصدور قناة لقى رجلين من بنى كلاب قد كان لهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمان فقتلهما وهو لا يعلم ذلك ، ثم قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بمقتل أصحاب بئر معونة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبْتَ من بينهم . وأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتل العامريين فقال : بئس ما صنعت ، قد كان لهما منى أمان وجوار ، لأدينهما ، فبعث بديتهما إلى قومهما » . « وإعلام الورى 1 / 186 والمناقب 1 / 168 » . راجع أيضاً غزوة بنى لحيان : 1 / 188 و 1 / 170 ، فيبدو أنهما متحدتان .
4 - غزوة بدر الموعد
وتسمى بدر الصغري ، وبدر الصفراء ، وبدر الثانية ، وبدر الآخرة ، وكانت في شوال بعد أحد بسنة ، لأن أبا سفيان قال في أحُد : موعدنا معكم العام القادم في بدر الصفراء ، فقبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وبدر الصفراء قرية قرب ينبع بين مكة والمدينة ، وفيها سوق سنوى للعرب . سبل الهدي : 4 / 282 .
--------------------------- 166 ---------------------------
قال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه القيم : المواجهة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) / 241 : « عممت قريش موعد اللقاء وأخذت تستعدى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتجمع الأموال استعداداً للخروج ، وفرضت ضريبة على سكان مكة ولأول مرة في تاريخها ، ولم يترك أحد إلا وينبغي أن يدفع مالاً لا يقل عن « أوقية » مساهمة بالمجهود الحربي ، فجمعوا الأموال العظيمة ورصدوها لحرب محمد وآله ومن والاهم .
ومع اقتراب الموعد كره أبو سفيان قائد تحالف البطون هذا الخروج ، وندم على قوله وتحديده الموعد ، وتعرض لملامة الكثير من قومه ، وتمنى عدم خروج الرسول للموعد لأن العام جدب : « والأرض مثل ظهر الترس ليس فيها لبعير شئ » ولكن البطون كرهت أن يخرج محمد ولا يخرجون ، فيجترئ عليها فأحبت أن يكون الخلف من قبله . وفى غمرة حيرتها قدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة فاتفقوا معه على أن يعطوه عشرين ناقة ، مقابل أن يخَذِّل أصحاب محمد !
ورجع الرجل وأخذ يشيع بأن أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب العرب وجاء محمد وأصحابه بما لا قبل لهم به ! وأشار على أهل المدينة أن يبقوا في المدينة ولايخرجوا ، لأنهم إن خرجوا فلن يفلت منهم أحد هذه المرة !
ونجح الرجل بغرس كراهية الخروج في قلوب الكثير من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! وفرح المنافقون واليهود وتصوروا أن محمداً لن يفلت من هذه الجموع التي يصفها نعيم بن مسعود ! ونجح نعيم بتثبيط بعض الصحابة وإلقاء الرعب في قلوبهم ! قال عثمان بن عفان يصف حالته وأمثاله ممن أصغوا لنعيم : لقد رأيتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا فما أرى أحداً له نية في الخروج » . مغازى الواقدي : 1 / 387 .
كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يرصد آثار دعاية نعيم فجمع الناس وحثهم على الخروج ، ثم قال : والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد ! عندئذ تشجع من وَهَنَ من المسلمين وخرج مع النبي 1500 مقاتل ومعهم عشرة أفراس ، فأعطى النبي ( صلى الله عليه وآله ) رايته لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) . وغاية المسلمين من الخروج كانت ملاقاة البطون على الموعد ، ومع هذا تزودوا ببضائع ، وأقاموا في بدر الصفراء ثمانية أيام ورجعوا بخير وفضل
--------------------------- 167 ---------------------------
من الله ، وربح الدينار ديناراً .
أما أبو سفيان فقد أطلع قريش على الخطة التي رسمها لنعيم ، وبين لهم أن العام عام جدب ، واقترح عليهم أن يسيروا يومين فيرجعوا ، فخرجت البطون وهم ألفان ، ومعهم خمسون فرساً ، وانتهوا إلى مجنة فشربوا السويق وعادوا ، بعد أن بلغهم خروج النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وقال صفوان بن أمية لأبى سفيان : قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم ، وقد اجترؤوا علينا ورأوا أنا قد أخلفناهم وإنما خلفنا الضعف عنهم ! وأخذوا يعدون العدة لغزو النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما بعد » . الواقدي : 1 / 384 .
أقول : كان نعيم بن مسعود يسكن في المدينة ، ولا بد أن يكون تثبيطه للصحابة استغرق أياماً فعمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) لإحباطه ، حيث ورد في نصوصه : « وصار يطوف فيهم حتى قذف الرعب في قلوب المسلمين ولم يبق لهم نية في الخروج واستبشر المنافقون واليهود » . الصحيح من السيرة : 8 / 372 .
لكن رواة السلطة لا يذكرون ذلك ، لأنه يكشف الصحابة الذين جَبَّنوا المسلمين ! وذكروا طرفاً منه في تفسير قوله تعالي : الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ . . راجع : الصحيح من السيرة : 8 / 362 ، ابن هشام : 3 / 697 ، الطبقات : 2 / 59 ، اليعقوبي : 2 / 67 ، تفسير الطبري : 2 / 230 ، تفسير مقاتل : 1 / 204 ، الثعلبي : 3 / 209 والعجاب لابن حجر : 2 / 793 .
وروى ابن هشام : 3 / 698 ، قصيدة لحسان ، وقصيدة لكعب بن مالك ، وفيها :
وعدنا أبا سفيان بدراً ، فلم نجد * لميعاده صدقاً ، وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا * لأبت ذميماً وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمراً أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله ، أفٍّ لدينكم * وأمركم الشئ الذي كان غاويا
فإني وإن عنفتمونى لقائل * فدى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره * شهاباً لنا في ظلمة الليل هاديا » .
--------------------------- 168 ---------------------------
5 - غزوة دومة الجندل
دُومة الجندل بضم الدال وبفتحه ، هي مدينة الجوف ، والآن محافظة في شمال المملكة السعودية . قال ابن هشام : 3 / 699 : « ثم غزا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دومة الجندل في شهر ربيع الأول . . قال ابن إسحاق : ثم رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يصل إليها ، ولم يلق كيداً فأقام بالمدينة بقية سنته » .
وهذا اختصار مخل لأنه روى أن الأكيدر ملك دومة الجندل وحاكمها من قبل هرقل الروم كان يجمع الجيش لغزو المدينة وكان يظلم « الضافطة » أي التجار جالبى البضائع ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) باغتهم فكان يسير بجيشه ليلاً ويكمن نهاراً ووصل إلى دومة الجندل ، فهرب الأكيدر ومن جمعهم ولم يقابلوه ، وغنم من مواشيهم وأموالهم ، ورجع سالماً .
وأهم أهداف غزوة دومة الجندل : ردع الذين يتصورون أن قريشاً هزمت المسلمين في أحُد فصار بإمكانهم غزوهم . وردع الروم عن التفكير بحشد جيش لحاكم دومة الجندل ليغزو المدينة . وتقوية قلوب المسلمين وإفهامهم أن هزيمتهم في أحُد كانت نشازاً ، وأن وعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين ما زال قائماً ، وسيأخذون بلاد كسرى وقيصر لا محالة ! وسيأتي ذكرها في غزوة تبوك .
6 - غزوة ذات الرقاع
في الصحيح من السيرة : 8 / 265 ، ملخصاً : « بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن أنماراً وثعلبة وغطفاناً قد جمعوا جموعاً بقصد غزو المسلمين ، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربع مئة وقيل في سبع مئة ، حتى أتى وادى الشقرة من أرض غطفان من نجد فأقام بها يوماً ، وبث السرايا فرجعوا إليه مع الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحداً ، فسار حتى أتى محالهم فلما عاينوهم هربوا إلى الجبال والأودية ولم يكن قتال . ورجع ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة فوصل إلى صرار يوم الأحد لخمس ليال بقين من المحرم . وهو بئر جاهلية على ثلاثة أميال من المدينة في طريق العراق . وكانت غيبته ( صلى الله عليه وآله ) خمس عشرة ليلة ، وتسمى هذه
--------------------------- 169 ---------------------------
الغزوة أيضاً بغزوة الأعاجيب لما وقع فيها من أمور عجيبة ، وتسمى أيضاً بغزوة محارب ، وغزوة بنى ثعلبة وغزوة بنى أنمار . وقيل إنها في السنة الرابعة في شهر ربيع الآخر بعد غزوة بنى النضير بشهرين وعشرين يوماً ، وقيل في محرم ، وقيل كانت في سنة خمس » .
وفى إعلام الوري : 1 / 188 والمناقب : 1 / 170 : « لقى بها جمعاً من غطفان ولم يكن بينهما حرب ، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلاة الخوف ثم انصرف بالناس . . وقيل إنما سميت بذلك لأن أقدامهم نقبت فيها ، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق » .
وفى الكافي : 8 / 127 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « نزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه ، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه : أنا أقتل محمداً ! فجاء وشد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالسيف ثم قال : من ينجيك منى يا محمد ؟ فقال : ربى وربك ! فنسفه جبرئيل ( عليه السلام ) عن فرسه فسقط على ظهره ! فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ السيف وجلس على صدره ، وقال : من ينجيك منى يا غورث ؟ فقال جودك وكرمك يا محمد ! فتركه فقام وهو يقول : والله لأنت خير منى وأكرم » .
وفى الكافي : 3 / 456 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأصحابه في غزوة ذات الرقاع صلاة الخوف ففرق أصحابه فرقتين ، أقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه فكبر وكبروا ، فقرأ وأنصتوا وركع فركعوا وسجد فسجدوا ، ثم استتم رسول الله قائماً وصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض ، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو . وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فصلى بهم ركعة ثم تشهد وسلم عليهم فقاموا فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض » .
وفى بصائر الدرجات / 370 : « عن جابر بن عبد الله قال : لما أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من
--------------------------- 170 ---------------------------
غزوة ذات الرقاع وهى غزوة بنى ثعلبة غطفان ، حتى إذا كان قريباً من المدينة إذا بعير حل يرقل حتى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فوضع جرانه على الأرض ثم خرخر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هل تدرون ما يقول هذا البعير ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : إنه أخبرني أن صاحب عمل عليه حتى إذا أكبره وأدبره وأهزله أراد أن ينحره ويبيع لحمه ! ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا جابر إذهب به إلى صاحبه فأتني به . فقلت : لا أعرف صاحبه . قال : هو يدلك . قال : فخرجت معه حتى انتهيت إلى بنى واقف فدخل في زقاق فإذا بمجلس فقالوا : يا جابر كيف تركت رسول الله وكيف تركت المسلمين ؟ قلت صالحون ، ولكن أيكم صاحب هذا البعير ؟ قال بعضهم : أنا ، فقلت أجب رسول الله . قال : مالي ؟ قلت : استعدى عليك بعيرك ! قال : فجئت أنا وهو والبعير إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إن بعيرك أخبرني أنك عملت عليه حتى إذا أكبرته وأدبرته وأهزلته أردت نحره وبيع لحمه . قال الرجل : قد كان ذلك يا رسول الله . قال : بعه مني . قال : بل هو لك يا رسول الله . قال : بل بعه مني ، فاشتراه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم ضرب على صفحته فتركه يرعى في ضواحى المدينة ، فكان الرجل منا إذا أراد الروحة والغدوة منحه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فقال جابر : رأيته وقد ذهب عنه دبره وصلح » !
وروى ابن هشام : 3 / 692 هذه الغزوة بنحو ما تقدم ، وروى ابن إسحاق قصة الجمل ، قال جابر : « خرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف ، فلما قفل رسول الله قال : جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : مالك يا جابر ؟ قال قلت : يا رسول الله ، أبطأ بي جملي هذا ، قال : أنخه ، قال : فأنخته ، وأناخ رسول الله ثم قال : أعطني هذه العصا من يدك أو اقطع لي عصاً من شجرة ، قال : ففعلت . قال : فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات ، ثم قال : إركب ، فركبت ، فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة . قال : وتحدثت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لي : أتبيعنى جملك هذا يا جابر ؟ قال قلت : يا رسول الله بل أهبه لك ، قال : لا ، ولكن بعنيه . قال قلت : فسُمنيه قال : قد أخذته بدرهم ، قال قلت : لا ، إذن تغبننى يا رسول الله ، قال : فبدرهمين ، قال قلت : لا ، قال : فلم يزل يرفع لي
--------------------------- 171 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى بلغ الأوقية قال فقلت : أفقد رضيت يا رسول الله ؟ قال : نعم ، قلت : فهو لك ، قال : قد أخذته ، قال ثم قال : يا جابر تزوجت بعد ؟ قال : قلت : نعم يا رسول الله ، قال : أثيباً أم بكراً ؟ قال : قلت : لا بل ثيباً قال : أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك ! قال قلت : يا رسول الله إن أبى أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعاً ، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن وتقوم عليهن ، قال : أصبت إن شاء الله ، أما إنا لو قد جئنا صراراً أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك ، وسمعتْ بنا فنفضت نمارقها . قال : قلت : والله يا رسول الله مالنا من نمارق ، قال : إنها ستكون ، فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيساً ، قال : فلما جئنا صراراً أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم ، فلما أمسى رسول الله دخل ودخلنا ، قال : فحدثت المرأة الحديث ، وما قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قالت : فدونك فسمع وطاعة .
قال : فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله قال : ثم جلست في المسجد قريباً منه ، قال وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرأى الجمل فقال : ما هذا ؟ قالوا : يا رسول الله ، هذا جمل جاء به جابر ، قال : فأين جابر ؟ قال : فدعيت له ، قال : فقال : يا بن أخي خذ برأس جملك ، فهو لك ، ودعا بلالاً فقال له : إذهب بجابر فأعطه أوقية .
قال : فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئاً يسيراً . قال فوالله ما زال ينمى عندي ويرى مكانه من بيتنا ، حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا ، يعنى يوم الحرة » .
- *
--------------------------- 172 ---------------------------
الفصل الحادي والخمسون
غزوة الأحزاب أو الخندق
1 - تحالف أحزاب العرب واليهود ضد النبي « صلى الله عليه وآله »
سماها الله تعالى حرب الأحزاب ، لأن أحزاب العرب واليهود تحالفوا فيها على غزو المدينة ، لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، واستئصال بنى عبد المطلب !
كان ذلك في شهر شوال من السنة الرابعة ، كما اختاره عدد من المؤرخين ومنهم صاحب الصحيح ، وهو الأقرب ، والمشهور أنها في السنة الخامسة . ويظهر أنها كانت في أواخر شوال ، لأن محاصرة بني قريظة التي كان بعدها مباشرة لمدة أسبوعين ، كانت في أواخر ذي القعدة وأوائل ذي الحجة .
وكانوا يحفرون الخندق من شهر رمضان فقد كان خوات بن جبير صائماً وأغمى عليه وهو يعمل في الخندق ، فنزلت فيه الآية : أُحِلَّ لَكُمْ لَيلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ . . وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَينَ لَكُمُ الْخَيطُ الأَبْيضُ مِنَ الْخَيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ . الكافي : 4 / 98 .
وكان عدد جيش الأحزاب عشرة آلاف على أقل تقدير ، وروى بضعاً وعشرين ألفاً ، وكانوا عدة فرق : جيش قريش ، وجيش هوازن ، وبنى سُلَيم ، وبنى مرة ، وبنى أشجع ، وبنى أسد ، ثم يهود قريظة في شرقي المدينة .
وكان عدد المسلمين المدافعين عن المدينة تسع مئة ، إلى ألف مقاتل .
واستمر الحصار نحو شهر ، حتى استطاع بعض فرسان المشركين بقيادة عمرو بن ود
--------------------------- 173 ---------------------------
العامري أن يعبروا الخندق ، فبرز اليه على ( عليه السلام ) وقتله وقتل بعض من عبر معه ، وهرب الباقون . ثم أرسل الله عليهم ريحاً فاضطرب عسكرهم وانهزموا !
واتفقت المصادر على أن تجميع الأحزاب ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكرة يهودية ، فبعد معركة بدر وأحُد ، وإجلاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنى النضير لنقضهم ميثاق التعايش ، ذهب حاخامات اليهود وزعماؤهم وفداً إلى مكة برئاسة الحاخام كعب بن أسد ، وكان هو الذي وقع عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) . « فطافوا على وجوه قريش ودعوهم إلى حرب النبي . . . فقالوا لقريش : نحن معكم حتى نستأصل محمداً . . قال أبو سفيان : هذا الذي أقدمكم ونازعكم ؟ قالوا : نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله . قال أبو سفيان : مرحباً وأهلاً ، أحبُّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد .
زاد في نص آخر قوله : ولكن لا نأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا ! قال النفر : فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم ، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ، ثم نحلف بالله جميعاً : لايخذل بعضنا بعضاً ، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ، ما بقي منا رجل ! ففعلوا ، فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا ، فاتعدوا لوقت وقَّتوه .
فقال أبو سفيان : يا معشر اليهود أنتم أهل الكتاب الأول والعلم ، أخبرونا عما أصبحنا فيه نحن ومحمد ، ديننا خير أم دين محمد ؟ فنحن عُمار البيت وننحر الكوم « الناقة السمينة » ونسقى الحجيج ونعبد الأصنام ؟
قالوا : اللهم أنتم أولى بالحق ، إنكم لتعظمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فأنتم أولى بالحق منه . فأنزل الله في ذلك : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . النساء : 51 .
فلما قالوا ذلك لقريش نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله . فخرجت اليهود حتى أتت غطفان ، وقيس عيلان ، وأخذت قريش في الجهاز ، وسيرت في
--------------------------- 174 ---------------------------
العرب تدعوهم إلى نصرها ، وألَّبوا أحابيشهم ومن تبعهم .
ثم خرجت اليهود حتى جاؤوا بنى سُلَيم ، فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش . ثم ساروا في غطفان فجعلوا لهم تمر خيبر سنة وينصرونهم ويسيرون مع قريش إلى محمد إذا ساروا ، فأنعمت بذلك غطفان .
ولم يكن أحد أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن . . وذكر البعض أن كنانة بن أبي الحقيق جعل نصف تمر خيبر لغطفان في كل عام » ! الصحيح من السيرة : 9 / 25 .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 402 : « قال ابن إسحاق : وكان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبنى قريظة : حيى بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق أبو عمار ، ووحوح بن عامر ، وهوذة بن قيس » .
أقول : لاحظ أن جولتهم شملت قبائل تهامة ونجد ، وأنهم أعطوا للنجديين موسم ثمار خيبر أجرة على حربهم ، كما تعهدوا أن يشاركوهم في المعركة .
وعندما وصل أبو سفيان بجيش الأحزاب إلى المدينة وحاصرها ، تحرك اليهود في حصونهم ، فقام كعب بنقض عهده مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومزق صحيفته ، وجمع رؤساء قومه وهم : الزبير بن باطا ، وشاس بن قيس ، وعزال بن ميمون ، وعقبة بن زيد ، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد ! « الصحيح من السيرة : 8 / 41 » لكنهم جبنوا عن الخروج ، فتصور أبو سفيان أنهم غدروا به ، فساعد ذلك على هزيمته !
2 - كانت قريش تجمع الأحزاب والنبي « صلى الله عليه وآله » يحفر الخندق
رُوِى أن سلمان الفارسي « رحمه الله » اقترح على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحفروا خندقاً حول المدينة لمنع الأحزاب من دخولها ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك فخطَّ مكان الخندق وأمر المسلمين بحفره . ففي رسائل المرتضي : 4 / 117 : « أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفر الخندق وكان قد أشار بحفره سلمان الفارسي ، فلما رأته العرب قالوا : هذه مكيدة فارسية . واسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد » .
ورجح صاحب الصحيح من السيرة : 9 / 79 قول الواقدي بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي
--------------------------- 175 ---------------------------
أشار بحفر الخندق ، فاختلف فيه المسلمون ، فتكلم سلمان عن الحكمة فيه ، وأن الفرس يخندقون على مدنهم لصد هجوم العدو ، فاقتنعوا بحفر الخندق .
ومن مصادرنا شرح الأخبار : 2 / 287 عن علي ( عليه السلام ) أن جبرئيل أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفره .
3 - خطَّ النبي « صلى الله عليه وآله » مكان الخندق وقسَّم العمل فيه
قال في الصحيح من السيرة : 9 / 88 ، ملخصاً : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ركب فرساً وخطَّ لهم موضع الخندق ، ما بين جبل بنى عبيد خَرْبَى إلى راتج ، حسب قول الواقدي ، وعند القمي : الخندق طولاً من أعلى وادى بطحان غربى الوادي مع الحرة إلى غربى مصلى العيد ، ثم إلى مسجد الفتح ، ثم إلى الجبلين الصغيرين اللذين في غربى الوادي . وكان طوله نحواً من خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع ، وعمقه سبعة أذرع . وجعل له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثمانية أبواب ، على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة ، يحفظونه من تسلل العدو .
وكان الخندق من الجهة الغربية الشمالية للمدينة ، أما بقية الجهات فكان فيها حواجز طبيعية ، تضاريس أو بيوت ، يسهل منع العدو من النفوذ منها .
وجعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) معسكره مقابل الخندق في سفح جبل سلع ، فكان الجبل إلى يساره وخلفه ، وعن يساره حرة الوبرة الوعرة ، وعن يمينه حرة وأقم الوعرة .
وتفاوتت الرواية في مدة الحفر ويبدو أنها نحو شهر ، وقد عمل فيه المسلمون بسرعة ليتم قبل قدوم الأحزاب ، وفرغوا منه قبل وصولهم بثلاثة أيام .
وقسَّم النبي ( صلى الله عليه وآله ) العمل فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب ، والأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل بنى عبيد ، وجعل لكل قبيلة حداً ، وجعل كل أربعين ذراعاً بين عشرة ، وبدأ ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه في حفر الخندق فأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين وعلى ( عليه السلام ) ينقل التراب ، حتى عرق النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقول : لا عيشَ إلا عيش الآخرة . اللهم اغفر للأنصار والمهاجرين .
--------------------------- 176 ---------------------------
فلما نظر الناس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحفر ، اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب ، فلما كان في اليوم الثاني بكَّروا إلى الحفر ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) يحمل التراب على ظهره أو على عاتقه ، ثم يجلس حتى يستريح ، وجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله نحن نكفيك فيقول : أريد مشاركتكم في الأجر . قال أبو واقد : ولقد رأيته يوماً بلغ منه فجلس ، ثم اتكأ على حجر على شقه الأيسر .
وكان المسلمون في فقر شديد أيام حفر الخندق ، حتى كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشد على بطنه حجراً من الجوع .
وفى عيون أخبار الرضا : 1 / 43 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « كنا مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة « عليها السلام » ومعها كسرة خبز ، فدفعتها إلى النبي فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما هذه الكسرة ؟ قالت : قرصاً خبزتها للحسن والحسين ، جئتك منه بهذه الكسرة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث » !
4 - محاصرة الأحزاب للمدينة
أ . قال الله تعالى يصف جيش الأحزاب : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِى الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا . سورة الأحزاب 9 - 11 .
في المناقب : 1 / 170 : « إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ : أي من قبل المشرق . وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ : أي من المغرب . . فخرج إليه أبو سفيان بقريش ، والحارث بن عوف في بنى مرة ، ووبرة بن طريف ومسعود بن جبلة في أشجع ، وطليحة بن خويلد الأسدي في بنى أسد ، وعيينة بن حصن الفزاري في غطفان وبنى فزارة ، وقيس بن غيلان وأبو الأعور السلمى في بنى سُلَيم . ومن اليهود حيى بن أخطب ، وكنانة بن الربيع ، وسلام بن أبي الحقيق ، وهوذة بن قيس الوالي في رجالهم ، فكانوا ثمانية عشر ألف رجل ، والمسلمون في ثلاثة آلاف . وكان الكفار على الخمر والغناء والمدد والشوكة ، والمسلمون كأن على رؤسهم
--------------------------- 177 ---------------------------
الطير لمكان عمرو ! والنبي جاثٍ على ركبتيه باسط يديه ، باكية عيناه ، ينادى بأشجى صوت : يا صريخ المكروبين يا مجيب دعوة المضطرين ، إكشف همى وكربي ، فقد ترى حالي » .
وفى الصحيح من السيرة : 9 / 178 ملخصاً : « ذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرساً . وقال ابن إسحاق كان المسلمون سبع مئة ، وقال البخاري كانوا ألفاً أو نحوها ، ونرجح قول ابن إسحاق للأمور التالية :
1 - قصة إطعام جابر لأهل الخندق جميعاً وكانوا سبع مئة رجل أو ثمان مئة ، أو ألف رجل .
2 - روى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنهم تسع مئة رجل ، وقد تكون تسع تصحيفاً لسبع .
3 - روى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام فكتب حذيفة ألفاً وخمس مئة رجل ، وكان هذا عام الحديبية . وما جرى في الخندق يوضح أن عدد سكان المدينة لا يصل إلى الخمسة آلاف نسمة . ووافى المشركون المدينة وأحاطوا بها واختلفت الأقوال في عددهم ، فقال المسعودي : سارت إليه قريش وغطفان وسُلَيم وأسد وأشجع وقريظة ونضير ، وغيرهم من اليهود ، فكان عدة الجميع أربعة وعشرين ألفاً ، منها قريش وأتباعها أربعة آلاف . وقال ابن شهرآشوب : كانوا ثمانية عشر ألف رجل . . وقال المسعودي إنه كان معهم ثلاث مئة فرس وألف وأربع مئة بعير ، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب » .
ب . قال في شرح الأخبار : 1 / 292 : « ونظر المشركون إلى الخندق فتهيبوا القدوم عليه ولم يكونوا قبل ذلك رأوا مثله ، وقالوا إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تعرفها ! فجعلوا يدورون حوله بعساكرهم وخيلهم ورجلهم ويدعون المسلمين : ألا هلم للقتال والمبارزة ، فلا يجيبهم أحد إلى ذلك ولا يرد عليهم فيه شيئاً . ولزموا مواضعهم كما أمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد عسكروا في الخندق ، وأظهروا العدة ولبسوا السلاح ووقفوا في مواقفهم ، وتهيب المشركون أن يلجوا الخندق عليهم » .
--------------------------- 178 ---------------------------
وجعلوا معسكراتهم بعيدة عن الخندق نسبياً حتى لا يكونوا في مرمى المسلمين .
« أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد » . البحار : 20 / 199 .
« وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوماً ، ويغدو خالد بن الوليد يوماً ، ويغدو عمرو بن العاص يوماً ، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً ، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوماً ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ، ويتفرقون مرة ويجتمعون مرة أخري ، ويناوشون المسلمين ويقدمون رماتهم فيرمون ، وإذْ أبو سفيان في خيل يطيفون بمضيق من الخندق يطلب مضيقاً من الخندق ، فرماهم المسلمون حتى رجعوا . . وكان أسيد بن حضير يحرس في جماعة ، فإذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق فرماهم حتى ولوا ، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في قَرٍّ شديد وجوع . وكان عمرو بن العاص وخالد كثيراً ما يطلبان غرة ومضيقاً من الخندق يقتحمانه ، فكانت للمسلمين معهما وقائع في تلك الليالي . .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشارك في دفع المشركين عندما يقصدون الخندق ، ويوجه المسلمين إلى رميهم بالسهام أو الحجارة فيرجعون . وكان رماة المسلمين على أبواب الخندق وفى نقاط مناسبة ، وعمدة سلاحهم الحجارة ، وقد جمعوها أيام حفر الخندق : « ويخرج المهاجرون والأنصار في نقل التراب وعلى رؤوسهم المكاتل ، ويرجعون بها بعد إلقاء التراب منها ، وقد ملأوها حجارة من جبل سلع ، وهى أعظم سلاحهم ، يرمون بها » . إمتاع الأسماع : 1 / 225 .
« ومضى على الفريقين قريب من شهر ، لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة ، حتى أنزل الله النصر » . سعد السعود لابن طاووس / 138 .
ج . وقع حدثان في أيام الحصار أثَّرا على معنويات المسلمين : الأول : نقض بني قريظة عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وانضمامهم عملياً إلى قريش . والثاني : إصابة سعد بن معاذ
--------------------------- 179 ---------------------------
بسهم من المشركين إصابة شديدة ! فقد كانت قريش ومن معها من الأحزاب يحاصرون المدينة من غربيها ، وكانت مساكن بني قريظة شرقي المدينة « حَرَّة بني قريظة » فكانوا مع الأحزاب طوقاً شبه كامل عليها ، وكان خطر بني قريظة يعادل خطر بقية الأحزاب ! قالت أم سلمة رضي الله عنها : « شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف : المريسيع ، وخيبر ، وكنا بالحديبية ، وفى الفتح ، وحنين ، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا أخوف عندنا من الخندق ! وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة « الطوق » وأن قريظة لا نأمنها على الذراري ، فالمدينة تحرس حتى الصباح ، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا » . إمتاع الأسماع : 1 / 235 .
لذلك أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بتجميع النساء والأطفال في « الآطام » أي المباني المحصنة المرتفعة ، قال في الصحيح : 9 / 269 : « وكانت حراستهم تتركز على الأمور الرئيسية وهي : 1 - مركز قيادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . 2 - العسكر . 3 - الخندق . 4 - المدينة . 5 - الرصد لتحركات العدو . 6 - النساء والذراري وتعاهدهم في الآطام . 7 - أبواب الخندق .
قال النويري وغيره : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل ، وزيد بن حارثة في ثلاث مئة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير ، وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة . وكان عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة . وكانت المدينة تحرس حتى الصباح يسمع فيها التكبير حتى يصبحوا » . والطبقات : 2 / 67 .
وكان مسؤول الحراسة والعسكر كله على ( عليه السلام ) ، ففي تفسير القمي : 2 / 186 : « وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على العسكر كله ، بالليل يحرسهم ، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم » .
وعندما نقض بنو قريظة عهدهم ومزقوا نسخته وأعلنوا الحرب على المسلمين : « كان الخوف على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من الخوف من قريش وغطفان . . وهمت بنو قريظة أن يغيروا على المدينة ليلاً ، وبعث حيى بن أخطب إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل ومن غطفان ألف ، فيغيروا بهم فجاء الخبر
--------------------------- 180 ---------------------------
بذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعظم البلاء » . « الإمتاع : 1 / 233 » . فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليهم « سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وخوات بن جبير ، وعبد الله بن رواحة يستخبرون الأمر ، فوجدوهم مكاشفين بالغدر والنيل من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فشاتمهم سعد بن معاذ وكانوا أحلافه وانصرفوا ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمرهم إن وجدوا الغدر حقاً أن يخبروه تعريضاً لئلا يفُتُّوا في أعضاد الناس » . الصحيح : 9 / 197 .
ورفض ثلاثة أشخاص من بني قريظة نقض العهد وخرجوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلموا وكانوا معه ، وهم « بنو سَعْنة » : أسد وأسيد وثعلبة .
الصحيح : 8 / 138 .
« وأرسلت قريظة إلى أبي سفيان ومن معه من الأحزاب يوم الخندق ، أن أثبتوا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم » . اللمع للسيوطي / 93 .
وفى الإمتاع : 1 / 241 ، أن أبا سفيان ذهب إلى بني قريظة يحثهم على مهاجمة المدينة ، فأبوا أن يقاتلوا حتى يأخذوا سبعين رجلاً من قريش وغطفان رهاناً !
وأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) زيد بن حارثة في ثلاث مئة ، وأسلم بن حريش في مئتين تتقدمهم خيل المسلمين وأمرهم أن يظهروا التكبير ، وشدد على حراسة المدينة من جهة قريظة ، وكان يرسل مجموعات الاستطلاع والكمائن ، فخافت قريظة !
ورووا قصة صفية عمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما كانت النساء والذراري في الآطام ، قالت : « فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آتٍ ، قالت فقلت : يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله ، قال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ! قالت : فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته . قالت : فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت : يا حسان إنزل
--------------------------- 181 ---------------------------
إليه فاسلبه ، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل . قال : مالي بسلبه من حاجة » . ابن هشام : 3 / 711 وأمالي الطوسي / 261 .
د . كان الوقت يعمل لصالح المسلمين بسبب فقدان الأحزاب مصدر تموين جيشهم وعلف خيلهم وإبلهم ، وبسبب تعدد قياداتهم واختلاف أمزجتهم ، فالوقت آخر الصيف وقد أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يجمعوا غلالهم ولا يتركوا شيئاً خارج المدينة .
قال في إمتاع الأسماع : 1 / 223 : « خرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها في أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة ، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، وقادوا معهم ثلاث مائة فرس وكان معهم ألف بعير وخمس مائة بعير .
ولاقتهم سُلَيم بمر الظهران في سبع مائة يقودهم سفيان بن عبد شمس وهو أبو أبى الأعور السلمي ، الذي كان مع معاوية بن أبي سفيان بصفين ، وخرجت بنو أسد وقائدها طليحة بن خويلد الأسدي ، وخرجت بنو فزارة في ألف يقودهم عيينة بن حصن ، وخرجت أشجع في أربع مائة يقودهم مسعود بن رحيلة . . وخرجت بنو مرة في أربع مائة يقودهم الحارث بن عوف . . .
وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من بنى كنانة حتى نزلت وادى العقيق ، ونزلت غطفان بجانب أحد ومعها ثلاث مائة فرس ، فسرحت قريش ركابها في عضاة وادى العقيق ، ولم تجد لخيلها هناك شيئاً إلا ما حملت من علفها وهو الذرة . وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها . وكان الناس قد حصدوا زرعهم قبل ذلك بشهر ، وأدخلوا حصادهم وأتبانهم . وكادت خيل غطفان وإبلها تهلك من الهزل ، وكانت المدينة إذ ذاك جديبة » .
ه - . قويت معنويات الأحزاب بنقض بني قريظة عهدهم وإصابة سعد ، فكانوا ينتظرون حملة بني قريظة من الشرق ، ويطمعون بعبور الخندق من الغرب ، فيطبقوا على المسلمين ويستأصلوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما زعموا ! وقد أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) نصف جيشه أو أكثر لحراسة المدينة من بني قريظة ، وبقى في من
--------------------------- 182 ---------------------------
معه يحرسون الخندق الذي يبلغ طوله نحو ثلاث كيلو مترات ، ويصدون محاولات الأحزاب لعبوره . وكان بعضهم ضعافاً وبعضهم ينامون ولذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشارك بنفسه في حراسة الخندق . « الصحيح : 9 / 15 » . وفى ليلة رد محاولة للمشركين ثم رجع ونام : « وإذا بضرار بن الخطاب وعيينة بن حصن في عدة ، فركب ( صلى الله عليه وآله ) بسلاحه ثانياً فرماهم المسلمون حتى ولوا وفيهم جراحات » . الإمتاع : 1 / 233 .
5 - فرَّ أكثر المسلمين في حرب الخندق !
ووبَّخَهم الله في آيات الأحزاب لخوفهم ونقص إيمانهم ويقينهم ، وهدد الذين فروا منهم ونقضوا عهدهم بأن لايفروا . وسخرت الآيات من مرضى القلوب « المنافقين السياسيين » لأنهم قالوا : مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ! ومدح المؤمنين الصادقين الذين لم ترتجف قلوبهم ، لأنهم على يقين بالنصر : قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ .
لقد تجمعت عوامل على المسلمين : منها كثرة جيش الأحزاب ، ومحاولاتهم المستمرة للنفوذ من الخندق . وانضمام بني قريظة لهم ، وتهديدهم بالهجوم على المدينة . والأزمة الاقتصادية الشديدة عليهم . وإصابة سعد بن معاذ « رحمه الله » . وفعالية قريش واليهود داخل مجتمع المسلمين .
لكن أكثر ما أضعفهم أن بعضهم أخذ يستأذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليتفقد بيته بحجة أنه قريب من قريظة فيذهب ولا يعود ! وبعضهم هرب بدون استئذان !
هذه هي الصورة الصحيحة للصحابة في غزوة الأحزاب ، لكن رواة قريش أخفوا مرضى القلوب ، والكاذبين في الاستئذان ، والمتخلفين عن العودة . وفرار هؤلاء مخفى لكنه فرار كامل الشروط ، فضحه الله بقوله : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً ، فسماه فراراً بأشد أسمائه !
وفى حديث ابن عمر ، قال : « بعثني خالى عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي وقال : من لقيت فقل لهم إن رسول الله
--------------------------- 183 ---------------------------
يأمركم أن ترجعوا ، وكان ذلك في برد شديد ، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا . قال : فلا والله ما عطف على منهم اثنان أو واحد » . رواه الطبراني في الأوسط : 5 / 275 وصححه في مجمع الزوائد : 6 / 135 .
وفى حديث حذيفة ، ورواه الحاكم : 3 / 31 وصححه ، ووثقه مجمع الزوائد : 6 / 136 : « إن الناس تفرقوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلة الأحزاب فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً ، فأتاني رسول الله وأنا جاثم من البرد ، وقال : يا ابن اليمان قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب فانظر إلى حالهم . قلت : يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما قمت إليك إلاحياء منك من البرد » .
وفى حديث عائشة ، الذي رواه أحمد : 6 / 141 والزوائد : 6 / 138 وحسَّنه ، وصفت اختباء جماعة من الصحابة في حديقة ، منهم عمر وطلحة ، وذكرت أن عمر كان يتخوف من الهزيمة والفرار العام ! قالت : « خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس ، قالت فسمعت وئيد الأرض ورائي يعنى حس الأرض ، قالت فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحرث بن أوس يحمل مجنه ، قالت فجلست إلى الأرض فمر سعدٌ وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد ، قالت وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم ، قالت : فمر وهو يرتجز ويقول : ليت قليلاً يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل !
قالت : « فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين ، وإذا فيهم عمر بن الخطاب ، وفيهم رجل عليه سبغة له يعنى مغفراً فقال عمر : ما جاء بك ، لعمري والله إنك لجريئة ، وما يؤمنك أن يكون بلاء « هزيمة » أو يكون تَحَوُّز « فرار عام » !
قالت : فما زال يلومنى حتى تمنيت أن الأرض انشقت لي ساعتئذ فدخلت فيها . قالت فرفع الرجل السبغة عن وجهه فإذا طلحة بن عبيد الله فقال : يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم ، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل » !
فحديث ابن عمر يقول إنهم عصوا أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وظلوا في المدينة إلا من ندر ! وحديث حذيفة يقول إنهم تفرقوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم يبق معه إلا
--------------------------- 184 ---------------------------
اثنا عشر ! وحديث عائشة يقول إنها خرجت من الحصن الذي كان فيه النساء وهو حصن بنى حارثة في المدينة ، « ابن هشام : 3 / 710 » وهو في جهة العوالي وليس في جهة الخندق « الحاكم : 4 / 50 » فمشت باتجاه الخندق فرأت سعداً ذاهباً مع جماعته ، فحادت عن الطريق ودخلت في بستان هناك ، فوجدت جماعة فيهم عمر وطلحة مختبئين ! وكان عمر يتحدث عن احتمال الهزيمة العامة وفرار المسلمين ! فيجيبه طلحة : أكثرت الكلام عن الفرار ، ونحن لسنا هاربين ، بل متحيزون إلى الله !
وينبغي التذكير بأن آية المتسللين : قدْ يعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيحْذَرِ الَّذِينَ يخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . نزلت في الفارين من حفر الخندق أو المرابطة عنده ، وهى شاملة لهم .
يضاف إلى ما تقدم ، شهادة البيهقي في سننه : 9 / 31 : « فلما اشتد البلاء على النبي وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح ، فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول : والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء ، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً وأن يدفع الله عز وجل مفاتح الكعبة ، وليهلكن الله كسرى وقيصرولتنفقن كنوزهما في سبيل الله ! فقال رجل ممن معه لأصحابه : ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن يغنيهم كنوز فارس والروم ، ونحن ههنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط ، والله لما يعدنا إلا غرواً ! وقال آخرون ممن معه : إئذن لنا فإن بيوتنا عورة وقال آخرون : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . وسمى ابن إسحاق القائل الأول : معتب بن قشير ، والقائل الثاني : أوس بن قيظي » ! وهى تسمية سياسية للتغطية على القائل الحقيقي !
ويضاف إلى ما تقدم شهادة القمي في تفسيره : 2 / 186 ، قال : « فلما طال على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الأمر واشتد عليهم الحصار وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة ، وخافوا من اليهود خوفاً شديداً ، تكلم المنافقون بما حكى الله عنهم . ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله إلا نافق إلا القليل ! وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبر أصحابه أن العرب تتحزب ويجيئون من فوق وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل ، وأنه
--------------------------- 185 ---------------------------
ليصيبهم جهد شديد ولكن تكون العاقبة لي عليهم ، فلما جاءت قريش وغدرت اليهود قال المنافقون : مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ، وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة فقالوا يا رسول الله تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا ، فإنها في أطراف المدينة ، وهى عورة ونخاف اليهود أن يغيروا عليها .
وقال قوم : هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب ، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله » .
6 - مرضى القلوب يتآمرون على النبي « صلى الله عليه وآله » مع الأحزاب
كان مرضى القلوب الذين حمَّلوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) هزيمة أحُد لأنه لم يشركهم في القيادة : لوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ! كانوا يأتمرون لحل القضية بزعمهم :
1 - فأشاعوا فكرة المصالحة مع النجديين بإعطائهم ثلث ثمار المدينة سنوياً لينصرفوا ، وقد أحبطها النبي ( صلى الله عليه وآله ) باستشارة الزعيمين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وهو يعرف أنهما يرفضانها ، فرفضاها وانتهت .
وذكر بعضهم أن زعيمي النجديين عيينة والحارث جاءا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وطلبا منه ذلك ، « ابن شيبة : 8 / 501 » وكذب بعضهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه هو الذي بعث لهما ! « الطبري : 2 / 238 » . وأنه كتب عهداً بذلك لعيينة بن حصن رئيس هوازن ، ثم تراجع عنه ! الصحيح من السيرة 9 / 242 .
2 - طرح بعضهم تسليم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقريش فقال : « والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك » ! « كتاب سُلَيم / 249 » لكن ذلك لم يكن ممكناً لهم !
3 - كان مرضى القلوب على صلة بأبى سفيان ، وطلب منهم أن يأخذوا نقطة ضعيفة من الخندق ويسهلوا عبورهم منها ، فإذا عبروا استغلوا الاضطراب في جيش النبي ( صلى الله عليه وآله ) وردموا الثغرة ليعبر جيش الأحزاب ، ويقضوا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ومن المؤشرات على ذلك أن عمرو بن ود وجماعته ، أمروا جنودهم أن يتهيؤوا للقتال غداً قبل محاولتهم عبور الخندق ، لأنهم كانوا واثقين من نجاح عبورهم !
--------------------------- 186 ---------------------------
« مروا بمنازل بنى كنانة فقالوا : تهيؤوا يا بنى كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان اليوم » . الإرشاد : 19 / 7 وابن هشام : 3 / 705 .
ويدل عليه أنه بمجرد أن عبر فرسانهم ركز النبي ( صلى الله عليه وآله ) اهتمامه على الثغرة ! فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يبادر بسرعة فيأخذها ، فإن اعترض أحد من « المسلمين » فليقتله !
قال القاضي النعمان في شرح الأخبار : 1 / 294 : « وتسلل عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أكثر أهل المدينة فدخلوا بيوتهم كالملقين بأيديهم ، فاقتحم عمرو بن عبد ود وأصحابه الخندق على المسلمين وهم على هذه الحال ، فلما نظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ذلك وأن خيلهم جالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وقربوا من مناخ رسول الله ، تخوف أن يمدهم سائر المشركين فيقتحموا الخندق فدعى علياً ( عليه السلام ) فقال : يا علي إمض بمن خفَّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه ! فمضى على ( عليه السلام ) في نفر جمعوا معه يريدون الثغرة ، وقد كان المشركون هموا أن يلجوها ، فلما رأوهم وهم أقل من الذين اقتحموها منهم توقفوا لينظروا ما يكون من أمر أصحابهم معهم ، وعطف عليهم عمرو بن عبد ود بمن كان معه تعنق بهم خيلهم ، حتى قربوا منهم » .
كان مسؤول المنطقة التي فيها الثغرة أسيد بن حضير الذي صار فيما بعد من أبطال السقيفة ، فقد روى الواقدي أن الأحزاب حاولوا العبور منها وأن سلمان نظر إليها وقال لأسيد : « إن هذا مكان من الخندق متقارب ، ونحن نخاف أن تطفره خيلهم ، وكان الناس عجلوا في حفره ، وبادروا فباتوا يوسعونه حتى صار كهيئة الخندق » . الصحيح : 9 / 279 .
كان عرض الخندق تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع ، والذراع يساوى نصف متر أو أكثر ، « الأوزان والمقادير / 56 » فيكون عرضه نحو خمسة أمتار وعمقه ثلاثة أمتار ونصفاً . ومن الصعب أن يقفز الفرس هذه المسافة ، فيحتمل أن يكون أحدٌ ردم جانب الخندق ، ولا يكون ذلك إلا بغياب الحراسة ، أو تواطؤ الحراس ! وهذا يرجح وجود مؤامرة لعبور الأحزاب فبادر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمر علياً بقتل من يعترض عمله فيها ! ويؤيد ذلك أن العبور كان بعد إصابة سعد بن معاذ « رحمه الله » .
--------------------------- 187 ---------------------------
7 - يقين النبي « صلى الله عليه وآله » بالنصر في غزوة الأحزاب وغيرها
فعندما ضرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) الصخرة في الخندق وخرج منها ثلاث برقات ، قال : « لقد فتح الله على في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر ! فقال أحدهما لصاحبه : يعدنا بكنوز كسرى وقيصر ، وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلي » . الكافي : 8 / 216 .
وعندما بلغه أن قريظة نقضوا العهد وأعلنوا الحرب قال : « الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين ، أو قال : أبشروا بنصر الله وعونه » . الصحيح من السيرة : 9 / 199 .
وورد في تفسير قوله تعالي : وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ . أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أخبرهم أنه سيتظاهر عليهم الأحزاب ووعدهم الظفر بهم ، فلما رأوهم تبين لهم مصداق قوله ، وكان ذلك من معجزاته ( صلى الله عليه وآله ) . البحار : 20 / 195 .
وفى الكافي : 2 / 561 2 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « كان دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلة الأحزاب : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، ويا كاشف غمى اكشف عنى غمى وهمى وكربي ، فإنك تعلم حالي وحال أصحابي ، واكفني هول عدوي ، فإنه لا يكشف ذلك غيرك » . ورويت له ( صلى الله عليه وآله ) أدعية أخري .
وفى مستدرك الوسائل : 5 / 281 : « دعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) على الأحزاب يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ، واستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر ، فعرف السرور في وجهه قال جابر : فما نزل بي أمر غائض وتوجهت تلك الساعة إلا عرفت الإجابة » .
8 - من معجزات النبي « صلى الله عليه وآله » في غزوة الأحزاب
أ - منها : أن سلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وجماعة ، كانوا يعملون في أربعين ذراعاً ، فخرجت عليهم صخرة كسَّرت معاولهم : « فصعد سلمان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان في قبة تركية ، فأخبره فهبط معه وبطنه معصوب بحجر من الجوع ، ورأى شدة المكان فأخذ المعول وضربها ضربة فصدعها ، وبرق منها برق أضاء بين لابتى المدينة ، فكبَّر تكبيرة وكبر المسلمون ، ثم ضربها ثانية فكذلك ، ثم الثالثة فكذلك ، فصدعها . فأخذ بيد سلمان ورقي ، فسألوه فقال : إنه بالبرقة
--------------------------- 188 ---------------------------
الأولى أضاءت له قصور الحيرة ومدائن كسري ، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها ، وفى الثانية أضاءت له القصور الحمر من أرض الروم ، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها ، وفى الثالثة أضاءت له قصور صنعاء وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها ! فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق !
فقال المنافقون : ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل وأنتم تحفرون الخندق من الفَرَق لا تستطيعون أن تبرزوا !
وفى الخصال / 390 : « ثم ضرب الثالثة ففلق بقية الحجر وقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا ! » .
ب - ومنها : قال جابر بن عبد الله : اتفقت مع زوجتي سهيلة بنت مسعود الأنصارية ، أن تصلح ما عندهما وهو مد من شعير وشاة غير سمينة ثم ندعو النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى الطعام ، فسأله النبي ( صلى الله عليه وآله ) عما عنده فأخبره . فقال ( صلى الله عليه وآله ) كثير طيب ، ثم دعا أهل الخندق جميعاً وقال لهم : إن جابراً قد صنع لهم سوراً فأقبلوا معه ! قال جابر : فقلت والله إنها الفضيحة ! فأتيت المرأة فقلت لها قد جاءك رسول الله وأصحابه أجمعون ! فقالت : أنت دعوتهم أو هو دعاهم ؟ فقلت : بل هو دعاهم قالت : دعهم هو أعلم ! فأكل الجميع حتى شبعوا وقال ( صلى الله عليه وآله ) : كلوا واهدوا فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة ، فأكلنا وأهدينا فلما خرج رسول الله ذهب ذلك » . الصحيح : 9 / 148 .
ج - ومنها : قال جابر : « اشتد علينا في حفر الخندق كدانة « صخرة » فشكونا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو ، ثم نضح الماء على تلك الكدانة فعادت كالكندر « لينة » » . المناقب : 1 / 103 .
د - ومنها : أن ابنة بشير بن سعد جاءت بحفنة تمر إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة ، فرآها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى تلتمس أباها وخالها ، فأخذها منها في كفه فما ملأتها ، ثم أمر بثوب فبسط له ، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ، ثم أمر فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منها حتى صدر أهل الخندق عنه ، وإنه ليسقط من أطراف الثوب !
البحار : 20 / 247 .
--------------------------- 189 ---------------------------
ه - - ومنها : أن أم متعب الأنصارية أرسلت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقعبة فيها حيس ، وهو في قبته مع أم سلمة فأكلت حاجتها ، ثم خرج بالقعبة فنادى مناديه : هلمَّ إلى عشائه ، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا ، وهى كما هي ! الصحيح : 9 / 151 .
و - ومنها : « لما نزلت الأحزاب على المدينة عبأ أبو سفيان سبعة آلاف رامٍ كوكبة واحدة ، ثم قال : إرموهم رشقاً واحداً ، فوقع في أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) سهام كثيرة فشكوا ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلوح إلى السهام بكمه ، ودعا بدعوات فهبت ريح عاصفة فردت السهام إلى القوم ، فكل من رمى سهماً عاد السهم إليه ، فوقع فيه وجرحه » . البحار : 18 / 64 .
ز . ومنها : قال جابر : « خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المسلمين وقال : جدوا في الحفر ، فجدوا واجتهدوا ولم يزالوا يحفرون حتى فرغ الحفر ، والتراب حول الخندق تل عال فأخبرته بذلك فقال : لا تفزع يا جابر فسوف ترى عجباً ، قال وأقبل الليل ووجدت عند التراب جلبة وضجة عظيمة . . فلما أصبحت لم أجد من التراب كفاً واحداً » . المناقب : 1 / 115 .
9 - جهاد علي « عليه السلام » في غزوة الأحزاب
جاء في خطبة الزهراء « عليها السلام » بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) تخاطب الصحابة : « حتى استنقذكم الله برسوله بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُنِى ببُهْم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون ، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه أطلع الشيطان رأسه فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين » ! الطرائف / 264 .
فقد كان على ( عليه السلام ) عضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الشدائد ، حتى إذا جاء الرخاء وجدته مشغولاً في مهام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومعه نفر قليل من الصحابة ، أما غيرهم فكان هانئاً في ثمار جهودهم وجهادهم ! وفى غزوة الأحزاب كان حامل راية النبي ( صلى الله عليه وآله ) أي
--------------------------- 190 ---------------------------
المسؤول عن كل جيشه ، فكان ينفذ خطته في حفر الخندق ، ويجمع أدوات الحفر من المدينة ، ويستعير عدداً منها من يهود قريظة ! « الصحيح : 9 / 103 » . وكان يسَرِّعَهم في الحفر ليكتمل الخندق قبل وصول جيوش الأحزاب ، ولا بد أنه ( عليه السلام ) كان يعمل في الحفر بقدر عشرة عمال أقوياء وأكثر ، لأنهم رووا أن سلمان « رحمه الله » كان يعمل بقدر عشرة أشخاص ، فأصابوه بالعين !
وعند وصول جيوش الأحزاب ، باشر على ( عليه السلام ) مهمته في حراسة الأبواب الثمانية للخندق ، وتفقد نقاط الضعف التي يمكن أن يطمع العدو بالعبور منها ، وأعد رماة السهام والأحجار لمواجهة أي مجموعة من العدو تقترب من الخندق ، وكان يشارك في رد محاولاتهم عندما يكون في جبهة الخندق .
وفى نفس الوقت كان يدير الجبهة الشرقية على المدينة ، جبهة بني قريظة ، بعد أن نقضوا عهدهم وهددوا المدينة ! ولا بد أنه عاش مس الجوع في تلك الأيام وكتمه كما عاشه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكتمه ثلاثة أيام حتى شد على بطنه حجر المجاعة ! ولا بد أن علياً ( عليه السلام ) فرح ودمعت عيناه عندما عرف أن فاطمة « عليها السلام » جاءت للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بنصف قرص شعير ، « عيون أخبار الرضا : 1 / 43 » . ولا نعلم هل أكل على ( عليه السلام ) منها عندما عرض عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أم بقي طاوياً ؟ ! لكن المؤكد أن الله يعينه على جوعه وجهده !
10 - شهادة سعد بن معاذ بسهم من المشركين
كان سعد بن معاذ رئيس الأوس بل رئيس الأنصار ، وهو مسلم قوى فدائى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي أجابه عندما استشارهم في المضي إلى معركة بدر ، فقال : « بأبى أنت وأمي يا رسول الله ، إنا قد آمنا بك وصدقناك ، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك » ! تفسير القمي : 1 / 259 .
وكان سعد « رحمه الله » طويلاً جميلاً ، وعاش سبعاً وثلاثين سنة فقط . الطبقات : 3 / 433 . وصلى عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : « لقد وافى من الملائكة سبعون ألفاً وفيهم جبرئيل يصلون عليه ، فقلت له : يا جبرئيل بما يستحق صلاتكم عليه ؟ فقال : بقراءته قل هو الله أحد قائماً
--------------------------- 191 ---------------------------
وقاعداً ، وراكباً وماشياً ، وذاهباً وجائياً » ! الكافي : 2 / 622 .
وكان سعد محباً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته « عليهم السلام » ، بصيراً بخطط قريش ضدهم ، ولذا قال فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يرحمك الله يا سعد فلقد كنت شجى في حلوق الكافرين ! لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة المسلمين كعجل قوم موسي ! قالوا : يا رسول الله أو عجلٌ يراد أن يتخذ في مدينتك هذه ! قال : بلى والله يراد ! ولو كان سعد فيهم حياً لما استمر تدبيرهم ، ويستمرون ببعض تدبيرهم ،
ثم الله تعالى يبطله . قالوا : أخبرنا كيف يكون ذلك ؟ قال : دعوا ذلك لما يريد الله أن يدبره » . « تفسير الإمام العسكري / 48 » . وبسبب هذه المكانة الخاصة لسعد « رحمه الله » ،
لا نستبعد أن يكونوا رموه بسهم عبر الخندق بمساعدة منافقين عملاء لهم !
وفى تفسير القمي : 2 / 187 : « كان ابن فرقد الكناني رمى سعد بن معاذ « رحمه الله » بسهم في الخندق فقطع أكحله ، فنزفه الدم فقبض سعد على أكحله بيده ثم قال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فلا أجد أحب إلى محاربتهم من قوم حادوا الله ورسوله ، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين قريش فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتنى حتى تقر عيني من بني قريظة ، فأمسك الدم وتورمت يده ، وضرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) له في المسجد خيمة ، وكان يتعاهده بنفسه » .
هذا وقد رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « اهتز العرش لموت سعد بن معاذ » . « صحيح بخاري : 4 / 227 » . وروينا أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) سئل عما يقوله الناس ، فقال : « إنما هو السرير الذي كان عليه سعد » . « معاني الأخبار / 288 ومعجم السيد الخوئي : 9 / 94 » . أي اهتز سريره كر أمة له وليس عرش الله تعالى .
11 - عبور فرسان الأحزاب من ثغرة في الخندق
نرجح أن المشركين اتفقوا مع منافقين على تسهيل عبورهم ، فتفاجأ المسلمون ببضعة فرسان عبروا الخندق ، وهم : عمرو بن عبد ود العامري ، وابنه حسيل ،
--------------------------- 192 ---------------------------
وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة وثلاثتهم من بنى مخزوم ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس ، وهما فهريان .
وكان ابن عبد ود فارس العرب يعد بألف فارس ، ويسمى فارس يلْيل لأنه أقبل في ركب فعرضت لهم بنو بكر في عدد في واد قريب من بدر ، فقال لأصحابه : إمضوا ، فقام وحده في وجههم ومنعهم من أن يصلوا إليه !
عَبَرَ ابن عبد ودّ ورفقاؤه وأخذوا يجولون ويستعرضون قوتهم ، في السبخة التي تحت جبل سلع ، مقابل مركز قيادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى الآن مسجد الفتح ، وأخلى المسلمون الذين أمامهم المكان ! فلم يهتم النبي ( صلى الله عليه وآله ) للعابرين بقدر ما اهتم لسد الثغرة التي عبروا منها ، فنادى علياً ( عليه السلام ) فأسرع بمن معه لسد الثغرة ، وقد يكون مرَّ قريباً من ابن وُد وهو يطلب المبارزة وخلفه جماعته ، فقال له إصبر حتى أستأذن النبي في مبارزتك ، أو يختار لك من يبارزك ، وعاد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فوجده يحث المسلمين على مبارزة عمرو ويضمن لمن بارزه الجنة ، وهم سكوت كأنما على رؤوسهم الطير ! فقال على ( عليه السلام ) : أنا له يا رسول الله ، فأمره بالجلوس ، وواصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعوته المسلمين ليتم الحجة عليهم فلم يجبه منهم أحد ! فقام على ( عليه السلام ) ثانيةً وقال : أنا له يا رسول الله ، فقال له : أجلس . وحسب رواية ابن إسحاق : يا علي إنه عمرو ، فأجابه : وأنا على يا رسول الله ! فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أدن مني ، فدنا منه فألبسه عمامته وأعطاه سيفه ، ودعا له ، وأطلق كلماته الرسولية بحقه .
وتقدم على ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابر الأنصاري وحذيفة وعمر والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليروا النتيجة . وكان ابن ود يستعرض قوته مرةً بسيفه ومرة برمحه ، أو يركزه في الأرض ويدور بفرسه حوله ، ويقول : أبرز إلى يا محمد ، ثم يقول : إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار ؟ ألا يحب أحدكم أن يقْدِم على الجنة ، أو يبعث عدواً له إلى النار ؟ !
ولقد بححت من الندا * ء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن الشجا * ع موقف الخصم المناجز
--------------------------- 193 ---------------------------
إني كذلك لم أزل * متسرعاً نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتي * والجود من كرم الغرائز
وكان عمرو بن عبد ود راكباً ، ومشى على ( عليه السلام ) نحوه راجلاً ، وهو يقول :
لاتعجلنَّ فقد أتاك * مجيب صوتك غيرُ عاجز
ذو نيةٍ وبصيرةٍ * والصدق مُنجى كلِّ فائز
إني لأرجو أن تقو * م عليك نائحةُ الجنائز
من طعنة نجلاء يبقي * ذكرها بين الهزاهز
وجرى بينهما كلام طويل ، حتى غضب عمرو ونزل عن فرسه وأهوى بسيفه إلى علي ( عليه السلام ) بضربة قوية ، فتلقاها على ( عليه السلام ) بترسه ، فشقت الترس والخوذة والعمامة ، ووصلت إلى رأسه ( عليه السلام ) فجرحته في قرنه ، فانفجر الدم يجرى على رأسه وكتفه ، ولم يتأخر على ( عليه السلام ) فضربه ضربة حيدرية على ترقوته ، كما قال البيهقي وابن إسحاق ، فهوى عمرو صريعاً وكبَّر على ( عليه السلام ) بصوته الجهورى فكبر النبي والمسلمون ، وتقدم ليحز رأسه فتفل عمرو في وجهه وشتم أمه ، فصبر ورجع خطوات ، قال : خشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي !
وجاء على ( عليه السلام ) برأس عمرو إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فمسح النبي ( صلى الله عليه وآله ) الدم والغبار عن عينيه ، ومسح مكان الضربة في رأسه ، ورجع على ( عليه السلام ) إلى الثغرة ليقطع الطريق على جماعة عمرو ، فطلب منه حسل بن عمرو المبارزة فبرز اليه وقتله ولم يمهله ! وهرب عكرمة بن أبي جهل ، وضرار الخطاب ، ونوفل بن عبد الله المخزومي فلحقهم على ( عليه السلام ) ، فأفلت عكرمة بعد أن ألقى درعه ، وأفلت ضرار ، وعلق نوفل في الخندق فلم تستطع فرسه الصعود من الطرف الآخر ، فأخذ المسلمون يرمونه بالحجارة فصاح بهم : قتلةٌ أجمل من هذه ! ينزل إلى بعضكم أقاتله ! فنزل إليه على ( عليه السلام ) ، فضربه وقتله .
وفى الطرائف / 60 ، عن أبي هلال العسكري ، قال : « أول من قال : جُعلت فداك ،
--------------------------- 194 ---------------------------
علي ، لما دعا عمرو بن عبد ود إلى البراز يوم الخندق ولم يجبه أحد ، قال علي : جعلت فداك يا رسول الله أتأذن لي ؟ قال : إنه عمرو بن عبد ود . قال : وأنا علي بن أبي طالب ، فخرج إليه فقتله » .
وفى كنز الفوائد / 137 : « فتقدم إليه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : برز الإيمان كله إلى الشرك كله . فلما هم أن يذبحه وهو يكبر الله ويحمده ، قال له عمرو : يا علي قد جلست منى مجلساً عظيماً فإذا قتلتني فلا تسلبنى حلتي ! فقال له أمير المؤمنين : هي أهون على من ذلك ! وذبحه وأتى برأسه وهو يتبختر في مشيته فقال عمر : ألا ترى يا رسول الله إلى علي كيف يتيه في مشيته ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنها مشية لايمقتها الله في هذا المقام . ثم نهض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتلقاه ومسح الغبار عن عينيه » . وانتشر خبر قتل عمرو في المسلمين كالبرق ، ففرحوا واستبشروا ، ووقع على الأحزاب كالصاعقة وكان ذلك قبل ظهر يوم الأربعاء .
وواصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعاءه بعد صلاة الظهر ، فتغير الجو وجاءت الريح وعصفت بجيش الأحزاب فاضطربوا ، وأخذوا يفكرون بالإنسحاب ، وباتوا في ليلة ليلاء ، فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليهم حذيفة متنكراً في الظلام ، فوصل إلى خيمة أبي سفيان واستطلع خبرهم ، وفى اليوم التالي بادروا إلى الرحيل : وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ لَمْ ينَالُوا خَيرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلى ( عليه السلام ) ، والملائكة ، والرياح .
وكان ابن مسعود يقرأ الآية : وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلي ، وَكَانَ اللهُ قَوِيا عَزِيزًا . الإرشاد : 1 / 106 ، القمي : 2 / 182 ، الحاكم : 3 / 32 وابن هشام : 3 / 708 .
ورجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) صبيحتها إلى المدينة ، وما إن صلى الظهر ووضع لباس حربه حتى جاءه جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة ، فأرسل علياً ( عليه السلام ) أمامه ثم التحق بهم !
12 - علي « عليه السلام » يصف غزوة الأحزاب ومبارزته لعمرو
قال على ( عليه السلام ) في جوابه لسؤال أحد أحبار اليهود كما في الخصال للصدوق / 369 : « وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً
--------------------------- 195 ---------------------------
وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقتلنا معه معاشر
بنى عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأنبأه بذلك فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار . فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ! ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يدعوها إلى الله عز وجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبي ، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً ! وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود ، يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضنى إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعممنى بيده وأعطاني سيفه هذا ، وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً على من ابن عبد ود ! فقتله الله عز وجل بيدي ، والعرب لا تَعُدُّ لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة ، وأومأ بيده إلى هامته ، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك ، وبما كان منى فيهم من النكاية » .
13 - حذيفة « رحمه الله » يصف مبارزة علي « عليه السلام » لعمرو بن ود
في مناقب على ( عليه السلام ) : 1 / 222 ، قال ربيعة : « أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد الله إنا نتحدث في علي وفى مناقبه فيقول لنا أهل البصرة : إنكم لتفرطون في علي وفى مناقبه ، فهل أنت تحدثني في علي بحديث ؟ فقال حذيفة : يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي
--------------------------- 196 ---------------------------
نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) في كفة الميزان من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل على يوماً واحداً في الكفة الأخرى لرجح عمله على جميع أعمالهم ! فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد ! فقال حذيفة : وكيف لا يحتمل هذا يا ملكعان « أحمق » ! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك ، وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود ينادى للمبارزة ، فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً فقتله الله على يديه ؟ ! والذي نفسي بيده لعمله ذلك اليوم أعظم عند الله من جميع أعمال أمة محمد إلى يوم القيامة » .
وفى تفسير مجمع البيان : 8 / 131 : « عن حذيفة قال : فألبسه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) درعه ذات الفضول ، وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وعممه عمامته السحاب ، على رأسه تسعة أكوار ، ثم قال له : تقدم ، فقال لما ولي : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوق رأسه ، ومن تحت قدميه .
قال ابن إسحاق : فمشى إليه وهو يقول : لاتعجلن فقد أتاك . . مجيب صوتك غير عاجز . . إلى آخر الأبيات . . قال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي . فقال : غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك ، فإني أكره أن أهرق دمك ! فقال على ( عليه السلام ) : لكني والله ما أكره أن أهرق دمك ! فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو على مغضباً ، فاستقبله على بدرقته ، فضربه عمرو بالدرقة فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه ! وضربه على على حبل العاتق ، فسقط » .
وفى شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني : 2 / 10 ، بسنده عن حذيفة ، قال : « فجاء حتى وقف على عمرو فقال : من أنت ؟ فقال عمرو : ما ظننت أنى أقف موقفا أُجهل فيه ، أنا عمرو بن عبد ود ؟ فمن أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ، فقال : الغلام الذي كنت أراك في حجر أبى طالب ؟ قال : نعم . قال : إن أباك كان لي صديقاً وأنا أكره أن أقتلك ! فقال له علي : لكني لا أكره أن أقتلك ، بلغني أنك تعلقت بأستار الكعبة وعاهدت الله عز وجل أن لا يخيرك رجل بين ثلاث خلال إلا اخترت منها خلة ؟ قال : صدقوا . قال : إما أن ترجع من حيث جئت . قال : لا تحدث بها قريش . قال : أو تدخل في ديننا فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا . قال : ولا هذه . فقال له علي : فأنت فارس وأنا راجل ! فنزل عن فرسه وقال : ما لقيت من أحد ما لقيت من هذا الغلام ! ثم ضرب وجه فرسه فأدبرت ثم أقبل إلى علي وكان رجلاً طويلاً يداوى دبر البعيرة ، وهو قائم ، وكان على ( عليه السلام ) في تراب دق لا يثبت قدماه عليه ، فجعل على ينكص إلى ورائه يطلب جلداً من الأرض يثبت قدميه ، ويعلوه عمرو بالسيف وكان في درع عمرو قصر فلما تشاك بالضربة تلقاها على بالترس فلحق ذباب السيف في رأس على ( عليه السلام ) حتى قطعت تسعة
--------------------------- 197 ---------------------------
أكوار حتى خط السيف في رأس علي . وتسيف على رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه ، فثارت بينهما عجاجة فسمع على ( عليه السلام ) يكبر ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قتله والذي نفسي بيده !
فكان أول من ابتدر العجاج عمر بن الخطاب ، فإذا على يمسح سيفه بدرع عمرو فكبر عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله قتله ! فحز على رأسه ثم أقبل يخطر في مشيته ، فقال له رسول الله : يا علي إن هذه مشية يكرهها الله عز وجل إلا في هذا الموضع . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : ما منعك من سلبه فقد كان ذا سلب ؟ فقال : يا رسول الله : إنه تلقاني بعورته . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم ، وذلك إنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو » . والصحيح من السيرة : 9 / 333 وبعضه المناقب : 2 / 324 .
14 - رواية تفسير القمي لمبارزة على لعمرو
قال علي بن إبراهيم القمي « رحمه الله » في تفسيره : 2 / 182 : « فمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يهرول في مشيه وهو يقول : لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز . . . الأبيات . . فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وختنه . فقال : والله إن أباك كان لي صديقاً قديماً وإني أكره أن أقتلك ! ما أمن ابن عمك حين بعثك إلى أن أختطفك برمحي هذا ، فأتركك شائلاً بين السماء والأرض لا حي ولا ميت ؟ !
فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قد علم ابن عمى أنك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النار ، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة ! فقال عمرو : وكلتاهما لك يا علي ؟ تلك إذا قسمة ضيزي !
قال على ( عليه السلام ) : دع هذا يا عمرو ، وإني سمعت عنك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول لايعرضن على أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها ،
--------------------------- 198 ---------------------------
وأنا أعرض عليك ثلاث خصال ، فأجبني إلى واحدة ! قال : هات يا علي ! قال : أحدها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . قال : نحِّ عنى هذه ، فاسأل الثانية ، فقال : أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً ، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره . فقال : إذاً تتحدث نساء قريش بذلك ، وتنشد الشعراء في أشعارها أنى جبنت ورجعت على عقبى من الحرب ، وخذلت قوماً رأَّسُونى عليهم !
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فالثالثة أن تنزل إلى فإنك راكب وأنا راجل حتى أنابذك . فوثب عن فرسه وعرقبه وقال : هذه خصلة ما ظننت أن أحداً من العرب يسومنى عليها ، ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالسيف على رأسه ، فاتقاه أمير المؤمنين بدرقته فقطعها ، وثبت السيف على رأسه .
فقال له على ( عليه السلام ) : يا عمرو أما كفاك أنى بارزتك وأنت فارس العرب ، حتى استعنت على بظهير ؟ ! فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً ، وارتفعت بينهما عجاجة فقال المنافقون قُتل علي بن أبي طالب ، ثم انكشف العجاجة فنظروا فإذا أمير المؤمنين على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه ، فذبحه ثم أخذ رأسه وأقبل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو ، وسيفه يقطر منه الدم ، وهو يقول والرأس بيده :
أنا على وابن عبد المطلبْ * الموت خيرٌ للفتى من الهربْ
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة .
وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته . وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب ، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال ضرار : ويحك يا ابن صهاك أترمينى في مبارزة ! والله لئن رميتنى لا تركتُ عدوياً بمكة إلا قتلته ! فانهزم عنه عمر ومرَّ نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة ثم قال : إحفظها يا عمر . . فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما ولى فولاه » !
وروى أنهم وجدوا جمجمة عمرو بن ود ، فكيلت بها كيلجة فاستوعبتها ! « مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 69 » والكيلجة صاع إلا يسيراً المحلي : 5245 .
--------------------------- 199 ---------------------------
وأراد المشركون شراء جثة عمرو بعشرة آلاف ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! المناقب : 1 / 171 .
15 - أخ عمرو بن ود يواجه علياً « عليه السلام » في مكة !
أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبا بكر ليبلغ سورة براءة إلى المشركين ، فنزل جبرئيل بأمر الله تعالى : لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك ! أحمد : 1 / 151 والخصال / 369 .
فأمر بإرجاعه من الطريق وأرسل بها علياً ( عليه السلام ) ، فدخل على مكة ووقف في الموسم يقرأ عليهم سورة براءة . قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « لما قرأ قوله تعالي : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . . قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح ، وإن شئت بدأنا بك !
فقال على ( عليه السلام ) : أجل أجل ، إن شئت ، هلموا ! ثم واصل ( عليه السلام ) تلاوته : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيرُ مُعْجِزِى اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ » . المناقب 1 / 392 .
16 - شبَّه الإمام الصادق « عليه السلام » يوم الأحزاب بيوم القيامة !
في الكافي : 8 / 278 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على التل الذي عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب في ليلة ظلماء قَرَّة « باردة » فقال : من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنة فلم يقم أحد ، ثم أعادها فلم يقم أحد ! فقال أبو عبد الله بيده : وما أراد القوم ، أرادوا أفضل من الجنة ؟ ! ثم قال : من هذا ؟ فقال : حذيفة . فقال : أما تسمع كلامي منذ الليلة ولا تَكَلَّم ، أقُبِرت ؟ فقام حذيفة وهو يقول : القَرُّ والضُّرُّ جعلني الله فداك منعني أن أجيبك . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : انطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم ! فلما ذهب قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده ، وقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يا حذيفة لا تحدث شيئاً حتى تأتيني ، فأخذ سيفه وقوسه وحجفته .
قال حذيفة : فخرجت وما بي من ضر ولا قر ، فمررت على باب الخندق ،
--------------------------- 200 ---------------------------
وقد اعتراه المؤمنون والكفار . فلما توجه حذيفة قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونادي : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرين ، إكشف همى وغمى وكربي ، قد ترى حالي وحال أصحابي . فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله ، إن الله عز ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك ، وقد أجابك وكفاك هول عدوك ، فجثى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على ركبتيه وبسط يديه وأرسل عينيه ، ثم قال : شكراً شكراً ، كما رحمتنى ورحمت أصحابي . ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد بعث الله عز وجل عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصي ، وريحاً من السماء الرابعة فيها جندل .
قال حذيفة : فخرجت فإذا أنا بنيران القوم ، وأقبل جند الله الأول ريح فيها حصي ، فما تركت لهم ناراً إلا أذرتها ، ولا خباءً إلا طرحته ، ولا رمحاً إلا ألقته ! حتى جعلوا يتترسون من الحصي ! فجعلنا نسمع وقع الحصى في الأترسة ، فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين ، فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين فقال : أيها الناس إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذاب ، ألا وإنه لن يفوتكم من أمره شئ ، فإنه ليس سنة مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فارجعوا ولينظر كل رجل منكم من جليسه ! قال حذيفة : فنظرت عن يميني فضربت بيدي فقلت : من أنت ؟ فقال : معاوية ، فقلت للذي عن يساري : من أنت ؟ فقال سهيل بن عمرو ! قال حذيفة : وأقبل جند الله الأعظم ، فقام أبو سفيان إلى راحلته ، ثم صاح في قريش : النجاء النجاء ! وقال طلحة الأزدي : لقد زادكم محمد بشر ، ثم قام إلى راحلته وصاح في بنى أشجع : النجاء النجاء ! وفعل عيينة بن حصن مثلها ، ثم فعل الحرث بن عوف المزنى مثلها ! ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها ! وذهب الأحزاب ، ورجع حذيفة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره الخبر ! وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إنه كان ليشبه يوم القيامة » !
17 - ضربة علي « عليه السلام » غيرت ميزان القوي !
فرح النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتل على عمرو بن ود وأخبرهم بأن ميزان القوى قد تغير ! قال جابر بن عبد الله الأنصاري : « فما شبهت قتل على عمراً إلا بما قال الله تعالى من
--------------------------- 201 ---------------------------
قصة داود وجالوت ، حيث يقول : فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد قتله : الآن نغزوهم ولا يغزوننا » . إعلام الوري : 1 / 382 والإرشاد : 1 / 102 ، كنز الفوائد / 138 والحاكم : 3 / 34 ، سبل الهدي : 4 / 379 والخوارزمي / 171 .
وأدرك رؤساء القبائل أن موجة الإسلام قادمة لا محالة ، فأخذوا يفكرون بالتقرب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإعلان إسلامهم ، ليتجنبوا الخسارة أو يكسبوا موقعاً في دولته الجديدة المتوثبة ، فقال عمرو بن العاص لخالد بن الوليد : « والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكراً » ! « تاريخ الطبري : 2 / 313 » . ووافقه خالد على ذلك ، وبعد مدة قليلة جاءا مسلمين بعد الحديبية .
18 - رسالة أبي سفيان قبل هروبه بجيش الأحزاب !
عندما قرر الأحزاب الانسحاب كتب أبو سفيان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بكبرياء : « لقد سرت إليك في جمعنا وإنا نريد ألا نعود إليك أبداً حتى نستأصلك ! فرأيتك قد كرهت لقاءنا وجعلت مضايق وخنادق ، فليت شعري من علمك هذا ؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد تبقر فيه النساء » !
وبعث بها مع أبي أسامة الجشمي ، فقرأها له أبي بن كعب ، فكتب إليه ( صلى الله عليه وآله ) : « أما بعد فقديماً غرك بالله الغرور ، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم ، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا ، فذلك أمر الله يحول بينك وبينه ، ويجعل لنا العاقبة حتى لاتذكر اللات والعزي ! وأما قولك : من علمك الذي صنعنا من الخندق فإن الله تعالى ألهمني ذلك ، لما أراد من غيظك به وغيظ أصحابك . وليأتين عليك يوم تدافعنى بالراح ! وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأساف ونائلة ، وهبل حتى أذكرك ذلك » . الصحيح ة : 9 / 440 والإمتاع : 1 / 242 .
19 - إشادات النبي « صلى الله عليه وآله » بعلي « عليه السلام » يوم الأحزاب
روى المسلمون أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الإشادة بعلى ( عليه السلام ) وشهاداته بحقه : فمنها : أنه ألبسه درعه وأعطاه ذا الفقار وعممه بعمامته . ولما برز ومشى دعا له :
--------------------------- 202 ---------------------------
اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه .
ومنها : أنه رفع عمامته ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إنك أخذت منى عبيدة بن الحرث يوم بدر ، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد ، وهذا أخي علي بن أبي طالب ، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين .
ومنها : أنه علمه دعاء هو : اللهم بك أصول ، وبك أجول ، وبك أدرأ في نحره .
ومنها : عندما برز اليه قال ( صلى الله عليه وآله ) : برز الإيمان كله إلى الشرك كله .
ومنها : قال ( صلى الله عليه وآله ) : ضربة على يوم الخندق تعدل عمل أمتي إلى يوم القيامة . ضربة على تعدل عند الله عمل الثقلين . ضربة على أفضل عند الله من عمل الثقلين !
وأشهرها الحديثان الأخيران ، ولا يتسع الكتاب لبحثهما . راجع : الصحيح : 9 / 333 و 340 .
20 - معنى قول النبي « صلى الله عليه وآله » لعلي « عليه السلام » : وإنك لذو قرنيها
روى أن ذا القرنين : « بعثه الله إلى قومه فضُرب على قرنه الأيمن ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فملكه مشارق الأرض ومغاربها من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب » . وقال رسول الله عن علي ( عليه السلام ) : وإن فيكم مثله » . الإيقاظ / 145 ، الدر المنثور : 4 / 241
وفتح القدير : 3 / 309 .
وفسره في القاموس : 4 / 258 ، بأنه ( عليه السلام ) : « ذو شجتين في قرني رأسه ، إحداهما من عمرو بن ود ، والثانية من ابن ملجم » .
وهذا يؤكد أن ضربة عمرو كانت على قرن رأسه ( عليه السلام ) . وفى رواية أن ضربة ابن ملجم وقعت على ضربة عمرو . المناقب : 2 / 327 .
وقد فسر بعضهم بذلك قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) : « يا علي ، لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها ، وشيعتك تعرف بحزب الله عز وجل » . أمالي الصدوق / 656 .
قال الراغب في المفردات / 401 : « وذو القرنين معروف ، وقوله عليه الصلاة والسلام
--------------------------- 203 ---------------------------
لعلى رضي الله عنه : إن لك بيتاً في الجنة وإنك لذو قرنيها : يعنى ذو قرني الأمة ، أي أنت فيهم كذى القرنين » .
لكن ذكر الصدوق « رحمه الله » في معاني الأخبار / 206 ، أن معناه أنه والد الحسنين « عليهما السلام » لأنهما قرنا الجنة بمعنى قرطيها وزينتها . وفسره بوجه آخر : إنك صاحب الحجة على شرق الدنيا وغربها ، وآخذ بقرنيها . وهو مشكل . كما تردد الشريف الرضى في المجازات النبوية / 87 ، في تفسيره بين معان ، فذكر قرني الجنة بطرفيها ، لأنه يبلغ غايات المثابين فيها ، أو بمعنى قرني الأمة بمعنى طرفيها فأنت في أولها والمهدى في آخرها ، أو بمعنى صاحب العلم الظاهر والباطن ، أو بمعنى أنك رأس الأمة لأن الرأس فيه القرنان ، أو المضروب مثله على قرنيه . وكلها لا تخلو من إشكال ، وإن كان الأخير أقلها إشكالاً .
وفسره السيد ابن طاووس في سعد السعود / 65 ، والحر العاملي في الإيقاظ / 145 ، بأنه يقصد رجعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد موته كما رجع ذو القرنين بعد موته . وهو مشكل ، لأنه ( عليه السلام ) بعد الرجعة لا يضرب على قرنه الآخر .
21 - النبي « صلى الله عليه وآله » يكشف علاقة عمر بقادة الأحزاب
لم أجد ذكراً لأبى بكر في غزوة الخندق ، لكن ورد ذكر عمر في أربع قضايا :
أولها : حديث عائشة المتقدم وأنه هرب من الخندق مع طلحة واختبآ في بستان وكان عمر يتخوف هزيمة الباقين وطلحة يقول لسنا هاربين بل متحيزون إلى الله !
وثانيها : عندما عبر الخندق عمرو بن عبد ود وجماعته ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) عمر أن يبرز لضرار بن الخطاب الفهري ، وكان أحد الذين عبروا مع ابن ود . ومن الغريب أن كُتَّاب السيرة حاولوا تغطية مبارزته لضرار بن الخطاب وعفو ضرار عنه ، مع أن ذلك حدث مرتين في أحُد ثم في الخندق ! وقد روته مصادرنا ورواه الواقدي وابن هشام وابن عساكر وغيرهم ! بل رووا أن خالد بن الوليد عفا عن عمر في أحد ولم يقتله ! قال ابن هشام : 2 / 282 : « وكان ضرار لحق عمر بن
--------------------------- 204 ---------------------------
الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول : أنج يا بن الخطاب ، لا أقتلك ، فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه » .
وفى تاريخ دمشق : 24 / 392 و 396 : « فكان « ضرار » يقاتل أشد القتال ويحرض المشركين بشعره ، وهو قاتل عمرو بن معاذ أخا سعد بن معاذ يوم أحد ، وقال حين قتله : لاتُعْدَمَنَّ رجلاً زوَّجك من الحور العين ! وكان يقول زوجت عشرة من أصحاب محمد ! وأدرك عمر بن الخطاب فضربه بالقناة ثم رفعها عنه فقال : يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة ، والله ما كنت لأقتلك » .
فما هو السبب في إخفاء أتباعه لذلك ؟ وما هو السبب في حب قادة قريش لابن الخطاب ، وهم الذين استماتوا لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته ، وشخصيات أصحابه !
ثم لماذا أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) عمر بن الخطاب العدوي أن يبرز إلى ضرار بن الخطاب الفهري ، وهو يعلم أن ضراراً يحب عمر ، فقد ظفر به في أحُد وعمر هارب فضربه على ظهره بعرض رمحه وقال له : والله لا أقتلك !
بحث هذا الموضوع في الصحيح من السيرة : 6 / 235 وذكر فيه قول ضرار حسب رواية الواقدي : « يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة ، والله ما كنت لأقتلك » . ثم تساءل : لماذا ما كان ليقتله ؟ أليس هو الذي أذل قريشاً كما يدعون وعز به الإسلام كما يزعمون ؟ كما كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام فيقول : لقد رأيتُنى ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم أحد وما معه أحد ، وإني لفى كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري ، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له ، فنظرت إليه متوجهاً إلى الشعب ! فلماذا هذه المراعاة من خالد لعمر ؟ ولماذا يهنئ أبو سفيان عمر بالنصر الذي أحرزوه على المسلمين ، ويقول له : أنعمت عيناً قتلى بقتلى بدر ! فأجابه عمر بقوله : إنها !
والقضية الثالثة : التي ذكر فيها عمر في الخندق ، أنه أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنقض بني قريظة عهدهم ، فمن أين عرف ذلك ؟ راجع : الصحيح من السيرة : 9 / 270 .
والقضية الرابعة : عندما غاب بعد قتل عمرو بن ود ، وكان الوقت ظهراً ، فغاب حتى
--------------------------- 205 ---------------------------
المغرب ، وجاء من جهة الخندق وقال إنه كان يسب قريشاً إلى المغرب وكادت تفوته الصلاة ! وروى البخاري ذلك بروايات ، وزعمو أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاتته الصلاة كعمر !
والجواب على التساؤلات : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يعلم بعلاقة عمر مع زعماء الأحزاب والمحبة بينهم ، ولكنه أراد أن يفهم المسلمون ذلك !
ومن الغريب أن عمر كان قبل يومٍ فاراً مع طلحة في الحديقة التي آوت إليها عائشة وفيها نساء وأطفال ، وأن سعداً مر في ذلك اليوم ، ولما وصل إلى الخندق أصيب . وفى اليوم التالي لإصابة سعد كان عمر عند الخندق عندما عبره ابن ود وجماعته ، ولعله رجع من الحديقة التي رأته فيها عائشة وبقى طلحة هناك .
وقد ورد أن عمر كان يحب ضراراً فولاه في العراق والشام ، وشكاه أبو عبيدة بأنه يشرب الخمر فلم يعزله ! وكان عمر يحب شعره ويأمر المغنى في طريق الحج أن يغنيه به ، فقال ابن عوف لرباح المغني : « غننا ، فقال له عمر : إن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطاب » ! الإصابة : 3 / 392 .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما في كتاب سُلَيم بن قيس / 247 : « وقد علموا يقيناً أنى أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله ، وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا عناء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبة في البقاء .
وقد علموا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك .
وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ، ولا يبارز الأبطال ، ولا يفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شديدة قط ولا كربهُ أمرٌ ولا ضيق ومستصعب من الأمر إلا قال : أين أخي علي ، أين سيفي ، أين رمحي ، أين المفرج غمى عن وجهي ، فيقدمنى فأتقدم فأفديه بنفسي ، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه . ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول ، حيث خصني
--------------------------- 206 ---------------------------
بذلك ووفقني له . وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غير مرة واحدة ، ثم فر ومنح عدوه دبره ، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مراراً ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغير ، وأمر ونهي .
ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه ، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مما رآى به من الرعب وقال ( صلى الله عليه وآله ) : أين حبيبي علي ؟ تقدم يا حبيبي يا علي . . والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا ، وحمل الناس على رقابنا » .
أقول : ذكر ( عليه السلام ) أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قتل شخصين بيده هما أبي بن خلف ، وهو ابن قميئة حمل عليه في أحُد ليقتله فطعنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحربة في عنقه فمات منها في مكة . أما مسجع بن عوف فلم أجده فيما لدى من مصادر .
22 - طعنوا بالنبي « صلى الله عليه وآله » بأنه فاتته أربع صلوات !
زعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) انشغل عن الصلاة في معركة الأحزاب حتى ذهب وقتها ! فقد روى البخاري : 1 / 147 : « أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس ، فجعل يسب كفار قريش ! قال : يا رسول الله ماكدت أصلى العصر حتى كادت الشمس تغرب ؟ قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : والله ما صليتها ، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب » ! ومعناه أن الحادثة كانت في يوم قتل على لعمرو بن ود وهبوب الريح عليهم وكانت يوم أربعاء ! وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يصل ذلك اليوم العصر ، أو فاتته أربع صلوات كما زعمت بعض رواياتهم ! وأن عمر ذهب إلى الخندق قبل صلاة العصر ، وكان مقابله قرشيون فكان يسبهم ويسبهم ويسبهم إلى قريب المغرب ، ولم يضرب أحد منهم الآخر بسهم كما ضربوا سعد بن معاذ ، ولا بحجر كما هو دأبهم ودأب المسلمين الذين يواجهونهم ! ثم رجع عمر سالماً غانماً وأدرك صلاة العصر على حافة الوقت ، فحكى ذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال له أنت خير منى لأنى لم أصلها أبداً ! فرجعوا إلى المدينة مساء ذلك اليوم والمسافة من الخندق إلى المدينة نحو ساعة فوصلوا إلى بطحان وهو واد
--------------------------- 207 ---------------------------
متصل بالمدينة ، « فتح الباري : 2 / 347 » فانتظروا النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى صلى العصر التي فاتته وصلوا المغرب معه !
وهذه المنقبة التي رواها عمر لنفسه لا تصح ، لأن رجوعهم إلى المدينة كان في الصباح ووصلوا قبل الظهر أو معه ، فنزل جبرئيل وأمرهم بحرب بني قريظة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة .
ولا تصح أيضاً ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان في خيمته بعد قتل عمرو ، وواصل دعاءه حتى هبت الريح على الأحزاب ، وفى تلك الليلة بعث حذيفة واستطلع خبرهم .
ولا تصح أيضاً ، لأنها تنافى العصمة ، وعبودية النبي ( صلى الله عليه وآله ) الكاملة لربه .
ولأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لو انشغل عن صلاته لانشغل الذين كانوا معه ، فكيف فاتته من دونهم ، كما فاتت عمر دونهم ، لأنه ذهب إلى نقطة من الخندق !
والذي يصح أن عمر ذهب بعد قتل عمرو والتقى ببعض المشركين وتحدث معهم ، وما سبهم ولا سبوه ، ففاتته الصلاة ، وأراد أن يخفف عن نفسه أو يبرر ذلك لمن لامه ، فقال إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاتته الصلاة مثله ! وأنه هو صلاها قرب مغيب الشمس ، بينما لم يصلها النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى غابت !
قال المحقق البحراني « رحمه الله » في الحدائق الناضرة : 7 / 373 : « الرواية عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه شغل عن أربع صلوات يوم الخندق ، إنما هي من طرق المخالفين وليس في أخبارنا لها أثر ولا توافق أصولنا » . راجع : ألف سؤال وإشكال : 1 / 171 .
23 - من شعر الأحزاب ومبارزة علي « عليه السلام » لابن ود
روى ابن إسحاق وابن هشام : 3 / 733 شعر حرب الخندق ، ومبارزة على ( عليه السلام ) لابن ود ، وأورد بعضها في الصحيح : 9 / 382 . قال ضرار بن الخطاب الفهري :
ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا
كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا
ترى الأبدان فيها مسبغات * على الأبطال واليلب الحصينا
--------------------------- 208 ---------------------------
وجرداً كالقداح مسوماتٍ * نؤم بها الغواة الخاطئينا
كأنهم إذا صالوا وصلنا * بباب الخندقين مصافحونا
أناس لا نرى فيهم رشيداً * وقد قالوا : ألسنا راشدينا
فأحجرناهم شهراً كريتاً * وكنا فوقهم كالقاهرينا
نراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا
بأيدينا صوارم مرهفات * نقد بها المفارق والشئونا
كأن وميضهن معريات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا
وميضُ عقيقة لمعت بليلٍ * ترى فيها العقائق مستبينا
فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا
ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا
فإن نرحل فإنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعداً رهينا
إذا جن الظلام سمعت نوحى * على سعد يرجعن الحنينا
وسوف نزوركم عما قريب * كما زرناكمُ متوازرينا
بجمع من كنانة غير عزل * كأسد الغاب قد حمت العرينا
فأجابه كعب بن مالك الأنصاري :
وسائلة تسائل ما لقينا * ولو شهدت رأتنا صابرينا
صبرنا لا نرى لله عدلاً * على ما نابنا متوكلينا
وكان لنا النبي وزير صدق * به نعلو البرية أجمعينا
نقاتل معشراً ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا
ترانا في فضافض سابغات * كغدران الملا متسربلينا
وفى أيماننا بيض خفاف * بها نشفى مراح الشاغبينا
--------------------------- 209 ---------------------------
بباب الخندقين كأن أسداً * شوابكهن يحمين العرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الأعداء شوساً معلمينا
لننصر أحمداً والله حتى * نكون عباد صدق مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا
بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا
فإما تقتلوا سعداً سفاهاً * فإن الله خير القادرينا
سيدخله جناناً طيبات * تكون مقامة للصالحينا
كما قد ردكم فلا شريداً * بغيظكم خزايا خائبينا
وقال مسافع الجمحي يبكى عمرو بن عبد ود :
عمرو بن عبد كان أول فارسٍ * جزع المذاد وكان فارس يليلِ
سمحُ الخلائق ماجدٌ ذو مرة * يبغى القتال بشكة لم ينكل
ولقد علمتم حين ولوا عنكم * أن ابن عبد فيهم لم يعجل
حتى تكنفه الكماة وكلهم * يبغى مقاتله وليس بمؤتلي
ولقد تكنفت الأسنة فارساً * بجنوب سلع غير نكس أميل
تسل النزال على فارس غالب * بجنوب سلع ليته لم ينزل
فاذهب على فما ظفرت بمثله * فخراً ولا لاقيت مثل المعضل
نفسي الفداء لفارس من غالب * لاقى حمام الموت لم يتحلحل
وقال الشيخ كاظم الأزرى « رحمه الله » من قصيدته الأزرية / 124 :
ظهرت منه في الوغى سطواتٌ * ما أتى القوم كلهم ما أتاها
يوم غصت بجيش عمرو بن ود * لهوات الفلا وضاق فضاها
وتخطى إلى المدينة فرداً * بسرايا عزائمٍ ساراها
--------------------------- 210 ---------------------------
فدعاهم وهو ألوفٌ ولكن * ينظرون الذي يشبُّ لظاها
أين أنتم عن قسورٍ عامري * تتقى الأسد بأسه في شراها
فابتدى المصطفى يحدث عما * تؤجر الصابرون في أخراها
قائلاً إن للجليل جناناً * ليس غير المجاهدين يراها
أين من نفسه تتوق إلى * الجنات أو يورد الجحيم عداها
من لعمرو وقد ضمنت على * الله له من جنانه أعلاها
فالتووا عن جوابه كسوام * لا تراها مجيبة من دعاها
وإذا هم بفارس قرشي * ترجف الأرض خيفةً إذ يطأها
قائلاً مالها سواي كفيل * هذه ذمة على وفاها
ومشى يطلب الصفوف كما تم * - شى خماص الحشا إلى مرعاها
فانتضى مشرفيه فتلقى * ساق عمرو بضربة فبراها
والى الحشر رنة السيف منه * يملأ الخافقين رجع صداها
يا لها ضربة حوت مكرمات * لم يزن ثقل أجرها ثقلاها
هذه من علاه إحدى المعالي * وعلى هذه فقس ما سواها » .
ثمان مسائل من قتل عمرو بن عبد ود
المسألة الأولي : نص العلامة في تذكرة الفقهاء : 9 / 83 : على أن خدعة على ( عليه السلام ) لعمرو في الحرب رواية عامية ، قال : ( روى العامة أن عمرو بن عبد ود بارز علياً ( عليه السلام ) ثم قال : فقال على ( عليه السلام ) : ما برزت لأقاتل اثنين ! فالتفت عمرو فوثب على ( عليه السلام ) فضربه ، فقال عمرو : خدعتني ! فقال على ( عليه السلام ) : الحرب خدعة ) .
لكن يظهر أن علي بن إبراهيم قبلها ، حيث قال في تفسيره : 2 / 182 : ( فقال له علي : يا عمرو أما كفاك أنى بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت على بظهير ؟ فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً . .
--------------------------- 211 ---------------------------
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة ) .
كما أفتى بها آقا ضياء العراقي في شرح التبصرة : 4 / 408 ، فقال : « نعم تجوز الخدعة في الحرب لفعل على ( عليه السلام ) بعمرو بن عبد ود ، وقال ( عليه السلام ) : الحرب خدعة » .
لكن صاحب الجواهر : 21 / 79 وهو أفقه من آقا ضياء ، اكتفى بإيرادها ، واستدل هو والسيد الخوئي ، منهاج الصالحين : 1 / 373 على جواز الخدعة ، برواية إسحاق بن عمار المعتبرة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال يوم الخندق : الحرب خدعة .
والنتيجة : أن الخدعة في الحرب جائزة ، لكن بعض فقهائنا توقف في أن علياً ( عليه السلام ) استعملها مع عمرو ، وبعضهم ثبت عنده ذلك لوجود قرائن على صحة رواية العامة . ولا شك أن التوقف أحوط وأكثر انسجاماً مع صفات على ( عليه السلام ) وأخلاقه .
المسألة الثانية : ذكرت الروايات أنه لما برز على ( عليه السلام ) لعمرو ، ذهب معه متفرجون من المسلمين وهم خمسة كما في رواية ابن إسحاق ، قال : وتقدم على ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابرالأنصاري ، وحذيفة ، وعمر ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليتفرجوا .
وقال القاضي المغربي في شرح الأخبار : 1 / 294 : ( ووقف المشركون من وراء الخندق ينظرون ما يكون منهما . ورفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده إلى السماء يدعو الله عز وجل لعلى بالظفر ) . ومعناه أن المتفرجين كانوا من الطرفين ، فالمشركون من وراء الخندق ، والمسلمون أمام خيمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في منحدر جبل سلع ، عند أول السبخة التي كانت ميدان المبارزة .
المسألة الثالثة : لم يأذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى من أول الأمر ، رغم سكوت المسلمين وإلحاح عمرو بالنداء ، ويبدو أن ذلك لإتمام الحجة عليهم ، لكن ذكرت الرواية أنه كان يريد أن يبرز له غير على ( عليه السلام ) لأن فاطمة « عليها السلام » كانت تخاف عليه !
( في كل ذلك يقوم على ليبارزه فيأمره النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالجلوس لمكان بكاء فاطمة « عليها السلام » عليه من جراحاته في يوم أحد ، وقولها ما أسرع أن يوتم الحسن
--------------------------- 212 ---------------------------
والحسين باقتحامه الهلكات . فنزل جبرئيل عن الله تعالى أن يأمر علياً ( عليه السلام ) بمبارزته ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي أدن منى وعممه بعمامته وأعطاه سيفه ، وقال إمض لشأنك .
ثم قال : اللهم أعنه . فلما توجه إليه قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : خرج الإيمان سائره إلى الكفر سائره ) . مناقب آل أبي طالب : 2 / 325 .
المسألة الرابعة : نهى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن المثلة بالمقتول حتى لو كان كلباً عقوراً ، وكانت المثلة بالأعداء من ثقافة الجاهلية وما زالت ، من قطع رؤوسهم وحملها إلى قادتهم والدوران بها في المدن والقري ! وأشهر من حملت رؤوسهم من بلد إلى بلد الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه رضوان الله عليهم .
ورووا عن غير طريق أهل البيت « عليها السلام » أنهم جاؤوا للنبي ( صلى الله عليه وآله ) برؤوس أعدائه ، ولا يصح عندنا ، ولا تصح روايتهم أن علياً ( عليه السلام ) جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) برأس عمرو بن ود ، وأنه في خيبر جاء له برأس مرحب . الكامل لابن عدي : 6 / 50 .
والمرجح عندنا أن معنى قولهم إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذبحه أو قطع رأسه ، أنه أجهز عليه ، وليس فيه دلالة على أنه فصل رأسه أو حمله .
ويؤيده أنهم ضعفوا رواية مجيئه برأس عمرو إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مجمع الزوائد : 6 / 152 .
كما رووا أن ابن مسعود جاء برأس أبى جهل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحمد الله ، الإستيعاب : 3 / 1410 وأن أبا بردة بن نيارقال : ( جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتها بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) نهاية ابن كثير : 3 / 343 وأن جابرالأنصارى قال إن محمد بن مسلمة جاء برأس كعب بن الأشرف إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) . الثقات لابن حبان : 1 / 215 .
لكن هذا لو صح فهو تصرف منهم ، ولا بد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمرهم بدفنها .
فموقف النبي ( صلى الله عليه وآله ) الترفع عن التمثيل بالجثامين ، والتنزه عن اتخاذها وسيلة للتجارة أو الضغط على العدو . ويؤيد ذلك أن المشركين أرسلوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليشتروا جثة عمرو بن عبد ود بعشرة آلاف درهم ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! المناقب : 1 / 171 . ويؤيده ما رووه عن الزهري : ( لم يحمل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رأس إلا يوم بدر ) . سير السرخسي : 1 / 111 .
--------------------------- 213 ---------------------------
المسألة الخامسة : يناسب أن نذكر بعض من قتلهم الحكام وطافوا برؤوسهم ونصبوها في البلاد ليخوفوا من خالفهم ، ومعناه أن ثقافة الجاهلية استمرت في الأمة ، وأن ما نراه في عصرنا من وحشية وتمثيل في الجثث ، إرث متصل بالجاهلية ، ولا صلة له بالإسلام .
قال المؤرخ ابن حبيب في كتابه المحبر / 490 : ( ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ، وكان شيعياً ، ودير به في السوق . ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضي الله عنه وقتل معه العباس وجعفر وعثمان وعبد الله ومحمد وأبا بكر بنى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وأبو بكر بن الحسن والقاسم وعبد الله ابنا الحسن وعلى وعبد الله بن الحسين وعبد الله وجعفروعبد الرحمن بنو عقيل بن أبي طالب ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل ، ومسلم بن عقيل ومحمد وعون ابنا عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم ، فحملت رؤوسهم إلى يزيد بن معاوية ، فنصبها بالشام وبعث برأس الحسين رضي الله عنه فنصب بالمدينة !
ونصب المختار بن عبيد رأس عبيد الله بن مرجانة ورأس الحصين بن نمير السكسكي ورأس شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ، وكان إبراهيم بن الأشتر قتلهم يوم الحازر وبعث إليه برؤوسهم فبعث برؤوسهم إلى ابن الحنفية ، فنصبت رؤوسهم على باب المسجد الحرام ، فخرج ابن الحنفية من الطواف فرآها منصوبة فحمد الله وأثنى عليه .
فلما قتل مصعب بن الزبير المختار بعث برأسه إلى عبد الله بن الزبير فنصبه على باب المسجد الحرام وسمر في يد المختار مسماراً من حديد إلى جنب المسجد ، مسجد الكوفة فلم تزل مسمورة حتى قدم الحجاج فرآها فسأل عنها فأخبر بها فأمر بنزعها . ونصب مصعب بن الزبير رأس إبراهيم بن الحر الجعفي بالكوفة .
ونصب عبد الملك رأس إبراهيم بن الأشتر النخعي ، ورأس يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي .
ونصب عبد الملك رأس مصعب بمصر ثم رده فنصبه بدمشق فأخذته عاتكة
--------------------------- 214 ---------------------------
بنت يزيد بن معاوية فغسلته وحنطته ودفنته .
ونصب عبد الملك بن مروان رأس عمير بن الحباب السلمى بدمشق .
ونصب الوليد بن يزيد رأس يحيى بن زيد بن علي رضي الله عنه وكان نصر بن سيار أنفذه إليه من خراسان .
ونصب يزيد بن عبد الملك رأس عبد الله بن موسى بن نصير وكان بعث بها إليه بشر بن صفوان الكلبي من إفريقية اتهمه بقتل يزيد بن أبي مسلم .
ونصب يزيد الناقص رأس الوليد بن يزيد في مسجد دمشق ما يلي باب الفراديس ، ونصب أيضاً رأس يوسف بن عمر الثقفي بدمشق .
ونصب أبو العباس أمير المؤمنين رأس مروان بن محمد بن مروان بالكوفة . ونصب الهادي رأس دحية بن المعصب بن الأسبغ بن عبد العزيز بن مروان ، وكان قتل بمصر فنصب رأسه ببغداد .
وقتل موسى بن عيسى بن موسى الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي بفخ في الموسم فنصب الهادي رأسه ببغداد على الجسر ، ثم بعث به إلى خراسان وأمه زينب بنت عبد الله بن الحسن . ونصب طاهر بن الحسين بن مصعب رأس محمد بن هارون الأمين ببغداد على باب بستان مؤنسة ثم وجه به إلى المأمون بخراسان فنصبه هناك .
وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل وهو بفم الصلح من خراسان برأس علي بن أبي سعيد ورأس عبد العزيز بن عمران الطائي ورأس خلف المصري ورأس مؤنس التاجر ، واتهمهم بدم الفضل بن سهل فنصبها الحسن بن سهل هناك . ونصب المأمون رأس أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي ببغداد .
ونصب المتوكل رأس إسحاق بن إسماعيل التفليسي ببغداد على باب العامة ، وكان بغا الكبير أنفذه من أرمينية ) .
المسألة السادسة : روى في مناقب آل أبي طالب : 1 / 381 : ( لما أدرك على ( عليه السلام ) عمرو بن عبد ود لم يضربه ، فوقعوا في علي ( عليه السلام ) فرد عنه حذيفة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : مه يا حذيفة فإن علياً سيذكر سبب وقفته ، ثم إنه ضربه ، فلما جاء سأله النبي ( صلى الله عليه وآله )
--------------------------- 215 ---------------------------
عن ذلك فقال : قد كان شتم أمي وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ، ثم قتلته في الله ) .
وقد يشكل على ذلك بأن علياً ( عليه السلام ) ليس عنده ثنائية في الغضب والرضا ، فغضبه ورضاه دائماً لله تعالى حتى لو كان لشتم أمه « عليها السلام » .
لكن يجاب عنه بأن حالات المعصوم ( عليه السلام ) في التقرب إلى الله تعالى قد تكون متفاوتة ، فأراد أن يقتله وهو في أعلاها مستوي ، كما أن عمرواً قد يكون تكلم بكلام كثير ، فتركه الإمام ( عليه السلام ) يتم كلامه ويسجل ذلك في صحيفة عمله .
المسألة السابعة : من نبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه ترفع عن سلب عمرو ، بل لم أجد أنه سلب أحداً ممن قتلهم ! قال في مناقب آل أبي طالب : 1 / 384 :
( لما أردى ( عليه السلام ) عمرواً قال عمرو : يا ابن عم إن لي إليك حاجة ، لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه ، فقال : ذاك أهون علي ، وفيه يقول ( عليه السلام ) :
وعففتُ عن أثوابه ولوَ انني
كنتُ المقطر بَزَّنى أثوابي
محمد بن إسحاق : قال له عمر : هلا سلبت درعه فإنها تساوى ثلاثة آلاف ، وليس للعرب مثلها ؟ قال : إني استحييت أن أكشف ابن عمي .
وروى أن أخت عمرو جاءت ورأته في سلبه ، فلم تحزن ، وقالت : إنما
قتله كريم .
وقال ( عليه السلام ) : يا قنبر لاتُعْرِ فرايسي ، أراد لا تسلب قتلاى من البغاة .
إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وفى تاريخ الخميس للديار بكري : 1 / 488 : ( وروى أن علياً لما قتل عمراً لم يسلبه فجاءت أخت عمرو حتى قامت عليه ، فلما رأته غير مسلوب سلبه قالت : ما قتله إلا كفؤ كريم ، ثم سألت عن قاتله قالوا : علي بن أبي طالب ، فأنشأت هذين البيتين . . )
فنلاحظ أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفى لعمرو بوعده فلم يسلبه حتى درعه ، بينما ظل عمر يلومه على ذلك ، ولعل علياً ( عليه السلام ) منع عمر من سلبها ، ويظهر أن أخت عمرو
--------------------------- 216 ---------------------------
جاءت لتأخذ جثته فوجدته بكامل ثيابه ودرعه ، فشهدت بنبل على ( عليه السلام ) .
فسبب عدم سلبه لعمرو أنه وعده كما وعد فارس قريش طلحة بن أبي طلحة في أحُد ؟ والأسباب الأخرى التي ذكرتها روايات إن صحت ، فهي أعذار مكملة .
المسألة الثامنة : عمرو بن عبد ود قرشي من بنى عامر بن لؤي ، وهم أقل درجة من بنى كعب بن لؤي ، ابن هشام : 2 / 489 .
وعدوه ثالث شجعان قريش ، أي بعد بنى عبد الدار وعتبة بن ربيعة ، وقد شهد مع المشركين معركة بدر وقتل اثنين من المسلمين : سعد بن خيثمة الأنصاري وهو من النقباء الحاكم : 3 / 189 وعمير بن أبي وقاص : الإستيعاب : 3 / 1221 .
قال الحاكم : 3 / 32 : ( قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، ولم يشهد أحداً ، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده ) .
- *
--------------------------- 217 ---------------------------
الفصل الثاني والخمسون
غزوة بني قريظة
1 - بنو قريظة آخر من أجلاهم النبي « صلى الله عليه وآله » من يهود المدينة
كان بنو قينقاع أول اليهود الذين نقضوا عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأجلاهم عن المدينة ، وكانوا صاغة ولهم سوق ذهب قرب المدينة . وكان بنو قريظة ملاصقين للمدينة شرقي قباء « حرة قريظة » وبساتينهم في وادى مهزور ، وبساتين النضير في وادى بطحان ، وهما أخصب أودية المدينة . معجم البلدان : 1 / 446 .
وكانت قريظة والنضير أبناء عم لأنهم من ذرية هارون ( عليه السلام ) لذا أخذ الحاخام حيى بن أخطب رئيس بنى النضير يلح عليهم أن ينقضوا عهدهم مع النبي حتى نقضوه وأعلنوا تحالفهم مع الأحزاب الذين كانوا يحاصرون المدينة .
وكانت الخطة أن تهاجم قريظة المدينة من شرقها ، والأحزاب من غربها فيحتلوها ! لكن قريظة طلبت من الأحزاب رهائن ، حتى لاينسحبوا ويتركوهم وحدهم في مواجهة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلم يعطوهم ، حتى كانت هزيمة الأحزاب !
وما إن رجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة ، حتى نزل جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة .
2 - بعث النبي « صلى الله عليه وآله » علياً « عليه السلام » أمامه فحاصر بني قريظة
روى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خرج لغزوة قريظة يوم السبت لأيام مضت من ذي القعدة وحاصرهم خمساً وعشرين يوماً . المحبر / 113 والبلاذري : 1 / 374 .
--------------------------- 218 ---------------------------
وروى في قرب الإسناد / 157 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعث علياً يوم بني قريظة بالراية وكانت سوداء تدعى العقاب ، وكان لواؤه أبيض » .
وفى بصائر الدرجات / 342 ، عن ابن أبي يعفور قال قلت لأبى عبد الله ( عليه السلام ) : « إنا نقول إن علياً ( عليه السلام ) كان ينكت في قلبه أو صدره أو في أذنه . فقال : إن علياً ( عليه السلام ) كان محدَّثاً . قلت : فيكم مثله ؟ قال : إن علياً ( عليه السلام ) كان محدثاً ، فلما أن كررت عليه قال : إن علياً يوم بني قريظة والنضيركان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن
يساره يحدثانه » !
وقال في إعلام الوري : 1 / 194 : « وأصبح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) « بعد الخندق » بالمسلمين حتى دخل المدينة ، فضربت ابنته فاطمة « عليها السلام » غسولاً حتى تغسل رأسه ، إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجراً بعمامة بيضاء عليه قطيفة من إستبرق ، معلق عليها الدر والياقوت عليه الغبار ، فقام رسول ( صلى الله عليه وآله ) فمسح الغبار عن وجهه ، فقال له جبرئيل : رحمك ربك وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء ! ما زلت أتبعهم حتى بلغتُ الروحاء ! ثم قال جبرئيل : إنهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب ، فوالله لأدقنهم دق البيضة على الصخرة !
فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) فقال : قدم راية المهاجرين إلى بني قريظة وقال : عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة . فأقبل على ( عليه السلام ) ومعه المهاجرون وبنو عبد الأشهل وبنو النجار كلها لم يتخلف عنه منهم أحد ، وجعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) يسَرِّب إليه الرجال ، فما صلى بعضهم العصر إلا بعد العشاء ، فأشرفوا عليه وسبُّوه وقالوا : فعل الله بك وبابن عمك ، وهو واقف لا يجيبهم ، فلما أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمون حوله تلقاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك فإن الله سيجزيهم ، فعرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنهم قد شتموه ، فقال : أما إنهم لو رأوني ما قالوا شيئاً مما سمعت ! وأقبل ثم قال : يا إخوة القردة ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ! يا عباد الطاغوت إخسؤوا أخساكم الله ! فصاحوا يميناً وشمالاً : يا أبا القاسم ما كنت « سباباً » فما بدا لك ؟
قال الصادق ( عليه السلام ) : فسقطت العنزة من يده ، وسقط رداءه من خلفه ، ورجع يمشى
--------------------------- 219 ---------------------------
إلى ورائه حياءً مما قال لهم ! فحاصرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ » .
وفى الإرشاد : 1 / 109 : « قال على ( عليه السلام ) : فاجتمع الناس إلى وسرت حتى دنوت من سورهم ، فأشرفوا على فحين رأوني صاح صائح منهم : قد جاءكم قاتل عمرو . . وسمعت راجزاً يرجز :
قتل على عمراً صاد على صقرًا . . قصم على ظهراً . . أبرم على أمراً . . هتك على ستراً !
فقلت : الحمد لله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك . وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لي حين توجهت إلى بني قريظة : سر على بركة الله ، فإن الله قد وعدك أرضهم وديارهم . فسرت مستيقناً لنصر الله عز وجل ، حتى ركزت الراية في أصل الحصن . وأقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) محاصراً لبنى قريظة خمساً وعشرين ليلة حتى سألوه النزول على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم سعد بقتل الرجال وسبى الذراري والنساء ، وقسمة الأموال . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا سعد لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة » . أي حكم بقتل المقاتلين والمحرضين على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقط .
وفى الصحيح من السيرة : 11 / 71 ، ما حاصله : « أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نزل على بئر من آبارهم في أول أرض بني قريظة عند بئر يقال لها : « أنا » وربط دابته بالسدرة التي في أرض مريم ابنة عثمان وضرب قبته هناك ، وشرب من البئر ، وصلى في المسجد الذي هناك ، وتلاحق به الناس وحصلت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كرامة حيث لم يكن للمسلمين معسكر ينزلون فيه فقال : ما لكم لا تنزلون ! فقالوا : ما لنا مكان ننزل به من اشتباك النخل ، فوقف في طريق بين النخل فأشار بيده يمنة ثم يسرة ، فانضم النخل بعضه إلى بعض ، واتسع لهم الموضع فنزلوا » .
3 - بطولة علي « عليه السلام » في قريظة ، ونزول جبرئيل بإمرة المؤمنين له
في الصحيح من السيرة : 11 / 90 ، ملخصاً : « نجد الزبير بن بكار يذكر لنا في كتاب المفاخرات نصاً يفيد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد بعث إلى بني قريظة أكابر أصحابه
--------------------------- 220 ---------------------------
فهزموا ، فبعث علياً ( عليه السلام ) فكان الفتح على يديه ، تماماً كالذي جرى في خيبر ! فقد روى الزبير بن بكار مناظرة بين الإمام الحسن ( عليه السلام ) وبين عمرو بن العاص والوليد بن عقبة ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، عند معاوية ، فكان مما قاله لهم الإمام الحسن ( عليه السلام ) : وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا ، فبعث علياً ( عليه السلام ) بالراية فاستنزلهم على
حكم الله وحكم رسوله ( صلى الله عليه وآله ) . وفعل في خيبر مثلها ؟ !
في الإحتجاج : 1 / 97 : احتجاج خالد بن سعيد بن العاص على أبى بكر أيام السقيفة : « قال : إتق الله يا أبا بكر ، فقد علمت أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ونحن محتوشوه يوم
بني قريظة حين فتح الله له باب النصر ، وقد قتل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولى البأس والنجدة منهم : يا معاشر المهاجرين والأنصار إني موصيكم بوصية فاحفظوها ومودعكم أمراً فاحفظوه : ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدى وخليفتي فيكم بذلك أوصاني ربي .
ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه ، اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ووليكم شراركم ! ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمرى والعالمون لأمر أمتي من بعدي . اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم في زمرتي ، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي ، يدركون به نور الآخرة . اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي ، فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض » .
أقول : لاحظ أن نخبة فرسان قريظة خرجوا من حصنهم بعد اليوم الثالث وبارزوا ، فبرز إليهم على ( عليه السلام ) وقتلهم ! ولكن رواة السلطة لم يذكروا ذلك ، وما رواه أتباع أهل البيت « عليهم السلام » من ذلك أبادته السلطة فيما أبادت ولم يصل الينا !
4 - قبول قريظة بالنزول على حكم حليفهم سعد بن معاذ
قال ابن هشام : 3 / 720 : « إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة : يا كتيبة الإيمان ! وتقدم هو والزبير بن العوام وقال : والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن
--------------------------- 221 ---------------------------
حصنهم ، فقالوا : يا محمد ننزل على حكم سعد » .
« فقال كعب بن أسد : يا معشر بني قريظة : والله إنكم لتعلمون أن محمداً
نبي الله ، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب ، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل ، فهو حيث جعله الله ! ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد ، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس يعنى حيى بن أخطب علينا وعلى قومه ، وقومه كانوا أسوأ منا ! لايستبقى محمد رجلاً واحداً إلا من تبعه ، أتذكرون ما قال لكم ابن حواس حين قدم عليكم فقال : تركت الخمر والخمير والتأمير ، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير ؟ ! قالوا : وما ذلك ؟ قال : يخرج من هذه القرية نبي ، فإن خرج وأنا حي اتبعته ونصرته ، وإن خرج بعدى فإياكم أن تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه ، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر . قال كعب : فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به فنأمن على دمائنا ونسائنا وأموالنا ، فنكون بمنزلة من معه . قالوا : لا نكون تبعاً لغيرنا ، نحن أهل الكتاب والنبوة ، ونكون تبعاً لغيرنا » . الواقدي : 2 / 501 .
وفى المناقب : 1 / 172 : « فحاصرهم النبي خمساً وعشرين ليلة فقال كعب بن أسد : يا معشر اليهود نبايع هذا الرجل وقد تبين أنه نبي مرسل ، قالوا : لا ، قال : فنقتل أبناءنا ونساءنا ونخرج إليه مُصْلِتين ، قالوا : لا ، قال : فنثب عليه وهو يأمن علينا لأنها ليلة السبت ، قالوا : لا . فاتفقوا على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ . . فقتل منهم أربع مائة وخمسين رجلاً ، وقسم الأموال واسترق الذراري » .
وفى الصحيح من السيرة : 11 / 10 : « وجاؤوا بالأسرى إلى المدينة وجعلوهم في دار أسامة بن زيد ودار بنت الحارث . . وكان عدد السبي من الذراري والنساء سبع مئة وخمسين ، وقيل كانوا تسع مئة . ويظهر من النصوص أن بني قريظة لم يقتلوا كلهم ، بل قتل منهم خصوص من حزَّبَ على النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين . ثم جمعت أمتعتهم وأخرج الخمس منها ، ثم قسمت للفارس سهمان وللرجل سهم واحد ، وكانت خيل المسلمين ستة وثلاثين فرساً ، أو ثمانية وثلاثين . أما السبي فبيع
--------------------------- 222 ---------------------------
في من يزيد ، ثم قسم ثمنه في المسلمين المشاركين في هذه الغزوة ، وبعث ( صلى الله عليه وآله ) ببعض السبي إلى نجد أو الشام فبيع هناك واشترى سلاح وخيل » .
أقول : روى ابن هشام : 3 / 725 والبيهقي : 9 / 139 « أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث بسبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بهن خيلاً وسلاحاً » ! فكأن الله أراد أن يجعل النجديين أبناء يهوديات ، فيبتلى بهم المسلمين !
وقال اليعقوبي : 2 / 52 : « فانصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واصطفى منهم ست عشرة جارية فقسمها على فقراء بني هاشم ، وأخذ لنفسه منهن واحدة يقال لها ريحانة . وقسمت أموال بني قريظة ونساؤهم ، فكان الفارس يأخذ سهمين والراجل سهماً ، وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس ، وكانت الخيل ثمانية وثلاثين فرساً » .
5 - المسلمون الأربعة من بني قريظة
نزل أربعة أشخاص من حصون بني قريظة والتحقوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسلموا ، وهم ثلاثة إخوة : أسيد وأسد وثعلبة ، أبناء سعية ، وعمهم أسد بن عبيد . وقالوا لقريظة في أيام حصار النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهم : « يا معشر بني قريظة ، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وإن صفته عندنا حدثنا بها علماؤنا وعلماء بنى النضير ، هذا أولهم يعنى حيى بن أخطب مع جبير بن الهيبان ، أصدق الناس عندنا ، هو خبَّرنا بصفته عند موته . قالوا : لا نفارق التوراة . فلما رأى هؤلاء النفر إباءهم ، نزلوا في الليلة التي نزلت قريظة فأسلموا ، فأمنوا على أنفسهم ، وأهلهم ، وأموالهم . . ولم يكونوا من بني قريظة ولا النضير بل كانوا فوق ذلك . وهم نفر من هدل من بنى عم قريظة ، وليس من هذيل كما في بعض المصادر . . وكان سبب إسلامهم أن ابن الهيبان من يهود الشام قدم على بني قريظة فأقام عندهم ، وكان يستسقى لهم أيام القحط فيسقون فحضرته الوفاة ، فأخبرهم أن سبب خروجه إلى يثرب هو أنه يتوقع خروج نبي قد أظل زمانه ، مهاجره المدينة ليتبعه ، ثم أوصاهم باتباعه » . وقد شكك في الصحيح : 11 / 101 في خبرهم ولم ينفه ، والظاهر أنه صحيح ، فقد ذكره ابن إسحاق : 2 / 64 ، ابن هشام : 1 / 138 و 3 / 719 ، الطبري : 2 / 248 ، الدرر / 179 ، وغيرهم .
--------------------------- 223 ---------------------------
6 - أبو لبابة يخون النبي « صلى الله عليه وآله » ثم يتوب
أبو لبابة بن عبد المنذر ، أنصارى أوسي ، كان طرف التحالف مع بني قريظة ، وكان بيته قربهم وكانوا يحبونه ، فلما حاصرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ يفاوضهم طلبوا أن يرسله إليهم ليستشيروه ، فأرسله فحذرهم من القبول بحكم سعد !
وروى المفسرون أن قوله تعالي : « يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . . . وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيئًا عَسَى اللهُ أَنْ يتُوبَ عَلَيهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . . خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . « الأنفال : 27 و 102 - 103 » . « نزلت في أبى لبابة بن عبد المنذر ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما حاصر بني قريظة قالوا له ابعث الينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا لبابة إئت حلفاءك ومواليك فأتاهم فقالوا له : يا أبا لبابة ما ترى تنزل على حكم محمد ؟ فقال إنزلوا واعلموا أن حكمه فيكم هو الذبح وأشار إلى حلقه ، ثم ندم على ذلك فقال خنت الله ورسوله ! ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومر إلى المسجد وشد في عنقه حبلاً ثم شده إلى الأسطوانة التي تسمى أسطوانة التوبة ، وقال لا أحله حتى أموت أو يتوب الله علي ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أما لو أتانا لاستغفرنا الله له ، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به . وكان أبو لبابة يصوم النهار ويأكل بالليل ما يمسك به رمقه ، فكانت ابنته تأتيه بعشائه وتحله عند قضاء الحاجة ، فلما كان بعد ذلك ورسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبته فقال يا أم سلمة ، قد تاب الله على أبى لبابة ، فقالت يا رسول الله أفأوذنه بذلك ؟ فقال لتفعلن ، فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت : يا أبا لبابة أبشر لقد تاب الله عليك ، فقال الحمد لله فوثب المسلمون ليحلوه فقال : لا والله حتى يحلني رسول الله ! فجاء رسول الله فقال يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أمك يومك هذا لكفاك ، فقال يا رسول الله أفأتصدق بمالي كله ؟ قال : لا ، قال : فبثلثيه ؟ قال : لا ، قال فبنصفه ؟ قال : لا ، قال : فبثلثه ؟ قال نعم . فأنزل الله : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ » . تفسير القمي : 1 / 303 وابن هشام : 3 / 718 .
--------------------------- 224 ---------------------------
وفى من لا يحضره الفقيه : 2 / 570 : « إن كان لك بالمدينة مقام ثلاثة أيام ، صمت يوم الأربعاء وصليت ليلة الأربعاء عند أسطوانة التوبة ، وهى أسطوانة أبى لبابة التي ربط نفسه إليها ، وتقعد عندها يوم الأربعاء ثم تأتى ليلة الخميس الأسطوانة التي تليها مما يلي مقام النبي فتقعد عندها ليلتك ويومك وتصوم يوم الخميس ، ثم تأتى الأسطوانة التي تلى مقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومصلاه ليلة الجمعة فتصلى عندها ليلتك ويومك وتصوم يوم الجمعة . وإن استطعت أن لا تتكلم بشئ هذه الأيام إلا بما لابد منه ، ولا تخرج من المسجد إلا لحاجة ، ولاتنام في ليل ولانهار إلا القليل ، فافعل » . ونحوه كامل الزيارات / 66 .
وفى تفسير أبى حمزة الثمالي / 192 : « بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر ، وثعلبة بن وديعة ، وأوس بن حزام ، تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند مخرجه إلى تبوك فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه ، أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسوارى المسجد ، فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله يحلهم ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وأنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أؤمر فيهم بأمر ، فلما نزل : عَسَى اللهُ أَنْ يتُوبَ عَلَيهِمْ ، عمد رسول الله إليهم فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله فقالوا : هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها وتصدق بها عنا قال ( صلى الله عليه وآله ) : ما أمرت فيها فنزل : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا . . الآيات » .
وفى تفسير العياشي : 2 / 116 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، أن أبا لبابة كان أحد الثلاثة الذين خلفوا . وفى تفسير الثعالبي : 3 / 210 : « وقالت فرقة عظيمة : بل نزلت هذه الآية في شأن المخلفين عن غزوة تبوك » .
وقد توقف في الصحيح من السيرة : 11 / 10 ، في قصة أبى لبابة . ويبدو أن القصة حدثت مرة لأبى لبابة وحده ، ثم كررها مع من تخلفوا معه عن غزوة تبوك ، وكانوا حسب الآية ثلاثة ، وفى راوية أنهم كانوا بضعة عشر شخصاً غير أبى لبابة .
--------------------------- 225 ---------------------------
7 - قصة أبى لبابة دليل على أفضلية التوسل
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما بلغه أن أبا لبابة ربط نفسه بأسطوانة المسجد تائباً : « أما لو أتانا لاستغفرنا الله له ، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به » . وهو يدل على وجود طريقين لدعاء الله تعالى : مباشر ، وبالتوسل بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأن طريق التوسل أسرع .
قال الله تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا . النساء : 64 .
وهوكقوله تعالى لإبراهيم ( عليه السلام ) : وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ . يشمل المجئ إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في حياته ، والمجئ إلى قبره الشريف بعد وفاته . كما يشمل المجيئ إلى إبراهيم ( عليه السلام ) بالحج والعمرة .
ففي الكافي : 4 / 550 : « ثم تأتى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم تقوم فتسلم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم تقوم عند الأسطوانة المقدمة من جانب القبر الأيمن عند رأس القبر عند زاوية القبر وأنت مستقبل القبلة ومنكبك الأيسر إلى جانب القبر ومنكبك الأيمن مما يلي المنبر ، فإنه موضع رأس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقول . . اللهم إنك قلت : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ . . وإني أتيت نبيك مستغفراً تائباً من ذنوبي وإني أتوجه بك إلى الله ربى وربك ليغفرلى ذنوبي » .
وقال الله تعالى : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ . « المائدة : 35 » ، وهى أمر بالتوسل تشمل التوسل بالأعمال الصالحة ، وبالأنبياء والأوصياء والأولياء « عليهم السلام » ففي تفسير القمي : 1 / 168 : « اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ . فقال : تقربوا إليه بالإمام » .
وروى الطرفان عن عائشة في علي ( عليه السلام ) والخوارج « شرح الأخبار : 1 / 141 » : قالت سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « هم شر الخلق والخليقة ، يقتلهم خير الخلق والخليقة ، وأقربهم إلى الله وسيلة » .
إلى آخر ما ورد في التوسل من الآيات والأحاديث ، وهى تدل على أن التوسل أفضل من الطلب بدونه ، فالقول بأنه ينافي التوحيد جهالة ، ورفض الوهابية التوسل مخالف لعقائد الإسلام ، كفرض المشركين التوسل بأصنامهم .
--------------------------- 226 ---------------------------
8 - حاول اليهود أن يجعلوا من قتلى قريظة ظلامة يهودية
حاول اليهود ومن تبعهم من الغربيين أن يجعلوا من بني قريظة ظلامةً لليهود ، وتناسوا أنهم كانوا معاهدين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فنقضوا عهدهم ومزقوه ، وانضموا إلى الأحزاب ، بعد نشاطهم وتجوال حاخاماتهم على قبائل العرب يجمعونهم لقتال النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويعطونهم المال ، وكان أبرز الناشطين الحاخام حيى بن أخطب .
ففي تفسير القمي : 2 / 191 والواقدي : 1 / 514 : « ثم قدم حيى بن أخطب فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا فاسق كيف رأيت صنع الله بك ؟ فقال : والله يا محمد ! ما ألوم نفسي في عداوتك ، ولقد قلقلت كل مقلقل وجهدت كل الجهد ، ولكن من يخذل الله يخذل ! ثم قال حين قدم للقتل :
لعمرك ما لامَ ابن أخطب نفسه * ولكنه من يخذل الله يخذلِ
فقدم فضرب عنقه » .
وفى الإمتاع : 4 / 206 : « فإنهم نقضوا العهد ، وحزبوا الأحزاب ، وجمعوا وحشدوا ، وأظهروا له العداوة ، بعد ما هموا بإلقاء الرحى عليه ، لما أتاهم يستعين بهم في دية بعض أصحابه » .
وإنما قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) منهم من عمل في نقض العهد وساعد الأحزاب لما حاصروا المدينة .
9 - دراسة عمر عند بني قريظة وعلاقته الوطيدة معهم
كان بيت عمر بعيداً عن مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقد سكن في العوالي قرب بني قريظة ولبعد المسافة كان يذهب بين يوم وآخر ! قال عمركما في البخاري : 1 / 31 : « كنت أنا وجار لي من الأنصار في بنى أمية بن زيد وهى من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم . . » .
وكان يحضر دروس بني قريظة في كنيسهم ، قال « إني كنت أغشى اليهود يوم دراستهم ، فقالوا : ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك ، لأنك تأتينا » ! الدر المنثور : 1 / 90 ، عن مسند ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم .
--------------------------- 227 ---------------------------
وطمع اليهود بعمر فعرَّبوا بعض التوراة وأخذها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليعترف بها ! قال عمر : « يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال فتغير وجه رسول الله . . الحديث ، وفيه : والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم » . « فتح الباري : 13 / 438 » . لكن عمر أصر وجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثانيةً فقال : « يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بنى زريق ! فتغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال عبد الله بن زيد الذي أرى الأذان : أمَسَخَ الله عقلك ؟ ألا ترى الذي بوجه رسول الله ! فقال عمر : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً » ! مجمع الزوائد : 1 / 174 .
ثم جاءه ثالثة فقال : « انطلقت في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى أتيت خيبر فوجدت يهودياً يقول قولاً فأعجبني فقلت : هل أنت مكتبى بما تقول ؟ قال : نعم ، فأتيته بأديم فأخذ يملى على فلما رجعت قلت : يا رسول الله إني لقيت يهودياً يقول قولاً لم أسمع مثله بعدك ! فقال : لعلك كتبت منه ؟ قلت : نعم قال : إئتنى به ، فانطلقت فلما أتيته قال : أجلس إقراه فقرأت ساعة ونظرت إلى وجهه فإذا هو يتلون فصرت من الفرق لا أجيز حرفاً منه ، ثم رفعته اليه ثم جعل يتبعه رسماً رسماً يمحوه بريقه وهو يقول : لا تتبعوا هؤلاء فإنهم قد تهوكوا حتى محا آخر حرف » كنز العمال : 1 / 370 .
وجاءه مرة رابعة : « أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال أمتهوكون فيها يا بن الخطاب ! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ! لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به ! والذي نفسي بيده لو أن موسى كان فيكم حياً ما وسعه إلا أن يتبعني » . مجمع الزوائد : 1 / 174 .
وجاءه مرة خامسة : « مر برجل يقرأ كتاباً فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل أكتب لي من هذا الكتاب قال نعم فاشترى أديماً فهيأه ثم جاء به إليه
--------------------------- 228 ---------------------------
فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي » . الدارمي : 1 / 115 والدر المنثور : 2 / 48 و 5 / 148 .
وجاء مرة سادسة ليجيزه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يدرس التوراة عند اليهود فقال له : « لا تتعلمها وآمن بها وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوابه » . الدر المنثور 5 / 148 .
وجاءه مرة سابعة قال عمر : « يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها ! فقال : يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصاري ! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولكني أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصاراً » ! الدر المنثور : 5 / 148 .
وفى مرة ثامنة ساعدت حفصة أباها : « جاءت إلى النبي بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي يتلون وجهه فقال : والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم » عبد الرزاق : 11 / 110 .
- *
ومع ذلك استمر عمر مع مجموعته بالحضور عند اليهود ، حتى رآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوماً يحمل كتاباً فقال له : « ما هذا في يدك يا عمر ؟ ! فقلت : يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا ! فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : أغضب نبيكم ، السلاح السلاح ! فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه ، واختصر لي اختصاراً ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ، ولا يغرنكم المتهوكون ! قال عمر : فقمت فقلت رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبك رسولاً » . الزوائد : 1 / 173 . راجع تدوين القرآن للمؤلف / 416 .
واتفق النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع عروة بن مسعود أن يحرك قريظة لطلب رهائن من قريش كشرط لهجومهم فقال عمر : « يا رسول الله ، أمر بني قريظة أهون من أن يؤثر عنك شئ من أجل صنيعهم ! فقال : الحرب خدعة يا عمر » ! السير الكبير : 1 / 121 .
وعندما اتفق معهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن ينزلوا على حكم سعد ، كان عمر حاضراً وكان يسمع تحرق سعد للانتقام منهم ، فأرسل لهم إشارة أن لايقبلوا بحكم سعد لكنهم لم
--------------------------- 229 ---------------------------
يفهموا إشارته لأنه كانوا مرعوبين ! قال أحمد بن حنبل في مسنده : 6 / 142 : « وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى سعد بن معاذ فأتى به على حمار عليه أكاف من ليف ، قد حُمل عليه وحَف به قومه . . فلما طلع على رسول الله قال : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ، فقال عمر : سيدنا الله عز وجل » . وصحيح ابن حبان : 15 / 500 والطبقات : 3 / 423 .
وفى أخبار الدولة العباسية / 214 : « قوموا إلى سيدكم ، فقال عمر بن الخطاب : الله سيدنا ورسوله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وسعد سيدك يا عمر » !
أقول : في قوله ( صلى الله عليه وآله ) إن سعد سيدك أنت أيضاً يا عمر ، إشارة إلى أن عمر معهم ! - *
--------------------------- 230 ---------------------------
الفصل الثالث والخمسون
غزوة بنى المصطلق أو الُمريسيع
1 . خلاصة الغزوة
بنو المُصْطَلِق بن سعد : بطن من خزاعة أقرب إلى الحضريين ، وكانت خزاعة تغلبت على مكة ، حتى أخرجهم قصى جد النبي ( صلى الله عليه وآله ) . « الكافي : 4 / 219 » . والمُرَيسِيع : ماء لهم قرب الفرع بناحية بدر وقديد من ساحل البحر . معجم البلدان : 5 / 118 ومعجم قبائل العرب : 1 / 5 و 338 .
وكانت خزاعة حليفة لعبد المطلب وبنى هاشم ، وكان بنو المصطلق وبنو الهون من خزاعة حلفاء بنى أمية . « معجم البلدان : 6 / 278 » . وقد شاركوا في حرب الأحزاب بقيادة يزيد بن الحليس . « تفسير مقاتل : 3 / 41 » . ولا يبعد أن يكون أبو سفيان حرَّكهم لغزو المدينة فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) فغزاهم قبل أن يكملوا استعدادهم لحربه !
ففي إعلام الوري : 1 / 196 : « ثم كانت غزوة بنى المصطلق من خزاعة ، ورأسهم الحارث بن أبي الضرار ، وقد تهيؤوا للمسير إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهى غزوة المريسيع وهو ماء ، وقعت في شعبان سنة خمس » .
« وكان سيدهم الحارث بن أبي ضرار ، دعا قومه ومن قدر عليه من العرب ، إلى حرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأجابوه وتجمعوا ، وابتاعوا خيلاً وسلاحاً ، وتهيؤوا للحرب والمسير معه ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي ليتحقق ذلك ، فأتاهم ولقى الحارث وكلمه مظهراً أنه منهم ، وقد سمع بجمعهم ويريد الانضمام بقومه ومن أطاعه
--------------------------- 231 ---------------------------
إليهم ، وعرف منهم صدق ما بلغهم عنهم ، فرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بأنهم يريدون الحرب . فلما أخبر بريدة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بصحة ما بلغه دعا الناس فأسرعوا الخروج ، فخرج معه سبع مئة ، ومعهم ثلاثون فرساً ، منها عشرة للمهاجرين وعشرون للأنصار » .
« وكان شعار المسلمين يومئذ : يا منصور أمت أمت ، فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه فحملوا على الكفار حملة واحدة فقتل منهم عشرة ، وأسر الباقون ، ولم يفلت منهم أحد ، وسبوا الرجال والنساء والذراري ، وأخذوا الشاء والنعم ، وكانت الإبل ألفي بعير والشاء خمسة آلاف ، والسبي مائتي أهل بيت .
قال الحلبي : واستعمل على الغنائم شقران ، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد . وبعث ( صلى الله عليه وآله ) أبا نضلة أو أبا ثعلبة أو أبا نملة الطائي ، بشيراً إلى المدينة بفتح المريسيع . ولما رجع المسلمون بالسبى قدم أهاليهم فافتدوهم » .
« وكانت غيبته ( صلى الله عليه وآله ) في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوماً . وقدم المدينة لهلال شهر رمضان المبارك . وكانت هذه الغزوة ضربة موفقة لقريش ، أسفرت عن نتائج حاسمة . في منطقة كانت إلى الأمس القريب تقع في نطاق النفوذ المكي » . الصحيح من السيرة : 11 / 284 ، 287 ، 290 و 291 .
وروى في المناقب : 1 / 92 : « كان يتفجر الماء من بين أصابعه ( صلى الله عليه وآله ) لما وضع يده فيها حتى شرب الماء الجيش العظيم ، وسقوا وتزودوا في غزوة بنى المصطلق . وفى رواية علقمة بن عبد الله أنه وضع يده في الإناء فجعل الماء يفور من بين أصابعه فقال : حي على الوضوء والبركة من الله ، فتوضأ القوم كلهم .
وفى حديث أبي ليلي : شكونا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) من العطش ، فأمر بحفرة فحفرت فوضع عليها نطعاً ووضع يده على النطع ، وقال : هل من ماء ؟ فقال لصاحب الإداوة : صب الماء على كفى واذكر اسم الله ففعل ، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى روى القوم وسقوا ركابهم » .
--------------------------- 232 ---------------------------
2 . علي « عليه السلام » صاحب الراية في المريسيع وبطل الفتح
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 118 : « ثم كان من بلائه ( عليه السلام ) ببنى المصطلق ما اشتهر عند العلماء ، وكان الفتح له ( عليه السلام ) في هذه الغزاة ، بعد أن أصيب يومئذ ناس من بنى عبد المصطلق ، فقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رجلين من القوم وهما مالك وابنه وأصاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين . وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، وكان الذي سبا جويرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فجاء بها إلى النبي فاصطفاها ، فجاء أبوها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد إسلام بقية القوم فقال : يا رسول الله إن ابنتي لاتسبي ، إنها امرأة كريمة . قال : إذهب فخيرها ، قال : أحسنت وأجملت ، وجاء إليها أبوها فقال : يا بنية لاتفضحى قومك ! فقالت له : قد اخترت الله ورسوله . فقال لها أبوها : فعل الله بك وفعل ، فأعتقها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجعلها في جملة أزواجه » .
« فلما سمع القوم ذلك ، أرسلوا ما كان في أيديهم من بنى المصطلق ، فما علم امرأة أعظم بركة على قومها منها » . المناقب : 1 / 173 .
« قال ابن إسحاق : وأصيب من بنى المصطلق يومئذ ناس كثير ، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكاً وابنه ، وقتل عبد الرحمن بن عوف رجلاً من فرسانهم يقال له أحمر أو أحيمر . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أصاب منهم سبياً كثيراً فقسمه في المسلمين » . ابن هشام : 3 / 761 والطبري : 2 / 263 .
وفى دعائم الإسلام : 1 / 370 ، عن علي ( عليه السلام ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « لايغزى قوم حتى يدْعَوْا ، وإن أكدت الحجة عليهم بالدعاء فحسن ، وإن قوتلوا قبل أن يدْعَوْا إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فلا حرج . وقد أغار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على بنى المصطلق وهم غارُّون ، يعنى غافلون ، فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم ولم يدعهم في الوقت . قال على صلوات الله عليه : قد علم الناس اليوم ما يدْعَوْنَ إليه » .
--------------------------- 233 ---------------------------
3 . أرسل النبي « صلى الله عليه وآله » علياً « عليه السلام » لقتال الجن
في منهاج الكرامة / 171 : « ما رواه الجمهور من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما خرج إلى بنى المصطلق جَنَبَ عن الطريق وأدركه الليل ، فنزل بقرب واد وعر ، فهبط جبرئيل آخر الليل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه ، فدعا بعلى ( عليه السلام ) وعوذه ، وأمره بنزول الوادي فقتلهم ( عليه السلام ) » .
وفى الإرشاد : 1 / 339 : « فدعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقال له : إذهب إلى هذا الوادي ، فسيعرض لك من أعداء الله الجن من يريدك ، فادفعه بالقوة التي أعطاك الله عز وجل ، وتحصن منه بأسماء الله التي خصك بعلمها . وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس وقال لهم : كونوا معه وامتثلوا أمره . فتوجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الوادي فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير ، ولا يحدثوا شيئاً حتى يأذن لهم .
ثم تقدم فوقف على شفير الوادي ، وتعوذ بالله من أعدائه ، وسمى الله عز وجل وأومأ إلى القوم الذين تبعوه أن يقربوا منه فقربوا ، فكان بينهم وبينه فرجة مسافتها غلوة ، ثم رام الهبوط إلى الوادي فاعترضته ريح عاصف كاد أن يقع القوم على وجوههم لشدتها ، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هول ما لحقهم ! فصاح أمير المؤمنين : أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب وصى رسول الله وابن عمه ، أثبتوا إن شئتم ! فظهر للقوم أشخاص على صورة الزط تخيل في أيديهم شعل النار قد اطمأنوا بجنبات الوادي ، فتوغل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً ، فما لبثت الأشخاص حتى صارت كالدخان الأسود ، وكبَّر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم صعد من حيث انهبط ، فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى أسفر الموضع عما اعتراه . فقال له أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما لقيت يا أبا الحسن ؟ فلقد كدنا أن نهلك خوفاً وإشفاقاً عليك أكثر مما لحقنا . فقال لهم : إنه لما تراءى لي العدو جهرت فيهم بأسماء الله عز وجل فتضاءلوا ، وعلمت ما حل بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خائف منهم ، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم وقد
--------------------------- 234 ---------------------------
كفى الله كيدهم ، وكفى المسلمين شرهم ، وسبقنى بقيتهم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يؤمنون به .
وانصرف أمير المؤمنين بمن تبعه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره الخبر ، فسرى عنه ودعا له بخير ، وقال له : قد سبقك يا علي إلى من أخافه الله ، فأسلم وقبلت إسلامه . ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين !
ثم قال المفيد : « وهذا الحديث قد روته العامة كما روته الخاصة ولم يتناكروا شيئاً منه . . ولا أزال أجد الجاهل من الناصبة والمعاند يظهر العجب من الخبر بملاقاة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الجن وكفه شرهم عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه ، ويتضاحك لذلك وينسب الرواية له إلى الخرافات الباطلة ، ويصنع مثل ذلك في الأخبار الواردة بسوى ذلك من معجزاته ( عليه السلام ) ويقول : إنها من موضوعات الشيعة ، وتخرص من افتراه منهم للتكسب بذلك أو التعصب . وهذا بعينه مقال الزنادقة وكافة أعداء الإسلام فيما نطق به القرآن من خبر الجن وإسلامهم . . .
فلينظر القوم ما جنوه على الإسلام بعداوتهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واعتمادهم في دفع فضائله ومناقبه وآياته على ما ضاهوا به أصناف الزنادقة والكفار ، مما يخرج عن طريق الحجاج إلى أبواب الشغب والمسافهات » .
ورواه في الخرائج : 1 / 102 و 203 وفيه : أنه بعث علياً ( عليه السلام ) فحارب الجن الذين كانوا يمنعونهم من الإستقاء من البئر واستقى المسلمون . وإعلام الوري : 1 / 352 والمناقب : 1 / 358 .
4 - زواج النبي « صلى الله عليه وآله » من جويرية بنت الحارث
قال العلامة الحلي في كشف اليقين / 136 : « وفى غزاة بنى المصطلق : كان الفتح له . وقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مالكاً وابنه ، وسبى جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار فاصطفاها النبي ( صلى الله عليه وآله ) لنفسه . فجاء أبوها بعد ذلك وقال : يا رسول الله إن ابنتي لا تسبي ، إنها امرأة كريمة . قال : إذهب وخيرها . قال : لقد أحسنت وأجملت . فاختارت الله
ورسوله فأعتقها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وجعلها في جملة أزواجه » .
وفى إعلام الوري : 1 / 196 : « قالت جويرية بنت الحارث زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أتانا
--------------------------- 235 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونحن على المريسيع ، فأسمع أبى وهو يقول : أتانا ما لا قبل لنا به ! قالت : وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة ، فلما أن أسلمت وتزوجنى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورجعنا جعلت أظهر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أري ، فعرفت أنه رعب من الله عز وجل يلقيه في قلوب المشركين . قالت : ورأيت قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري ، فكرهت أن أخبر بها أحداً من الناس ، فلما سبينا رجوت الرؤيا ، فأعتقني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتزوجني » .
وفى سيرة ابن إسحاق : 5 / 245 : « فلما دخلت عليه قالت : يا رسول الله أنا جويرية ابنة الحارث سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك ، وقد كاتبت على نفسي فأعنى على كتابتي . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أو خير من ذلك أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك ؟ فقالت : نعم ، ففعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فبلغ الناس أن رسول الله تزوجها ، فقالوا أصهار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأرسلوا ما كان في أيديهم من بنى المصطلق ، فلقد أعتق بها مائة أهل بيت من بنى المصطلق فما أعلم امرأة أعظم بركة على أهل بيت منها . . . كانت جويرية من ملك يمين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأعتقها واستنكحها وجعل مهرها عتق كل مملوك من بنى المصطلق » .
5 - تنظيم الخمس لبنى هاشم ، والصدقات والفئ للمسلمين
في الصحيح من السيرة : 11 / 289 ، عن الواقدي والبلاذري : « أخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الخمس من جميع المغنم ، وجعل عليه محمية بن جزء الزبيدي وكان يجمع الأخماس وكانت الصدقات على حدتها ، أهل الفئ بمعزل عن الصدقة ، وأهل الصدقة بمعزل عن الفئ . وكان يعطى الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف ، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفئ ، وأخرج من الصدقة ووجب عليه الجهاد ، فإن كره الجهاد وأباه لم يعط من الصدقة شيئاً ، وخلوا بينه وبين أن يكتسب لنفسه . . .
وقسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الغنائم وأخذ صفيه قبل القسم ، ثم جزأ الغنائم خمسة أجزاء ،
--------------------------- 236 ---------------------------
ثم أقرع عليها ، ولم يتخير ، فأخرج الخمس وأخذ سهمه مع المسلمين لنفسه وفرسه ، وكان له ( صلى الله عليه وآله ) صفى من المغنم حضر أو غاب قبل الخمس : عبدٌ ، أو أمةٌ ، أو سيفٌ ، أو درع » .
6 - ابن سلول وسورة المنافقين !
في تفسير القمي : 2 / 368 : « إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ . . نزلت في غزوة المريسع وهى غزوة بنى المصطلق في سنة خمس من الهجرة ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرج إليها فلما رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلاً فيها ، وكان أنس بن سيار حليف الأنصار ، وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيراً لعمر بن الخطاب ، فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو ابن سيار بدلو جهجاه ، فقال سيار دلوى وقال جهجاه دلوي ، فضرب جهجاه يده على وجه ابن سيار فسال منه الدم ، فنادى سيار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش ، وأخذ الناس السلاح وكاد أن تقع الفتنة ، فسمع عبد الله بن أبي النداء فقال : ما هذا ؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضباً شديداً ثم قال : قد كنت كارهاً لهذا المسير ، إني لأذلُّ العرب ، ما ظننت أنى أبقى إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكون عندي تغيير ! ثم أقبل على أصحابه فقال : هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم ، ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساءكم وأيتم صبيانكم ، ولو أخرجتموهم لكانوا عيالاً على غيركم !
ثم قال : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ . وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاماً قد راهق وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ظل شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله ابن أبي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لعلك وهمت يا غلام ؟ فقال : لا ، والله ما وهمت ! فقال : لعلك غضبت عليه ؟ قال : لا ما غضبت عليه ! قال : فلعله سفه عليك ؟ فقال : لا والله ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لشقران مولاه : أخرج ، فأخرج أحدج راحلته وركب ، وتسامع الناس بذلك فقالوا : ما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليرحل في مثل هذا الوقت ! فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ! فقال : وعليك
--------------------------- 237 ---------------------------
السلام ! فقال : ما كنت لترحل في هذا الوقت ؟ فقال : أوما سمعت قولاً قاله صاحبكم ؟ قالوا : وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله ؟ قال عبد الله بن أبي زعم أنه إن رجع إلى المدينة لَيخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ! فقال : يا رسول الله ، فأنت وأصحابك الأعز وهو وأصحابه الأذل ، فسار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومه كله لا يكلمه أحد ، فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أبي يعذلونه فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئاً من ذلك ، فقالوا : فقم بنا إلى رسول الله حتى نعتذر إليه ، فلوى عنقه ! فلما جن الليل سار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليله كله والنهار ، فلم ينزلوا إلا للصلاة ، فلما كان من الغد نزل رسول الله ونزل أصحابه وقد أمهدهم الأرض من السهر الذي أصابهم .
فجاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فحلف عبد الله أنه لم يقل ذلك ، وأنه ليشهد أنه لا إله إلا الله وأنك لرسول الله ، وأن زيداً قد كذب علي ! فقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منه ، وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ويقولون له كذبت على عبد الله سيدنا ! فلما رحل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان زيد معه يقول : اللهم إنك لتعلم أنى لم أكذب على عبد الله بن أبي ، فما سار إلا قليلاً حتى أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما كان يأخذه من البرحاء عند نزول الوحي عليه ، فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي ، فسرى عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يسكب العرق عن جبهته ، ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال : يا غلام صدق قولك ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآناً ! فلما نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ . . إلى قوله : وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لايعْلَمُون َ . ففضح الله عبد الله بن أبي . . . قال : وإن ولد عبد الله بن أبي أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال يا رسول الله إن كنت عزمت على قتله فمرنى أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الأوس والخزرج أنى أبرهم ولداً بوالدي ، فإني أخاف أن تأمر غيرى فيقتله فلاتطيب نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله ، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بل نحسن صحبته ما دام معنا !
--------------------------- 238 ---------------------------
وفى مجمع البيان : 10 / 23 : « وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة ، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة ، فقال : مالك ويلك ! قال : والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل ! فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأرسل إليه أن خلِّ عنه يدخل . فقال : أما إذا جاء أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنعم . فدخل فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات ! فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله قيل له : نزل فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتمونى أن أؤمن فقد آمنت ، وأمرتمونى أن أعطى زكاة مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد ! فنزل : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا . . إلى قوله : وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لايعْلَمُونَ » . وأسباب النزول / 288 . وشبيه به تفسير القمي : 2 / 371 .
ومن كرم أخلاق النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنهم طلبوا منه قميصه ليكفنوا فيه عبد الله بن أبي المنافق فأعطاهم ، وقيل لأنه كان أعطى قميصه للعباس لما كان أسيراً .
وطلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يصلى عليه فصلى عليه ، فاعترض عليه عمر بخشونة فزجره النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وقد عقد البخاري في صحيحه أبواباً روى فيها فضيلة اعتراض عمر على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وزعم أن الوحي نزل موافقاً لعمرمخطئاً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وقد اعترف أن عمر وثب اليه ووقف أمامه وجذبه من ثوبه ، ليمنعه من الصلاة على الجنازة وقال له : أليس نهاك الله عن هذا ! فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أخِّر عنى يا عمر ! فقال البخاري إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يغضب منه بل ارتاح وتبسم له !
قال البخاري : 2 / 76 : « جاء ابنه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه ، وصلِّ عليه واستغفر له ، فأعطاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) قميصه فقال : آذنِّى أصلى عليه فآذنه فلما أراد أن يصلى عليه جذبه عمر فقال : أليس الله نهاك أن تصلى على المنافقين ! فقال أنا بين خيرتين ، قال الله تعالى : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يغْفِرَ اللهُ لَهُمْ » .
وقال عمر كما في البخاري : 2 / 100 : « وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلى على ابن أبي ، وقد قال يوم كذا وكذا ، كذا وكذا ، أعدِّد عليه قوله ، فتبسم رسول الله وقال : أخِّر عنى يا عمر ، فلما أكثرت عليه قال : إني خُيرتُ فاخترتُ ، لو أعلم أنى إن زدت على السبعين
--------------------------- 239 ---------------------------
فغفر له لزدت عليها ! قال : فصلى عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت : وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً » .
وفى مصادرنا : « ألم ينهك الله أن تقوم على قبره ؟ فقال له : ويلك ما يريد ربك ما قلت ! وما يدريك ما قلت إني قلت : اللهم املأ قبره ناراً ! قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : فأبدى [ عمر ] من رسول الله ما كان يكره » . الكافي : 2 / 188 والدعوات للراوندي / 357 .
7 - هبت ريح عند موت يهودي
وصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمون في رجوعهم من غزوة المصطلق إلى وادى النقيع وهو أرض معشبة على أربعة فراسخ من المدينة ، « البكري : 4 / 1322 » ، وقد حماه النبي لخيل المسلمين ، « الكافي : 5 / 277 » . هناك هاجت ريحٌ قوية آذت المسلمين فخافوا منها ، وسألوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنها فقال : لاتخافوها ، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار ! فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت ، وهو من يهود بنى قينقاع ، قد مات ذلك يوم هبت الريح . وكان كهفاً أي مرجعاً للمنافقين !
وقال ابن هشام : 2 / 370 مات معه رجلان من اليهود هما : « سلسلة بن برهام ، وكنانة بن صورياء » .
وفى الخرائج : 1 / 102 : « فقدمنا المدينة فوجدنا رفاعة بن زيد مات في ذلك اليوم ، وكان عظيم النفاق وكان أصله من اليهود » .
أقول : تفسيره ( صلى الله عليه وآله ) تلك الريح بموت أحد كبار الكفار ، لا ينافي رده لتفسير الناس لخسوف الشمس بموت ولده إبراهيم ( عليه السلام ) ، حيث قال : « يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، يجريان بأمره ، مطيعان لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإن انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا » . الكافي : 3 / 208 .
8 - ضاعت ناقة النبي « صلى الله عليه وآله » فأرجف المنافقون
في تاريخ الطبري : 2 / 262 ، أنه في عودة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من غزوة المصطلق هبت الريح في أول النهار وسكنت في آخره ، فجمع الناس ظهرهم وفقدت راحلة
--------------------------- 240 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فسعى الرجال لها يلتمسونها فقال رجل من المنافقين هو زيد بن اللصيت أحد بنى قينقاع : « كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ، ألايخبره الذي يأتيه بالوحي ؟ ! فأراد الذين سمعوا منه ذلك أن يقتلوه فهرب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) متعوذاً به ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جبرئيل فأخبره بقول المنافق ومكان ناقته ، وأخبر بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه وذلك الرجل يسمع ، وقال : ما أزعم أنى أعلم الغيب وما أعلمه ، ولكن الله أخبرني بقول المنافق ومكان ناقتي ، هي في الشعب قد تعلق زمامها بشجرة . فخرجوا يسعون قِبَلَ الشعب ، فإذا هي كما قال فجاؤوا بها ! وآمن ذلك المنافق » . والخرائج : 1 / 102 ونحوه قصص الأنبياء للراوندي / 307 .
9 . شبَّه النبي « صلى الله عليه وآله » علياً بعيسى بن مريم « عليهما السلام »
في شرح الأخبار : 2 / 466 : « عن سلمان الفارسي أنه قال : لما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من غزوة بنى المصطلق تقدم في مقدمة الناس ، وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يكون في ساقتهم يحفظهم ، فلما وصل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة أتى إلى باب المسجد جلس ينتظر علياً ( عليه السلام ) لم يدخل منزله ، فرأيته يمسح العرق من وجهه ، ثم قال : يأتيكم الساعة من هذه الشعبة ، وأشار بيده إلى بعض الشعاب رجل أشبه الناس بالمسيح ، وهو أفضل الناس بعدى يوم القيامة ، وأول من يدخل الجنة !
فجعلنا ننظر إلى الشعب فكان أول من طلع منه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ! فلما انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قام إليه فاعتنقه وقبل بين عينيه ودخلا فقال قوم من المنافقين : يشبِّه ابن عمه بالمسيح ويمثله به ، أفآلهتنا التي كنا نعبدها خير أم علي ؟ فأنزل الله عز وجل فيهم : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يصِدُّونَ . وَقَالُوا ءَآلِهَتُنَا خَيرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » . الزخرف : 57 - 58 .
أقول : روت هذا الحديث مصادرنا مستفيضاً ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قاله في أكثر من مناسبة « الكافي : 8 / 57 » وروته بعض مصادرهم . ولا بد أن يكون نزول هذه الآيات ثانية بعد نزولها في مكة ، وبعض الآيات نزلت مرات . وفى بعضها أن جبرئيل قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا محمد إقرأ قول الله تعالى كذا . . لآيةٍ نزلت سابقاً .
--------------------------- 241 ---------------------------
10 - الوليد بن عقبة الفاسق بشهادة القرآن !
بعد معركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع بنى المصطلق دخلوا في الإسلام . وعند موسم زكاتهم أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبضها ، فخرجوا لاستقباله فخاف ورجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال له : رفضوا أداء زكاتهم !
وفى سيرة ابن هشام : 3 / 763 : « فأخبره أن القوم قد هموا بقتله . . . فبينما هم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا يا رسول الله ، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً ! فبلغنا أنه زعم لرسول الله أنا خرجنا إليه لنقتله ووالله ما جئنا لذلك . فأنزل الله تعالى فيه وفيهم : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَينُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » . وتفسير الطبري : 26 / 160 ، نحوه شرح الأخبار : 2 / 120 ، البيهقي : 9 / 55 ، الإستيعاب : 4 / 1553 ، والسقيفة للجوهري / 128 ، أسباب النزول / 261 ، اليعقوبي : 2 / 53 .
11 - أرسل النبي « صلى الله عليه وآله » خالداً فأفسد ، فأرسل علياً « عليه السلام » فأصلح
في أمالي الصدوق / 237 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بنى جذيمة ، وكان بينهم وبين بنى مخزوم إحنة في الجاهلية ، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذوا منه كتاباً ، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادى بالصلاة فصلى وصلوا ، فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا ، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه ، فأتوا به النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد ، فاستقبل القبلة ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ! قال : ثم قدم على رسول الله تِبْرٌ ومتاع فقال لعلى ( عليه السلام ) : يا علي ، أئت بنى جذيمة من بنى المصطلق ، فأرضهم مما صنع خالد . ثم رفع ( صلى الله عليه وآله ) قدمه فقال : يا علي ، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك . فأتاهم على ( عليه السلام ) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله ، فلما رجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي ، أخبرني بما صنعت . فقال : يا رسول الله ،
--------------------------- 242 ---------------------------
عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ، ولكل مال مالاً ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ، أعطيتهم ليرضوا عنى رضى الله عنك يا علي ، إنما أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » . وعلل الشرائع : 2 / 473 ، رواه في أمال الطوسي : 498 وفيه : « أرضيتنى رضى الله عنك ، يا علي أنت هادي أمتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة » .
أقول : كان ذلك بعد مدة من غزوة بنى المصطلق ، ولا بد أن هؤلاء ماطلوا في أداء زكاتهم ، لأن إسلام خالد بن الوليد كان بعد غزوة بنى المصطلق والحديبية .
12 - كان بنو المصطلق يماطلون في دفع زكاتهم !
في نوادر الراوندي / 152 : « أهل الصفة وكانوا ضيفان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانوا هاجروا من أهاليهم وأموالهم إلى المدينة ، فأسكنهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صُفَّة المسجد وهم أربع مائة رجل ، كان يسلم عليهم بالغدوة والعشي ، فأتاهم ذات يوم فمنهم من يخصف نعله ، ومنهم من يرقع ثوبه ومنهم من يتفلي ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرزقهم مداً مداً من تمر في كل يوم ، فقام رجل منهم فقال : يا رسول الله ! التمر الذي ترزقنا قد أحرق بطوننا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أما إني لو استطعت أن أطعمكم الدنيا لأطعمتكم ، ولكن من عاش منكم من بعدى فسيغدى عليه بالجفان ويراح عليه بالجفان ، ويغدو أحدكم في قميصة ويروح في أخري ، وتنجدون بيوتكم كما تنجد الكعبة . فقام رجل فقال : يا رسول الله ! إنا على ذلك الزمان بالأشواق فمتى هو ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : زمانكم هذا خير من ذلك الزمان ، إنكم إن ملأتم بطونكم من الحلال توشكون أن تملأوها من الحرام ! فقام سعد بن الأشج فقال : يا رسول الله ! ما يفعل بنا بعد الموت ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : الحساب والقبر ، ثم ضيقه بعد ذلك أو سعته . فقال : يا رسول الله ، هل تخاف أنت ذلك ؟ فقال : لا ولكن أستحى من النعم المتظاهرة التي لا أجازيها ولا جزءً من سبعة .
--------------------------- 243 ---------------------------
فقال سعد بن الأشج : إني أشهد الله وأشهد رسوله ومن حضرني أن نوم الليل على حرام ، والأكل بالنهار على حرام ، ولباس الليل على حرام ، ومخالطة الناس على حرام ، وإتيان النساء على حرام . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا سعد لم تصنع شيئاً كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تخالط الناس ؟ وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة ! نم بالليل وكل بالنهار ، والبس ما لم يكن ذهباً أو حريراً أو معصفراً ، وائت النساء .
يا سعد ! إذهب إلى بنى المصطلق فإنهم قد ردوا رسولي ، فذهب إليهم فجاء بصدقة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كيف رأيتهم ؟ فقال : خير قوم ، ما رأيت قوماً قط أحسن أخلاقاً فيما بينهم من قوم بعثتني إليهم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنه لا ينبغي لأولياء الله تعالى من أهل دار الخلود ، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم ، أن يكونوا أولياء الشيطان من أهل دار الغرور ، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم .
ثم قال : بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر . بئس القوم قوم يقذفون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر . بئس القوم قوم لا يقومون لله تعالى بالقسط ، بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط في الناس . بئس القوم قوم يكون الطلاق عندهم أوثق من عهد الله تعالى . بئس القوم قوم جعلوا طاعة أيمانهم دون طاعة الله . بئس القوم قوم يختارون الدنيا على الدين . بئس القوم قوم يستحلون المحارم والشهوات والشبهات .
قيل : يا رسول الله وأي المؤمنين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكراً ، وأحسنهم له استعداداً ، أولئك هم الأكياس » .
13 - قصة تأخر عائشة عن النبي « صلى الله عليه وآله » في غزوة بنى المصطلق
خلاصة قصة الإفك كما رواها ابن هشام عن عائشة : 3 / 764 : أنها كانت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة بنى المصطلق ، وفى رجوعهم نزل النبي ( صلى الله عليه وآله ) منزلاً : « فبات به بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل فارتحل الناس ، وخرجت لبعض حاجتي وفى عنقي عقد لي فيه جزع ظفار ، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدرى
--------------------------- 244 ---------------------------
فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج وهم يظنون أنى فيه كما كنت أصنع ، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أنى فيه ، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به ، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، قد انطلق الناس . قالت : فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني ، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إلي . قالت : فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي ، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادي فأقبل حتى وقف على وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ظعينة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ وأنا متلففة في ثيابي : قال : ما خلفك يرحمك الله ؟ قالت فما كلمته ثم قرب البعير فقال : اركبى واستأخر عني . قالت فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس ، فوالله ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس ، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني ، فقال أهل الإفك ما قالوا ، فارتجع العسكر ! ووالله ما أعلم بشئ من ذلك ، ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ، ولا يبلغني من ذلك شئ » .
ثم ذكرت عائشة أنها تعالجت عند أمها ، ولم تعرف باتهامها حتى أخبرتها أم مسطح ، وقالت إنه حدثت في مرضها أحداث بسبب اتهامها ، وكاد الأوس والخزرج يقتتلون لأن المتهم كان ابن سلول الأوسي ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خطب وقال : « أيها الناس ، ما بال رجال يؤذوننى في أهلي ، ويقولون عليهم غير الحق ، والله ما علمت منهم إلا خيراً ، ويقولون ذلك لرجل ، والله ما علمت منه إلا خيراً وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي » .
وذكرت عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) استشار أشخاصاً في أمرها منهم على ( عليه السلام ) فقال : « يا رسول الله إن النساء لكثير ، وإنك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فإنها ستصدقك . فدعا رسول الله بريرة ليسألها ، قالت : فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضرباً شديداً وهو يقول : أصدقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتقول : والله ما أعلم إلا خيراً ،
--------------------------- 245 ---------------------------
ودخل عليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : « يا عائشة إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس ، فاتقى الله ، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ! قالت عائشة : فبكيت ثم قلت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً ، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس ، والله يعلم أنى منه بريئة لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني ! قالت : ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت : ولكن سأقول كما قال أبو يوسف : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ . قالت : فوالله ما برح رسول الله مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه . فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول : أبشرى يا عائشة فقد أنزل الله براءتك ، قالت : قلت : بحمد الله ، ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك ، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة ، فضربوا حدهم » .
أقول : هذه رواية عائشة وفيها مناقشات ، لأنه لا يصح قولها إن آية البراءة
نزلت يومها ، بل نزلت بعد سنين !
14 - نزلت آية البراءة في مارية فجعلتها عائشة لها !
وقعت قصة عائشة في غزوة بنى المصطلق في شعبان سنة خمس « إعلام الوري : 1 / 196 » وفى سنة ثمان نزلت آيات الإفك في سورة النور ! وقد اتفقوا على أن سورة النور نزلت دفعة واحدة ، بعد حادثة عائشة بثلاث سنين !
فالصحيح أن آية البراءة نزلت في مارية ، فقد اتهموها في السنة الثامنة وقت نزول الآيات ! ومما يدل على أنها في مارية أنها وصفت المتَّهمة بالغافلة ، وهو ينطبق على مارية لسذاجتها ولاينطبق على عائشة ! لاحظ آياتها : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالآفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَخَيرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِيءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الآثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ . لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ . لَوْلا جَاءُوا عَلَيهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ .
--------------------------- 246 ---------------------------
وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَينًا وَهُوَعِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ . وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ . يعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَيبَينُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
إِنَّ الَّذِينَ يحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ . وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ . يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَنْ يتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يزَكِّى مَنْ يشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . وَلا يأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَليعْفُوا وَلْيصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
إِنَّ الَّذِينَ يرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . يوْمَ تَشْهَدُ عَلَيهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يعْمَلُونَ . يوْمَئِذٍ يوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَالْحَقُّ الْمُبِينُ . الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيبَاتُ لِلطَّيبِينَ وَالطَّيبُونَ لِلطَّيبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . النور : 11 - 26 .
وصفة الغافلة تنطبق على مارية التي كان فيها بساطة وسذاجة ، أما عائشة فلم يقل أحد إنها كانت ساذجة غافلة ، بل كانت ذكية متحركة ، وقد قادت معركة الجمل وحدها لسبعة أيام !
وقد تنبهت عائشة إلى أن صفة « الغافلة » لا تنطبق عليها فقالت : « رميتُ بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك » . « لباب النقول / 157 » . ففسرت الغافلة بالغافلة عن التهمة وهو تفسير ضعيف يكاد ينطبق على كل متهمة ، وهوتخصيص بدون قرينة ، لأن الغفلة في الآية مطلقة تقابل الفطنة والذكاء : والمغفل : الذي لا فطنة له . والغفول من الإبل : البلهاء » . « لسان العرب : 11 / 498 » . « ورجل غفل : لم يجرب الأمور » . الصحاح : 5 / 1783 .
وقد حاول بعضهم أن يجعل الغفلة بمعنى التي لاتخطر الفاحشة ببالها ، « الشوكاني : 4 / 17 وعمدة القاري : 17 / 212 » ، ولا يصح لأن المتبادر منها بدون قرينة : الساذجة .
وسيأتي ما يثبت أن المبرأة مارية لا عائشة .
--------------------------- 247 ---------------------------
الفصل الرابع والخمسون
من غزوة بنى المصطلق إلى عمرة الحديبية
1 - ثلاث غزوات ، وأكثر من عشر سرايا ، وعدد من الأحداث !
يتعجب الإنسان من تتابع فعاليات النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتنوعها ، ويتساءل : كيف اتسعت أيامه وأسبوعه وشهره وسنته ( صلى الله عليه وآله ) لكل هذه النشاطات ؟ !
ومن أمثلتها السنة الخامسة ، فقد كان فيها غزوة بنى المصطلق أو المريسيع ، وحادثة ابن سلول رئيس المنافقين المدنيين ، وتخلف عائشة عن القافلة التي جعلتها حديث الإفك ، وضياع ناقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وطلاق زيد لزينب بنت جحش وزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بها ، ورسائله إلى بعض الحكام والملوك ، وغزوتان ذهب فيهما بنفسه : غزوة بنى لحيان ، وغزوة الغابة . وقصة العرنيين الذين سرقوا إبل الصدقة ، وأكثر من عشر سرايا ، لرد لصوص أو غزاة للمدينة .
وكان منها السرية التي قبضت على ثمامة بن أثال سيد اليمامة ، ثم التهيؤ لأداء العمرة التي سميت غزوة الحديبية .
وخلال ذلك نزول سور من القرآن وآيات ، وأحداث صغيرة وكبيرة !
لكن لاعجب من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي وهب وجوده لربه فباركه ، وكان يأتيه جبرئيل ( عليه السلام ) ويوجهه ويخبره بما يكون ، ويأمره بما يجب ، ويساعده عندما يلزم !
--------------------------- 248 ---------------------------
2 - تشجيع النبي « صلى الله عليه وآله » سباق الخيل والإبل
« أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالسبق بين ما ضُمِّرَ من الخيل وما لم يضَمَّر . . فأرسلها من الحَفْيا إلى ثنية الوداع ، وهو خمسة أميال أو ستة أو سبعة . وأجرى ما لم يضمَّر فأرسلها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق وهو ميلٌ أو نحوه . . وسابق أبو سعيد الساعدي على فرس النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي يقال له : « الظَّرْب » فسبقت غيرها من الخيل ، وكساه النبي ( صلى الله عليه وآله ) برداً يمانياً ، بقيت بقية عند أحفاده إلى زمان الواقدي . وسبق أيضاً أبو أسيد الساعدي على فرس النبي ( صلى الله عليه وآله ) اسمه لزَّاز فأعطاه النبي حُلة يمانية . وسابق ( صلى الله عليه وآله ) بين الخيل مرة وجلس على سلع ، فسبقت له ثلاثة أفراس : لزَّاز ، ثم الظَّرب ، ثم السَّكْب » الصحيح من السيرة : 14 / 12 .
« وقد سابق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أسامة وأجرى الخيل ، فروى أن ناقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) سُبقت فقال : إنها بغت وقالت فَوْقِى رسول الله ! وحقٌّ على الله عز وجل أن لايبغى شئ على شئ الا أذله الله ، ولو أن جبلاً بغى على جبل لهدَّ الله الباغي منهما » . الفقيه : 3 / 48 و 4 / 59 .
أقول : تقدم أن المسلمين لم يكن عندهم في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة إلا فرس واحدة ، ثم كان عندهم في السنة الثالثة في أحُد بضعة أفراس ، فشجعهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على اقتناء الخيل واشترى هو فكان عندهم في السنة الرابعة عدد منها ، وفى السنة الخامسة كانت خيلهم بالعشرات ، وشجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) اقتناءها وأجرى السباق بينها ، وكذا بين الإبل . فاتسع اهتمام المسلمين بالخيل . ولا علاقة لهذا السباق الذي أجراه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في السنة الرابعة والخامسة للهجرة وبين سقوطه عن فرسه ذات مرة ، فقد كان ذلك في السنة التاسعة .
فقد روى في الفقيه : 1 / 250 و 381 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقع عن فرس فشج شقه الأيمن ، فصلى بهم جالساً في غرفة أم إبراهيم » .
وفى رواية : فسحج شقه الأيمن أي خدش جلده . ونحوه عمدة القاري : 4 / 105 .
3 - لم تقع في المدينة زلزلة في عهد النبي « صلى الله عليه وآله »
قال في الصحيح : 14 / 24 : « وزعموا : أنه في سنة خمس من الهجرة زلزلت المدينة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله عز وجل يستعتبكم فأعتبوه . ونقول : إن الله تعالى يقول : وَمَا
--------------------------- 249 ---------------------------
كَانَ اللهُ لِيعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ . . » .
أقول : لا أثر في أحاديث أهل البيت « عليهم السلام » لوقوع زلزلة في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال المقريزي في إمتاع الأسماع : 12 / 390 : « لم يأت عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة . وأول زلزلة كانت في الإسلام في عهد عمر فأنكرهاثم قال : ما أسرع ما أحدثتم ! والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم » .
وزعموا أنه ضرب الأرض بسوطه فسكنت ! « الغدير : 8 / 82 » . وهو من المكذوبات .
وزعموا أنه أخذ تميماً الداري فطارد نار بركان في المدينة بيديه حتى هربت ! « الدارمي : 1 / 132 » . وهو من المكذوبات أيضاً !
4 - قصة زواج النبي « صلى الله عليه وآله » من زينب بنت حجش
قال الله تعالى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يكُونَ لَهُمُ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً . وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ الله عَلَيهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيهِ أَمْسِكْ عَلَيكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَى لَا يكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً . مَّا كَانَ عَلَى النَّبِى مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ الله فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَّقْدُوراً . الَّذِينَ يبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيخْشَوْنَهُ وَلا يخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللهَ وَكَفَى بِالله حَسِيباً . مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَئ عَلِيماً » . سورة الأحزاب : 36 - 40 .
في تفسير القمي : 2 / 172 بسند صحيح عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : « كان سبب نزول ذلك : وَإِذْ تَقُولُ للذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِ . أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها ، ورأى زيداً يباع ورآه غلاماً كيساً حصيفاً فاشتراه ، فلما نبئ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعاه إلى الإسلام فأسلم وكان يدعى زيد مولى محمد ( صلى الله عليه وآله ) فلما بلغ حارثة بن شراحبيل الكلبي خبر ولده زيد ، قدم مكة وكان رجلاً جليلاً ، فأتى أبا طالب فقال : يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي ،
--------------------------- 250 ---------------------------
وبلغنى أنه صار إلى ابن أخيك ، فسله إما أن يبيعه وإما أن يفاديه وإما أن يعتقه .
فكلم أبو طالب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هو حرٌّ فليذهب كيف يشاء ، فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له : يا بني إلحق بشرفك وحسبك ، فقال زيد : لست أفارق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبداً ! فقال له أبوه : فتدع حسبك ونسبك وتكون عبداً لقريش ؟ فقال زيد : لست أفارق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما دمت حياً ، فغضب أبوه فقال : يا معشر قريش اشهدوا أنى قد برئت منه ، وليس هو ابني ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني ، فكان يدعى زيد بن محمد ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحبه وسماه زيد الحِبّ ، فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش ، وأبطأ عنه يوماً فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منزله يسأل عنه فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيباً بفهر ، فنظر إليها وكانت جميلة حسنة ، فقال : سبحان الله خالق النور ، وتبارك الله أحسن الخالقين .
ثم رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى منزله ووقعت زينب في قلبه موقعاً عجيباً ، وجاء زيد إلى منزله فأخبرته زينب بما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لها زيد : هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله ، فلعلك قد وقعت في قلبه ؟ فقالت : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني رسول الله ! فجاء زيد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : بأبى أنت وأمي يا رسول الله أخبرتني زينب بكذا وكذا ، فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها ؟ فقال رسول الله : لا ، إذهب فاتق الله وأمسك عليك زوجك ، ثم حكى الله فقال : أَمْسِكْ عَلَيكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَجْنَاكَهَا لِكَى لايكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً . فزوجه الله من فوق عرشه فقال المنافقون : يحرِّم علينا نسائنا ويتزوج امرأة ابنه زيد ! فأنزل الله في هذا : مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَينِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يقُولُ الحَقَّ وَهُوَيهْدِى السَّبِيلَ . ثم قال : ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ . . » .
وفى عيون أخبار الرضا ( صلى الله عليه وآله ) : 2 / 172 ، أنه ( عليه السلام ) قال لابن الجهم : « وقول الله عز وجل : وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ، فإن الله عز وجل عرف
--------------------------- 251 ---------------------------
نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أسماء أزواجه في دار الدنيا ، وأسماء أزواجه في دار الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين ، وإحدى من سمى له زينب بنت جحش ، وهى يومئذ تحت زيد بن حارثه ، فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده ، لكيلا يقول أحد من المنافقين إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه ، وخشي قول المنافقين فقال الله عز وجل : وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ، يعنى في نفسك ! وإن الله عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حوا من آدم ( صلى الله عليه وآله ) وزينب من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقوله : فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَجْنَاكَهَا . وفاطمة من على ( عليه السلام ) .
قال : فبكى علي بن محمد بن الجهم وقال : يا ابن رسول الله أنا تائب إلى الله عز وجل من أن أنطق في أنبياء الله « عليهم السلام » بعد يومى إلا بما ذكرته » .
وفى تنزيه الأنبياء للشريف المرتضي / 155 : « فإن قيل . . . فما تأويل قوله تعالي : وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ الله عَلَيهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيهِ أَمْسِكْ عَلَيكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ . . أوليس هذا عتاباً له ( صلى الله عليه وآله ) من حيث أضمر ما كان ينبغي أن يظهره ، وراقب من لا يجب أن يراقبه ، فما الوجه في ذلك ؟
قلنا : وجه هذه الآية معروف وهو أن الله تعالى لما أراد نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم نكاح زوجة الدعي ، والدعى هو الذي كان أحدهم يجتبيه ويربيه ويضيفه إلى نفسه على طريق البنوة ، وكان من عادتهم أن يحرموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم كما يحرمون نكاح أزواج أبنائهم ، فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن زيد بن حارثة وهو دعى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سيأتيه مطلقاً زوجته ، وأمره أن يتزوجها بعد فراق زيد لها ، ليكون ذلك ناسخاً لسنة الجاهلية التي تقدم ذكرها ، فلما حضر زيد مخاصماً زوجته عازماً على طلاقها ، أشفق الرسول من أن يمسك عن وعظه وتذكيره ، لا سيما وقد كان يتصرف على أمره وتدبيره ، فرجف المنافقون به إذا تزوج المرأة يقذفونه بما قد نزهه الله تعالى عنه » .
وفى الصحيح من السيرة : 14 / 51 : « وذكر البلاذري : أن زينب لما بشرت بتزويج الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) إياها ونزول الآية في ذلك جعلت على نفسها صوم شهرين شكراً
--------------------------- 252 ---------------------------
لله ، وأعطت من بشَّرها حلياً كان عليها . . . قالت عائشة : فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغني من جمالها ، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها ما صنع الله لها زوَّجها الله من السماء ! وقلت : هي تفتخر علينا بهذا . وكانت زينب تفتخر على أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) تقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله عز وجل من فوق سبع سماوات . قالوا : وما أوْلَمَ على امرأة من نسائه أكثر وأفضل مما أولم على زينب ، أولمَ عليها بتمر وسويق وشاةٍ ذبحها ، وأطعم الناس الخبز واللحم ، فترادف الناس أفواجاً يأكل فوج فيخرج ثم يدخل فوج ، حتى امتد النهار ، أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه » .
لكن عائشة استطاعت أن تجر زينب إليها وتجعلها من حزبها حسب تعبيرها . قال في الصحيح : 14 / 175 : « سرعان ما انقلبت الأمور ، وأصبحت زينب في موقع الحظوة لدى عائشة وصارت تمدحها بقولها : ما رأيت امرأة قط خيراً في الدين من زينب ، وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم ، وأعظم أمانة وصدقة » !
ثم ذكر أنها كانت من نوع عائشة في الجرأة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فكانت النصير والمساعد لها على تمرير بعض مشاريعها في إثارة أجواء تخدم مصالحها المستقبلية والآنية على حد سواء .
روى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : أن زينب قالت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا تعدل وأنت رسول الله ؟ ! وقالت حفصة : إن طلقنا وجدنا أكفاءنا من قومنا ! فاحتبس الوحي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عشرين يوماً ، فأنف الله عز وجل لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) فأنزل : يا أَيهَا النَّبِى قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ . . إلى قوله : أجْرَاً عَظيماً . .
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « إن زينب بنت جحش قالت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا تعدل وأنت نبي ؟ ! فقال لها : تربت يداك إذا لم أعدل فمن يعدل ؟ ! قالت : دعوت الله يا رسول الله ليقطع يدي ؟ فقال : لا ، ولكن لتتربان . فقالت : إنك إن طلقتنا وجدنا في قومنا أكفاءنا » !
ومن طريف ما في سيرة أخبارها أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سمى أباها جحشاً ! « قال القرطبي في تفسيره : 14 / 165 » : « وكان اسم جحش بن رئاب بُرَّة بضم الباء ، فقالت زينب لرسول الله : يا رسول الله غَيرْ اسم أبى فإن البُرة صغيرة ! « البُرَّة : حلقة توضع في أنف البعير ويربط بها الحبل
--------------------------- 253 ---------------------------
أو الخيط - لسان العرب : 11 / 174 » فقيل إن رسول الله قال لها : لو كان أبوك مسلماً لسميته باسم من أسمائنا أهل البيت ، ولكني قد سميته جحشاً والجحش أكبر من البرة » . ورواه القرطبي في أحكام القرآن / 3534 ، المعافري في الروض الأنف : 2 / 292 والحلبي في السيرة : 2 / 483 ، تاريخ الخميس : 1 / 501 ، تاج العروس : 9 / 68 وحياة الحيوان / 305 .
5 - تشديد الحجاب على نساء النبي « صلى الله عليه وآله »
قال في الصحيح من السيرة : 14 / 129 : « روى الرواة عن زينب بنت جحش أنها قالت : في نزلت آية الحجاب ، وذكروا أن ذلك كان في مناسبة تزويجها برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذكروا أن السبب في ذلك هو عمر بن الخطاب ، وجعلوا ذلك من فضائله حتى لقد رووا عن ابن مسعود أنه قال عن عمر : إنه فُضِّل على الناس بأربع ، وذكر منها أنه بذكره الحجاب أُمِرَ نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحتجبن !
وروى أن عمر مرَّ على نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهن مع النساء في المسجد فقال : إحتجبن فإن لكن على النساء فضلاً ، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل . فقالت له زينب : وإنك لتغار علينا يا ابن الخطاب والوحي ينزل في بيوتنا ! فأنزل الله : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ .
وقد صرحوا أيضاً : بأن آية الحجاب التي نزلت في زينب بنت جحش هي قوله تعالي : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيوتَ النَّبِى إِلا أَن يؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ . . الآية . وكان وقت نزولها صبيحة عرس النبي ( صلى الله عليه وآله ) بزينب بنت جحش في ذي القعدة سنة خمس . وعن أنس : ما بقي أحد أعلم بالحجاب مني ، ولقد سألني أبي بن كعب فقلت نزل في زينب . وفى رواية أنه في قضية زينب بنت جحش أراد أن يدخل مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) فألقى الستر بينه وبينه ونزل الحجاب » .
ثم ناقش صاحب الصحيح في فرض الحجاب كما صوروه لأنه موجود من الأصل ، وأورد رواياته في أحد عشر وجهاً فيها تناقض !
وقد كتبنا بحثاً في كتاب « ألف سؤال وإشكال : 2 / 300 » في اتهام البخاري وغيره للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه لم يكن يحجب نساءه ، حتى أمره عمر بذلك ، ونزل القرآن موافقاً
--------------------------- 254 ---------------------------
لقول عمر ! وزعموا ، « البخاري : 1 / 46 » أن عمر كان يقول للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : أحجب نساءك فلم يفعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فنزل الوحي موافقاً لرأى عمر ، وأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يحجب نساءه ! ويتخيل القارئ من كثرة رواياتهم أن نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) كنَّ غير محجبات وأنه قصَّرَ أو تسامح في حجابهن ! مع أنهن كنَّ محجبات كغيرهن وكانت سورة النور قد نزلت وفيها آيات الحجاب وآداب الأسرة والاختلاط . أما آية الحجاب في سورة الأحزاب ففرضت عليهنَّ أن لايكلمن الرجال الأجانب إلا من وراء ستر . وهذه آيات الحجاب في سورة النور :
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يصْنَعُونَ . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيوبِهِنَّ وَلا يبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيرِ أُولِى الأرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلايضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيعْلَمَ مَا يخْفِين مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جميعاً أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . النور : 30 - 31 .
وقال تعالي : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيسْتَئْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيسَ عَلَيكُمْ وَلا عَلَيهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يبَينُ اللهُ لَكُمُ الآيات وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
وإذا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيسْتَئْذِنُوا كَمَا اسْتَئْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يبَينُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِى لا يرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيسَ عَلَيهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يسْتَعْفِفْنَ خَيرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . النور : 58 - 60 .
وهذه آيات تشديد الحجاب على نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) في سورة الأحزاب :
يا أَيهَا النَّبِى قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فإن اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا .
يا نِسَاءَ النبي مَنْ يأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَينَةٍ يضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَينِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يسِيرًا . وَمَنْ يقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَينِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا .
--------------------------- 255 ---------------------------
يا نِسَاءَ النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قولاً مَعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِى بُيوتِكُنَّ وَلاتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيةِ الأولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إنما يرِيدُ اللهُ لِيذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً . وَاذْكُرْنَ مَا يتْلَى فِى بُيوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لطيفاً خَبِيرًا . سورة الأحزاب : 28 - 34 .
وقال تعالي : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيوتَ النبي إِلا أَنْ يؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يؤْذِى النبي فَيسْتَحْيى مِنْكُمْ وَاللهُ لا يسْتَحْيى مِنَ الْحَقِّ وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عظيماً .
إِنْ تُبْدُوا شيئاً أَوْ تُخْفُوهُ فإن اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمًا . لاجُنَاحَ عَلَيهِنَّ فِى آبَائِهِنَّ وَلاأَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلاأَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلانِسَائِهِنَّ وَلامَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ شَهِيدًا .
إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يصَلُّونَ عَلَى النبي يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسُلَيما . إِنَّ الَّذِينَ يؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا . وَالَّذِينَ يؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا . يا أَيهَا النَّبِى قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يدْنِينَ عَلَيهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يعْرَفْنَ فَلا يؤْذَينَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا .
لَئِنْ لَمْ ينْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِينَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قليلاً . مَلْعُونِينَ أَينَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً . سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً . سورة الأحزاب : 53 - 62 .
وتدل الآيات على أن الله تعالى أراد منهن أن يتحلَّينَ بمتانة الشخصية ورصانة الكلام : فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ ، ولايكثرن الرواح والمجئ ولايتصدَّينَ للأمور السياسية : وَقَرْنَ فِى بُيوتِكُنَّ ، وأن يكنَّ في مستوى مسؤولية كونهن زوجات النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومستوى مقام أمهات المؤمنين الذي أعطاه الله لهن ، وإلا . . فليتنحَّينَ من حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! ومن الواضح أن الظروف التي كانت
--------------------------- 256 ---------------------------
تحيط بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) كانت مؤذية له في نبوته وشخصه وأهل بيته ونسائه .
أما آية الحجاب التي طعنوا بسببها بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فهي قوله تعالي : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيوتَ النبي إِلا أَنْ يؤْذَنَ لَكُمْ . . . وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عظيماً .
فهي آية واحدة فيها ثلاثة أحكام : أدب الدخول إلى بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحرمة تكليمهن إلا من وراء حجابٍ وسترٍ ، ولذا سميت آية الحجاب . وحرمة الزواج بهنَّ بعده لأنهن أمهات المؤمنين . لكنهم صوروا أن نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يكنَّ قبلها محجبات ! وأكثروا الكذب عن سبب نزولها ، وتناقضت رواياتهم في مدح هذا وذاك ! وكلها أحاديث صحيحة السند عندهم ! مثل أن عمر أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلم يفعل ، فنزلت الآية موافقة لعمر ! وقول عائشة إنها كانت تأكل مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) حيساً « تمر بالسمن والطحين » فمر عمر فأكل معهم بأصابعه ، فمست إصبعه إصبع عائشة ، فنزلت الآية ! ثم قالت إن إصبع شخص آخر أصابت إصبعها ، فنزلت الآية !
ورووا أن عمر تشاجر مع زينب بنت جحش ، فنزلت الآية ! وأن سودة بنت زمعة خرجت ليلاً لتقضى حاجتها في جهة البقيع ، فناداها عمر عرفناك يا سودة ! فنزلت الآية ! ورووا أن شباباً كانوا يجلسون بطريق نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيؤذونهن ، فنزلت الآية ! ورووا : أنه ( صلى الله عليه وآله ) رأى رجالاً يتحدثون مع نسائه ، فصعد المنبر غاضباً وتلا الآية !
ورووا أن طلحة كان يؤذى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أمر نسائه ، وكان يتحدث مع عائشة ، فنهاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فرفض وأساء الأدب بحجة أنها ابنة عمه من بنى تَيم !
ففي الدر المنثور : 5 / 214 ، أنها : « نزلت في طلحة بن عبيد الله ، لأنه قال : إذا توفى رسول الله تزوجْتُ عائشة ! وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدِّى قال : بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا ! لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده ! فنزلت هذه الآية !
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن رجلاً أتى بعض أزواج النبي فكلمها وهو ابن عمها ، فقال النبي : لا تقومَنَّ هذا المقام بعد يومك هذا ! فقال : يا رسول الله إنها ابنة
--------------------------- 257 ---------------------------
عمي ، والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي ! قال النبي : قد عرفت ذلك ، إنه ليس أحد أغْيرُ من الله ، وإنه ليس أحد أغيرُ مني ! فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمي ! لأتزوجنها من بعده ! فأنزل الله هذه الآية » !
ورووا : وهو ما نرجحه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما تزوج بزينب بنت جحش ، أطعم الناس في حجرته التي هي « صالة بيته » وخرجوا وبقى رجال ثقلاء فذهب النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتمشى حتى وصل إلى غرفة عائشة البعيدة نسبياً عن حجرته ، وعاد فوجد الثقيلين جالسين ولم يراعيا الأدب ، « البخاري : 6 / 24 » فنزلت الآية ، وفيها : وَلا مُسْتأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يؤْذِى النبي فَيسْتَحْيى مِنْكُمْ وَاللهُ لايسْتَحْيى مِنَ الْحَقِّ .
قال البخاري : 6 / 25 ، عن أنس : « فقلت : يا نبي الله ما أجد أحداً أدعوه . قال : إرفعوا طعامكم ، وبقى ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . . وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام قام من قام ، وقعد ثلاثة نفر . . رأى رجلين جرى بهما الحديث ، فلما رآهما رجع عن بيته . . وأنزلت آية الحجاب » .
وفى فتح الباري : 8 / 407 : « فتهيأ للقيام ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه . . فخرجوا بخروجه إلا الثلاثة الذين لم يفطنوا لذلك لشدة شغل بالهم بما كانوا فيه من الحديث ، وفى غضون ذلك كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يريد أن يقوموا من غير مواجهتهم بالأمر بالخروج لشدة حيائه ، فيطيل الغيبة عنهم بالتشاغل بالسلام » .
وقال القرطبي : 14 / 224 : « قال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي : حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم » ! وأقول : حسبك من الثقلاء أنهم محترمون جداً عند السلطة القرشية ، لأنهم رؤساؤها ، فقد أمرت رواتها بالتغطية عليهم وكتم أسمائهم !
وحسبك من كذب الرواة في سبب نزول آية الحجاب ، أنها كثيرة متناقضة !
6 - غزوة بنى لِحْيان
بعد بني قريظة ، غزا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنى لِحْيان وهم بطن من قبيلة هذيل ، فربما كانوا يتهيؤون لمهاجمته ، وكانوا غدروا ببعض المسلمين وقتلوهم ، أو باعوهم
--------------------------- 258 ---------------------------
إلى قريش ! فكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يدعو على قريش وعليهم ويلعنهم .
ففي الكافي : 8 / 70 : « الإيمان يماني والحكمة يمانية ، ولولا الهجرة لكنت امرءً من أهل اليمن . الجفا والقسوة في الفدَّادين أصحاب الوبر ربيعة ومضر ، من حيث يطلع قرن الشمس . . لعن الله رعلاً وذكوان وعضلاً ولحيان والمجذمين من أسد وغطفان ، وأبا سفيان بن حرب ، وشهبلاً ذا الأسنان ، وابنى مليكة بن جذيم ، ومروان ، وهوذة ، وهونة » .
وروى مسلم : 2 / 134 ، وغيره ، أنهم قتلوا قراء بعثهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى نجد فدعا عليهم « اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف ، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان ، وعصية عصت الله ورسوله » .
وكانت غزوة مختصرة ، قال في المناقب : 1 / 170 : « في جمادى الأولى وكان بينهما الرمي بالحجارة وصلى فيها صلاة الخوف بعسفان ، ويقال في ذات الرقاع » .
وقال ابن هشام في روايته عن ابن إسحاق : 3 / 750 إنها : « على رأس ستة أشهر من فتح قريظة ، إلى بنى لحيان يطلب بأصحاب الرجيع : خبيب بن عدي وأصحابه وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة . . فسلك على غراب جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام ، ثم على مخيض ، ثم على البتراء ، ثم صفق ذات اليسار ، فخرج على بين ، ثم على صخيرات اليمام ، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة ، فأغذ السير سريعاً حتى نزل على غران ، وهى منازل بنى لحيان وغران واد بين أمج وعسفان ، إلى بلد يقال له : ساية ، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال . . فخرج في مئتى راكب من أصحابه حتى نزل عسفان . . ثم كر وراح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قافلاً ، فكان جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول حين وجه راجعاً : آيبون تائبون إن شاء الله ، لربنا حامدون ، أعوذ بالله من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر في الأهل والمال » .
ونقد في الصحيح من السيرة : 14 / 235 رواياتهم في مدة سفر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعمله في هذه الغزوة ، وبحث أهم ما فيها وهو زيارة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقبر والدته آمنه « عليها السلام » كما تقدم .
--------------------------- 259 ---------------------------
7 - غزوة الغابة أو ذي قِرَد
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أتى أبو ذر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله إني قد اجتويت المدينة « تأذيت من هوائها » أفتأذن لي أن أخرج أنا وابن أخي إلى مزينة فنكون بها ؟ فقال : إني أخشى أن يغير عليك خيل من العرب فيقتل ابن أخيك فتأتينى شعثاً فتقوم بين يدي متكئاً على عصاك فتقول : قتل ابن أخي وأخذ السرح ! فقال : يا رسول الله ، بل لا يكون إلا خير إن شاء الله .
فأذن له فخرج هو وابن أخيه وامرأته فلم يلبث هناك إلا يسيراً حتى غارت خيل لبنى فزارة فيها عيينة بن حصن ، فأخذت السرح وقتل ابن أخيه وأخذت امرأته من بنى غفار ، وأقبل أبو ذر يشتد حتى وقف بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبه طعنة جائفة ، فاعتمد على عصاه وقال : صدق الله ورسوله ، أخذ السرح وقتل ابن أخي وقمت بين يديك على عصاي ! فصاح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المسلمين فخرجوا في الطلب فردوا السرح وقتلوا نفراً من المشركين » . الكافي : 8 / 126 .
وقال في الصحيح من السيرة : 14 / 223 ، ملخصاً : « كانت غزوة الغابة ، وتعرف بذى قِرَد ، وهو ماء على بريد من المدينة من جهة الشام ، في يوم الأربعاء في شهر ربيع الأول من سنة ست ، قبل الحديبية . فلما قدم النبي ( صلى الله عليه وآله ) من غزوة بنى لحيان لم يقم ( صلى الله عليه وآله ) سوى أيام قلائل حتى أغار بنو فزارة بقيادة عيينة بن حصن في أربعين فارساً على لقاح النبي ( صلى الله عليه وآله ) التي كانت في الغابة فاستاقوها ، ونجا أبو ذر وبه طعنة جائفة ، وقتلوا ابنه وسبوا امرأته ! فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن ينادى في المدينة : الفزع الفزع ، أو يا خيل الله اركبي ، وكان أول ما نودي بها ، وركب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في خمس مائة . وكان أول من انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الفرسان المقداد وجماعة فقال له : أخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس ، فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا ، وكان أول فارس لحق بهم محرز بن نضلة فحمل عليه رجل منهم فقتله ، ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن .
وأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المسلمين ، وقَتل عكاشة بن محصن أبانَ بن عمرو ،
--------------------------- 260 ---------------------------
وأدرك أوباراً وابنه عمرواً وهما على بعير واحد ، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعاً واستنقذوا بعض اللقاح ، قيل : عشرة منها وأفلت القوم بما بقي وهو عشر ، وهربوا إلى نجد . وسار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى نزل بالجبل من ذي قرد ، وأقام عليه يوماً وليلة ، ورجع إلى المدينة ، وقد غاب عنها خمس ليال .
وأفلتت امرأة أبي ذر على ناقة من إبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى قدمت المدينة فقالت للنبي ( صلى الله عليه وآله ) إنها نذرت أن تنحر الناقة التي نجت عليهاوتأكل من سنامها وكبدها ! فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها ! إنه لا نذر في معصية الله ، ولا فيما لا تملكين ، إنما هي ناقة من إبلي . إرجعى إلى أهلك على بركة الله » .
8 - سرية علي « عليه السلام » لملاحقة اللصوص العرنيين
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) « الكافي : 7 / 245 » : « قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قوم من بنى ضبة مرضى فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سرية ، فقالوا : أخرجنا من المدينة ، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها ، فلما برئوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فبعث إليهم علياً ( عليه السلام ) فهم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريباً من أرض اليمن ، فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فنزلت هذه الآية عليه : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً أَن يقَتَّلُواْ أَوْ يصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلافٍ أَوْ ينفَوْاْ مِنَ الأرض . فاختار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القطع فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف » .
أقول : غيبت رواية الحكومة اسم على ( عليه السلام ) من هذه السرية وصار اسمها : سرية كرز بن جابر إلى العرنيين ! وحرفت روايتها للطعن بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وإثبات قسوته ، فزعمت أنه ( صلى الله عليه وآله ) قتل العرنيين وسمل عيونهم وتركهم عطاشى حتى ماتوا ثم أحرقهم ! ليبرروا للحكام ما يرتكبونه ، بل ليجعلوهم أرحم من النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وكذب روايتهم الإمام الباقر ( عليه السلام ) فقال : « علل الشرائع : 2 / 541 » : « إن أول ما استحل
--------------------------- 261 ---------------------------
الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه سمَّر يد رجل إلى الحائط ، ومن ثَمَّ استحل الأمراء العذاب » !
وروى عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « لا والله ، ما سمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عيناً ، ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم » . مسند الشافعي / 351 .
وقد كتبنا بحثاً في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 2 / 435 ، المسألة : 164 ، استوفينا فيه رواياتهم وأقوال علمائهم وناقشناها . قال البخاري في صحيحه : 1 / 64 : « فلما صحُّوا قتلوا راعى النبي ( صلى الله عليه وآله ) واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم ، فلما ارتفع النهار جئ بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم ، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون » . وقال في : 8 / 19 : « فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها ، وقطع أيديهم وأرجلهم ، وما حسمهم ثم ألقوا في الحرة » .
وقال في عون المعبود : 5 / 70 : « قال قتادة : بلغنا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة » . أي تاب عن المثلة بعد ذلك ، وكان ينهى المسلمين عنها !
9 - اتهام عائشة للنبي « صلى الله عليه وآله » بأنه قسى القلب
زعموا أنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن يبكى رحمة بأحد ، فقد بكى أبو بكر وعمر على سعد بن معاذ ، أما النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلم يكن يبكي ، بل يشد بشعر لحيته كأنه ينتفه !
فقد روى أحمد : 6 / 141 : « قالت عائشة : فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبى بكر وأنا في حجرتي ، وكانوا كما قال الله عز وجل رحماء بينهم قال علقمة : قلت أي أمه ، فكيف كان رسول الله يصنع ؟ قالت : كانت عينه لا تدمع على أحد ! ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته » ! ووثقه في الزوائد : 6 / 13 .
10 - ثمامة سيد اليمامة هدية من الله إلى رسوله « صلى الله عليه وآله »
كان ثمامة بن أثال سيد بنى حنيفة الذين يسيطرون على اليمامة ، واليمامة هي سافلة نجد مما يلي البحرين ، وتبلغ ثلث ما يعرف اليوم بنجد :
https : / / ar . wikipedia . org / wiki / اليمامة ( إقليم )
--------------------------- 262 ---------------------------
في اللباب لابن الأثير : 1 / 396 : « الحنفي . . هذه النسبة إلى حنيفة وهم قبيلة كثيرة من ربيعة بن نزار نزلوا اليمامة ، وهم حنيفة بن لجيم بن صعب . . . بن ربيعة بن نزار ، ينسب إليه خلق كثير ، منهم ثمامة بن أثال الحنفي له صحبة ، وخولة أم محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب » .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يحب أن يحاصر قريشاً ويمنع عنها التموين من جهة نجد والعراق ، كما منعه من جهة المدينة والشام ، لعلها تفكر وتخضع لربها وتسمع لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد يكون جبرئيل ( عليه السلام ) علمه أن يدعو الله تعالى أن يوقع ثمامة سيد اليمامة في قبضته ويهدى قلبه ، فكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة .
ففي الكافي : 8 / 299 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « إن ثمامة بن أثال أسرته خيل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : اللهم أمكني من ثمامة ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إني مخيرك واحدة من ثلاث : أقتلك ، قال : إذاً تقتل عظيماً ! أو أفاديك ، قال : إذاً تجدني غالياً ! أو أمنُّ عليك ، قال : إذاً تجدني شاكراً ! قال : فإني قد مننت عليك . قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ، وقد والله علمت أنك رسول الله حيث رأيتك ، وما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق » !
وفى الإستيعاب : 1 / 214 : « ثم أمر به فأطلق ، فذهب ثمامة إلى المصانع فغسل ثيابه واغتسل ، ثم جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلم وشهد شهادة الحق ، وقال : يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فمر من يسيرنى إلى الطريق ، فأمر من يسيره فخرج حتى إذا قدم مكة ، فلما سمع به المشركون جاؤوه فقالوا : يا ثمامة صبوت وتركت دين آبائك ؟ قال : لا أدرى ما تقولون إلا أنى أقسمت برب هذه البُنَية لا يصل إليكم من اليمامة شئ مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً عن آخركم ! قال : وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة !
ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم ، فلما أضرَّ بهم كتبوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها ، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا ، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلى بيننا وبين ميرتنا فافعل !
--------------------------- 263 ---------------------------
فكتب إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن خلِّ بين قومي وبين ميرتهم !
وكان ثمامة حين أسلم قال : يا رسول الله ، والله لقد قدمت عليك وما على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك ، ولا دين أبغض إلى من دينك ، ولا بلد أبغض إلى من بلدك ، وما أصبح على الأرض وجه أحب إلى من وجهك ، ولا دين أحب إلى من دينك ، ولا بلد أحب إلى من بلدك !
11 - السنوات العجاف على قريش
قال الواحدي في أسباب النزول / 211 : « قال ابن عباس : لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلم وهو أسير فخلى سبيله ، فلحق باليمامة فحال بين أهل مكة وبين الميرة من يمامة وأخذ الله تعالى قريشاً بسنى الجدب حتى أكلوا العلهز » الوبر بالدم « فجاء أبو سفيان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أنشدكم الله والرحم ، إنك تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ، قال : بلي ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يتَضَرَّعُونَ » .
وسبق إسلام ثمامة دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) على قريش بعد غزوة الأحزاب : « اللهم اشدد وطأتك على مضر ، وابعث عليهم سنين كسنى يوسف ، فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام والعلهز » . مختلف ابن قتيبة / 233 .
ثم جاءهم قرار ثمامة بمنع وصول أي مادة غذائية لهم فاشتد الأمر عليهم ، لكنهم لم يخضعوا لربهم ولا دعوه ، ولا طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يدعو لهم ، بل كتبوا له إنك تأمر بصلة الرحم وإن ثمامة منع عنا الميرة فكتب إلى ثمامة » ! الوافي : 11 / 14 ، أسباب النزول للواحدي / 211 ، الحاكم : 2 / 394 ، ابن حبان : 3 / 247 .
والسبب في عدم خضوعهم ودعائهم تكبرهم الذي فاقوا به اليهود ! فقد قرروا أن لا يؤمنوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) مهما رأوا من آياته !
وفى الكافي : 2 / 480 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « الإستكانة هو الخضوع
--------------------------- 264 ---------------------------
والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما » . راجع في ثمامة : تفسير الثعلبي : 5 / 12 ، الرازي : 23 / 113 ، الإصابة : 1 / 525 و 3 / 471 ، ابن هشام : 4 / 1026 و 1053 وتاريخ المدينة : 2 / 435 .
12 - أبعد أبو بكر ثمامة فاضطهده مسيلمة !
قال محمد بن إسحاق كما في الإستيعاب : 1 / 214 : « ارتد أهل اليمامة عن الإسلام غير ثمامة بن أثال ومن اتبعه من قومه ، فكان مقيماً باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه ، ويقول إياكم وأمراً مظلماً لا نور فيه ، وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم ، وبلاءٌ على من لم يأخذ به منكم ، يا بنى حنيفة ! فلما عصوه ورأى أنهم قد أصفقوا على اتباع مسيلمة عزم على مفارقتهم .
ومر العلاء بن الحضرمي ومن معه على جانب اليمامة « في البحرين » فلما بلغه ذلك قال لأصحابه من المسلمين : إني والله ما أرى أن أقيم مع هؤلاء مع ما قد أحدثوا ، وإن الله تعالى لضاربهم ببلية لايقومون بها ولا يقعدون ، وما نرى أنت نتخلف عن هؤلاء وهم مسلمون ، وقد عرفنا الذي يريدون ، وقد مروا قريباً ولا أرى إلا الخروج إليهم ، فمن أراد الخروج منكم فليخرج ، فخرج ممداً للعلاء بن الحضرمي ومعه أصحابه من المسلمين ، فكان ذلك قد فتَّ في أعضاد عدوهم حين بلغهم مدد بنى حنيفة ! وقال ثمامة بن أثال في ذلك :
دعانا إلى ترك الديانة والهدى * مسيلمة الكذاب إذ جاء يسجعُ
فيا عجباً من معشر قد تتابعوا * له في سبيل الغى والغى أشنعُ . . . » .
وقد فصلنا الموضوع في كتاب : قراءة جديدة في حروب الردة .
- *
--------------------------- 265 ---------------------------
الفصل الخامس والخمسون
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
1 - هدف الحديبية فرض الأمر الواقع على قريش
بعد هزيمة الأحزاب وفشل حملتهم على المدينة ، غزا النبي ( صلى الله عليه وآله ) حلفاءهم بني قريظة وأجلاهم عن المدينة ، وغزا بنى المصطلق الذين كانوا يجمعون للغارة عليه وكانوا قريبين من مكة ، وفرض سيطرته على شعاع واسع من المدينة حتى وصل نفوذه إلى نجد . ثم أسلم ثمامة بن أثال وفرض الحصار على المواد التموينية لقريش ، ورافق ذلك الجدب وعدم المطر والضائقة الاقتصادية الشديدة عليهم ، لكنهم ظلوا على عنادهم وكبريائهم !
في ذلك الظرف أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يفرض على قريش أن تعترف بالإسلام كأمر واقع ، فقصد مكة معلناً أنه يريد العمرة ، ولا يريد حرب قريش !
2 - توجه النبي « صلى الله عليه وآله » بالمسلمين إلى العمرة
في الكافي : 8 / 322 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة الحديبية خرج في ذي القعدة ، فلما انتهى إلى المكان الذي أحرم فيه ، أحرموا ولبسوا السلاح ، فلما بلغه أن المشركين قد أرسلوا إليه خالد بن الوليد ليرده قال : إِبغونى رجلاً يأخذني على غير هذا الطريق ، فأتى برجل من مزينة أو من جهينة ، فسأله فلم يوافقه فقال : أبغونى رجلاً غيره ، فأتى برجل آخر ، قال : فذكر له فأخذه معه حتى انتهى إلى العقبة فقال : من يصعدها حط الله عنه كما حط الله عن بني إسرائيل ، فقال لهم : أدخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطاياكم .
--------------------------- 266 ---------------------------
قال فابتدرها خيل الأنصار الأوس والخزرج ، قال : وكانوا ألفاً وثمان مائة [ وأربع مائة ] فلما هبطوا إلى الحديبية إذ امرأة معها ابنها على القليب فسعى ابنها هارباً ، فلما أثبتت أنه رسول الله صرخت به : هؤلاء الصابئون ، ليس عليك منهم بأس ، فأتاها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأمرها فاستقت دلواً من ماء فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فشرب وغسل وجهه فأخذت فضلته فأعادته في البئر فلم تبرح حتى الساعة . « أي مملوءة » !
وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأرسل إليه المشركون أبان بن سعيد في الخيل فكان بإزائه ثم أرسلوا الحليس فرأى البدن وهى تأكل بعضها أوبار بعض » أي هدى للكعبة « فرجع ولم يأت رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقال لأبى سفيان : يا أبا سفيان أما والله ما على هذا حالفناكم على أن تردوا الهدى عن محله ! فقال : أسكت فإنما أنت أعرابي ! فقال : أما والله لتخلين عن محمد وما أراد ، أو لأنفردن في الأحابيش ! فقال : أسكت حتى نأخذ من محمد وَلْثاً « عهداً » فأرسلوا إليه عروة بن مسعود وقد كان جاء إلى قريش في القوم الذين أصابهم المغيرة بن شعبة ، وكان خرج معهم من الطائف وكانوا تجاراً ، فقتلهم وجاء بأموالهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأبى رسول الله أن يقبلها وقال : هذا غَدر ولا حاجة لنا فيه !
فأرسلوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا رسول الله هذا عروة بن مسعود ، قد أتاكم وهو يعظم البدن ، قال : فأقيموها فأقاموها . فقال : يا محمد مجئ من جئت ؟ قال : جئت أطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر هذه الإبل ، وأخلى عنكم عن لحمانها . قال : لا واللات والعزى فما رأيت مثلك رُدَّ عما جئت له ، إن قومك يذكرونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم ، وأن تقطع أرحامهم ، وأن تُجَرِّئ عليهم عدوهم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما أنا بفاعل حتى أدخلها . قال وكان عروة بن مسعود حين كلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تناول لحيته ، والمغيرة قائم على رأسه فضرب بيده فقال : من هذا يا محمد ؟ فقال : هذا ابن أخيك المغيرة . فقال : يا غُدَر والله ما جئت إلا في غسل سلحتك ، « إعطاء الديات لمن غدر بهم » .
قال : « فرجع إليهم فقال لأبى سفيان وأصحابه : لا والله ما رأيت مثل محمد رد عما جاء له ، فأرسلوا إليه سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزي ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأثيرت
--------------------------- 267 ---------------------------
في وجوههم البدن ، فقالا : مجئ من جئت ؟ قال : جئت لأطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر البدن وأخلى بينكم وبين لحمانها . فقالا : إن قومك يناشدونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم وتقطع أرحامهم وتُجَرِّى عليهم عدوهم . قال : فأبى عليهما رسول الله إلا أن يدخلها » .
3 - استنفرت قريش وبعثت طليعةً لصد النبي « صلى الله عليه وآله »
في تفسير القمي : 1 / 150 : « خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الحديبية يريد مكة ، فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً ، ليستقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على الجبال ، فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالناس ، فقال خالد بن الوليد لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنهم لا يقطعون صلاتهم ! ولكن يجئ لهم الآن صلاة أخرى هي أحب إليهم من ضياء أبصارهم ، فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم ! فنزل جبرئيل بصلاة الخوف بهذه الآية : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْياخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يصَلُّوا فَلْيصَلُّوا مَعَكَ وَلْياخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيمِيلُونَ عَلَيكُمْ مَيلَةً وَاحِدَةً . ففرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه فرقتين ، فوقف بعضهم تجاه العدو وقد أخذوا سلاحهم ، وفرقة صلوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قياماً ، ومروا فوقفوا مواقف أصحابهم ، وجاء أولئك الذين لم يصلوا فصلى بهم رسول الله الركعة الثانية ولهم الأولي ، وقعد وتشهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقام أصحابه وصلوا هم الركعة الثانية ، وسلم عليهم » .
وفى سيرة ابن هشام : 3 / 775 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابونى كان الذي أرادوا ، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ! فما تظن قريش ! فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة . ثم قال : مَنْ رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها » .
--------------------------- 268 ---------------------------
4 - عسكرت قريش في بَلْدَح وعسكر النبي « صلى الله عليه وآله » في الحديبية
عسكرت قريش في بلدح وهو واد قرب مكة عند التنعيم وفخ ، « معجم البكري : 1 / 273 » وفيه ماء كثير وأصنام . طبقات ابن سعد : 2 / 95 والمناقب : 1 / 91 . وكانوا يرسلون دورياتهم إلى مداخل مكة والمناطق القريبة من الحديبية ، وكان قادة الخيل أبان بن سعيد ، وخالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب .
وفى المناقب : 1 / 174 : « قال الزهري : فلما صار بذى الحليفة قَلَّدَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) الهدى وأشعره « جعل له علامة » وأحرم بالعمرة ، فلما بلغ غدير الأشطاط عند عسفان أتاه عتبة الخزاعي فقال : إن كعب بن لؤي وعامر بن لؤي جمعوا لك الجموع ، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : روحوا فراحوا حتى إذا كان ببعض الطريق قال ( صلى الله عليه وآله ) : إن خالد بن الوليد بالغميم طليعة فخذوا ذات اليمين وسار حتى إذا كان بالثنية بركت ناقته فقال : ما خلأت القصواء ولكن حبسها حابس الفيل ! ثم قال : والله لايسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ! قال فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد القَصَّة « 25 كم عن مكة من جهة جدة » فأتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكان عَيبَة نصح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال كما قال الغير فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، في كلام له بين الصلح والحرب .
فقال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فأتى قريشاً وقال : إن هذا الرجل يقول كذا وكذا فقال عروة بن مسعود الثقفي : إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، فقالوا : إئته ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وسمع منه مثل مقالته لبديل ورأى تعظيم الصحابة له ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما رجع قال : أي قوم والله لقد وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ! يقتتلون على وضوئه ، ويتبادرون لأمره ، ويخفضون أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ! فقال رجل من بنى كنانة : إئته ، فلما أشرف عليهم قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : هذا فلان وهو من قوم يعظمون البُدْن فابعثوها فبعثت له واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت الحرام .
--------------------------- 269 ---------------------------
ثم جاء مكرز بن حفص فجعل يكلم النبي إذ جاء سهيل بن عمرو فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قد سهل عليكم أمركم ، فجلس وضرع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الصلح ، ونزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك » .
وفى روضة الواعظين / 62 : « ولقد كنا معه بالحديبية وإذا بقليب « بئر » جافة فأخرج سهماً من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له : إذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافة فاغرسه ، ففعل ذلك فتفجرت اثنتا عشرة عيناً من تحت السهم » !
وفى المناقب : 1 / 91 : « فجاءت قريش ومعهم سهيل بن عمرو فأشرفوا على القليب والعيون تنبع تحت السهم فقالت : ما رأينا كاليوم قط وهذا من سحر محمد قليل ! فلما أمر الناس بالرحيل قال : خذوا حاجتكم من الماء ، ثم قال للبراء : إذهب فرد السهم ، فلما فرغوا وارتحلوا أخذ السهم فجف الماء ، كأنه لم يكن هناك ماء » !
« قال البراء : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر فقدمناها وعليها خمسون شاة ما ترويها . . فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء . . حتى جرت نهراً . . فارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفيرها . فقال سالم بن أبي الجعد : فقلت لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا ! كنا خمس عشرة مائة » . « وعلى الماء يومئذٍ نفر من المنافقين منهم عبد الله بن أُبي ، فقال أوس بن خولي : ويحك يا أبا الحباب ! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه ، أبعد هذا شئ ؟ ! فقال : إني قد رأيت مثل هذا ! فقال أوس : قبحك الله وقبح رأيك ! فأقبل ابن أُبى يريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا أبا الحُبَاب : إني رأيت مثلما رأيت اليوم ! فقال : ما رأيت مثله قط ! قال : فلم قلته ؟ فقال ابن أُبي : يا رسول الله استغفر لي ، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله : يا رسول الله استغفر له ، فاستغفر له . فقال عمر : ألم ينهك الله يا رسول الله أن تصلى عليهم أو تستغفر لهم ! فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأعاد عليه فقال له : ويلك إني خيرت فاخترت ، إن الله يقول : إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يغْفِرَ الله لَهُمْ » . الصحيح : 15 / 225 .
--------------------------- 270 ---------------------------
5 - هدايا خزاعة إلى النبي « صلى الله عليه وآله »
في الصحيح من السيرة : 15 / 356 : « وأهدى عمرو بن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان بالحديبية لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غنماً وجزوراً ، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جُزُراً وكان صديقاً له ، فجاء سعد بالجزر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخبره أن عَمْراً أهداها له ، فقال : وعمرو قد أهدى لنا ما ترى فبارك الله في عمرو . ثم أمر بالجزر أن تنحر وتقسم في أصحابه ، وفرق الغنم فيهم عن آخرها وشرك فيها فدخل على أم سلمة من لحم الجزور كنحو ما دخل على رجل من القوم . . وأمر ( صلى الله عليه وآله ) للذي جاء بالهدية بكسوة » .
6 - ابتلى الله المسلمين بالصيد وهم محرمون
عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال في قول الله عز وجل : لَيبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَئٍْ مِنَ الصَّيدِ تَنَالُهُ أَيدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيعْلَمَ اللهُ مَنْ يخَافُهُ بِالْغَيبِ : « حشرت لرسول الله في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم . ليبلوهم الله به . . نزلت في غزاة الحديبية قد جمع الله عليهم الصيد فدخل بين رحائلهم ، ليبلوهم الله أي يختبرهم » . الكافي : 4 / 396 ، تفسير القمي : 1 / 182 ، تفسير العياشي : 1 / 243 والنوادر للأشعري / 137 .
7 - أرسل النبي « صلى الله عليه وآله » خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش
خراش بن أمية هو الذي حلق للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في عمرة الحديبية ، « الفقيه : 2 / 239 » فهو قريب من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان أول من أرسله برسالته إلى قريش أنى جئت معتمراً لا مقاتلاً ، فاعترضه معسكرهم وعقر بعيره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله على خلاف ما اتفقت عليه أصول العرب وكافة الناس من عدم قتل الرسول فأنقذته منهم قبيلة الأحابيش ، وعاد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! الطبري : 2 / 278 وابن هشام : 3 / 779 .
8 - حاول مسلمون الذهاب إلى مكة فأسرهم المشركون
« وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهم : كرز بن جابر الفهري ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، وعبد الله بن حذافة
--------------------------- 271 ---------------------------
السهمي ، وأبو الروم بن عمير العبدري ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ، وعمير بن وهب الجمحي ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وعبد الله بن أبي أمية . فعُلم بهم فأُخذوا » . سبل الهدى 5 / 48 .
أقول : هؤلاء مكيون كانوا مقطوعين عن أسرهم وأقاربهم ، ويبدو أن عملهم فردي ، وقد يكون بعضهم استأذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال لهم إن استطعتم فأدخلوا وقيل إنهم دخلوا بأمان عثمان بن عفان ، ولا يصح ، لأنه هو دخل بأمان من ابن عمه أبان بن سعيد ، مع أنه كان مبعوث النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى قريش .
9 - أمر النبي « صلى الله عليه وآله » عمر بالذهاب فخاف فأرسل عثمان
« أراد أن يبعث عمر فقال : يا رسول الله إن عشيرتي قليل وإني فيهم على ما تعلم ولكني أدلك على عثمان بن عفان ، فأرسل إليه رسول الله فقال : انطلق إلى قومك من المؤمنين فبشرهم بما وعدني ربى من فتح مكة ، فلما انطلق عثمان لقى أبان بن سعيد فتأخر عن السرج فحمل عثمان بين يديه ودخل عثمان فأعلمهم ، وكانت المناوشة ، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجلس عثمان في عسكر المشركين وبايع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المسلمين وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان . وقال المسلمون : طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما كان ليفعل فلما جاء عثمان قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أطفت بالبيت ؟ فقال : ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله لم يطف به . ثم ذكر القضية وما كان فيها » . الكافي : 8 / 326 .
أقول : كان أبان بن سعيد بن العاص قائد خيل المشركين مع خالد وعكرمة وضرار ، وكان مكلفاً أن يكونوا بإزاء جيش النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو أخو خالد بن سعيد المؤمن المهاجر إلى الحبشة والموجود مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأبوهما أبو أحيحة الأموي الثرى المشهور وله مكانة في قريش ، فأعطى الأمان لعثمان ، فلم يكن أي خطر عليه ، بل أركبه فرسه ودخل معه إلى مكة ، فبلغ رسالة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
--------------------------- 272 ---------------------------
وفى الصحيح من السيرة : 15 / 297 ، ملخصاً : « ليت شعري لو أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان قد أمر عمر بن الخطاب بالمبيت في مكانه ليلة الهجرة فهل كان سيمتثل أمره ؟ ! أم كان سيعتذر بأن قريشاً سوف تقتله وليس هناك من يدفع عنه من بنى عدي ، أو من غيرهم ؟ ! وفى الحديبية لم يطلب منه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما يصل إلى حد ما طلبه من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليلة الهجرة من حيث درجة الخطورة على حياته . . بل طلب منه أن يكون رسولاًيتمتع بحصانة الرسل الذين يعتبر الاعتداء عليهم عاراً وعيباً عند العرب وعند سائر الأمم ، وكان أرسل غيره في هذه المهمة وعاد سالماً ، ومنع المشركون سفهاءهم من الاعتداء عليه ، لأن الرسل لا تقتل !
ولكن عمر بن الخطاب يرفض طلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذا ، ويعتذر بأمر شخصي بحت ليس له منشأ يقبله العقلاء الذين يعيشون أجواء التضحية في سبيل مبادئهم ، بل لا يقبله حتى عقلاء أهل الشرك والكفر ! فكيف يدَّعون أن الإسلام عزّ بإسلام عمر ، وأنه قد كانت له بطولات عظيمة ومواجهات مع المشركين قبل الهجرة كسرت شوكتهم » !
10 - مبعوثو قريش إلى النبي « صلى الله عليه وآله »
جاء بديل بن وقاء الخزاعي رئيس خزاعة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأرسله إلى قريش وكلمهم بحضور عروة بن مسعود الثقفي رئيس ثقيف ، فأيد كلامه وطلب منهم عروة أن يرسلوه فأرسلوه ، فجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ورجع إلى قريش فحثهم على السماح له بأداء العمرة فلم يقبلوا ! القمي : 2 / 310 ، الطبري : 2 / 275 وابن شيبة : 8 / 514 .
ثم أرسلوا الحليس رئيس قبيلة الأحابيش كما تقدم من الكافي ، ويبدو أنه هو رغب بذلك ، فرجع وكلمهم أن يتركوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليؤدى عمرته ، فلم يقبلوا .
ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزي ، ومكرز بن حفص ، فلما جاء سهيل ورآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لأصحابه : سهل أمركم . وكانت مفاوضات النبي ( صلى الله عليه وآله ) معه صعبة ومثمرة ، وقد احتاج فيها سهيل أن يرجع إلى قريش لأخذ موافقتهم على بند حرية المسلمين في مكة ، فوافقوا .
--------------------------- 273 ---------------------------
11 - بيعة الرضوان بحضور مفاوض قريش
استمرت مفاوضات النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع سهيل بن عمرو يومين ، وكانت في بعض مراحلها متوترة وفيها تهديد ! قال الطبري : 2 / 280 : « فلما انتهى سهيل إلى رسول الله تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا » .
وفى فتح الباري : 5 / 253 : « فلما لانَ بعضهم لبعض في الصلح ، وهم على ذلك إذ رمى رجل من الفريقين رجلاً من الفريق الآخر فتصايح الفريقان ، وارتهن كل من الفريقين من عندهم ، فارتهن المشركون عثمان ومن أتاهم من المسلمين وارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن معه ، ودعا رسول الله إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفروا ، وبلغ ذلك المشركين فأرعبهم الله ، فأرسلوا من كان مرتهناً ، ودعوا إلى الموادعة » .
وفى اليوم الثاني بقي النبي ( صلى الله عليه وآله ) مصراً على شرط حرية المسلمين في مكة ، فرجع سهيل إلى مكة للتشاور مع زعماء قريش بشأنه ، ثم عاد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وقد أخذ النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحضور سهيل بيعة الرضوان من أصحابه على القتال وعدم الفرار ، وعلى أن لاينازعوا الأمر أهله . فبيعة الرضوان لإرهاب قريش وإثبات جدية النبي ( صلى الله عليه وآله ) في فرض الأمر الواقع عليها .
وقال الواقدي : 2 / 602 قال لهم : « إن الله تعالى أمرني بالبيعة ، فتداك الناس يبايعونه ، بايعهم على أن لايفروا » .
وفى شرح مسلم : 13 / 2 : « في حديث ابن عمر وعبادة : بايعنا على السمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله » . وفى مسند أحمد : 5 / 321 ، عن عبادة : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك ، وأثرة عليك ، ولا تنازع الأمر أهله » . ومعناه : أن لا ننازع الوصي على
خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
--------------------------- 274 ---------------------------
12 - الإشتباكات مع قريش ودور علي « عليه السلام » فيها
1 - نقرأ في سورة الفتح وصف مواجهة المسلمين لقريش في الحديبية ، في قوله تعالي : وَهُو الَّذِى كَفَّ أَيدِيهُمْ عَنْكُمْ وَأَيدِيكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى مَعْكُوفًا أَنْ يبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيرِ عِلْمٍ لِيدْخِلَ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يشَاءُ لَوْ تَزَيلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . الفتح : 24 - 25 .
فنرى في الحديبية ظفراً عسكرياً للمسلمين حتى عدَّ الفقهاء مكة مفتوحة عنوة : قال في الخلاف : 5 / 528 ، عن الآية : « وهذا صريح في الفتح » .
لكن رواة السلطة القرشية أخفوا الظفر العسكري لأن بطله على ( عليه السلام ) ، أو نسبوه إلى محمد بن مسلمة ، أو ابن الأكوع ، وحتى إلى خالد بن الوليد ، الذي كان يومها قائداً في جيش المشركين ! وغرضهم أن يخفوا مقاومة قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وصده عن العمرة ، ويخفوا بطولة على ( عليه السلام ) في مواجهة قريش ! ويمدحوا أشخاصاً آخرين يحبونهم !
قال المفيد « رحمه الله » في الإرشاد : 1 / 119 : « ثم تلا بنى المصطلق الحديبية ، وكان اللواء يومئذ إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما كان إليه في المشاهد قبلها ، وكان من بلائه في ذلك اليوم عند صف القوم في الحرب للقتال ما ظهر خبره واستفاض ذكره » .
أقول : رحم الله المفيد ليته بينه ، فقد ظهر ذلك واستفاض ذكره إلى عصره في القرن الرابع ، ثم طُمس وأخفى ولم يصلنا إلا محرفاً مبتوراً !
قال رواة السلطة كالطبري : 2 / 278 : « إن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لهم من أصحابه ، فأخذوا أخذاً ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالحجارة والنبل » . وفى رواية ابن عبد البر أنهم كانوا ثمانين .
فمن الذي قاد هذه العملية النظيفة ، وهاجم هؤلاء الفرسان ، وأسرهم جميعاً بدون سفك دم ؟ لقد نسبوه إلى محمد بن مسلمة ، وكأن علياً ( عليه السلام ) كان نائماً وهو قائد الجيش ، الذي يعَين الحراسات ويسير الدوريات ويسهر على سير الأمور ! لكنهم يحبون ابن مسلمة ،
--------------------------- 275 ---------------------------
لأنه شارك في تأسيس النظام القرشي ، وكان من المهاجمين لبيت فاطمة وعلى « عليهما السلام » !
2 - ثم رووا أن سهيل بن عمرو قال في مفاوضته للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا محمد ! إن هذا الذي كان من حبس أصحابك ، وما كان من قتال من قاتلك ، لم يكن من رأى ذوى رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا ، ولم نعلم به وكان من سفهائنا ، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة ، والذين أسرت آخر مرة !
قال : إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي . قال : أنصفتنا . فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشتيم بن عبد مناف التيمي فبعثوا بمن كان عندهم ، وهم : عثمان وعشرة من المهاجرين وأرسل رسول الله أصحابهم الذين أسروا » . الإمتاع : 1 / 289 .
فقد أسَرَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) إذن مجموعة من المشركين وأطلقهم ، ثم أسر مجموعتين واحتفظ بهم ! فمن قام بذلك غير على ( عليه السلام ) قائد الجيش ؟ !
ثم رووا أن خيل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكانوا مئتى فارس ، قاتلوا فرسان قريش وهم خيل عكرمة بن أبي جهل ، وهزموهم حتى أدخلوهم حيطان مكة !
قال الزمخشري في الكشاف : 3 / 547 ، في تفسير قوله تعالي : مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ : « لما روى أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمس مائة ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من هزمه وأدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة فأنزل الله : وهُوَ الَّذى كفَّ أيديهم »
فمن الذي بعثه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقاد هذه العملية النظيفة داخل الحرم ، وهزم قوة المشركين الضاربة بدون سفك دم ، ولماذا بخلوا بتسمية على ( عليه السلام ) ؟ !
3 - ويأخذك العجب من وقاحة رواة قريش ونسبتهم ذلك إلى خالد بن الوليد مع أنه كان قائد خيل المشركين ، واعترض النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الطريق وأراد أن يهاجم المسلمين وهم في صلاتهم ، لكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تحاشى القتال !
لاحظ ما رواه الطبري في تفسيره : 26 / 123 والسيوطي في الدر المنثور : 6 / 78 ، عن عدة مصادر في تفسير قوله تعالي : وَهُو الَّذِى كَفَّ أَيدِيهُمْ عَنْكُمْ وَأَيدِيكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ ، قال : « لما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالهدى وانتهى إلى ذي
--------------------------- 276 ---------------------------
الحليفة قال له عمر : يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع ! قال فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله ، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل ، فسار حتى أتى منى فنزل بمني ، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مائة فقال لخالد بن الوليد : يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل ، فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمى سيف الله ، يا رسول الله إرم بي حيث شئت ، فبعثه على خيل فلقى عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة ! فأنزل الله : وَهُو الَّذِى كَفَّ أَيدِيهُمْ عَنْكُمْ وَأَيدِيكُمْ عَنْهُمْ . . إلى قوله : عذاباً أليماً » . فهي رواية مكذوبة لمدح عمر بأنه أفقه من النبي ( صلى الله عليه وآله ) فنبهه إلى لزوم السلاح في سفره ! ولمدح خالد وجعله سيف الله ! لكن اضطر ابن كثير للاعتراف بكذب الرواية ! قال في تفسيره : 4 / 20 : « لأن خالداً لم يكن أسلم ، بل كان حينئذ طليعة للمشركين كما ورد في الصحيح » !
4 - واجه القرشيون النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشراسة وبغضاء ، مع أنه جاء معتمراً غير مقاتل ! وأرسلوا خيلهم بقيادة خالد لإرجاعه أو قتاله ، فتجنبها ونزل في الحديبية ، فأرسلوا خيلهم بقيادة أبان بن سعيد إلى قربه ، واستفردوا رجلاً مسلماً فقتلوه ! وأرسل إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) رسولاً فعقروا بعيره وأهانوه ! ثم قاموا بأسر مسلمين عُزَّل ذهبوا إلى مكة . ثم أرسل إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) عثمان بأمان أبان ، فحبسوه !
مقابل ذلك قام النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأسرمجموعة من اثنى عشر فارساً ، رداً على قتلهم المسلم : « يقال له رهم : اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله خيلاً فأتوه باثني عشر فارساً من الكفار فقال لهم نبي الله : هل لكم على عهد هل لكم على ذمة ، قالوا : لا . فأرسلهم » . تفسير الطبري : 26 / 122 .
ثم أسر النبي ( صلى الله عليه وآله ) مجموعة جاؤوا ليلاً للغارة على معسكره ، ولم يطلقهم .
ثم أسر أربعين أو خمسين فارساً ، وروى سبعين أو ثمانين ، « الدرر لابن عبد البر / 194 » .
ثم رد هجوم خيلهم بقيادة عكرمة ، وهزمهم حتى أوصلهم إلى حيطان مكة .
وكان الذي يقوم بالعمليات على ( عليه السلام ) ، ولذا جاءت نظيفة بدون سفك دم رجل
--------------------------- 277 ---------------------------
واحد في الحرم ! لكنهم نسبوها إلى أحبائهم وفيهم من قادة المشركين !
وقد أنتجت هذه العمليات والبيعة التي أخذها النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنهم رأوا أن ، ميزان القوة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقبلوا بالمعاهدة ، خاصة بند حرية المسلمين في مكة !
قال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد / 166 : « صده المشركون عن مكة صداً شكساً شرساً لئيماً ، فما استخفه بذلك غضب ولا روع حلمه رائع ، كان يأخذ الأمور مع أولئك الجفاة بالملاينة والإغماض ، وله في شأنهم كلمات متواضعة ، على أن فيها من الرفعة والعلاء ما يريهم إياه فوق الثريا ويريهم أنفسهم تحت الثري ! وفيها من النصح لهم والإشفاق عليهم ما لم يكن فيه ريب لأحد منهم ، ومن الحكمة الإلهية ما يأخذ بمجامع قلوبهم على قسوتها وغلظتها ، ومن الوعيد والتهديد باستئصال جذرتهم وبذرتهم ما يقطع نياط قلوبهم » .
5 - أخفى رواة السلطة مناقب على ( عليه السلام ) في الحديبة ، لكن أفلتت منهم أحاديث :
الأول : رواه الحافظ في ثلاثة مواضع من تاريخه : 2 / 377 ، 3 / 181 و 4 / 441 « عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : « سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو آخذ بضبع على يوم الحديبية وهو يقول : هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله . مد بها صوته » .
فما هي المناسبة لهذه الإشادة من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليأخذ بعضد على ( عليه السلام ) ، ويمد صوته في مدحه ؟ وهل كان إلا بعد تحقيقه انتصاراً بأسر مجموعة من المشركين ، أو رد هجوم فرسانهم وفرارهم أمامه مسافة طويلة ، حتى أدخلهم حيطان مكة ؟ أو بعد تفاقم حسد الحاسدين وكلامهم على على ( عليه السلام ) ؟
وقد تضمنت بعض روايات الحافظ قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « أنا مدينة العلم وعلى بابها فمن أراد البيت فليأت الباب » ! « وتاريخ دمشق : 42 / 226 و 282 ، وفتح الملك العلى لابن الصديق المغربي / 57 والحاكم : 3 / 129 » ، لكن الأخير لم يذكر أن مناسبته في الحديبية .
وقال الخطيب التبريزي في الإكمال / 111 : « هذا حديث حسن صحيح فقد حسنه ابن حجر والعلائي وجماعة ، وصححه ابن معين وابن جرير والحاكم
--------------------------- 278 ---------------------------
والسيوطي والعلامة الهندي وجماعة من السلف . وله شاهد من حديث ابن عباس عنه الطبري والطبراني والحاكم والخطيب ، ومن حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عنه الترمذي وابن جرير ، وقد تكلم فيه جماعة من المتعنتين والمتعصبين في الجرح ، فلا يلتفت إليهم » ! ومن مصادرنا : الطوسي في الأمالي / 483 ، الطبري الشيعي في المسترشد / 622 ، عن محمد بن المنكدر وفيه أنه يوم الحديبية .
والحديث الثاني : في المناقب : 2 / 244 ، عن الترمذي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال يوم الحديبية لسهيل بن عمرو وقد سأله رد جماعة : « يا معشر قريش لتنتهوا أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم على الدين امتحن الله قلبه بالإيمان ! قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : هو خاصف النعل ، وكان أعطى علياً نعله يخصفها » .
وقد أوردنا مصادره في آيات الغدير / 144 ، وأثبتنا أنه صدر أيضاً عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المدينة بعد فتح مكة ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبرهم بأنهم لن ينتهوا عن معاداة الإسلام حتى يقاتلهم على ( عليه السلام ) ! ويظهر أن سهيل بن عمرو طمع عندما قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) شرطهم بإرجاع من يأتيه منهم ، فطالب بمن أتاه قبل الحديبية !
والحديث الثالث رواه الجميع : لما رفض سهيل أن يكتبوا كلمة « رسول الله » .
ففي إعلام الوري : 1 / 371 : « فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل بن عمرو : هذا كتاب بيننا وبينك يا محمد ، فافتتحه بما نعرفه واكتب باسمك اللهم . فقال : أكتب باسمك اللهم وامح ما كتبت . فقال ( عليه السلام ) : لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو . فقال سهيل : لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوة ، فامح هذا الاسم واكتب : محمد بن عبد الله . فقال له على ( عليه السلام ) : إنه والله لرسول الله على رغم أنفك . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أمحها يا علي . فقال له : يا رسول الله إن يدي لا تنطلق تمحو اسمك من النبوة ! قال : فضع يدي عليها فمحاها رسول الله بيده ، وقال لعلي : ستدعى إلى مثلها فتجيب ، وأنت على مضض » .
وفى تفسير القمي : 2 / 313 : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي إنك أبيت أن تمحو إسمى من النبوة ، فوالذي بعثني بالحق نبياً لتجيبن أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد !
--------------------------- 279 ---------------------------
فلما كان يوم صفين ورضوا بالحكمين كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ، ولكن أكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : صدق الله وصدق رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، أخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك » !
وفى الكافي : 8 / 326 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فقال لعلى ( عليه السلام ) : أكتب بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : ما أدرى ما الرحمن الرحيم ، إلا أنى أظن هذا الذي باليمامة ! ولكن أكتب كما نكتب : بسمك اللهم . قال : واكتبْ : هذا ما قاضى رسول الله سهيل بن عمرو . فقال : سهيل : فعلى مَ نقاتلك يا محمد ؟ ! فقال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله . فقال الناس : أنت رسول الله . قال : أكتب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله . فقال الناس : أنت رسول الله .
وكان في القضية أن من كان منا أتى إليكم رددتموه إلينا ورسول الله غير مستكره عن دينه ، ومن جاء إلينا منكم لم نرده إليكم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا حاجة لنا فيهم . وعلى أن يعبد الله فيكم علانية غير سر . وإن كانوا ليتهادون السيور من المدينة إلى مكة . وما كانت قضية أعظم بركة منها ، لقد كاد أن يستولى على أهل مكة الإسلام » . أي يتهادون الهدايا . والسيور : ما تربط به الهدية .
وفى النص والاجتهاد / 174 : « فضج المسلمون وقالوا : والله لا يكتب إلا ما أمر به رسول الله . . . وأبوا إلا أن يكتب رسول الله كل الإباء ، وكادت الفتنة أن تقع لولا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : أنا محمد رسول الله وإن كذبتموني ، وأنا محمد بن عبد الله فاكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو » .
وهذا الحديث دليل من عشرات الأدلة على شرعية خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
والحديث الرابع : روته مصادرنا ، قال العلامة في كشف اليقين / 136 : « وله في هذه الغزاة فضيلتان ، إحداهما : إنه لما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى غزاة الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماء فبعث سعد بن مالك بالروايا فغاب قريباً وعاد ، وقال : لم أقدر
--------------------------- 280 ---------------------------
على المضي خوفاً من القوم ! فبعث آخر ففعل كذلك ، فبعث علياً ( عليه السلام ) بالروايا فورد واستسقى وجاء بها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فدعا له بخير .
والثانية ، وذكر حديث تهديد النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقريش بعلى ( عليه السلام ) وفيه : « وأومأ إلى علي فإنه يقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونبذت وحرف كتاب الله ، وتكلم في الدين من ليس له ذلك ، فيقاتلهم على إحياء دين الله » . ونحوه الإرشاد : 1 / 121 .
13 - بنود معاهدة الحديبية
1 - الهدنة لمدة عشر سنين ، إلا إذا اعتدى أحد الطرفين أو أعان معتدياً .
2 - حرية العرب في أن يختاروا من يتحالفون معه : النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو قريش .
3 - حرية المسلمين في مكة ، فلا يؤذون ولا يمنعون من أداء شعائر الإسلام .
4 - يلتزم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإعادة من يأتيه مسلماً من قريش ، ولا تلتزم قريش بذلك .
5 - تُخْلى قريش مكة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في العام القادم ثلاثة أيام ، فيؤدى العمرة .
قال القمي في تفسيره : 2 / 310 : « ورجع حفص بن الأحنف ، وسهيل بن عمرو إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقالا : يا محمد قد أجابت قريش إلى ما اشترطت عليهم من إظهار الإسلام وأن لا يكره أحدٌ على دينه . فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالكتب ودعا أمير المؤمنين وقال له : أكتب . . . ثم كتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله والملأ من قريش وسهيل بن عمرو ، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين ، على أن يكف بعض عن بعض ، وعلى أنه لا إسلال ، ولا إغلال ، وأن بيننا وبينهم عيبة مكفوفة ، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ، وأن من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ، وأنه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليه يرده إليه ، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يرده إليه ، وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة لا يكره أحد على دينه ولايؤذى ولا يعير ، وأن محمداً يرجع عنهم عامه هذا وأصحابه ، ثم يدخل علينا في العام القابل مكة فيقيم فيها ثلاثة أيام ، ولا يدخل عليها بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القراب . وكتب علي بن أبي طالب ، وشهد على الكتاب المهاجرون والأنصار . .
--------------------------- 281 ---------------------------
قال : فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت : نحن في عهد محمد رسول الله وعقده ، وقامت بنو بكر فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها . وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ونسخة عند سهيل بن عمرو ، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه : أنحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم ، فامتنعوا وقالوا : كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة ؟ ! فاغتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك ، وشكى ذلك إلى أم سلمة فقالت : يا رسول الله إنحر أنت واحلق ، فنحر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحلق ونحر القوم على حيث يقين وشك وارتياب ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تعظيماً للبدن : رحم الله المحلقين ، وقال قوم لم يسوقوا البدن : يا رسول الله والمقصرين ؟ لأن من لم يسق هدياً لم يجب عليه الحلق فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثانياً : رحم الله المحلقين الذين لم يسوقوا الهدي ، فقالوا يا رسول الله والمقصرين ؟ فقال رحم الله المقصرين » .
وفى المناقب : 1 / 174 : « فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : من جاءهم منا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً .
إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما أفاوضك عليه أن ترده ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إنا لم نقض بالكتاب بعد ، قال : والله لا أصالحك على شئ أبداً . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فأجره لي ، قال : ما أنا بمجيره لك .
قال مكرز : بلى أجرناه فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنه ليس عليه بأس إنما يرجع إلى أبيه وأمه فإني أريد أن أتم لقريش شرطها » ! .
14 - غضبَ عمر وانشق على النبي « صلى الله عليه وآله » !
في المسترشد للطبري الشيعي / 536 : « فغضب الثاني وقال لصاحبه : يزعم أنه نبي وهو يرد الناس إلى المشركين ! ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ألست برسول الله حقاً ؟ قال : بلى قال : ونحن المسلمون حقاً ؟ قال : بلي ، قال : وهم الكافرون ؟ قال : بلي ،
--------------------------- 282 ---------------------------
قال : فعلى مَ نعطى الدنية في ديننا ؟ ! فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنما أعمل بما يأمرني به الله ربي ، إنه من خرج منها إليهم راغباً فلا خير لنا في مقامه بين أظهرنا ومن رغب فينا منهم ، فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً . فقال : والله ما شككت في الإسلام إلا حين سمعت رسول الله يقول ذلك ! وقام من عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) متسخطاً لأمر الله وأمر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) غير راض بذلك ، ثم أقبل يمشى في الناس ويؤلب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويعرض به ويقول : وعدنا برؤياه التي زعم أنه رآها يدخل مكة ، وقد صددنا عنها ومنعنا منها ثم ننصرف الآن ، وقد أعطينا الدنية في ديننا ! والله لو أن معي أعواناً ما أعطيت الدنية أبداً !
ثم روى عن الواقدي : إني لأنظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومئذ جالساً متربعاً وإن عباد بن بشر ، وسلمة بن أسلم بن حريش ، مقنعان في الحديد قائمان على رأس رسول الله ، إذ رفع سهيل بن عمرو صوته فقالا له : إخفض من صوتك عند رسول الله ، وسهيل بارك على ركبتيه كأني أنظر إلى علم في شفته ، إذ وثب الثاني إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ألسنا بالمسلمين ؟ فقال رسول الله : أنا عبد الله ورسوله لا أخالف أمره ولن يضيعني ! فقال له : أعذرك الله ؟ وجعل يردد الكلام على النبي فقال له أبو عبيدة بن الجراح : ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول ! تعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم واتهم رأيك !
وقال ابن عباس : قال لي في خلافته وذكر القضية : إرتبت ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمت إلى يومئذ ، ولو وجدت شيعة أخرج معهم رغبة عن القضية لخرجت » !
وفى كتاب سُليم / 239 : « قال : أنعطى الدنية في ديننا ؟ ثم جعل يطوف في عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يشككهم ويحضضهم ويقول : أنعطى الدنية في ديننا ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أفرجوا عنى أتريدون أن أغدر بذمتي ، ولاأفى لهم بما كتبت لهم ، خذ يا سهيل بيد أبى جندل ! فأخذه فشده وثاقاً في الحديد ، ثم جعل الله عاقبة أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الخير والرشد والهدى والعزة والفضل » .
وفى رواية : « أخرجوه عني ! أتريد أن أخفر ذمتي ولا أفي لهم » . البحار : 30 / 314 .
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه : أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها / 273 :
--------------------------- 283 ---------------------------
« صلح الحديبية من أعظم الإنجازات الإسلامية على الإطلاق بل هو الثمرة المباركة لكافة المعارك التي خاضها رسول الله ، وقد وصف تعالى في كتاب العزيز هذا الصلح بالفتح المبين والنصر العزيز ، لأن هذا الصلح قد حسم الموقف نهائياً لصالح الإسلام دون إراقة قطرة دم واحدة ! ولو تغاضينا عن هذه النتائج الباهرة فإن كل ما فعله الرسول كان بأمر ربه . لقد أعلن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أن روح القدس قد نزل عليه وأمره بالبيعة ، وقد فهم الجميع أن الصلح قد تم بتوجيه إلهي فقد قال الرسول للجميع : إني رسول الله ولست أعصيه . وقال أبو بكر مخاطباً عمر : أيها الرجل إنه لرسول الله ، وليس يعصى ربه وهو ناصره !
وبالرغم من كل ذلك ، فإن عمر بن الخطاب اعتبر الصلح الذي رضى به الله ورسوله « دنية في الدين » وأن ما فعله الرسول كان خاطئاً وغير صحيح !
وحاول عمر أن يقنع الحاضرين بأن الصلح الذي ارتضاه الله ورسوله دنيةٌ
في الدين ، ليفرضوا على الرسول إلغاء الصلح والرجوع عنه ! ولما يئس من إقناعهم قال : لو وجدت أعواناً ما أعطيت الدنية في ديني !
والمثير أنهم رغم ذلك سجلوه شاهداً على صك صلح الحديبية ! وكما تعلم فإن سنة الرسول تعني : قول الرسول وفعله وتقريره » .
وقال المحامي يعقوب في كتاب المواجهة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) / 369 : « لقد اعتبر عمر هذه المعاهدة « دنية » وقال للرسول أمام المسلمين : فعلامَ نعطى الدنية في ديننا ! وظهر الرجل بمظهر من يزاود على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالدين ، الذي علمه الرسول إياه ! وقبل يوم واحد فقط طلب رسول الله من عمر أن يذهب إلى بطون قريش ليقول لها : بأن رسول الله لم يأت لقتال أحد إنما جئنا زواراً لهذا البيت معظمين لحرمته ، معنا الهدى ننحره وننصرف ، فرفض وقال : يا رسول الله إني أخاف قريش على نفسي وليس بها من بنى عدى من يمنعني ! « راجع المغازي للواقدي : 2 / 600 . »
وهو نفس عمر الذي اشترك في معركة بدر ! والذي لم يثبت أنه قتل مشركاً أو جرحه ! وهو نفسه الذي هرب من المعركة يوم أحد ! وقد ذكَّره الرسول بذلك
--------------------------- 284 ---------------------------
يوم أقبل عليه فقال له : أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ! « راجع المغازي للواقدي : 2 / 609 » وهو نفس الرجل الذي لم يكن له أي دورمميز في أي معركة من معارك الإسلام التي سبقت صلح الحديبية ! ومع ذلك يزاود على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويصف المعاهدة التي وقعها النبي ورضى عنها بأنها دنية في ديننا ! وأعلن عمر أنه لو وجد أعواناً ما أعطى الدنية » !
15 - بقي عمر غاضباً ولم يبايع بيعة الرضوان
روى الجميع أن عمر لم يقتنع بجواب النبي ( صلى الله عليه وآله ) بل واصل شكه في نبوته ! وبقى يتكلم ويعمل لعله يجد أنصاراً لينقض المعاهدة بالقوة !
قال ابن عباس كما في مغازى الواقدي : 2 / 607 : « قال لي عمر في خلافته : ارتبت ارتياباً ما ارتبته منذ أسلمت إلا يومئذ ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة من القضية ، لخرجت . وعن أبي سعيد الخدري : قال عمر : والله لقد دخلني يومئذ من الشك حتى قلت في نفسي : لو كنا مائة رجلٍ على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبداً » ! واعتزل عمرتحت شجرة وواصل عملياته ، فأرسل ابنه ليأتيه بفرس كانت له عند أحد الأنصار ليقاتل عليها ! ومع ذلك زعموا أنه سمع بخبر بيعة الرضوان ، فذهب ابنه عبد الله وبايع وجعلوه إلى جنب النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
قال البخاري : 5 / 69 : « عن نافع قال إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر ، وليس كذلك ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه ، ورسول الله يبايع عند الشجرة وعمر لا يدرى بذلك ، فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر يستلئم للقتال ، فأخبره أن رسول الله يبايع تحت الشجرة ، قال فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله » .
أقول : لا نقبل قولهم إنه بايع لأنه اعترف بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقي غاضباً عليه لا يكلمه ولا يجيبه على كلامه ، حتى رجعوا ووصلوا بعد يومين إلى كراع الغميم فنزلت سورة الفتح فأرسل عليه وقرأ له السورة ! ومعناه أنه كان مغاضباً له لا يكلمه ، وأراد أن يتم
--------------------------- 285 ---------------------------
عليه الحجة فأرسل اليه ليسمع السورة مع المسلمين فتساءل عمر : هل هذا فتح ، وفى رواية أنه قال : والله ما هذا بفتح ؟ !
قال البخاري : 5 / 66 ، عن ابن عمر : « فسأله عمر بن الخطاب عن شئ فلم يجبه رسول الله ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ! وقال عمر بن الخطاب : ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك ! قال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي . قال فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن ، وجئت رسول الله فسلمت فقال لقد أنزلت على الليلة سورة لهى أحب إلى مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً » . راجع : النص والاجتهاد / 171 .
16 - عقدة عمر من شجرة بيعة الرضوان !
قال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد / 368 « المورد : 65 : شجرة الحديبية هذه بويع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيعة الرضوان تحتها ، فكان من عواقب تلك البيعة أن فتح الله لعبده ورسوله فتحا مبيناً ونصره نصراً عزيزاً ، وكان بعض المسلمين يصلون تحتها تبركاً بها وشكراً لله تعالى على ما بلَّغهم من أمانيهم في تلك البيعة المباركة . فبلغ عمر ما كان من صلاتهم تحتها ، فأمر بقطعها وقال : ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد إلى الصلاة عندها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد !
« سبحان الله وبحمده والله أكبر ! يأمره بالأمس رسول الله بقتل ذي الخويصرة وهو رأس المارقة فيمتنع عن قتله احتراماً لصلاته ، ثم يستل اليوم سيفه لقتل من يصلى من أهل الإيمان تحت الشجرة شجرة الرضوان ؟ !
وي ، وى ما الذي أرخص له دماء المصلين من المخلصين لله تعالى في صلاتهم ؟ إن هذه لبذرة أجذرت وآتت أكلها في نجد حيث يطلع قرن الشيطان ! وكم لفاروق الأمة من أمثال هذه البذرة كقوله للحجر الأسود : إنك لحجر لا تنفع ولا تضر ، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك . ولقد كانت هذه الكلمة
--------------------------- 286 ---------------------------
منه كأصل من الأصول العملية بنى عليها بعض الجاهلين تحريم التقبيل للقرآن الحكيم ، والتعظيم لضريح النبي الكريم ولسائر الضرائح المقدسة ، ففاتهم العمل بكثير من مصاديق قوله تعالي : ذَلِكَ وَمَنْ يعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَخَيرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ . . وَمَنْ يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ » .
وفى الدر المنثور : 6 / 73 : « أخرج البخاري وابن مردويه عن طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون فقلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله بيعة الرضوان . وأخرج ابن أبي شيبة عن نافع قال : بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت » .
أقول : هذه واحدة من محاولات عمر انتقاص مقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإزالة آثاره ، وهى تدل على عقدة في نفسه وذكرى سيئة لشجرة الرضوان وبيعة الرضوان !
كما تكونت عند عمر عقدة من التيمم ، لأنه تيمم مرة فتمرغ بالتراب ! فتبسم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحرم التيمم وأسقط آيته ، وأفتى للمسلمين بدله بترك الصلاة !
17 - رؤيا النبي « صلى الله عليه وآله » كانت في الحديبية وليس في المدينة
قال المفسرون إن رؤيا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بدخول المسجد الحرام كانت في المدينة قبل الحديبية ، ونقلوا عليه الإجماع ، وغرضهم من ذلك التخفيف من اعتراض عمر وأنه كان على حق نوعاً ما لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعدهم بدخول المسجد !
قال ابن الجوزي في زاد المسير : 7 / 172 : « قال المفسرون : سبب نزولها أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان أرى في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاتَخَافُونَ . ورأى كأنه هو وأصحابه يدخلون مكة وقد حلقوا وقصروا ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا ، فلما خرجوا إلى الحديبية حسبوا أنهم يدخلون مكة في عامهم ذلك ، فلما رجعوا ولم يدخلوا قال المنافقون : أين رؤياه التي رأي ؟ فنزلت هذه الآية » .
لكن المرجح أنه ( صلى الله عليه وآله ) رآها في الحديبية بعد اعتراض عمر عليه ، وعدم اقتناعه بكلامه .
ففي الكافي : 6 / 486 : « عن أبي بصير قال : قلت لأبى عبد الله ( عليه السلام ) : الفَرْقُ من السنة
--------------------------- 287 ---------------------------
تطويل الشعر وفرقه ؟ قال : لا ، قلت : فهل فرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : نعم . قلت : كيف فرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وليس من السنة ؟ قال : من أصابه ما أصاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يفرق كما فرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقد أصاب سنة رسول الله وإلا فلا . قلت له : كيف ذلك ؟ قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين صُدَّ عن البيت وقد كان ساق الهدى وأحرم أراه الله الرؤيا التي أخبره الله بها في كتابه إذ يقول : لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاتَخَافُونَ . . فعلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن الله سيفي له بما أراه فمن ثَمَّ وفَّرَ ذلك الشعر الذي كان على رأسه حين أحرم انتظاراً لحلقه في الحرم حيث وعده الله عز وجل ، فلما حلقه لم يعد في توفير الشعر ولا كان ذلك من قبله » .
وفى تفسير الطبري : 26 / 138 عن مجاهد ، قال : « أرى بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين ، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية : أين رؤيا محمد » ؟ !
18 - أمر النبي « صلى الله عليه وآله » بالإحلال من الإحرام ونحر الضحايا
قال الصدوق في من لا يحضره الفقيه : 2 / 450 : « اعتمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثلاث عُمَر متفرقات كلها في ذي القعدة . عمرة أهلَّ فيها من عسفان وهى عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء أحرم فيها من الجحفة ، وعمرة أهل فيها من الجعرانة وهى بعد أن رجع من الطائف من غزوة حنين » .
وفى الفقيه : 2 / 239 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « الذي كان على بدن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ناجية بن الخزاعي الأسلمي ، والذي حلق رأسه ( صلى الله عليه وآله ) يوم الحديبية خراش بن أمية الخزاعي والذي حلق رأسه في حجته معمر بن عبد الله بن حارث بن نصر بن عوف بن عويج بن عدي بن كعب ، فقيل له وهو يحلقه : يا معمر أذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في يدك ! قال : والله إني لأعده فضلاً على من الله عظيماً . وكان معمر بن عبد الله يرجل شعره ( صلى الله عليه وآله ) وكان ثوبا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) اللذان أحرم فيهما يمانيين عبرى وظفاري . وقطع التلبية حين زاغت الشمس يوم عرفة » .
--------------------------- 288 ---------------------------
لكن في الكافي : 4 / 368 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين صد بالحديبية قصروأحل ونحر ، ثم انصرف منها ، ولم يجب عليه الحلق حتى يقضى النسك ، فأما المحصور فإنما يكون عليه التقصير » .
19 - نزلت سورة الفتح في عودة النبي « صلى الله عليه وآله » من الحديبية
في النص والاجتهاد / 181 : « كانت إقامته في الحديبية تسعة عشر يوماً ، قفل بعدها إلى المدينة ، فلما كان بكراع الغميم موضع بين الحرمين نزلت عليه سورة الفتح ، وعمر لا يزال حينئذ آسفاً من صد المشركين إياهم عن مكة ، ورجوعهم وهم على خلاف ما كانوا يأملون من الفتح » ! وكان نزولها في مكان يدعى كراع الغميم ، بعد يومين من مسير النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الحديبية في عودته إلى المدينة ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) المسلمين إلى الاجتماع ليتلوها عليهم ، ودعا عمر خاصة لعله يخرج من شكه وارتيابه وعمله لنقض المعاهدة ! ولكن عمر بقي مصراً وقال : « والله ما هذا بفتح أو والله ما هذا بفتح ! لقد صددنا عن البيت وصد هدينا . ورُدَّ رجلان من المؤمنين كانا خرجا إلينا ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتح ، قد رضى المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا ، وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين ، فهو أعظم الفتوح ! أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ؟ أنسيتم يوم الأحزاب : إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا » . النص والاجتهاد / 182 .
وفى سيرة ابن هشام : 3 / 786 : « فما فتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه ، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر . قال ابن هشام : والدليل على قول الزهري أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مئة ، في قول جابر بن عبد الله ، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف » .
--------------------------- 289 ---------------------------
20 - أهم موضوعات سورة الفتح
الآيات الثلاث الأولي : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا 1 لِيغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ وَيهْدِيكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا 2 وَينْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا 3 .
بشارة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن معاهدة الحديبية كانت إنجازاً مهماً وفتحاً مبيناً ، وأن ليونته مع قريش وتنازله لهم ، قد طامن من بغضهم له وحقدهم عليه ، وغفر ذنبه بنظرهم ، بل أعطاه الحجة إذا عاملهم بحزم وشدة فيما بعد .
والآيات من : 4 - 7 ، بينت أن الله تعالى ثبَّت المؤمنين على طاعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لإنجاز الفتح الذي تم ، فقد أنزل الله عليهم السكينة فازدادوا إيماناً ، ورضوا بعمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وأن المنافقين الظانين بالله ظن السوء ، سوف يعاقبهم ويعذبهم .
هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 4 لِيدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا 5 وَيعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَّدَ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا 6 وَللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 7 .
والآيتان 8 و 9 ، بينت مهمات الرسول ( صلى الله عليه وآله ) التي وضعها الله له : شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وبينت واجب المؤمنين في الإيمان به وطاعته وتجليله .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا 8 لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً 9 .
ثم أكد عز وجل في الآية 10 ، مسؤولية المبايعين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وحذرهم بالعقوبة إن نكثوا بيعتهم ، ووعدهم بالأجر العظيم إن وفوا بها . إِنَّ الَّذِينَ يبَايعُونَكَ إِنَّمَا يبَايعُونَ اللهَ يدُ اللهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا ينْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيهُ اللهَ فَسَيؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا 10 .
وفى الآيات 11 - 17 ، عالج قضية المتخلفين عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) من أهل المدينة وقبائل العرب ، الذين دعاهم إلى السفر معه إلى الحديبية ، فرفضوا .
سَيقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا
--------------------------- 290 ---------------------------
لَيسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 11 بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ ينْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُينَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا 12 وَمَنْ لَمْ يؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا 13 وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرض يغْفِرُ لِمَنْ يشَاءُ وَيعَذِّبُ مَنْ يشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا 14 سَيقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يرِيدُونَ أَنْ يبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يفْقَهُونَ إِلا قَلِيلاً 15 قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيتُمْ مِنْ قَبْلُ يعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 16 لَيسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاعَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يتَوَلَّ يعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا 17 .
والآيات من 18 - 21 ، بدأت برضا الله تعالى عن الصحابة المؤمنين الذين بايعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) تحت شجرة الحديبية ، وأكد أن ما تم لهم كان فتحاً قريباً ، ووعدهم الله بمغانم كثيرة مادية وسياسية ، لم تكن لتتحقق لولا صلح الحديبية .
لَقَدْ رَضِى اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا 18 وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 19 وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيدِى النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيهْدِيكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا 20 وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرًا 21 .
والآيات 22 - 26 ، وصفت مشركي قريش بأنهم كفروا وصدوا عن المسجد الحرام ، وأنهم لو قاتلوا المسلمين في غزوة الحديبية لانهزموا ، لكن الله تعالى كف أيدي الطرفين عن بعضهم لمصالح يعلمها ، منها وجود مؤمنين في مكة في أصلاب هؤلاء المشركين ، ولو قتلهم يومئذ لظلم لهؤلاء الأولاد في أصلابهم : لَوْ تَزَيلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ » .
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يجِدُونَ وَلِيا وَلا نَصِيرًا 22 سُنَّةَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً 23 وَهُو الَّذِى كَفَّ أَيدِيهُمْ عَنْكُمْ وَأَيدِيكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا 24 هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى مَعْكُوفًا أَنْ يبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ
--------------------------- 291 ---------------------------
مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيرِ عِلْمٍ لِيدْخِلَ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يشَاءُ لَوْ تَزَيلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 25 إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيةَ حَمِيةَ الْجَاهِلِيةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمًا 26 .
والآية 27 ، في رؤيا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه سيدخل المسجد الحرام مع المسلمين ، وأنها حق وسوف تتحقق في وقتها ، وأن الله تعالى بعلمه جعل قبلها فتحاً قريباً .
لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا 27 .
والآية 28 و 29 ، تأكيد للوعد الرباني الحتمي بأن سيظهر دينه على الدين كله في العالم ، وأن هذا هو الهدف من إرسال رسوله محمد ( صلى الله عليه وآله ) والذين معه من عترته ، وأنهم غصون شجرته الموعودين في التوراة والإنجيل : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ . فالنبي ( صلى الله عليه وآله ) هو الشجرة والكلمة الطيبة ، والشطأ هو أولاد الشجرة . وأعداؤهم الكلمة الخبيثة والشجرة الملعونة في القرآن . ولا يصح تفسير الشطأ بالصحابة لأنه بإجماع اللغويين أولاد الشجرة والزرع .
هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا . 28 مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الآنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا 29 .
21 - الصحابة في سورة الفتح وبيعة الرضوان
رفعت السلطة القرشية آية : لَقَدْ رَضِى اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ . شعاراً في مدح الصحابة مقابل أهل البيت « عليهم السلام » ، ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لأهل الحديبية : أنتم خير أهل الأرض . قال في فتح الباري : 7 / 341 : « هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة . وعند مسلم من حديث جابر مرفوعاً :
--------------------------- 292 ---------------------------
لا يدخل النار من شهد بدراً والحديبية . وروى مسلم أيضاً من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة » .
وهو قولٌ لا يصح ، لأنهم بايعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الحديبية على عدم الفرار في الحرب ثم نكثوا بيعتهم بعد شهر في خيبر وفروا ، ثم نكثوها بعد سنة في حنين وفروا . ولا يصح ، لأن من أهل بيعة الرضوان أبا الغادية قاتل عمار بن ياسر « رحمه الله » ، الذي شهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه من أهل النار . ومنهم عبد الرحمن بن عديس البلوى الذي قاد حصار عثمان وقتله ، وقالوا إنه من أهل النار ! ولأن رئيس المنافقين المدنيين ابن سلول كان معهم وبايع !
قال في النص والاجتهاد / 168 : « إن قريشاً بعثت إلى ابن سلول وهو مع رسول الله في الحديبية : إن أحببت أن تدخل مكة تطوف بالبيت فافعل . فقال له ابنه عبد الله : يا أبت أذكرك الله أن لا تفضحنا في كل موطن فتطوف ولم يطف رسول الله ؟ ! فأبى الرجل حينئذ وقال : لا أطوف حتى يطوف رسول الله » .
ولا يصح ثالثاً ، لأن الرضا عن المبايعين في الآية محدود بظرف ، ومشروط بالإيمان ، فقد قال عز وجل : لَقَدْ رَضِى اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ . . أي رضى عن المؤمنين منهم في ظرف البيعة ، ولو كان الرضا أوسع من ظرف البيعة لما استعمل « إذ » ، ولو شملهم جميعاً لجعله عنهم وليس عن المؤمنين منهم !
ولا يصح رابعاً ، لأنه بايعهم على أن لا ينزعوا الأمر أهله ، وقد نازعوهم وعزلوهم واضطهدوهم وقتلوهم !
لكن مع قوة هذه الإشكالات ، ما زال أتباع السلطة يتمسكون بها لمدح أبى بكر وعمر ويقولون إن عمر بايع وإنه مشمول بالسكينة التي أنزلها الله على أهل
بيعة الرضوان !
22 - ما جرى لأبى جندل وأبى بصير والمستضعفين بمكة
قال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد / 176 : « فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هو وسهيل بن عمرو يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة ، إذ جاء أبو جندل واسمه العاص بن
--------------------------- 293 ---------------------------
سهيل بن عمرو إلى المسلمين يرسف في قيوده ، وكان أسلم بمكة قبل ذلك فمنعه أبوه من الهجرة وحبسه موثوقاً ! وحين سمع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه في الحديبية احتال حتى خرج من السجن ، وتنكب الطريق في الجبال حتى هبط على المسلمين ففرحوا به وتلقوه ، لكن أخذه أبوه بتلابيبه يضرب وجهه ضرباً شديداً وهو يقول : يا محمد هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي !
قال ( صلى الله عليه وآله ) لأبى جندل : إصبر واحتسب ، فقد تم الصلح قبل أن تأتي ، ونحن لا نغدر وقد تلطفنا بأبيك فأبي ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً . وهنا وثب عمر بن الخطاب إلى أبى جندل يغريه بقتل أبيه ، ويدنى إليه السيف ! قال عمر كما في السيرة الدحلانية وغيرها : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ، وجعل يقول له : إن الرجل يقتل أباه والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم ! لكن أبا جندل لم يجبه إلى قتل أبيه خشية الفتنة وعمل بما أمره به رسول الله من الصبر والاحتساب ، وقال لعمر : مالك لا تقتل أنت أباك ؟ قال عمر : نهانا رسول الله . فقال أبو جندل : ما أنت أحق بطاعة رسول الله مني !
ورجع مع أبيه إلى مكة في جوار مكرز وحويطب ، فأدخلاه مكاناً وكفا عنه أباه وغيره وفاء بالجوار . وجعل الله بعد ذلك له ولسائر المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجاً . . . وكان في المستضعفين المعذبين في مكة رجل من أبطال المسلمين يدعى أبا بصير ، احتال حتى خرج من السجن ففر هارباً إلى رسول الله وهو في المدينة بعد رجوعه من الحديبية ، فكتبت قريش في رده كتاباً بعثت به رجلاً من بنى عامر يقال له خنيس ومعه مولى يهديه الطريق ، فقدما على رسول الله بالكتاب فإذا فيه : قد عرفت ما شارطناك عليه من رد من قدم عليك من أبنائنا فابعث إلينا أبا بصير . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصح الغدر منا ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، فانطلق راشداً . قال : يا رسول الله إنهم يفتنونى عن ديني .
قال ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا بصير انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن حولك من المستضعفين
--------------------------- 294 ---------------------------
فرجاً ومخرجاً ! فودع الرجل رسول الله وانطلق معهما ، حتى إذا كانوا بذى الحليفة جلس إلى جدار ومعه صاحباه ، فقال لأحدهما : أصارم سيفك هذا يا أخا بنى عامر ؟ قال : نعم . قال أبو بصير : أرنيه ، فناوله إياه فاستله أبو بصير ثم علاه فإذا هو يتشحط بدمه ، ثم هم بالثاني فهرب منه ، حتى أتى رسول الله ، فلما رآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه ، وأبو بصير في أثره . قال ( صلى الله عليه وآله ) : قد رأى هذا ذعراً ، فلما انتهى إلى النبي قال له ( صلى الله عليه وآله ) : ويحك مالك ؟ قال : إن صاحبك قتل صاحبي وأفلت منه ولم أكد ، وإني لمقتول فأغثني يا محمد فأمَّنه رسول الله ، وإذا بأبى بصير يدخل متوشحاً سيفه يقول : بأبى أنت وأمي يا رسول الله وفيت ذمتك أسلمتنى بيد القوم وقد امتنعت منهم بديني أن أفتن فيه أو يفتن بي . فقال له : إذهب حيث شئت ، فقال : يا رسول الله هذا سلب العامري الذي قتلته ، رحله وسيفه فخمسه . فقال له ( صلى الله عليه وآله ) : إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه ، ولكن شأنك بسلب صاحبك .
وعند ذلك هب أبو بصير إلى محل من طريق تمر به عيرات قريش ، واجتمع إليه جمع من المسلمين المستضعفين الذين كانوا قد احتبسوا بمكة إذ بلغهم خبره وأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال في حقه : إنه مسعر حرب لو كان معه رجال ، فتسللوا حينئذ إليه ، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، وخرج من مكة في سبعين فارساً أسلموا فلحقوا بأبى بصير ، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله في تلك المدة مدة المهادنة ، وانضم إليهم ناس من غفار وجهينة وأسلم وطوائف أخر من العرب حتى بلغوا ثلاث مائة مقاتل ، فقطعوا مارة قريش لا يظفرون بأحد منها إلا قتلوه ، ولا مر بهم عير إلا أخذوها ، ومنعوا الدخول إلى مكة والخروج منها ! فاضطرت قريش أن تكتب لرسول الله تسأله بالأرحام التي بينه وبينها إلا آواهم وأرسلت أبا سفيان بن حرب في ذلك ، فأبلغه أبو سفيان : إنا أسقطنا هذا الشرط من شروط الهدنة ، فمن جاءك منهم فأمسكه من غير حرج !
وحينئذ كتب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى أبى جندل وأبى بصير أن يقدما عليه ، وأن يلحق من معهما من المسلمين بأهليهم ، ولا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش ولا لعيراتهم ، فقدم
--------------------------- 295 ---------------------------
كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عليهما وأبو بصير يموت ، فمات والكتاب في يده ، فدفنه أبو جندل مكانه ، وجعل عند قبره مسجداً . وقدم أبو جندل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع ناس من أصحابه ، ورجع باقيهم إلى أهليهم ، وأمنت قريش على عيراتهم ! وحينئذ عرف الصحابة الذين عظم عليهم رد أبى جندل إلى قريش مع أبيه أن طاعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خير مما أحبوه ، وعلموا أن الحكمة كانت في الحديبية توجب الصلح فرضاً على التعيين ، وأنه ( صلى الله عليه وآله ) لا ينطق عن الهوي ، وندموا كل الندم على ما بدر منهم من هناة معترفين بالخطأ ، وقدرت قريش موقفه يومئذ معها في حقن دمائها » .
راجع : الكافي : 8 / 326 ومناقب آل أبي طالب : 1 / 175 .
23 - النتائج الكبرى لمعاهدة الحديبية
يكفى في وصف نتائجها قوله تعالي : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . وأول الفتح اعتراف قريش بدولة الإسلام ، وقد فتح ذلك أبواب الجزيرة العربية وصار بإمكان أي قبيلة أن تعلن إسلامها أو تحالفها مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) دون حرج أو خوف ، بل فتحت أبواب مكة للإسلام وصار القرشي يعلن إسلامه ويؤدى شعائره دون خوف من ظلم قريش وطغيانها .
في الإحتجاج : 2 / 222 ، من حديث الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع المأمون في تفسير قوله تعالي : « قال الرضا ( عليه السلام ) : لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاث مائة وستين صنماً ، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم ، وقالوا : أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَئٌ عُجَابٌ . وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَئٌ يرَادُ . مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ . فلما فتح الله عز وجل على نبيه مكة قال له : يا محمد : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ . عند مشركي أهل مكة بدعائك إياهم إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر ، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ، ومن بقي منهم لا يقدر على إنكار
--------------------------- 296 ---------------------------
التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه ، فصار ذنبه عندهم مغفوراً بظهوره عليهم . فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن » ! فذنبه ( صلى الله عليه وآله ) سياسي لا حقيقي كما تخيلوا ! راجع تنزيه الأنبياء « عليهم السلام » للشريف المرتضي / 164 والانتصار للمؤلف : 4 / 39 .
24 - لم تشارك قبائل العرب في غزوة الحديبية
استعظمت قبائل العرب حركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى مكة ، واعتبرها بعضهم مغامرة لأنهم لم يدركوا وضع قريش والتحولات التي حصلت في ميزان القوة .
في تفسير القمي : 2 / 310 : « وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستنفر بالأعراب في طريقه ، فلم يتبعه أحد ويقولون : أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم ، وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم ! إنه لا يرجع محمد وأصحابه إلى المدينة أبداً » !
وقد وصف الله مواقف بعض القبائل فقال : فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ لاتُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يكُفَّ بَاسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَاسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً .
وفي تفسير القمي : 1 / 145 : « فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يهَاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ . فإنها نزلت في أشجع وبنى ضمرة وهما قبيلتان ، وكان من خبرهما أنه لما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى غزاة الحديبية مر قريباً من بلادهم وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هادن بنى ضمرة ووادعهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريباً منا ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشاً ، فلو بدأنا بهم ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كلا إنهم أبرُّ العرب بالوالدين وأوصلهم للرحم وأوفاهم بالعهد . . الخ . » .
وفى الكافي : 8 / 227 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ . قال : نزلت في بنى مدلج لأنهم جاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد إنك رسول الله ، فلسنا معك ولا مع قومنا عليك ، قال : قلت : كيف صنع بهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : واعدهم إلى أن يفرغ من العرب ، ثم يدعوهم فإن أجابوا وإلا قاتلهم » .
--------------------------- 297 ---------------------------
الفصل السادس والخمسون
بعد الحديبية راسل النبي « صلى الله عليه وآله » ملوك العالم
« وفى سنة ست أو في سنة سبع كان إرسال النبي ( صلى الله عليه وآله ) الرسل إلى ستة من الملوك الذين يتحكمون في شعوب الأرض ، فقد أرسل في ذي الحجة الحرام أو في أواخره أو في المحرم ستة نفر في يوم واحد ، فخرجوا مصطحبين .
وقد كتب إليهم وإلى غيرهم من الملوك والرؤساء في داخل بلاد الإسلام وخارجها . وكانت اللغة التي كتب إليهم بها هي العربية والتي هي لغة القرآن والإسلام . والملوك الستة الذين كتب النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليهم هم :
1 - النجاشي ، ملك الحبشة .
2 - قيصر ، ويقال : هرقل ، عظيم الروم .
3 - كسري ، حاكم فارس والمدائن .
4 - المقوقس ، صاحب الإسكندرية « مصر » .
5 - الحارث ، والى تخوم الشام ودمشق .
6 - ثمامة بن أثال ، وهوذة بن علي الحنفيان ، ملكا اليمامة ، وقائداها .
أما الذين حملوا الكتب إلى هؤلاء فهم :
1 - عمرو بن أمية الضمري ، إلى النجاشي .
2 - دحية بن خليفة الكلبي ، إلى قيصر .
3 - عبد الله بن حذافة السهمي ، إلى كسري .
--------------------------- 298 ---------------------------
4 - حاطب بن أبي بلتعة اللخمي ، إلى المقوقس .
5 - الشجاع بن وهب الأسدي ، إلى الحارث بن أبي شمر الغسَّاني .
6 - وسليط بن عمرو العامري ، إلى ثمامة وهوذة .
والظاهر أنه قد كان ثمة رهبة شديدة وخوف عظيم لدى بعض المسلمين من هذا الأمر ، حتى إن الرسل أنفسهم أظهروا تثاقلاً عن تنفيذ أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) !
وقد يكون من أسباب ذلك خوفهم من بطش أولئك الملوك بهم ، وذلك في سورة غضب شديد توقَّعوها منهم حين تسليم الرسائل إليهم ، فقد قالوا : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية ، فقال : يا أيها الناس إن الله بعثني رحمة وكافة ، فأدوا عنى يرحمكم الله ولا تختلفوا على كما اختلف الحواريون على عيسى ! وقال : إنطلقوا ولا تصنعوا كما صنع رسل عيسى بن مريم . فقال أصحابه : وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله ؟ ! فقال : دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه ، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضى وسلَّم ، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً ، فكره وجهه وتثاقل فشكى ذلك عيسى إلى الله تعالى ، فأصبح المتثاقلون كل واحد منهم يتكلم بلسان الأمة التي بعث إليها .
وقد اعتبر الواقدي : أن من معجزات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه حين بعث النفر الستة إلى الملوك : أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثهم إليهم . وقالوا : كان ذلك معجزة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . الصحيح من السيرة : 16 / 200 .
وقال الأحمدي في مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : 1 / 181 : « لما تم صلح الحديبية في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة . فعندئذ كتب إلى الملوك من العرب والعجم ورؤساء القبائل والأساقفة والمرازبة والعمال وغيرهم يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام ، فبدأ بإمبراطورى الروم وفارس وملكي الحبشة والقبط ثم بغيرهم ، فكتب في يوم واحد ستة كتب وأرسلها مع ستة رسل . قيل : يا رسول الله إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا إذا كان مختوماً ، فاتخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاتماً من فضة ، نقشه ثلاثة أسطر : محمد رسول الله . وقيل :
--------------------------- 299 ---------------------------
إن الأسطر الثلاثة تقرأ من أسفل فيبدأ به محمد ، ثم رسول ، ثم الله ، فختم به الكتب . وفى مسند عبد بن حميد عن أنس قال : كتب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ملك الروم فلم يجبه ، فقيل له : إنه لا يقرأ إلا أن يختم ، قال : فاتخذ رسول الله خاتماً من فضة وكتب فيه : محمد رسول الله . . . وهذه الكتب بأجمعها تتضمن معنى واحداً وتروم قصداً فارداً ، وإن كان اللفظ مختلفاً إذ كلها كتب لمرمى واحد ، وهو الدعوة إلى التوحيد والإسلام . .
قال قيصر لأخيه حين أمره برمى الكتاب : أترى أرمى كتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر . وقال لأبى سفيان بعد أن ساءله وتكلم معه في النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما يأتي : إن كان ما تقول حقاً فإنه نبي ليبلغن ملكه ما تحت قدمي .
وخرج ضغاطر الأسقف أسقف الروم بعد قراءة الكتاب إلى الكنيسة والناس حشد فيها ، وقال : يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب أحمد ، يدعونا إلى الله ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد رسول الله .
وقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكذاب . وكتب فروة عامل قيصر على عمَّان إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بإسلامه ، فلما بلغ ذلك ملك الروم أخذه واعتقله واستتابه فأبي ، ثم قتله فقال حين يقتل :
بلغ سراة المسلمين بأنني سلَّمت ربى أعظمى وبناني
وكتب اليه هوذة بن علي ملك اليمامة : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله .
وأجابه جيفر وعبد ابنا جلندى ملكا عُمَان بالإسلام وخلوا بينه وبين الصدقة .
وأجابه المنذر بن ساوى ملك البحرين وحسن إسلامه . وأجابه ملوك حمير ووفدوا . وأجابه أساقفة نجران وأعطوا الجزية ، ولباه عمال ملك فارس بالبحرين واليمن ، ولباه أقيال حضرموت ، ولباه ملك أيلة ويهود مقنا وغيرهم ، إما بالإسلام أو الجزية . وكتب إليه النجاشي بإسلامه وإيمانه . .
وقد زادت « كتبه » على الخمسين كتاباً ، ولكنها في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير »
--------------------------- 300 ---------------------------
الفصل السابع والخمسون
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
قصة افترائهم أن النبي « صلى الله عليه وآله » مسحور
كتبنا في ألف سؤال وإشكال : 2 / 211 : « قال الله تعالى : وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلا رجلاً مَسْحُوراً . وقالت عائشة لقد سُحِر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأثَّر عليه السحر ، فكان يتخيل أنه فعل الشئ ولم يفعله ! وزعمت أن يهودياً سَحَره فأخذ مشطه وبعض شَعره وجعل فيه سحراً ودفنه في بئر ! وأنه ( صلى الله عليه وآله ) فقد حواسه وذاكرته وبقى على تلك الحالة ستة أشهر مسحوراً ! حتى دلَّهُ رجلٌ أو ملَك على الشخص الذي سحره والبئر التي أودع فيها المشط والمشاطة من شعره ! فذهب إلى البئر ، ولكنه لم يستخرج المشط منها أو استخرجه ، وفكَّ عقد خيط الجلد الذي لُفَّ به ، وأمر بدفن البئر ، ولم يقتل الذي سحره ، لأنه لم يرِدْ أن يثير فتنة !
روى البخاري هذه الخرافة في صحيحه عن عائشة في خمسة مواضع ! منها في : 4 / 91 : « عن عائشة قالت : سُحِرَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وقال الليث كتب إلى هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه ، عن عائشة قالت : سُحر النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله ، حتى كان ذات يوم دعا ودعا ، ثم قال : اُشْعِرتُ أن الله أفتاني فيما فيه شفائي . أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر : ما وجعُ الرجل ؟ قال : مَطْبُوب ! قال : ومن طَبَّهُ ؟ قال : لبيد بن الأعصم . قال : في ماذا ؟ قال : في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر ! قال : فأين هو ؟ قال : في بئر ذِروان ! فخرج إليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم رجع فقال لعائشة حين رجع : نخلها كأنها رؤوس الشياطين ! فقلت : استخرجتهُ ؟ فقال : لا ، أما أنا فقد شفاني الله ، وخشيتُ أن
--------------------------- 301 ---------------------------
يثير ذلك على الناس شراً ، ثم دُفِنَتْ البئر » !
وفي : 4 / 68 : « سُحر حتى كان يخَيلُ إليه أنه صنع شيئاً ولم يصنعه » !
وفي : 7 / 88 : « مكث النبي كذا وكذا ، يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي » !
وفي : 7 / 29 : « كان رسول الله سُحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ! قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا » !
وكرر بخارى ذلك بروايات متعددة : 7 / 28 و 164 . وروته عامة مصادرهم !
وقال ابن حجر في مدة بقاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسحوراً مجنوناً معاذ الله !
« ووقع في رواية أبى ضمرة عند الإسماعيلي : فأقام أربعين ليلة ، وفى رواية وهيب عن هشام عند أحمد : ستة أشهر ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه ، والأربعين يوماً من استحكامه ! وقال السهيلي : لم أقف في شئ من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي فيها في السحر حتى ظفرت به في جامع معمر عن الزهري أنه لبث ستة أشهر ! كذا قال . وقد وجدناه موصولاً بإسناد الصحيح فهو المعتمد » . فتح الباري : 10 / 192 .
أقول : يقصد السهيلي ما في مسند أحمد : 6 / 63 : « عن عائشة قالت : لبث رسول الله ستة أشهر يرى أنه يأتي نساءه ، ولا يأتي » !
ثم تقرأ تفاصيلهم العامية عن فريتهم في سحر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن صبياً يهودياً سرق مشط النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشيئاً من شعره وأعطاها إلى اليهودي لبيد الأعصم ، فجعل معها خيطاً من جلد وعقده اثنتي عشرة عقدة ، أو أحد عشرة عقدة ، ثم قرأ عليها السحر ولفَّ الجميع في قماشة ، ثم دفنها تحت صخرة بئر ذروان الذي يقع خارج المدينة ، وكان ماؤها بسبب السحر أحمر كالحنَّاء ، وكان النخل الذي يسقى منها طلعه كأنه رؤوس الشياطين !
ثم بعد ستة أشهر قضاها سيد الأنبياء والمرسلين ( صلى الله عليه وآله ) مريضاً مسحوراً نصف مجنون ! دلَّه الملك على البئر فذهب إليها ، أو أرسل علياً والزبير ، فاستخرجوا المشط وفكوا عقد الخيط ، فشفى النبي ( صلى الله عليه وآله ) من السحر ! راجع المجموع : 12 / 243 .
--------------------------- 302 ---------------------------
ثم اقرأ تأكيد ابن حجر على تأثير السحر على حواس النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبعض عقله ! قال : « قوله : حتى كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يخيل إليه أنه كان يفعل الشئ وما فعله . قال المازري : أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها ، قالوا : وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل ، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع ، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثمَّ ، وأنه يوحى إليه بشئ ولم يوح إليه بشئ !
قال المازري : وهذا كله مردود ، لأن الدليل قد قام على صدق النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما يبلغه عن الله تعالى ، وعلى عصمته في التبليغ ، والمعجزات شاهدات بتصديقه ، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل . وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ، ولا كانت الرسالة من أجلها . . . فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض ، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له ، مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين !
قلت : وهذا قد ورد صريحاً في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه : حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وفى رواية الحميدي أنه يأتي أهله ولا يأتيهم . . . وقال عياض : يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطأ ، فإذا دنا من المرأة فَتَرَ عن ذلك ، كما هو شأن المعقود ، ويكون قوله في الرواية الأخري : حتى كاد ينكر بصره ، أي صار كالذي أنكر بصره ، بحيث أنه إذا رأى الشئ يخيل أنه على غير صفته فإذا تأمله عرف حقيقته . ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولاً فكان بخلاف ما أخبر به » . انتهي .
وقال المقريزي في إمتاع الأسماع : 1 / 306 : « وفى محرم سنة سبع سحر لبيد بن الأعصم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على مال جعله له من بقي بالمدينة من اليهود والمنافقين » .
وقال في الإمتاع : 8 / 43 : « وفى جامع معمر بن راشد عن الزهري قال : سحر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سنة يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو ( صلى الله عليه وآله ) لا يفعله . .
--------------------------- 303 ---------------------------
وقال ابن سعد : أخبرنا محمد بن عمر ، حدثني أبو مروان ، عن إسحاق ابن عبد الله ، عن عمر بن الحكم قال : لما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الحديبية في ذي الحجة ودخل الحرم ، جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة ، ممن يظهر الإسلام ، وهو منافق ، إلى لبيد بن الأعصم اليهودي ، وكان حليفاً في بنى زريق ، وكان ساحراً ، قد علمت ذلك يهود أنه أعلمهم بالسحر وبالسموم ، فقالوا له : يا أبا الأعصم ، أنت أسحر منا ، وقد سحرنا محمداً فسحره منا الرجال والنساء ، فلم نصنع شيئاً وأنت ترى أثره فينا وخلافه ديننا ومن قتل منا وأجلي ، ونحن نجعل لك على ذلك جعلاً على أن تسحره لنا سحراً ينكره ، فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فعمد إلى مشط وما يمشط من الرأس من الشعر ، فعقد فيه عقداً ، أو تفل فيه تفلاً ، وجعله في جب طلعة ذكر ، ثم انتهى به حتى جعله تحت أرعوفة البئر ، فوجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمراً أنكره ، حتى يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولا يفعله ، وأنكر بصره حتى دله الله عليه ، فدعا جبير بن إياس الزرقي ، وقد شهد بدراً ، فدله على موضع في بئر ذروان ، تحت أرعوفة البئر ، فخرج جبير حتى استخرجه ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم ، فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقد دلني الله على سحرك وأخبرني ما صنعت ، قال : حب الدنانير يا أبا القاسم .
قال إسحاق بن عبد الله : فأخبرت عبد الرحمن بن كعب بن مالك بهذا الحديث فقال : إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد وكن أسحر من لبيد وأخبث ، وكان لبيد هو الذي ذهب به ، فأدخله تحت أرعوفة البئر ، فلما عقدوا تلك العقد أنكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تلك الساعة بصره ، ودس بنات أعصم إحداهن ، فدخلت على عائشة رضي الله عنها فخبرتها عائشة ، أو سمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من بصره ، ثم خرجت إلى أخواتها وإلى لبيد فأخبرتهم ، فقالت إحداهن : إن يكن نبياً فسيخبر ، وإن يكن غير ذلك فسوف يدله هذا السحر حتى يذهب عقله ، فيكون بما نال من قومنا وأهل ديننا ، فدله الله عليه .
قال الحارث بن قيس : يا رسول الله ألا نهور البئر ؟ فأعرض عنه
--------------------------- 304 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهورها الحارث بن قيس وأصحابه وكان يستعذب منها . قال : وحفروا بئرا أخرى فأعانهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حفرها حين هوروا الأخرى التي سحر فيها ، حتى أنبطوا ماءها ثم تهورت بعد . ويقال : إن الذي استخرج السحر بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قيس بن محصن » .
رد علمائنا لهذه الفرية
أقول : هذا بعض كلامهم الطويل العليل الذي يريدون به أن يقنعوك به بأن نبيك ( صلى الله عليه وآله ) كان لمدة ستة أشهر مسحوراً ، وأنه مرض من ذلك وانتثر شعر رأسه ، وصار أقرع أو كالأقرع ، وصار يذوب ولا يدرى ما عراه ! وكان يتصور أنه يرى شيئاً وهو لا يراه ، ويتصور أنه أكل ولم يأكل ، وأنه نام مع زوجته ولم يفعل !
ثم يريدون أن يطمئنوك بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بخير وعافية ، فالسحر قد تسلط على جسده وظواهر جوارحه ، أي على قسم من عقله وليس على جميعه !
ويقولون لك نعم إن نبيك ( صلى الله عليه وآله ) معصوم لا ينطق عن الهوي ، لكن عصمته إنما هي في تبليغه الرسالة فقط ! أما في غير التبليغ فقد يصاب بالسحر وبالجنون ، فيفقد التمييز في الأمور الدنيوية التي لم يبعث من أجلها ! ومنها استخلاف من يقود المسلمين بعده ! وكل دليلهم على ذلك أن عائشة قالته ، ولو خالف القرآن !
لقد فاقت القرشيات بافترائها على النبي ( صلى الله عليه وآله ) كل ما افترته الإسرائيليات على أنبيائهم « عليهم السلام » ! ولذا قال ( صلى الله عليه وآله ) : « ما أوذى نبي مثل ما أوذيت » !
وقد رد هذه الفرية علماء الشيعة ، وتجرأ على ردها معهم بعض علماء السنة !
قال الطوسي في تفسير التبيان : 1 / 384 : « ما روى من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سُحِر وكان يرى أنه يفعل ما لم يفعله ، فأخبار آحادٍ لا يلتفت إليها ، وحاشا النبي ( صلى الله عليه وآله ) من كل صفة نقصٍ ، إذ تنفر من قبول قوله لأنه حجة الله على خلقه وصفيه من عباده ، اختاره الله على علم منه ، فكيف يجوز ذلك مع ما جنبَّه الله من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة والخلق المشينة ؟ !
ولا يجوِّز ذلك على الأنبياء « عليهم السلام » إلا من لم يعرف مقدارهم ولايعرفهم حقيقة
--------------------------- 305 ---------------------------
معرفتهم ، وقد قال الله تعالى : وَاللهُ يعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وقد أكذب الله من قال : إِنْ تَتَّبِعُونَ إلا رجلاً مَسْحُوراً . فنعوذ بالله من الخذلان » .
وقال ابن إدريس في السرائر : 3 / 534 : « والرسول ( صلى الله عليه وآله ) ما سُحِر عندنا بلا خلاف لقوله تعالي : وَاللهُ يعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وعند بعض المخالفين أنه سُحر » !
قال في الصحيح من السيرة : 16 / 225 : « وزعموا : أنه في شهر محرم من السنة السابعة وقيل سنة ست : سحر رسول الله . فعن عائشة قالت : سُحر رسول الله حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن . قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان ! وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد ، وكان لبيد هو الذي ذهب به فأدخله تحت راعوفة البئر . ودس بنات أعصم إحداهن فدخلت على عائشة ، فسمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله من بصره ! ثم خرجت إلى أخواتها بذلك فقالت إحداهن : إن يكن نبياً فسيخبَّر ، وإن كان غير ذلك فسوف يدْلِهُهُ هذا السحر ، فيذهب عقله ، فدله الله عليه ! وقد مرض من سحرهن له حتى إنه لم يقدر على قربان أهله ستةأشهر ، وذكر الستة والأربعين يوماً في الوفاء ! وعن الزهري : أنه لبث سنة ! وفى بعض الروايات : أن سِحْرَ يهود بنى زريق حبس النبي عن خصوص عائشة : سنة !
بل في بعضها : فأقام رسول الله لا يسمع ولا يبصر ، ولا يفهم ، ولا يتكلم ، ولا يأكل ولا يشرب . . ! فهل يمكن أن يكون هذا حال من وصفه الله تعالى بأنه : وَمَا ينطِقُ عَنِ الهَوَي ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْى يوحَي ؟ !
وقد ذكرت الروايات المتقدمة : أن شعر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد انتثر بواسطة السحر . . وهذا أمر عجيب وغريب لم نعهده في سحر الساحرين ، ولا قرأناه في تاريخ هذا النبي الأمين ( صلى الله عليه وآله ) ، فلو كان ذلك قد حصل فعلاً لاعتبره المؤرخون مفصلاً تاريخياً في حياته ( صلى الله عليه وآله ) ! إننا لا نشك في كذب هذه الروايات ، ونعتقد أنها من مجعولات أعداء هذا الدين » .
أقول : أصل المشكلة عندهم أنهم يقبلون كلام عمر وعائشة والبخاري حتى
--------------------------- 306 ---------------------------
لو خالف القرآن والقطعى من السنة ، ولايسمحون لأنفسهم ولا لأحد أن ينتقده ويرده ! وقد أوقعهم ذلك في مشكلات عديدة في العقائد والفقه ! تورطوا فيها وما زالوا دون أن يجرأ أحد منهم على القول : معاذ الله ، إنها تهمة الكفار لنبينا ( صلى الله عليه وآله ) وقد برَّأه الله منها ، فإن صحت عن عائشة فهي من خيالاتها !
وقد استنكر الله تعالى تهمة الكفار ، فقال : نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يسْتَمِعُونَ إِلَيكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا . اُنْظُرْ كَيفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً . الإسراء : 46 - 48 .
فما الفرق بين قول هؤلاء وقول عائشة : « حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله » ؟ أليس هذا الجنون بعينه ! وإن قبلوه في النبي ( صلى الله عليه وآله ) فمن يضمن أن يكون الله تعالى أنزل عليه وحياً وأوامر فتصور أنه بلغ ذلك ولم يبلغه !
ثم متى كانت هذه الحادثة ؟ في السنة السادسة أو السابعة ؟ وكل حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وسنواتها وأيامها مشهودة منظورة ، وكيف لم يعرف ذلك إلا عائشة ؟ !
فبعد رجوعه ( صلى الله عليه وآله ) من الحديبية في ذي الحجة راسل ملوك العالم ، ودخلت السنة السابعة فغزا خيبر ، ثم اعتمر عمرة القضاء ، ثم كانت غزوة مؤتة . فمتى كانت حادثة السحر المزعومة !
ثم كيف يعتقدون بالقدرات الخارقة للسحر وتأثيره على الناس والمؤمنين والأنبياء « عليهم السلام » ! وإذا صح ذلك ، فلماذا لم يصِر السَّحَرَة حكام الأرض ؟ !
هذا ، ولا نطيل في تحليل كلام عائشة ففيه دلالات ليست في مصلحتها !
رد بعض علماء السنيين لهذه الفرية
وممن تجرأ ومال إلى موافقتنا في ردها : النووي في المجموع : 19 / 242 ، قال : « وأكتفى بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) . . تنبيه : قال الشهاب بعد نقل التأويلات عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث سحره ( صلى الله عليه وآله ) المروى هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور ، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه . ونقل
--------------------------- 307 ---------------------------
الرازي عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلةٌ ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول : وَاللهُ يعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، وقال : وَلا يفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَي . ولأن تجويزه يفضى إلى القدح في النبوة ، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء « عليهم السلام » والصالحين ، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم ! وكل ذلك باطل .
وكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور ، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوى ، ولحصل فيه ( عليه السلام ) ذلك العيب ، ومعلوم أن ذلك غير جائز » !
- *
--------------------------- 308 ---------------------------
الفصل الثامن والخمسون
غزوة خيبر
1 - محافظة خيبر
خيبر الآن محافظة مركزها مدينة خيبر ، وتقع شمال شرق المدينة المنورة ، وتبعد عنها 179 كيلومتراً ، وتشمل 189 قرية ، ومساحتها 260 كيلومتراً .
http : / / www . oman 0 . net / forum / showthread . php ? t = 17962
وفى معجم البلدان : 2 / 409 : « خيبر : الموضع المذكور في غزاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى ناحية على ثمانية بُرُد من المدينة لمن يريد الشام . يطلق هذا الاسم على الولاية وتشتمل هذه الولاية على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير ، وأسماء حصونها : حصن ناعم وعنده قتل مسعود بن مسلمة ألقيت عليه رحي ، والقموص حصن أبى الحقيق ، وحصن الشق ، وحصن النطاة ، وحصن السلالم ، وحصن الوطيح ، وحصن الكتيبة . وأما لفظ خيبر فهو بلسان اليهود : الحصن ، ولكون هذه البقعة تشتمل على هذه الحصون سميت خيابر » .
أقول : هاجر اليهود بعد المسيح ( عليه السلام ) إلى الجزيرة ينتظرون النبي الموعود ( صلى الله عليه وآله ) ، ونزلوا في مواضع منها تيماء ووادى القرى وخيبر وحول المدينة ، وكان في خيبر أودية فيها بعض العيون ، وبقربها قبيلة عبس وبعض قبائل غطفان النجدية ، لكنهم كانوا أهل إبل وشاء ولم يكونوا أهل زراعة ، فسكن فيها اليهود وزرعوها ونجحت فيها زراعة النخيل واشتهر تمرها بعد هجر . ولعل كلمة خيبر التي سموها بها نفس كلمة كيبوتس ، بمعنى مستوطنة أو قرية .
--------------------------- 309 ---------------------------
وكان يهود خيبر عندما بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) نحو عشرة آلاف نسمة ، ومقاتلوهم نحو ثلاثة آلاف ، وقد انضم إليهم عدد أجلاهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) من جور المدينة من يهود قينقاع والنضير وقريظة ، وفيهم حاخامات وزعماء كبار رأَّسَهم أهل خيبر عليهم ، مثل حي بن أخطب الذي كان يتجول ويحث قريشاً وقبائل العرب على حرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويعد قبائل نجد بموسم تمر خيبر !
2 - بعد عودته من الحديبية بعشرين يوماً توجه « صلى الله عليه وآله » إلى خيبر
بعد عودته من الحديبية بنحو عشرين يوماً ، توجه النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى خيبر بجيشه البالغ نحو ألف وخمس مئة ، وكان ذلك في شهر صفر أواخر السنة السابعة للهجرة . وجاءه المتخلفون عن الحديبية فقال ( صلى الله عليه وآله ) : لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد ، فأما الغنيمة فلا . ثم أمر منادياً ينادى بذلك . الصحيح من السيرة : 17 / 72 .
وفى سيرة ابن هشام : 3 / 791 : « ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر . ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب وكانت بيضاء » . ثم روى ابن هشام أن الأكوع كان يرتجز بهم :
والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا
إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا
وهو شعر عبد الله بن رواحة ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) يردده في حفر الخندق » . الغدير : 2 / 6 .
ثم نقل عن ابن إسحاق : « أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرج إلى خيبر فسلك على عَصْر بفتح العين وإسكان الصاد المهملة ، وفى بعض النسخ عَصَر بفتح الصاد . قال : فبنى له فيها مسجد قال : ثم سلك على الصهباء ، ثم أقبل حتى نزل بواد يقال له الرجيع ، فنزل بين أهل خيبر وبين غطفان ، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر ، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فكان أول حصن افتتحه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حصن ناعم » . « فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لحُسَيل : يا حُسَيل : إمض أمامنا حتى تأخذ بنا صدور الأودية ، حتى تأتى خيبر من بينها وبين الشام ،
--------------------------- 310 ---------------------------
فأحول بينهم وبين الشام ، وبين حلفائهم من غطفان . فقال حُسَيل : أنا أسلك بك ، فانتهى به إلى موضع له طُرق فقال : يا رسول الله ، إن لها طرقاً تؤتى منها كلها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : سمها لي . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحب الفأل الحسن والاسم الحسن ويكره الطيرة والاسم القبيح ، فقال : لها طريق يقال لها : حزن وطريق يقال لها : شاش وطريق يقال لها : حاطب ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا تسلكها . قال : لم يبق إلا طريق واحد يقال له : مرحب ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أسلكها » . الصحيح من السيرة : 17 / 89 .
3 - سبب حرب النبي « صلى الله عليه وآله » يهودَ خيبر
قال في المواجهة مع رسول الله / 283 : « كانت خيبر من أعظم وأكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة ، حتى أنها أصبحت قلعة حقيقية ففيها المال وفيها الرجال ، وقد تابع يهود خيبر بقلق بالغ أنباء مواجهات الرسول مع يهود بنى قينقاع وبنى النضير وبنى قريظة ، وتأثروا بما أصابهم ، وتعاطفوا معهم حتى صارت خيبر ملجأ للكثير من اليهود ، واستقطبت بخيراتها وأموالها عواطف الكثير من أبناء القبائل العربية المحتاجة الطامعة بأي شئ ، مما حوَّلها مع الأيام إلى قاعدة لمن يتربصون الدوائر بالنبي وآله ومن والاه ، وصارت أعظم خطر يهدد الإسلام .
وقد أدرك يهود خيبر ومن لجأ إليهم وتحالف معهم ، أن المواجهة مع محمد ومن والاه قدر محتوم لا مفر منه ، وقد أرعبتهم مواجهات محمد السابقة مع خصومه ، لذلك فهم يخشون فكرة شن هجوم عليه ، مما فرض عليهم فرضاً أن يبقوا بحالة ترقب وقلق حتى يأتي محمد ومن والاه لحربهم ، فيحاربونه حرباً دفاعية وهم في حصونهم .
واستعداداً لتلك المواجهة الحاسمة رمموا حصونهم وأصلحوها ، واستوردوا السلاح وصنعوه ، ووسعوا دائرة تحالفاتهم مع القبائل ، خاصة مع قبيلة غطفان وزعيمها عيينة بن حصن ، ويقال إنهم جندوا عشرة آلاف مقاتل يتم استعراضهم يومياً ، وقدروا أنهم بهذه العدة والعدد سيكونون أول من يلحق هزيمة ساحقة بمحمد وآله ومن والاه ، ومن هنا فقد أيقنوا بأن محمداً قادم إليهم لا محالة ، وترقبوا كل يوم قدومه ليواجهوه بما لا قبل له به !
--------------------------- 311 ---------------------------
وبعد أن فتح الله على نبيه في صلح الحديبية ذلك الفتح المبين ، وحقق انتصاره السياسي ، وخلَّت بطون قريش بينه وبين العرب ، واعترفت به وهى عدوته اللدودة ، واعترفت بحقه باستقطاب العرب حوله . عندئذ قدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن الفرصة ملائمة لمواجهة أخطر وأقوى ما تبقى من خصومه وهم يهود خيبر . . . وبعد إتمام الاستعدادات وفى شهر صفر من السنة السابعة للهجرة ، زحف النبي نحو خيبر ودخلها عن طريق مرحب ، وفى الطريق علم أن قبائل غطفان الكبيرة قد تحالفت مع اليهود على حرب محمد مقابل تمر خيبر لسنة . ولما استقر الرسول في معسكره قرب خيبر ، أمر أتباعه أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم بالقتال » .
4 - وصول النبي « صلى الله عليه وآله » إلى خيبر
في خيبر سمع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير ، فأمرهم أن يلتزموا الهدوء والسكينة والتواضع ، وقال لهم : إربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً ، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم . . وقال لهم : قفوا فوقفوا ، فقال : « اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، فإنَّا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها ، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها . أقدموا باسم الله » . المناقب : 1 / 176 والصحيح من السيرة : 17 / 101 .
وكان أهل خيبر يتوقعون وصول النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لكنه فاجأهم من جهة لا يتوقعون مجيئه منها ، فرآه بعض المزارعين فقالوا : محمد والخميس وأدبروا هرباً ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) ورفع يديه : الله أكبر ، خربت خيبر ! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين . كما قالها عند محاصرة بني قريظة . الإرشاد : 1 / 110 وتفسير القمي : 2 / 189 .
وعسكر ( صلى الله عليه وآله ) بأصحابه قرب حصن ناعم ، وكان فيه قوات غطفان النجدية ، بزعامة شيخ فزارة عيينة بن حصن ، جاؤوا لنصرة اليهود قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثلاثة أيام ، وروى أنهم كانوا أربعة آلاف ، ونزلوا في حصن ناعم في
--------------------------- 312 ---------------------------
النطاة ، فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) سعد بن عبادة لينصح عيينة بالإنسحاب بقبيلته : « فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم : إني أريد أكلِّم عيينة بن حصن ، فأراد عيينة أن يدخله الحصن فقال مرحب : لاتُدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها ، ولكن تخرج إليه . فقال عيينة : لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عدداً كثيراً ، فأبى مرحب أن يدخله فخرج عيينة إلى باب الحصن ، فقال سعد : إن رسول الله أرسلني إليك يقول : إن الله قد وعدني خيبر فارجعوا وكفوا ، فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنة . فقال عيينة : إنَّا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشئ وإنَّا لنعلم ما لك وما معك مما هاهنا طاقة ، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة ، ورجال عددهم كثير وسلاح ! إن أقمت هلكت ومن معك ، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح . ولا والله ما هؤلاء كقريش وقومٍ ساروا إليك إن أصابوا غِرَّة منك فذاك الذي أرادوا ، وإلا انصرفوا ، وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم . فقال سعد بن عبادة : أشهد ليحصرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك فلا نعطيك إلا السيف ! وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب ،
كيف مُزقوا كل ممزق !
فرجع سعد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بما قال . وقال سعد : يا رسول الله ، لئن أخذه السيف ليسلمنهم وليهربن إلى بلاده كما فعل ذلك قبل اليوم في الخندق . فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه أن يتوجهوا إلى حصنهم الذي في غطفان وذلك عشيةً وهم في حصن ناعم ، فنادى منادى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم ، الذي فيه غطفان . قال : فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم ، فلما كان بعد هذه من تلك الليلة سمعوا صائحاً يصيح لا يدرون من السماء أو الأرض : يا معشر غطفان أهلكم أهلكم ! الغوث الغوث بحيفاء ، صِيح ثلاثة ، لا تربة ولا مال ! قال : فخرجت غطفان على الصعب والذلول ، وكان أمراً صنعه الله لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) . فلما أصبحوا أُخبر كِنانة بن أبي الحُقيق وهو في الكتيبة منطقة من خيبر بانصرافهم فسقط في يديه » .
الصحيح من السيرة : 17 / 110 .
--------------------------- 313 ---------------------------
5 - نداء النبي « صلى الله عليه وآله » بالأمان لأهل خيبر
روت مصادرهم : « عن الضحاك الأنصاري قال : لما سار النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى خيبر جعل علياً على مقدمته فقال ( صلى الله عليه وآله ) : من دخل النخل فهو آمن ، فلما تكلم النبي ( صلى الله عليه وآله ) نادى بها على فنظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى جبرائيل يضحك فقال : مايضحكك ؟ ! قال :
إني أحبه ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) : إن جبرائيل يقول إنه يحبك ! قال ( عليه السلام ) : بَلَغْتُ أن يحبني جبرائيل ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : نعم ومن هو خير من جبرائيل : الله عزَّ وجل » .
الطبراني الكبير : 8 / 301 ، مجمع الزوائد : 9 / 126 وأسد الغابة : 3 / 34 .
6 - فتح علي « عليه السلام » كل حصون خيبر ؟
كانت خيبر ثلاث مناطق : النَّطَاهْ بفتح النون المشددة وسكون الهاء ، وفيها ثلاثة حصون : حصن ناعم ، وحصن الصعب ، وحصن قلة . وتتصل بها منطقة الشق وفيها حصن أبي ، وحصن البرئ .
وعلى بعد كيلو مترات منها منطقة الكتيبة ، وفيها واد فيه أربعون ألف نخلة وعلى جبلها ثلاثة حصون : حصن القموص ، والسلالم ، والوطيح .
وقد استغرق فتح خيبر كلها وترتيب أمرها نحو شهرين . وبدأ النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحصن ناعم في النطاة ، ففتحه بعد بضعة أيام . ثم حاصر حصن الصعب أياماً ، ثم فتح بقية الحصون في مدة قليلة .
ثم ترك علياً ( عليه السلام ) في منطقة النطاة والشق يرتب أمرها ، واتجه إلى الكتيبة فحاصر حصنها الأكبر « القموص » ، وطالت محاصرته له بضعة وعشرين يوماً !
وكان يرسل جيشه كل يوم بقيادة صحابي ، فيصلون إلى خندق الحصن فيرميهم اليهود من أبراجه بالسهام والأحجار ، فيرمونهم هم ، ويرجعون !
ثم تجرأ مرحب وفرسانه فأخذوا يخرجون من الحصن ويطلبوا من المسلمين أن يعبروا إليهم فلا يجرؤون ، بل يرجعون منهزمين حتى أحضر النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) !
وروت مصادرنا أن فتح حصون خيبركلها كان بيد على ( عليه السلام ) ، وروى نحو ذلك
--------------------------- 314 ---------------------------
في السيرة الحلبية : 2 / 737 ، عون المعبود : 8 / 172 ، قال : « وقصة فتح هذه الحصون : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ألبس علياً رضي الله عنه درعه الحديد وأعطاه الراية ، ووجهه إلى الحصن ، فلما انتهى على رضي الله عنه إلى باب الحصن ، اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض ، ففتح الله ذلك الحصن الذي هو حصن ناعم ، وهو أول حصن فتح من حصون النطاة على يده رضي الله عنه .
وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة ففتح الله حصن الصعب قبلما غابت الشمس من ذلك اليوم . ولما فتح ذلك الحصن تحول من سلم من أهله إلى حصن قلة ، وهو حصن بقلة جبل ، ويعبر عن هذا بقلعة الزبير ، وهو الذي صار في سهم الزبير بعد ذلك ، وهو آخر حصون النطاة . فحصون النطاة ثلاثة ، حصن ناعم ، وحصن الصعب ، وحصن قلة . ثم صار المسلمون إلى حصار حصون الشق ، فكان أول حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبي ، فقاتل أهله قتالاً شديداً وهرب من كان فيه ، ولحق بحصن يقال له حصن البرئ ، وهو الحصن الثاني من حصني الشق .
ثم إن المسلمين لما أخذوا حصون النطاة وحصون الشق ، انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكتيبة ، وهى ثلاثة حصون القموص والوطيح وسلالم ، وكان أعظمها القموص ، وانتهى المسلمون إلى حصار الوطيح وحصن سلالم ويقال له السلاليم ، وهو حصن بنى الحقيق آخر حصون خيبر ، ومكثوا على حصارهما أربعة عشر يوماً ، فلم يخرج أحد منهما ، وسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم ، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ، فصالحهم على ذلك » .
أقول : ستعرف أن محاصرة القموص طالت بضعاً وعشرين يوماً ، وذلك قبل محاصرة حصن السلالم والوطيح ، التي ذكر العيني أنها كانت أربعة عشر يوماً .
كما تدل روايته على أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قلع باب حصن ناعم ، ولم يذكر حجم ذلك الباب ، وسيأتي قلعه ( عليه السلام ) لباب حصن القموص ، وهو أكبر حصون خيبر .
--------------------------- 315 ---------------------------
7 - طريقة القتال في فتح النبي « صلى الله عليه وآله » حصون خيبر
« صفَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه ووعظهم ، ونهاهم عن القتال حتى يأذن لهم ، فعمد رجل من قبيلة أشجع فحمل على يهودي فقتله اليهودي ، فقال الناس : استشهد فلان . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أبعدَ ما نهيتُ عن القتال ؟ قالوا : نعم . فأمر رسول الله منادياً فنادى في الناس : لا تحل الجنة لعاص . . وقالوا إن مرحباً هو الذي قتل ذلك الرجل الأشجعي . . وأذن رسول الله في القتال وحثهم على الصبر ، وأول حصن حاصره حصن ناعم . . وقاتل ( صلى الله عليه وآله ) يومه ذاك أشد القتال ، وقاتله أهل النطاة أشد القتال ، وترَّس جماعة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عليه يومئذٍ ، وعليه كما قال محمد بن عمر درعان وبيضة ومغفر ، وهو على فرس يقال له الظرب ، وفى يده قناة وترس » . الصحيح من السيرة : 17 / 152 .
أقول : كان اليهود مستميتين في الدفاع عن خيبر ، ومن الطبيعي أنهم كانوا يخططون لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فقد روى الواقدي : 2 / 670 والصحيح من السيرة : 17 / 219 « أن كنانة ابن أبي الحقيق كان رامياً يرمى بثلاثة أسهم في ثلاث مائة ذراع ، فيدخلها في هدف شبراً في شبر ! فما هو إلا أن قيل له : هذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أقبل من الشق في أصحابه ، وقد تهيأ أهل القموص ، وقاموا على باب الحصن بالنبل . . فنهض كنانة إلى قوسه فلم يستطع أن يوترها لشدة الرعدة التي انتابته » !
والوضع الطبيعي أن يتحصن اليهود في قلاعهم ، ويردوا هجمات المسلمين بواسطة الرماة من أبراج القلعة وسطوحها . لكن أحاديث خيبر ذكرت أن فرسان اليهود خرجوا من بعض حصونهم واشتبكوا مع المسلمين أمام مداخلها ، وفتحوا أبواب الحصن للتواصل مع مقاتليهم ، فلم يمكنهم رمى المسلمين القريبين بالسهام . فكان على المسلمين أن يكتسحوا المقاتلين أمام باب الحصن ، ثم يدخلوه قبل أن يسدوا بابه ، ويقاوموا المقاتلين داخله . وكان اليهود عند سقوط الحصن ينسحبون إلى غيره ، وينقلون معهم ما أمكنهم من سلاح ومؤن أو يتلفونها ، فقد ورد ذكر بطلهم مرحب في معركة حصن ناعم وهو أول
--------------------------- 316 ---------------------------
حصن فتحه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم كان بطل حصن القموص ، وهو آخر حصونهم وأهمها .
وهذه بعض نصوص القتال في فتح الحصون قبل حصن القموص من كتاب : الصحيح من السيرة : 17 / 171 : « لم يكن بخيبر حصن أكثر طعاماً وودكاً وماشية ومتاعاً من حصن الصعب بن معاذ ، ووجدوا فيه ما لم يكونوا يظنون ، من الشعير والتمر والسمن والعسل والزيت والودك ، وكان فيه خمس مائة مقاتل ، وكان المسلمون قد أقاموا أياماً يقاتلون ليس عندهم طعام إلا العلف !
وروى ابن إسحاق عن بعض قبيلة أسلم ومحمد بن عمر ، عن معتب الأسلمي واللفظ له قال : أصابتنا معشر أسلم مجاعة حين قدمنا خيبر ، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح شيئاً فيه طعام ، فأجمعت أسلم أن أرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا : إئت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقل له : إن أسلم يقرؤونك السلام ويقولون : إنَّا قد جُهدنا من الجوع والضعف . . وحسب نص الحلبي : إن اليهود حملت حملة منكرة فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو واقف قد نزل عن فرسه . . ثم إن المسلمين اقتحموا الحصن يقتلون ويأسرون ، فوجدوا في ذلك الحصن من الشعير . . . ونادى منادى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كلوا واعلفوا ولا تحملوا أي لا تخرجوا به إلى بلادكم .
وحسب نص الواقدي : وقد أقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال ، فلما كان اليوم الثالث بكَّر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عليهم ، فخرج رجل من اليهود كأنه الدقل في حربة له وخرج وعاديته معه ، فرموا بالنبل ساعة سراعاً وترِّسنا عن رسول الله وأمطروا علينا بالنبل فكان نبلهم مثل الجراد ، حتى ظننت ألا يقلعوا ، ثم حملوا علينا حملة رجل واحد فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو واقف قد نزل عن فرسه ، ومِدْعَم يمسك فرسه . . .
وندب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المسلمين وحضهم على الجهاد ورغبهم فيه ، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر يغنمه إياها . قال فأقبل الناس جميعاً حتى عادوا إلى صاحب رايتهم ، ثم زحف بهم الحباب فلم يزل يدنو قليلاً قليلاً وترجع اليهود على أدبارها حتى لحمها الشر ، فانكشفوا سراعاً ودخلوا الحصن وغلَّقوا عليهم ، ووافوا على جدره وله جدر
--------------------------- 317 ---------------------------
دون جدر ، فجعلوا يرموننا بالجندل رمياً كثيراً ، ونحَّوْنا عن حصنهم بوقع الحجارة ، حتى رجعنا إلى موضع الحباب الأول .
ثم إن اليهود تلاومت بينها وقالت : ما نستبقى لأنفسنا ؟ قد قتل أهل الجد والجلد في حصن ناعم ! فخرجوا مستميتين ورجعنا إليهم فاقتتلنا على باب الحصن أشد القتال ، وقتل يومئذٍ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أبو صياح ، وقد شهد بدراً ، ضربه رجل منهم بالسيف فأطن قحف رأسه ، وعدى بن مرة بن سراقة طعنه أحدهم بالحربة بين ثدييه فمات ، والثالث الحارث بن حاطب وقد شهد بدراً ، رماه رجل من فوق الحصن فدمغه .
وقد قتلنا منهم على الحصن عدة كلما قتلنا منهم رجلاً حملوه حتى يدخلوه الحصن ، ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه ، وأدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم في جوفه ، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم ! فقتلنا من أشرف لنا وأسرنا منهم وهربوا في كل وجه يركبون الحرة ، يريدون حصن قلعة الزبير ، وجعلنا ندعهم يهربون . وصعد المسلمون على جدره فكبروا عليه تكبيراً كثيراً . . ووجدوا فيه من البز والآنية ، ووجدوا خوابى السّكَر فأمروا فكسروها ، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن ، والخوابى كبار لا يطاق حملها . . وأخرجنا منه غنماً كثيراً وبقراً وحمراً ، وأخرجنا منه آلة كثيرة للحرب ومنجنيقاً ودبابات وعُدَّة ، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً ، فعجل الله خزيهم . . .
أخرج من أطم من حصن الصعب ابن معاذ من البز عشرون عكماً « ربطة » محزومة من غليظ متاع اليمن ، وألف وخمس مائة قطيفة ، ويقال : قدم كل رجل بقطيفة على أهله » .
وفى سبل الهدي : 5 / 125 : « ذكر قتل على رضي الله عنه الحارث وأخاه مرحباً وعامراً وياسراً ، فرسان يهود وسبعانها . روى محمد بن عمر عن جابر قال : أول من خرج من حصون خيبر مبارزاً الحارث أخو مرحب في عاديته فقتله علي ، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن وبرز عامر ، وكان رجلاً جسيماً طويلاً ،
--------------------------- 318 ---------------------------
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين برز وطلع عامر أترونه خمسة أذرع وهو يدعو إلى البراز ؟ فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فضربه ضربات ، كل ذلك لا يصنع شيئاً ، حتى ضرب ساقيه فبرك ، ثم ذفف عليه وأخذ سلاحه » .
أقول : كان قتل هؤلاء في حصن ناعم وليس في حصن القموص مع مرحب كما رووا . وقد كان مرحب معهم ، لكنه لم يبرز إلا في حصن القموص . ويؤيده أن منزل ياسر أخ مرحب في النطاة لا في القموص . « معجم البكري : 2 / 523 » ، وأن الحارث كان يحوس الناس بحربته ، أما في مبارزة على ( عليه السلام ) لمرحب فلم يكن مع علي أحد ليحو
سهم الحارث .
8 - طالت محاصرة حصن خيبر وظهرت هزيمة المسلمين !
« يقع حصن القموص في الجهة المقابلة للمسجد الفعلي الذي كان مركز قيادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويقع على مسافة قليلة إلى يمينه حصن السلالم وحصن الوطيح ، ويفصل هذه الحصون عن مركز قيادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) تلالٌ ووادٍ ، وقد رأيته قبل خمس وثلاثين سنة ، وادياً صغيراً فيه بعض نخيل وعين ماء جارية ، بقربها محراب ومكان للصلاة ، وقد سألت البدو عنها فقالوا هذه عين سيدنا علي .
وبعد الوادي جبل على قمته الحصون ، وخلفه وادى الكتيبة المشهورة بالنخيل .
وعندما فتح النبي ( صلى الله عليه وآله ) حصون النطاة والشق : « انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكتيبة ، وهى ثلاثة حصون : القموص والوطيح وسلالم ، وكان أعظم حصون خيبر القموص » . عون المعبود : 8 / 172 .
« فتحصنوا معهم في القموص أشد التحصين ، مغلقين عليهم لايبرزون ، حتى همَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يرميهم بالمنجنيق » . الواقدي : 2 / 670 .
وحاصرهم بضعاً وعشرين يوماً « تاريخ خليفة / 49 » وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يصلى بالمسلمين كل يوم صلاة الفجر ، ثم يصطفُّون ثم يذهبون لمهاجمة الحصن ، فيقطعون التلال حتى يصلوا إلى قرب الخندق في مواجهة الحصن .
--------------------------- 319 ---------------------------
وكان اليهود يتخذون مواقعهم في أبراج الحصن وعلى سطوحه ، ويرمون المسلمين بالسهام والأحجار ، فيحمى المسلمون أنفسهم منها ، أو يرمونهم بالسهام ، ويحاولون أن يتقدموا فلا يستطيعون ، فيرجعون بدون نتيجة !
ومع الأيام ضعفت معنويات المسلمين وقويت معنويات اليهود ، فصار بطلهم مرحب وفرسانه يخرجون من الحصن ، ويتحدون المسلمين أن يعبروا إليهم ! فينهزم المسلمون عنهم ، ويرجع اليهود منتصرين !
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبقى علياً ( عليه السلام ) في المنطقة التي فتحها « النطاة والشق » أو بعثه في مهمة ، وكان يعطى الراية لوجهاء أصحابه ، فيوماً لسعد بن عبادة ، ويوماً للزبير ، ويوماً لطلحة ، ويوماً لسعد بن أبي وقاص ، ويوماً لأبى بكر ، ويوماً لعمر بن الخطاب . . وقد جرب بعضهم قيادة المسلمين لأكثر من يوم كما روى في عمر ، وكان الجميع يرجعون منهزمين ! ولم يجرؤوا على العبور إلى مرحب لمبارزته ! ولذا قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) : « يا علي إكفنى مرحباً » . أمالي الطوسي / 4 والخرائج : 1 / 217 .
وقد ورد أن سعد بن عبادة رجع مجروحاً ، « الواقدي 2 / 653 » وفى رواية رجع محمولاً « الإحتجاج : 1 / 406 » . وروى أن عمر بن الخطاب رجع مجروحاً في رجله ، وهو يجبن المسلمين وهم يجبنونه ! رسائل المرتضي : 4 / 103 .
وفى رواية مجمع الزوائد : 6 / 151 ، أن هزيمة عمر كانت سريعة عندما أصابه حجر في رجله قال : « بعث عمر ومعه الناس ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه » !
ويرد هنا سؤالان مهمان :
الأول : لماذا لم يذهب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الحملات على القموص ؟ فقد شارك في القتال في حصن ناعم وحصن الصعب ورمى بسهام ، وترَّسه المسلمون من سهام اليهود ، لكنه لم يشارك في الحملات اليومية على حصن القموص !
والجواب : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما قال الله تعالى : وَمَا ينْطِقُ عَنِ الْهَوَي ، فهو لا يفعل عن الهوى بل بالوحي . والحكمة من فعله ( صلى الله عليه وآله ) أن يعرف الصحابة أنهم بدونه ( صلى الله عليه وآله ) وبدون على ( عليه السلام ) لا يستطيعون تحقيق النصر ، فعليهم أن يعرفوا حدودهم !
--------------------------- 320 ---------------------------
أما مرضه ( صلى الله عليه وآله ) فلم يكن مانعاً من مشاركته ، لأنه كان ليومين في أواخر حصاره للحصن ، فكان بإمكانه قيادة الحملة قبله أو بعده .
والسؤال الثاني : لماذا أبقى ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) في المنطقة المفتوحة ، أو بعثه بمهمة ؟
وجوابه : أن الحكمة من ذلك أن يثبت للمسلمين أن علياً ( عليه السلام ) صاحب الفتح ، وأنهم بدونه لا يستطيعون تحقيق النصر ولا مواجهة مرحب وفرسانه !
والحكمة لمستقبل الأمة : أن اليهود لا يكسر غطرستهم إلا علي ، وشيعة على ( عليه السلام ) .
9 - مَرِضَ علي « عليه السلام » بالرَّمَد والنبي « صلى الله عليه وآله » بالصداع !
يظهر أن علياً ( عليه السلام ) أصابه الرمد عندما ذهب النبي ( صلى الله عليه وآله ) من منطقة النطاة والشق إلى الكتيبة ، وأبقاه هناك ، لأن أحاديث خيبر نصت على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل في إحضاره فجاء راكباً على بعير له ، وكان معصوب العينين بشق برد قطري ، ولما سأله عن حاله قال له : « رمدت بعدك » أي بعد فراقي لك !
كما ذكرت الرواية أن سبب وجع عينيه دخان أصابه من الحصون التي فتحها ففي مجمع الزوائد : 9 / 123 : « عن جميع بن عمير قال : قلت لعبد الله بن عمر حدثني عن علي ؟ قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، فكأني أنظر إليها مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يحتضنها وكان علي بن أبي طالب أرمد من دخان الحصن فدفعها إليه ، فلا والله ما تتامت الخيل حتى فتحها الله عليه » !
وعن علي ( عليه السلام ) قال : « كنت أرمد من دخان الحصن » . كنز العمال : 10 / 92 .
وقد يكون اليهود استعملوا ذلك الدخان سلاحاً ليمنعوا تقدم على ( عليه السلام ) ، فاضطر إلى الدخول فيه لتعقب فرسانهم !
كما يظهر أن مرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالصداع كان في آخر محاصرة حصن القموص لأنهم رووا عن بريدة وغيره ، « الطبري : 2 / 300 » قال : « كان رسول الله ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج ، فلما نزل رسول الله خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى
--------------------------- 321 ---------------------------
الناس ، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً ثم رجع ، فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أما والله لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة . قال وليس ثَمَّ علي ، فتطاولت لها قريش ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك ، فأصبح فجاء على على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو أرمد ، وقد عصب عينيه بشقة برد قطري ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) « عليهم السلام » مالك ؟ قال : رمدت بعدك ! فقال رسول الله : أدن مني . . . » .
فيفهم منه أنهم دخلوا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مرضه وأخبروه بهزيمة عمر ، فوعد الناس بالفتح في اليوم التالي واستدعى علياً ( عليه السلام ) . ويدل ذلك على أن عمر قاد الحملة على الحصن يومين ، ومعنى قتاله في المرة الثانية بأشد من الأولى أنه لم ينهزم بسرعة من سهام اليهود ، بل تأخر قليلاً حتى انهزم !
10 - غَضِبَ النبي « صلى الله عليه وآله » من فرار الصحابة وبشرهم بالفتح غداً !
غضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما رأى هزيمة المسلمين شبه يومية ، ورأى أن غطرسة مرحب وفرسانه زادت ، ولم يجرؤ أحد من المسلمين على اقتحام الخندق فضلاً عن الحصن ، فطلب بعض المسلمين أن يرسل لإحضار على ( عليه السلام ) !
وفى رسائل المرتضي : 4 / 103 : « روى أبو سعيد الخدري « رحمه الله » أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أرسل عمر إلى خيبر فانهزم هو ومن معه ، حتى جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يجبن أصحابه ويجبنونه ، فبلغ ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كل مبلغ ، فبات ليلته مهموماً فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية فقال : لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار ! فتعرض لها المهاجرون والأنصار ، ثم قال : أين علي ؟ فقالوا : يا رسول الله هو أرمد ، فبعث إليه سلمان وأبا ذر ، فجاءا به وهو يقاد لا يقدر على فتح عينيه ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم أذهب عنه الرمد والحر والبرد وانصره على عدوه ، فإنه عبدك يحبك ويحب رسولك ، ثم دفع إليه الراية ، فقال
--------------------------- 322 ---------------------------
حسان بن ثابت : يا رسول الله أتأذن لي أن أقول فيه شعراً ؟ فأذن له فقال :
وكان على أرمد العين يبتغى * دواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة * فبورك مرقيا وبورك راقيا
وقال سأعطى الراية اليوم ماضيا * كميا محبا للرسول مواليا
يحب إلهي والرسول يحبه * به يفتح الله الحصون الأوابيا
فأصفى بها دون البرية كلها * علياً وسماه الوزير المؤاخيا
فقال : إن علياً لم يجد بعد ذلك أذى في عينيه ، ولا أذى حر ولا برد » .
وفى سيرة ابن هشام : 3 / 797 : « بعث أبا بكر الصديق برايته وكانت بيضاء فيما قال ابن هشام إلى بعض حصون خيبر ، فقاتل فرجع ولم يك فتح ، وقد جَهِد ! ثم بعث الغد عمر بن الخطاب ، فقاتل ثم رجع ولم يك فتح ، وقد جَهِد ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) « عليهم السلام » لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ليس بفرار ! قال : يقول سلمة : فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً رضوان الله عليه وهو أرمد فتفل في عينه ثم قال : خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك .
قال : يقول سلمة : فخرج والله بها يأنج ، يهرول هرولة ، وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال : يقول اليهودي : علوتم وما أنزل على موسي ! أو كما قال . قال : فما رجع حتى فتح الله على يديه » .
11 - قال النبي « صلى الله عليه وآله » لأصحابه الفارين : أميطوا عني !
في اليوم التالي لوعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالفتح ، تطاولت أعناق الصحابة لأخذ الراية ، لاعتقادهم بأن الذي يعطيه الراية سيفتح حصن القموص المستعصي ، حتى لو كان منهزماً ! فردهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فقد روى أحمد ، الزوائد : 6 / 151 و 9 / 124 ووثقه « عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله أخذ الراية فهزها ثم قال : من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان فقال : أمِطْ « إذهب عني ! » ثم جاء رجل آخر فقال : أمط ! ثم قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : والذي كرم وجه محمد
--------------------------- 323 ---------------------------
لأعطينها رجلاً لا يفر ، هاك يا علي ! فانطلق حتى فتح الله عليه » . وشرح الأخبار : 1 / 321 والعمدة / 139 ، وأبو يعلي : 2 / 499 ، أحمد : 3 / 16 ، تاريخ دمشق : 1 / 194 ونهاية ابن الأثير : 4 / 381 .
وفى تاريخ دمشق : 42 / 104 وغيره : « قال من يأخذها بحقها ؟ فجاء الزبير فقال : أنا . فقال : أمط ! ثم قام آخر . . . » . وهو يدل على فرار الزبير أيضاً .
وفى الروضة لشاذان بن جبرئيل / 139 : « انهزم جيش أبى بكر وعمر ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : ما بال أقوام يلقون المشركين ثم يفرون ؟ ! لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ويحب رسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، يفتح الله على يديه بالنصر ، فلما كان من الغد قال ( صلى الله عليه وآله ) : أين ابن عمى علي ؟ فجاءه وهو أرمد » .
12 - أعطى النبي « صلى الله عليه وآله » الراية لعلي « عليه السلام » ودعا له
في إعلام الوري : 1 / 207 : « حاصرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بضعاً وعشرين ليلة ، وبخيبر أربعة عشر ألف يهودي في حصونهم . . . فقال : لأعطين الراية غداً رجلاً كراراً غير فرار ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يده . فغدت قريش يقول بعضهم لبعض : أما على فقد كفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه . . . قال سعد : جلست نصب عينيه ، ثم جثوت على ركبتي ، ثم قمت على رجلي قائماً ، رجاء أن يدعوني ، فقال : أدعو لي علياً ، فصاح الناس من كل جانب : إنه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه ! فقال : أرسلوا إليه وادعوه . فأتى به يقاد فوضع رأسه على فخذه ثم تفل في عينيه فقام وكأن عينيه جزعتان « عقيقتان » ثم أعطاه الراية ودعا له ، فخرج يهرول هرولة ، فوالله ما بلغت أخراهم حتى دخل الحصن . قال جابر : فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا ، وصاح سعد : يا أبا الحسن إربع يلحق بك الناس ، فأقبل حتى ركزها قريباً من الحصن ، فخرج إليه مرحب في عادية اليهود . . » .
وفى الكافي : 5 / 47 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « شعارنا : يا محمد يا محمد وشعارنا يوم بدر : يانصر الله اقترب اقترب . . ويوم خيبر يوم القموص : يا علي آتهم من عل » .
--------------------------- 324 ---------------------------
وفى الخصال / 554 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) احتجَّ على أهل الشورى بوصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبجهاده بين يديه ، ومما قال لهم : « استخلف الناس أبا بكر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه ، واستخلف أبو بكر عمر وأنا والله أحق بالأمر وأولى به منه ، إلا أن عمر جعلني مع خمسة نفر أنا سادسهم ، لا يعرف لهم على فضل ! . . . نشدتكم بالله أيها النفر هل فيكم أحد وحَّدَ الله قبلي ؟ قالوا : اللهم لا . . . قال : نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين رجع عمر يجبن أصحابه ويجبنونه قد رد راية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منهزماً ، فقال له رسول الله : لأعطين الراية غداً رجلاً ليس بفرار ، يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله عليه ، فلما أصبح قال : ادعوا لي علياً فقالوا : يا رسول الله هو رمدٌ ما يطرف ! فقال : جيئونى به ، فلما قمت بين يديه تفل في عيني وقال : اللهم أذهب عنه الحر والبرد ، فأذهب الله عنى الحر والبرد إلى ساعتي هذه ، وأخذت الراية فهزم الله المشركين وأظفرنى بهم ، غيري ؟ قالوا : اللهم لا » .
وفى الصحيح من السيرة : 17 / 243 : « فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم . ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى وحق رسوله . فوالله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم . وقال أبو هريرة : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لعلي : إذهب فقاتلهم حتى يفتح الله عليك ولا تلتفت . . فخرج بها والله يأنج ، يهرول هرولة ، وإنَّا لخلفه نتبع أثره حتى ركزها تحت الحصن . فاطلع يهودي من رأس الحصن فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . فقال اليهودي : علوتم والذي أنزل التوراة على موسي . فما رجع حتى فتح الله تعالى على يديه ! وشرح الأخبار : 1 / 302 .
وعن حذيفة : لما تهيأ على ( عليه السلام ) للحملة قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ، والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك ، هذا جبريل ( عليه السلام ) عن يمينك ، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها ، فاستبشر بالرضوان والجنة . يا علي : إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم » ! وفى رواية : أنه ( صلى الله عليه وآله ) ألبسه درعه الحديد وشد ذا الفقار في وسطه وأعطاه الراية ووجّهه إلى الحصن ، فقال على ( عليه السلام ) : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ الخ . . فخرج على بها وهو يهرول .
--------------------------- 325 ---------------------------
وفى نص آخر : أركبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم خيبر وعممه بيده وألبسه ثيابه ، وأركبه بغلته ثم قال له : إمض يا علي وجبرئيل عن يمينك ، وميكائيل عن يسارك ، وعزرائيل أمامك ، وإسرافيل وراءك ، ونصر الله فوقك ، ودعائي خلفك » !
وفى صحيح مسلم : 7 / 121 : « قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ! قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها ! قال : فدعا رسول الله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها ، فقال : إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ! قال : فسار على شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ ، قال : يا رسول الله على ماذا أقاتل ؟ قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله » .
13 - وصل علي « عليه السلام » إلى الحصن قبل الجيش !
في مناقب آل أبي طالب : 2 / 320 : « الواقدي : فوالله ما بلغ عسكر النبي أُخَيرَاه حتى دخل على حصون اليهود كلها ، وهى قموص ، وناعم ، وسلالم ، ووطيح ، وحصن المصعب بن معاد ، وغنم . وكانت الغنيمة نصفها لعلى ونصفها
لسائر الصحابة .
شعبة وقتادة والحسن وابن عباس : أنه نزل جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : إن الله تبارك وتعالى يأمرك يا محمد ويقول لك : إني بعثت جبرئيل إلى علي لينصره ، وعزتي وجلالي ما رمى على حجراً إلى أهل خيبر إلا رمى جبرئيل حجراً ، فادفع يا محمد إلى علي سهمين من غنائم خيبر ، سهماً له وسهم جبرئيل معه » .
14 - اليهود يعرفون أن نهايتهم على يد حيدرة
روى في الإحتجاج : 1 / 307 ، أن راهباً جاء إلى المدينة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فجرى بينه وبين أبى بكر كلام فدخل على ( عليه السلام ) فقال له أبو بكر : « أيها الراهب سله فإنه صاحبك وبغيتك ، فأقبل الراهب بوجهه إلى علي ( عليه السلام ) ثم قال : يا فتى ما اسمك ؟ قال : إسمى عند اليهود إليا ، وعند النصارى إيليا ، وعند والدي علي ، وعند
--------------------------- 326 ---------------------------
أمي حيدرة ، قال : ما محلك من نبيكم ؟ قال : أخي وصهري وابن عمى لِحّاً . قال : الراهب : أنت صاحبي ورب عيسى » .
وفى مدينة المعاجز : 1 / 173 : « إن اليهود من خيبر يجدون في كتابهم أن الذي يدمرهم إليا » وروى في الإرشاد : 1 / 126 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعطى الراية لعلى ( عليه السلام ) وقال له : « خذ الراية وامض بها ، فجبرئيل معك ، والنصر أمامك ، والرعب مبثوث في صدور القوم ، واعلم يا علي أنهم يجدون في كتابهم أن الذي يدمر عليهم اسمه إيليا . فإذا لقيتهم فقل أنا علي ، فإنهم يخذلون إن شاء الله » .
15 - عَبَر الخندق وقصد مرحباً وفرسانه !
في الخرائج : 1 / 217 : « روى مكحول أن مرحباً اليهودي قدمته اليهود لشجاعته ويساره ، وكان طويل القامة عظيم الهامة ، وما وافقه قرن لعظم خلقه ! وكانت له ظئر « مرضعة » قرأت الكتب وكانت تقول له : قاتل كل من قاتلك إلا من يسمى بحيدرة ، فإنك إن وقفت له هلكت ! فلما كثرت مناوشته « غطرسته » وبَعُلَ الناس بمكانه « تحيرهم فيه » شكوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وسألوه أن يخرج إليه علياً ( عليه السلام ) وكان أرمد ، فتفل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عينه فصحت ، ثم قال له : يا علي إكفنى مرحباً ! فخرج إليه فلما بصر به مرحب أسرع إليه فلم يره يعبأ به فتحير ، ثم قال : أنا الذي سمتني أمي مرحبا . فقال علي : أنا الذي سمتني أمي حيدرة . فلما سمعها هرب ولم يقف مما حذرته ظئره ، فتمثل له إبليس وقال : إلى أين ؟ قال : حذرت ممن اسمه حيدرة . قال : أولم يكن حيدرة إلا هذا ؟ حيدرة في الدنيا كثير ، فارجع فلعلك تقتله ، فإن قتلته سدت قومك وأنا في ظهرك . فما كان إلا كفواق ناقة حتى قتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » !
وفى مسند أحمد : 4 / 52 : « فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال :
قد علمت خيبر أنى مرحبُ * شاكي السلاح بطلٌ مجربُ
إذا الحروب أقبلت تلهَّب
فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه :
--------------------------- 327 ---------------------------
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره
أوفيهمُ بالصاع كَيلَ السنَّدرة
ففلق رأس مرحب بالسيف وكان الفتح على يديه » .
« فضربه على على هامته حتى عض السيف منها بأضراسه ! وسمع أهل العسكر صوت ضربته ! فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله له ولهم » . الطبري : 2 / 300 .
وعن أم سلمة : « سمعت وقْع السيف في أسنان مرحب » ! مجمع الزوائد : 6 / 152 ووثقه .
وفى بعض المصادر : شق رأسه وجسده نصفين حتى بلغ السرج !
معارج النبوة / 323 .
16 - بعد قتله مرحباً هاجم الحصن وقلع بابه !
تدل أحاديث خيبر على أن حملات المسلمين على حصن القموص كانت تتوقف عند الخندق الذي قبل الحصن ، ولا تتجاوزه !
ولذلك كان مرحب يخرج من الحصن هو وعاديته أي نخبة فرسانه ، ويتبختر أمام المسلمين ويتحداهم أن يعبروا ، فلا يجرأ منهم أحد على العبور !
إلى أن كان يومٌ رأى مرحب وفرسانه شخصاً وصل بمفرده قبل جيش المسلمين وعبر الخندق ، ووقف في مواجهتهم ، فكان ذلك علياً ( عليه السلام ) !
وأجاب على ( عليه السلام ) على شعر مرحب ثم كلمه ودعاه إلى الإسلام ، فاستشاط غضباً وحمل عليه وضربه ، فتلقى على ( عليه السلام ) الضربة ووجه اليه ضربته التاريخية فقدَّت خوذته الصخرية ، ومغفره ، ورأسه ، وقد تكون وصلت إلى فرسه !
وقال في تاريخ الخميس : 2 / 51 : « وقتل على يومئذٍ ثمانية من رؤسائهم ، وفر الباقون إلى الحصن » . ومن المؤكد أنه ( عليه السلام ) قتل أخ مرحب ويدعى ياسر ، لكن ذلك كان في فتحه حصن ناعم ، ولم أستطع التحقق من أنه ( عليه السلام ) قتل أحداً غير مرحب قبل دخول حصن القموص ، فقد اندهشوا بمصرع مرحب ، ففروا
--------------------------- 328 ---------------------------
إلى داخل الحصن وأغلقوا بابه فلحقهم على ( عليه السلام ) ! وفى صعوده انهالت عليه سهام اليهود وأحجارهم من أبراج الحصن وسطوحه ، وكان يتجنبها أو يردها بترسه حتى تكسر ، فوجد باب حديد صغير ملقى فاتخذه ترساً ، حتى وصل إلى باب الحصن فأمسك بحلقته وهزه ثم دحاه بقدرة الله تعالى واقتلعه من أساسه فانذعر اليهود ! ودخل ( عليه السلام ) الحصن وحده ، فواجهه بعض فرسانهم فقتله ، ودوى صوته بالتكبير » !
في ذلك الوقت تمكن بعض المسلمين من عبور الخندق ، وقد يكون وصل بعضهم إلى علي ( عليه السلام ) لكن أكثرهم ما زالوا وراء الخندق يحاولون العبور ، فأخذ على ( عليه السلام ) باب الحصن وجعله لهم جسراً حتى عبروا !
ثم دخل أمامهم إلى الحصن ، وقد يكون وقع فيه قتال ، لكن خوف اليهود كان شديداً من مصرع مرحب ، فأعلنوا الاستسلام !
وقد عدَّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جهاده في خيبر أحد الإمتحانات السبع التي امتحنها الله بها في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال في جواب أحد أحبار اليهود ، كما في الخصال / 369 .
« وأما السادسة يا أخا اليهود ، فإنا وردنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادى ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى إذا احمرت الحدق ، ودعيت إلى النزال وأهمت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول : يا أبا الحسن إنهض ، فأنهضنى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى دارهم فلم يبرز إلى منهم أحد إلا قتلته ، ولا ثبت لي فارس إلا طحنته ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته ، حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبى من أجد من نسائها ، حتى افتتحتها وحدي ، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده ! ثم التفت ( عليه السلام ) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا :
بلى يا أمير المؤمنين » !
أقول : يدل على أن رجالاً من فرسان قريش كانوا في خيبر لنصرة اليهود ، فلا بد أن
--------------------------- 329 ---------------------------
تكون قريش بعثت بهم سراً ، أو يكونون أفراداً لهم علاقات مع اليهود .
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 127 : « ولما قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مرحباً رجع من كان معه وأغلقوا باب الحصن عليهم دونه ، فصار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إليه فعالجه حتى فتحه وأكثر الناس من جانب الخندق لم يعبروا معه ، فأخذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) باب الحصن فجعله على الخندق جسراً لهم حتى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم فلما انصرفوا من الحصن أخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيمناه ، فدحا به أذرعاً من الأرض ، وكان الباب يغلقه عشرون رجلاً منهم » !
وأضاف العلامة في كشف اليقين / 141 : « وقال ( عليه السلام ) : ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ولكن بقوة ربانية » .
وفى إعلام الوري : 1 / 207 : « قال أبان : حدثني زرارة قال : قال الباقر ( عليه السلام ) : انتهى إلى باب الحصن وقد أغلق في وجهه فاجتذبه اجتذاباً وتترس به ، ثم حمله على ظهره واقتحم الحصن اقتحاماً . واقتحم المسلمون والباب على ظهره ، قال : فوالله ما لقى على ( عليه السلام ) من الناس تحت الباب أشد مما لقى من الباب ثم رمى بالباب رمياً » .
وفى مناقب آل أبي طالب : 2 / 125 : « روى أحمد بن حنبل عن مشيخته عن جابر الأنصاري أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دفع الراية إلى علي ( عليه السلام ) في يوم خيبر بعد أن دعا له فجعل يسرع السير وأصحابه يقولون له إرفق ، حتى انتهى إلى الحصن فاجتذب بابه فألقاه على الأرض ، ثم اجتمع منا سبعون رجلاً وكان جهدهم أن أعادوا الباب » .
قال الحميري : وألقى باب حصنهم بعيداً ولم يك يستقل بأربعينا
وفى مجمع الزوائد : 6 / 151 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « فانطلقت حتى أتيتهم ، فإذا فيهم مرحب يرتجز ، حتى التقينا فهزمه الله وانهزم أصحابه وتحصنوا ، وأغلقوا الباب فأتيت الباب فلم أزل أعالجه حتى فتحه الله » .
وقد روت عامة المصادر حديث عبد الله بن عمر ، كما في أمالي الصدوق / 604 ، وروضة الواعظين / 126 ، قال : « إن رسول الله دفع الراية يوم خيبر إلى رجل من
--------------------------- 330 ---------------------------
أصحابه فرجع منهزماً ، فدفعها إلى آخر فرجع يجبن أصحابه ويجبنوه . . فلما أصبح قال : ادعوا لي علياً . . . قال : لما دنا من القموص ، أقبل أعداء الله من اليهود يرمونه بالنبل والحجارة ، فحمل عليهم على ( عليه السلام ) حتى دنا من الباب فثنى رجله ، ثم نزل مغضباً إلى أصل عتبة الباب فاقتلعه ثم رمى به خلف ظهره أربعين ذراعاً .
قال ابن عمر : وما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي علي ، ولكنا عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه أربعين ذراعاً ، ولقد تكلف حمله أربعون رجلاً فما أطاقوه ، فأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك فقال : والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكاً !
وروى أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال في رسالته إلى سهل بن حنيف : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية ، ولا بحركة غذائية ، لكني أيدت بقوة ملكوتية ، ونفس بنور ربها مضية ، وأنا من أحمد كالضوء من الضوء ! والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت ، ولو أمكنتنى الفرصة من رقابها لما بغيت » .
وقال ابن حجر المتعصب ، في الإصابة : 4 / 466 : « ومن خصائص على قوله ( صلى الله عليه وآله ) يوم خيبر : لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ، فلما أصبح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غدوا كلهم يرجو أن يعطاها . .
وروى في آخره قصة مرحب قال : « فضربه على هامته ضربة حتى عض السيف منه بيضة رأسه وسمع أهل العسكر صوت ضربته ، فما قام آخر الناس حتى فتح الله
لهم . وفى المسند لعبد الله بن أحمد بن حنبل من حديث جابر : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما دفع الراية لعلى يوم خيبر أسرع ، فجعلوا يقولون له : إرفق ! حتى انتهى إلى الحصن ، فاجتذب بابه فألقاه على الأرض ، ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً حتى أعادوه . . » .
17 - الباب الذي تترس به « عليه السلام » غير الباب الذي قلعه
قال المقريزي في الإمتاع : 1 / 310 : « وزعم بعضهم أن حمل على باب خيبر لا أصل له وإنما يروى عن رعاع الناس ، وليس كذلك فقد أخرجه ابن إسحاق في سيرته عن أبي رافع ، وأن سبعة لم يقلبوه ، وأخرجه الحاكم من طرق منها عن أبي على الحافظ ، حدثنا
--------------------------- 331 ---------------------------
الهيثم بن خلف الدوري . . . عن جابر : أن علياً حمل الباب يوم خيبر وأنه جُرِّب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً »
وفى سيرة ابن هشام : 3 / 798 : « عن أبي رافع ، مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله برايته ، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطاح ترسه من يده ، فتناول على باباً كان عند الحصن فترَّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه » ! وتاريخ الطبري : 2 / 301 .
وفى أعيان الشيعة : 1 / 405 : « وهذا الباب غير باب الحصن ، بل هو باب أصغر منه كان ملقى عند الحصن ، أخذه على فتترس به » .
وقال اليعقوبي : 2 / 56 : « فقتل مرحباً اليهودي واقتلع باب الحصن ، وكان حجارة طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع ، فرمى به علي بن أبي طالب خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون » .
وقد تفرد اليعقوبي في أن باب خيبر كان من حجر ، والمعروف أنه من حديد ، ولعل باب حصن ناعم من حجر ، فقد قلعه على ( عليه السلام ) أيضاً !
18 - وكان أمير المؤمنين « عليه السلام » قلع باب حصن ناعم أيضاً !
روت بعض مصادر السنة كالسيرة الحلبية والعيني في عون المعبود : 8 / 172 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قلع أيضاً باب حصن ناعم ، وهو أول حصن فتحه ( عليه السلام ) ، ولم تذكر الرواية حجم الباب ، ولا بد أنه كان أصغر من باب حصن القموص ، وتقدم أنه ( عليه السلام ) قتل هناك ياسر أخ مرحب ، ويفهم منها أن فتح الحصون كلها كان على يده ( عليه السلام ) ، ولكن رواة السلطة تفننوا في إخفاء مناقبه ونسبتها إلى آخرين !
--------------------------- 332 ---------------------------
19 - وتلقاه النبي « صلى الله عليه وآله » وبشره بنزول الوحي فيه !
في إعلام الوري : 1 / 207 : « وخرج البشير إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن علياً دخل الحصن ، فأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخرج على ( عليه السلام ) يتلقاه ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قد بلغني نبؤك المشكور وصنيعك المذكور ، قد رضى الله عنك ورضيت أنا عنك . فبكى على ( عليه السلام ) فقال له : ما يبكيك يا علي ؟ فقال : فرحاً بأن الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله )
عنى راضيان » .
أقول : معناه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) جاء إلى حصن خيبر لأول مرة فخرج على ( عليه السلام ) يتلقاه ! وما إن أخبره برضا الله ورضاه عليه حتى بكي !
فاعجب لهذه الرقة الإنسانية والعبودية المرهفة لله تعالي ، من شخص دوَّى صوت ضربته قبل ساعتين ، وقدَّ خوذة بطل اليهود وهامته نصفين ، ثم انقضَّ على الحصن كأنه كاسحة ألغام ، فقلع بابه ورفعه وأردى أبطال اليهود وأخضع اليهود ! وإذا به أمام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يبكى بكاء الطفل ، فرحاً برضا الله ورسوله عليه ! هذا ، ويبدو أن هذا المشهد تكرر من على ( عليه السلام ) عندما نزل جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مرات عديدة برضا الله تبارك وتعالى عليه ومديحه .
ففي أحُد قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) « المناقب : 1 / 385 » : « أصابني ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمة طيب الريح فأخذ بضبعى فأقامني ، ثم قال : أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله وهما عنك راضيان ، فقال : يا علي أقر الله عينك ، ذاك جبرئيل » .
وعندما أرسله النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مهمة إلى وادى الرمل « الإرشاد : 1 / 116 » وكانت مجموعة من فاتكى العرب جاؤوا ليقتلوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأجاد وأحسن ، فنزلت سورة العاديات ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه : « هذا جبرئيل يخبرني أن علياً قادم ، ثم خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا علياً ( عليه السلام ) ، وقام المسلمون له صفين مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما بصر بالنبي ترجل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبلهما ، فقال له : إركب فإن الله تعالى ورسوله عنك راضيان . فبكى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فرحاً » .
--------------------------- 333 ---------------------------
20 - ثم فتح النبي « صلى الله عليه وآله » حصني السلالم والوطيح
في معجم البلدان : 5 / 379 : « سمى بالوطيح بن مازن رجل من ثمود ، وكان الوطيح أعظمها ، وآخر حصون خيبر فتحاً هو والسلالم ، وفى كتاب الأموال لأبى عبيد الوطيحة بالهاء » .
وفى الصحيح من السيرة : 18 / 170 : « قال ابن إسحاق : وتدنَّى رسول الله الأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتحها حصناً حصناً ، حتى انتهوا إلى ذينك الحصنين ، أعنى الوطيح وسلالم الذي هو حصن بنى الحقيق وهو آخر حصون خيبر ، وجعلوا لا يطلعون من حصنهم حتى همَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن ينصب عليهم المنجنيق لما رأى من تغليقهم وأنه لا يبرز منهم أحد . فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أربعة عشر يوماً سألوا رسول الله الصلح ، فأرسل كنانة بن أبي الحقيق إلى رسول الله رجلاً من اليهود يقال له شماخ ، يقول : إِنزل فأكلمك ؟ فقال رسول الله : نعم ، فنزل كنانة بن أبي الحقيق ، فصالح رسول الله على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله وبين ما كان لهم من مال وأرض ، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة ، وعلى البز إلا ثوباً على ظهر إنسان . . ووجد في ذينك الحصنين مائة درع وأربع مائة سيف وألف رمح ، وخمس مائة قوس عربية بجعابها . ووجدوا صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر ( صلى الله عليه وآله ) بدفعها إليهم . وبذلك يكون الوطيح وسلالم فيئاً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذ لم يحصل قتال في هذين الحصنين » . ونحوه تاريخ الطبري : 2 / 302 وتاريخ خليفة / 49 .
21 - أوسمة النبي « صلى الله عليه وآله » لعلي « عليه السلام » في خيبر
أ . روى الجميع قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه . وهو حديث متواتر ، وفى رواية : « ليس بفرار » . وفى رواية الحاكم : « لأبعثن رجلاً
--------------------------- 334 ---------------------------
لا يخزيه الله أبداً » . وفى رواية الخصال : « ويحبه الله ورسوله ، في ثناء كثير » . وفى رواية سُليم : « ليس بجبان ولا فرار » . وفى رواية شرح الأخبار : « يفتح خيبر عنوة » . وفى رواية الإرشاد : « أرونيه تروني رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها بحقها ليس بفرار » . وفى رواية مجمع الزوائد : « يقاتلهم حتى يفتح الله له » . وفى سنن النسائي : 5 / 112 : « يقاتل جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله » . وكررها النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الغد وقال اليوم .
ب . تقدم عن حذيفة « رحمه الله » قال : « لما تهيأ على ( عليه السلام ) للحملة قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي والذي نفسي بيده إن معك من لايخذلك ، هذا جبريل عن يمينك ، بيده سيف لو ضرب الجبال لقطعها ، فاستبشر بالرضوان والجنة . يا علي ، إنك سيد العرب ، وأنا سيد ولد آدم » ! السيرة الحلبية : 2 / 736 .
وقال في الصحيح من السيرة : 18 / 36 ، ملخصاً : « ثم إنه ( صلى الله عليه وآله ) شرَّف علياً ( عليه السلام ) بوسام كان هو الأصعب على حاسديه ومناوئيه ، الذين لم يكن يهمهم أن يقول فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ما شاء مما يرتبط بالآخرة أو في عالم السماء والملائكة ، بشرط أن لا يؤثر على مشاريعهم الدنيوية التي يرون علياً ( عليه السلام ) هو المانع الأكبر من وصولهم إليها كهذا التصريح النبوي الذي يوجه المؤمنين أن لا يرضوا بغيره قائداً وسيداً » .
أقول : تعمد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يعلن هذا الوسام لعلى ( عليه السلام ) في خيبر ، وقد أعلنه قبلها وبعدها ، كما روته مصادر الطرفين ، ففي أمالي الطوسي / 608 ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لفاطمة « عليها السلام » : « ثم إن الله تعالى اختارني من أهل بيتي ، واختار علياً والحسن والحسين ، واختارك . فأنا سيد ولد آدم ، وعلى سيد العرب ، وأنت سيدة النساء ، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، ومن ذريتكما المهدى يملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت من قبله جوراً » .
ورواه الحاكم : 3 / 124 ، عن عائشة قالت : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أُدعوا لي سيد العرب ، فقلت : يا رسول الله ألست سيد العرب ؟ فقال : أنا سيد ولد آدم وعلى سيد العرب » . « وابن أبي شيبة : 7 / 474 ، بغية الباحث / 283 ، أوسط الطبراني : 2 / 127 ، الرازي في تفسيره : 6 / 212 ، تاريخ بغداد : 11 / 90 » وفيه : إذا سرك أن تنظري إلى سيد العرب فانظري إلى علي .
--------------------------- 335 ---------------------------
ج . في المناقب للخوارزمي / 129 ، بسنده عن علي ( عليه السلام ) قال : « قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم فتحت خيبر : لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالاً ، لا تمرُّ على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك يستشفون به ! ولكن حسبك أن تكون منى وأنا منك ترثني وأرثك ، وأنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، أنت تؤدى ديني وتقاتل على سنتي ، وأنت في الآخرة أقرب الناس مني ، وأنت غداً على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين ، وأنت أول من يرد على الحوض ، وأنت أول داخل الجنة من أمتي ، وإن شيعتك على منابر من نور رواء مرويين ، مبيضة وجوههم حولي ، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنة جيراني . وإن عدوك غداً ظماء مظمئين ، مسودة وجوههم مقمحين . حربك حربي وسلمك سلمي ، وسرك سرى وعلانيتك علانيتي ، وسريرة صدرك كسريرة صدري ، وأنت باب علمي ، وإن ولدك ولدي ، ولحمك لحمي ودمك دمي ، وإن الحق معك والحق على لسانك وفى قلبك وبين عينيك ، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي ، وأن الله عز وجل أمرني أن أبشرك أنك وعترتك في الجنة ، وأن عدوك في النار . يا علي ، لا يرد على الحوض مبغض لك ، ولا يغيب عنه محب لك ، قال قال علي : فخررت له سبحانه وتعالى ساجداً وحمدته على ما أنعم به على من الإسلام والقرآن ، وحببني إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله ) » . ومناقب محمد بن سليمان : 1 / 249 ، شرح الأخبار : 2 / 381 ، كنز الفوائد / 281 وفى آخره في ثلاثتها : « فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي لولا أنت لم يعرف المؤمنون بعدي » . والصحيح من السيرة : 18 / 38 . وروته مصادر السنة ولعله صحيح على مبانيهم ، كالطبرانى في الكبير : 1 / 320 والزوائد : 9 / 131 .
22 - أفٍّ وتُفّ لمن ينكر فضائل علي « عليه السلام » !
روينا وروى السنة هذا الموقف لابن عباس ، كالنسائى في خصائص على ( عليه السلام ) / 62 ، عن عمرو بن ميمونة قال : « إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا : يا
--------------------------- 336 ---------------------------
ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو بنا بين هؤلاء . فقال ابن عباس : بل أنا أقوم معكم . قال : وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمي ، قال : فابتدؤوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا ، قال : فجاء وهو ينفض ثوبه وهو يقول : أفٍّ وتُفّ ، وقعوا في رجل له بضع عشر ! وقعوا في رجل قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) « عليهم السلام » لأبعثن رجلاً يحب الله ورسوله لا يخزيه الله أبداً ، قال : فاستشرف لها من استشرف فقال : أين ابن أبي طالب ؟ قيل : هو في الرحى يطحن ، قال : وما كان أحدكم ليطحن ، قال : فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر فتفل في عينيه ثم هز الراية ثلاثاً فدفعها إليه . . الخ . ثم ذكر ابن عباس عدة مناقب لعلى ( عليه السلام ) منها أن الله أمر نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يأخذ سورة براءة من أبى بكر ويدفعها اليه ، لأنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه ، وأن علياً أول من أسلم ، ونزول آية التطهير فيه وفى زوجته وولديه « عليهم السلام » ، ومبيته على فراش النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلة الهجرة ، وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبى بعدي . . الخ » . ورواه النسائي في سننه : 5 / 113 ، أحمد : 1 / 330 ، الحاكم : 3 / 132 ، السنة لابن أبي عاصم / 588 ، تاريخ دمشق : 42 / 101 ، نهاية ابن كثير : 7 / 374 ، الخوارزمي / 125 ، فرات / 341 ، كشف اليقين / 27 ، ينابيع المودة : 1 / 110 ، شرح الأخبار : 2 / 299 ، المراجعات / 195
وقال صححه الذهبي .
23 - قريش تفرح لساعات بخبر انتصار اليهود على النبي « صلى الله عليه وآله »
روى ذلك ابن إسحاق وتلقاه الحميع بالقبول ، قال كما في سيرة ابن هشام : 3 / 806 ، عن الحجاج السلمي ، وكان تاجراً ثرياً وهو والد نصر بن الحجاج المعروف بجماله ، قال : « ولما فتحت خيبر كلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الحجاج بن علاط السلمى ثم البهزي فقال : يا رسول الله إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة وكانت عنده ، له منها معرض بن الحجاج ومال متفرق في تجار أهل مكة فأذنْ لي يا رسول الله فأذن له ، قال : إنه لابد لي يا رسول الله من أن أقول ! قال : قل . قال الحجاج : فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار ، ويسألون عن أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر ، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفاً ومنعةً
--------------------------- 337 ---------------------------
ورجالاً ، فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان فلما رأوني قالوا : الحجاج بن علاط - قال : ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله الخبر ، أخبرنا فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر وهى بلد يهود وريف الحجاز ، قال : قلت : قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم ، قال : فالتبطوا بجنبى ناقتي يقولون : إيه يا حجاج ! قال : قلت : هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط ، وأسر محمد أسراً ، وقالوا : لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم ! قال : فقاموا وصاحوا بمكة ، وقالوا : قد جاءكم الخبر ، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم ،
فيقتل بين أظهركم !
قال قلت : أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي ، فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك . . . ثم ذكر أنه جمع ديونه ، وهرب من مكة » .
24 - كنوز آل أبي الحقيق
قال في الصحيح من السيرة : 18 / 46 ، ملخصاً : « أخذ المسلمون في جملة غنائم خيبر حلى آل أبي الحقيق ، وكانت أول الأمر في مسك حمل ، فلما كثرت جعلوها في مسك ثور ، ثم في مسك جمل عند الأكابر من آل أبي الحقيق ، وكانوا يعيرونها العرب . السيرة الحلبية : 3 / 42 . والمسك الجلد .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صالحهم على أن يخرجوا بأنفسهم وأهليهم وللنبي ( صلى الله عليه وآله ) الصفراء والبيضاء والحلقة والسلاح ، وشرطوا للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أن لا يكتموه شيئاً فإن فعلوا فلا ذمة لهم . سنن البيهقي : 4 / 229 .
وفى السيرة الحلبية : 3 / 42 : أن جبرئيل ( عليه السلام ) أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمكانه فأخذه . ووجدوا فيه أساور ودمالج وخلاخل وأقرطة وخواتيم الذهب وعقود الجواهر والزّمرّد ، وعقود أظفار مجزع بالذهب .
--------------------------- 338 ---------------------------
25 - زواج النبي « صلى الله عليه وآله » بصفية بنت حُيى بن أخطب
في إعلام الوري : 1 / 208 : « وأخذ على فيمن أخذ صفية بنت حيي ، فدعا بلالاً فدفعها إليه وقال له : لاتضعها إلا في يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى يرى فيها رأيه ، فأخرجها بلال ومر بها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على القتلى وقد كادت تذهب روحها ! فقال لبلال : أنزعت منك الرحمة يا بلال ! ثم اصطفاها ثم أعتقها وتزوجها » .
وفى كتاب سُليم / 409 : « فأعتقها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها » .
وفى سيرة ابن إسحاق : 5 / 246 : « كانت صفية رأت قبل ذلك أن قمراً وقع في حجرها فذكرت ذلك لأبيها فضرب وجهها ضربة أثرت فيه ، وقال : إنك لتمدين عنقك أن تكوني عند ملك العرب ! فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتى بها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسألها عنه فأخبرته خبره . . لما تزوج رسول الله صفية ابنة حيي ، دعا الناس على مأدبتة وهى يومئذ بالحيس والتمر » .
« قالوا : إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين ، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه . فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب » . صحيح بخاري : 5 / 77 .
26 - ما أدرى بأيها أنا أسَرّ : بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟
أبقى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جعفر بن أبي طالب رضى الله في الحبشة خمس عشرة سنة ، من الخامسة للبعثة إلى السابعة للهجرة ، حتى أمره بالعودة بمن بقي من المهاجرين وكان عددهم ستة عشر ، « ابن هشام : 3 / 818 » فوصلوا والنبي ( صلى الله عليه وآله ) في خيبرفقام النبي لجعفر ومشى اليه والتزمه وقبله بين عينيه ، وقال كلمته المشهورة : « ما أدرى بأيهما أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر » ! الطبقات : 2 / 108 ، ابن هشام : 3 / 818 ، الخصال / 77 ، مقاتل الطالبيين / 6 والحدائق : 10 / 498 .
وهى كلمة بليغة تعنى أن ما أنجزه جعفر رضي الله عنه من إزالة عقبة المسيحية الرومية من طريق الإسلام نعمة عظيمة ، يوازى إزالة عقبة اليهود من طريق الإسلام بفتح خيبر على يد أخيه على ( عليه السلام ) !
--------------------------- 339 ---------------------------
ففي الخصال / 484 : « قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة وعانقه وقبَّل ما بين عينيه وبكي ، وقال : لا أدرى بأيهما أنا أشد سروراً : بقدومك يا جعفر ، أم بفتح الله على أخيك خيبر ؟ ! وبكى فرحاً برؤيته » .
وفى تهذيب الأحكام : 3 / 186 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال له : يا جعفر ألا أعطيك ؟ ألا أمنحك ؟ ألا أحبوك ؟ قال فتشوف الناس ورأوا أنه يعطيه ذهباً أو فضة ! قال : بلى يا رسول الله . قال : صل أربع ركعات متى ما صليتهن غفر لك ما بينهن ، إن استطعت كل يوم وإلا فكل يومين أو كل جمعة أو كل شهر أو كل سنة ، فإنه يغفر لك ما بينهما ! قال : كيف أصليها ؟ قال : تفتتح الصلاة ، ثم تقرأ ثم تقول خمس عشرة مرة وأنت قائم : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله
والله أكبر . فإذا ركعت قلت ذلك عشراً ، وإذا رفعت رأسك فعشراً ، وإذا سجدت فعشراً ، فإذا رفعت رأسك فعشراً ، وإذا سجدت الثانية عشراً ، وإذا رفعت رأسك عشراً . فذلك خمس وسبعون ، تكون ثلاثمائة في أربع ركعات فهن ألف ومئتان . وتقرأ في كل ركعة بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون » .
27 - أسلم أبو موسى الأشعري أيام فتح خيبر
صادف وصول سفينة فيها أبو موسى الأشعري من اليمن ، مع وصول سفينة جعفر والمهاجرين ، فحشر نفسه معهم وجعل نفسه من المهاجرين ! قال إنه كان : « في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً فوافقنا النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين افتتح خيبر » . صحيح بخاري : 5 / 79 .
وأبو موسى الأشعري غير مرضى عند أهل البيت « عليهم السلام » فقد وصفوه بأنه : « سامرى هذه الأمة » ! « الخصال / 457 » . وشهد عمار بن ياسر بأنه كان من الملثمين الذين أرادوا اغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلة العقبة !
« عن أبي نجاء حكيم قال : كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال : ما لي ولك ألست أخاك ؟ قال : ما أدرى إلا أنى سمعت رسول الله يلعنك ليلة
--------------------------- 340 ---------------------------
الجبل ! قال : إنه قد استغفر لي ! قال عمار : قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار » !
تاريخ دمشق : 32 / 93 .
28 - أسلم أبو هريرة أيام فتح خيبر
جاء أبو هريرة مع وفد من قبيلته دوس إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان في خيبر فقصدوه إليها وأسلموا ، ويقال جعل لهم سهماً من الغنيمة . وكان أبو هريرة في الثلاثينات من عمره ، وكان فقيراً معدماً ، فسكن في الصفة وهى ملحق بمسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) يسكن فيه المساكين ، ويتصدق عليهم المسلمون .
وهذه صورة لشخصية أبي هريرة من كتاب « شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي » للعالم الأزهري : محمود أبو رية « رحمه الله » :
أ . قال ابن سعد في طبقاته وهو يتكلم عن غزوة خيبر : وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة وقدم الطفيل بن عمرو ، وقدم الأشعريون ورسول الله بخيبر ، فلحقوه بها فكلم رسول الله أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة من غير سهم المقاتلين ففعلوا . وكان عددهم أكثر من خمسين شخصاً .
ب . وبعد رجوعه من خيبر تنكب أبو هريرة طريق العمل للعيش الكريم ، وسكن في صفة المسجد يتلقى ما تجود به نفوس المحسنين من صدقاتهم ، شأن سكنة التكايا والخوانق ، قال أبو هريرة كما رواه أحمد والشيخان : إني كنت امرأ مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني !
لكنه زعم من ناحية أخرى أنه كان له مزود فيه بقية من تمر فمسها النبي ( صلى الله عليه وآله ) بيده الكريمة وقال له : كل من هذا المزود ما شئت في أي وقت ، وكان المزود معلقاً في حقوه فظل يأكل منه حياة النبي وحياة أبى بكر وحياة عمر وحياة عثمان إلى أن أغارت جيوش الشام على المدينة بعد قتل عثمان فانتهبته . وقد حسب أبو هريرة ما أكله من مزوده في هذه الفترة فوجده مئتى وسق !
وقال أبو هريرة مرة لعائشة كما روى البخاري وابن سعد وابن كثير وغيرهم : شغلك
--------------------------- 341 ---------------------------
عن رسول الله المرآة والمكحلة ! فقالت له : إنما أنت الذي شغلك بطنك ، وألهاك نهمك عن رسول الله ، حتى كنت تعدو وراء الناس في الطرقات تلتمس منهم أن يطعموك من جوعك ، فينفرون منك ويهربون ، ثم ينتهى بك الأمر إلى أن تصرع مغشياً عليك من الجوع أمام حجرتي ، فيحسب الناس أنك مجنون فيطأون عنقك بأرجلهم .
ج . وكان أبو هريرة نهماً للطعام وجباناً ، وقد جاءت الرواية الصحيحة أنه لما نشب القتال في صفين بين على وبين معاوية ، كان يأكل على مائدة معاوية الفاخرة ، ويصلى وراء علي ، وإذا احتدم القتال لزم الجبل ! وكان يلقب « بشيخ المضيرة » وهو صنف من الطعام كان مشهوراً بين أطعمة معاوية الفاخرة . قال الزمخشري في ربيع الأبرار : وكان أبو هريرة يعجبه المضيرة فيأكلها مع معاوية ، وإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي ، فإذا قيل له في ذلك قال : مضيرة معاوية أدسم ، والصلاة خلف على أفضل ، وكان يقال له : شيخ المضيرة .
وعقد بديع الزمان الهمذاني مقامة خاصة بين مقاماته سماها « المقامة المضيرية » غمز فيها أبا هريرة غمزة أليمة فقال : « وحضرنا معه دعوة بعض التجار ، فقدمت إلينا مضيرة ، تثنى على الحضارة ، وتترجرج في الغضارة ، وتؤذن بالسلامة ، وتشهد لمعاوية بالإمامة » ! والمضيرة تعرف في بلاد الشام باللبنية .
د . وقد عاش أبو هريرة في صُفَّة مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) سنة وتسعة أشهر ، ثم بعث النبي العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وبعث معه نفراً منهم أبو هريرة ، فبقى في البحرين ، ثم ولى عمر على البحرين قدامة بن مظعون ثم عزله في سنة 20 ، وولى أبا هريرة مكانه ، ثم بلغه عنه خيانة لأمانته فعزله وولى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي وحاسبه فقال له : أسرقت مال الله ؟ فقال لا . قال : فما جئت لنفسك ؟ قال : عشرين ألفاً . قال : من أين أصبتها ؟ قال كنت أتجر . قال : انظر رأس مالك ورزقك فخذه ، ثم أمر عمر بأن يقبض منه عشرة آلاف ، ثم قام اليه بالدرة فضربه حتى أدماه ، وقال له : يا عدو الله وعدو المسلمين !
--------------------------- 342 ---------------------------
ه - . وما كاد أبو هريرة يرجع إلى المدينة معزولاً عن ولايته بالبحرين حتى تلقفه الحبر الأكبر كعب الأحبار اليهودي ، وأخذ يلقنه من إسرائيلياته ، ويدس له من خرافاته ، وكان المسلمون يرجعون إليه ، فسال سيل روايتهما !
وقد أثبت علماء الحديث أمر أخذ أبي هريرة وغيره عن كعب الأحبار وذلك في باب « رواية الأكابر عن الأصاغر أو الصحابة عن التابعين » .
ومما يدلك على أن هذا الكاهن الداهية ، قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردد كلامه بالنص ويجعله حديثاً مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
و . أبو هريرة يدلس : كانت طريقة أبي هريرة في روايته للحديث أن يرفع كل ما يرويه إلى النبي ، سواء أكان قد سمعه منه مشافهة ، أم أخذه من غيره من الصحابة ، أو من التابعين عنعنة ، وكان لا يميز بين هذا وذاك عند الرواية ، ولا يذكر اسم من أخذ عنه من غير النبي ، وهذا يعد عند المحدثين تدليساً ، ويكون ما يرويه من هذا الباب في حكم « المرسل » وقد أثبت العلماء أن أبا هريرة كان مدلساً لأن أكثر ما رواه بل غالبه لم يأخذه « سماعاً » من النبي ، بسبب تأخر إسلامه وإنما رواه عنعنة عن غيره من الصحابة أو التابعين .
قال يزيد بن إبراهيم : سمعت شعبة يقول : كان أبو هريرة يدلس . وعلق الذهبي على هذا الخبر بقوله : تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه ! وقال الحاكم : قوم يدلسون الحديث . . وأبو هريرة ولا ريب من هذا الجنس ، لأنه كان يروى عن غيره من الصحابة ، دون أن يذكر اسم من روى عنه ، ثم يرفعه إلى النبي !
ز . وقد ثبت أن عمر وعلياً وعثمان وعائشة وغيرهم من كبار الصحابة ، قد كذبوه في وجهه ، وبلغ من أمر عمر معه أن نهاه عن الرواية ثم ضربه عليها ، وبعد ذلك أنذره إذا هو روى أن ينفيه إلى بلاده ! وكان على رضي الله عنه سئ الرأي فيه ، فقد قال : ألا إن أكذب الناس أو قال : أكذب الأحياء على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأبو هريرة الدوسي ! وقال مرة : لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) !
ح . ويضرب المثل للكذب بكيس أبي هريرة أو جرابه ! وقد جعل معاوية أبا هريرة والياً
--------------------------- 343 ---------------------------
على المدينة ، وأمره أن يضع أحاديث على علي !
قال أبو جعفر الإسكافي : إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي تقتضى الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ! منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير . . إلخ .
ط . توفى أبو هريرة سنة 59 ، عن ثمانين سنة بقصره بالعقيق ، وحمل إلى المدينة وصلى عليه أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان .
وقال الشيخ محمود أبو رية « رحمه الله » : « قد سقنا تاريخ أبي هريرة مكشوفاً بعد أن نزعنا عنه ثوب « الراوية » الملفق الذي يظهره في غير صورته وأظهرنا شخصيته على حقيقتها ، من يوم أن كان يرعى الغنم في بلاده ، ثم يخدم ابن عفان وابنة غزوان بطعامه ، وكان يومئذ حافى القدمين لا يستر جسمه إلا إزار بال لا يبلغ نصف الساقين ، كان يجمعه كراهية أن ترى عورته ، إلى أن أصبح من ذوى الثراء العريض ، يتأثل الأراضي الواسعة بالعقيق وبذى الحليفة ، ويبتنى قصراً منيفا بالعقيق ، ويلبس الخز والكتان الممشق ، والساج المزرور بالديباج ، وغير ذلك مما لم يكن يحلم به أو يخطر بباله . ففي مرآته الصافية حقيقة مروياته الكثيرة المنبثة في كتب السنة كلها ، والتي تحمل غرائب وأساطير وخرافات وأوهاما ، وتعزى كلها وا أسفاً إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتنشر بين المسلمين على أنها من حقائق الدين الإسلامي ! تفتح أبواب الطعن على ديننا من أعدائه بأنه دين خرافات وأوهام يعادى العقل ، ويصادم المنطق !
فالأحرى بنا أن ندرأ عن أنفسنا وديننا هذه التهم ولا يأخذنا في ذلك أي اعتبار !
على أن أبا هريرة قد دفن بالعقيق بالمدينة فإنك تجد له ضريحاً عالياً فيه قبة مكسوة بالجوخ ، تعلوها عمامة كبيرة خضراء وهذه القبة داخل مسجد يسمى باسمه ، ويقع هذا المسجد في شارع يشق مدينة الجيزة « بالديار المصرية » من شرقها إلى غربها يسمى « شارع سيدي أبي هريرة » !
وقد رأينا هذا الضريح في يوم السبت الموافق 23 يونيه سنة 1962 وليس بعجيب
--------------------------- 344 ---------------------------
أن يكون لأبى هريرة قبر في الجيزة غير قبره الذي بالمدينة ، فإن له من شيخه الكبير كعب الأحبار أسوة ! فهذا اليهودي كما هو معلوم مدفون بمدينة حمص بالشام ، ولكن له قبرا آخر فوقه قبة كبيرة تقع بأحد المساجد الكبيرة بحي الناصرية المشهور بالقاهرة . ويعمل لأبى هريرة مولد كل عام !
ومن العجيب أن وزارة الأوقاف بالجمهورية العربية المتحدة تنفق على قبرى أبي هريرة وشيخه من مال المسلمين ، على عين جميع رجال الدين » !
- *
--------------------------- 345 ---------------------------
الفصل التاسع والخمسون
من غزوة خيبر إلى غزوة مؤتة
1 - فدك خالصةً للنبي « صلى الله عليه وآله »
في إعلام الوري : 1 / 208 : « فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من خيبر ، عقد لواءً ثم قال : من يقوم إليه فيأخذه بحقه ؟ وهو يريد أن يبعث به إلى حوائط فدك ، فقام الزبير إليه فقال : أنا ، فقال له : أمِطْ عنه « إبعد » ! ثم قام إليه سعد فقال : أمِطْ عنه !
ثم قال : يا علي قم إليه فخذه ، فأخذه فبعث به إلى فدك فصالحهم على أن تحقن دماءهم ، فكانت حوائط فدك لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاصاً خالصاً ، فنزل جبرئيل فقال : إن الله عز وجل يأمرك تؤتى ذا القربى حقه . فقال : يا جبرئيل ومن قرباى وما حقها ؟ قال : فاطمة ، فأعطها حوائط فدك ، وما لله ولرسوله فيها . فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاطمة « عليها السلام » وكتب لها كتاباً جاءت به بعد موت أبيها إلى أبى بكر وقالت : هذا كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولابني » .
2 - فدك رمزٌ لظلامة الإمامة
في الكافي : 1 / 543 : « عن علي بن أسباط قال : لما ورد أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) على المهدى رآه يرد المظالم فقال : يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا ترد ؟ فقال له : وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال : إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، فلم يدر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من هم ، فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل ربه فأوحى الله إليه : أن ادفع فدك إلى فاطمة ، فدعاها
--------------------------- 346 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لها : يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك ، فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك . فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما ولى أبو بكر أخرج عنها وكلاءها فأتته فسألته أن يردها عليها فقال لها : إئتينى بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك ، فجاءت بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأم أيمن فشهدا لها فكتب لها بترك التعرض ، فخرجت والكتاب معها ، فلقيها عمر فقال : ما هذا معك يا بنت محمد ؟ قالت كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة ، قال : أرينيه فأبت فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه ، فقال لها : هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب ؟ فضعي الحبال في رقابنا ! فقال له المهدي : يا أبا الحسن حدها لي ، فقال : حد منها جبل أحد ، وحد منها عريش مصر ، وحد منها سيف البحر ، وحد منها دومة الجندل ، فقال له كل هذا ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين هذا كله ، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول الله بخيل ولا ركاب ! فقال كثير وأنظر فيه » .
أقول : يقصد الإمام ( عليه السلام ) الخلافة ، وأن كل الدولة الإسلامية فدك !
وفى دعائم الإسلام : 1 / 385 : « وروينا عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال : إن فدكاً كانت مما أفاء الله على رسوله بغير قتال ، فلما أنزل الله : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، أعطى رسول الله فاطمة فدكاً . فلما قبض أخذها منها أبو بكر ، فلما ولى عثمان أقطعها مروان ، فلما ولى مروان جعل الثلثين منها لابنه عبد الملك ، والثلث لابنه سليمان ، فلما ولى عبد الملك جعل ثلثيه لعبد العزيز وبقى الثلث لسليمان ، فلما ولى سليمان جعل ثلثه لعمر بن عبد العزيز ، فلما ولى عمر بن عبد العزيز ردها كلها على ولد فاطمة « عليها السلام » ، فاجتمع إليه بنو أمية وقالوا : يرى الناس أنك أنكرت فعل أبى بكر وعمر وعثمان والخلفاء من آبائك ، فردها ، وكان يجمع غلتها في كل سنة ويزيد عليها مثلها ويقسمها في ولد فاطمة « عليها السلام » وكان الأمر فيها كما قال أبو عبد الله أيام عمر بن عبد العزيز . ثم استأثر بها آل العباس من بعده ، إلى أن ولى المتسمى بالمأمون فجمع فقهاء البلدان من العامة وغيرهم وتناظروا فيها ، فثبت أمرهم بإجماع أنها لفاطمة صلوات الله عليها ، وشهدوا بأجمعهم على ظلم من انتزعها منها ، فردها في ولد فاطمة ، وذلك من الأمر المشهور المعروف » .
--------------------------- 347 ---------------------------
أقول : قام أبو بكر وعمر بمصادرة فدك ، وأخرجوا منها وكيل فاطمة « عليها السلام » بعد أن كانت بيدها من فتح خيبر ، فاحتجت عليهم وأرتهم كتاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأتت بالشهود وخطبت في المسجد ، وأعلنت موقفها من السلطة . ومن ذلك اليوم صارت قضية فدك شعاراً للمطالبة بالخلافة ، وقد استوفى علماؤنا بحثها وصنفوا فيها كتباً . راجع الإنتصار : 7 والصحيح من السيرة : 18 / 219 .
3 - غيروا اسم فدك وسموها « الحائط » !
كأنهم أرادوا بذلك إخفاء ظلامة الزهراء « عليها السلام » ! وجاء في موقعها الرسمي :
http : / / www . alhaitcity . com / vb / showthread . php ? t = 4964
« تقع مدينة الحائط المعروفة بفدك قديماً ، في الطرف الشرقي لحرة فدك الواقعة شرقي حرة خيبر ، وهى قديماً تعتبر قرية حجازية ، وتقع شمالي المدينة المنورة ، وهى تتبع إدارياً لمنطقة حائل في الوقت الحاضر ، وهى في الطرف الجنوبي الغربى منها وتبلغ المسافة بين حائل ومدينة الحائط « 250 كم » وعن المدينة المنورة بحوالي « 300 كم » تقريباً ، وبذلك تتوسط المسافة بين حائل والمدينة المنورة . والحائط قاعدة القرى المجاورة لها منذ القدم ، وتقع مدينة الحائط على خط طول 29 / 40 وعلى خط العرض 00 / 26 وترتفع عن سطح البحر بما يقارب 1300 متراً .
ومدينة الحائط التي يشملها اسم فدك تبلغ مساحتها 65000 كيلو متر مربع وحدود الحائط التابعة لها للخدمات تبلغ نفس المساحة السابقة ، وذلك من جبل الخطام وجبل الأبيض غرباً ، إلى جبل العلم شرقاً ، وشمالاً من جبل الفرس وجبل وَسْمه إلى حدود منطقة المدينة المنورة جنوباً . ويتبعها أكثر من 120 قرية وهجرة ويبلغ عدد سكان مدينة الحائط « 18000 » نسمة تقريباً .
وفى معجم البلدان : 4 / 238 : « فدك : قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة ، أفاءها الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في سنة سبع صلحاً ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلاث واشتد بهم الحصار ، راسلوا
--------------------------- 348 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل ، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك ، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة ، وهى التي قالت فاطمة رضي الله عنها : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نحلنيها ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أريد لذلك شهوداً . . ولها قصة . ثم أدى اجتهاد عمر بن الخطاب بعده لما ولى الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين ، أن يردها إلى ورثة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والعباس بن عبد المطلب يتنازعان فيها ، فكان على يقول : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) جعلها في حياته لفاطمة ، وكان العباس يأبى ذلك ويقول : هي ملك لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنا وارثه ، فكانا يتخاصمان إلى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول : أنتما أعرف بشأنكما ، أما أنا فقد سلمتها إليكما فاقتصدا ، فما يؤتى واحد منكما من قلة معرفة ، فلما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره برد فدك إلى ولد فاطمة رضي الله عنها فكانت في أيديهم في أيام عمر بن عبد العزيز ، فلما ولى يزيد بن عبد الملك قبضها فلم تزل في أيدي بنى أمية حتى ولى أبو العباس السفاح الخلافة فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فكان هو القيم عليها يفرقها في بنى علي بن أبي طالب ، فلما ولى المنصور وخرج عليه بنو الحسن قبضها عنهم ، فلما ولى المهدى بن المنصور الخلافة أعادها عليهم ، ثم قبضها موسى الهادي من بعده إلى أيام المأمون ، فجاءه رسول بنى علي بن أبي طالب فطالب بها فأمر أن يسجل لهم بها ، فكتب السجل وقرئ على المأمون ، فقام دعبل الشاعر وأنشد :
أصبح وجه الزمان قد ضحكا * برد مأمونِ هاشمٍ فدكا
وفى فدك اختلاف كثير في أمرها بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبى بكر وآل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن رواة خبرها من رواه بحسب الأهواء وشدة المراء . . » .
--------------------------- 349 ---------------------------
4 - فتح النبي « صلى الله عليه وآله » وادى القري
قال في الصحيح من السيرة : 19 / 9 ، ملخصاً : بعد فتح خيبر انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى وادى القرى فأتى الصهباء وسلك على برمة ، حتى انتهى إلى وادى القرى يريد اليهود وقد التحق بهم ناس من العرب . ونزلها مع مغرب الشمس ودعا أهلها إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك واستقبلوا المسلمين بالرمي ، وهم يصيحون في آطامهم فأصاب سهم منهم رجلاً اسمه مدعم فقتله ، وعبأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه للقتال وصفَّهم ، وقاتلوا ففتحها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عنوة ، وغنَّمه الله أموال أهلها فخمَّس ذلك ، وترك الأرض والنخل في أيدي يهود ، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر ، وقسَّم ما أصاب على أصحابه بوادي القري ، وترك الأرض والنخيل بأيدي يهود وعاملهم عليها . وأقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بوادي القرى أربعة أيام ، قال البلاذري : وكان في وادى القرى بساتين لعلى ( عليه السلام ) أوقفها ففي وصيته ( عليه السلام ) : « ما كان لي بوادي القرى كله من مال لبنى فاطمة « عليها السلام » ورقيقها ، صدقة » . الكافي : 7 / 49 .
قال الحموي في معجصم البلدان : 4 / 338 : « وادى القري : واد بين الشام والمدينة وهو بين تيماء وخيبر ، فيه قرى كثيرة ، وبها سمى وادى القري ، قال أبو المنذر : سمى وادى القرى لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة ، وكانت من أعمال البلاد ، وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة ، إلا أنها في وقتنا هذا كلها خراب ومياهها جارية تتدفق ضائعة لا ينتفع بها أحد . قال أبو عبيد الله السكوني : وادى القرى والحِجْر والجَنَاب ، منازل قضاعة ثم جهينة وعذرة وبَلِي ، وهى بين الشام والمدينة يمر بها حاج الشام ، وهى كانت قديماً منازل ثمود وعاد ، وبها أهلكهم الله وآثارها إلى الآن باقية . ونزلها بعدهم اليهود واستخرجوا كظائمها وأساحوا عيونها وغرسوا نخلها . . وروى أن معاوية بن أبي سفيان مر بوادي القرى فتلا قوله تعالي : أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَا هُنَا آمِنِينَ . فِى جَنَّاتٍ وَعُيونٍ . وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ . . الآيات ، ثم قال : هذه الآية نزلت في أهل هذه البلدة وهى بلاد ثمود
--------------------------- 350 ---------------------------
فأين العيون ؟ فقال له رجل : صدق الله في قوله أتحب أن أستخرج العيون ؟ قال : نعم ، فاستخرج ثمانين عيناً ، فقال معاوية : الله أصدق من معاوية » !
وقد غيروا اسمها اليوم وسموها « العلا » ! ففي موقع شبكة عربيات :
http : / / www . arabiyat . com / forums / showthread . php ? t = 61799
العلا : هي الاسم الحديث لوادى القرى الذي أوردته كتب التاريخ وتغنى به الشعراء ، وهى من أقدم المدن . وهى بلد موسى بن نصير الذي أنشأ فيها قلعته المشهورة ، وهى بلد جميل بثينة ، وكانت تسمى قديماً بوادي القرى وديدان . ويسميها الباحثون عاصمة الآثار وبلد الحضارات . مر بها سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة تبوك وعاش بها سيدنا صالح ( عليه السلام ) ، ومن آثارها محلب ناقة سيدنا صالح ، وفيها مدائن صالح أو قرى صالح أو الحجر ، وهى تسميات تطلق على مكان قوم ثمود والأنباط ، حيث مقابرهم المنحوتة في الجبال بطريقة غاية في الجمال والغرابة ، والتي تعرف عند أهل المنطقة بالقصور لروعة النحت وجماله .
5 - رواية أن النبي « صلى الله عليه وآله » نام عن صلاة الصبح
قال في الصحيح من السيرة : 19 / 15 ، ملخصاً : « روى مسلم وأبو داود أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عودته من وادى القرى وخيبر ، كان قريباً من المدينة فغلبته عينه فنام فلم يستيقظ ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس ! وكان بلال يحرسهم فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما صنعت بنا يا بلال ؟ ! قال : يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ! قال : صدقت ، ثم اقتاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعيره غير كثير ثم أناخ وأناخ الناس فتوضؤوا وأمر بلالاً فأقام الصلاة ، فلما فرغ قال : إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها ، فإن الله عز وجل يقول : وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِى » .
ورد ذلك بوجوه : منها ، أن من غير المقبول أن ينام ألف وخمس مئة شخص ويحرسهم شخص واحد هو بلال ، ثم لايستيقظ منهم أحد !
ثم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تنام عيناه ولا ينام قلبه ، فكيف ينام عن صلاة الصبح ؟ !
--------------------------- 351 ---------------------------
هذا ، وقد بحث العلماء قديماً وحديثاً إمكان إنامة الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) أو إسهائه أو عدم قدرة الله على ذلك والعياذ بالله ، ووقوع ذلك أو عدم وقوعه .
والذي نفاه الصدوق « رحمه الله » هو نفى بعضهم لقدرة الله على ذلك ، وهو أجنبي عن وقوعه وعدمه ، ولا يتسع المجال للتفصيل .
6 - نظر إلى أحُد وقال : هذا جبل يحبنا
في المجازات النبوية للشريف الرضي / 15 : « من ذلك قوله ( صلى الله عليه وآله ) وقد نظر إلى أحُد منصرفه من غزاة خيبر : هذا جبل يحبنا ونحبه . وهذا القول محمول على المجاز ، لأن الجبل على الحقيقة لا يصح أن يحب » . وصحيح بخاري : 3 / 223 .
وقال في لسان العرب : 1 / 290 : « قال ابن الأثير : هذا محمول على المجاز ، أراد أنه جبل يحبنا أهله ونحب أهله وهم الأنصار ، ويجوز أن يكون من باب المجاز الصريح ، أي إننا نحب الجبل بعينه ، لأنه في أرض من نحب » .
أقول : من يتأمل في قوله تعالي : وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا يسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا . « الإسراء : 44 » يطمئن بأن لكل شئ حتى المادة حياة ونفساً وروحاً وشخصية بحسبه ، وعليه يمكن حمل كلامه ( صلى الله عليه وآله ) على ظاهره ، وأن من المادة محب ومبغض ومؤمن وكافر . ولا مجال للتفصيل .
7 - قضى الله بزوال دولة فارس فَقَتَلَ ابنُ كسرى أباه !
عندما بُعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان كسرى في أوج قوته ، وقد انتصر على قيصر في سوريا لكن الله تعالى أخبر بأنه سينهزم أمام الروم بعد بضع سنين ، فقال عز وجل : « ألم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِى أَدْنَى الأرض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيغْلِبُونَ . فِى بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمر مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيوْمَئِذٍ يفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللهِ ينْصُرُ مَنْ يشَاءُ وَهُوَالْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ اللهِ لا يخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يعْلَمُونَ . يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ . الروم : 1 - 7 .
وفى السنة السادسة للهجرة بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) رسالة إلى كسري ، نصها : « بسم الله
--------------------------- 352 ---------------------------
الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس : سلام على من اتبع الهدي ، وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أدعوك بدعاية الله ، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين . أسلم تسلم ، فإن أبيت فعليك إثم المجوس » .
مكاتيب الرسول للأحمدي : 2 / 316 .
« فلما وصل إليه الكتاب مزقه واستخف به وقال : من هذا الذي يدعوني إلى دينه ويبدأ باسمه قبل اسمي ! وبعث إليه بتراب ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : مزق الله ملكه كما مزق كتابي ، أما إنه ستمزقون ملكه ! وبعث إلى بتراب أما إنكم ستملكون أرضه ! فكان كما قال ( صلى الله عليه وآله ) . . إن كسرى كتب في الوقت إلى عامله باليمن باذان ويكنى أبا مهران ، أن احمل إلى هذا الذي يذكر أنه نبي ، وبدأ بإسمه قبل إسمى ودعاني إلى غير ديني ! فبعث إليه فيروز الديلمي في جماعة مع كتاب يذكر فيه ما كتب به كسري ، فأتاه فيروز بمن معه فقال له : إن كسرى أمرني أن أحملك إليه ! فاستنظره ليلة فلما كان من الغد حضر فيروز مستحثاً فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أخبرني ربى أنه قتل ربك البارحة ! سلط الله عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل ، فأمسكْ حتى يأتيك الخبر ! فراع ذلك فيروز وهاله وعاد إلى باذان فأخبره فقال له باذان : كيف وجدت نفسك حين دخلت عليه ؟ فقال : والله ما هبت أحداً كهيبة هذا الرجل ! فوصل الخبر بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة فأسلما جميعاً » . المناقب : 1 / 70 .
وفى مكاتيب الرسول للأحمدي : 2 / 329 : « فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع قهرمانه ، وبعث معه رجلاً آخر من الفرس ، وكتب معهما إلى رسول الله يأمره أن ينصرف معهما إلى كسري ، فلما قدما عليه المدينة قالا له : شاهنشاه « ملك الملوك » كسرى بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك ، وقد بعثنا إليك لتنطلق معنا ، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به ! وإن أبيت فهو من قد علمت فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك ! وكانا دخلا على رسول الله على زي الفرس ، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره النظر إليهما وقال :
--------------------------- 353 ---------------------------
ويلكما من أمركما بهذا ؟ قالا : أمرنا ربنا يعنيان كسري ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لكن أمرني ربى بإعفاء لحيتي وقص شاربي ، ثم قال لهما : إرجعا حتى تأتيانى غداً . وأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه فقتله في شهر كذا وكذا ، لكذا وكذا في ليلة كذا ، فلما أتاه الرسولان قال : إن ربى قد قتل ربكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا بعد ما مضى من الليل سبع ساعات ، سلط عليه شيرويه فقتله ! وهى ليلة الثلاثاء لعشر ليان مضين من جمادى الأولى سنة سبع ، كذا في الطبقات . وقال أبو نعيم : فلما قرأ النبي كتاب صاحبهم تركهم خمس عشرة ليلة لا يكلمهم ولا ينظر إليهم إلا إعراضاً ، فلما مضت خمس عشرة ليلة تقدموا إليه ، فقالا : هل تدرى ما تقول ، إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا فنكتب بها عنك فنخبر الملك أي باذان ؟ قال : نعم أخبرا ذلك عنى وقولا له : إن ديني وسلطانى سيبلغ إلى منتهى الخف والحافر وقولا له : إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك . وأعطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرخسرو منطقة فيها ذهب وفضة وكان أهداها له بعض الملوك ، وكانت حمير تسمى خرخسرة صاحب المعجزة ، والمعجزة المنطقة بلغة حمير .
فخرج الرسولان وقدما على باذان وأخبراه الخبر فقال : والله ما هذا كلام ملك وإني لأراه نبياً ، ولننظرن فإن كان ما قال حقاً فإنه لنبي مرسل ، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا ، فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه يخبر بقتل كسري : أما بعد فقد قتلت كسري ، ولم أقتله إلا غضباً لفارس فإنه قتل أشرافهم فتفرق الناس ، فإذا جاءك كتابي فخذ لي الطاعة ممن قبلك ، وانظر الرجل الذي كان كسرى يكتب إليك فيه فلا تزعجه حتى يأتيك أمرى فيه !
فلما أتاه كتاب شيرويه أسلم وأسلم معه أبناء فارس الذين كانوا باليمن ، فبعث باذان بإسلامه وإسلامهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . . .
ولما سمعت قريش بأمر كسرى واستخفافه بكتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكتابه إلى باذان ليبعثه إلى كسرى أو يقتله ، فرحوا واستبشروا وقالوا فقد نصب له كسرى
--------------------------- 354 ---------------------------
ملك الملوك ، كفيتم الرجل . . . ولكن لما سمعوا برجوع الرسولين وقتل كسري ، وإسلام باذان وأبناء فارس معه ، صار رجاؤهم خيبة وقنوطاً » !
وروى في الخرائج : 1 / 78 ، رؤيا ملك بابل بختنصر التي سأل عنها نبي الله دانيال ( عليه السلام ) فأخبره وبتفسيرها وأن ملكه سيزول وبعده ملك الفرس ، قال : « فتأويل الرؤيا مبعث محمد ( صلى الله عليه وآله ) تمزقت الجنود لنبوته ، ولم تنتقض مملكة فارس لأحد قبله ، وكان ملكها أعز ملوك الأرض وأشدها شوكة ، وكان أول ما بدأ فيه انتقاص قتل شيرويه بن أبرويز أباه ، ثم ظهر الطاعون في مملكته وهلك فيه ، ثم هلك ابنه أردشير ، ثم ملك رجل لم يكن من أهل بيت الملك فقتلته بوران بنت كسري ، ثم ملك بعده رجل يقال له كسرى بن قباد ولد بأرض الترك ثم ملكت بوران بنت كسري ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تمليكها فقال : لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة ، ثم ملكت ابنة أخرى لكسرى فسُمَّت وماتت ، ثم ملك رجل ثم قتل !
فلما رأى أهل فارس ما هم فيه من الانتشار أمر « كَبُرَ » ابن لكسرى يقال له : يزدجرد فملكوه عليهم فأقام بالمدائن على الانتشار « تفرق المملكة » ثماني سنين ، وبعث إلى الصين بأمواله ، وخلف أخا بالمدائن لرستم فأتى لقتال المسلمين ونزل بالقادسية وقتل بها ، فبلغ ذلك يزدجرد فهرب إلى سجستان ، فقتل هناك » !
8 - هدايا المقوقس ملك مصر إلى النبي « صلى الله عليه وآله »
قال الأحمدي في مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : 2 / 416 : « كتابه ( صلى الله عليه وآله ) إلى المقوقس : بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط : سلام على من اتبع الهدي ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط و : يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَينَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيئًا وَلا يتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » .
قال المقوقس : إني نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ، ولا الكاهن الكذاب ، ووجدت معه آلة
--------------------------- 355 ---------------------------
النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي ، وسأنظر . ثم أخذ الكتاب وجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته .
وأرسل المقوقس يوماً إلى حاطب فقال : « أسألك عن ثلاث . فقال : لا تسألني عن شئ إلا صدقتك ، قال : إلى ما يدعو محمد ؟ قلت : إلى أن نعبد الله وحده ، ويأمر بالصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة ، ويأمر بصيام رمضان ، وحج البيت ، والوفاء بالعهد ، وينهى عن أكل الميتة والدم . . إلى أن قال : فوصفته فأوجزت ، قال : قد بقيت أشياء لم تذكرها : في عينيه حمرة قلما تفارقه ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، يركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزى بالتمرات والكسر ، ولا يبالي من لاقى من عم أو ابن عم . ثم قال المقوقس : هذه صفته ، وكنت أعلم أن نبياً قد بقي ، وكنت أظن أن مخرجه بالشام وهناك تخرج الأنبياء من قبله ، فأراه قد خرج في أرض العرب في أرض جهد وبؤس ، والقبط لاتطاوعنى في اتِّباعه ، وأنا أَضِنُّ بملكى أن أفارقه ، وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما هاهنا ! وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفاً واحداً ، ولا أحب أن تعلم بمحادثتى إياك ! ثم دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) : بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط : سلام عليك أما بعد ، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه ، وقد علمت أن نبياً قد بقي وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام ، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وبثياب ، وأهديت إليك بغلة لتركبها ، والسلام عليك » . ثم عدد الأحمدي هدية المقوقس للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهي : أربع جوارٍ : مارية أم إبراهيم بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وسيرين أخت مارية ، وقيسر أخت مارية أيضاً ، وجارية أخرى سوداء اسمها بريرة . وغلاماً خصياً أسود اسمه مابور . وبغلة شهباء وهى دلدل ، وحماراً أشهب يقال له يعفور . وقيل وألف دينار وعشرين ثوباً ، وألف مثقال ذهباً . وفرساً وهو اللزاز ، وأهدى إليه عسلاً من عسل نبها من قرى مصر ، ومكحلة ومربعة توضع فيها ، وقارورة
--------------------------- 356 ---------------------------
دهن ، ومقصاً ومسواكاً ومشطاً ومرآة . وقيل عمائم وقباطى وطيباً وعوداً ومسكاً ، مع ألف مثقال من ذهب ، مع قدح من قوارير ، وخفين ساذجين أسودين ، وطبيباً يداوى مرضى المسلمين . « فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إرجع إلى أهلك فإنا قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لانشبع . وقال حاطب : كان المقوقس لي مكرماً في الضيافة وقلة اللبث ببابه ، وما أقمت عنده إلا خمسة أيام ، ودفع له مائة دينار وخمسة أثواب . . . فلما قدم حاطب المدينة وعرض الهدايا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبلها ، ونقل له كلام المقوقس وناوله الكتاب قال : ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه . ومن ثم ذكر بعضهم أن هرقل لما علم ميل المقوقس إلى الإسلام عزله » . راجع المناقب : 1 / 139 ، 146 ، 148 ، 2 / 65 ، ابن هشام : 1 / 3 و 123 ، الشفا : 1 / 115 ومستدرك سفينة البحار : 1 / 380 ، 3 / 336 و 5 / 208 .
أقول : قد يكون النبي ( صلى الله عليه وآله ) رد الطبيب لأنه شك فيه نفسه ، وليس في المقوقس . وقد يكون الطبيب يهودياً .
9 - وفاة النجاشي وصلاة النبي « صلى الله عليه وآله » عليه
في الكافي : 2 / 121 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، فدخلوا عليه وهو في بيت له جالس على التراب وعليه خِلْقَان الثياب ! قال : فقال جعفر : فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال ، فلما رأى ما بنا وتغير وجوهنا قال : الحمد لله الذي نصر محمداً وأقر عينه ، ألا أبشركم ؟ فقلت : بلى أيها الملك ، فقال : إنه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيونى هناك فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وأهلك عدوه ، وأسر فلاناً وفلاناً وفلاناً ، التقوا بواد يقال له : بدر كثير الأراك لكأني أنظر إليه ، حيث كنت أرعى لسيدي هناك ، وهو رجل من بنى ضمرة !
فقال له جعفر : أيها الملك فمالى أراك جالساً على التراب وعليك هذه الخلقان ؟ فقال له : يا جعفر إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى ( عليه السلام ) أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمة ! فلما أحدث الله عز وجل لي نعمة بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) أحدثت لله هذا التواضع ! فلما بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لأصحابه : إن الصدقة
--------------------------- 357 ---------------------------
تزيد صاحبها كثرة فتصدقوا يرحمكم الله ، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعه ، فتواضعوا يرفعكم الله ، وإن العفو يزيد صاحبه عزاً ، فاعفوا يعزكم الله » .
وفى مجمع البيان : 2 / 480 ، في تفسير قوله تعالي : « وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لايشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً : اختلفوا في نزولها فقيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة ، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية ، وذلك أنه لما مات نعاه جبرائيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم . قالوا : ومن ؟ قال : النجاشي . فخرج رسول الله إلى البقيع ، وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه ! فقال المنافقون : أنظروا إلى هذا يصلى على علج نصراني حبشي لم يره قط ، وليس على دينه » .
وفى سيرة ابن هشام : 1 / 228 : « فلما مات النجاشي ، صلى عليه واستغفر له » .
وفى الخصال / 359 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما أتاه جبرئيل بنعي النجاشي بكى بكاء حزينٍ عليه وقال : إن أخاكم أصحمة ، وهواسم النجاشي مات . ثم خرج إلى الجبانة وصلى عليه وكبر سبعاً ، فخفض الله له كل مرتفع حتى رأى جنازته وهو بالحبشة » . وعيون أخبار الرضا « عليه السلام » : 2 / 252 وفى الخرائج 1 / 64 ، مختصراً .
وفى المعتبر : 2 / 352 : « يمكن أن يكون دعاءً له لا كصلاة الجنازة . قال زرارة قلت : فالنجاشى لم يصل عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال : لا ، إنما دعا له . لو جازت الصلاة بعد دفنه لصلى على الأنبياء في قبورهم والصلحاء وإن تقادم العهد » .
10 - سرايا قبل سفر النبي « صلى الله عليه وآله » إلى عمرة القضاء
أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) مجموعات صغيرة في عدة سرايا بعد عودته من خيبر وأم القرى قبل عمرة القضاء ، وأكثرها سرايا عادية ، وقد يكون بعضهما مكذوباً !
فمنها ، سرية عمر إلى تربة ، قالوا بعثه في ثلاثة نفر إلى موضع يسمى تربة ، لقتال أناس من هوازن ، فهربوا .
ومنها : سرية أبى بكر إلى نجد ، لأناس من هوازن ، ولم يذكروا موضعها ولا
--------------------------- 358 ---------------------------
أسماء من قتل فيها ، وقالوا أسر أبو بكر امرأة ولم يذكروا اسمها !
وذكروا سريتين إلى فدك لبشير بن سعد وغالب الليثي ، وقالوا إنهم قتلوا وغنموا أموالاً وأنعاماً وأباعركثيرة .
كما ذكروا بطولات لسلمة بن الأكوع وأنه قتل أهل سبعة أبيات ولم يسموهم !
وفى إعلام الوري : 1 / 211 : « وبعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى أرض بنى مرة فقتل وأسر . وبعث عيينة بن حصن البدري إلى أرض بنى العنبر فقَتل وأسر » .
هذا ، وذكر بعضهم أن غزوة الكدر كانت بعد خيبر وقبل عمرة القضاء ، « راجع الصحيح : 19 / 89 » « وذلك مستبعد ، فقد ذكروا غزوة الكدر أو قرقرة الكدر في آخر السنة الثانية للهجرة ، وتقدم أنها كانت سرية لزيد بن حارثة ولم يقع فيها حرب » . الطبقات : 2 / 31 ، الطبري : 2 / 483 وأعيان الشيعة : 1 / 251 .
11 - هل شققت عن قلبه يا أسامة ؟
وبعد فتح خيبر كانت السرية التي قتل فيها أسامة بن زيد رجلاً قال إني مؤمن ، وقد وبخه النبي ( صلى الله عليه وآله ) . راجع : الصحيح من السيرة : 19 / 43 .
قال علي بن إبراهيم القمي : 1 / 148 في تفسير قوله تعالي : « يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ فَتَبَينُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، فإنها نزلت لما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من غزوة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام ، وكان رجل من اليهود يقال له مرداس بن نهيك الفدكى في بعض القري ، فلما أحس بخيل رسول الله جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل ، فأقبل يقول أشهد
--------------------------- 359 ---------------------------
أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فمر بأسامة بن زيد فطعنه فقتله ! فلما رجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بذلك ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ؟ ! فقال : يا رسول الله إنما قال تعوذاً من القتل . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فلا شققت الغطاء عن قبله ، ولا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت ! فحلف بعد ذلك أنه لا يقتل أحداً شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ! فتخلف عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حروبه وأنزل الله في ذلك : وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا . . الخ » .
قال في جواهر الكلام : 41 / 636 : « بل يؤيده « درء الحدود بالشبهات » أن جمعاً من الصحابة منهم أسامة بن زيد ، وجدوا أعرابياً في غنيمات ، فلما أرادوا قتله تشهد فقالوا : ما تشهد إلا خوفاً من أسيافنا ، فقتلوه واستاقوا غنيماته فنزل : وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا . . فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال لأسامة : هلا شققت قلبه ؟ ! ولكن لم يقتص منهم » .
12 - عيينة بن حصن يواصل الغارة على المسلمين
تقدم أن عيينة بن حصن جاء بجمع من قبيلته فزارة وغطفان لينصر اليهود في خيبر ، فبعث اليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) إن الله وعده خيبر وطلب منه أن ينسحب وله تمر خيبر سنة ، فأبى عيينة ! وفى اليوم التالي وقعت عليهم الصيحة أن المسلمين أغاروا على ديارهم ! فانسحبوا من خيبر وتركوا اليهود ! الصحيح : 17 / 110 .
وبعد فتح خيبر جاء عيينة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يطالب بتمر خيبر ، ويدعى أنه انسحب من خيبر لمصلحة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فلم يعطه النبي ( صلى الله عليه وآله ) شيئاً .
وقال الحارث بن عوف المرى لعيينة وكان حليفه : « أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه ؟ إن محمداً قد وطأ البلاد وأنت توضع في غير شئ . . . أيها الرجل قد رأيت ورأينا معك أمراً بيناً في بنى النضير ويوم الخندق وقريظة ، وقبل ذلك قينقاع وفى خيبر ، إنهم كانوا أعز يهود الحجاز كله يقرون لهم بالشجاعة والسخاء ، وهم أهل حصون منيعة وأهل نخل . والله إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم ، لقد سارت حارثة بن الأوس حيث كان بينهم وبين قومهم ما كان فامتنعوا بهم من الناس . ثم قد رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة وكيف أديل عليهم . والله إن الذي سمعت لمن السماء ! والله ليظهرن محمد على من ناوأه ، حتى لو ناوأته الجبال لأدرك منها ما أراد ! فقال عيينة : هو
--------------------------- 360 ---------------------------
والله ذاك ولكن نفسي لاتقرُّني ! فقال الحارث : فادخل مع محمد ! قال : أصير تابعاً ؟ ! قد سبق قوم إليهم فهم يزْرُونَ بمن جاء بعدهم يقولون : شهدنا بدراً وغيرها » !
أقول : لم يسلم عيينة مع يقينه بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وواصل محاولاته الغارة على المسلمين ، فأغار عليهم في جمع من غطفان فبعث إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشير بن سعد في ثلاث مائة ، فساروا حتى أتوا يمن وجُبار قرب خيبر ، فهرب جماعة عيينة فغنموا من إبلهم ونعمهم ، ثم لقوا جمع عيينة فناوشوهم فهرب عيينة وتبعهم المسلمون فأسروا منهم رجلين ، وجاؤوا بهما إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأسلما وأطلق سراحهما . راجع الصحيح : 19 / 76 .
النبي « صلى الله عليه وآله » يتوجه إلى عمرة القضاء
1 - أحرم النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمون واتخذوا الحيطة لاحتمال أن تمنعهم قريش من زيارة البيت فيحتاجون إلى قتالها ، فقد أنزل الله عليهم : وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يقَاتِلُونَكُمْ وَلاتَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ . البقرة : 190 - 191 .
وفى زبدة البيان / 306 : « تجهز النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا يفي لهم المشركون وأن يصدوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم ، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام وفى الحرم فأنزل الله الآية ، أي قاتلوا الذين يقاتلونكم دون الذين لم يقاتلوكم . . » .
2 - في الكافي : 4 / 251 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « اعتمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثلاث عمر مفترقات : عمرةً في ذي القعدة أهَلَّ من عسفان وهى عمرة الحديبية ، وعمرةً أهَلَّ من الجحفة وهى عمرة القضاء ، وعمرةً أهَلَّ من الجعرانة ، بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين » .
وفى إعلام الوري : 1 / 211 : « اعتمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والذين شهدوا معه الحديبية ، ولما بلغ قريشاً ذلك خرجوا متبددين ، فدخل مكة وطاف بالبيت على بعيره بيده محجن يستلم به الحجر ، وعبد الله بن رواحة آخذ بخطامه وهو يقول :
--------------------------- 361 ---------------------------
خلوا بنى الكفار عن سبيله * خلوا فكل الخير في رسوله
قد أنزل الرحمن في تنزيله * نضربكم ضرباً على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله * ضرباً يزيل الهام عن مقيله
يا رب إني مؤمن بقيله
وأقام بمكة ثلاثة أيام ، وتزوج بها ميمونة بنت الحارث الهلالية ، ثم خرج فابتنى بها بسرف ، ورجع إلى المدينة فأقام بها حتى دخلت سنة ثمان » .
3 - وروى الجميع أن شخصيات مكة خرجوا منها ، بينما اصطف الناس سماطين ينظرون إلى دخول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين ، وقد حرص النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن يرى قريشاً قوة المسلمين ، فدخل راكباً على ناقته وعبد الله بن رواحة ينشد بين يديه النشيد المتقدم الذي فيه تحدٍّ لقريش ، فأثار ذلك خوف عمر أو غيرته أن يتحدى أنصارى قريشاً في عقر دارها ! قال أبو يعلي : 6 / 121 : « فقال عمر : يا ابن رواحة تقول الشعر بين يدي رسول الله وفى حرم الله ؟ ! قال فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : مَهْ يا عمر ، هذا أشد عليهم من وقع النبل » ! والنسائي : 5 / 211 ، البيهقي في سننه : 10 / 228 ، الترمذي : 4 / 217 ، مبسوط السرخسي : 10 / 39 وسير الذهبي : 1 / 235 ،
ورواه مجمع الزوائد : 6 / 146 ، وقال : « وتغيب رجال من أشراف المشركين كراهية أن ينظروا إلى رسول الله غيظاً وحنقاً ونفاسةً وحسداً ، وخرجوا إلى نواحي مكة » .
والعجيب أن عمر الذي كان مصراً قبل سنة في الحديبية على قتال قريش ، استنكر بسبب خوفه أو تعصبه لقريش أن يتحداهم المسلمون في دارهم ! ولا ننس أن عمر من قبيلة عدى الصغيرة ، وقد نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم ! ولكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) يرى أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيف ، وأن عمل عبد الله بن رواحة صحيح وقيمته عالية لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل !
وفى الحدائق الناضرة : 16 / 129 : « عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال : سمعت
أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : طاف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على ناقته العضباء وجعل يستلم الأركان
--------------------------- 362 ---------------------------
بمحجنه ويقبل المحجن » . والمحجن : عصا معقوفة ، فكان ( صلى الله عليه وآله ) يمس الركن بها ويقبلها .
4 - وفى الكافي : 4 / 435 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة ، فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيام وأعيدت الأصنام فجاؤوا إليه فقالوا : يا رسول الله إن فلاناً لم يسع بين الصفا والمروة وقد أعيدت الأصنام . فأنزل الله عز وجل : فَلا جُنَاحَ عَلَيهِ أَنْ يطَّوَفَ بِهِمَا ، أي وعليهما الأصنام » .
5 - قال في الصحيح : 9 / 172 بعنوان : رعب قريش وحيرتها ، ملخصاً : « قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الخيل أمامه حتى بلغت مر الظهران ، فرأى ناس من قريش خيلاً كثيرة وسلاحاً وفيراً ، فطاروا بالخبر إلى قريش ، ففزعت من ذلك وتحيرت هل جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليعتمر أم ليغزوها ، وهو لم يعرف بالغدر صغيراً ولا كبيراً !
وخرج كبراؤها من مكة حتى لا يروا النبي ( صلى الله عليه وآله ) يطوف بالبيت هو وأصحابه ، حسداً وعداوة ! وكانت شائعاتهم تلاحق المسلمين . وكان وجود قرشيين مع النبي يزيد في حسرة قريش وإحراجها أمام الناس الذين لهم فيهم أقرباء ، فقالوا : إن المهاجرين أوهنتهم حمى يثرب ! لذلك أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإظهار القوة ليبطل كيدهم وأطلق دعاءه فقال : رحم الله من أراهم من نفسه قوة » فأمرهم بالرمل في ثلاثة أشواط ، وهو المشي السريع شبيه بالعرض العسكري فقالت قريش : « هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ، أما إنهم لينفرون نفر الظبي !
كما أمرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يكشفوا أعضادهم اليمنى التي تقبض السيوف والرماح وهو يطوف على ناقته وعبد الله بن رواحة آخذ بزمامها وهو ينشد التحدي لهم ! وقد ورد عن أهل البيت « عليهم السلام » أن كشف الأعضاد مخصوص بذلك الوقت ، وليس له صفة شرعية دائمة في الحج » .
زواج النبي « صلى الله عليه وآله » بميمونة بنت الحارث
في مجمع البيان : 9 / 211 : « أقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى المدينة . . بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحرث العامرية فخطبها
--------------------------- 363 ---------------------------
عليه ، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب ، وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحرث ، فزوجها العباس رسول الله » .
وقال صاحب الصحيح : 19 / 207 إنها آخر امرأة تزوجها النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وفى سيرة ابن هشام : 3 / 828 : « وأصدقها « أبو رافع » عن رسول الله أربع مئة درهم » .
وقد تقدمت ترجمة ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها في الفصل الخامس والأربعين .
إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص !
كان خالد بن الوليد إلى السنة السابعة قائد خيل المشركين في الحديبية ، ثم كان في أواسط الثامنة مع المسلمين في غزوة تبوك ، وسيأتي دوره فيها ، ومعناه أنه أسلم بين الحديبية ومؤتة . لكنه ادعى أنه أسلم قبل خيبر وأنه شارك فيها !
فقد كذب خالد فقال : « غزوت مع رسول الله غزوة خيبر ، فأسرع الناس في حظائر يهود فقال : يا خالد ناد في الناس أن الصلاة جامعة » . وتبنى كذبته أصحاب المسانيد ، فرواها أحمد : 4 / 89 ، وأبو داود والنسائي وابن ماجة ، نصب الراية : 6 / 58 وشكك فيه ابن عبد البر ، الإستيعاب : 2 / 427 وقال ابن حزم وقال إنه موضوع ، عمدة القاري : 17 / 248 .
وقال في مجمع الزوائد : 9 / 351 : « وعن محمد بن إسحاق قال : كان إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة عند النجاشي فقدموا المدينة في صفر سنة ثمان من الهجرة . قلت : إسلامهم في يوم واحد معروف » . وبه قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية / 259 ، ابن تيمية في فتاويه : 4 / 397 ، ابن عربى في أحكام القرآن : 2 / 572 ، ابن حجر في تهذيب التهذيب : 3 / 107 وابن كثير في النهاية : 5 / 366 و 3 / 208 .
وروت مصادرهم اعترافهما بأنهما رأيا ميزان القوة لمصلحة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأسلما ! « مجمع الزوائد : 9 / 350 » وستعرف أن أدوارهما في الإسلام مضخمة أو مكذوبة .
- *
--------------------------- 364 ---------------------------
الفصل الستون
غزوة مؤتة وما بعدها إلى فتح مكة
1 - موقع مؤتة والكرك والمزار
تقع مؤتة قرب مدينة الكرَك جنوبي عَمَّان عاصمة الأردن وتبعد عنها 120 كم وتبعد عن القدس نحو 70 كم ، وعن المدينة المنورة أكثر من 1100 كم . وتسمى المزار ، لأن فيها قبر جعفر الطيار « رحمه الله » ورفاقه الشهداء .
في معجم البلدان : 5 / 220 : « قرية من قرى البلقاء في حدود الشام ، بها قبر جعفر بن أبي طالب ، بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليها جيشاً في سنة ثمان ، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة مولاه وقال : إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب الأمير ، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة ، فساروا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها ، فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقاتل زيد حتى قتل ، فأخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل ، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة فكانت تلك حاله ، فاجتمع المسلمون إلى خالد بن الوليد فانحاز بهم حتى قدم المدينة ، فجعل الصبيان يحثون عليهم التراب ويقولون : يا فُرَّار فررتم في سبيل الله !
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ليسوا بالفرار لكنهم الكُرَّار إن شاء الله » . وقال حسان :
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله هم خير عصبة * تواصوا وأسباب المنية تنظر » .
--------------------------- 365 ---------------------------
2 - انحسر خطر الفُرس عن النبي « صلى الله عليه وآله » وتعاظم خطر الروم
في أواخر السنة السادسة للهجرة أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) كتبه إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام ، فأهان كسرى مبعوث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومزق كتابه ، وطلب من حاكم اليمن أن يرسله اليه ! فأرسل حاكم اليمن وزيره إلى المدينة وأبلغ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر كسري ، فقال له غداً الجواب ، وفى الغد أخبره أن الله تعالى قتل كسرى في ليلة 13 جمادى الأولى لسبع للهجرة ، فدهش الوزير ورجع !
ومعناه أن الله تعالى تولى إزالة نظام كسري ، حيث دخل الفرس بقتله في صراع داخلي ، أدى إلى تمزق الدولة ، وانتهى بفتح المسلمين لكل فارس .
أما هرقل فكتب له النبي ( صلى الله عليه وآله ) في السنة السادسة : « بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدي ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين ، و : يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَينَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيئًا وَلا يتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ .
مكاتيب الرسول للأحمدي : 2 / 290 و 397 .
والأريسيون أهل الزراعة ، مقابل البدو . « البكري : 1 / 21 » فأجاب هرقل بدهائه على كتاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) بجواب لين ، جاء فيه : « إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى ، من قيصر ملك الروم : إنه جاءني كتابك مع رسولك ، وإني أشهد أنك رسول الله نجدك عندنا في الإنجيل ، بشرنا بك عيسى بن مريم ، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا ولو أطاعوني لكان خيراً لهم ، ولوددت أنى عندك فأخدمك وأغسل قدميك ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم » . اليعقوبي : 2 / 77 .
أقول : هذه العبارة من إضافة الرواة ، فلا علاقة لبقاء ملكهم بنسخة كتاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد فقدت نسخته وبقى ملكهم ، بل بقي ملكهم لأن الله تعالى سمح بذلك ، لحكمٍ وأسباب يعلمها ، ومنها لينهم ولو كان عن دهاء !
--------------------------- 366 ---------------------------
أما الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام فأجاب جواباً سيئاً فيه شبهٌ من جواب كسري ، فقد حجب رسول النبي ( صلى الله عليه وآله ) شجاع بن وهب مدة ثم أمر بإدخاله عليه وقد لبس تاجه ، فدفع اليه الكتاب فقرأه ثم رمى به وقال : من ينزع منى ملكي ! أنا سائر إليه ولو كان في باليمن جئته ، على بالناس ! فلم يزل جالساً يعرض عليه حتى الليل ، وأمر بالخيل أن تُنعل ثم قال لي : أخبر صاحبك بما تري ! وكتب الحارث إلى قيصر يخبره الخبر ، فكتب إليه أن لا تسر إليه ، واشتغل بايلياء أي هيئ الطريق لاستقبالي ، لأن هرقل نذر أن يمشى من حمص إلى بيت المقدس شكراً لله تعالى لنصره على فارس ، ففرشوا له بسطاً ونثروا الرياحين ، وهو يمشى عليها حتى بلغ بيت المقدس !
قال شجاع : فدعاني الحارث وقال : متى تريد أن تخرج إلى صاحبك ؟ قلت : غداً ، فأمر لي بمائة مثقال ذهباً ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة ، فقدمتُ على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأخبرته بما كان من الحارث فقال : بادَ ملكه . السيرة الحلبية : 3 / 304 .
أما فروة بن عمرو الجذامي حاكم الأردن من قبل هرقل ، فأسلم بدون أن يرسل اليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) كتاباً وكتب اليه : « لمحمد رسول الله ، إني مقرٌّ بالإسلام مصدق به ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، أنت الذي بشر بك عيسى بن مريم . والسلام » . مكاتيب الرسول : 2 / 465 .
فأجابه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « من محمد رسول الله إلى فروة بن عمرو ، أما بعد ، فقد قدم علينا رسولك وبلغ ما أرسلت به وخبَّر عما قِبلكم وأتانا بإسلامك ، وإن الله هداك بهداه . إن أصلحت وأطعت الله ورسوله وأقمت الصلاة وآتيت الزكاة » . فلما سمع قيصر بذلك أمر الحارث بن أبي شمر فسجنه ، فقال :
طرقتُ سليمى موهناً أصحابي * والروم بين الباب والقروان
فلئن هلكت لتفقُدنَّ أخاكم * ولئن بقيتُ لتعرفنَّ مكاني
ولقد جمعت أجلَّ ما جمع الفتى * من جودة وشجاعة وبيان
ثم أحضره وقال له : إرجع من دين محمد ونحن نعيدك إلى ملكك . قال : لا أفارق
--------------------------- 367 ---------------------------
دين محمد ، فإنك تعلم أن عيسى بشر به ، ولكنك تظن بملكك !
فلما يئسوا منه وعلموا أنه لا يرجع إلى النصرانية أجمعوا على قتله ، فقتله وصلبه على ماء لهم يقال له عِفرَا بفلسطين ، فقال :
ألا هل أتى سلمى بأن حليلها * على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل
على ناقة لم يضرب الفحل أمها * مشذبة أطرافها بالمناجل
فلما قدموه ليقتلوه قال :
بلغ سراة المسلمين بأنني * سلمٌ لربى أعظمى وبناني
فضربوا عنقه ثم صلبوه « رحمه الله » ! مكاتيب الرسول : 2 / 467 .
أقول : أمر هرقل حاكم الشام باللين بسبب دهائه ، لأنه ساذج لا يقدر قوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا يعرف أن حربه تحتاج إلى خطة شبيهة بخطة القضاء على كسرى في السنة الماضية ! وكانت خطة هرقل ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) تقوم على انتخاب كتائب خاصة من جيش الروم ، وإعداد جيش من بلاد الشام بزعامة الحارث ، وجيش من القبائل بزعامة الأكيدر ملك دومة الجندل ورئيس قبائل كندة ، ومساندة مجموعة أبى عامر الراهب أصحاب مسجد الضرار ، ثم بمساندة مجموعات اليهود ومنافقى قريش . . الخ . !
3 - غزوة مؤتة رسالة من النبي « صلى الله عليه وآله » إلى هرقل
كانت غزوة مؤتة لإفهام هرقل أن ميزان القوة ليس كما يتخيل ، وأنهم قادرون على تحدى الجيش الرومي المحترف عند أبواب القدس ، على بعد أكثر من ألف كيلو متر عن المدينة ! فقد كانت غزوة مؤتة عملية استشهادية لإثبات القوة النوعية للمسلمين ، ليتراجع هرقل عن خطته ، ولذا كانت تحتاج إلى قائد نوعي خبير بالروم هو جعفر بن أبي طالب « رحمه الله » . وكان هرقل يعرف جعفر جيداً ، فقد عمل في مقاومة الروم في الحبشة قاعدة الروم في إفريقيا ، وثبَّت عرش النجاشي ودولته ! ونشط سنين مع علماء الروم وقساوستهم ،
--------------------------- 368 ---------------------------
وجاء بوفود منهم من الحبشة ونجران والشام إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة فأسلموا ، ثم أبقاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الحبشة يتابع مهمته حتى أحضره ، فوصل في أيام فتح خيبر .
وبعد عودة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من عمرة القضاء ، حان الوقت لأن يرسل إلى هرقل الرسالة القوية ، وهرقل جادٌّ في التحضير لغزو المدينة ، فأرسل جعفراً « رحمه الله » إلى مؤتة . وكانت حمص أو الشام أو عمان أقرب وأولى بالمهاجمة بالنظرة الأولى فهي مهمة وفيها قوات رومية وعربية ، لكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أراد أن يقصد معسكر هرقل في مؤتة ولو كان أبعد ، لأنه معسكر رومى صرف ، وأقرب إلى بيت المقدس !
وذكر المسعودي في التنبيه والإشراف / 230 ، أن سبب غزوة مؤتة كان قتل شرحبيل بن عمرو الغساني الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى صاحب بصري ، ولم يقتل للنبي رسول غيره . لكن لو كان الهدف الإقتصاص لقتل رسول النبي ( صلى الله عليه وآله ) من حاكم بصري ، لأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بضعة أشخاص إلى بصرى الشام ليقتلوا حاكمها قصاصاً ، ولم يحتج إلى إرسال ثلاثة آلاف إلى منطقة فيها معسكر لهرقل ، أبعد من بصرى بكثير !
4 - جعفر بن أبي طالب « عليه السلام » قائد جيش مؤتة
ذكرت مصادر السلطة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعطى قيادة جيش مؤتة إلى زيد ، فإن قتل فجعفر ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة . فجعلوا زيداً القائد الأول ، مع أنهم يعترفون بأن بنى عبد المطلب لا نظير لهم في الشجاعة وصفات القيادة ، فكيف يؤمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليهم غيرهم ، وقد أرسل حمزة وعلياً وجعفراً مراراً فكانوا هم الأمراء . لكن رواة السلطة يتنقصون من جعفر لبغضهم أخاه علياً ( عليه السلام ) !
كتب في الصحيح من السيرة : 19 / 309 ملخصاً : « إن الأمير الأول كان جعفر بن أبي طالب كما ذهب إليه الشيعة ، قال ابن أبي الحديد : اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول ، وأنكرت الشيعة ذلك وقالوا : كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول ، فإن قتل فزيد بن حارثة ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة ، ورووا في
--------------------------- 369 ---------------------------
ذلك روايات ، وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم . ويدل على ذلك عدة أمور :
1 - من روايات أهل البيت « عليهم السلام » عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إنه استعمل عليهم جعفراً ، فإن قتل فزيد ، فإن قتل فابن رواحة ، المناقب : 1 / 205 وإعلام الوري / 110 .
2 - احتج الإمام الحسن ( عليه السلام ) على معاوية فقال : وقد بعث رسول الله جيشاً يوم مؤتة فقال : عليكم جعفر ، فإن هلك فزيد ، فإن هلك فعبد الله بن رواحة .
3 - روى ابن سعد : 2 / 129 عن أبي عامر ، قال : بعثني النبي إلى الشام فلما رجعت مررت على أصحابي وهم يقاتلون المشركين بمؤتة . قلت : والله لا أبرح اليوم حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرهم . فأخذ اللواء جعفر بن أبي طالب ولبس السلاح وكان رأس القوم ثم حمل جعفر ، حتى إذا همَّ أن يخالط العدو رجع فوحَّش « خفف » بالسلاح ، ثم حمل على العدو ، فطاعن حتى قتل . ثم أخذ اللواء زيد بن حارثة ، فطاعن حتى قتل . ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة ، فطاعن حتى قتل . ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة » .
5 - وصية النبي « صلى الله عليه وآله » لجيش مؤتة
في البحار : 21 / 60 ، عن الواقدي : « خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) مشيعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع فوقف ووقفوا حوله فقال : أغزوا بسم الله ، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام ، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم ، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف ، ولا تقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً ولا كبيراً فانياً ، ولا تقطعن نخلاً ولا شجراً ، ولا تهدمن بناء .
وقال عبد الله بن رواحة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : مرني بشئ أحفظه عنك ، قال : إنك قادم غداً بلداً السجود فيه قليل فأكثروا السجود . فقال عبد الله : زدني يا رسول الله ، قال : أذكر الله ، فإنه عون لك على ما تطلب » .
أقول : يدل ذلك على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن يقطع الأشجار ، ويردُّ زعمهم أنه
--------------------------- 370 ---------------------------
قطع نخيل بنى النضير ، وأن أبا بكر أول من أوصى الغزاة بهذه الوصايا !
كما يدل على أن للسجود لله تعالى تأثيراً على الأرض وما عليها ، وأنه ينبغي لمن سافر إلى أرض لا يسجد فيها لله تعالى أن يكثر من السجود والذكر .
6 - واجهتهم سرية رومية في وادى القري
روى ابن عساكر في تاريخه : 2 / 13 عن الواقدي قال : « سمع العدو بمسيرهم فجمعوا الجموع ، وقام فيهم رجل من الأزد يقال له شرحبيل بالناس وقدم الطلائع أمامه ، وقد نزل المسلمون وادى القرى وأقاموا أياماً ، وبعث أخاه سدوس بن عمرو في خمسين من المشركين ، فالتقوا وانكشف أصحابه وقتل سدوس ، وخاف شرحبيل بن عمرو فتحصن وبعث أخاً له يقال له وبر بن عمرو . فسار المسلمون حتى نزلوا معان من أرض الشام ، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل « مآب » من أرض البلقاء في بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام في مائة ألف ، عليهم رجل من بلى يقال له مالك فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم ، وقالوا نكتب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنخبره الخبر ، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالاً ! فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجعهم ثم قال : والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد ولا بكثرة سلاح ولا بكثرة خيول ، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به . إنطلقوا ، والله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان ويوم أحد فرس واحدة ، فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور عليهم فذلك ما وعدنا الله ووعد نبينا وليس لوعده خلف ، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان . فتشجع الناس على قول ابن رواحة » .
أقول : تدل الرواية على أن سرية سدوس بن عمرو كانت من سرايا حراسة الروم للحدود الشامية . وكان أخوه شرحبيل القائد العام لجيش هرقل في بلاد الشام ، وهو الذي قتل رسول النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى ملك بصرى الشام . لكن المسلمين لم يشتبكوا مع السرية ولم يثأروا لقتل ابن عمير رسول النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لأن هدف الغزوة ومقصدها جيش الروم ، وليس الجيش العربي ، أو حراس الحدود !
راجع أيضاً : مكاتيب الرسول : 1 / 204 ، الطبقات : 2 / 128 والتنبيه والإشراف / 230 .
--------------------------- 371 ---------------------------
7 - ثم فاجأهم الروم فانحازوا إلى مؤتة
تفاجأ المسلمون بأول كتائب الروم في قرية مشارف ، فلم يشتبكوا معهم وانسحبوا إلى قرية مؤتة ، فلحقت بهم قوات الروم وكانت المعركة .
قال ابن هشام : 3 / 832 : « حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة ، فالتقى الناس عندها فتعبأ لهم المسلمون ، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بنى عذرة يقال له قطبة بن قتادة ، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك . . والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ، ثم قاتل حتى قتل وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها
والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
على إذ لاقيتها ضرابها
وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء » .
وقد وصف أبو هريرة خوف المسلمين من جيش الروم بقوله : « شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب ، فبرق بصرى فقال لي ثابت بن أرقم : ما لك يا أبا هريرة ، كأنك ترى جموعاً كثيرة ! قلت : نعم » ! تاريخ دمشق : 2 / 13 .
أي خافوا من الروم فانهزموا ، وثبت القادة الثلاثة وقليل معهم .
8 - سبب تحريف السلطة معركة مؤتة
تعمد رواة السلطة تحريف معركة مؤتة ليخفوا دور جعفر بن أبي طالب في قيادتها ، وليغطوا هزيمة المسلمين فيها ، خاصة هزيمة خالد بن الوليد !
--------------------------- 372 ---------------------------
لذلك عندما تقرأ نصوصها يغيب عنك دور جعفر عندما تحير المسلمون في وادى القرى أو في معان هل يواصلون السير أم يكتبون إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليمدهم برجال أو يأمرهم بالرجوع ؟ وأين كان عبد الله بن رواحة حتى وصل إليهم في معان متأخراً ، وشجعهم على السير ؟ ولماذا انسحبوا عندما واجهوا الروم في قرية مشارف قبل مؤتة ؟ وكيف برز القادة الثلاثة وحدهم ولم يبرز أحد من المسلمين ؟ ولم يستشهد من المسلمين إلا خمسة أو ثمانية ؟ وهم كما رواه ابن هشام : 3 / 840 : مسعود بن الأسود ، ووهب بن سعد ، وعباد بن قيس ، والحارث بن النعمان ، وسراقة بن عمرو بن عطية ، ويقال استشهد آخرون !
وهل برز هؤلاء أم قتلوا في حملة ؟ وأين كان خالد فلم يبرز ولم يأخذ الراية بعد شهادة القادة الثلاثة ، بل أخذها شخص ثم أخذها ثابت بن أقرم ، ثم أخذها منه خالد ؟ ومتى كانت معركة السبعة أيام المزعومة ، وما هي أخبارها ؟
وأين الروايات عن قتال خالد والثلاثة آلاف مقاتل ، حتى كسر خالد تسعة سيوف كما زعم ! وكيف حول الهزيمة إلى نصر فسماه النبي ( صلى الله عليه وآله ) سيف الله !
ولماذا لا نجد وصفاً لقتال خالد ولاغيره ، مع أي رومى قائد أو جندي ، اللهم إلا قتل رجل يمنى مددى لجندى رومى غيلةً والمسلمون منسحبون ، فغنم منه شيئاً ، فناصفه فيه خالد !
وزعموا أن المسلمين انتصروا بقيادة خالد فأين الغنائم ، ولماذا لم يأخذوا حصن الكرك قرب مؤتة ، وهو مركز قيادة مهم للروم ؟
وإذا كانوا انتصروا ، فلماذا استقبلهم أهل المدينة يحثون في وجوههم التراب ويصيحون عليهم يا فرارين ! حتى استتر المعروفون منهم في بيوتهم فلم يخرجوا مدة خوفاً من توبيخ المسلمين ! حتى رفع عنهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) غضب المسلمين وقال إنهم كرارون إن شاء الله ، فتجرؤوا على الخروج !
فالصورة الصحيحة لمعركة مؤتة : أنها كان فيها هزيمة ، لكنها مع ذلك كانت رسالة قوية إلى هرقل وهو يحضر لغزو النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويستعد للسفر ماشياً إلى بيت المقدس ،
--------------------------- 373 ---------------------------
فكانت منطقة الشام والأردن وفلسطين في حالة استنفار .
كان جيش المسلمين إلى مؤتة خليطاً من مسلمين قدامي وجدد ، ومنهم خالد الذي أسلم قبل شهرين ، لكن قادته الثلاثة الذين عينهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانوا شجعاناً وقد أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يرى هرقل هذه النماذج المميزة ، فأراه إياها !
أما الباقون فلم يكونوا بمستواهم ولذلك ترددوا عندما وصلوا إلى أم القرى على بعد 380 كلم من المدينة ، أي أقل من نصف الطريق إلى مركز جيش هرقل في الكرك ! وطلبوا من قائدهم أن يراسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليأمرهم بالرجوع إلى المدينة أو يمدهم بجيش آخر ، لأنه لا طاقة لهم بجيش هرقل ! فشجعهم جعفر وزيد وابن رواحة ، فواصلوا السير إلى معان واستراحوا فيها يومين ليعرفوا الجو ، فسمعوا بأخبار جيش الروم ، وأعادوا الكلام مع قائدهم ليراسل النبي فشجعهم على السير فساروا ، حتى تفاجؤوا بمهاجمة الروم لهم قرب مؤتة ، فانحازوا إلى مؤتة القريبة فتبعهم الروم ، فثبت القادة الثلاثة وقاتلوا قتال الأبطال حتى الشهادة ، وفتكوا بجيش الروم فتكاً لم يعرفوه من قبل ، وإن لم يذكر التاريخ عدد قتلاهم من الروم .
وقتل من المسلمين خمسة كانوا حول القادة ، أو لحق بهم الروم وقتلوهم ، وفر الباقون بقيادة خالد حتى قال أحدهم إنه لم يرَ في عمره أسوأ من تلك الهزيمة !
كما بالغ الرواة في عدد جيش الروم الذي واجه المسلمين فجعلوه مئة ألف من الروم ومئة ألف من عرب الشام ، مع أن جيشه الذي غزا به عاصمة الفرس قبل سنة ،
كان سبعين ألفاً !
9 - القتال سبعة أيام في مؤتة كذبة من أجل خالد !
تؤكد مصادر الحديث الصحيح عند الدولة على كذبة مفضوحة بأن المعركة استمرت سبعة أيام ، مع أنها كانت يوماً واحداً ، وكان أبطالها بضعة عشر نفراً هم جعفر « عليها السلام » وزملاؤه القادة ونخبة معهم ! وبعد استشهادهم انهزم المسلمون فأخذ الراية قطبة بن عامر وحاول أن يواصل المعركة فلم يطيعوه ، وأطاعوا
--------------------------- 374 ---------------------------
خالد بن الوليد الذي انهزم بهم ! « وانهزم المسلمون أسوأ هزيمة ، وأتبعهم المشركون فجعل قطبة بن عامر يصيح : يا قوم يقتل الرجل مقبلاً أحسن من أن يقتل مدبراً فما يثوب إليه أحد » . الإمتاع : 1 / 340 .
« قال أبو عامر : أسوأ هزيمة رأيتها قط حتى لم أر اثنين جميعاً » ! سبل الهدي : 6 / 150 .
ومع ذلك رووا بعين يابسة ، سبل الهدي : 6 / 150 : « عن برذع بن زيد قال : اقتتل المسلمون مع المشركين سبعة أيام . وروى الحاكم عن أبي هريرة وأبى سعيد الخدري ، وأبو عامر والزهري ، وعروة ، وابن عقبة ، وعطاف بن خالد ، وابن عائذ وغيرهم ، وهو ظاهر قوله ( صلى الله عليه وآله ) في حديث أنس : ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه » ! « وفى حديث أبي قتادة مرفوعاً : ثم أخذ خالد بن الوليد اللواء ولم يكن من الأمراء ، هو أمَّرَ نفسه ، ثم رفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إصبعه ثم قال : اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره . فمن يومئذ سمى خالد بن الوليد سيف الله ! رواه الإمام أحمد برجال ثقات . ويشهد له بالصحة ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والبرقاني » !
كذبٌ ما بعده كذب ! جعلوا بطولات خالد فيها على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانت كل غنائمها غنيمة اليمنى المددى من جندي رومى قتله غيلةً ، وقد أخذ خالد نصف سلبه ، لأنه استكثره على المددي !
إن أصل كذبة القتال من خالد ! فقد قال كما رواه بخاري : 5 / 87 : « لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية » !
10 - وصفَ النبي « صلى الله عليه وآله » المعركة للمسلمين وصفاً حياً
كشف الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) مؤتة وهو في المدينة فوصفها لأصحابه وصفاً حياً :
روى في الخرائج : 1 / 166 : « قال جابر : فلما كان اليوم الذي وقعت فيه حربهم صلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنا الغداة ، ثم صعد المنبر فقال : قد التقى إخوانكم مع المشركين للمحاربة ، فأقبل يحدثنا بكرات بعضهم على بعض ، إلى أن قال : أخذها جعفر بن أبي طالب وتقدم للحرب بها . ثم قال : قد قطعت يده ، وقد أخذ الراية بيده الأخري ، ثم قال : وقطعت
--------------------------- 375 ---------------------------
يده الأخرى وقد احتضن الراية في صدره . ثم قال : قتل جعفر وسقطت الراية ، ثم أخذها عبد الله بن رواحة ، وقد قتل من المشركين كذا ، وقتل من المسلمين فلانٌ وفلانٌ ، إلى أن ذكر جميع من قتل من المسلمين بأسمائهم . ثم قال : قتل عبد الله بن رواحة ، وأخذ الراية خالد بن الوليد وانصرف المسلمون .
ثم نزل عن المنبر وصار إلى دار جعفر ، فدعا عبد الله بن جعفر فأقعده في حجره وجعل يمسح على رأسه . فقالت والدته أسماء بنت عميس : يا رسول الله إنك لتمسح على رأسه كأنه يتيم . قال : قد استشهد جعفر في هذا اليوم ! ودمعت عينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : قطعت يداه قبل أن يستشهد ، وقد أبدله الله من يديه جناحين من زمرد أخضر ، فهو الآن يطير بهما في الجنة مع الملائكة كيف يشاء » . ونحوه في الثاقب في المناقب / 101 ، وفيه : « ثم ورد عليه ابن مُنْية فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إن شئت أخبرتك وإن شئت أخبرني . فقال : بل أخبرني يا رسول الله فأخبره خبره كله قال : وإنك والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفاً لم تذكره . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم » .
وفى الكافي : 8 / 376 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « بينما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المسجد إذ خفض له كل رفيع ورفع له كل خفيض ، حتى نظر إلى جعفر يقاتل الكفار قال : فقتل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قتل جعفر ! وأخذه المغص في بطنه » .
فلم يمدح النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا جعفراً وزيداً وابن رواحة ، لكنهم زادوا ذكر خالد ! وسرقوا له من على ( عليه السلام ) لقب سيف الله ! والحقيقة أنه انهزم بالمسلمين !
وروى الواقدي : 2 / 763 وابن عساكر : 49 / 337 : « لما أخذ خالد اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة ، وقتل المسلمون واتبعهم المشركون ، فجعل قطبة بن عامر يصيح : يا قوم ، يقتل الرجل مقبلاً أحسن من أن يقتل مدبراً ، يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد ، ويتبعون صاحب الراية منهزماً » .
--------------------------- 376 ---------------------------
11 - توبيخ المسلمين لخالد وجيش مؤتة
وصف الواقدي : 2 / 760 وغيره ، رجوع جيش مؤتة إلى المدينة ، وفيه قول أبي هريرة : « شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب ، فبرق بصري !
عن عاصم بن عمر قال : وجد في بدن جعفر أكثر من ستين جرحاً ووجد به طعنةٌ قد أنفذته . لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمةٍ رأيتها قط في كل وجهٍ . ثم إن المسلمين تراجعوا . فأقبل رجلٌ من الأنصار يقال له ثابت بن أرقم فأخذ اللواء وجعل يصيح بالأنصار فجعل الناس يثوبون إليه من كل وجهٍ وهم قليل وهو يقول : إلى أيها الناس ! فاجتمعوا إليه ، قال : فنظر ثابت إلى خالد بن الوليد فقال : خذ اللواء يا أبا سليمان ! فقال : لا آخذه أنت أحق به . أنت رجلٌ لك سنٌّ وقد شهدت بدراً . ولما أخذ اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة ، فجعل قطبة بن عامر يصيح : يا قوم ، يقتل الرجل مقبلاً أحسن أن يقتل مدبراً ! يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد هي الهزيمة ! ويتبعون صاحب الراية منهزماً » !
سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول : انكشف خالد بن الوليد يومئذٍ حتى عيروا بالفرار وتشاءم الناس به . لقيهم أهل المدينة بالشر حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله ، فيدق عليهم الباب فيأبون أن يفتحوا له يقولون : ألا تقدمت مع أصحابك ! وكان في ذلك البعث سلمة بن هشام بن المغيرة فدخلت امرأته على أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقالت أم سلمة : ما لي لا أرى سلمة بن هشام آشتكى شيئاً قالت امرأته : لا والله ولكنه لا يستطيع الخروج إذا خرج صاحوا به وبأصحابه يا فرار أفررتم في سبيل الله ، حتى قعد في البيت ، فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : بل هم الكرار في سبيل الله فليخرج ! فخرج .
عن أبي هريرة قال : كنا نخرج ونسمع ما نكره من الناس لقد كان بيني وبين ابن عمٍّ لي كلام فقال : إلا فرارك يوم مؤتة ! فما دريت أي شيء أقول له .
« لقيهم الصبيان يشتدون . وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون : يا فُرَّار ،
--------------------------- 377 ---------------------------
فررتم في سبيل الله ! وقال عبد الله بن عمر : فحاص الناس وكنت فيمن حاص . فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف ؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة قُتلنا ، فقدمنا المدينة في نفر ليلاً فاختفينا ، ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فاعتذرنا إليه ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال : من القوم ؟ قلنا : نحن الفَرارون . قال : بل أنتم الكرارون وأنا فئتكم . فقبلنا يده » .
وقد أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يرفع معنوياتهم لأن المهم وصول رسالته إلى هرقل بالمقاتلين النوعيين جعفر ورفقائه .
« عن الزهري : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما أخبر الناس بقتل القادة الثلاثة بكى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهم حوله فقال لهم : وما يبكيكم ؟ فقالوا : وما لنا لا نبكي ، وقد ذهب خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منا ؟ ! فقال لهم ( صلى الله عليه وآله ) : لا تبكوا فإنما مثل أمتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فأصلح رواكبها وبنى مساكنها وحلق سعفها ، فأطعمت عاماً فوجاً ثم عاماً فوجاً ثم عاماً فوجاً . فلعل آخرها طعماً أن يكون أجودها قنواناً ، وأقومها شمراخاً ! والذي بعثني بالحق نبياً ، ليجدن عيسى بن مريم في أمتي خلفاً من حوارييه » . أمالي الطوسي / 88 .
12 - رغم الهزيمة وصلت رسالة النبي « صلى الله عليه وآله » إلى هرقل !
فهمَ هرقل غزوة مؤتة على أنها غارة نوعية من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومع أن المسلمين انهزموا ولم يثبت إلا قادتهم ، لكنه أخذ بحسابه نوعيات المقاتلين المسلمين وهو يواصل الإعداد لحملته على المدينة . وبينما كان هرقل يواصل إعداده للحملة ، فتح الله تعالى على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) مكة ، ومات الحارث بن أبي شمر الذي هو ركن في حملة هرقل ، ولم يجدوا شخصاً بكفاءته يحكم الشام ، فنصب هرقل الأيهم شيخ غسان ملكاً وكان كبير السن ، ثم ملك ابنه جبلة ، « اليعقوبي : 1 / 207 » ولم يكن لهما شجاعة الحارث ولا رغبته في غزو المدينة ، لذلك ركز هرقل على الأكيدر ملك دومة الجندل وشيخ قبائل كندة ، وواصل العمل .
وكانت دعاية هرقل قوية في المدينة ، فعندما تحدث عمر بن الخطاب عن
--------------------------- 378 ---------------------------
غضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) على نسائه واعتزاله لهن ، قال إن ذلك كان أيام توقع وصول حملة الروم على المدينة ! قال عمر كما في البخاري : 3 / 104 : « وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا ، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابى ضرباً شديداً وقال : أنائم هو ؟ ففزعت فخرجت إليه وقال : حدث أمر عظيم ! قلت : ما هو أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم منه وأطول طلق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نساءه ! قال : قد خابت حفصة وخسرت ، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون » !
وغزو غسان للمدينة أي غزو هرقل ، وأشاعوا أنه أعد مئة ألف من مقاتلى عرب الشام ومن أطاع الأكيدر من كندة ، مقدمة للجيش الرومي المحترف بقيادة هرقل ، كما فعل في غزو فارس .
وقال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل ، وكانت تلك النواحي مملكة عظيمة مما يلي الشام ، وكان يهدد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأن يقصده ويقتل أصحابه ويبيد خضراءهم ! وكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خائفين وجلين من قِبَله حتى كانوا يتناوبون على رسول الله كل يوم عشرون منهم ، كلما صاح صائح ظنوا أن قد طلع أوائل رجاله !
وأكثرَ المنافقون الأراجيف والأكاذيب وجعلوا يتخللون أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) ويقولون : إن أكيدر قد أعد لكم من الرجال كذا ومن الكراع كذا ومن المال كذا ، وقد نادى فيما يليه من ولايته : ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة ! ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم : وأين يقع أصحاب محمد من أصحاب أكيدر ؟ يوشك أن يقصد المدينة فيقتل رجالها ويسبى ذراريها ! حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين فشكوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما هم عليه من الجزع .
ثم إن المنافقين اتفقوا وبايعوا لأبى عامر الراهب الذي سماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الفاسق وجعلوه أميراً عليهم وبخعوا له بالطاعة » . تفسير الإمام العسكري « عليه السلام » / 481 .
وستأتي غزوة تبوك التي قادها النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه في السنة التالية ، ومراسلته لهرقل !
--------------------------- 379 ---------------------------
13 . من مناقب جعفر بن أبى طالب « عليه السلام »
1 . يدلنا على مقام جعفر بن أبي طالب سلام الله عليه : جناحاه اللذان خصه الله بهما دون أهل الجنة . واحترام النبي ( صلى الله عليه وآله ) له وشهاداته بحقه . ونشأته الملائكية التي أوحى الله إلى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أنه يشكرها له !
ففي علل الشرائع : 2 / 558 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « أوحى الله تعالى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال ، فدعاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره فقال : لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك : ما شربت خمراً قط لأنى علمت أنى إن شربتها زال عقلي . وماكذبت قط لأن الكذب ينقص المروءة . وما زنيت قط لأنى خفت أنى إذا عملت عُمل بي . وما عبدت صنماً قط لأنى علمت أنه لا يضر ولا ينفع ! قال : فضرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) على عاتقه وقال : حقَّ لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة » !
2 . وفى الكافي : 1 / 49 عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « لما كان يوم مؤتة كان جعفر على فرسه فلما التقوا نزل عن فرسه فعرقبها بالسيف ، وكان أول من عرقب في الإسلام » .
3 . في المناقب : 1 / 176 : « سنة ثمان في جمادى الأولى وقعة مؤتة وهم ثلاثة آلاف .
في كتاب أبان قال الصادق ( صلى الله عليه وآله ) : إنه استعمل عليهم جعفراً فإن قتل فزيد ، فإن قتل فابن رواحة ، ثم خرجوا حتى نزلوا معان ، فبلغهم أن هرقل قد نزل بمأرب في مائة الف من الروم ومائة ألف من المستعربة ، فانحازوا إلى أرض يقال لها المشارف ، ونسبت السيوف المشرفية إليها لأنها طبعت لسليمان بن داود « عليهما السلام » ، فاختلفوا في القتال أو في إخبار النبي ( صلى الله عليه وآله ) بكثرتهم فقال ابن رواحة : ما نقاتل الناس بكثرة ، وإنما نقاتلهم بهذا الدين ! فلقوا جموعهم بقرى البلقاء ، ثم انحازوا إلى مؤتة .
وفى البخاري : نعى النبي جعفراً وزيداً وابن رواحة قبل أن يجئ خبرهم وعيناه تذرفان . زيد بن أرقم : حارب جعفر على أشقره حتى عقر ، وهو أول من عقر
--------------------------- 380 ---------------------------
فرسه في الإسلام ، فحارب راجلاً حتى قتل .
فضيل بن يسار عن الباقر ( عليه السلام ) قال : أصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة ، خمس وعشرون منها في وجهه » .
في المنمق لابن حبيب / 417 : « لما قدم جعفر بن أبي طالب على النجاشي أعطاه سيفاً يقال له الغمام فقاتل به يوم مؤتة وهو يقول :
قد علمت فهر وفهر حاكمه * أنى منها في الذرى والغلصمه
كم قط من شاكلة وجمجمه » .
وفى التنبيه والإشراف / 230 ، أن هرقل : « يومئذ مقيم بأنطاكية وعلى الروم تيادوقس البطريق ، وعلى متنصرة العرب من غسان وقضاعة وغيرهم شرحبيل بن عمرو الغساني ، فقتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب بعد أن عرقب فرسه ، وهو أول فرس عرقبت في الإسلام ، وجرح نيفاً وتسعين جراحة كلها في مقادمه وقتل عبد الله بن رواحة ، ورجع خالد بن الوليد بالناس » .
4 . وفى الكافي : 1 / 450 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء ، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنة ، لم ينْحَل أحد من هذه الأمة جناحان غيره شئ كرم الله به محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وشرفه . والسبطان الحسن والحسين والمهدى يجعله الله من شاء منا أهل البيت ، ثم تلا هذه الآية : وَمَنْ يطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيما » .
وفى أمالي الطوسي / 723 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : رقدت بالأبطح على ساعدي ، وعلى عن يميني ، وجعفر عن يساري ، وحمزة عند رجلي ، قال : فنزل جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ففزعت لخفق أجنحتهم . قال : فرفعت رأسي فإذا إسرافيل يقول لجبرئيل : إلى أي الأربعة بعثت وبعثنا معك ؟ قال : فركض برجله فقال : إلى هذا وهو محمد سيد النبيين ، ثم قال : من هذا الآخر ؟ قال : هذا أخوه ووصيه وابن عمه وهو سيد الوصيين . ثم قال : فمن الآخر ؟ قال : جعفر بن أبي طالب ، له جناحان
--------------------------- 381 ---------------------------
خضيبان يطير بهما في الجنة . قال : ثم قال : فمن الآخر ؟ قال : عمه حمزة ، وهو سيد الشهداء يوم القيامة » .
5 . وفى المحاسن : 2 / 420 ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « سألت أبى ( عليه السلام ) عن المأتم فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) انتهى إليه قتل جعفر بن أبي طالب دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر فقال : أين بني ؟ فدعت بهم وهم ثلاثة : عبد الله وعون ومحمد ، فمسح رسول الله رؤوسهم فقالت : إنك تمسح رؤوسهم كأنهم أيتام ؟ فتعجب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من عقلها فقال : يا أسماء ألم تعلمي أن جعفراً استشهد فبكت ، فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا تبكى فإن جبرئيل ( عليه السلام ) أخبرني أن له جناحين في الجنة من ياقوت أحمر ، فقالت : يا رسول الله لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر ، لا ينسى فضله . فعجب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من عقلها ، ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : إبعثوا إلى أهل جعفر طعاماً ، فجرت السنة » .
وفى الفقيه : 1 / 177 ، أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال في جعفر وزيد : « كثر بكاؤه عليهما جداً وقال : كانا يحدثانى ويؤانسانى فذهبا جميعاً » .
6 . قال السيد شرف الدين « رحمه الله » في النص والاجتهاد / 279 ، ملخصاً : « حزن الإنسان عند موت أحبته وبكاؤه عليهم من لوازم العاطفة البشرية ، وهما من مقتضيات الرحمة ، ما لم يصحبهما شئ من منكرات الأقوال أو الأفعال . وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حديث عنه صحيح : مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان ! والسيرة القطعية بين المسلمين وغيرهم مستمرة على ذلك من غير نكير وأصالة الإباحة تقتضيه .
على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نفسه بكى في مقامات عديدة وأقر غيره على البكاء في موارد واستحسنه في موارد أخر ، وربما دعا إليه : بكى على عمه الحمزة أسد الله وأسد رسوله . . لما رأى حمزة قتيلاً بكي . كان يومئذ إذا بكت صفية يبكى وإذا نشجت ينشج ! وجعلت فاطمة تبكى فلما بكت بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . ولما رجع من أحُد
--------------------------- 382 ---------------------------
جعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ولكن حمزة لا بواكى له ! قال : ثم نام فانتبه وهن يبكين ، قال فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة . وبكى على جعفر وزيد وقال : أخواى ومؤنساى ومحدثاي . ولما جاءه نعى جعفر ، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها قال : ودخلت فاطمة وهى تبكى وتقول : واعماه ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : على مثل جعفر فلتبكِ البواكي » .
7 . قال البلاذري في أنساب الأشراف : 2 / 42 : « أتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع أخيه على ( عليه السلام ) وقد كان يسمع علياً يذم عبادة الأوثان فوقع في نفسه ذمها ، فلما دعاه رسول الله قبل دعاءه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن المبعث حق . وهاجر إلى الحبشة ومعه امرأته أسماء ابنة عميس الخثعمية ، وهى أخت أم الفضل لبابة بنت الحرث بن حزن الهلالية ، لأمها هند بنت عوف الحميرية ، فلم يزل مقيماً بالحبشة في جماعة تخلفوا معه من المسلمين . ثم قدم على رسول الله في سنة سبع من الهجرة بعد فتح خيبر فاعتنقه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : لست أدرى أي الأمرين أسرّ إلى أفتح خيبر أم قدوم جعفر . وقدم معه المدينة ثم وجهه في جيش إلى مؤتة من بلاد الشام فاستشهد وقطعت يداه في الحرب فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة ، فسمى ذا الجناحين وسمى الطيار في الجنة . ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين أتاه نعى جعفر على أسماء بنت عميس فعزاها به ، ودخلت فاطمة « عليها السلام » تبكى وهى تقول : وا عماه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : على مثل جعفر فلتبك البواكى ثم انصرف إلى أهله وقال : اتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا عن أنفسهم ، وضم عبد الله بن جعفر إليه ومسح رأسه وعيناه تدمعان وقال : اللهم أخلف جعفراً في ذريته بأحسن ما خلفت به أحداً من عبادك الصالحين . واستشهد جعفر ، وهو ابن نحو من أربعين سنة ، وذلك في سنة ثمان من الهجرة . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أشبهنى جعفر في خلقي وخلقي » . وفى رواية ابن هشام : 3 / 832 : ثلاثاً وثلاثين سنة .
8 . وتدلنا قصائد شاعرى النبي ( صلى الله عليه وآله ) حسان بن ثابت وكعب بن مالك ، على أن جعفراً ، كان قائد مؤتة وبطلها ، وأن الحكومات انتقصته بغضاً بأخيه « عليهما السلام » ! وهذا مختار
--------------------------- 383 ---------------------------
من شعرحسان من رواية ابن هشام : 3 / 837 .
ولقد بكيت وعز مهلك جعفرٍ * حِبُّ النبي على البرية كلها
ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي * من للجلاد لدى العقاب وظلها
بالبيض حين تسل من أغمادها * ضرباً وإنهال الرماح وعلها
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر * خير البرية كلها وأجلها
رزءاً وأكرمها جميعاً محتداً * وأعزها متظلماً وأذلها
للحق حين ينوب غير تنحل * كذباً وأنداها يداً وأقلها
فحشا وأكثرها إذا ما يجتدي * فضلاً وأبذلها ندى وأبلها
بالعرف ، غير محمد لا مثله * حي من احياء البرية كلها
وقال حسان :
تأوبنى ليل بيثرب أعسرُ * وَهَمٌّ إذا ما نوم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيجت لي عبرة * سفوحاً وأسباب البكاء التذكر
بلى إن فقدان الحبيب بلية * وكم من كريم يبتلى ثم يصبر
رأيت خيار المؤمنين تواردوا * شعوباً وخلفاً بعدهم يتأخر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعوا * جميعاً وأسباب المنية تخطر
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البدر من آل هاشم * أبى إذا سيم الظلامة مجسر
فطاعن حتى مال غير موسد * لمعترك فيه قنا متكسر
فصار مع المستشهدين ثوابه * جنان وملتف الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمد * وفاء وأمراً حازماً حين يأمر
فما زال في الاسلام من آل هاشم * دعائم عز لا يزلن ومفخر
--------------------------- 384 ---------------------------
هم جبل الإسلام والناس حولهم * رضامٌ إلى طود يروق ويقهر
بها ليل منهم جعفر وابن أمه * على ومنهم أحمد المتخير
همو أولياء الله أنزل حكمه * عليهم وفيهم ذو الكتاب المطهر
وقال كعب بن مالك :
وكأنما بين الجوانح والحشي * مما تأوبنى شهاب مدخل
وجدا على النفر الذين تتابعوا * يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صلى الاله عليهم من فتية * وسقى عظامهم الغمام المسبل
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم * حذر الردى ومخافة أن ينكلوا
فمضوا أمام المسلمين كأنهم * فنق عليهن الحديد المرفل
إذ يهتدون بجعفر ولوائه * قدام أولهم فنعم الأول
حتى تفرجت الصفوف وجعفر * حيث التقى وعث الصفوف مجدل
فتغير القمر المنير لفقده * والشمس قد كسفت وكادت تأفل
قرم علا بنيانه من هاشم * فرعاً أشم وسؤدداً ما ينقل
قوم بهم عصم الإله عباده * وعليهم نزل الكتاب المنزل
فضلوا المعاشر عزة وتكرماً * وتغمدت أحلامهم من يجهل
لا يطلقون إلى السفاه حباهم * ويرى خطيبهم بحق يفصل
بيض الوجوه ترى بطون أكفهم * تندى إذا اعتذر الزمان الممحل
وبهديهم رَضِى الإله لخلقه * وبجدهم نصر النبي المرسل
14 . حول جناحي جعفر الطيار « عليه السلام »
1 . أجمع المسلمون على قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إن الله تعالى أعطى جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) جناحين يطير بهما في الجنة . وروى أن ذلك ثواب قطع يديه في سبيل الله ، « الخصال / 68 وفيض القدير : 4 / 12 » . وروى أنه تكريمٌ من الله لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) « الوافي : 3 / 713 » ، ولا منافاة بينهما .
--------------------------- 385 ---------------------------
2 . يصعب علينا فهم فائدة الجناحين في الجنة ، وقد ورد أنه يطير بهما في الجنة حيث يشاء ، ويطير بهما مع الملائكة . لكن يظهر من بعض أحاديثه أنه بذلك صار بإمكانه تحويل طبيعته البشرية إلى طبيعة ملائكية ، وأنه يسمح له بالنزول مع الملائكة إلى الأرض . وهو أمر عجيب .
في سمط النجوم : 2 / 245 : قال ( صلى الله عليه وآله ) : « رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة . . وفى رواية وصححها ، قال : مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة » .
وفى عمدة القاري : 17 / 270 : قال ( صلى الله عليه وآله ) : « رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة »
وفى مجمع الزوائد : 9 / 271 من رواية الطبراني وحسنه : « بينما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه ، قال : يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل صلى الله عليهما مروا فسلموا علينا فرددت عليهم السلام وأخبرني أنه لَقِى المشركين يوم كذا وكذا فأصبت في جسدي من مقاديمى ثلاثاً وسبعين طعنة وضربة ، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت ، ثم أخذته باليسار فقطعت ، فعوضنى الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة ، أنزل بهما حيث شئت ، وآكل من ثمارها ما شئت ! فقالت أسماء : هنيئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير ، ولكني أخاف أن لا يصدقني الناس فاصعد المنبر فأخبر الناس يا رسول الله .
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إن جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه يطير بهما في الجنة حيث شاء ، فسلم على فأخبر كيف كان أمرهم حين لَقِى المشركين » .
3 . وروى الترمذي والحاكم وغيرهما أن جناحي جعفر مخضبان بدمه ، وفى رواية الخرائج : جناحين من زمرد أخضر ، وفى رواية عقد الدرر : جناحان أخضران ، وفى رواية البيهقي في الدلائل وابن مندة أنهما من ياقوت . وفى رواية ربيع الأبرار : جناحين أبيضين قادمتاهما مضرجان بالدم مكللتان باللؤلؤ والجوهر ، وفى رواية كنز العمال موشيان بالجوهر .
--------------------------- 386 ---------------------------
فإن أمكن الجمع بين هذه الروايات ، فبه ، وإلا فالمرجح رواية المحاسن الصحيحة السند : 2 / 419 : « وجعل له جناحين من ياقوت » .
4 . ورد أن جناحين جعفر ( عليه السلام ) في الجنة كرامة خاصة بجعفر ( عليه السلام ) : « لم ينحل أحد من هذه الأمة جناحان غيره ، شئ كرم الله به محمداً ( صلى الله عليه وآله ) وشرفه » « الكافي : 1 / 450 » . لكن روينا أن الله تعالى أعطى العباس بن علي ( عليه السلام ) جناحين يطير بهما في الجنة لنصرته الحسين ( عليه السلام ) ولأن يداه قطعتا مثل عمه جعفر « عليهما السلام » .
ففي الصحيح في الأمالي ، الصدوق / 547 : « نظر سيد العابدين علي بن الحسين إلى عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب « عليهم السلام » فاستعبر ، ثم قال : ما من يوم أشد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من يوم أحد ، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب .
ثم قال ( عليه السلام ) : ولا يوم كيوم الحسين ( عليه السلام ) ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل ، يزعمون أنهم من هذه الأمة ، كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه ، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً . ثم قال ( عليه السلام ) : رحم الله العباس ، فلقد آثر وأبلي ، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه ، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة » .
ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الله لم ينحل أحداً من الأمة من قبل جعفر ( عليه السلام ) ، ثم نحل بعده العباس « عليهما السلام » ، وذلك كقوله تعالى عن يحيى ( عليه السلام ) : إسْمُهُ يحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِياً ، أي لم نجعل قبله ، وجعلنا من بعده الحسين ( عليه السلام ) وكان مثله في الحيوية وفى الشهادة الفجيعة ، وفى إهداء رأسه على طبق من ذهب إلى عدوه ! والمعنى هنا : لم ينحل أحد قبل جعفر جناحين ، ونُحل بعده العباس « عليهما السلام » .
5 . روى الصدوق ، الأمالي / 629 : « ومن صام من رجب عشرة أيام جعل الله عز وجل له جناحين أخضرين منظومين بالدر والياقوت ، يطير بهما على الصراط كالبرق
--------------------------- 387 ---------------------------
الخاطف إلى الجنان » . وهذان جناحان لطيرانٍ خاص عن الصراط فقط .
لكن غير المعقول منامات غلاة الحنابلة كخزيمة الإسكندراني ، قال : « نمت فرأيت أحمد بن حنبل عليه أثواب خضر ، وعلى رأسه تاج من ذهب ، وفى رجليه نعلان وهو يمشى مشية يختال فيها . فإذا سفيان الثوري له جناحان أخضران ، وهو يطير بهما من نخلة إلى نخلة » . تاريخ دمشق : 5 / 335
15 . حنين الجذع الذي كان يتكئ عليه النبي « صلى الله عليه وآله » ويخطب
في الكافي لأبى الصلاح الحلبي / 76 : « وأما دلالة المعجزات الخارجة عن القرآن على نبوته ( صلى الله عليه وآله ) فهي انشقاق القمر ، ورجوع الشمس ، ونبوع الماء من أصابعه ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصي . . . فطريق العلم بها المشاهدة لمن حضره ، والنقل المتواتر لمن نأى عن داره ، وتأخر وجوده عن وجوده » .
ونحوه الإقتصاد للشيخ الطوسي / 181 ، وفيه : « وليس يمكن أن يقال : هذه الأخبار آحاد لايعَوَّل على مثلها ، لأن المسلمين تواتروها وأجمعوا على صحتها . . . وحنين الجذع لا يمكن أن يدعى أنه كان لتجويف فيه دخله الريح ، لأن مثل ذلك لا يخفي ، وكان لا يستكن بمجئ النبي إليه ويحن إذا فارقه » .
وفى النكت الاعتقادية للمفيد / 36 : « أما ظهور المعجز على يده ( صلى الله عليه وآله ) فأكثر من أن يحصى حتى ضبط المسلمون له ألف معجزة من جملتها : القرآن ، وانشقاق القمر وحنين الجذع ، ونبوع الماء من بين أصابعه . . » .
وفى المسلك في أصول الدين للمحقق الحلي / 304 : « ومن معجزاته ( صلى الله عليه وآله ) ما اشتهر نقله واستفاض مثل حنين الجذع ، وانشقاق القمر ، وكلام الذراع ، وإنباع الماء من أنامله ، وإطعام الخلق الكثير من الزاد القليل ، وغير ذلك من المعجزات ، التي يقوم من مجموعها الجزم بظهور المعجز » .
وفى إعلام الوري : 1 / 76 : « كان في مسجده بالمدينة يستند إلى جذع فيخطب الناس فلما كثر الناس اتخذوا له منبراً ، فلما صعده حن الجذع حنين الناقة فقدت
--------------------------- 388 ---------------------------
ولدها ، فنزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فضمه إليه فكان يئن أنين الصبى الذي يسَكَّت » .
وفى مستدرك سفينة البحار : 2 / 42 : « حنين الجذع لفراق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفيه قوله ( صلى الله عليه وآله ) : أسكن ، أسكن ، إن تشأ غرستك في الجنة فيأكل منك الصالحون ، وإن تشأ أعيدك كما كنت رطباً ، فاختار الآخرة على الدنيا . وذكر أن بنى أمية قلعوه حين جددوا بناء المسجد ، فأخذه أبي بن كعب وكان عنده حتى بَلِى فأكلته الأرضة وعاد رفاتاً » .
وفى بحار الأنوار : 17 / 326 : « فلما استوى عليه حنَّ ذلك الجذع حنين الثكلي ، فارتفع بكاء الناس وحنينهم وأنينهم ، وارتفع حنين الجذع وأنينه في حنين الناس وأنينهم ارتفاعاً بيناً ، فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذلك نزل عن المنبر وأتى الجذع فاحتضنه ومسح عليه يده وقال : أُسكن فما تجاوزك رسول الله تهاوناً بك ولا استخفافاً بحرمتك » .
وفى تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 188 ، حديث مفصل عن حنين الجذع والمؤمنين للنبي وأهل بيته الطاهرين ( صلى الله عليه وآله ) ، وقسوة قلوب الظالمين . وقد روت أصله مصادر غيرنا وذكرت أن ذلك كان في السنة الثامنة مثل : أسد الغابة : 1 / 23 ، الإمتاع : 5 / 51 ، الشفا : 1 / 303 ، صحيح ابن حبان : 14 / 436 وكنز العمال : 11 / 371 .
وفى تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 188 ، حديث مفصل عن حنين الجذع والمؤمنين للنبي وأهل بيته الطاهرين ( صلى الله عليه وآله ) ، وقسوة قلوب الظالمين . وقد روت أصله مصادر غيرنا وذكرت أن ذلك كان في السنة الثامنة مثل : أسد الغابة : 1 / 23 ، الإمتاع : 5 / 51 ، الشفا : 1 / 303 ، صحيح ابن حبان : 14 / 436 وكنز العمال : 11 / 371 .
- *
--------------------------- 389 ---------------------------
الفصل الحادي والستون
غزوة ذات السلاسل التي حذفوها من السيرة !
1 . غزوة ذات السلاسل برواية أهل البيت « عليهم السلام »
ذات السلاسل : اسم لمنطقة في الحجاز على بعد خمس مراحل من المدينة من جهة مكة ويعرف المكان باسم وادى الرمل ، وباسم السلسلة ، وقيل سميت الغزوة بذات السلاسل ، لأنهم جاؤوا بالأسرى مربوطين ببعضهم كسلسلة .
وسببها أن الله أخبر نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن جمعاً من قبائل سليم يستعدون لغزو المدينة ، فأرسل سرية من بضع مئات بقيادة أبى بكر ، فرجع منهزماً ، ثم أرسل عمر فرجع منهزماً ، ثم أرسل عمرو بن العاص فرجع منهزماً . فأرسل علياً ( عليه السلام ) ومعه أبو بكر وعمر وخالد وابن العاص فسلك طريقاً ضلل جواسيس سليم ، وأغار صباحاً مبكراً على مركز تجمعهم فنزلت سورة : وَالْعَادِياتِ ضَبْحًا . وهزمهم وأسر منهم وجاء بهم مقرنين في الحبال كأنهم سلسلة .
ففي أمالي الطوسي / 407 : « عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله عز وجل : وَالْعَادِياتِ ضَبْحًا ؟ قال : وجَّه رسول الله عمر بن الخطاب في سرية فرجع منهزماً يجبن أصحابه ويجبنه أصحابه ، فلما انتهى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لعلي : أنت صاحب القوم فتهيأ أنت ومن تريده من فرسان المهاجرين والأنصار . فوجهه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : أكمن النهار ، وسِر الليل ولا تفارقك العين . قال فانتهى على إلى ما أمره به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسار إليهم فلما كان عند وجه الصبح أغار عليهم فأنزل الله على نبيه : وَالْعَادِياتِ ضَبْحًا . . إلى آخرها » .
--------------------------- 390 ---------------------------
وفى الإرشاد : 1 / 162 : « ثم كانت غزاة السلسلة وذلك أن أعرابياً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فجثا بين يديه وقال له جئتك لأنصح لك ، قال : وما نصيحتك ؟ قال : قوم من العرب قد اجتمعوا بوادي الرمل وعملوا على أن يبيتوك بالمدينة . . » .
وفى مناقب آل أبي طالب : 2 / 328 : « أبو القاسم بن شبل الوكيل ، وأبو الفتح الحفار بإسنادهما عن الصادق ( عليه السلام ) ، ومقاتل والزجاج ووكيع والثوري والسدي وأبو صالح وابن عباس : أنه أنفذ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبا بكر في سبع مائة رجل ، فلما صار إلى الوادي وأراد الإنحدار فخرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً ، فلما قدموا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث عمر فرجع منهزماً ، فقال عمرو بن العاص : إبعثنى يا رسول الله فإن الحرب خدعة ولعلى أخدعهم . فبعثه فرجع منهزماً ، وفى رواية أنه أنفذ خالداً فعاد كذلك ، فساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذلك ، فدعا علياً ( عليه السلام ) وقال : أرسلته كراراً غير فرار ، فشيعه إلى مسجد الأحزاب ، فسار بالقوم متنكباً عن الطريق يسير بالليل ويكمن بالنهار ، ثم أخذ على محجة غامضة فسار بهم حتى استقبل الوادي من فمه ، ثم أمرهم أن يعكموا الخيل وأوقفهم في مكان وقال لا تبرحوا ، وانتبذ أمامهم وأقام ناحية منهم ، فقال خالد وفى رواية قال عمر : أنزلنا هذا الغلام في واد كثير الحيات والهوام والسباع ، إما سبع يأكلنا أو يأكل دوابنا ، وإما حية تعقرنا وتعقر دوابنا ، وإما يعلم بنا عدونا فيأتينا ويقتلنا ! فكلموه نعلو الوادي ، فكلمه أبو بكر فلم يجبه ، فكلمه عمر فلم يجبه ، فقال عمرو بن العاص : إنه لا ينبغي أن نضيع أنفسنا ! إنطلقوا بنا نعلو الوادي فأبى ذلك المسلمون ! وفى رواية أبت الأرض أن تحملهم ، أي لم يستطيعوا المشي ! قالوا فلما أحس ( عليه السلام ) الفجر قال : إركبوا بارك الله فيكم ، وطلع الجبل حتى إذا انحدر على القوم وأشرف عليهم قال لهم : اتركوا عكمة دوابكم ! قال فشمت الخيل ريح الإناث فصهلت ، فسمع القوم صهيل خيلهم فولوا هاربين .
وفى رواية مقاتل والزجاج أنه كبس القوم وهم غادون فقال : يا هؤلاء أنا رسول رسول الله إليكم أن تقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإلا ضربتكم بالسيف . فقالوا : انصرف عنا كما انصرف الثلاثة فإنك لا تقاومنا ! فقال ( عليه السلام ) : إنني لا أنصرف
--------------------------- 391 ---------------------------
أنا علي بن أبي طالب ، فاضطربوا وخرج إليه الأشداء السبعة وناصحوه وطلبوا الصلح فقال ( عليه السلام ) : إما الإسلام وإما المقاومة فبرز إليه واحد بعد واحد ، وكان أشدهم آخرهم وهو سعد بن مالك العجلي وهو صاحب الحصن فقتلهم ، فانهزموا ودخل بعضهم في الحصن ، وبعضهم استأمنوا وبعضهم أسلموا ، وأتوه بمفاتيح الخزائن .
قالت أم سلمة : انتبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) من القيلولة فقلت : الله جارك ما لك ؟ فقال : أخبرني جبرئيل بالفتح ونزلت : وَالْعَادِياتِ ضَبْحًا . !
قال أبو منصور الكاتب :
أقسم بالعاديات ضبحا * حقاً وبالموريات قدحا
وقال المدني :
وقوله والعاديات ضبحا * يعنى علياً إذْ أغار صُبحا
على سليم فشنها كفحا * فأكثر القتل بها والجرحا
وأنتم في الفُرش نائمونا !
فبشر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه بذلك وأمرهم باستقباله والنبي يتقدمهم ، فلما رأى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ترجل عن فرسه فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إركب فإن الله ورسوله عنك راضيان ، فبكى على ( عليه السلام ) فرحاً ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي لولا أنى أشفق أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح . . الخبر . وقال العوني :
من ذا سواه إذا تشاجرت القنا * وأبى الكماة الكر والإقداما
وتصلصلت حلق الحديد وأظهرت * فرسانها التصحاج والإحجاما
ورأيت من تحت العجاج لنقعها * فوق المغافر والوجوه قتاما
كشف الإله بسيفه وبرأيه * يظمى الجواد ويروى الصمصاما
ووزيره جبريل يقحمه الوغى * طوعا وميكال الوغى إقحاما
--------------------------- 392 ---------------------------
وقال الحميري :
وفى ذات السلاسل من سليم * غداة أتاهم الموت المبير
وقد هزموا أبا حفص وعمراً * وصاحبه مراراً فاستطيروا
وقد قتلوا من الأنصار رهطاً * فحل النذر أو وجبت نذور
أذادَ الموت مشيحة ضخاماً * جحاجحة يسد بها الثغور » .
ورواه في الخرائج : 1 / 167 ، وفيه : « وكان المشركون قد أقاموا رقباء على جبالهم ينظرون إلى كل عسكر يخرج إليهم من المدينة على الجادة ، فيأخذون حذرهم واستعدادهم ، فلما خرج على ترك الجادة وأخذ بالسرية في الأودية بين الجبال . فلما رأى عمرو بن العاص قد فعل على ذلك علم أنه سيظفر بهم فحسده ، فقال لأبى بكر وعمر ووجوه السرية : إن علياً رجل غِرٌّ لاخبرة له بهذه المسالك ، ونحن أعرف بها منه ، وهذا الطريق الذي توجه فيه كثير السباع ، وسيلقى الناس من معرتها أشد ما يحاذرونه من العدو فاسألوه أن يرجع عنه إلى الجادة !
فعرفوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذلك ، قال : من كان طائعاً لله ولرسوله منكم فليتبعنى ومن أراد الخلاف على الله ورسوله فلينصرف عني . فسكتوا وساروا معه ، فكان يسير بهم بين الجبال بالليل ويكمن في الأودية بالنهار ، وصارت السباع التي فيها كالسنانير ، إلى أن كبس المشركين وهم غارُّونَ آمنون وقت الصبح ، فظفر بالرجال والذراري والأموال فحاز ذلك كله ، وشد الرجال في الحبال كالسلاسل فلذلك سميت غزاة ذات السلاسل .
فلما كانت الصبيحة التي أغار فيها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على العدو ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل ، خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) وصلى بالناس الفجر وقرأ : وَالْعَادِياتِ . . في الركعة الأولي ، وقال : هذه سورة أنزلها الله على في هذا الوقت يخبرني فيها بإغارة على على العدو » .
وقال في الإرشاد : 1 / 113 : غزوة وادى الرمل ، ويقال : إنها كانت تسمى بغزوة السلسلة
--------------------------- 393 ---------------------------
وفيه / 116 : « فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لبعض من كان معه في الجيش : كيف رأيتم أميركم ؟ قالوا : لم ننكر منه شيئاً إلا إنه لم يؤم بنا في صلاة إلا قرأ بنا فيها بقل هو الله أحد ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) سأسأله عن ذلك ، فلما جاءه قال له : لمَ لم تقرأ بهم في فرائضك إلا بسورة الإخلاص ؟ فقال : يا رسول الله أحببتها . قال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فإن الله قد أحبك كما أحببتها . ثم قال له : يا علي لولا أنني أشفق أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر بملأ منهم إلا أخذوا التراب من تحت قدميك » !
ورواها فرات في تفسيره / 591 ، وفيه : « وما زال على ليلته قائماً يصلى حتى إذا كان في السحر قال لهم : إركبوا بارك الله فيكم ، قال : فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد : وَالْعَادِياتِ ضَبْحًا . فَالْمُورِياتِ قَدْحًا . فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا . فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا . . . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تخالط القوم ورب الكعبة » .
وفى تفسير فرات / 591 ، « وسار على فيمن معه متوجهاً نحو العراق وظنوا أنه يريد بهم غير ذلك الوجه حتى أتاهم من الوادي ، ثم جعل يسير الليل ويكمن النهار . . . فقتل منهم مائة وعشرين رجلاً وكان رئيس القوم الحارث بن بشر ، وسبى منهم مائة وعشرين ناهداً » . وتفسير القمي : 2 / 434 ، إعلام الوري : 1 / 382 وسماها غزوة وادى الرمل . وكشف الغمة : 1 / 230 وسماها غزاة السلسلة . وكذا العلامة في كشف اليقين / 151 . وتأويل الآيات : 2 / 839 و 843 ، عن أبي جعفر « عليه السلام » . . .
وروى في تفسير فرات / 599 ، رواية مفصلة في سبب نزول سورة العاديات ، خلاصتها أن أهل وادى اليابس جمعوا اثنى عشر ألفاً لغزو المدينة . .
وفى تأويل الآيات : 2 / 840 : « وأمر عليهم أبا بكر فسار إليهم ، فلقيهم قريباً من الحرة وكانت أرضهم أسنة كثيرة الحجارة والشجر ببطن الوادي والمنحدر إليهم صعب ، فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة . فلما قدموا على النبي عقد لعمر بن الخطاب وبعثه ، فكمن له بنو سليم بين الحجارة وتحت الشجر ، فلما ذهب ليهبط خرجوا عليه ليلاً فهزموه حتى بلغ جنده سيف البحر
--------------------------- 394 ---------------------------
فرجع عمر منهم منهزماً . فقام عمرو بن العاص إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أنا لهم يا رسول الله إبعثنى إليهم . فقال له : خذ في شأنك فخرج إليهم فهزموه وقتل من أصحابه ما شاء الله . قال : ومكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أياماً يدعو عليهم . . قال أبو جعفر : وكأني أنظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شيع علياً عند مسجد الأحزاب وعلى على فرس أشقر مهلوب وهو يوصيه . . فنزلت : وَالْعَادِياتِ ضَبْحًا . . قال : فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقول : صبَّح على والله جمع القوم ! ثم صلى وقرأ بها ، فلما كان اليوم الثالث قدم على ( عليه السلام ) المدينة وقد قتل من القوم عشرين ومائة فارس ، وسبى عشرين ومائة ناهد » .
أقول : سياق هذه الغزوة كسياق محاصرة حصن خيبر الذي عجز الصحابة عن فتحه ، فبعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) . وكذلك استقباله لعلى ( عليه السلام ) ومدحه له يشبه ما قاله في حقه بعد فتح خيبر . وهو يكشف عن خطورة تجمع بنى سليم وهم قبيلة كبيرة ومعهم لفيف من غيرهم .
وكان وقتها بعد الحديبية وبعد مؤتة ، ومع تحشيد هرقل لغزو المدينة . وقد تكون قريش أو هرقل حرَّكوا بنى سليم وأمدوهم ليغزوا المدينة .
2 . ملاحظات على تحريفهم ذات السلاسل
1 - لم نجد في مصادر السلطة شيئاً عن سبب نزول سورة العاديات إلا قولهم : « بعث ( صلى الله عليه وآله ) خيلاً فأسهبت شهراً لم يأته منها خبر فنزلت : وَالْعَادِياتِ ضَبْحًا » وهذا كل ما ذكروه ! أسباب النزول للواحدي / 305 والفائق للزمخشري : 2 / 172 .
ولا تعجب فغرضهم إخفاء فرار الفارين وبطولة على ( عليه السلام ) ! بل لم يهدأ بالهم حتى جعلوا العاديات الأباعر وليس الخيل ! ثم رووه عن علي ( عليه السلام ) !
قال ابن حجر في فتح الباري : 8 / 559 : « وعند البزار والحاكم من حديث ابن عباس قال بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خيلاً فلبثت شهراً لا يأتيه خبرها فنزلت : وَالْعَادِياتِ ضَبْحًا ، ضبحت بأرجلها ، فَالْمُورِياتِ قَدْحًا : قدحت الحجارة فأورت بحوافرها . فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا : صبحت القوم بغارة ، فأثَرْنَ به نَقْعاً : التراب . فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا : صبحت القوم
--------------------------- 395 ---------------------------
جميعاً . وفى إسناده ضعف ، وهو مخالف لما روى ابن مردويه بإسناد أحسن منه ! عن ابن عباس قال : سألني رجل عن العاديات فقلت : الخيل ، قال فذهب إلى علي فسأله فأخبره بما قلت ، فدعاني فقال لي : إنما العاديات الإبل من عرفة إلى مزدلفة . . الخ » !
وفى تفسير القرطبي : 20 / 155 ، أن ابن عباس تاب رجع عن قوله بأنها الخيل إلى قول على ( عليه السلام ) بأنها الإبل ! وفرح ابن حجر بذلك كبقية علماء السلطة ، لأنه يغطى غزوة ذات السلاسل ويجعل للإبل حوافر تورى بها الصوان قدحاً !
2 - « تقع ذات السلاسل من جهة مكة والبحر ، ومسافتها عن المدينة خمس مراحل أي خمسة أيام في المتوسط ، وكان لبنى سليم جواسيس في المدينة فاتجه على ( عليه السلام ) أولاً نحو العراق ليخدع جواسيس بنى سُليم بأنه متجه إلى العراق لا إليهم ، فهم إذن من الجهة المخالفة للعراق أي جهة مكة . وفى رواية : « فهزموه حتى بلغ جنده سيف البحر فرجع عمر منهم منهزماً » . « تأويل الآيات : 2 / 840 » . ومعناه أنها في جهة البحر الأحمر ، ويظهر أنها جبال رضوى وهى منازل بنى سليم ، « معجم البلدان : 3 / 181 » . وقد سمتها بعض رواياتها غزوة بنى سليم ، قال في كشف الغمة : 1 / 232 : « نزلت في حق على ( عليه السلام ) وانتصاره على بنى سليم » .
بينما جعلتها الحكومات بلاد بلى وعذرة التي تقع في أرض الشام قريب تبوك ، وجعلها بعضها في الكاظمة قرب البصرة . أي من الجهة المخالفة جغرافياً .
ويوجد ذات السلاسل قرب كاظمة كما في مكتبة الخرائط :
22 http : / / sirah . al - islam . com / map - pic . asp ? f = mapa
وهو اسم لمنطقة بعد وادى القرى من جهة الشام ، بينها وبين المدينة عشرة أيام كما « في الطبقات : 2 / 131 » . وسميت بذلك لأن جبالها متموجة كالسلاسل .
3 - لا تجد في غزوة ذات السلاسل الحكومية أسماء قتلى ولا وصف قتال ! بل تهافتاً في الهدف والنتيجة والأحداث ! فهي تقول مرة إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث ابن
--------------------------- 396 ---------------------------
العاص في مئتى فارس إلى أخواله عشيرة أمه النابغة ليدعوهم إلى الإسلام أو يقاتلهم ! وأن جمع العدو كان كثيراً فبعث ابن العاص إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يطلب مدداً فأمده بأبى عبيدة في ثلاث مئة فيهم أبو بكر وعمر ! واختلفوا مع ابن العاص لكنهم أطاعوه ، ثم لا تذكر أحداثاً مع عدو ولا معركة ! ومع ذلك تقول إن ابن العاص دوخ القبائل ، ورجع !
قال ابن هشام : 4 / 1040 : « وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بلى وعذرة ، وكان من حديثه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعثه يستنفر العرب إلى الشام .
وذلك أن أم العاص بن وائل كانت امرأة من بلي ، فبعثه رسول الله إليهم يستألفهم لذلك ، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام ، يقال له السلسل وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل ، فلما كان عليه خاف فبعث إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستمده ، فبعث إليه رسول الله أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر وقال لأبى عبيدة حين وجهه : لا تختلفا . فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو : إنما جئت مدداً لي ، قال أبو عبيدة : لا ، ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه ، وكان أبو عبيدة رجلاً ليناً سهلاً هيناً عليه أمر الدنيا ، فقال له عمرو : بل أنت مدد لي ، فقال أبو عبيدة : يا عمرو ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لي : لاتختلفا وإنك إن عصيتني أطعتك ، قال : فإني الأمير عليك وأنت مدد لي ، قال فدونك ، فصلى عمرو بالناس . . » .
ونحوه الطبري : 2 / 315 ، وذكر أن عدد سرية عمرو كان ثلاث مئة ، وقال : « فكان جميعهم خمس مائة » . ولم يذكر ابن هشام ولا ابن إسحاق ولا الطبري نتيجة هذه الغزوة أو السرية لأنها من أصلها مكذوبة ولا نتيجة ملموسة لها !
وتضحك من كلام ابن سعد في الطبقات : 2 / 131 ، قال : « كان عمرو يصلى بالناس ، وسار حتى وطأ بلاد بلى ودوخها ، حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين ، ولقى في آخر ذلك جمعاً فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا . ثم قفل » !
4 . وذكر رواة السلطة أنها كانت في الشتاء فقد أراد عمر أن يشعل ناراً فنهاه ابن العاص ، فكلمه أبو بكر وتصايحا فلم يقبل ، وقال من أشعل ناراً ألقيته فيها !
--------------------------- 397 ---------------------------
بينما نزلت سورة العاديات في الخيل التي أثارت بحوافرها النقع أي الغبار .
5 . في رواية الحكومة أن ابن العاص ذبح بعيراً لآخرين وسلخه وأخذ أجرته من لحمه فأطعمهم ، ولما عرف أبو بكر أنه أجرة ذبحه تقيأ ما أكله لأنه حرام ! ورووا فيها أن رجلاً اسمه رافع بن عمرو رافق أبا بكر فيها فقال له : عظني ، فوعظه بما وعظه به النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يبتعد عن الإمارة كل عمره ! ولما سمع ذلك الرجل بأن أبا بكر صار خليفة جاء اليه وذكَّره بما قاله فقال له : أجبرونى على الخلافة ، لأنهم خافوا على المسلمين الفرقة ! تاريخ دمشق : 18 / 10 وابن هشام : 4 / 104 .
وهذا يدل على أنهم كانوا في سرية صغيرة غير ذات السلاسل فجعلوها هي .
- *
--------------------------- 398 ---------------------------
الفصل الثاني والستون
غزوة فتح مكة
1 - قريش تنقض معاهدة الحديبية
كان بنود المعاهدة : حرية المسلمين في مكة ، وحرية قبائل العرب أن تتحالف مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو قريش ، ووضع الحرب بينهما عشر سنين . وعدم مساعدة المعتدى على أحد الطرفين . وإرجاع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من يأتيه مسلماً منهم . « فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت : نحن في عهد محمد رسول الله وعقده وقامت بنو بكر فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها » . القمي : 2 / 310 .
وبذلك جددت خزاعة وكنانة حلف المطيبين بين عبد المطلب وحلفائه من قريش وخزاعة ، وحلف لعقة الدم بين أمية وحلفائهم من قريش وكنانة !
قال اليعقوبي : 1 / 248 : « ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر ، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا ، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب ، فمشت بنو عبد الدار إلى بنى سهم فقالوا : إمنعونا من بنى عبد مناف . . فتطيب بنو عبد مناف ، وأسد ، وزهرة ، وبنو تيم ، وبنو الحارث بن فهر ، فسموا حلف المطيبين . فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا : من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا ! فأدخلت أيديها بنو سهم وبنو عبد الدار وبنو جمح وبنو عدى وبنو مخزوم ، فسموا اللعقة . وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً . وقالت اللعقة : قد اعتدنا لكل قبيلةٍ قبيلة » .
وبعد توقيع معاهدة الحديبية جاءت خزاعة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بكتاب حلفها مع جده عبد المطلب « رحمه الله » فأكده . ونصه كما في أنساب الأشراف للبلاذري / 46 : « باسمك اللهم ، هذا ما
--------------------------- 399 ---------------------------
تحالف عليه عبد المطلب بن هاشم ، ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك ابني أفصى بن حارثة ، تحالفوا على التناصر والمؤاساة ما بلَّ بحر صوفة ، حلفاً جامعاً غير مفرق ، الأشياخ على الأشياخ ، والأصاغر على الأصاغر ، والشاهد على الغائب . وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد وأوثق عقد ، لا ينقض ولا ينكث ، ما أشرقت شمس على ثبير وحن بفلاة بعير ، وما قام الأخشبان ، وعمر بمكة إنسان ، حلف أبد لطول أمد ، يزيده طلوع الشمس شداً ، وظلام الليل سداً . وإن عبد المطلب وولده ومن معهم دون سائر بنى النضر بن كنانة ، ورجال خزاعة ، متكافئون متضافرون متعاونون . فعلى عبد المطلب النصرة لهم ممن تابعه على كل طالب وتر ، في بر أو بحر أو سهل أو وعر . وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده ومن معهم على جميع العرب ، في شرق أو غرب ، أو حزن أو سهب . وجعلوا الله على ذلك كفيلا ، وكفى به حميلاً . هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة ، إذ قدم عليه سراتهم وأهل الرأي ، غائبهم مقر بما قضى عليهم شاهدهم ، أن بيننا وبينك عهود الله وعقوده ما لا ينسى أبداً ولا يأتي بلداً ، اليد واحدة ، والنصر واحد ما أشرف ثبير وثبت حراء وما بل بحر صوفه ، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبد الدهر سرمد » .
جاءت به خزاعة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) « فقرأه عليه أبي بن كعب فقال : ما أعرفنى بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف ، فكل حلف كان في الجاهلية ، فلا يزيده الإسلام إلا شدة ، ولاحلف في الإسلام » . مكاتيب الرسول : 3 / 234 .
وكانوا أخوال بني هاشم ، فأم وهب والد آمنة خزاعية ، وأم عبد مناف خزاعية وأم لؤي خزاعية . وكانوا يتعاطفون مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وينصحون له ويخبرونه أخبار قريش ، وعرفوا بأنهم : « عَيبَة نصح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . مكاتيب الرسول : 3 / 133 . وعيبة النصح تشبيه للمملوء نصحاً بصرة الثياب المملوءة .
أما كنانة فكانت مع مشركي قريش كخزاعة مع بني هاشم ، وكان بينها وبين خزاعة عداوة وثارات فقامت كنانة بعملية مباغتة تشبه المجزرة ، فهاجمت بيوت
--------------------------- 400 ---------------------------
خزاعة خارج الحرم وداخله وقتلت منهم أكثر من عشرين رجالاً ونساء وأطفالاً وساعدتها قريش بالسلاح وبمقاتلين ملثمين ، فنقضت بذلك معاهدة الحديبية ! وكانت الشرارة أن كنانياً هجا النبي ( صلى الله عليه وآله ) فضربه خزاعي . إعلام الوري : 1 / 215 .
وقَبِلَ الجميع رواية الواقدي / 469 ، وخلاصتها : « أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسمعه غلامٌ من خزاعة فوقع به فشجه ، فخرج إلى قومه فأراهم شجته ، فثار الشر ، مع ما كان بينهم . . فلما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهراً من صلح الحديبية ، تكلمت بنو نفاثة من بنى بكر أشراف قريش . . أن يعينوا بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة ، وذكروهم القتلى الذين أصابت خزاعة لهم . . فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً ، إلا أبا سفيان لم يشاور في ذلك ولم يعلم ، ويقال إنهم ذاكروه فأبى عليهم . . فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال ، ودسوا ذلك سراً لئلا تحذر خزاعة . . ثم اتعدت قريش الوتير موضعاً بمن معها فوافوا للميعاد ، فيهم رجالٌ من قريش من كبارهم متنكرون متنقبون : صفوان بن أمية ، ومكرز بن حفص بن الأخيف ، وحويطب بن عدب العزي ، وأجلبوا معهم أرقاءهم ورأس بنى بكر نوفل بن معاوية الدؤلي ، فبيتوا خزاعة ليلاً وهم غارُّون آمنون من عدوهم ، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى أنصاب الحرم فقالوا : يا نوفل إلهك إلهك ، قد دخلت الحرم ! قال : لا إله لي اليوم ! يا بنى بكر ، قد كنتم تسرقون الحاج ، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم ! فلما انتهت خزاعة إلى الحرم دخلت دار بديل بن ورقاء ، ودخلت رؤساء قريش في منازلهم وهم يظنون ألا يعرفوا وألا يبلغ هذا محمداً !
وجاء الحارث بن هشام ، وابن أبي ربيعة ، إلى صفوان بن أمية ، وإلى سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، فلاموهم فيما صنعوا من عونهم بنى بكر وأن بينكم وبين محمد مدة وهذا نقضٌ لها ! ومشيا إلى أبي سفيان فقالا : والله لئن لم يصلح هذا الأمر لايروعكم إلا محمد في أصحابه ! فقال : لا والله ما شوورت ولا هويت حيث بلغني ! والله ليغزونا محمدٌ إن صدقني ظني وهو صادقي . وما لي بدٌّ أن آتى محمداً فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر . فقالت قريش : قد والله أصبت
--------------------------- 401 ---------------------------
الرأي ! وندمت قريش على ما صنعت ، فخرج أبو سفيان وخرج معه مولى له على راحلتين فأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله . وقدم ركب خزاعة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بمن قتل منهم ، قال رسول الله : فمن تُهمتكم وظِنَّتُكم ؟ قالوا : بنو بكر . قال : كلها ؟ قالوا : لا ولكن تهمتنا بنو نفاثة قَصْرةً « كلهم » ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي .
قال ( صلى الله عليه وآله ) : هذا بطنٌ من بنى بكر ، وأنا باعثٌ إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال . فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث خلال : بين أن يدُوا خزاعة ، أو يبرؤوا من حلف نفاثة ، أو ينبذ إليهم على سواء .
فقال قرطة بن عبد عمرو : لا والله لا يودون ، ولا نبرأ من حلف نفاثة بن الغوث وهم بناء وأعمدة لشدتنا ، ولكن ننبذ إليه على سواء ! فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالأنقاب وعمَّى عليهم الأخبار ، حتى دخلها فجاءةً !
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد حرت في أمر خزاعة ! فقالت عائشة : يا رسول الله أترى قريشاً تجترئ على نقض العهد بينكم وبينهم ، وقد أفناهم السيف ؟
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ينقضون العهد لأمرٍ يريده الله تعالى بهم . قالت عائشة : خيرٌ أو شرٌّ يا رسول الله ؟ قال : خيرٌ » !
وإذا صح قوله ( صلى الله عليه وآله ) « حِرْتُ في أمر خزاعة » فمعناه : همَّنى ذلك ، وليس التحير في تفسيره أو فيما يعمل . ولعله ( صلى الله عليه وآله ) قاله ليحير قريشاً ، فلا تدرى ماذا ينوي .
2 - خزاعة تطالب النبي « صلى الله عليه وآله » بنصرتها وفاءً بحلفهم
قال في الصحيح من السيرة : 21 / 64 ملخصاً : « ذكر المؤرخون قدوم بديل بن ورقاء على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليخبره بالمجزرة التي ارتكبتها كنانة وقريش في بيته وعلى باب داره ، في حق رجال وصبيان ونساء ، وذكروا أيضاً لقاءه أبا سفيان في عسفان حين كان أبو سفيان متوجهاً إلى المدينة ، وبديل عائد منها .
وكانت مبادرة بديل بن ورقاء محاطة منه وممن معه بسرية تامة . . ولذلك لم يستطع أبو سفيان معرفة حقيقة الأمر ، فسكت عليه . كما قدم عمرو بن سالم
--------------------------- 402 ---------------------------
الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة يستنصرون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخبروه بالخبر ، فلما فرغوا من قصتهم ، قام عمرو بن سالم ، فقال :
يا رب إني ناشدٌ محمدا * حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتمُ ولداً وكنا والدا * ثَمَّتَ أسلمنا فلم ننزعْ يدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقَك المؤكدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا * هم أذلُّ وأقلُّ عددا
هم بيتونا بالوتير هُجَّدا * وقتلونا رُكَّعاً وسُجَّدا
وجعلوا لي في كداء رصدا * فانصر رسول الله نصراً أيدا
وادعُ عباد الله يأتوا مددا * فيهم رسول الله قد تجردا
إن سِيمَ خسفاً وجهُهُ تربَّدا * في فيلق كالبحر يجرى مُزبدا
قرمٌ لقرم من قروم أصيدا
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : حسبك يا عمرو ، ودمعت عيناه . أو قال : نُصرت يا عمرو بن سالم . فلما فرغ الركب قالوا : يا رسول الله ، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك فهدر رسول الله دمه ! فبلغ أنس بن زنيم ذلك ، فقدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) معتذراً عما بلغه فقال قصيدة منها :
فما حملت من ناقة فوق رحلها * أبرُّ وأوفى ذمة من محمد
وبلغت رسول الله قصيدته واعتذاره ، وكلم نوفل بن معاوية الديلي النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيه فقال له : أنت أولى الناس بالعفو ، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك ؟ ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع ، حتى هدانا الله بك من الهلكة ، وقد كذب عليه الركب وكثَّروا عندك ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : دع الركب فإنَّا لم نجد بتهامة أحداً من ذي رحم ولا بعيداً كان أبرَّ بنا من خزاعة ، فأسكت نوفل بن معاوية !
فلما سكت قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد عفوت عنه . فقال نوفل : فداك أبي وأمي .
وقالوا إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لعمرو بن سالم وأصحابه : إرجعوا وتفرقوا في الأودية ،
--------------------------- 403 ---------------------------
مخافة اكتشاف قريش لهم وانتقامها منهم فرجعوا وتفرقوا ، وذهبت فرقة إلى الساحل بعارض الطريق ، ولزم بديل بن ورقاء في نفر من قومه الطريق » .
3 - أحست قريش بجريمتها فحاولت أن تسترضى النبي « صلى الله عليه وآله »
قال المفيد « رحمه الله » في الإرشاد : 1 / 132 : « ولما دخل أبو سفيان المدينة لتجديد العهد بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين قريش ، عندما كان من بنى بكر في خزاعة وقتلهم من قتلوا منها ، فقصد أبو سفيان ليتلافى الفارط من القوم ، وقد خاف من نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لهم ، وأشفق مما حل بهم يوم الفتح ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكلمه في ذلك فلم يردد عليه جواباً ، فقام من عنده فلقيه أبو بكر فتشبث به وظن أنه يوصله إلى بغيته من النبي ( صلى الله عليه وآله ) فسأله كلامه له فقال : ما أنا بفاعل ، لعلم أبى بكر بأن سؤاله في ذلك لا يغنى شيئاً ، فظن أبو سفيان بعمر بن الخطاب ما ظنه بأبى بكر فكلمه في ذلك فدفعه بغلظة وفظاظة ، كادت أن تفسد الرأي على النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
فعدل إلى بيت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فاستأذن عليه فأذن له وعنده فاطمة والحسن والحسين « عليهم السلام » فقال له : يا علي ، إنك أمسُّ القوم بي رحماً وأقربهم منى قرابة ، وقد جئتك فلا أرجعن كما جئت خائباً ! إشفع لي إلى رسول الله فيما قصدته . فقال له : ويحك يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ! فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة « عليها السلام » فقال لها : يا بنت محمد ، هل لك أن تأمرى ابنيك أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر ؟ فقالت : ما بلغ بنياى أن يجيرا بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فتحير أبو سفيان وسقط في يده ، ثم أقبل على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا أبا الحسن ، أرى الأمور قد التبست على فانصح لي . فقال له أمير المؤمنين : ما أرى شيئاً يغنى عنك ، ولكنك سيد بنى كنانة فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك . قال : فترى ذلك مغنياً عنى شيئاً ؟ قال : لا والله لا أظن ، ولكني لا أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق !
--------------------------- 404 ---------------------------
فلما قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته فوالله ما رد على شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً ، ثم لقيت ابن الخطاب فوجدته فظاً غليظاً لا خير فيه ، ثم أتيت علياً فوجدته ألين القوم لي ، وقد أشار في بشئ فصنعته ، والله ما أدرى يغنى عنى شيئاً أم لا ، فقالوا : بمَ أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت . فقالوا له : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغنى عنك ؟
قال أبو سفيان : لا والله ما وجدت غير ذلك » .
ونحوه في مغازى الواقدي / 475 ، وفيه : « فقام بين ظهري الناس فصاح : ألا إني قد أجرت بين الناس ولا أظن محمداً يخفرني ! ثم دخل على النبي فقال : يا محمد ما أظن أن ترد جواري ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنت تقول ذاك يا أبا سفيان . لم يزد على ذلك » !
يبقى سؤال : كيف دخل أبو سفيان إلى المدينة ، وهو رأس الأحزاب وإمام أئمة الكفر ؟ والجواب : أن الهدنة كانت نوعاً من الأمان تسمح بالذهاب والمجئ بين المسلمين والقرشيين ، ولا بد أنه أرسل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يستأذن في المجئ .
4 - النبي « صلى الله عليه وآله » يتجهز لغزو مكة ويخفى مقصده
قرر النبي ( صلى الله عليه وآله ) غزو مكة وفتحها ، وأراد أن يكون ذلك مفاجأةً لقريش ، ولذلك دعا الله تعالى : « اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش ، حتى نَبْغَتَهَا في بلادها » . مناقب آل أبي طالب : 1 / 177 وابن هشام : 4 / 857 .
لكن كيف يمكن تجهيز جيش من ألوف والمسير به إلى مكة بدون أن تشعر قريش ؟ هنا كان الإعجاز ، مضافاً إلى ما قام النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو ما يلي :
1 - حرص أن لا يقول كلاماً يفهم منه العفو عن قريش ، وفى نفس الوقت أن لا يصرح بأنه سيغزوهم بسبب نقضهم للعهد !
2 - سكت ( صلى الله عليه وآله ) عن الأمر فترة : « مكث بعد خروج أبي سفيان ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال لعائشة : جهزينا وأخفى أمرك » . الصحيح من السيرة : 21 / 139 .
--------------------------- 405 ---------------------------
3 - ثم أصدر أمره بالتجهز للغزو ولم يفصح إلى أين : « وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهى تحرك بعض جهاز رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أي بنية أأمركم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن تجهزوه ؟ قالت : نعم فتجهز ، قال : فأين ترينه يريد ؟ قالت : لا والله ما أدري » . ابن هشام : 4 / 857 .
4 - أرسل إلى القبائل أن يوافوه في شهر رمضان للذهاب في غزوة ولم يخبرهم أين : « ودعا رئيس كل قوم ، فأمره أن يأتي قومه فيستنفرهم » . إعلام الوري : 1 / 219 .
5 - وأمر بضبط الداخل إلى المدينة والخارج منها : « وضع حرساً على المدينة ، وكان على الحرس حارثة بن النعمان » . إعلام الوري : 1 / 216 .
ولكن ذلك لم يكن كافياً بسبب فعالية قريش ، وكثرة المنافقين المرتبطين بها ، ولذلك احتاج الأمر إلى تدخل جبرئيل ( عليه السلام ) .
5 - الوَحْى يكشف خيانة بعض الصحابة
في تفسير القمي : 2 / 361 : « يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، ولفظ الآية عام ومعناها خاص . وكان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة ، وكان عياله بمكة ، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهل يريد أن يغزو مكة ؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك ، فكتب إليهم حاطب إن رسول الله يريد ذلك ، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية ، فوضعته في قرنها ومرَّت ، فنزل جبرئيل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بذلك ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها فقال لها أمير المؤمنين : أين الكتاب ؟ فقالت : ما معي ! ففتشوها فلم يجدوا معها شيئاً ، فقال الزبير : ما نرى معها شيئاً ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله ما كذَبَنَا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا كذَبَ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على جبرئيل ، ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه ! والله لتظهرن لي الكتاب أو
--------------------------- 406 ---------------------------
لأوردن رأسك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقالت : تنحيا حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرنها ، فأخذه أمير المؤمنين وجاء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا حاطب ما هذا ؟ فقال حاطب : والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقاً ، ولكن أهلي وعيالي كتبوا إلى بحسن صنيع قريش إليهم ، فأحببت أن أجازى قريشاً بحسن معاشرتهم ! فأنزل الله جل ثناؤه على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . . إلى آخر سورة الممتحنة .
وفى رواية أبى الجارود عن أبي جعفر ( عليه السلام ) : فإن الله أمر نبيه والمؤمنين بالبراءة من قومهم ما داموا كفاراً فقال : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ . . إلى قوله : وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قطع الله عز وجل ولاية المؤمنين منهم وأظهروا لهم العداوة فقال : عَسَى اللهُ أَنْ يجْعَلَ بَينَكُمْ وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ، فلما أسلم أهل مكة خالطهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وناكحوهم » .
وفى الإرشاد : 1 / 56 : « فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بعزيمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على فتحها ، وأعطى الكتاب امرأة سوداء كانت وردت المدينة تستميح بها الناس وتستبرهم ، وجعل لها جعلاً على أن توصله إلى قوم سماهم لها من أهل مكة ، وأمرها أن تأخذ على غير الطريق . إلى أن قال : فأخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وصار به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأمر أن ينادى بالصلاة جامعة ، فنودي في الناس فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم ، ثم صعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنبر وأخذ الكتب بيده وقال : أيها الناس ، إني كنت سألت الله عز وجل أن يخفى أخبارنا عن قريش ، وإن رجلاً منكم كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا فليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي ! فلم يقم أحد فأعاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقالته ثانية ، وقال : ليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي ! فقام حاطب بن أبي
بلتعة وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف ، فقال : يا رسول الله أنا صاحب الكتاب ، وما أحدثت نفاقاً بعد إسلامي ولا شكاً بعد يقيني . فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب ؟ فقال : يا رسول الله إن لي أهلاً بمكة وليس
--------------------------- 407 ---------------------------
لي بها عشيرة ، فأشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفاً لهم عن أهلي ويداً لي عندهم ، ولم أفعل ذلك لشك في الدين . فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله مرني بقتله فإنه قد نافق ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنه من أهل بدر ولعل الله تعالى اطلع عليهم فغفر لهم ، أخرجوه من المسجد . قال : فجعل الناس يدفعون في ظهره حتى أخرجوه ، وهو يلتفت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليرق عليه ، فأمر النبي برده وقال له : قد عفوت عنك وعن جرمك ، فاستغفر ربك ولا تعد لمثل ما جنيت » !
وفى المسترشد للطبري الشيعي / 540 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لعمر : « أتريد يا عمر أن تقول العرب إن محمداً يقتل أصحابه » ؟ !
أقول : تقدم أن ابن بلتعة كان مبعوث النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المقوقس ، وكان تاجراً له معرفة بمصر ، وكان يمانياً من لخم ، متحالفاً مع بنى أسد عبد العزى القرشيين .
وفى المبسوط للطوسي : 2 / 15 : « وإذا تجسس مسلم لأهل الحرب . . وللإمام أن يعفو عنه ، وله أن يعزره لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عفا عن حاطب » .
ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لعمر : « وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم » ! ابن هشام : 4 / 858 .
كما روت مصادرنا عن علي ( عليه السلام ) ذماً لابن بلتعة . تأويل الآيات : 2 / 465 والجمل / 208 .
وذكر الثعلبي في تفسيره : 9 / 291 ، « أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان سأل سارة السوداء التي حملت الكتاب : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا ، قال : أمهاجرة جئت ؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالى واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : فأين أنت من شباب مكة وكانت مغنية نائحة ! قالت : ما طلب منى شئ بعد وقعة بدر ! فحث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنى عبد المطلب وبني المطلب ، فكسوها وأعطوها نفقة » .
كما روت مصادر السلطة أن أبا بكر حاول أن يعرف قصد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهل يقصد غزو قريش أو غيرها ، وسأل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وألحَّ بالسؤال .
وروى الواقدي : 2 / 796 والمقريزي في الإمتاع : 1 / 352 أن أبا بكر سأل النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
--------------------------- 408 ---------------------------
« يا رسول الله أردت سفراً ؟ قال رسول الله : نعم . قال : أفأتجهز ؟ قال : نعم . قال أبو بكر : وأين تريد يا رسول الله ؟ قال : قريشاً وأخفِ ذلك يا أبا بكر ! وأمر رسول الله بالجهاز قال : أوليس بيننا وبينهم مدةٌ قال : إنهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غازيهم . وقال لأبى بكر : إطو ما ذكرت لك ! فظانٌّ يظن أن رسول الله يريد الشام وظانٌّ يظن ثقيفاً وظانٌّ يظن هوازن » .
وقال صاحب الصحيح : 21 / 129 إن أبا بكر وعائشة عرفا قصد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأفشيا سره ، لكن خيانة حاطب بن أبي بلتعة متفق عليها !
أما خيانة غيره ، فإن صحت ، فقد عولجت وبقيت مخفية .
6 - جاءت القبائل إلى المدينة وتحرك النبي « صلى الله عليه وآله » إلى مكة
سبب توافد القبائل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنهم أحسوا بعد انتصاراته ( صلى الله عليه وآله ) وصلح الحديبية أن ميزان القوة تحول إلى جانبه ، فأخذوا يدخلون في الإسلام أو يتقربون اليه ، ويطمعون أن يشاركوه في حروبه لينالوا من الغنائم !
وخرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالناس ولم يعلن عن مقصده : « ولما انتهى إلى قٌدَيد قيل له : يا رسول الله هل لك في بيض النساء وأدم الإبل ، بنى مدلج ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) إن الله عز وجل حرَّمهن على بصلة الرحم » . الصحيح : 21 / 233 .
أقول : بنو مدلج عند ينبع ، عشيرة من بنى كنانة ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) غزاهم في ذات العشيرة ، وكتب معهم صلحاً أن يكونوا حياديين . وقد مدح نساءهم بصلة الرحم . وعرف بنو مدلج بأن فيهم خبراء في القيافة .
قال في الصحيح من السيرة : 21 / 215 ملخصاً : « خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المهاجرين والأنصار وطوائف من العرب وقادوا الخيل وامتطوا الإبل ، وقدَّم أمامه جريدة من الخيل الزبير بن العوام في مائة فارس . . ولما بلغ قديداً لقيته سُليم هناك فعقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل . وقبل أن يصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى مكة وجد عيناً لهوازن ، فاعترف أنهم يجمعون جيشاً لحربه فأمر بحبسه ، فظن الظانون أنه يقصد هوازن . وجاءه عيينة بن حصن رئيس بنى فزارة لأنه سمع وهو بنجد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قاصد وجهاً وأن العرب تجتمع اليه ، فوصل
--------------------------- 409 ---------------------------
اليه وهو في الطريق في القديد ، فسأله عن مقصده فأجابه : إلى حيث يشاء الله !
وقد بالغوا في عدد جيش النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا كان عشرة آلاف ، وقد يكون جيشه بلغ ستة آلاف . وقال بعضهم كان الأنصار أربعة آلاف معهم خمس مائة فرس ، ومزينة ألفاً وفيها مائة فرس ، وأسلم أربع مائة معها ثلاثون فرساً ، وجهينة ثمان مائة معها خمسون فرساً ، وبنى سليم سبع مائة ، وغفار أربع مائة ، وأسلم أربع مائة ، وطوائف من العرب من تميم وقيس وأسد . » راجع : الصحيح : 21 / 230 .
7 - فاجأ النبي « صلى الله عليه وآله » قريشاً وعسكر قرب مكة
عسكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بجيشه في « مَرّ الظهران » وهو قرب عرفات ، وكان ذلك مفاجأة لقريش ، فأسقط في يد زعمائها لأنهم لا يريدون الخضوع له ، ولا طاقة لهم بحربه ! فسارع أبو سفيان بالذهاب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليتفاوض معه .
قال في إعلام الوري : 1 / 218 : « سار حتى نزل مرَّ الظهران ومعه نحو من عشرة آلاف رجل ونحو من أربعمائة فارس ، وقد عميت الأخبار من قريش ، فخرج في تلك الليالي أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء هل يسمعون خبراً ، وقد كان العباس بن عبد المطلب خرج يتلقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه أبو سفيان بن الحارث « ابن عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) » وعبد الله بن أبي أمية « أخ أم سلمة » وقد تلقاه بنيق العقاب ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في قبته وعلى حرسه يومئذ زياد بن أسيد ، فاستقبلهم زياد فقال : أما أنت يا أبا الفضل فامض إلى القبة ، وأما أنتما فارجعا . فمضى العباس حتى دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسلم عليه وقال : بأبى أنت وأمي هذا ابن عمك قد جاء تائباً وابن عمتك . قال : لا حاجة لي فيهما إن ابن عمى انتهك عرضي ، وأما ابن عمتي فهو الذي يقول بمكة : وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ ينْبُوعًا . فلما خرج العباس كلمته أم سلمة وقالت : بأبى أنت وأمي ابن عمك قد جاء تائباً لا يكون أشقى الناس بك ، وأخي ابن عمتك وصهرك فلا يكونن شقياً بك ! ونادى أبو سفيان بن الحارث النبي ( صلى الله عليه وآله ) : كن لنا كما قال العبد الصالح : لاتَثْرِيبَ عَلَيكم ! فدعاه وقبل منه ، ودعا عبد الله بن أبي أمية ، فقبل منه .
--------------------------- 410 ---------------------------
وقال العباس : هو والله هلاك قريش إلى آخر الدهر إن دخلها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عُنْوَةً قال : فركبت بغلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) البيضاء وخرجت أطلب الحطَّابة أو صاحب لبَن لعلى آمره أن يأتي قريشاً فيركبون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستأمنون إليه ، إذ لقيت أبا سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام ، وأبو سفيان يقول لبديل : ما هذه النيران ؟ قال : هذه خزاعة . قال : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانهم ! ولكن لعل هذه تميم أو ربيعة ! قال العباس : فعرف صوت أبي سفيان ، فقلت : أبا حنظلة ؟ قال : لبيك فمن أنت ؟ قلت : أنا العباس ، قال : فما هذه النيران فداك أبي وأمي قلت : هذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عشرة آلاف من المسلمين قال : فما الحيلة ؟ قال : تركب في عجز هذه البغلة ، فأستأمن لك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قال : فأردفته خلفي ثم جئت به ، فكلما انتهيت إلى نار قاموا إلى فإذا رأوني قالوا : هذا عم رسول الله خلوا سبيله ، حتى انتهيت إلى باب عمر فعرف أبا سفيان فقال : عدو الله الحمد الله الذي أمكن منك ، فركضت البغلة حتى اجتمعنا على باب القبة ، ودخل عمر على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هذا أبو سفيان قد أمكنك الله منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه ! قال العباس : فجلست عند رأس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : بأبى أنت وأمي أبو سفيان قد أجرته . قال : أدخله فدخل فقام بين يديه فقال : ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ؟ قال : بأبى أنت وأمي ما أكرمك وأوصلك وأحلمك ، أما الله لو كان معه إله لأغنى يوم بدر ويوم أحد ، وأما أنك رسول الله فوالله إن في نفسي منها لشيئاً ! قال العباس : يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ! قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، تلجلج بها فوه !
فقال أبو سفيان للعباس : فما نصنع باللات والعزي ؟ فقال له عمر : إسلح عليهما . فقال أبو سفيان : أفٍّ لك ما أفحشك ! ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمي ؟ ! فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : عند من تكون الليلة ؟ قال : عند أبي الفضل . قال : فاذهب به يا أبا الفضل فأبته عندك الليلة ، واغد به علي . فلما أصبح سمع بلالاً يؤذن قال : ما هذا المنادى يا أبا الفضل ؟ قال : هذا مؤذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قم فتوضأ وصل ، قال : كيف
--------------------------- 411 ---------------------------
أتوضأ ؟ فعلمه . قال : ونظر أبو سفيان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يتوضأ وأيدي المسلمين تحت شعره ، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلا مسح بها وجهه فقال : بالله إن رأيت كاليوم قط كسرى ولا قيصر !
فلما صلى غدا به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي بالذهاب إلى قومك فأنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله فأذن له ، فقال العباس : كيف أقول لهم بين لي من ذلك أمراً يطمئنون إليه ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : تقول لهم : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله وكف يده ، فهو آمن . ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه ، فهو آمن . فقال العباس : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فلو خصصته بمعروف ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قال أبو سفيان : داري ؟ ! قال : دارك ! ثم قال : من أغلق بابه فهو آمن . ولما مضى أبو سفيان قال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل من شأنه الغدر ، وقد رأى من المسلمين تفرقاً . قال : فأدركه واحبسه في مضايق الوادي حتى يمر به جنود الله . قال : فلحقه العباس فقال : أبا حنظلة ! قال : أغدراً يا بني هاشم ؟ قال : ستعلم أن الغدر ليس من شأننا ولكن اصبر حتى تنظر إلى جنود الله . . » .
وفى الصحيح من السيرة : 22 / 17 ، ملخصاً : « وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منادياً ينادي : لتصبح كل قبيلة قد أرحلت ووقفت مع صاحبها عند رايته ، وتظهر ما معها من الأداة والعدة ! فأصبح الناس على ظهر ، وقدَّم بين يديه الكتائب . ومرت القبائل على قادتها والكتائب على راياتها ، وكان أول من قدم خالد بن الوليد في بنى سليم وهم ألف ومعهم لواءان وراية ، فلما مروا بأبى سفيان كبروا ثلاث تكبيرات ، ثم مضوا ! فقال أبو سفيان : يا عباس هذا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن هذا خالد بن الوليد في المقدمة . قال : الغلام ؟ قال : نعم . قال : ومن معه ؟ قال : بنو سليم . قال : ما لي وبنى سليم !
ثم مر على أثره الزبير بن العوام في خمس مائة من المهاجرين وأفناء العرب
--------------------------- 412 ---------------------------
ومعه راية سوداء . فلما مروا بأبى سفيان كبروا ثلاثاً ! فقال أبو سفيان : من هؤلاء ؟ قال : هذا الزبير بن العوام . قال : ابن أختك ؟ قال : نعم .
ثم مرت بنو غفار في ثلاث مائة يحمل رايتهم أبو ذر ، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً ! فقال أبو سفيان : من هؤلاء ؟ قال : بنو غفار . قال : ما لي ولبنى غفار ؟
ثم مرت أسلم في أربع مائة فيها لواءان ، فقال : من هؤلاء ؟ قال العباس : أسلم . قال : ما لي ولأسلم ؟ ما كان بيننا وبينهم تِرَةٌ قط ! قال العباس : هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام . ثم مرت بنو كعب بن عمرو « من خزاعة » في خمس مائة يحمل رايتهم بسر بن سفيان فقال : من هؤلاء ؟ قال العباس : بنو عمرو بن كعب بن عمرو إخوة أسلم . قال : نعم هؤلاء حلفاء محمد ! ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية ومائة فرس ، قال : من هؤلاء ؟ قال العباس : مزينة . قال : ما لي ولمزينة ؟ قد جاءتني تقعقع من شواهقها !
ثم مرت جهينة في ثمان مائة فيها أربعة ألوية فقال : من هؤلاء ؟ قال : جهينة . قال : ما لي ولجهينة ؟ ثم مرت كنانة بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مائتين ، فقال : من هؤلاء ؟ قال العباس : بنو بكر . قال : نعم أهل شؤم والله ! هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم ! أما والله ما شُووِرت فيهم ولا علمته ، ولكنه أمر حُتِم !
ثم مرت أشجع وهم آخر من مر ، وهم ثلاث مائة معهم لواءان ، قال العباس : هؤلاء أشجع . قال أبو سفيان : هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد ! ثم قال أبو سفيان : أبعدُ ما مضى محمد ؟ فقال العباس : لا ، لم يمض بعد لو أتت الكتيبة التي فيها محمد رأيت فيها الحديد والخيل والرجال ، وما ليس لأحد به طاقة . قال : ومن له بهؤلاء طاقة ؟ حتى طلعت كتيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الخضراء التي فيها المهاجرون والأنصار ، مع كل بطن من بطون الأنصار لواء وراية ، وهم في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، وعمر بن الخطاب يقول : رويداً حتى يلحق أولكم آخركم . فقال أبو سفيان : يا أبا الفضل من هذا المتكلم ؟ ! قال : عمر بن الخطاب . فقال أبو سفيان : لقد أَمِرَ أَمْرُ بنى عدي ، بعد والله ، قلة وذلة ! « يقصد مشى أمرهم وصار منهم شخص مذكوراً » . وأعطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رايته سعد بن عبادة ، فلما مر براية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نادى « سعد » أبا
--------------------------- 413 ---------------------------
سفيان فقال : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تُستحَل الحرمة ، اليوم أذل الله قريشاً » .
8 - أرسل النبي « صلى الله عليه وآله » الأمان إلى أهل مكة مع أبي سفيان
« قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأبى سفيان : تقدم إلى مكة فأعلمهم الأمان . قال العباس : فقلت لأبى سفيان : أُنج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فخرج أبو سفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل مكة من كداء ، فصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، أسلموا تسلموا ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قالوا : قاتلك الله ، وما تغنى دارك ؟ ! قال : ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن . فقامت إليه هند بنت عتبة زوجته فأخذت بشاربه وقالت : أقتلوا الحميت الدسم الأحمس ، قُبِّح من طليعة قوم ! فقال أبو سفيان : ويلكم لاتغرنكم هذه من أنفسكم ، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به ! . . البيوت البيوت ، من أغلق بابه فهو آمن ، من دخل دارى فهو آمن . فعرفت هند فأخذت تطردهم ، فقال لها : ويلك إني رأيت ذات القرون ورأيت فارس أبناء الكرام ، ورأيت ملوك كندة وفتيان حمير يسلمون آخر النهار ، ويلك أسكتي ، فقد والله جاء الحق ودنت البلية . فجعل الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم » . الصحيح : 22 / 58 و 85 .
9 - نصب النبي « صلى الله عليه وآله » خيمته عند قبر خديجة « عليها السلام » !
أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الزبير بن العوام أن يدخل من كداء من أعلى مكة ، وأن يغرز رايته بالحجون ، أي عند قبر خديجة « عليها السلام » ، ولا يبرح حتى يأتيه .
وأمر خالداً وكان على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب ، أن يدخل من الليط موضع بأسفل مكة ، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت ، وبها بنو بكر ، وبنو الحارث بن عبد مناة ، والأحابيش الذين استنفرتهم قريش .
وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كداء والراية مع ابنه قيس ، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم .
--------------------------- 414 ---------------------------
وأقبل ( صلى الله عليه وآله ) في كتيبته الخضراء ، وعليه عمامة سوداء وقد أرخى طرفها بين كتفيه وهو على ناقته القصواء ، فاستشرفه الناس فوضع رأسه على رحله متخشعاً ، وقد طأطأ رأسه تواضعاً لله تعالي ، وهو يقرأ سورة الفتح يرجع بها صوته ، ثم قال : اللهم إن العيش عيش الآخرة . ومضى ( صلى الله عليه وآله ) فدخل من أذاخر بأعلى مكة يوم الاثنين ، وكان أبو رافع قد ضرب له قبة من أدم بالحجون ، فأقبل رسول الله حتى انتهى إلى القبة ، ومعه أم سلمة وميمونة زوجتاه .
وأقبل الزبير بمن معه من المسلمين حتى انتهى إلى الحجون ، فغرز الراية عند منزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورووا أن لواء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم دخل مكة كان أبيض ، ورايته سوداء تسمى العقاب ، وكانت قطعة مرط مرجل .
وسأله أسامة : يا رسول الله أنَّى تنزل غداً ، تنزل في دارك ؟ قال : وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دار ! وقيل للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل منزلاً ؟ وكان عقيل قد باع منزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومنزل إخوته
من الرجال والنساء بمكة ، فقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك ، فأبى وقال : لا أدخل البيوت ! وبقى في قبته بالحجون ، وكان يأتي المسجد لكل صلاة . وقال جابر بن عبد الله : كنت ممن لزم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدخلت معه يوم الفتح ، فلما أشرف من أذاخر ورأى بيوت مكة وقف عليها ، فحمد الله وأثنى عليه . ونظر من موضع قبته فقال : هذا منزلنا يا جابر ، حيث تقاسمت قريش علينا في كفرها « يشير إلى الشعب » وكنا بالأبطح وِجَاهَ « مقابل » شعب أبى طالب ، حيث حصر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبنو هاشم ثلاث سنين » . الصحيح : 22 / 77 .
وقال الطبري : 2 / 342 : « أقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة » .
10 - قريش تسترحم النبي « صلى الله عليه وآله » بشعر ضرار بن الخطاب
خافت قريش من انتقام الأنصار منها ، وكانت رايتهم كانت بيد سعد بن عبادة ، فاستغاثت بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) من سعد خشية أن يأخذ منهم ثار أحُد ، فطمأنهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأنه قرر أن لا يسفك دماً في الحرم ، إلا أربعة نفر هدر دمهم !
--------------------------- 415 ---------------------------
وفى الإرشاد : 1 / 134 : « ولما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سعد بن عبادة بدخول مكة بالراية ، غلظ على القوم وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم ، ودخل وهو يقول : اليوم يوم الملحمه اليوم تسبى الحرمة ، فسمعها العباس فقال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن عبادة ؟ إني لا آمن أن يكون له في قريش صولة !
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أدرك يا علي سعداً فخذ الراية منه ، وكن أنت الذي يدخل بها مكة ، فأدركه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخذها منه » .
« فأخذ الراية فذهب بها إلى مكة ، حتى غرزها عند الركن » . الصحيح : 22 / 26 .
وفى الإمتاع : 8 / 386 ، أن أبا سفيان شكى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قول سعد فقال له : « يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة ، اليوم يعز الله قريشاً ، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه » .
وقال ضرار بن الخطاب شاعر قريش أبياتاً يستعطف النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأرسلوا امرأة فاعترضت طريقه وأنشدته إياها :
يا نبي الهدى إليك لجا * حي قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأر * ض وعاداهم إلهُ السماء
والتقت حلقتا البطان على القوم * ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعداً يريد قاصمة الظهر * بأهل الحجون والبطحاء
خزرجى لو يستطيع من الغيظ * رمانا بالنسر والعواء
وَغِرُ الصدر لا يهمُّ بشئ * غير سفك الدما وسبى النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت * عنه هندٌ بالسوءة السواء
إذ ينادى بذل حي قريش * وابن حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادي * يا حماة الأدبار أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الخز * رج والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريشٌ * فقعة القاع في أكف الإماء
فانهينهُ فإنه أسد الأسد * لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يريد لنا الأمر * سكوتاً كالحية الصماء
--------------------------- 416 ---------------------------
11 - طاف النبي « صلى الله عليه وآله » بالبيت وحَطَّم الأصنام
دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة وعليه السلاح ، ومكث في منزله ساعة من النهار حتى اطمأن الناس ، فاغتسل ثم دعا براحلته القصواء فأُدنيت إلى باب قبته ، وعاد فلبس السلاح والمغفر على رأسه ، وركب راحلته وقد حفَّ الناس به والخيل تجول من الخندمة إلى الحجون . فلما انتهى إلى الكعبة ومعه المسلمون ، تقدَّم على راحلته واستلم الركن بمحجنه « عصاه » وكبَّر فكبَّر المسلمون بتكبيره فارتجت مكة تكبيراً حتى جعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يشير إليهم أن اسكتوا والمشركون فوق الجبال ينظرون ! وطاف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالبيت ، وأقبل على الحجر فاستلمه ونزل عن راحلته ، فأخرجوها وأناخوها بالوادي ، ثم انتهى إلى المقام فصلى ركعتين ، ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها فنزع له الحرث بن عبد المطلب دلواً فشرب منه وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم ، والمشركون ينظرون إليهم ويتعجبون ويقولون : ما رأينا ملكاً قط أبلغ من هذا ولا سمعنا به !
وكان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً مرصعة بالرصاص ، لكل حي من أحياء العرب صنم ، وكان هبل أعظمها وهو وجاهَ الكعبة ، وإساف ونايلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كفاً من حصى فرماها وفى يده عود ، فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه ويطعن في عينه أو في بطنه ويقول : جَاء الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ، فما يشير إلى صنم إلا سقط لوجهه من غير أن يمسه ! فأمر بها فأخرجت من المسجد فطرحت فكسرت .
وعن علي ( عليه السلام ) قال : انطلق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى أتى بي الكعبة ، فقال : أجلس فجلست بجنب الكعبة فصعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على منكبي فقال : إنهض فنهضت فلما رأى ضعفي تحته قال : أجلس فجلست ثم قال : يا علي ، إصعد على منكبي ففعلت ، فلما نهض بي خُيل إلى لو شئت نلت أفق السماء ! فصعدت فوق الكعبة وتنحى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ألق صنمهم الأكبر ، فألقى الأصنام ولم يبق إلا صنم خزاعة وكان من نحاس موتد بأوتاد من حديد إلى الأرض ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : عالجه : جَاء
--------------------------- 417 ---------------------------
الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً . فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه . فقال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إقذف به فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير ، ثم نزلت . ثم إن علياً ( عليه السلام ) أراد أن ينزل فألقى نفسه من صوب الميزاب تأدباً وشفقة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولما وقع على الأرض تبسم فسأله النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن تبسمه ؟ فقال لأنى ألقيت نفسي من هذا المكان الرفيع وما أصابني ألم . قال : كيف يصيبك ألم وقد رفعك محمد وأنزلك جبريل ؟ ! وقال بعض الشعراء ، وقد نسبه القندوزي إلى الإمام الشافعي ، ونسبه عطاء الله في الأربعين إلى حسان بن ثابت :
قيل لي قل في علي مدحاً * ذكره يخمد ناراً مؤصده
قلت لا أقدم في مدح امرئ * ضل ذو اللب إلى أن عبده
والنبي المصطفى قال لنا * ليلة المعراج لما صعده
وضع الله بظهرى يده * فأحسَّ القلب أن قد برده
وعلى واضع أقدامه * في محل وضع الله يده
وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه ، فقال الزبير بن العوام لأبى سفيان بن حرب : يا أبا سفيان قد كسر هبل ، أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور ، حين تزعم أنه أنعم . فقال أبو سفيان : دع عنك هذا يا ابن العوام ، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان » ! الصحيح : 22 / 190 .
ودخل الكعبة ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة والفضل بن عباس ، وكبر في زواياها وأرجائها وحمد الله تعالى . وروى أنه صلى ركعتين . الصحيح : 22 / 235 .
12 - جبرئيل يفضح زعماء قريش
عن سعيد بن المسيب قال : لما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا ، فقال أبو سفيان لهند : أترين هذا من الله ؟ قالت : نعم ، هذا من الله . قال : ثم أصبح فغدا أبو سفيان إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قلت لهند : أترين هذا من الله ؟ ! قالت : نعم
--------------------------- 418 ---------------------------
هذا من الله . فقال أبو سفيان : أشهد أنك عبد الله ورسوله ، والذي يحلَف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله عز وجل وهند ! فقال أبو سفيان في نفسه : أفشت على هند سرى لأفعلن بها ولأفعلن ! فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من طوافه لحق بأبى سفيان فقال : يا أبا سفيان ، لا تكلم هنداً فإنها لم تفش من سرك شيئاً . فقال أبو سفيان : أشهد أنك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) !
ورأى أبو سفيان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يمشى والناس يطؤون عقبه ، فقال في نفسه : لو عاودت هذا الرجل القتال وجمعت له جمعاً ؟ فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى ضرب بيده في صدره فقال : إذن يخزيك الله ! فقال : أتوب إلى الله تعالى وأستغفر الله مما تفوهت به ، ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة ، إني كنت لأحدث نفسي بذلك !
وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو سفيان جالس في المسجد ، فقال أبو سفيان في نفسه : ما أدرى بما يغلبنا محمد ؟ فأتاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فضرب صدره وقال : بالله تعالى نغلبك ! فقال أبو سفيان : أشهد أنك رسول الله ! الصحيح : 22 / 321 .
وزعم فضالة بن عمير أنه أراد اغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يطوف فعرف ذلك النبي ووضع يده على صدر فضالة فتاب وأسلم . قال : « والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق شئ أحب إلى منه » ! الصحيح : 22 / 190 .
وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بلالاً وقت الظهر أن يصعد على سطح الكعبة ويطلق الأذان ، فتنغص عيش أبي سفيان ورفقائه الذين « أسلموا » ! « فقال خالد بن أسيد : الحمد لله الذي أكرم أبى فلم يسمع بهذا اليوم ! وكان أسيد مات قبل الفتح بيوم !
وقال الحارث بن هشام : واثكلاه ليتني متُّ قبل أن أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة ! وقال الحكم بن أبي العاص : هذا والله الحدث الجلل أن يصبح عبد بنى جمح ينهق على بُنَية « الكعبة » أبى طلحة !
وقال سهيل بن عمرو : إن كان هذا سخطاً لله فسيغيره الله ! وقال أبو سفيان بن حرب : أما أنا فلا أقول شيئاً ، لو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصاة !
فأتى جبريل ( عليه السلام ) رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره ، فأقبل حتى وقف عليهم فقال :
--------------------------- 419 ---------------------------
أما أنت يا فلان فقلت كذا ، وأما أنت يا فلان فقلت كذا ، وأما أنت يا فلان فقلت كذا ! فقال أبو سفيان : أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً ! فضحك رسول الله » ! « أخبار مكة : 1 / 142 » وفى أسباب النزول للواحدي / 264 : « وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء » ! وفى تاريخ أبي الفداء : 1 / 181 : « فقالت بنت أبي جهل : لقد أكرم الله أبى حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة » !
13 - خطبة النبي « صلى الله عليه وآله » في فتح مكة وإعلانه العفو عن الطلقاء
في الكافي : 4 / 225 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة يوم افتتحها ، فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست ، فأخذ بعضادتي الباب فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ماذا تقولون وماذا تظنون ؟ قالوا : نظن خيراً ونقول خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت ! قال : فإني أقول كما قال أخي يوسف : لا تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ الْيوْمَ يغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة ، لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ، ولا يختلى خلاها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد . فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه للقبر والبيوت ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا الإذخر » .
ويظهر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر بإحضار فراعنة قريش وشخصياتها إلى المسجد .
قال في إعلام الوري : 1 / 225 ومجمع البيان : 10 / 472 ، ملخصاً : « ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال : لا إله إلا الله أنجز وعده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده . . ألا إن كل دم ومال ومأثرة كان في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي ، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما ، ألا إن مكة محرمة بتحريم الله ، لم تحل لأحد كان قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، فهي محرمة إلى أن تقوم الساعة . . ثم قال : ألا لبئس جيران النبي كنتم ، لقد كذبتم وطردتم ،
--------------------------- 420 ---------------------------
وأخرجتم وفللتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني ، فاذهبوا فأنتم الطلقاء . فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور ، ودخلوا في الإسلام ، وكأن الله أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئاً ، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء !
وكان فتح مكة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان ، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر دخلوا من أسفل مكة وأخطأوا الطريق فقتلوا » .
وفى مجمع البيان : « وجاء ابن الزبعرى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأسلم ، وقال :
يا رسول الإله إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بورُ
إذ أبارى الشيطان في سنن الغى * ومن مال ميله مثبور
آمن اللحم والعظام لربى * ثم نفسي الشهيد أنت النذير » .
14 - الذين هدر النبي « صلى الله عليه وآله » دمهم
عدهم صاحب الصحيح من السيرة : 23 / 9 اثنين وعشرين شخصاً ، ثم بحث أسباب هدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) دمهم فقال ما خلاصته : « يتساءل البعض عن التوفيق بين احترام الكعبة وتعظيمها واعتبار مكة بلداً آمناً ، وبين أمره ( صلى الله عليه وآله ) بقتل أفراد هذه الجماعة حتى لو كانوا متعلقين بأستار الكعبة ! والجواب : أن الأمر بقتل هؤلاء الناس هو من مفردات تعظيم الكعبة وحفظ حرمة الحرم ، لأنهم بشركهم وبصدهم عن سبيل الله وسعيهم في الأرض فساداً ، وجدهم واجتهادهم لإبطال دين الله ، وقتل الأنبياء والمؤمنين من أجل نصرة الباطل ، يمثلون الرجس والقاذورات التي لا بد من تطهير بيت الله وحرمه منها ، فقتْلهم حتى لو كانوامتعلقين بأستار الكعبة تكريمٌ للكعبة وتكريسٌ لمعنى الطهر والقداسة فيها .
1 - عكرمة بن أبي جهل : كان هو وأبوه أشد الناس أذية للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين . ولما بلغه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أهدر دمه فرّ إلى اليمن ، فقالت امرأته أم حكيم لرسول الله : يا رسول الله قد ذهب عكرمة عنك إلى اليمن وخاف أن تقتله ، فأمِّنه يا رسول الله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هو آمن . فخرجت في طلبه ومعها غلام لها رومى فراودها
--------------------------- 421 ---------------------------
عن نفسها ، فجعلت تمنِّيه حتى قدمت به على حي من عك فاستعانتهم عليه فأوثقوه رباطاً ، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى البحر فركب سفينة وجعلت تليح إليه وتقول : يا ابن عم جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس وخير الناس ، لا تهلك نفسك . فرجع وأسلم . وزعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا تسبوا أبا جهل ، ولا يصح ذلك . وقد عظموا عكرمة حتى ادَّعوا أنه ( صلى الله عليه وآله ) رأى في منامه أنه دخل الجنة ورأى فيها عذقاً فأعجبه وقال : لمن هذا ؟ فقيل : لأبى جهل ! وأنه حين أسلم قام إليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) واعتنقه ، وقال : مرحباً بالراكب المهاجر .
وكان عكرمة من المحرضين على حرب أحُد ، وكان على ميسرة المشركين وخالد بن الوليد على ميمنتهم ، وقد عبر الخندق يوم الأحزاب مع عمرو بن عبد ود ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله . وفى بدر قتل من المسلمين رافع بن المعلى الزرقي ، وضرب معاذ بن عمرو بن الجموح على عاتقه فطرح يده حين رآه قتل أباه أبا جهل .
وكان من المناوئين لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولعل هذا هو السبب في إغداقهم الأوسمة عليه ونسجهم له الكرامات .
2 - صفوان بن أمية : هرب مع عبد له اسمه يسار إلى جدة ، ليذهب إلى اليمن فقال عمير بن وهب : يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومي وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر ، فأمنه صلى الله عليك . قال : هو آمن . فقال : أعطني آية يعرف بها أمانك ، فأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ، فخرج عمير حتى أدركه فقال : يا أبا وهب جعلت فداك ، جئت من عند أبر الناس ، وأوصل الناس ، فداك أبي وأمي ، الله الله في نفسك أن تهلكها ، هذا أمان من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد جئتك به . قال : ويحك أُغرب عنى فلا تكلمني إني أخافه على نفسي ! قال : هو أحلم من ذلك وأكرم . قال : ولا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها . فرجع معه صفوان حتى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يصلى بالمسلمين العصر في المسجد ، فلما سلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صاح صفوان : يا محمد إن عمير بن وهب جاءني ببردك
--------------------------- 422 ---------------------------
وزعم : أنك دعوتني إلى القدوم عليك ، فإن رضيت أمراً وإلا سيرتنى شهرين . فقال : إنزل أبا وهب . قال : لا والله حتى تبين لي . قال : بل لك تسيير أربعة أشهر . فنزل صفوان . ولما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى هوازن أرسل إليه يستعير سلاحه ، فأعاره سلاحه مائة درع بأداتها ، فقال : طوعاً أو كرهاً ؟ . قال ( صلى الله عليه وآله ) : عارية مؤداة فأعاره فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فحملها إلى حنين ، فشهد حنيناً والطائف ، ثم رجع إلى الجعرانة ، فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يسير في الغنائم ينظر إليها ، وفرق غنائمها فرأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صفوان ينظر إلى شعب ملآن نعماً وشاء ورعاء ، فأدام النظر إليه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرمقه ، فقال : يا أبا وهب يعجبك هذا الشعب ؟ قال : نعم . قال : هو لك وما فيه . فقبض صفوان ما في الشعب ، وقال عند ذلك : ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله . وأسلم مكانه !
ومع هذاتجدهم يعظمون أمثال صفوان ويعتقدون عدالته ! فما أعجب أمرهم !
3 - عبد العزى بن خطل : أهدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) دمه وكان أسلم فسماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عبد الله وهاجر إلى المدينة ، وبعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ساعياً وبعث معه رجلاً وكان يصنع له طعامه ويخدمه ، فعدى عليه فضربه فقتله وارتد عن الإسلام ، وساق ما أخذ من الصدقة وهرب إلى مكة ، وقال : لم أجد ديناً خيراً من دينكم !
وكان يقول الشعر يهجو به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وكانت له قينتان فاسقتان يأمرهما أن تغنيا بهجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . ولما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ذي طوى أقبل ابن خطل من أعلى مكة مدججاً بالحديد على فرس وبيده قناة ، فمر ببنات سعيد بن العاص فقال لهن : أما والله لا يدخلها محمد حتى ترين ضرباً كأفواه المزاد .
ثم رأى خيل الله فدخله رعب فنزل عن فرسه وطرح سلاحه وأتى البيت فدخل تحت أستاره . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أقتلوه ، إن الكعبة لا تعيذ عاصياً ، ولا تمنع من إقامة حد واجب ، فقتله سعيد بن حريث وأبو برزة .
4 - عبد الله بن سعد بن أبي سرح : وإنما أمر بقتله لأنه كان أسلم قبل الفتح ، وكان
--------------------------- 423 ---------------------------
يكتب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوحي وكان إذا أملى عليه : سميعاً بصيراً ، كتب عليماً حكيماً ! وإذا أملى عليه : عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً ! وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال : إن محمداً لا يعلم ما يقول ! فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة فارتدّ وهرب إلى مكة وقال : إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي ! وعندما دخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) مكة لجأ ابن سرح إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة فقال له : يا أخي استأمن لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يضرب عنقي ! فغيبه عثمان حتى هدأ الناس واطمأنوا فاستأمن له وأتى به إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأعرض عنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فصار عثمان يقول : يا رسول الله أمنته والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرض عنه ! ثم قال : نعم ، فبسط يده فبايعه ، فلما خرج عثمان وعبد الله قال ( صلى الله عليه وآله ) لمن حوله : أعرضت عنه مراراً ، ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه !
فقال عباد بن بشر : يا رسول الله خفتك ، أفلا أومضتَ إلى أي أومأت ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إنه ليس لنبي أن يومض . إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين .
وعندما صار عثمان خليفة ولاه على مصر ! وشكاه المصريون إلى عثمان فقَتَل بعض من اشتكوا عليه فكان ذلك من أسباب خروج المصريين على عثمان حتى قتل ! وذكر عكرمة والحسن البصري أن الذين توسطوا لابن أبي سرح هم : أبو بكر وعمر وعثمان .
5 - عبد الله بن الزبعري : كان شاعراً يهجو النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين ويحرض عليهم كفار قريش ، وهو الذي تمثَّل يزيد بأبياته لما جئ له برأس الحسين ( عليه السلام ) فأخذ ينكت ثنايا الإمام ( عليه السلام ) بقضيب في يده . وهو الذي ألقى الفرث والدم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يصلى ثم جاء أبو طالب وسل سيفه ، فأمرَّ ذلك الفرث على لحاهم وشواربهم ! ويوم الفتح سمع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أهدر دمه فهرب إلى نجران وسكنها فأرسل اليه حسان بن ثابت بأبيات فجاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : السلام عليك يا رسول الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك عبده ورسوله ، الحمدالله الذي هداني للإسلام ، لقد عاديتك وأجلبت عليك ، وقال :
--------------------------- 424 ---------------------------
يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أبارى الشيطان في سنن الغي * ومن مال ميله مثبور
آمن اللحم والعظام لربي * ثم قلبي الشهيد أنت النذير
إنني عنك زاجر ثم حيا * من لؤي وكلهم مغرور
وقال أيضاً حين أسلم :
منع الرقاد بلابل وهموم * والليل معتلج الرواق بهيم
مما أتاني أن أحمد لامني * فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها * عيرانة سرح اليدين غشوم
إني لمعتذر إليك من الذي * أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة * سهم وتأمرنى بها مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودني * أمر الوشاة وأمرهم مشؤم
فاليوم آمن بالنبي محمد * قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة فانقضت أسبابها * ودعت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما * زللى فإنك راحم مرحوم
وعليك من علم المليك علامة * نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه * شرفاً وبرهان الإله عظيم
ولقد شهدت بأن دينك صادق * حق وأنك في العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفي * مستقبل في الصالحين كريم
قرم علا بنيانه من هاشم * فرع تمكن في الذرى وأروم
6 - الحويرث بن نقيد كان يؤذى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونخس بزينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما هاجرت إلى المدينة فرمى بها عن بعيرها ، فأهدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) دمه فخرج في مكة يوم الفتح يريد أن يهرب فتلقاه على ( عليه السلام ) فضرب عنقه .
--------------------------- 425 ---------------------------
7 - هبار بن الأسود : كان شديد الأذى للمسلمين ، وتعرض لزينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما هاجرت فنخس بها أو ضربها بالرمح ، فسقطت عن راحلتها فأسقطت ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت ! فلما كان يوم الفتح وبلغه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أهدر دمه أعلن بالإسلام فقبله منه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعفا عنه . وزعموا : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن لقيتم هباراً هذا فأحرقوه ، ولا يصح قولهم .
ونقول : إذا كان ( صلى الله عليه وآله ) قد أهدر دم هبار بن الأسود والحويرث بن نقيد لأنهما روَّعا زينب وأوقعاها عن الراحلة إلى الأرض ، فماذا سيكون موقفه ( صلى الله عليه وآله ) ممن ضرب فاطمة « عليها السلام » وأسقط جنينها وكسر ضلعها وتسبب لها بعلَّتها التي ماتت منها فكانت صدِّيقة شهيدة ؟ !
8 - الحارث بن هشام : أخو أبى جهل لأبويه . وقد أسلم بعد ذلك .
9 - زهير بن أمية : وكان قد استجار بأم هانى وأراد على ( عليه السلام ) قتله فأمضى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جوارها وأسلم بعد ذلك .
10 - عبد الله بن ربيعة : ذكره الأزرقي بدل زهير بن أمية .
11 - زهير بن أبي سلمى الشاعر .
12 - مقيس بن صبابة : كان أسلم ثم أتى على رجل من الأنصار فقتله وارتد ، فقتله نميلة بن عبد الله بحكم النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم الفتح .
13 - الحويرث بن الطلاطل الخزاعي : كان يؤذى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، قتله على ( عليه السلام ) .
14 - كعب بن زهير : وهو الشاعر الذي كان يهجو رسول الله وجاء بعد ذلك فأسلم ، ومدحه بقصيدة : بانت سعاد .
15 - وحشى بن حرب : قاتل حمزة في حرب أحُد ، وقد هرب في فتح مكة إلى الطائف فلما أسلم أهلها جاء مع وفدهم فقال له ( صلى الله عليه وآله ) : غيب عنى وجهك !
16 - هبيرة بن أبي وهب : زوج أم هانى يقال : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أهدر أيضاً دمه .
17 - سارة : مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وكانت مغنية نواحّة بمكة تغنى بهجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقالوا : استؤمن لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأمنها ،
--------------------------- 426 ---------------------------
فأسلمت وعاشت إلى خلافة عمر بن الخطاب .
18 - أرنب مولاة ابن خطل .
19 - فرتني : أو قرينا .
20 - قريبة ويقال : هي أرنب السابقة . وهما قينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاستؤمن لإحداهما فأسلمت وقتلت الأخري ، قتلها على ( عليه السلام ) .
21 - أم سعد : قتلت فيما ذكره ابن إسحاق ، ويحتمل أن تكون هي أرنب .
22 - هند بنت عتبة : وهى التي لاكت كبد حمزة بن عبد المطلب ( عليه السلام ) . أتت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو بالأبطح فأسلمت وقالت : الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه ، لتمسنى رحمتك يا محمد ، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به . ثم كشفت عن نقابها فقالت : أنا هند بنت عتبة . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : مرحباً بك . وقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح فهل على حرج أن أطعم من ماله عيالنا ؟ فقال : لاحرج عليك أن تطعميهم بالمعروف .
15 - علي « عليه السلام » ينفذ أمر النبي « صلى الله عليه وآله » فتعترضه أخته أم هاني !
قال في إعلام الوري : 1 / 223 : « عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم ، سوى نفر كانوا يؤذون النبي ( صلى الله عليه وآله ) منهم : مقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن خطل ، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة . فأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله . وقتل مقيس بن صبابة في السوق . وقتل على ( عليه السلام ) إحدى القينتين وأفلتت الأخري ، وقتل ( عليه السلام ) أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب . وبلغه أن أم هانئ بنت أبي طالب قد آوت ناساً من بنى مخزوم ، منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب ، فقصد نحو دارها مقنعاً بالحديد فنادي : أخرجوا من آويتم ! فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى خوفاً منه « اطائر كبير السلحة ! » فخرجت إليه أم هانى وهى لاتعرفه فقالت : يا عبد الله ، أنا أم
--------------------------- 427 ---------------------------
هانى بنت عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخت علي بن أبي طالب ، انصرف عن داري . فقال على ( عليه السلام ) : أخرجوهم ! فقالت : والله لأشكونك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته فقالت : فديتك حلفت لأشكونك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال لها : فاذهبي فبرى قسمك ، فإنه بأعلى الوادي . قالت أم هاني : فجئت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو في قبة يغتسل وفاطمة « عليها السلام » تستره ، فلما سمع رسول الله كلامي قال : مرحباً بك يا أم هاني . قلت : بأبى وأمي ما لقيت من على اليوم ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قد أجرتُ من أجرتِ ! فقالت فاطمة « عليها السلام » : إنما جئت يا أم هانئ تشكين علياً في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله ! فقلت : إحتملينى فديتك ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد شكر الله لعلى سعيه ، وأجرت من أجارت أم هانئ لمكانها من علي بن أبي طالب » !
« وروت مصادرهم مجئ أم هانى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعفوه عن المخزوميين الذين أجارتهم ، واتفقوا على أن علياً ( عليه السلام ) لم يدخل البيت ، مع أنه يحمل أمراً قضائياً من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن أم هانى لم تخرجهم بل أغلقت الغرفة عليهم ، وذهبت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) تشتكي علياً ( عليه السلام ) ! وروى أن أم هانى أمسكت بساعد على ( عليه السلام ) لتمنعه من دخول دارها ، فكشف قناعه فعرفته ، وأن ذلك أعجب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : لله در أبى طالب ! لو ولد الناس كلهم كانوا شجعاناً » . كشف الغمة : 2 / 235 .
كما رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يدخل بيت أحد في مكة إلا بيت أم هاني !
ففي مجمع الزوائد : 6 / 175 : « دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على أم هانئ بنت أبي طالب يوم الفتح وكان جائعاً . وقال هل عندك من طعام نأكله ؟ فقالت : ليس عندي إلا كسر يابسة ، وإني لأستحى أن أقدمها إليك ! فقال : هلمى بهن فكسرهن في ماء وجاءت بملح فقال : هل من إدام ؟ فقالت ما عندي يا رسول الله إلا شئ من خل . فقال : هلميه فصبيه على الطعام فأكل منه ثم حمد الله ، ثم قال : نعم الإدام الخل يا أم هانئ لا يفتقر بيت فيه خل » . وذخائر العقبي / 223 والطبراني الصغير : 2 / 67 .
--------------------------- 428 ---------------------------
16 - النبي « صلى الله عليه وآله » ينصب حاكماً لمكة
كان على زعماء قريش أن يتفهموا الوضع الجديد ، فقد داهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) مكة بألوف من جنود الله تعالى وأجبرهم على الاستسلام وخلع سلاحهم ، وبذلك صاروا أسرى حرب في يده ، وكان من حقه أن يضرب أعناقهم ويغنم أموالهم ، لكنه منَّ عليهم وأطلقهم ! فكان عليهم أن يشكروه ويقبلوا بالحاكم الذي ينصبه لمكة . لكنهم لم يفعلوا ! وفى الأيام الأولى لدخوله مكة عين النبي ( صلى الله عليه وآله ) حاكماً هو الشاب الأموي عَتَّاب بن أسَيد ، وجعل معه أنصارياً يساعده هو معاذ بن جبل ، وجعل عتاباً نائبه في الصلاة .
ففي المسترشد / 129 : « استخلف عتاب ابن أسيد على مكة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقيم بالأبطح ، وأمره أن يصلى بالناس بمكة الظهر والعصر والعشاء الآخرة ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصلى بهم الفجر والمغرب » .
وفى إعلام الوري : 1 / 243 : « استخلف عتاب بن أسيد وخلف معه معاذاً يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن ، وحج بالناس في تلك السنة وهى سنة ثمان عتاب بن أسيد . ثم كانت غزوة تبوك . وبعث إلى عتاب بن أسيد عامله على مكة يستنفرهم لغزو الروم » .
وفى المغني : 4 / 372 : « واستخلف النبي عتاب بن أسيد على مكة ، والياً وقاضياً » .
وفى الدرر / 236 و 237 : « واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص ، وهو ابن نيف وعشرين سنة . . وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام ، وحج المشركون على مشاعرهم . وكان عتاب بن أسيد خيراً فاضلاً ورعاً » .
وقال ابن هشام : 4 / 891 : « استعمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة ، أميراً على من تخلف عنه من الناس ، ثم مضى رسول الله على وجهه يريد لقاء هوازن » .
17 - بعث النبي « صلى الله عليه وآله » سرايا إلى المناطق القريبة من مكة
في إعلام الوري : 1 / 227 : « وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) السرايا فيما حول مكة يدعون إلى الله عز وجل ، ولم يأمرهم بقتال ، فبعث غالب بن عبد الله إلى بنى مدلج فقالوا : لسنا عليك
--------------------------- 429 ---------------------------
ولسنا معك ، فقال الناس : أغزهم يا رسول الله ، فقال : إن لهم سيدا أديباً أريباً ، ورب غاز من بنى مدلج شهيد في سبيل الله .
وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى بنى الديل فدعاهم إلى الله ورسوله ، فأبوا أشد الإباء فقال الناس : أغزهم يا رسول الله ، فقال : أتاكم الآن سيدهم قد أسلم فيقول لهم : أسلموا ، فيقولون : نعم . وبعث عبد الله بن سهيل بن عمرو إلى بنى محارب بن فهر ، فأسلموا وجاء معه نفر منهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
18 - بعث خالد بن الوليد في سرية فغدر بهم
في إعلام الوري : 1 / 228 : « بعث خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة بن عامر ، وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بنى المغيرة نسوة وقتلوا عم خالد ، فاستقبلوه وعليهم السلاح وقالوا : يا خالد إنا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ونحن مسلمون فانظر فإن كان بعثك رسول الله ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها ، فقال : ضعوا السلاح ، قالوا : إنا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهلية وقد أماتها الله ورسوله . فانصرف عنهم بمن معه فنزلوا قريباً ثم شن عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً ثم قال : ليقتل كل رجل منكم أسيره فقتلوا الأسري !
وجاء رسولهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بما فعل خالد بهم ، فرفع ( عليه السلام ) يده إلى السماء وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد ، وبكي ! ثم دعا علياً ( عليه السلام ) فقال : أخرج إليهم وانظر في أمرهم وأعطاه سفطاً من ذهب ، ففعل ما أمره وأرضاهم » .
وفى أمالي الصدوق / 237 : « عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بنى جذيمة ، وكان بينهم وبين بنى مخزوم إحنة في الجاهلية ، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذوا منه كتاباً ، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادى بالصلاة فصلى وصلوا فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا ، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه فأتوا به النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحدثوه بما صنع
--------------------------- 430 ---------------------------
خالد بن الوليد ، فاستقبل القبلة ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ! قال : ثم قدم على رسول الله تبر ومتاع ، فقال لعلى ( عليه السلام ) : يا علي إئت بنى جذيمة من بنى المصطلق فأرضهم مما صنع خالد . ثم رفع ( صلى الله عليه وآله ) قدميه فقال : يا علي ، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك ! فأتاهم على ( عليه السلام ) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله ، فلما رجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي أخبرني بما صنعت ، فقال : يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ، ولكل مال مالاً ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي أعطيتهم ليرضوا عني ، رضى الله عنك يا علي ، إنما أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » .
وفى أمالي الطوسي / 498 : « فأدى إليهم ديات رجالهم ، وما ذهب لهم من أموالهم ، وبقى معه من المال زعبة فقال لهم : هل تفقدون شيئاً من أموالكم وأمتعتكم ؟ فقالوا : ما نفقد شيئاً إلا ميلغة كلابنا فدفع إليهم ما بقي من المال فقال هذا لميلغة كلابكم وما أنسيتم من متاعكم . وأقبل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ما صنعت ؟ فأخبره حتى أتى على حديثهم فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أرضيتنى رضى الله عنك يا علي أنت هادي أمتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة » .
أقول : روته مصادرهم وحذفوا منه مدح النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) ! وتجاهلوا براءة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من فعل خالد ، وحاولوا تبرير فعل خالد بأنه لم يفهم كلام بنى جذيمة فأسرهم وقتلهم ! وتجرأ بعض المتأخرين وهو العقاد في كتابه عبقرية عمر ، فأدان خالداً قال : « بعث رسول الله خالداً إلى بنى جذيمة داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه للقتال وأمره ألا يقاتل أحداً إن رأى مسجداً أو سمع أذاناً . ثم وضع بنو جذيمة السلاح بعد جدال بينهم واستسلموا فأمر بهم خالد فكتفوا ! ثم عرضهم السيف فقتل منهم وأفلت من القوم غلام يقال له السميدع حتى اقتحم على رسول الله وأخبره وشكاه إليه » . النص والاجتهاد / 460 .
--------------------------- 431 ---------------------------
قتل خالد عاشقاً غريباً ولم يرحمه
وروى ابن حجر في فتح الباري : 8 / 46 حالة مؤثرة من مجزرة خالد في بنى جذيمة ! قال : « وذكر ابن إسحاق من حديث ابن أبي حدرد الأسلمي قال : كنت في خيل خالد ، فقال لي فتى من بنى جذيمة قد جمعت يداه في عنقه برمَّة « حبل » : يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدى إلى هؤلاء النسوة ؟ فقلت : نعم ، فقدته ، ثم ضربتُ عنق الفتى فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت !
وقد روى النسائي والبيهقي في الدلائل بسند صحيح من حديث ابن عباس نحو هذه القصة ، وقال فيها : فقال إني لست منهم إني عشقت امرأة منهم فدعونى أنظر إليها نظرة ! فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت ! فذكروا ذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أما كان فيكم رجل رحيم » !
ونقل ابن هشام : 4 / 883 قول عبد الرحمن بن عوف لخالد : كذبت ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة !
وروى الطبري : 2 / 342 حوار العاشِقَين شعراً ، وقال : « قامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه ، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده » !
19 - قريش تعزل أبا سفيان وتنصب بدله سهيل بن عمرو
اعتبر زعماء قريش أن أبا سفيان خانهم فوافق على استسلام قريش وخلع سلاحها بدون شروط لمصلحتها ، ومال إلى محمد ( صلى الله عليه وآله ) تعصباً للمنافية أي لجدهم المشترك عبد مناف ! وإنه يطمع بمناصب لبنى أمية في دولة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وهاهو محمد ينصب حاكماً أموياً على مكة ، مجازاة لأبى سفيان !
وكانوا معجبين بسهيل بن عمرو الذي انتزع من محمد في الحديبية شروطاً لمصلحتهم ، لذلك قاموابعزل أبي سفيان عن قيادة قريش ، ونصبوا سهيل بن عمرو ، ونشطوا في دعمه والالتفاف حوله !
وقد كتبنا في آيات الغدير / 138 ، أن سهيلاً تصرف بعد فتح مكة وكأن شيئاً لم
--------------------------- 432 ---------------------------
يحدث وتجاهل حاكم مكة الذي نصبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وكتب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مطالباً بأناس جاؤوا من مكة اليه ليتفقهوا في الدين ، وجاء إلى المدينة مطالباً بهم ، ونزل عند أبي بكر وعمر ، فذهبا معه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأيدا مطلبه ! يقول بذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله ) هؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك ، فإن كانت حجتهم التفقه فنحن نفقههم في الدين ، فأرجعهم إلينا !
ومعنى ذلك أن قريشاً بقيت على كبريائها ولم تعترف بالحاكم الشرعي لمكة ، وتريد منه الاعتراف بأنها وجود سياسي في مقابله !
روى الحاكم في المستدرك : 2 / 138 : « عن ربعي بن حراش عن علي قال : لما افتتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة أتاه ناس من قريش فقالوا : يا محمد إنا حلفاؤك وقومك ، وإنه لَحِقَ بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام ، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا ! فشاور أبا بكر في أمرهم فقال : صدقوا يا رسول الله ! فقال لعمر : ماتري ؟ فقال مثل قول أبى بكر . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضرب رقابكم على الدين ! فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا . قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في المسجد وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها . هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه » .
ورواه الحاكم : 4 / 298 ، وصححه بشرط مسلم وفيه : « لما افتتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة أتاه أناس من قريش . . يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين ، ثم قال : أنا أو خاصف النعل ، قال علي : وأنا أخصف نعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
لقد جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عاصمته يطالبونه بالاعتراف باستقلالهم ، وهى وقاحة ما فوقها وقاحة ! وقالوا له « يا محمد » كما رواه الحاكم وأبو داود : 1 / 611 ! لكن الترمذي جعلها : « يا رسول الله » ! وحاول بعض علماء قريش أن يجعل الحديث قبل فتح مكة ، لكن نصوصه ذكرت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) غضب من طلبهم وهو لا يغضب إلا بحق ! فلو كان طلبهم قبل نقضهم العهد وفتح مكة لكان حقاً لهم لا يوجب الغضب ! ومما يؤكد
--------------------------- 433 ---------------------------
أنه بعد فتح مكة أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : « يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة » ولا يمكن أن يطالبهم بالصلاة قبل فتح مكة ! وقول سهيل « سنفقههم » وهذا لا يقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الإسلام ! مضافاً إلى أن رواية الحاكم وغيرها صرحت بأنه بعد فتح مكة .
ونلاحظ أن سهيل بن عمر ومن أيده اعتبروا أن فتح مكة « ودخولهم » في الإسلام لا يعنى خضوعهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وذوبانهم في الأمة الإسلامية ، بل هو تحالف الند للند مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل ! ويعيد لهم الفارين إليه من أبنائهم وعبيدهم ! والعنصر الجديد في الأمر أن أبا بكر وعمر أيدا مطلبهم ! فقال أبو بكر : « صدقوا يا رسول الله ! وقال عمر مثل قوله : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم » ! الحاكم : 3 / 122 ، الزوائد : 9 / 134 و 5 / 186 وصححه .
وجاء الرد النبوي غاضباً حاسماً ، فأعلن يأسه من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها إلا بقوة السيف ! ففي عدد من روايات الحادثة كالحاكم : 2 / 125 : « فقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا » أي على الإسلام ! وأبو داود : 1 / 611 ، البيهقي : 9 / 229 وكنز العمال : 10 / 473 !
وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ولن يسلموا إلا تحت سيف على الذي ترتعد منه فرائصهم ، فهذا هو الدواء الوحيد لفراعنة قريش !
وفى تلك الفترة أكمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) تهديده « لمسلمة » الفتح بأن أمر علياً ( عليه السلام ) أن يعلن الحرب عليهم إن هم أعلنوا ارتدادهم بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
فقد روى في مجمع الزوائد : 9 / 134 : « عن ابن عباس : إن علياً كان يقول في حياة رسول الله : إن الله عز وجل يقول : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ! والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى . والله لئن مات أو قتل ( صلى الله عليه وآله ) لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ! لا والله ، إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه ، فمن أحق به مني ؟ ! » .
وأشد ما في موقف النبي ( صلى الله عليه وآله ) حكمه بكفرهم ! ولعمرى إن مجرد طلبهم كاف
--------------------------- 434 ---------------------------
لإثبات كفرهم ! ثم إنه ( صلى الله عليه وآله ) أبى أن يرد عليهم أولادهم وعبيدهم المملوكين ، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى ، ومعناه أنه اعتبرهم من أموال الكفار التي أحلها له الله تعالى ! ولو كان الطلقاء مسلمين وكانت ملكيتهم محترمة لم يجز للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يعتق عبيدهم ، فهو أتقى الأتقياء ( صلى الله عليه وآله ) وهو القائل : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه !
وهكذا دخلت قريش بعد فتح مكة معركة « استقلال مكة » مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) والحاكم الذي نصبه عليهم ، وحاول عتاب أن يلزمهم بالصلاة والزكاة وهم يتملصون ، ولا يعرفون حاكماً لهم إلا سهيل بن عمرو !
ففي السيرة الحلبية : 3 / 59 : « فكان شديداً على المريب ليناً على المؤمن وقال : والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه ، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق ! فقال أهل مكة : يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد ، أعرابياً جافياً ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إني رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها ، فأعز الله به الإسلام فنصرته للمسلمين على من يريد ظلمهم .
ولما ولاه على مكة جعل له في كل يوم درهماً . ويروى أنه قام فخطب الناس فقال : أيها الناس ، أجاع الله كبد من جاع على درهم أي له درهم ، فقد رزقني رسول الله درهماً في كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد » . وبعضه ابن هشام : 4 / 936 .
وبقى عتَّاب والياً على مكة والطائف من قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمره أن يحج بالناس في تلك السنة لكن القرشيين لم يحجوا معه !
قال اليعقوبي : 2 / 76 : « فوقف عتاب بالمسلمين ، ووقف المشركون على حدتهم » .
وتواصلت مؤامرتهم على عتاب ، وكانت أول أعمالهم لأخذ خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإبعاد عترته « عليهم السلام » ! فقد كانت قريش تعتبر عتاباً من « عُبَّاد محمد » الذين يريدون فرض عترته بعده ! وقد جاءتهم الفرصة لقتله عندما جاءهم خبر وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فشاع في مكة أن قريشاً ارتدت عن الإسلام ، وخاف منهم عتَّاب فاختبأ ، مع أنه مكي قرشي أموي ! وعندما وصلهم خبر يطمئنهم بعزل بني هاشم وبيعة أبى بكر اطمأن سهيل بن
--------------------------- 435 ---------------------------
عمرو وخطب في قريش بنفس خطبة أبى بكر في المدينة ، وقال كلمتهم المشهورة : من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات ، ونحن لا نعبد محمداً ، بل هو رسول بلغ رسالته ومات ، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش ، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر ، فاسمعوا له وأطيعوا . وأصدر سهيل أمره إلى عتاب الحاكم : أخرج من مخبئك واحكم مكة ، لكن ليس باسم رسول الله ، بل باسم الزعيم القرشي أبى بكر بن أبي قحافة » !
قال ابن هشام : 4 / 1079 : « حدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك ، حتى خافهم عتاب بن أسيد فتواري ! فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله ، وقال : إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة ، فمن رابنا ضربنا عنقه ، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به ، وظهر عتاب بن أسيد » !
ومن الواضح أن عتاباً بقي حاكماً إسمياً لأن أبا بكر لم يرد عزل ولاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى لا يقال نصبهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعزلهم أبو بكر ! أما الحاكم الحقيقي لمكة فكان سهيل بن عمرو ! ولم يطل الأمر بعتاب حتى قتلوه ! فهو أحد من يجب تصفيتهم لتصل الخلافة إلى عمر ! قال الطبري : 2 / 611 : « ومات عتاب بن أسيد بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر ، وكانا سُمَّا جميعاً « في المدينة »
ثم مات عتاب بمكة » !
قتلوه بالسم في ريعان شبابه « رحمه الله » ، لأنه كان متمسكاً بالنص النبوي ، موالياً لعترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم يكن كأبى سفيان عارضهم حتى وصل اليه سهم فدعا لأبى بكر !
قال الطبري : 2 / 449 : « لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا ولأبى فصيل ؟ ! إنما هي بنو عبد مناف ! قال فقيل له : إنه قد ولَّى ابنك ! قال :
وصلته رحم » !
* *
- *
--------------------------- 436 ---------------------------
الفصل الثالث والستون
غزوة حنين والطائف
1 - أسباب غزوة فتح مكة وغزوة حنين والطائف
قد يصنع أحداث التاريخ أشخاص بدون أن يقصدوا ، ولله في خلقه شؤون ! ومن أولئك « بنو نفاثة » وهم عائلة صغيرة شريرة من كنانة ، عُرفت بأنها تسرق أمتعة الحجاج في حرم الله تعالى ، وكان لها ثأر عند خزاعة ، فأرادت الهجوم عليهم وأقنعت بذلك رؤساء كنانة ، فطلبوا من قريش أن تمدهم بالسلاح وبمقاتلين ليباغتوا خزاعة ، ويقتلوا منهم أكبر عدد ممكن ! ففعلت قريش ذلك وهى تعلم أن ذلك نقض لعهدها مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الحديبية ! فقدمت بذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله ) مبرراً لفتح مكة ، فأخضعها وأجبرها على خلع سلاحها !
وشبيهاً بذلك فعلت هوازن في غزوة حنين ، وثقيف في الطائف !
فقد فكر رئيس هوازن مالك بن عوف أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد سيطرته على قبائل الجزيرة وانتصاره على اليهود وإجلائهم ، سيهاجم قبائل نجد لإخضاعها ، فبادر إلى تحشيد القبائل لحرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يحاربه ! وقبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) في طريقه إلى فتح مكة على عين لهوازن أقر بأنهم يجمعون لحربه ، فأمر بحبسه حتى لايخبروهم بحركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! » الصحيح من السيرة : 21 / 215 .
وبعث إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) « عبد الله بن أبي حدرد عيناً ، فسمع ابن عوف يقول : يا معشر هوازن إنكم أحدُّ العرب وأعدُّها ، وإن هذا الرجل لم يلق قوماً يصدقونه القتال ، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون سيوفكم « أغلفتها » واحملوا عليه حملة رجل واحد . فأتى ابن أبي
حدرد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره » . إعلام الوري : 1 / 228 .
--------------------------- 437 ---------------------------
وأكملت هوازن تحشيد قواتها واتخذت مركز معسكرها وادى أوطاس ، وهو شمال شرق مكة ، على بعد بضعة وعشرين كيلومتراً من حنين ، قرب الضربية « ذات عرق » ميقات أهل العراق . ثم اتفقوا مع ثقيف على حرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقدموا مركز معسكرهم إلى وادى حنين بين الطائف ومكة ، ويعرف اليوم بالشرائع .
تقدمت نخبة قوات هوازن وثقيف وعسكرت في حنين ، وهددت المسلمين وأهل مكة ، فعطلت الحج في تلك السنة ، فقصدهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكانت المعركة فانهزم الثقفيون إلى الطائف ، وهى تبعد نحو تسعين كيلومتراً عن مكة ، وترتفع عن سطح البحر نحو 1300 متراً . ثم انهزمت قبائل هوازن إلى أوطاس القريبة .
2 - أخذ النبي « صلى الله عليه وآله » قريشاً معه إلى حرب هوازن
في مناقب آل أبي طالب : 1 / 180 : « فات الحج من فساد هوازن في وادى حنين ! فخرج ( صلى الله عليه وآله ) في ألفين من مكة ، وعشرة آلاف كانوا معه » .
ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعلن موعد تجمع جيشه في مني ، في مكان مؤتمر قريش وكنانة لمقاطعة بني هاشم ! قال ( صلى الله عليه وآله ) : « منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بنى كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر » ! « صحيح بخاري : 5 / 92 » . وفى ذلك تخليدٌ للمكان ، وتذكير لقريش بجرائمها بحق الإسلام وبنى هاشم ! وقد بقي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة أسبوعين ، وكان خروجه إلى حنين يوم السبت السادس من شوال ، ووصلها يوم الثلاثاء التاسع من شوال . الصحيح من السيرة : 24 / 53 .
وفى إعلام الوري : 1 / 228 : « فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ألفين من مكة وعشرة آلاف كانوا معه فقال أحد أصحابه « هو أبو بكر » الصحيح / 24 / 106 : لن نغلب اليوم من قلة ! فشق ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأنزل الله سبحانه : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيوْمَ حُنَينٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيئًا وَضَاقَتْ عَلَيكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيتُمْ مُدْبِرِينَ . . .
--------------------------- 438 ---------------------------
3 - دريد بن الصمة ينصح هوازن فلا يقبلون !
في إعلام الوري : 1 / 229 : « قال الصادق ( عليه السلام ) : وكان مع هوازن دُرَيد بن الصُّمَّة خرجوا به شيخاً كبيراً يتيمنون برأيه ، فلما نزلوا بأوطاس قال : نِعْمَ مجالُ الخيل لاحَزَنٌ ضِرْسٌ ولاسهلٌ دَهْس ، مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم . قال : فأين مالك ؟ فدعى مالك له فأتاه فقال : يا مالك أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام ، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاة ؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم . قال : ويحك لم تصنع شيئاً ، قدمت بيضة هوازن في نحور الخيل ، وهل يرد وجه المنهزم شئ ؟ ! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ! قال : إنك قد كبرت وكبر عقلك ! فقال دريد : إن كنت قد كبرت فتورث غداً قومك ذلاً بتقصير رأيك وعقلك ، هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه ! ثم قال : حربٌ عَوَان ! يا ليتني فيها جذع أخبُّ فيها وأضع » !
وفى سيرة ابن هشام : 4 / 290 ، أن ابن عوف قال لقبائل نجد : « والله لتطيعننى يا معشر هوازن ، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري ! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكرٌ أو رأي ، فقالوا : أطعناك » !
وقد روى أن دُريد بن الصُّمَّة كان عمره مئتى سنة ، وكان أعمى يحملونه في محفة ، وكان أسطورة في حروب العرب ، وقد تركوا رأيه لأنه خالف مالك بن عوف ! وعندما انهزمت هوازن ورجعت فلولهم إلى أوطاس كان دريد هناك ، فلحقهم المسلمون وقتلوه فيمن قتلوا من هوازن ، بينما سلم مالك بن عوف وعفا عنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأعطاه أهله وماله ومئة بعير .
--------------------------- 439 ---------------------------
4 - أدلة تآمر طلقاء قريش مع هوازن على النبي « صلى الله عليه وآله »
1 . ورد في وصف الهزيمة : « تفسير القمي : 2 / 286 » : « فلما صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الغداة انحدر في وادى حنين وهو واد له انحدار بعيد وكانت بنو سليم على مقدمة فخرجت عليها كتائب هوازن من كل ناحية فانهزمت بنو سليم ، وانهزم من ورائهم ولم يبق أحد إلا انهزم ! وبقى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقاتلهم في نفر قليل ، ومر المنهزمون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لايلوون على شئ ، وكان العباس آخذٌ بلجام بغلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن يمينه وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره ، فأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينادى يا معشر الأنصار إلى أين المفر ؟ ألا أنا رسول الله ، فلم يلو أحد عليه ! وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول : أين تفرون عن الله وعن رسوله ؟ ومر بها عمر فقالت له : ويلك ما هذا الذي صنعت ؟ فقال لها : هذا أمر الله ! فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه ، فقال يا عباس إصعد هذا الظرب وناد يا أصحاب البقرة ! ويا أصحاب الشجرة ! إلى أين تفرون هذا رسول الله ! ثم رفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده فقال : اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) عليه فقال له : يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى حين فلق الله له البحر ونجاه من فرعون » !
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأبى سفيان بن الحارث : ناولني كفاً من حصى فناوله فرماه في وجوه المشركين ، ثم قال : شاهت الوجوه ! ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد !
وفى إعلام الوري : 1 / 229 : « قال جابر بن عبد الله : فسرنا حتى إذا استقبلنا وادى حنين كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضائقه ، فما راعنا إلا كتائب الرجال بأيديها السيوف والعمد والقنا ، فشدوا علينا شدة رجل واحد ، فانهزم الناس راجعين لايلوى أحد على أحد ! وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذات اليمين ، وأحدق ببغلته تسعة من بنى عبد المطلب .
--------------------------- 440 ---------------------------
وأقبل مالك بن عوف يقول : أروني محمداً ، فأروه ، فحمل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان رجلاً أهوج ، فلقيه رجل من المسلمين فالتقيا فقتله مالك ، وقيل إنه أيمن بن أم أيمن ، ثم أقدم فرسه فأبى أن يقدم نحو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) !
وصاح كلدة بن حنبل وهو أخو صفوان بن أمية لأمه وصفوان يومئذ مشرك : ألا بطل السحر اليوم ! فقال صفوان : أسكت فض الله فاك ، فوالله لأن يرُبَّنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوازن » !
2 . وقد ذكر القرآن أن سبب هزيمة المسلمين في حنين : إعجابهم بكثرة عددهم فقد كانوا في بدر ثلاث مئة ونيفاً ، وفى خيبر ألفاً وخمس مئة ، فانتصروا ، لكنهم رأوا أنفسهم في حنين عشرة آلاف أو نحوها فأعجبتهم كثرتهم ! فنبههم الله تعالى إلى خطأ تفكيرهم وأن النصر لم يكن يوماً بالكثرة ، قال تعالي : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيوْمَ حُنَينٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيئًا وَضَاقَتْ عَلَيكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ . ثُمَّ يتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » . « 25 - 27 » والخطاب في الآية للمسلمين الذين نصرهم الله من قبل ، وليس منهم الطلقاء .
3 . لكن ذلك لا ينفى تواطؤ الطلقاء مع النجديين مقابل عدم هجوم هوازن على مكة ، وبذلك يثأر الطلقاء من النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأنه غلبهم وأخضعهم .
وقد يقال هنا إن صفوان بن أمية كان يفضل أن ينتصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) على هوازن فقد « صاح كلدة بن حنبل وهو أخو صفوان لأمه وصفوان يومئذ مشرك : ألا بطل السحر اليوم ! فقال صفوان : أسكت فضَّ الله فاك فوالله لأن يرُبَّنِي « يحكمني » رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوازن » . إعلام الوري : 1 / 229 .
لكن تفضيل صفوان حكم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لاينفى عمل قريش ورئيسها سهيل لقتله ( صلى الله عليه وآله ) ! لأن صفوان فهو كناني حليف لقريش وليس من صلبهم فلا يجب أن يعرف اتفاقهم .
4 - كشف النضير خطة الطلقاء بصراحة ، فقال كما رواه الواقدي : « خرجت مع قوم من قريش هم على دينهم بعدُ : أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وسهيل بن
--------------------------- 441 ---------------------------
عمرو ونحن نريد إن كانت دبرة على محمد أن نغير عليه فيمن يغير . فلما تراءت الفِئَتَان ونحن في حيز المشركين حملت هوازن حملة واحدة ظننا أن المسلمين لا يجبرونها أبداً ، ونحن معهم وأنا أريد بمحمد ما أريد ، وعمدت له فإذا هو في وجوه المشركين واقف على بغلة شهباء حولها رجال بيض الوجوه ، فأقبلت عامداً إليه فصاحوا بي : إليك ! فأرعب فؤادي وأرعدت جوارحي ! قلت : هذا مثل يوم بدر ، إن الرجل لعلى حق وإنه لمعصوم ! وأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام ، وغيره عما كنت أهم به » . سبل الهدي : 5 / 321 .
4 - قال الطلقاء بعضهم لبعض عند الهزيمة : « أخذلوه فهذا وقته ، فانهزموا أول من انهزم وتبعهم الناس » . الصحيح : 24 / 120 .
5 - أرسل الطلقاء بخبر الهزيمة إلى مكة وبشروا أهل مكة بهزيمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فاغتم عتاب بن أسيد حاكم مكة من قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وسُرَّ بذلك الطلقاء في مكة وأظهروا الشماتة ، وقالوا ترجع العرب إلى دين آبائها وقد قتل محمد وتفرق أصحابه ! فما أمسوا ذلك اليوم حتى جاء الخبر أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أوقع بهوازن ، فسُرَّ عتَّاب وكبت الله تعالى أعداء رسوله ( صلى الله عليه وآله ) . سبل الهدي : 5 / 230 .
ومما يؤيد وجود المؤامرة قول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « ما مرَّ بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم كان أشد عليه من يوم حنين ! وذلك أن العرب تباغت عليه » . علل الشرائع : 2 / 462 .
6 - استقسم أبو سفيان بالأزلام وهو نوع من التبصير بالمستقبل ! « أخرج أزلاماً من كنانته فضرب بها وقال : إني أرى أنها هزيمة لا يردها إلا البحر » .
7 - وقعت محاولتان على الأقل لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فقد قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة : « اليوم أدرك ثأر أبي » ! وكان أبوه قتل ببدر ، وجاء ليقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره رسول الله بما نواه وأحبط الله سعيه ! ثم النضير بن كلدة العبدري وقد اعترف بأنه قصد قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأحبط الله تعالى سعيه ! آيات الغدير للمؤلف / 136 .
8 - تناقضت روايتهم عن سبب الهزيمة ، فقد قالوا إن هوازن كمنت في الشعاب في مدخل وادى حنين ، فتفاجأت المقدمة بقيادة خالد بن الوليد بسهامهم ووقع
--------------------------- 442 ---------------------------
منهم قتلى فانهزم خالد وتبعه الطلقاء وتبعهم الباقون ، وتركوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبنى هاشم وحدهم مقابل هوازن !
وكذبوا بقولهم إن الوقت كان فجراً فلم يرَ خالد الكمائن ! فقد كان قريب الظهر ! وقد ناقش مقولاتهم ومبرراتهم للهزيمة صاحب الصحيح : 24 / 100 .
5 - فرَّ الجميع وثبت النبي « صلى الله عليه وآله » وبنو هاشم فقط !
1 - وصف القرآن فرار المسلمين في حنين فضلاً عن الطلقاء ، فقال تعالي : وَيوْمَ حُنَينٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيئاً وَضَاقَتْ عَلَيكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ . فالفرار عام والسكينة بعده خاصة .
2 - اعترف الجميع بالفرار ، ففي صحيح بخاري : 4 / 57 ، قال أبو قتادة : « فلحقت عمر بن الخطاب فقلت ما بال الناس ؟ قال : أمر الله » ! فقد نسب عمر الفرار إلى الله تعالى ! وفى صحيح بخاري : 5 / 98 : « يا أبا عمارة أتوليت يوم حنين ! فقال : أما أنا فأشهد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه لم يولِّ » .
وفى البخاري : 4 / 28 : « فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول : أنا النبي لاكذب . أنا ابن عبد المطلب . فما رؤى من الناس يومئذ أشد منه » !
وقال ابن هشام : 4 / 893 : « وانشمر الناس راجعين لا يلوى أحد على أحد ، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال : أين الناس هلموا إلى أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله ! قال : فلا شئ » .
وقال ابن خلدون : 2 ق 2 / 46 : « فولى المسلمون لا يلوى أحد على أحد وناداهم ( صلى الله عليه وآله )
فلم يرجعوا » .
وقال السرخسي في سيره : 1 / 117 : « فانكشفت أول الخيول خيل بنى سليم مولية ثم تبعهم أهل مكة ، وتبعهم الناس مدبرين لايلوى أحد على أحد » .
3 - في الصحيح من السيرة : 24 / 293 ، ملخصاً : « دلت النصوص على أن علياً ( عليه السلام ) وحده الذي ثبت ، وقد وردت نصوص كثيرة تضمنت نفى ثبات غيره ، واستثنى بعضها
--------------------------- 443 ---------------------------
بضعة رجال من بني هاشم ، أحاطوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) لحمايته .
أما قول بعضهم إنه ثبت ثمانون أو مائة رجل فلعلهم كانوا من أوائل العائدين .
4 - وفى الإرشاد : 1 / 141 : « لم يبق منهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلاعشرة أنفس : تسعة من بني هاشم خاصة ، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن ، فقتل أيمن « رحمه الله » وثبتت التسعة الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من كان انهزم ، فرجعوا أولاً فأولاً حتى تلاحقوا وكانت لهم الكرة على المشركين ، وفى ذلك أنزل الله تعالى وفى إعجاب أبى بكر بالكثرة : وَيوْمَ حُنَينٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيئاً وَضَاقَتْ عَلَيكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ . ، يعنى أمير المؤمنين علياً ( عليه السلام ) ومن ثبت معه من بني هاشم ، وهم يومئذ ثمانية . . العباس عن يمينه والفضل عن يساره وأبو سفيان ممسك بسرجه عند ثفر بغلته ، وسائرهم حوله ، وعلى ( عليه السلام ) يضرب بالسيف بين يديه » .
قال مالك بن عبادة الغافقي :
لم يواس النبي غير بنى ها * شم عند السيوف يوم حنين
هرب الناس غير تسعة رهط * فهم يهتفون بالناس : أين
ثم قاموا مع النبي على المو * ت فآبوا زيناً لنا غير شين
وسوى أيمن الأمين من القوم * شهيداً فاعتاض قرة عين
وقال العباس بن عبد المطلب :
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة * وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه * على القوم أخرى يا بني ليرجعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه * لما ناله في الله لا يتوجع
5 - قال المأمون في مجلسه مع فقهاء عصره : « إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا سبعة من بني هاشم : على ( عليه السلام ) يضرب بسيفه ، والعباس آخذ بلجام بغلة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، والخمسة محدقون بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) خوفاً من أن يناله سلاح
--------------------------- 444 ---------------------------
الكفار ، حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله ( عليه السلام ) الظفر . عنى في هذا الموضع علياً ومن حضر من بني هاشم . فمن كان أفضل أمَن كان مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونزلت السكينة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعليه ؟ أم من كان في الغار مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يكن أهلاً لنزولها عليه ؟ ! » .
6 - كانت نسيبة تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول : أين تفرون عن الله وعن رسوله ؟ ومر بها عمر بن الخطاب فقالت له : ويلك ما هذا الذي تصنع ! فقال : هذا أمر الله !
6 - نزلت الملائكة والسكينة على الثابتين خاصة !
قال تعالي : وَضَاقَتْ عَلَيكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ . ثُمَّ يتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
فالمخاطب بالآية المسلمون الذين نصرهم الله في مواطن كثيرة ، وقد وبخهم ، وأخبرهم أنه بعد فرارهم أنزل سكينته على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه ، وهم بنو هاشم ومولاهم أيمن ، ومعهم نسيبة ، وقيل معهم ابن أم مسعود . وعذب الذين كفروا حتى انهزموا ، وكان عذابهم بيد الملائكة وعلى ( عليه السلام ) !
7 - قاتلَ علي « عليه السلام » وحده ونزلت الملائكة !
اطمأن على ( عليه السلام ) بأن بني هاشم يحيطون بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فغاص في أوساط هوازن يقصد القائد حامل راية الكتيبة فيقتله ، ثم يقصد الآخر ! وبذلك أبعد المعركة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وضعضع صفوف العدو . وكان يرجع بين فترة وأخرى ليطمئن على سلامة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد يأتي معه بأسير أو أكثر !
وقد ورد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أركض بغلته نحوه ، « الصحيح : 24 / 223 » فلعله ذهب ليخبره بنزول الملائكة وأن جبرئيل والملائكة يقاتلون معه ، أو يعطيه برنامج القتال !
وفى المناقب : 1 / 355 : « وقف ( عليه السلام ) يوم حنين في وسط أربعة وعشرين ألف ضارب سيف إلى أن ظهر المدد من السماء . وقتل أربعين رجلاً وفارسهم أبا جرول ، قدَّه بنصفين بضربة في الخوذة والعمامة والجوشن والبدن إلى القربوس » .
--------------------------- 445 ---------------------------
ولا ننس أن اسم على ( عليه السلام ) طبق الجزيرة وهابته الفرسان ، بعد أن قتل عمرو بن ود في الخندق ومرحباً في خيبر ! فكانت حملاته في هوازن كافيةً للرعب فيهم !
ففي أمالي الطوسي / 575 : « قال نوفل بن الحارث بن عبد المطلب : فرَّ الناس جميعاً وأعْرَوْا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلم يبق معه إلا سبعة نفر من بنى عبد المطلب : العباس ، وابنه الفضل ، وعلي ، وأخوه عقيل ، وأبو سفيان ، وربيعة ، ونوفل بنو الحارث بن عبد المطلب ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مصلت سيفه في المجتلد ، وهو على بغلته الدلدل ، وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
قال الحارث بن نوفل : فحدثني الفضل بن العباس قال : التفت العباس يومئذ
وقد أقشع الناس عن بكرة أبيهم ، فلم ير علياً ( عليه السلام ) في من ثبت ، فقال : شوهة بوهة ، أفي مثل هذا الحال يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو صاحب ما هو صاحبه ! يعنى المواطن المشهورة له فقلت : نقص قولك لابن أخيك يا أبه . قال : ما ذاك يا فضل ؟ قلت : أما تراه في الرعيل الأول ، أما تراه في
الرهج ! قال : أشعره لي يا بني . قلت : ذو كذا ذو كذا ذو البردة . قال : فما تلك البرقة ؟ قلت : سيفه يزيل به بين الأقران . فقال : بَرٌّ بن بَر ، فداه عم وخال .
قال : فضرب على ( عليه السلام ) يومئذ أربعين مبارزاً ، كلهم يقدُّه حتى أنفه ، قال : وكانت ضرباته مبتكرة » . أي واحدة لا تحتاج إلى ثانية !
وقد بخلت مصادر السلطة في ذكر بطولات على ( عليه السلام ) وكيف حقق النصر للمسلمين بعد فرارهم ! فذكروا أنه قتل قائد هوازن « ذا الخمار » وفارسهم أبا جرول ! وقتل ( عليه السلام ) أربعين من فرسانهم ، فوقع فيهم الرعب والهزيمة !
قال في الإرشاد : 1 / 142 : « وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم ، إذا أدرك نفراً من المسلمين أكب عليهم وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين فاتبعوه ، وهو يرتجز ويقول :
أنا أبو جرولٍ لا براح * حتى نبيحَ القومَ أو نباح
فصمد له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فقطره ، ثم قال :
--------------------------- 446 ---------------------------
قد علم القوم لدى الصباح * أنى في الهيجاء ذو نصاح
فكانت هزيمة المشركين بقتل أبى جرول لعنه الله » .
« وكان على راية الأحلاف من ثقيف يوم حنين قارب بن الأسود ، فلما رأى الهزيمة أسند رايته إلى شجرة وهرب » ! ابن حبان : 2 / 73 وابن خلدون : 2 ق 2 / 47 .
واعترف رواة السيرة من حيث لا يريدون بفرار الجمع وبطولات على ( عليه السلام ) !
ففي سيرة ابن هشام : 4 / 896 : « فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » ! والدرر لابن عبد البر / 227 .
فمن أسرهم وكتَّفهم قبل رجوع الفارِّين والكل فارُّون ما عدا بني هاشم الذين يحرسون النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلى ( عليه السلام ) وحده في المعركة ؟ !
وقد ادعوا أن ثمانين من الفارين أو مئة رجعوا قبل غيرهم ، ونسبوا بطولات على ( عليه السلام ) أو قسماً منها إليهم ! لكنهم لم يسموا منهم أحداً إلا عبد الله بن مسعود ، وهو ضعيف البنية صغير الجثة غير مقاتل ! ثم نسبوا النصر إلى دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإلقائه حفنة الحصى والتراب على جيش هوازن وهو صحيح ، لكنه لا يلغى دور على ( عليه السلام ) ! وقد نسب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) النصر إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال فيه :
ألم تر أن الله أبلى رسوله * بلاء عزيزاً ذا اقتدار وذا فضل
بما أنزل الكفار دار مذلة * فذاقوا هواناً من إسار ومن قتل
مناقب آل أبي طالب : 2 / 331 .
ومما يدلك على أنه لم يقاتل أحدٌ في حنين إلا على ( عليه السلام ) عدم وجود شهداء للمسلمين ! وعدم وجود قتلى من المشركين ، إلا من قتلهم على ( عليه السلام ) !
فلا شهداء إلا أيمن بن أم أيمن « رحمه الله » الذي استشهد دفاعاً عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما قصده مالك بن عوف ! وقالوا استشهد غيره ثلاثة أو أربعة ، لكن ذكروا أن أحدهم أبا عامر الأشعري « جد الأشعريين القميين » لكنه قتل بعد المعركة في أوطاس في تعقب الفارين ، ويزيد بن زمعة بن الأسود جمح به فرسه فمات » ! الصحيح من السيرة : 24 / 338 ولعل البقية مثله !
--------------------------- 447 ---------------------------
ولا شك أن الملائكة كان لهم دورٌ مع علي ( عليه السلام ) ، فقد روى القمي في تفسيره : 2 / 288 : « قال رجل من بنى نضر بن معاوية يقال له شجرة بن ربيعة للمؤمنين وهو أسير في أيديهم : أين الخيل البلق والرجال عليهم الثياب البيض ؟ فإنما كان قتلنا بأيديهم ، وما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة ! قالوا : تلك الملائكة » . وروت شبيهاً به بقية المصادر ، ومشاهدة جنود هوازن لكتائب على خيل بلق ، وسماعهم قعقعة سلاح في الجو !
وفى مجمع البيان : 5 / 32 : « قال سعيد بن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقفوا لنا حلب شاة ، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم ، حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، يعنى رسول الله ، فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا : شاهت الوجوه إرجعوا ! فرجعنا ، وركبوا أكتافنا ، فكانوا إياها يعنى الملائكة » !
وإنما نزلت الملائكة بعد نزول السكينة على المؤمنين الثابتين ، وقتال على ( عليه السلام ) .
رجع المنهزمون فرأوا الأسرى حول النبي « صلى الله عليه وآله »
وجعل ابن عبد البر في الدرر / 226 ، النصر ببطولة مئة صحابي بلا أسماء ! قال : « حتى إذا اجتمع حواليه ( صلى الله عليه وآله ) مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب واشتدت الحرب وكثر الطعن والجلاد ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال : الآن حمى الوطيس . وضرب علي بن أبي طالب عرقوب جمل صاحب الراية أو فرسه فصرعه ، ولحق به رجل من الأنصار فاشتركا في قتله ، وأخذ على الراية وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب ، حين وصلوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك أن رسول الله إذا واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة ، ورمى في وجوههم بالحصا فلم يملكوا أنفسهم ! وفى ذلك يقول الله عز وجل : وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَي .
وروينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنيناً ، قال وقد
--------------------------- 448 ---------------------------
سئل عن يوم حنين : لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم ، وأتبعناهم حتى وصلنا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء ، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا ، وأخذ بكفه حصاً أو تراباً فرمانا به ، وقال : شاهت الوجوه ، شاهت الوجوه ! فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك ، فما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا ! وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا وأسرى هوازن بين يديه » .
أقول : لم يسموا حتى شخصاً واحداً من الأبطال الذين رجعوا ، وجعل ابن عبد البر لعلى ( عليه السلام ) شريكاً مجهولاً في قتل أبى جرول حامل رايتهم فقال : « فاشتركا في قتله وأخذ على الراية » !
8 - هزيمة هوازن وغنائم المسلمين منها
كانت هزيمة المسلمين سريعة ، وكان بعدها مباشرة محاولات القرشيين لاغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومعهم حملات هوازن وفرسانها ، فكانت حماية بني هاشم ، وحملات على ( عليه السلام ) المضادة ! ولعل حملاته استمرت أربع ساعات أو نحوها ، ومعناه أنه لم يحن الظهر حتى تم النصر للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وانهزم أعداؤه شذر مذر !
أما قائدهم مالك بن عوف الذي كان يهدر ويصيح : أروني محمداً حتى أقتله ! وجاء بالفعل إلى قرب مكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) فتصدى له أيمن « رحمه الله » فقتله مالك ، ولعل علياً ( عليه السلام ) قصده فهرب ، أو أحس بالملائكة فارتعب ، ثم سمع مالك دوى تكبيرات على ( عليه السلام ) وهويجندل حملة راياتهم ذا الخمار بن عبد الله ، وأخاه عثمان ، وأبا جرول ، فهرب مالك إلى الطائف !
في إعلام الوري : 1 / 232 : « فر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف في ناس من أشراف قومهم ، وأسلم عند ذلك كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله وإعزاز دينه » . والإرشاد : 1 / 151 والدرر / 227 .
غنائم هوازن الوافرة
في سيرة ابن هشام : 4 / 902 : « وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة ، فوقف في فوارس من قومه على ثنية من الطريق وقال لأصحابه : قفوا حتى تمضى ضعفاؤكم وتلحق أخراكم . فوقف هناك حتى مضى من كان لحق بهم من منهزمة الناس » !
--------------------------- 449 ---------------------------
« وتركوا أموالهم وأولادهم غنيمة هنيئة للمسلمين كما وعد الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانت أكبر غنيمة ، فقد بلغت ستة آلاف سبى بين امرأة وغلام ، وأربعةً وعشرين ألف بعير ، وأكثر من أربعين ألف شاة من الغنم ، وأربعة آلاف أوقية فضة » . الصحيح من السيرة : 25 / 173 وأقل منه في مناقب آل أبي طالب : 1 / 181 .
وأصدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمره إلى الراجعين من فرارهم أن يجمعوا الغنائم ويرسلوها إلى « الجعرانة » وجعل بديل بن ورقاء رئيس خزاعة ، مسؤولاً عليها . وأصدر أمره أن يتهيؤوا للسير إلى الطائف لمحاصرة ثقيف ، التي تحالفت مع هوازن ، وخرجت معها لحرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ويفهم من رواية الإمام الصادق ( عليه السلام ) « مكارم الأخلاق / 119 » أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذهب بنفسه لتعقب الفارين في أوطاس قبل الطائف ، قال : « دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الحرم يوم دخل مكة وعليه عمامة سوداء وعليه السلاح ، ثم خرج إلى حنين ، فلما فرغ منهم انتهى إلى أوطاس ، بقيت منهم بقية ففرغ منهم » .
وكان له فيها عين هو أنيس بن مرثد الغنوي ، وكان أبو مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب . مذيل الطبري / 51 .
9 - النبي « صلى الله عليه وآله » يحاصر قبيلة ثقيف في الطائف
كانت قبيلة ثقيف في الطائف حلفاء قريش وكان أثرياء قريش يملكون كثيراً من بساتين الطائف وأرضها . وقد جاءها النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل هجرته يدعوها إلى الإسلام وحمايته من قريش ، فرفضت دعوته وآذته ! وشاركت مع هوازن في حرب حنين ، وسرعان ما انهزمت ! فقد رأى قائدهم قارب بن الأسود علياً ( عليه السلام ) يحصد فرسان هوازن ، فخاف وأسند رايته إلى شجرة ، وهرب راجعاً إلى الطائف ! ثم انهزمت هوازن ، فذهب بعضم إلى أوطاس وبعضهم إلى الطائف مع رئيسهم مالك بن عوف ، وأكثرهم رجعوا إلى بواديهم .
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 148 : « فبعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبا عامر الأشعري إلى أوطاس
--------------------------- 450 ---------------------------
في جماعة فيهم أبو موسى الأشعري ، وبعث أبا سفيان صخر بن حرب إلى الطائف . فأما أبو عامر فإنه تقدم بالراية وقاتل حتى قتل فقال المسلمون لأبى موسي : أنت ابن عم الأمير وقد قتل ، فخذ الراية حتى نقاتل دونها ، فأخذها أبو موسى فقاتل المسلمون حتى فتح الله عليهم . وأما أبو سفيان فإنه لقيته ثقيف فضربوه على وجهه ، فانهزم ورجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : بعثتني مع قوم لا يرقع بهم الدلاء من هذيل والأعراب ، فما أغنوا عنى شيئاً ، فسكت النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنه » !
قال الطبري : 2 / 352 : « لما قدم فلُّ ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها وصنعوا الصنائع للقتال . ولم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة ، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدباب والضبور والمجانيق » .
وجرش قرية باليمن تصنع فيها المجانيق ، والضبور صندوق مدرع للمقاتلين لينقبوا سور الحصن أو ليردوا المتسلقين ، وتسمى الدباب أيضاً ، كما تطلق الدباب على الأحجار التي تلقى من المنجنيق ، أو تُدحرج من الجبل .
وفى إعلام الوري : 1 / 233 : « سار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الطائف في شوال سنة ثمان فحاصرهم بضعة عشر يوماً ، وخرج نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف فلقيه على ( عليه السلام ) في خيله فالتقوا ببطن وَجّ فقتله على ( عليه السلام ) وانهزم المشركون .
ونزل من حصن الطائف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جماعة من أرقائهم ، منهم أبو بكرة وكان عبداً للحارث بن كلدة المنبعث وكان اسمه المضطجع ، فسماه رسول الله المنبعث . ووردان ، وكان عبداً لعبد الله بن ربيعة ، فأسلموا .
فلما قدم وفد الطائف على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلموا قالوا : يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك فقال : لا ، أولئك عتقاء الله » .
وفى فتوح البلدان للبلاذري : 1 / 65 : « سار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالمسلمين حتى نزل الطائف فرمتهم ثقيف بالحجارة والنبل ، ونصب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منجنيقاً على حصنهم ، وكانت مع المسلمين دبابة من جلود البقر ، فألقت عليها ثقيف سكك الحديد المحماة فأحرقتها ، فأصيب من تحتها من المسلمين . وكان حصار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الطائف خمس عشرة ليلة » .
--------------------------- 451 ---------------------------
وفى الخرائج : 1 / 118 : « لما حاصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أهل الطائف قال عيينة بن حصن : إئذن لي حتى آتى حصن الطائف فأكلمهم ، فأذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجاءهم فقال : أدنو منكم وأنا آمن ؟ قالوا : نعم . وعرفه أبو محجن فقال : أدنُ فدخل عليهم ، فقال : فداكم أبى وأمي والله لقد سرني ما رأيت منكم ، وما في العرب أحد غيركم ووالله ما في محمد مثلكم ، ولقد قل المقام وطعامكم كثير ، وماؤكم وافر لا تخافون قطعه ! فلما خرج قالت ثقيف لأبى محجن : فإنا قد كرهنا دخوله وخشينا أن يخبر محمداً بخلل إن رآه فينا أو في حصننا ! فقال أبو محجن : أنا كنت أعرف به ليس منا أحد أشد على محمد منه وإن كان معه ! فلما رجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : قلت لهم أدخلوا في الإسلام ، فوالله لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا فخذوا لأنفسكم أماناً ، فخذلتهم ما استطعت ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كذبت لقد قلت لهم كذا وكذا ! وعاتبه جماعة من الصحابة قال : أستغفر الله وأتوب إليه ، ولا أعود أبداً » .
وأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى عبيد أهل الطائف أن من يخرج اليه منهم ويسلم يعتقه ، فخرج اليه بعضهم ومنهم أبو بكَرَة بن سمية وأبى عبيد ، وهو أخ زياد بن أبي عبيد الذي ادعاه أبو سفيان وألحقه معاوية به ، وسمى أبابكرة لأنه استعمل حبلاً وبكرة ونزل من حصن الطائف ، فقبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إسلامه وأعتقه .
10 - النبي « صلى الله عليه وآله » يفك الحصار عن الطائف
يلفتنا في عمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حصار الطائف أمران :
الأول : أنه لم يأخذ معه علياً ( عليه السلام ) بل بعثه لإخضاع ضواحيها خاصة قبيلة خثعم ، وتحطيم الأصنام الكثيرة التي كانت لأهل الطائف وقريش !
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 148 : « وأنفذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خيل وأمره أن يطأ ما وجد ويكسر كل صنم وجده . فخرج حتى لقيته خيل خثعم في جمع كثير ، فبرز له رجل من القوم يقال له شهاب في غبش الصبح فقال : هل من مبارز ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من له ؟ فلم يقم أحد فقام إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فوثب أبو
--------------------------- 452 ---------------------------
العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : تكفاه أيها الأمير . فقال : لا ، ولكن إن قتلت فأنت على الناس . فبرز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يقول :
إن على كل رئيس حقا
أن يروى الصعدة أو تُدَقا
ثم ضربه فقتله ومضى في تلك الخيل حتى كسر الأصنام ، وعاد إلى رسول الله وهو محاصر لأهل الطائف » . ومعنى يروى الصعدة : يروى الرمح المستقيم من دم العدو .
وقد استغرقت مهمة على ( عليه السلام ) بضع عشرة يوماً .
ففي أمالي الطوسي / 579 و 504 ، عن أبي ذر : « عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما أوقع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من هوازن سار حتى نزل بالطائف ، فحصر أهل وجّ أياماً فسأله القوم أن ينتزح عنهم ليقدم عليه وفدهم ، فيشترط له ويشترطون لأنفسهم . فسار ( صلى الله عليه وآله ) حتى نزل مكة ، فقدم عليه نفر منهم بإسلام قومهم ، ولم يبخع « يخضع » القوم له بالصلاة ولا الزكاة ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إنه لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود ، أما والذي نفسي بيده ليقيمن الصلاة وليؤتن الزكاة أو لأبعثن إليهم رجلاً هو منى كنفسي ، فليضربن أعناق مقاتليهم وليسبين ذراريهم هو هذا ، وأخذ بيد على ( عليه السلام ) فأشالها ! فلما صار القوم إلى قومهم بالطائف أخبروهم بما سمعوا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأقروا له بالصلاة وأقروا له بما شرط عليهم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما استعصى على أهل مملكة ولا أمة إلا رميتهم بسهم الله عز وجل ! قالوا : يا رسول الله وما سهم الله ؟ قال : علي بن أبي طالب ، ما بعثته في سرية إلا رأيت جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، وملكاً أمامه وسحابة تظله ، حتى يعطى الله حبيبي النصر والظفر » .
وقال المفيد في الإرشاد : 1 / 148 : « وعاد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو محاصر لأهل الطائف ، فلما رآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) كبر للفتح وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلاً . فروى عبد الرحمن بن سيابة والأجلح جميعاً ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما خلا بعلى بن أبي طالب ( عليه السلام ) يوم الطائف ، أتاه عمر بن الخطاب فقال : أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا ؟ فقال : يا عمر ، ما أنا انتجيته بل الله انتجاه ! قال : فأعرض عمر وهو يقول : هذا كما قلت لنا قبل الحديبية : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ
--------------------------- 453 ---------------------------
اللهُ آمِنِينَ ، فلم ندخله وصددنا عنه ! فناداه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لم أقل إنكم تدخلونه في ذلك العام » !
والأمر الثاني الملفت في حصار الطائف : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فك الحصار عنها ولم يصرّ على فتحها ، وروى أنه لم يؤذن له في فتحها .
وفى إعلام الوري : 1 / 234 : « ذكر الواقدي عن شيوخه قال : شاور رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه في حصن الطائف ، فقال له سلمان الفارسي : يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعمل منجنيق ، ويقال : قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودبابتين . ويقال خالد بن سعيد ، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فأحرقت الدبابة .
وأنفذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) في خيل عند محاصرته أهل الطائف ، وأمره أن يكسر كل صنم وجده ، فخرج فلقيه جمع كثير من خثعم . . . إلى آخر ما تقدم .
فلما قدم على ( عليه السلام ) فكأنما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على وجل فارتحل ، فنادى سعيد بن عبيدة : ألا إن الحي مقيم فقال ( عليه السلام ) : لا أقمت ولاظعنت ! فسقط فانكسر فخذه » !
أي لما جاء على ( عليه السلام ) فك النبي ( صلى الله عليه وآله ) الحصار بدون تأخير ، فقال الراوي كأنما كان على وجل . ومعنى كلام سعيد أن الذي يظعن هو الغريب الضعيف ، وقصده الطعن بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) بفك الحصار وأنه عن عجز ، فدعا عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقتله الله ! والظاهر أن سبب فك الحصار عن الطائف ليس عجز الصحابة عن اقتحامه ، فقد جاء على ( عليه السلام ) ! بل سببه طلب قسم من ثقيف « أهل وجّ » أن يفكه عنهم ليأتيه وفدهم ويتفاوضوا معه ؟ وقد يكون السبب قرب دخول شهر ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال . تفسير الثعلبي : 5 / 22 .
والأمر المؤكد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسدد بوحي ربه عز وجل في قوله وفعله . فقد قبل وعد أهل الطائف بأنهم يأتون إلى المدينة لمفاوضته ، وفك حصارهم مع عدم ثقته بهم ، وذهب إلى مكة معتمراً ، ثم عاد المدينة .
وذكرت رواية للواقدي أنه ( صلى الله عليه وآله ) أمر بقطع شجر كرومهم ، وهذا لا يصح عندنا .
--------------------------- 454 ---------------------------
11 - سياسة الإسلام العجيبة مع قريش وثقيف
لم يعرف التاريخ قبائل أفرطت في عدائها كبطون قريش مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعشيرته بني هاشم ! وقد وثقنا ذلك بسلسة مواقفهم وأعمالهم الكيدية ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بحث : « صراع قريش مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) » . لكن العجيب أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قاوم قريشاً حتى فتح مكة ، فأخضعهم وعفا عنهم وقبل إسلامهم وسماهم « الطلقاء » .
ثم فتح لهم أبواب دولته ! وفى نفس الوقت أعلن أنهم وأولادهم طلقاء وأخرجهم من أمته إلى يوم الدين ! ثم حكم ( صلى الله عليه وآله ) على ثقيف شبيهاً بحكمه على قريش ، وثقيف من قبائل هوازن النجدية ، سكنت الطائف فصارت حضرية ، وكانت حليفة لقريش وشريكتها في عدائها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) . وقد تحالفت مع هوازن في حربها للنبي وانهزمت معها في حنين ، ثم انهزمت بيد على ( عليه السلام ) في وجّ ، وبعد هزيمتهم طلبوا أن يعفيهم من الصلاة لأنها « دناءة » معيبة ! فلم يقبل منهم وهددهم بعلى ( عليه السلام ) ! وقد تأخر وفد ثقيف وظلوا على شركهم « ابن هشام : 4 / 936 » فحرك عليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) القبائل المحيطة بهم التي أسلمت ، ومنها بعض قبائل هوازن ليضغطوا عليهم ! وأخيراً جاءه وفد ثقيف إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد رجوعه من غزوة تبوك ، فقبل إسلامهم وسماهم « العتقاء » في مقابل تسمية قريش « الطلقاء » .
وأصدر حكمه عليهم وعلى من ولد منهم إلى يوم الدين ، بأنهم كالطلقاء ليسوا من أمته الإسلامية ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : « المهاجرون والأنصار أولياءٌ بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة » . وروته مصادر السنيين بأسانيد عديدة فيها الصحيح على شرط الشيخين كمسند أحمد : 4 / 363 بروايتين ، مجمع الزوائد : 10 / 15 ، بروايات وقال في بعضها : رواه أحمد والطبراني بأسانيد وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح ، وقد جوده فإنه رواه عن الأعمش . وأبو يعلي / 446 ، ابن حبان : 16 / 250 ،
الطبراني الكبير : 2 / 309 ، 313 ، 214 ، 316 ، 343 ، 347 و 10 / 187 ، موارد الظمآن : 7 / 271 ، الدر المنثور : 3 / 206 ، فتح القدير : 2 / 330 ، علل الدارقطني 5 / 102 ، السمعاني : 4 / 152 ، تاريخ بغداد : 13 / 46 ، تعجيل المنفعة / 414 ومن مصادرنا أمالي الطوسي / 268 .
--------------------------- 455 ---------------------------
وهو حكمٌ شديد وضربة قاصمة لطلقاء قريش وعتقاء ثقيف ! حيث أخرجهم من أمته وألحقهم بها إلحاقاً ، والعجيب أنه شامل لمن وجد منهم في ذلك العصر ، ومن يولد من ذرياتهم إلى يوم القيامة !
فكيف يدعى لهم محبوهم الصحبة والفضائل والخلافة ، وهم لا يستطيعون إدخالهم في متن أمة الإسلام !
وقد كتب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى معاوية : « وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم تلحقك ثلمته ! وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس ؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم . هيهات لقد حن قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ! ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك ؟ وتتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر ! وإنك لذهَّاب في التيه روَّاغ عن القصد » .
نهج البلاغة : 3 / 30 ، الإحتجاج : 1 / 259 وابن الأعثم : 2 / 560 .
وقال صعصعة لمعاوية : « أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ، ودانهم كبراً ، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً ؟ ! وإنما أنت طليق ابن طليق ، أطلقكما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فأنى تصلح الخلافة لطليق » ! مروج الذهب / 694 .
وقال ابن عباس لأبى موسى الأشعري : « ليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة ! واعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام ، وأن أباه رأس الأحزاب ، وأنه يدعى الخلافة من غير مشورة ولا بيعة » . شرح النهج : 2 / 246 .
وكتب ابن عباس إلى معاوية : « وإن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان في الشوري ، فما أنت والخلافة ؟ وأنت طليق الإسلام ، وابن رأس الأحزاب ، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر » . الإمامة والسياسة : 1 / 100 وراجع جواهر التاريخ : 2 / 94 .
وقد اتفق المسلون على هذا الحكم ، فقد أفتى عمر بأن حكم الأمة محرم على الطلقاء ! وقال كما في الطبقات : 3 / 342 : « هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم
--------------------------- 456 ---------------------------
أحد ، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد ، وفى كذا وكذا ، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ » . ورواه في تاريخ دمشق : 59 / 145 ، أسد الغابة : 4 / 387 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي / 113 ، الغدير : 7 / 144 و 10 / 30 ونفحات الأزهار : 5 / 350 .
فاعجب لهذا الأمر ! واعجب من أن أكثر حكام أمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليسوا من أمته !
12 - النبي « صلى الله عليه وآله » في الجعرانة يقسم الغنائم ويحرم للعمرة
الجعرانة : « ماء بين الطائف ومكة وهى إلى مكة أقرب ، نزلها النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما قسم غنائم هوازن ، مرجعه من غزاة حنين ، وأحرم منها ، وله فيها مسجد ، وبها بِئَار متقاربة » . « معجم البلدان : 2 / 142 » . وهى من مواقيت الحج ، فعن عبد الرحمن بن الحجاج ، أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال له : « إن سفيان فقيهكم أتاني فقال : ما يحملك على أن تأمر أصحابك يأتون الجعرانة فيحرمون منها ؟ فقلت له : هو وقت من مواقيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : وأي وقت من مواقيت رسول الله هو ؟ فقلت له : أحرم منها حين قسم غنائم حنين ومرجعه من الطائف » . الكافي : 4 / 300 .
وفى مجمع البيان : 5 / 32 ، « فحاصر أهل الطائف بقية الشهر ، فلما دخل ذو القعدة انصرف أتى الجعرانة ، وقسم بها غنائم حنين وأوطاس » .
وفى إعلام الوري : 1 / 236 : « قال محمد بن إسحاق : فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير ، ومعاوية ابنه مائة بعير ، وحكيم بن حزام من بنى أسد بن عبد العزى بنى قصى مائة بعير ، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة مائة بعير ، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بنى زهرة مائة بعير ، وأعطى الحارث بن هشام من بنى مخزوم مائة ، وجبير بن مطعم من بنى نوفل بن عبد مناف مائة ، ومالك بن عوف النصرى مائة ، فهؤلاء أصحاب المائة . وقيل : إنه أعطى علقمة بن علاثة مائة ، والأقرع بن حابس مائة ، وعيينة بن حصن مائة ، وأعطى العباس بن مرداس أربعاً فتسخطها وأنشأ يقول :
أتجعل نهبى ونهب العبيد * بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع
--------------------------- 457 ---------------------------
وما كنت دون امرء منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ * فلم أعط شيئا ولم أمنع
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنت القائل : أتجعل نهبى ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة ؟ فقال أبو بكر : بأبى أنت وأمي لست بشاعر ، قال ( صلى الله عليه وآله ) : كيف قال ؟ فأنشده أبو بكر ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي قم فاقطع لسانه ! قال عباس : فوالله لهذه الكلمة كانت أشد على من يوم خثعم ، فأخذ على ( عليه السلام ) بيدي فانطلق بي فقلت : يا علي إنك لقاطع لساني ؟ قال : إني ممض فيك ما أمرت ، حتى أدخلني الحظائر فقال : أعقل ما بين أربعة إلى مائة . قال : قلت بأبى أنتم وأمي ، ما أكرمكم وأحلمكم وأجملكم وأعلمكم . فقال لي : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أعطاك أربعاً وجعلك مع المهاجرين ، فإن شئت فخذها وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة . قال : فقلت لم لعلى ( عليه السلام ) : أشر أنت علي . قال : فإني آمرك أن تأخذ ما أعطاك وترضي . قال : فإني أفعل » .
وفى سيرة ابن هشام : 4 / 906 : « ثم جُمعت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سبايا حنين وأموالها وكان على المغانم مسعود بن عمرو الغفاري ، وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالسبايا والأموال إلى الجعرانة ، فحبست بها » .
قال في الصحيح من السيرة : 25 / 178 : « تقدم أن المسلمين انهزموا جميعاً عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأن راجِعَتَهم حين رجعت وجدت الأسارى مكتفين عند رسول الله ، وأن المسلمين المهزومين لم يضربوا بسيف ولم يطعنوا برمح . . . والمهاجم الوحيد لجيوش المشركين كان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فهزم الله المشركين على يديه شر هزيمة . فالنصر إنما تحقق بجهاد على ( عليه السلام ) وبالتأييد الإلهى للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بإنزال الملائكة . وهذا يبين السبب في أن الله سبحانه رد أمر الغنائم والسبي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليعطيها لمن يشاء ، فأعطاها لمن أراد أن يتألفهم ، ولم يعط منها حتى أقرب الناس إليه وهم الأنصار . . لأنهم لم يكن لهم ولا للمهاجرين ولا
--------------------------- 458 ---------------------------
لغيرهم حق فيها ولكنه ( صلى الله عليه وآله ) قد طيب نفوس الأنصار ، بعدما نفَّذ ما أمره الله تعالى » .
13 - وفد هوازن والشيماء حاضنة النبي « صلى الله عليه وآله »
في إعلام الوري : 1 / 239 : « كان فيما سبى أخته بنت حليمة فلما قامت على رأسه قالت : يا محمد أختك شيماء بنت حليمة ! قال فنزع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) برده فبسطه لها فأجلسها عليه ثم أكب عليها يسائلها وهى التي كانت تحضنه إذ كانت أمها ترضعه . . . أدرك وفد هوازن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا : يا رسول الله لنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ، فامنن علينا من الله عليك . وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال : يا رسول الله ، إنا لو ملَّحنا الحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ، ثم ولى منا مثل الذي وليت ، لعاد علينا بفضله وعطفه وأنت خير المكفولين ، وإنما في الحظائر خالاتك وبنات خالاتك وحواضنك وبنات حواضنك اللاتي أرضعنك ، ولسنا نسألك مالاً ، إنما نسألكهن . أي الحارث ملك غسان والنعمان ملك المناذرة . وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قسم منهن ما شاء الله ، فلما كلمته أخته قال : أما نصيبي ونصيب بنى عبد المطلب فهو لك ، وأما ما كان للمسلمين فاستشفعى بي عليهم » .
فلما صلوا الظهر قامت فتكلمت وتكلموا ، فوهب لها الناس أجمعون إلا الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، فإنهما أبيا أن يهبا وقالوا : يا رسول الله إن هؤلاء قوم قد أصابوا من نسائنا ، فنحن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا .
فأقرع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بينهم ثم قال : اللهم أتْوِهْ سهميهما ، فأصاب أحدهما خادماً لبنى عقل ، وأصاب الآخر خادماً لبنى نمير ، فلما رأيا ذلك وهبا ما منعا .
قال : ولولا أن النساء وقعن في القسمة لوهبهن لها كما وهب ما لم يقع في القسمة ولكنهن وقعن في أنصباء الناس ، فلم يأخذ منهم إلا بطيبة النفس .
وروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فئ نصيبه ، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم .
وفى الطبقات : 2 / 153 : « وقدم وفد هوازن على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير بن صرد ، وفيهم أبو برقان عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الرضاعة ، فسألوه
--------------------------- 459 ---------------------------
أن يمن عليهم بالسبى فقال : أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟ قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً . فقال : أما ما لي ولبنى عبد المطلب فهو لكم ، وسأسأل لكم الناس ، فقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله . . الخ . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد كسا السبي قبطيةً قبطية » .
قال : وكلمته أخته « الشيماء » في مالك بن عوف فقال : « إن جاءني فهو آمن ، فأتاه فرد عليه ماله ، وأعطاه مائة من الإبل » .
14 - مالك بن عوف مسلماً !
في شرح الأخبار : 1 / 317 : « وسأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن مالك بن عوف سيد هوازن يومئذ ما فعل ؟ فقالوا : لحق بالطائف وتحصن بها مع ثقيف يا رسول الله . قال : فأخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل . فأخبر بذلك فخرج من الطائف متسللاً عن ثقيف لئلا يعلموا به فيحبسوه . وأتى رسول الله فرد عليه أهله وماله وزاده مائة من الإبل ، وأسلم وحسن إسلامه » .
وفى تفسير القمي : 1 / 299 : « وفى رواية أبى الجارود عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : المؤلفة قلوبهم : أبو سفيان بن حرب بن أمية ، وسهيل بن عمرو وهو من بنى عامر بن لوى وهمام بن عمرو وأخوه ، وصفوان بن أمية بن خلف القرشي ثم الجشمي الجمحي ، والأقرع بن حابس التميمي ، ثم عمر أحد بنى حازم ، وعيينة بن حصين الفزاري ، ومالك بن عوف ، وعلقمة بن علاقة . بلغني أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يعطى الرجل منهم مائة من الإبل ورعاتها ، وأكثر من ذلك وأقل » .
وفى سيرة ابن هشام : 4 / 927 ، أن مالك بن عوف قال بعد مجيئه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
« ما إن رأيت ولا سمعتُ بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهرى وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله * وسط الهباءة خادر في مرصد
--------------------------- 460 ---------------------------
« فاستعمله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على من أسلم من قومه وتلك القبائل : ثمالة ، وسلمة ، وفهم ، فكان يقاتل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم » .
15 - الأنصار يسقطون في امتحان المال
في مجمع البيان : 5 / 32 : « قال أبو سعيد الخدري : قسم رسول الله للمتألفين من قريش من سائر العرب ما قسم ، ولم يكن في الأنصار منها شئ قليل ولا كثير ، فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال : يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك وفى سائر العرب ، ولم يكن فيهم من ذلك شئ ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ فقال : ما أنا إلا امرؤ من قومي ! فقال رسول الله : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ، فجمعهم فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا معشر الأنصار ، أو لم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . ثم قال : ألا تجيبونى يا معشر الأنصار ؟ فقالوا : وما نقول ؟ وبماذا نجيبك ؟ المنُّ لله ولرسوله .
فقال رسول الله : أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم : جئتنا طريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك ، وخائفاً فآمناك ، ومخذولاً فنصرناك . فقالوا : المنُّ لله ولرسوله .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام ! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير ، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار . ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار . اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار . فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم ، وقالوا : رضينا بالله ورسوله قسماً . ثم تفرقوا » !
وفى إعلام الوري : 1 / 238 : « وغضب قوم من الأنصار لذلك وظهر منهم كلام قبيح حتى قال قائلهم : لقى الرجل أهله وبنى عمه ونحن أصحاب كل كريهة ! فلما رأى
--------------------------- 461 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما دخل على الأنصار من ذلك ، أمرهم أن يقعدوا ولا يقعد معهم غيرهم ، ثم أتاهم شبه المغضب يتبعه على ( عليه السلام ) حتى جلس وسطهم ، فقال : ألم آتكم وأنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله منها بي ؟ قالوا : بلي ، ولله ولرسوله المن والطول والفضل علينا . قال : ألم آتكم وأنتم أعداء فألف الله بين قلوبكم بي ؟ قالوا : أجل . . . إلى آخر ما تقدم » .
وفى الكافي : 2 / 411 ، بسند صحيح عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال زرارة : « سألته عن قول الله عز وجل : والمُؤَلَّفَة قُلُوبُهُم . . . فغضبت الأنصار واجتمعت إلى سعد بن عبادة فانطلق بهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالجعرانة فقال : يا رسول الله أتأذن لي في الكلام ؟ فقال : نعم ، فقال : إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئاً أنزله الله رضينا ، وإن كان غير ذلك لم نرض ! قال زرارة : وسمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا معشر الأنصار أكُلُّكُمْ على قول سيدكم سعد ؟ فقالوا : سيدنا الله ورسوله ، ثم قالوا في الثالثة : نحن على مثل قوله ورأيه ! قال : زرارة فسمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : فحط الله نورهم » .
أقول : من عجائب التاريخ موقف الأنصار عند غنائم حنين ، ورئيسهم سعد بن عبادة ! فقد آمنوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ورأوا معجزاته ، وبذلوا في سبيله أموالهم وأرواحهم ، ولما أعطى غيرهم ولم يعطهم اتهموه بأنه يميل مع هواه إلى قومه ! وتفسير ذلك أنهم عند الامتحان غلبهم هواهم وفقدوا عقولهم ، فانخفض مستوى إيمانهم ، فحط الله نورهم !
وقد سأل النبي ( صلى الله عليه وآله ) سعداً عن موقفه في اتهامهم لنبيهم ( صلى الله عليه وآله ) بأنه مال لقومه في تقسيم الغنائم ، فأجابه بأنه واحد من قومه رأيه رأيهم ! لذلك ينبغي أن يقسم تاريخ الأنصار إلى مرحلة ما قبل غنائم حنين وبعدها !
وهذا يفسر سوء توفيق سعد ونقضه بيعته للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن يحموه ويحموا أهل بيته بعده مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم ، فعندما رأى قريشاً مجمعة على إبعاد عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن خلافته ، اتجه إلى ذاته وأخذ يعمل لأن تكون الخلافة له ، لأنه
--------------------------- 462 ---------------------------
أحق بالإسلام وخلافته ، من بطون قريش !
وقد عالج النبي ( صلى الله عليه وآله ) هذا الهبوط الذي حدث في حنين ، بتطييب خواطرهم والدعاء لهم ، وهى معالجة لتهدئتهم ، لكن مستواهم انخفض كثيراً .
16 - ولادة الخوارج في الجعرانة
في إعلام الوري : 1 / 241 : « عن أبي سعيد الخدري قال : بينا نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقسم إذ أتاه ذو الخويصرة ، رجل من بنى تميم ، فقال : يا رسول الله إعدل ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ويلك من يعدل إن أنا لم أعدل وقد خبت وخسرت إن أنا لم أعدل ! فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ ، ثم ينظر إلى رصافه « شد السهم » فلا يوجد فيه شئ ، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شئ ، ثم ينظر في قذذه « ريش السهم » فلا يوجد فيه شئ ، قد سبق الفرث والدم ! آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تَدَرْدَر « تترجرج » يخرجون على خير فرقة من الناس .
قال أبو سعيد : فأشهد أنى سمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه ، وأمر بذلك الرجل فالتُمس فوُجد فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي نعت » . ومناقب الخوارزمي / 259 ، بخاري : 4 / 179 وغيره بتفاصيل أكثر ، ومديح عظيم لمن يقتلهم .
وقال الشريف الرضى في المجازات النبوية / 33 : « ومن ذلك قوله ( صلى الله عليه وآله ) في ذكر الخوارج : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية . . الحديث . . إلى قوله : قد سبق الفرث والدم . وفى هذا القول مجاز ، لأنه ( صلى الله عليه وآله ) شبه دخولهم في الدين وخروجهم منه بسرعة من غير أن يتعلقوا بعقدته أو يعيقوا بطينته ، بالسهم الذي أصاب الرمية ، وهى الطريدة ثم خرج مسرعاً من جسمها ولم يعلق بشئ من فرثها ودمها ،
--------------------------- 463 ---------------------------
وذلك من صفات السهم الصائب ، لأنه لا يكون شديد السرعة إلا بعد أن يكون قوى النزعة » . والمعنى أنهم منافقون يدخلون في الدين ويخرجون منه بسرعة ، كالسهم السريع الذي ينفذ في الصيد ويخرج منه ، وليس فيه أثر منه !
17 - اعتمر النبي « صلى الله عليه وآله » من الجعرانة ، ثم رجع إلى المدينة
في الخصال / 200 : « عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : اعتمر أربع عمر : عمرة الحديبية وعمرة القضاء من قابل ، والثالثة من جعرانة ، والرابعة التي مع حجته » .
وفى سيرة ابن هشام : 4 / 936 : « ثم خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الجعرانة معتمراً ، وأمر ببقايا الفئ فحبس بمجنة بناحية مر الظهران ، فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة ، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة . وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه ، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهى سنة ثمان ، وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم ما بين ذي القعدة إذ انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى شهر رمضان من سنة تسع » .
- *
--------------------------- 464 ---------------------------
الفصل الرابع والستون
استكمال فتح اليمن بعد حنين
1 - ضعف الحكام الفرس في اليمن
عندما بُعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانت اليمن تُحكم من قبل كسري ، ولما كتب ( صلى الله عليه وآله ) إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام ، غضب ومزق الرسالة وأرسل إلى حاكم اليمن واسمه باذان أن يبعث له النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فأرسل باذان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبلغه رسالة كسري ، فأجابه في اليوم التالي إن الله قد أخبرني أنه قتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا ! فعاد الوفد مبهوتاً إلى باذان ، وجاءه الخبر بتصديق ما قاله النبي ( صلى الله عليه وآله ) حرفياً فأسلم باذان فقبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إسلامه ، ونصبه حاكماً على اليمن .
قال الأحمدي في مكاتيب الرسول : 2 / 499 و 329 ، ملخصاً : « كانت اليمن كلها تحت حكم كسرى وكان عامله عليها وهرز « وهو الذي حرر اليمن من الحبشة مع سيف بن ذي يزن » ثم بعده المرزبان بن وهرز ، ثم بعده البينجان بن المرزبان بن وهرز ، ثم بعده خرخسرة بن البينجان ، ثم بعده باذان ، حتى هلك كسرى وأسلم باذان فنصبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على اليمن كلها . . فلم يعزله عنها حتى مات أو قتله الأسود العنسي ، واستصفى زوجته المرزبانة لنفسه ! ففرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمله ما بين شهر بن باذان ، وعامر بن شهر الهمداني ، وأبي موسى الأشعري ، وخالد بن سعيد ، ويعلى بن أمية ، وعمرو بن حزم ، وزياد بن لبيد ، والطاهر بن أبي هالة ، وعكاشة بن ثور المهاجر أو عبد الله . . .
والمراد بالأبناء أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن لما استنجد سيف بن ذي يزن ،
--------------------------- 465 ---------------------------
فاسترجعوا ملك سيف ، واستقروا في اليمن وتزوجوا في العرب ، وسميت أبناؤهم بالأبناء ، وغلب عليهم هذا الاسم » . وابن هشام : 1 / 45 .
2 - ضعف سلطة باذان وتفكك اليمن
كانت قبائل اليمن تخضع للحاكم الفارسي وأسرته « الأبناء » لأن وراءهم أمبراطورية إذا طلبوا منها مدداً عسكرياً أرسلت لهم ، لكن عندما قتل كسرى وضعفت فارس ونقل حكام اليمن ولاءهم من كسرى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) طمع زعماء القبائل وأخذوا يستقلون بمناطقهم فاحتاج النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأن يرسل لكل منطقة حاكماً ، فتوزع حكم اليمن . والحكام الذين عينهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانوا مميزين عسكرياً لحاجة المنطقة إلى ذلك ، أو أصحاب قبول ونفوذ في المناطق التي عينهم فيها . ويظهر أن نفوذ باذان والأبناء ضعف كثيراً حتى احتاجوا إلى التحالف مع القبائل : « فقالت الرسل من الفرس لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إلى من نحن يا رسول الله ؟ قال : أنتم منا وإلينا أهل البيت . قال ابن هشام : فبلغني عن الزهري أنه قال : فمن ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : سلمان منا أهل البيت » . سيرة ابن هشام : 1 / 45 .
يقصد الراوي أن ولاء الفرس لبنى هاشم ، ولذا صار سلمان من أهل البيت ، وهذا التعليل لا يصح . ويظهر أن نفوذ باذان اقتصر على صنعاء وبعض مناطق اليمن فقط ! فقد اتفق المؤرخون على أن قبائل همدان أسلمت على يد على ( عليه السلام ) ، وسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) شكراً لله على إسلامها وقال : السلام على همدان ، وكان ذلك في السنة الثامنة بعد حنين ، وقيل في العاشرة ، كما أن قبائل مذحج أسلمت بعدها .
وهمدان ومذحج هما الشطر الأعظم من اليمن . ويؤيد ذلك أن الأسود العنسي ادعى النبوة وسيطر على صنعاء ، وقتل باذان أو قتل ابنه الذي حكم بعده .
وقد بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) إلى اليمن ثلاث مرات ، في السنة الثامنة إلى قبائل همدان ، وفى العاشرة إلى قبائل مذحج ، وأرسله بينهما قاضياً على اليمن .
قال في أعيان الشيعة : 1 / 410 : « قال دحلان في سيرته . . . بَعْثُ على إلى همدان لم
--------------------------- 466 ---------------------------
يكن سنة عشر إنما كان سنة عشر بعثه إلى بنى مذحج ، وأما بعثه إلى همدان فكان سنة ثمان بعد فتح مكة ، فيكون بعث على إلى اليمن حصل مرتين » .
وفى المستجاد من الإرشاد / 111 : « لما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تقليده قضاء اليمن وإنفاذه إليهم ليعلمهم الأحكام ، ويبين لهم الحلال من الحرام ، ويحكم فيهم بأحكام القرآن قال له : تندبني يا رسول الله للقضاء وأنا شاب ولا علم لي بكل القضاء . فقال له : أدنُ منى فدنا منه ، فضرب على صدره وقال : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه . قال أمير المؤمنين : فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك المقام » .
3 - فتح علي « عليه السلام » لليمن
صعدنا درج صنعاء ودخلنا سوقها ، فقالوا هذه الساحة « اسمها الحلقة » وسألنا عن معناها فقالوا : هنا وقف على ( عليه السلام ) وقرأ كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأهل اليمن فتحَلَّقُوا حوله ! وزرنا بعد الساحة مسجد على ( عليه السلام ) وهو البيت الذي كان لامرأة فاستأجره على ( عليه السلام ) وسكن فيه مدة عمله في اليمن ، فحولته صاحبته إلى مسجد .
في الكافي : 5 / 28 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى اليمن وقال لي : يا علي لاتقاتلن أحداً حتى تدعوه ، وأيم الله لأن يهدى الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه » .
وفى العدد القوية للحلي / 251 : « عن البراء بن عازب قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام ، فكنت فيمن سار معه ، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شئ ! فبعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب وأمره أن يقفل « يرجع » خالداً ومن اتبعه إلا من أراد البقاء مع علي فيتركه ، فكنت ممن عقب مع علي ، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن وبلغ القوم الخبر فجمعوا له ، فصلى بنا على صلاة الفجر ، فلما فرغ صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلمت همدان كلها في يوم واحد ، وكتب بذلك على إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما قرأ كتابه خر ساجداً ثم جلس فقال : السلام على همدان ، وتتابع أهل اليمن الإسلام » .
--------------------------- 467 ---------------------------
وروته مصادر السلطة وسماها ابن هشام : 4 / 1028 و 1056 : غزوة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى اليمن ، غزاها مرتين ، وتوغل في مناطقها .
وقال الصالحي في سبل الهدي : 6 / 235 : « روى البيهقي في السنن والدلائل والمعرفة عن البراء بن عازب قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام . قال البراء : فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد ، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا . ثم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث علي بن أبي طالب مكان خالد وأمره أن يقفل خالداً ، وقال : مُرْ أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب ومن شاء فليقبل . . . إلى آخره ، وفيه : « وقال : إذا كان قتال فعلى الأمير ، قال : فافتتح على حصناً فغنمت أواقي ذوات عدد وأخذ على منه جارية ، قال : فكتب معي خالد إلى رسول الله يخبره ! قال الترمذي : يعنى النميمة ! قال : فلما قدمت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقرأ الكتاب رأيته يتغير لونه فقال : ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله تعالى ورسوله ؟ فقلت : أعوذ بالله من غضب الله تعالى وغضب رسوله ، إنما أنا رسول » . فسكت .
وفى رواية : فكتب خالد إلى رسول الله فقلت إبعثنى فبعثني ، فجعل يقرأ الكتاب وأقول صدق ، فإذا النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد احمر وجهه فقال : من كنت وليه فعلى وليه ! ثم قال : يا بريدة أتبغض علياً ؟ فقلت : نعم . قال : لاتبغضه فإن له الخمس أكثر من ذلك . وفى رواية : والذي نفسي بيده لنصيب على في الخمس أفضل من وصيفة ، وإن كنت تحبه فازدد له حباً . وفى رواية : لا تقع في علي فإنه منى وأنا منه وهو وليكم بعدي . قال بريدة : فما كان في الناس أحد أحب إلى من علي !
قال الحافظ : كان بعث على بعد رجوعهم من الطائف ، وقسمة الغنائم بالجعرانة . . وهو وليكم بعدي : أي يلي أمركم .
الباب الثاني والسبعون في سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن المرة الثانية : قال محمد بن عمر « الواقدي » وابن سعد واللفظ للأول : قالوا بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً إلى اليمن في رمضان وأمره أن يعسكر بقناة ، فعسكر بها حتى تتامَّ أصحابه . فعقد له
--------------------------- 468 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لواء وأخذ عمامته فلفها مثنية مربعة ، فجعلها في رأس الرمح ثم دفعها إليه ، وعممه بيده عمامة ثلاثة أكوار ، وجعل له ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه وقال له : إمض ولا تلتفت . فقال علي : يا رسول الله ما أصنع ؟ قال : إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك ، وادعهم إلى أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فإن قالوا نعم فمرهم بالصلاة ، فإن أجابوا فمرهم بالزكاة ، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك . والله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت .
فخرج على في ثلاث مائة فارس فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد . فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من مذحج ، فرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم وسبايا نساء وأطفالاً ونعماً وشاءً وغير ذلك ، فجعل على على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعاً .
ثم لقى جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا أصحابه بالنبل والحجارة ، فلما رأى أنهم لا يريدون إلا القتال ، صف أصحابه ودفع اللواء إلى مسعود بن سنان السلمى فتقدم به ، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز ، فبرز إليه الأسود بن خزاعي فقتله الأسود وأخذ سلبه . ثم حمل عليهم على وأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً ، فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً ، وكف على عن طلبهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا ، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام وقالوا : نحن على من وراءنا من قومنا ، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله تعالى . وجمع على ما أصاب من تلك الغنائم ، فجزأها خمسة أجزاء ، فكتب في سهم منها لله ثم أقرع عليها ، فخرج أول السُّهمان سهم الخمس .
وقسم على على أصحابه بقية المغنم ، ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً ، وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم من الخمس ، ثم يخبرون رسول الله بذلك فلا يرده عليهم ، فطلبوا ذلك من على فأبى وقال : الخمس أحمله إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرى فيه رأيه . وأقام فيهم يقرؤهم القرآن ويعلمهم الشرائع .
وكتب إلى رسول الله كتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزنى يخبره الخبر ، فأتى
--------------------------- 469 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يوافيه الموسم ، فانصرف عبد الله بن عمرو بن عوف إلى علي بذلك فانصرف على راجعاً ، فلما كان بالفتقن « مكان » تعجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يخبره الخبر ، وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع ، فوافى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة قد قدمها للحج ، وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن أحمال معكومة ونعم وشاء مما غنموا ، ونعم من صدقة أموالهم ، فسأل أصحاب على أبا رافع أن يكسوهم ثياباً يحرمون فيها ، فكساهم منها ثوبين ثوبين . فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج على ليتلقاهم ليقدم بهم ، فرأى على أصحابه الثياب فقال لأبى رافع : ما هذا ؟ فقال : كلمونى ففرقت من شكايتهم وظننت أن هذا ليسهل عليك ، وقد كان من قبلك يفعل هذا بهم . فقال : قد رأيت امتناعى من ذلك ثم أعطيتهم وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت فتعطيهم ! فنزع على الحلل منهم ! فلما قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شكوه ، فدعا علياً فقال : ما لأصحابك يشكونك ؟ قال : ما أشكيتهم ، قسمت عليهم ماغنموا وحبست الخمس حتى يقدم عليك فترى فيه رأيك . فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . انتهي .
أقول : يظهر أن خالداً لم يطع أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقد أمره أن يرجع ، وخير جنوده بين البقاء مع علي ( عليه السلام ) أو الرجوع ! لكنه بقي يتتبع عمل على ( عليه السلام ) ويرسل إلى النبي يشكوه ! كما يتضح من روايتهم أن علياً ( عليه السلام ) أعطى جنوده أربعة أخماس الغنيمة فطمعوا في خمس النبي ( صلى الله عليه وآله ) واستغلوا مسارعة على ( عليه السلام ) قبلهم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأصروا على أبى رافع وأخذوا من الخمس الذي للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بغير حق ، فلما رجع على ( عليه السلام ) نزعه منهم ! وظلم رواة الحكومة علياً ( عليه السلام ) فصوروا أنه أخطأ مع جنوده !
ثم تابع الصالحي في سبل الهدي : « الباب الرابع والتسعون في وفود همدان إليه ( صلى الله عليه وآله ) : قالوا قدم وفد همدان على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعليهم مقطعات الحبرات مكففة بالديباج ، وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
نِعْمَ الحي همدان ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد ، ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام . فأسلموا وكتب لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) كتاباً بمخلاف خارف ، ويام ، وشاكر ،
--------------------------- 470 ---------------------------
وأهل الهضب ، وحقاف الرمل من همدان ، لمن أسلم منهم . . .
وقد روى البيهقي بإسناد صحيح من حديث ابن إسحاق عن البراء : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام . قال البراء : فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد ، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام ، فلم يجيبوه ، ثم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يعقب خالداً إلا رجلاً ممن كان مع خالد أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه . . إلى آخر ما تقدم » .
وقال ابن إسحاق : فقام مالك بن نمط بين يديه فقال : يا رسول الله نصيةٌ من همدان من كل حاضر وباد ، أتوك على قلص نواح ، متصلة بحبائل الإسلام ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من مخلاف خارف ويام وشاكر ، أهل السواد والقود أجابوا دعوة الرسول وفارقوا الإلاهات والأنصاب ، عهدهم لا ينقض عن سِنَة ماحل ، ولا سوداء عنقفير ، ما أقام لعلع ، وما جرى اليعفور بصيلع .
فكتب لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كتاباً فيه : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف ، وأهل جناب الهضب ، وحقاف الرمل ، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ، ومن أسلم من قومه أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها ، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، يأكلون ظلافها ، ويرعون عفاءها ، ولنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة ، ولهم من الصدقة الثلب والتاب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحورى وعليهم فيها الصالغ والقارح . لكم بذلك عهد الله وذمام رسوله ، وشاهدكم المهاجرون والأنصار .
فقال في ذلك مالك بن نمط :
ذكرت رسول الله في فحمة الدجي * ونحن بأعلى رحرحان وصلدد
وهن بنا خوص طلائح تغتلي * بركبانها في لأحب متمدد
على كل فتلاء الذراعين جسرة * تمر بنا مر الهجف الخفيدد
حلفت برب الراقصات إلى مني * صوادر بالركبان من هضب قردد
بأن رسول الله فينا مصدق * رسول أتى من عند ذي العرش مهتد
--------------------------- 471 ---------------------------
فما حملت من ناقة فوق رحلها * أشد على أعدائه من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه * وأمضى بحد المشرفى المهند »
ومن رواياتها عن أبي رافع : « بعث رسول الله علياً أميراً على اليمن ، وبعث خالد بن الوليد على الجبل فقال : إن اجتمعتما فعلى على الناس ، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم يصيبوا مثله وأخذ على جارية من الخمس ، فدعا خالد بن الوليد بريدة فقال : إغتنمها فأخبر النبي ما صنع ! فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله في منزله وناس من أصحابه على بابه فقالوا : ما الخبر يا بريدة ؟ فقلت : خيراً فتح الله على المسلمين ، فقالوا : ما أقدمك ؟ قلت : جارية أخذها على من الخمس فجئت لأخبر النبي ! فقالوا : فأخبر النبي فإنه يسقط من عين النبي ! ورسول الله يسمع الكلام فخرج مغضباً فقال : ما بال أقوام ينتقصون علياً ! من تَنَقَّصَ علياً فقد تنقصنى ومن فارق علياً فقد فارقني ! إن علياً منى وأنا منه خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم ، وأنا أفضل من إبراهيم ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم . يا بريدة : أما علمت أن لعلى أكثر من الجارية التي أخذ وأنه وليكم بعدي ؟ فقلت : يا رسول الله بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتنى على الإسلام جديداً ! قال : فما فارقته حتى بايعته على الإسلام » ! أوسط الطبراني : 6 / 163 .
أقول : بحثنا شكاية خالد وجواب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في كتاب العقائد الإسلامية : 4 / 91 ، وتحريف البخاري وغيره لها .
وأخيراً ، ادعى كعب الأحبار أنه لقى عليا ( عليه السلام ) باليمن وأسلم ! ففي مغازى الواقدي / 668 : « لما قدم علي بن أبي طالب اليمن خطب به ، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته ، فأقبل على راحلته في حلة ، معه حبر من أحبار اليهود حتى استمعا له . . . قال كعب الأحبار : لما قدم على اليمن لقيته فقلت : أخبرني عن صفة محمد ، فجعل يخبرني عنه وجعلت أتبسم ، فقال : مم تتبسم ؟ فقلت : مما يوافق ما عندنا من صفته . . . قال : فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفى رسول الله وتوفى أبو
--------------------------- 472 ---------------------------
بكر فقدمت في خلافه عمر ، ويا ليت أنى كنت تقدمت في الهجرة » !
وكذب كعب في ادعائه ، لأنه إنما أعلن أنه مسلم في أواسط خلافة عمر !
4 - أهدى علي « عليه السلام » إلى النبي « صلى الله عليه وآله » أفراساً من اليمن
في الكافي : 6 / 535 ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : « أهدى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أربعة أفراس من اليمن فقال : سمها لي ، فقال : هي ألوان مختلفة قال : ففيها وضح ؟ فقال : نعم فيها أشقر به وضح ، قال : فأمسكه علي ، قال : وفيها كميتان أوضحان ، فقال : أعطهما ابنيك ، قال : والرابع أدهم بهيم قال : بعه واستخلف به نفقة لعيالك ، إنما يمن الخيل في ذوات الأوضاح » .
5 - وأرسل النبي « صلى الله عليه وآله » علياً « عليه السلام » قاضياً إلى اليمن
في بصائر الدرجات / 472 ، عن عبد العزيز القراطيسي : « قلت لأبى عبد الله : جعلت فداك إن الناس يزعمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجه علياً ( عليه السلام ) إلى اليمن ليقضى بينهم فقال على ( عليه السلام ) : فما وردت على قضية إلا حكمت فيها بحكم الله وحكم رسوله ( صلى الله عليه وآله ) . فقال صدقوا . قلت : وكيف ذاك ولم يكن أنزل القرآن كله ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غائباً عنه ؟ فقال : يتلقاه به روح القدس » .
وفى أمالي الصدوق / 428 : « عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً إلى اليمن فانفلت فرس لرجل من أهل اليمن فنفح رجلاً برجله فقتله ، وأخذه أولياء المقتول فرفعوه إلى علي ، فأقام صاحب الفرس البينة أن الفرس انفلت من داره فنفح الرجل برجله ، فأبطل على ( عليه السلام ) دم الرجل ، فجاء أولياء المقتول من اليمن إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشكون علياً ( عليه السلام ) فيما حكم عليهم فقالوا : إن عليا ظلمنا وأبطل دم صاحبنا ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن علياً ليس بظلام ، ولم يخلق على للظلم ، وإن الولاية من بعدى لعلي ، والحكم حكمه ، والقول قوله ، لا يرد حكمه وقوله وولايته إلا كافر ، ولا يرضى بحكمه وقوله وولايته إلا مؤمن . فلما سمع اليمانيون قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
في علي ( عليه السلام ) قالوا : يا رسول الله ، رضينا بقول على وحكمه . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
--------------------------- 473 ---------------------------
هو توبتكم مما قلتم » . والتهذيب : 10 / 228 .
أقول : من القواعد المتفق عليها أنه لا يبطل دم امرئ مسلم ، فلا بد أن يكون إبطال دم الذي نفحه الفرس ، بمعنى عدم ضمان صاحب الفرس لعدم تقصيره ، فتكون ديته على الوالي من بيت المال .
6 - ثم أرسله النبي « صلى الله عليه وآله » إلى اليمن ليصلح بينهم
في بصائر الدرجات / 521 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فوجهنى إلى اليمن لأصلح بينهم ، فقلت له يا رسول الله ( عليه السلام ) إنهم قوم كثير وأنا شاب حدث . فقال لي : يا علي ( عليه السلام ) إذا صرت بأعلى عقبة فيق فناد بأعلى صوتك : يا شجر يا مدر يا ثري ، محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقرؤكم السلام ! قال : فذهبت فلما صرت بأعلى عقبة فيق أشرفت على اليمن ، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوى مشرعون أسنتهم ، متنكبون قسيهم شاهرون سلاحهم ، فناديت بأعلى صوتي : يا شجر يا مدر يا ثرى محمد ( صلى الله عليه وآله ) يقرؤكم السلام ، قال : فلم يبق شجرة ولا مدرة ولا ثرى الا ارتجت بصوت واحد : وعلى محمد رسول الله وعليك السلام ! فاضطربت قوايم القوم وارتعدت ركبهم ، ووقع السلاح من أيديهم ، وأقبلوا مسرعين فأصلحت بينهم وانصرفت » .
7 - ثم أرسله النبي « صلى الله عليه وآله » إلى اليمن عندما ارتد ابن معديكرب
في البحار : 21 / 356 والإرشاد : 1 / 145 : « لما عاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدى كرب فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر ، قال : يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع ، فقال يا عمرو : إنه ليس كما تظن وتحسب ! إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة ، فلا يبقى ميت إلا نشر ولا حي إلا مات ، إلا ما شاء الله ، ثم يصاح بهم صيحة أخرى فينشر من مات ، ويصَفُّونَ جميعاً وتنشق السماء وتهد الأرض وتخر الجبال هداً ، وترمى النار بمثل الجبال شرراً ، فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه
--------------------------- 474 ---------------------------
إلا من شاء الله ! فأين أنت يا عمرو من هذا ؟ قال : ألا إني أسمع أمراً عظيماً ، فآمن بالله ورسوله وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم .
ثم إن عمرو بن معدى كرب نظر إلى أبي بن عثعث الخثعمي ، فأخذ برقبته ثم جاء به إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أُعْدُنى على هذا الفاجر الذي قتل والدي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية ، فانصرف عمرو مرتداً ، فأغار على قوم من بنى الحارث بن كعب ، ومضى إلى قومه ! فاستدعى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب وأمره على المهاجرين وأنفذه إلى بنى زبيد ، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب وأمره أن يعمد لجعفي ، فإذا التقيا فأمير الناس أمير المؤمنين . فسار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واستعمل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص واستعمل خالد على مقدمته أبا موسى الأشعري ، فأما جعفى فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين : فذهبت فرقة إلى اليمن وانضمت الفرقة الأخرى إلى بنى زبيد ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكتب إلى خالد بن الوليد : أن قف حيث أدركك رسولي فلم يقف ! فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص : تعرض له حتى تحبسه ، فاعترض له خالد حتى حبسه ، وأدركه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فعنفه على خلافه ! ثم سار حتى لقى بنى زبيد بواد يقال له كثير ، فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت يا با ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة ؟ قال : سيعلم إن لقيني ! قال : وخرج عمرو فقال : من يبارز ؟ فنهض إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقام إليه خالد بن سعيد وقال له : دعني يا أبا الحسن بأبى أنت وأمي أبارزه ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك فوقف ، ثم برز إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فصاح به صيحة فانهزم عمرو ! وقتل أخاه وابن أخيه . وأُخِذَت امرأته ركانة بنت سلامة ، وسبى منهم نسوان ، وانصرف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وخلف على بنى زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم ، ويؤمِّن من عاد إليه من هرابهم مسلماً ، فرجع عمرو بن معدى كرب واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له ، فعاد إلى الإسلام ، فكلمه في امرأته وولده فوهبهم له ! وقد كان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعيد وجد جزوراً قد نحرت فجمع قوائمها ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعاً ، وكان يسمى سيفه الصمصامة ،
--------------------------- 475 ---------------------------
فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده ، وهب له عمرو الصمصامة .
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد اصطفى من السبي جارية ، فبعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال له : تقدم الجيش إليه فأعلمه بما فعل على من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه ، وقَعْ فيه ! فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه فقال له عمر : إمض لما جئت له فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي !
فدخل بريدة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومعه كتاب من خالد بما أرسل به بريدة ، فجعل يقرأه ووجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتغير فقال بريدة : يا رسول الله إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً ؟ إن علي بن أبي طالب يحل له من الفئ ما يحل لي ، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك ، وخير من أخلف بعدى لكافة أمتي ! يا بريدة إحذر أن تبغض علياً فيبغضك الله ! قال بريدة : فتمنيت أن الأرض انشقت لي فسخت فيها وقلت : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله . يا رسول الله استغفر لي ، فلن أبغضن علياً أبداً ولا أقول فيه إلا خيراً ، فاستغفر له النبي ( صلى الله عليه وآله ) » .
أقول : نلاحظ أن خالد بن الوليد كان مأموراً من النبي ( صلى الله عليه وآله ) بطاعة على ( عليه السلام ) ، ولكنه كان يتصرف كأنه مستقل ، وقد تركه على ( عليه السلام ) حتى إذا خشي الضرر من تصرفه أمر خالداً بن سعيد أن يمنعه بالقوة من مواصلة مسيره ، فمنعه !
وهذا يثبت شجاعة خالد بن سعيد وخوف خالد بن الوليد منه ومن على ( عليه السلام ) ، لأنهما أشجع منه ، ومكانته في قريش ومكة أعلى من مكانته !
وقد يكون على ( عليه السلام ) منعه من التقدم إلى زبيد لخوفه عليه من الهزيمة أمام ابن معديكرب وهو هزيمة للمسلمين ، ثم ظهر أن علياً ( عليه السلام ) كان أعد خطة لهزيمة ابن معديكرب بدون أن يقتله ! ولا بد أن ابن الوليد بهت لفزع عمرو من صرخة على ( عليه السلام ) ! ويبدو أن تلك الصرخة الحيدرية بأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وفيها سرٌّ من أسراره ! لأنه ( صلى الله عليه وآله )
--------------------------- 476 ---------------------------
لما أنذر عمرواً من فزع الآخرة قال له عمرو : « يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع » ! وعندما ارتد عمرو أراه الله الفزع في الدنيا ، وأبقاه حياً .
8 - الأسود العنسي يدعى النبوة في اليمن
في البحار : 21 / 411 : « لما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من حجه طارت الأخبار بأنه قد اشتكى فوثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة ، فأما الأسود العنسي فاسمه عهيلة بن كعب ، وكان كاهنا يشعبذ ويريهم الأعاجيب ويصمى منطقه قلب من يسمعه .
وكان أول خروجه بعد حجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسار إلى صنعاء فأخذها ، فكتب فروة بن مسيك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بخبره وكان عامل رسول الله على مراد ، وخرج معاذ بن جبل هارباً حتى مر بأبى موسى الأشعري وهو بمارت فاقتحما حضر موت ، ورجع عمرو بن خالد إلى المدينة ، وقتل شهر بن باذام وتزوج امرأته ، وكانت ابنة عم فيروز ، فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى نفر من الأبناء رسولاً وكتب إليهم أن يحاولوا الأسود إما غيلة وإما مصادمة ، وأمرهم أن يستنجدوا رجالاً سماهم لهم ممن حولهم من حمير وهمدان ، وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم ، فدخلوا على زوجته فقالوا : هذا قد قتل أباك وزوجك فما عندك ؟ قالت : هو أبغض خلق الله إلى وهو مجرد والحرس محيطون بقصره إلا هذه البيت فانقبوا عليه فنقبوا ، ودخل فيروز الديلمي فخالطه فأخذ برأسه فقتله ، فخار خوار ثور فابتدر الحرس الباب فقالوا : ما هذا ؟ فقالت : النبي يوحى إليه ثم خمد ! وقد كان يجئ إليه شيطان فيوسوس له فيغط ويعمل بما قاله ، فلما طلع الفجر نادوا بشعارهم الذي بينهم ثم بالأذان وقالوا فيه : أشهد أن محمداً رسول الله ، وأن عهيلة كذاب ، وشنوها غارة وتراجع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
إلى أعمالهم ، وكتبوا إلى رسول الله بالخبر فسبق خبر السماء إليه ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل موته بيوم أو بليلة فأخبر الناس بذلك ، فقال : قتل الأسود البارحة ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين ، قيل : ومن هو ؟ قال : فيروز ، فاز فيروز ، ووصل الكتاب ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد مات إلى أبى بكر . وكان من أول خروجه إلى أن قتل نحو أربعة أشهر . وفيروز قيل : إنه ابن أخت النجاشي وقيل هو من أبناء فارس .
--------------------------- 477 ---------------------------
وأما مسيلمة بن حبيب الكذاب فكان يقال له : رحمن اليمامة ، لأنه كان يقول : الذي يأتيني اسمه رحمن ، وقدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيمن أسلم ثم ارتد لما رجع إلى بلده ، وكتب إلى رسول الله : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد فإن الأرض لنا نصف ولقريش نصف ، ولكن قريش قوم يعتدون » !
وفى الينابيع الفقهية : 9 / 143 : « وقيل كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة ، ثلاث في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بنو مدلج ، ورئيسهم ذو الخمار ، وهو الأسود العنسي وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده ، وأخرج عمال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فبيته فيروز الديلمي فقتله . وأخبر رسولُ الله بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الغد . وبنو حنيفة قوم مسيلمة الذي تنبأ . وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ أيضاً ثم أسلم وحسن إسلامه . وبعد وفاة رسول ( صلى الله عليه وآله ) كفى الله أمرهم » .
وفى مناقب آل أبي طالب : 1 / 94 : « وأخبَرَ ( صلى الله عليه وآله ) بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وهو بصنعاء وأخبر بمن قتله » . راجع : مكاتيب الرسول : 1 / 278 و 270 : كتبه في الردة في قتل الأسود العنسي . والاستيعاب : 2 / 698 والإصابة : 2 / 330 ، الطبقات : 5 / 534
وتاريخ دمشق : 6 / 127 .
- *
--------------------------- 478 ---------------------------
الفصل الخامس والستون
أزواج النبي « صلى الله عليه وآله » يشاركن في الصراع على الخلافة
1 - نشاط زعماء قريش بعد هزيمتهم
كانت أكبر ضربة تلقاها زعماء قريش في كل حياتهم ، يوم فاجأهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بجنود الإسلام مكة وأجبرهم على خلع سلاحهم وإعلان الاستسلام !
في تلك الأيام عاشوا أشد أيام حياتهم ذهولاً وحيرة ! فقد أسقط في أيديهم تماماً بعد معركة امتدت عشرين سنة مع محمد وبنى هاشم ، وكانوا فيها قبل فتح مكة منتصرين أحياناً ، أو سجالاً متعادلين أحياناً !
ولما دعاهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المسجد حضروا مجبرين خائفين ، وأعلنوا إسلامهم تحت سيف النبي ( صلى الله عليه وآله ) وخطب فيهم ووبخهم ! ثم أعلنهم « طلقاء » ! فلا هم عبيد ولا عتقاء ، ثم أطمعهم في الدنيا ، ودعاهم إلى حرب هوازن معه في حنين ! إنها سياسة الحزم والتطميع ، وهى لا ترفع حيرتهم بل تزيدها !
فهل يستسلمون لدولة محمد وبنى هاشم ، أم يوجد طريقٌ للخروج من هذه الأزمة ؟ ! وهل تدور الأيام فيستطيعون جمع العرب من جديد لقتال محمد ؟
هكذا كان يفكر أبو سفيان وهو يطوف ، فالتفت اليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وضرب بيده في صدره وقال : إذن يخزيك الله يا أبا سفيان ! الصحيح : 22 / 321 .
أم هل يرون هوازن وقد انتصرت عليه فينتهى دينه : « وترجع العرب إلى دين آبائها ،
--------------------------- 479 ---------------------------
وقد قتل محمد وتفرق أصحابه » ! كما قالوا عندما وقعت على المسلمين الهزيمة في أول جولة من معركة حنين ؟ ! سبل الهدي : 5 / 230 .
أم هل يستطيعون تدبير قتله فيحلون مشكلتهم معه ، وقد حاولوا ذلك قبل فتح مكة ، فلم ينجحوا ! أم هل ينتظرون ، كما ينصحهم صحابته القرشيون ، حتى يموت فيرثوا دولته ؟ !
وكيف يمكن لهم ذلك وهو يرتب الأمر من بعده لابن عمه وصهره على الذي هو في الثلاثينات من عمره ، ثم من بعده لأولاد ابنته فاطمة ، الحسن والحسين ، ومعهم لا يبقى لقبائل قريش شئ !
واتخذ زعماء قريش قرارهم الذي كانوا اتخذوه سابقاً ، وهو العمل على هذه الجبهات جميعاً ! وظهرت نواياهم عند هزيمة المسلمين في الجولة الأولى في حنين ، واعترف اثنان من شخصياتهم بأنهما حاولا قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلم يستطيعا !
وكانت الخطوة التالية أن عزلوا أبا سفيان عن قيادتهم ، ولم يشفع له أنه ما زال يشاركهم في عداوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد اعتبروه ضَعُفَ أو داهن في فتح مكة ، فلم يأخذ لهم شروطاً تحفظ وجودهم ، كالتي أخذها سهيل بن عمرو في الحديبية !
واختاروا سهيلاً قائداً بدل أبي سفيان ، وضيقوا دائرة مشورتهم في العمل ضد محمد ، وأبعدوا منها أبا سفيان وبنى أمية لأنهم من بنى عبد مناف ، فاضطر أبو سفيان للذهاب إلى المدينة ، لعله يجد مجالاً للعمل في دولة محمد !
وقد عمل سهيل بن عمرو لإعادة كيان قريش الذي انهار بفتح مكة ، وأخذ يتصرف في مكة متجاهلاً عتَّاب بن أسيد الذي عينه النبي ( صلى الله عليه وآله ) حاكماً ، وأخذ يراسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بطلبات قريش منه ، باعتبارهم ما زالوا كياناً مقابله كما كانوا !
ووجد سهيل عضدين قويين يساعدانه من الصحابة القرشيين هما أبو بكر وعمر فكان ينزل عندهما في المدينة ، ويذهبان معه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويؤيدان طلباته ! وكان من أهم الأعمال التي قاموا بها في السنة الثامنة ، أنهم شجعوا هجرة القرشيين المبغضين لبنى هاشم إلى المدينة . وقاموا في المدينة بحملات دعاية ضد
--------------------------- 480 ---------------------------
بني هاشم ، حتى أنهم كانوا يقولون إن « محمداً » نشاز في هؤلاء السيئين !
فضجَّ منهم الأنصار واشتكوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : « إنا نسمع من قومك ، حتى يقول القائل : إنما مثل محمد كمثل نخلة نبتت في كبا « مزبلة » ! فخطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أيها الناس من أنا ؟ فقالوا : أنت رسول الله ، فقال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب . قال فما سمعناه انتمى قبلها قط ، ثم قال : إن الله تعالى خلق خلقه فجعلني في خير خلقه ، ففرقهم فريقين فجعلني في خير الفريقين ، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة ، ثم فرقهم بيوتاً فجعلني من خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً » .
مسند أحمد : 1 / 210 .
وتواصلت دعاية قريش ضد بني هاشم ، حتى كانوا يعبسون في وجوههم ! فشكى بنو هاشم ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووصف هو ذلك بأن أحدهم إذا رأى هاشمياً فكأنما يفقأ في عينيه حب الرمان الحامض !
وجاء العباس يوماً مغضباً وقال : « يا رسول الله ما لنا ولقريش ! إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة ، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك ! قال فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى احمر وجهه ، ثم قال : والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله » . الترمذي : 5 / 317 .
وقد جمعناها أحاديثهم وكفرياتهم من مصادرهم في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 1 / 179 . وركزت قريش دعايتها ضد على ( عليه السلام ) خاصة لإسقاط شخصيته ، والانتقام منه لقتله زعماءها وأبطالها ، وتهيئة الجو لعزله بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وعملت لذلك أعمالاً عديدة في حرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وسلمه وسفره وحضره ( صلى الله عليه وآله ) !
وقد غضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك مراراً وشدد دفاعه عن علي ( عليه السلام ) ، وخطب أكثر من مرة مبيناً مكانته وفضله ، ونفاق من يؤذيه ويبغضه ، أو كفره ! ولو لم يكن منها إلا قصة بريدة الأسلمي ، التي روتها مصادر السنيين بطرق عديدة وأسانيد صحيحة لكفي ، فقد كشفت عن وجود شبكة عمل منظم ترسل الرسائل من اليمن إلى المدينة ، وتضع الخطط ضد على ( عليه السلام ) !
--------------------------- 481 ---------------------------
وروت إدانة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وغضبه عليهم وتصريحه بأن علياً « وليكم من بعدي » كما رواه أحمد والنسائي ، وأن كل من ينتقد علياً ( عليه السلام ) ولا يحبه ولا يطيعه ، فهو منافق خارج عن الإسلام ! لكن القرشيين لم يسمعوا أوامر النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حق على ( عليه السلام ) في حياته فكيف بهم بعد وفاته ؟ !
ثم تزايدت فعالية القرشيين حتى وصلت في السنة التاسعة إلى وضع خطة قوية لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في طريق رجوعه من تبوك ، ويأتي ذلك في مؤامرة ليلة العقبة .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « إن العرب كرهت أمر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه ! حتى قذفت زوجته ! ونَفَّرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها ! وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته » ! شرح النهج : 20 / 298 .
ثم صارت عدواتهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في أهل بيته « عليهم السلام » ميثاقاً سرياً مع اليهود ، قال الله عنها في سورة محمد ( صلى الله عليه وآله ) التي نزلت تلك السنة : إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَينَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيطَانُ سَوَلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأمر وَاللهُ يعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . محمّد : 25 - 26 .
2 - كانت ولادة إبراهيم بن النبي « صلى الله عليه وآله » كارثة على قريش !
في السنة الثامنة للهجرة حدث أمرٌ أربك القرشيين وزاد من صعوبة عملهم في تسقيط سمعة على ( عليه السلام ) وبنى هاشم ، فقد رزق النبي ( صلى الله عليه وآله ) بولد ، وصار برأي قريش وريثه حسب العرف القبلي ، وفى الإسلام بقانون الأسرة الربانية المختارة : إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . لذا نشطت عناصر قريش من نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) في العمل لإبطال وراثة إبراهيم بن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأبيه باتهام والدته مارية القبطية لنفيه عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
فاضطر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يسكنها بعيداً عند بيت أبى رافع ، وأنزل الله براءتها قرآناً فجعلتها عائشة براءة لها ، فأنزل الله سورة التحريم وفيها كشف انحراف اثنتين
--------------------------- 482 ---------------------------
من نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتهديد لهما ! لكنهما واصلتا العمل فتفاقم الأمر حتى غضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) واعتزل نساءه شهراً في أوائل السنة التاسعة ، وشاع خبر أنه طلقهن !
قال ابن كثير : 3 / 710 : « رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة لليال بقين من ذي الحجة في سفرته هذه « فتح مكة » . « وفى ذي الحجة منها ولد إبراهيم بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من مارية القبطية ، فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولداً ذكراً » .
وقال ابن سعد في الطبقات : 1 / 135 : « أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حجب مارية ، وكانت قد ثقلت على نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وغرن عليها ، ولا مثل عائشة » .
3 - سورة التحريم كشفت الحزب القرشي في بيت النبي « صلى الله عليه وآله »
عاد النبي ( صلى الله عليه وآله ) من فتح مكة وحرب حنين في ذي القعدة من السنة الثامنة ، وحدثت أحداثٌ تتعلق ببيته وأزواجه ، استوجبت أن يهجر عائشة ثلاثة أشهر ! « ذا الحجة والمحرم وبعض صفر » . طبقات الشافعية : 6 / 319 والصحيح : 26 / 68 .
وقالوا إن ذلك بسبب حديث الإفك واتهام بعضهم لعائشة ، لكن تهمة عائشة كانت في غزوة المريسيع في شعبان من السنة الخامسة ، « إعلام الوري : 1 / 196 » . وهجره لها كان في آخر السنة الثامنة وأول التاسعة ، وقد رووا أنه ( صلى الله عليه وآله ) هجرها شهراً وليس ثلاثة أشهر ! « فتح الباري : 8 / 363 » . وقالوا إنه هجرها بسبب أنها لم تعط بعيرها إلى صفية ! وهذه عادتهم في تبسيط أسباب غضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) على زوجاته وجعلها أموراً عادية ، لإبعادها عن عملهن ضده لمصلحة قريش ! لكن سورة التحريم ، كشفت أن حفصة وعائشة أفشتا سره ( صلى الله عليه وآله ) وتآمرتا عليه ! وهددهن الله بجيش جرار لايستنفر إلا في حالات الخطر على الرسالة والرسول !
وهذا واضح من نص السورة قال تعالي :
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِى إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِى الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ 3 إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ 4 عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيبَاتٍ وَأَبْكَارًا 5 .
--------------------------- 483 ---------------------------
ثم قال تعالى لهما : ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يغْنِيا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ 10 .
فقد نصت على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أسرَّ لهما بحديث وأكد عليهما أن لا تقولاه ، ولا بد أن الله أمره بذلك لحكمة يعلمها . لكنهما خانتا وأفشتا سر النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأطلعه الله ، فهددهما وضرب لهما مثلاً بامرأتي نوح ولوط ، اللتين خانتا زوجيهما النبيين وكفرتا فدخلتا النار !
قال العلامة في نهج الحق / 370 : « وأفشت سر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين أن عمر خليفة أبيها شهد عليها بذلك . ونقل الغزالي سوء صحبتها لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إن أباها أبا بكر دخل يوماً على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد وقع منها في حق النبي أمر مكروه ، فكلفه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يسمع ما جرى ويدخل بينهما فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تتكلمين أو أتكلم ؟ فقالت : بل تكلم ولا تقل إلا حقاً ! فلينظر العاقل إلى هذا الجواب وهل كان عنده إلا الحق ؟ وينظر في الفرق بين خديجة وعائشة . وقد أنكر الجاحظ من أهل السنة في كتاب الإنصاف غاية الإنكار على من يساوى عائشة بخديجة ، أو يفضلها عليها » .
وفى تأويل الآيات : 2 / 697 : « سبب نزول هذه الآيات أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أسرَّ إلى عائشة وحفصة حديثاً وهو أن أبا بكر وعمر يليان الأمر من بعده بالقهر والغلبة ، فلما أسر إليهما ذلك عرفت كل واحدة أباها ، وأفشت سر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فأنزل الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) يخبره بما فعلتا . . وَصَالِحُ المؤمنين : أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على ما رواه محمد بن العباس « رحمه الله » من طريق العام والخاص ، أورد في تفسيره هذا المنقول اثنين وخمسين حديثاً ، اخترنا منها بعضها ، فقد قال لغلامه ابن أبي رافع لما بكى وقال : من لي ولولدي بعدك يا رسول الله ؟ قال : لك الله بعدي ، ووصيي صالح المؤمنين علي بن أبي طالب . لكن رواة الخلافة القرشية أغمضوا عن الخطر على الإسلام ، الذي تحدثت عنه السورة واستنفر له الله تعالى جيشاً لحالة الخطر القصوي ؟ !
يبقى السؤال : لماذا أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) عائشة بأن أبوها سيتسلط على الأمة
--------------------------- 484 ---------------------------
بعده ؟ ! وجوابه : أن قريشاً كانت تخطط لإعلان الردة بحجة أن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) يريد أن يؤسس ملكاً لبنى هاشم ، فهو ليس بنبي ! فأخبر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بذلك وأمره أن يطمئنهم ليحفظوا نبوته ، وإن أخذوا الحكم بعده ، وأبعدوا عترته « عليهم السلام » !
4 - اتهامهم مارية وتبرئة الله لها
قال ابن سعد : 8 / 212 : « بعث المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في سنة سبع من الهجرة بمارية وبأختها سيرين ، وألف مثقال ذهباً ، وعشرين ثوباً ليناً ، وبغلته الدلدل وحماره عفير ويقال يعفور ، ومعهم خِصْى يقال له مابور شيخ كبير ، كان أخا مارية . . . فجاء أبو رافع زوج سلمى فبشر رسول الله بإبراهيم فوهب له عبداً ، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان » .
وقالت عائشة كما في الطبقات : 8 / 212 : « ما غرتُ على امرأة إلا دون ما غرتُ على مارية ! وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة ، وأعجب بها رسول الله ، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا ، فكان رسول الله عامة النهار والليل عندها ، حتى فرغنا لها فجزعت ! فحولها إلى العالية ، فكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشد علينا ، ثم رزق الله منها الولد وحرمنا منه » .
وعبَّرت عائشة بقولها : فرغنا لها فجزعت ! عن سنتين من صراعها مع مارية ، وتفرغها هي وحفصة لأذية مارية المؤمنة الغافلة الغريبة ! وروى من أذيتهن الكلام والأفعال والضرب والشد بالشعر ! فخشى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليها وعلى حملها ! وكان له بستان في العوالي يسكن فيه غلامه أبو رافع « رحمه الله » وزوجته سلمى وكانت مؤمنة عاقلة ، فبنى لأم إبراهيم غرفة وأسكنها هناك وكان يذهب إليها . فزاد عداء عائشة وحزبها لمارية ، وتضاعف حسدهن عندما رزقت بإبراهيم ( عليه السلام ) !
بل دخل العنصر القرشي بوقاحة لأنه صار للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وارث من صلبه ! وقد بلغت جلافتهم أن قالوا : إن إبراهيم لا يشبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! واتهموا مارية فغضب على نسائه واعتزلهن وسكن في بيت مارية « عليها السلام » ، فنزلت آيات الإفك وبراءة مارية وآيات
--------------------------- 485 ---------------------------
تخيير النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأزواجه بين الزوجية والطلاق .
وتدل أحاديث إبراهيم ( عليه السلام ) على خوف قريش أن يجعله النبي ( صلى الله عليه وآله ) خليفته بدل على والحسنين « عليهم السلام » ! فأشاعوا أن إبراهيم ( عليه السلام ) لا يشبهه !
قال على ( عليه السلام ) : « إن العرب كرهت أمر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ، ونَفَّرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته » ! شرح النهج : 20 / 298 .
وروى في المنتظم : 3 / 346 ، عن عائشة : « لما ولد إبراهيم جاء به رسول الله إلى فقال : أنظرى إلى شبهه بي ، فقلت : ما أرى شبهاً » !
وأكدت عائشة أن الذي اتهم مارية غيرها فقالت ، « الحاكم : 4 / 39 » : « أهديت مارية إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعها ابن عم لها ، قالت : فوقع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عليها وقعة فاستمرت حاملاً ، قالت فعزلها عند ابن عمها ، قالت فقال أهل الإفك والزور : من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره ! وكانت أمةً قليلة اللبن ، فابتاعت له ضائنة لبون فكان يغذى بلبنها فحسن عليه لحمه .
قالت عائشة : فدُخل به على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذات يوم فقال : كيف ترين ؟ فقلت : من غُذِّى بلحم الضأن يحسن لحمه . قال : ولا الشبه ؟ قالت : فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت ما أرى شبهاً ! قالت : وبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما يقول الناس ! فقال لعلي : خذ هذا السيف فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية حيث وجدته ! قالت : فانطلق فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطباً ، قال فلما نظر إلى علي ومعه السيف استقبلته رعدة ، قال فسقطت الخرقة فإذا هو لم يخلق الله له ما للرجال ، شئ ممسوح » .
وقال في شرح النهج : 9 / 190 ، عن عائشة : « وكانت لها عليه جرأة وإدلال لم يزل ينمى ويستشري ، حتى كان منها في أمره في قصة مارية ما كان » .
وصرحت مصادرنا بأن عائشة هي التي اتهمت مارية فقالت للنبي ( صلى الله عليه وآله )
--------------------------- 486 ---------------------------
بعد موت إبراهيم : « ما الذي يحزنك عليه إنه ابن جريح القبطي ! فبعث النبي علياً ليقتله فخاف منه جريح فتسلق نخلة في بستان فانكشف ثوبه فإذا ليس له ما للرجال ، فرجع على ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخبره بما رأى فقال ( صلى الله عليه وآله ) : الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت ، ثم نزلت هذه الآية : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاتَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيرٌ لَكُمْ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ » . « تفسير القمي : 2 / 318 » .
قال في الصحيح من السيرة : 26 / 23 : « إن أقوالها لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حول ولده إبراهيم بعيدة كل البعد عن أبسط قواعد الأدب والالتزام والاحترام . . فلماذا هذا الطعن المتوالى الممعن في القسوة لقلب الإنسانية الطافح بالرحمة والمودة والحنان والغيرة ، والشعور بالكرامة والعزة ؟ ! وهل يجرؤ إنسان يدَّعى أنه قريب وحبيب على التصريح لمن يحبه ويتقرب منه بأن ولده الذي يبكى عليه ، وقد مات قبل ساعة أو ساعات : ليس ولده الشرعي » ؟ !
بل افتروا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه هو اتهم مارية ، وأنه شكاها إلى عمر بن الخطاب ! فقد روى في مجمع الزوائد : 9 / 161 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذهب إلى مارية : « فوجد قريبها عندها فوقع في نفسه من ذلك شئ ، كما يقع في أنفس الناس ، فرجع متغير اللون فلقى عمر فأخبره بما وقع في نفسه من قريب أم إبراهيم ، فأخذ السيف فوجده ممسوحاً . فرجع إلى النبي وطمأنه !
وقال أنس : « لما ولد إبراهيم من مارية جاريته كان يقع في نفس النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى أتاه جبريل ( عليه السلام ) فقال : السلام عليك يا أبا إبراهيم » . الإصابة : 1 / 218 .
إن مجرد وجود روايات من هذا النوع يدلك على أن عرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكرامته كانت تلوكها ألسنتهم ، وأن الغرض منها الطعن بعرضه لترثه قريش دون عترته !
ويسهل عليك أن تجد أصابع قريش في قول عائشة : « فقال أهل الإفك والزور : من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره » !
ومعناها أنهم كانوا يرون أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحاجة إلى ابن ليرثه ويرأس دولته ، فيجعله في وصاية أحد حتى يكبر ! والحل أن ينفوه عنه ، ويرثوا ملكه !
--------------------------- 487 ---------------------------
وعندما لم ينفع ذلك وأنزل الله براءة مارية ، فالحل قتل هذا الطفل المرشح لخلافة أبيه ، ومن يدرى فقد يكون إبراهيم ( عليه السلام ) قتل بالسم !
هذا ، وقد بحث صاحب الصحيح قصة الإفك في مجلد كامل ، وخلاصة ما قاله في ختامه : 13 / 386 : « إن الافتراء على مارية واتهامها بمابور مما أجمعت الأمة على حصوله . ذكر ذلك كل من ترجم لمارية وإبراهيم بن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقصة الإفك عليها أمر لا ريب فيه ، وفيها نزلت آيات سورة النور ولا يصح ذلك في عائشة ! ومن الأدلة والشواهد عليها أن مارية لم يكن لها أحد يدافع عنها فحرفت عائشة اتهامها وبراءتها لتنطبق عليها » !
راجع : رسالة حول خبر مارية للمفيد ، وأمالي المرتض : 1 / 54 ، وسيرة ابن إسحاق : 5 / 252 ، أنساب الأشراف / 362 ، الطبقات : 1 / 137 ، اليعقوبي : 2 / 87 ، حلية الأولياء : 3 / 177 ، صفة الصفوة : 2 / 78 ، الأحاديث المختارة : 2 / 353 ، مسند البزار : 2 / 237 ، غوامض الأسماء : 1 / 498 ، مجمع الزوائد : 4 / 329 ، الآحاد والمثاني : 5 / 450 ، الفائق : 1 / 287 ، تاريخ دمشق : 3 / 236 ، النهاية : 5 / 325 ، سيرة ابن كثير : 4 / 600 ، سبل الهدي : 11 / 219 وكنز العمال : 5 / 454 .
وأخيراً ، في منهج الرشاد : 3 / 265 : « سأل جميل بن دراج الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن أطفال الأنبياء « عليهم السلام » فقال : ليسوا كأطفال الناس . وسأله عن إبراهيم بن رسول الله فقال : لو بقي كان صديقاً نبياً ؟ لو بقي كان على منهاج أبيه ( صلى الله عليه وآله ) » .
وسأل رجلٌ علياً ( عليه السلام ) : « أرأيت لو كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها ؟ قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلتُ ! ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرياسة ، وسلَّماً إلى العز والأمرة لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً . ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت : لولا أنه حق لما كان كذا ! ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء » . شرح النهج : 20 / 298 .
--------------------------- 488 ---------------------------
5 - إبراهيم بن رسول الله « صلى الله عليه وآله »
1 . كان إبراهيم ( عليه السلام ) أبيض حنطياً مشرباً بحمرة ، شبيهاً بأبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وعاش سنة ونصفاً ، وروي : سنة وعشرة أشهر . وفى الإستيعاب ملخصا : ً 1 / 54 : « ولدته أمه مارية في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة ، بالعالية في مشربة أم إبراهيم وكانت قابلتها سلمى امرأة أبى رافع ، فبشر أبو رافع به النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فوهب له عبداً ، فلما كان يوم سابعه عقَّ عنه بكبش وحلق رأسه ، وسماه يومئذ ، وتصدق بوزن شعره ورقاً على المساكين ، ودفن شعره في الأرض . ودفعه إلى أم بردة ، بنت المنذر من بنى النجار لترضعه ، وكانت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قطعة من الضأن ، فكانت تؤتى بلبنها كل ليلة فتشرب منه وتسقى ابنها » .
وقد توفيت مارية سنة 16 هجرية ، ودفنت قرب ابنها « عليهما السلام » بالبقيع . الطبقات : 8 / 216 .
2 . في الكافي : 3 / 463 والمحاسن : 2 / 313 عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « لما قبض إبراهيم ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جرت فيه ثلاث سُنن . أما واحدة فإنه لما مات انكسفت الشمس فقال الناس انكسفت الشمس لفقد ابن رسول الله ، فصعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تجريان بأمره مطيعان له ، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا ، ثم نزل فصلى بالناس صلاة الكسوف . فلما سلم قال : يا علي قم فجهز ابني قال : فقام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فغسل إبراهيم وكفنه وحنطه ومضي ، فمضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى انتهى به إلى قبره فقال الناس : إن رسول الله نسي أن يصلى على ابنه لما دخله من الجزع عليه ، فانتصب قائماً ثم قال : إن جبرئيل ( عليه السلام ) أتاني فأخبرني بما قلتم ، زعمتم أنى نسيت أن أصلى على ابني لما دخلني من الجزع ، ألا وإنه ليس كما ظننتم ، ولكن اللطيف الخبير فرض عليكم خمس صلوات ، وجعل لموتاكم من كل صلاة تكبيرة ، وأمرني أن لا أصلى إلا على من صلي .
ثم قال : يا علي إنزل والحد ابني ، فنزل على فألحد إبراهيم في لحده ، فقال الناس إنه لا ينبغي لأحد أن ينزل في قبر ولده ، إذ لم يفعل رسول الله بابنه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
--------------------------- 489 ---------------------------
يا أيها الناس إنه ليس عليكم بحرام أن تنزلوا في قبور أولادكم ، ولكن لست آمن إذا حل أحدكم الكفن عن ولده أن يلعب به الشيطان ، فيدخله عن ذلك من الجزع ما يحبط أجره » .
أقول : ورد عندنا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلى على ابنه إبراهيم ( عليه السلام ) وكبر عليه خمساً . « المعتبر : 2 / 348 » ومشهور فقه مذهبنا أنه لا تجب صلاة الميت على الأطفال حتى يبلغوا ست سنين ، وقيل تستحب الصلاة على من هم أصغر سناً .
3 . في كشف اليقين / 321 ، عن ابن عباس : « كنت عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلى فخذه الأيسرابنه إبراهيم وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي « عليهما السلام » ، وهو يقبل هذا تارة وذلك أخري ، إذ هبط جبريل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إن الله تعالى يقرأ عليك السلام ويقول لك : لست أجمعهما لك فافد أحدهما بصاحبه ! فنظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى إبراهيم وبكي ، ونظر إلى الحسين وبكي ، وقال : إن إبراهيم متى مات لم يحزن عليه غيري ، وأما الحسين متى مات حزنت عليه ابنتي وحزن ابن عمى وحزنت أنا ، وأنا أؤثر حزنى على حزنهما . يا جبرئيل يقبض إبراهيم فقد فديت الحسين به . قال : فقبض بعد ثلاثة ، فكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) إذا رأى الحسين مقبلاً ، قبَّله وضمه إلى صدره ورشف ثناياه وقال : فديتُ من فديته بابنى إبراهيم « عليهم السلام » » . وتاريخ بغداد : 2 / 200 ، تاريخ دمشق : 52 / 324 والطرائف / 202 .
4 . لما مات إبراهيم ( عليه السلام ) قال ( صلى الله عليه وآله ) : أدفنوه في البقيع فإن له مرضعاً في الجنة . . بعث علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى أمه مارية القبطية وهى في مشربة ، فحمله على في سفط وجعله بين يديه على الفرس ثم جاء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فغسله وكفنه وخرج به وخرج الناس معه ، وقال لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه ، فأتاه فانكب عليه وبكي ، وقال : تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا مايرضى الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون .
ودفنه في الزقاق الذي يلي دار محمد بن زيد ، فدخل على ( عليه السلام ) في قبره وسواه عليه ودفنه ، ثم خرج ورش على قبره الماء ، وأدخل رسول الله يده في قبره وبكى
--------------------------- 490 ---------------------------
وبكى المسلمون حتى ارتفع الصوت . ثم رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في قبره خللاً فسواه بيده ، ثم قال : إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن ، ثم قال : إلحق بسلفك الصالح عثمان بن مظعون . وقال الواقدي : مات إبراهيم يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من ربيع الأول سنة عشر ، وهو ابن ثمانية عشر شهراً » . الكافي : 3 / 262 ، الصحيح : 26 / 28 وحياة النبي لقوام : 3 / 243 .
أقول : يتعجب الإنسان من تعبير النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن عثمان بن مظعون الجمحي بأنه سلفه ( صلى الله عليه وآله ) ، مع أن سلفه آباؤه الطاهرون « عليهم السلام » . لكنه يدل على أن ابن مظعون له مكانة خاصة ، وانه جزء من سلفه الصالح العظماء سلام الله عليهم ، وهو أخو النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الرضاعة ، وكان مستقيماً في الجاهلية .
5 . في مسكن الفؤاد للشهيد الثاني / 93 : « عن أسماء ابنة زيد قالت : لما توفى ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إبراهيم ( عليه السلام ) بكى رسول الله فقال له المعزي : أنت أحق من عظم الله عز وجل حقه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ، لولا أنه وعد حق وموعود جامع وأن الآخر تابع للأول ، لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل مما وجدناه ، وإنا بك لمحزونون .
فقال له عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله تبكي ، أوَلم تُنه عن البكاء ؟ فقال : إنما نهيت عن النوح ، عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ، خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان .
إنما هذه رحمة ، ومن لا يرحم لا يرحم ، ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه وأن آخرنا سيلحق أولنا ، لحزنا عليك حزناً أشد من هذا ، وإنا بك لمحزونون ، تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب عز وجل . وعن أبي أمامة قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين توفى ابنه وعيناه تدمعان فقال : يا نبي الله تبكى على هذا السخل ؟ والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثنى عشر ولداً في الجاهلية كلهم أشب منه أدسه في التراب ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فماذا ، إن كانت الرحمة ذهبت منك ، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب ، وإنا على إبراهيم لمحزونون . قال : ريحانة وهبها الله لي وكنت أشمها » .
--------------------------- 491 ---------------------------
6 - ساءت علاقة النبي « صلى الله عليه وآله » بزوجاته فهجرهن !
تضمنت سورة التحريم تهديداً لزوجات النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالطلاق ! ثم ازداد سوءاً في أوائل السنة التاسعة فهجرهن واعتزل منزله ، وسكن على بعد كيلو مترات عنهن وعن المسجد ، في بيت مارية القبطية في ضاحية المدينة ، وبقى هناك شهراً ، وشاع خبر غضبه وطلاقه لهن ! مغنى المحتاج : 3 / 343 .
وزعم شخصيات قريش أنها حادثة شخصية سببها طلبات نساء النبي المعيشية ! ولا ربط لها بالقضية التي كانت تشغل الساحة بعد حجة الوداع وهى خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! لكن أي حادثة شخصية هذه التي نزلت فيها سورة التحريم والتهديد ؟ ولماذا أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يهجر نساءه وبيته ومسجده ، ويعلن غضبه عليهن حتى شاع أنه طلقهن !
7 - ملاحظات حول سورة التحريم وهجر النبي « صلى الله عليه وآله » لأزواجه
1 - تعمد القرشيون أن يخلطوا خَمْس مسائل لتضييع الحقيقة ! مع أنها مختلفة موضوعاً وزماناً ! فآيات الإيلاء نزلت في سورة البقرة ، في أول الهجرة .
وتهمة عائشة كانت في السنة الخامسة ، في غزوة المريسيع أو بنى المصطلق !
وتهمة مارية كانت في أوائل السنة الثامنة ، بعد حملها بإبراهيم ( عليه السلام ) !
ونزول سورة التحريم كان بعد فتح مكة ، واتجاه قريش لإعلان الردة !
وهجْر النبي ( صلى الله عليه وآله ) لزوجاته كان في السنة التاسعة ، قبيل غزوة تبوك .
قال الصدوق « رحمه الله » في الفقيه : 3 / 517 : « قال أبى رضي الله عنه في رسالته إلي : إعلم يا بنى أن أصل التخيير « تخيير أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بين الطلاق والبقاء » هو أن الله تبارك وتعالى أنفَ لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) من مقالة قالتها بعض نسائه : أيرى محمد أنه لو طلقنا لا نجد أكفاءنا من قريش يتزوجونا ؟ ! فأمر الله نبيه أن يعتزل نساءه تسعاً وعشرين ليلة ، فاعتزلهن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مشربة أم إبراهيم ، ثم نزلت هذه الآية : يا أَيهَا النَّبِى قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً
--------------------------- 492 ---------------------------
جَمِيلاً . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ، فاخترن الله ورسوله فلم يقع الطلاق ، ولو اخترن أنفسهن لَبِنَّ » .
لكن رواة قريش قالوا إنه ( صلى الله عليه وآله ) آلاهن ، أي حلف أن يهجرهن في المضجع شهراً فعاتبه ربه وأمره بالرجوع ! قال الترمذي : 5 / 95 : « وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهراً ، فعاتبه الله في ذلك ، فجعل له كفارة اليمين » !
وقال بخاري : 1 / 100 : « وآلى من نسائه شهراً فجلس في مشربة له درجتها من جذوع . . . ونزل لتسع وعشرين فقالوا : يا رسول الله إنك آليت شهراً ، فقال : إن الشهر تسع وعشرون » . انتهي .
فزعموا أن سبب إيلائه وأن غضبه كثرة طلباتهن ! وليس اتهامهن لمارية ، ولا خيانتهن المنصوص عليها في سورة التحريم ! « قال المفسرون : حين غار بعض نساء النبي وآذينه بالغيرة وطلبن زيادة النفقة ، فهجرهن رسول الله شهراً حتى نزلت آية التخيير » . أسباب النزول / 240 .
لكن هجرهن ونزول آية التخيير كان في التاسعة ، ونزول آيات الإيلاء كان قبل سنوات في سورة البقرة . البقرة : 225 - 227 !
2 - نصت سورة التحريم على معصية حفصة وعائشة وهددتهما بالنار ، فهي تدل على أنهما ليستا من أهل البيت المطهرين من الرجس ، ولذا لم تدع أي منهما أن آية التطهير تشملها ، وإنما ادعيت لهما بعد وفاتهما !
قال في بشارة المصطفى / 390 : « ليس يجوز لمن له أدنى علم أن يخلط ذكر فاطمة « عليها السلام » بذكر غيرها ! وكيف يجوز أن يقاس من شهد الله بطهارتها بقوله تعالي : إنما يرِيدُ اللهُ لِيذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً . على من قال الله في حقها : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ! لكن العمى في القلب والعصبية وبغض أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحمل بعض الناس على ما لا يليق بالعقل » .
3 - كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) طلق حفصة فوضع عمر التراب على رأسه وقال : « ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها » فأرجعها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقالوا أمره جبرئيل بإرجاعها من
--------------------------- 493 ---------------------------
أجل عمر ! وقال لها عمر مرة : « طلقك مرة ثم راجعك من أجلي ، والله إن كان طلقك مرة أخرى لا كلمتك أبداً » ! مجمع الزوائد : 4 / 333 .
ويحتمل أن يكون ذلك عند إفشائها لسره ، أو عند تفاقم الأمر بعد ذلك .
4 - استدل أتباع الخلافة على أن عائشة وحفصة مبرأتان من كل عيب ، لقوله تعالي : الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيبَاتُ لِلطَّيبِينَ وَالطَّيبُونَ لِلطَّيبَاتِ . وأفتوا بقتل من اتهم عائشة لأن الله تعالى برأها فيكون اتهامه تكذيباً للقرآن .
أما فقهاؤنا فحرموا تهمة نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخلاقياً ، لكنهم جوزوا عليهن خيانة رسالته والعمل مع أعدائه ضده ، واستحقاق النار ، بدليل سورة التحريم .
أما آية الطيبين للطيبات فهي في الآخرة ، أما في الدنيا فامرأة نوح ولوط خبيثتان كافرتان بنص القرآن ، وقد ضربهما الله مثلاً لعائشة وحفصة .
على أنه قد يكون المقصود به حكم شرعي ، وأنه يحرم أن يتزوج الطيبون من خبيثات . كما استدل به بعض فقهائنا .
5 - لا صحة لقولهم إن سبب هجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهن النفقة ، فقد كان الوضع المالى للنبي ( صلى الله عليه وآله ) جيداً في السنة التاسعة ، بعد فتح خيبر وحنين وكثرة الغنائم التي أحلها الله لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) . بل السبب أن الله أنفَ لنبيه قول بعضهن أنه لو طلقنا سنجدن خيراً منه ، وقد نص الرواة على أن حفصة قالت ذلك !
- *
--------------------------- 494 ---------------------------
الفصل السادس والستون
أحداث قبل غزوة تبوك
1 - توبة كعب بن زهير ومدحه للنبي « صلى الله عليه وآله »
كان الشاعر كعب بن زهير يهجو النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين ، فأهدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) دمه . وبعد حنين جاء كعب تائباً ، فأناخ بباب المسجد ، قال : فعرفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالصفة فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت ، ثم قلت : الأمان يا رسول الله ، أنا كعب بن زهير . وأنشده قصيدته المعروفة بقصيدة البردة :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ * مَُتيمٌ إثرها لم يفْدَ مكبولُ
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا * إلا أغنُّ غضيض الطرف مكحول
ومنها : وقال كل صديق كنت آمله * لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أباً لكم * فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته * يوماً على آلة حدباء محمول
نبئتُ أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة * القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذنِّى بأقوال الوشاة ولم * أذنب ولو كثرت في الأقاويل
ما زلت أقتطع البيداء مدرعاً * جنح الظلام وثوب الليل مسدول
--------------------------- 495 ---------------------------
إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم * ببطن مكة لما أسلموا : زولوا
شم العرانين أبطال لبوسهم * من نسج داود في الهيجا سرابيل
فكساه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بردة له . الصحيح من السيرة : 26 / 87 وابن هشام : 4 / 939 .
2 - انضمام البحرين وعُمَان إلى دولة النبي « صلى الله عليه وآله »
في مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : 2 / 361 : « كتابه ( صلى الله عليه وآله ) إلى جيفر وعبد ابني الجلندي :
بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي : سلام على من اتبع الهدي ، أما بعد ، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام ، أسلما تسلما ، إني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ، ويحق القول على الكافرين ، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما ، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام ، فإن ملككما زائل عنكما ، وخيلى تحل بساحتكما ، وتظهر نبوتي على ملككما » .
وفى فتوح البلدان : 88 وفى ط : 103 و 104 : كان الغالب على عمان الأزد ، وكان بها من غيرهم بشركثير في البوادي ، فلما كانت سنة ثمان بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبا زيد الأنصاري أحد الخزرج . . بكتابه إلى عبد وجيفر ابني الجلندي الأزديين في سنة ست ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) لأبى زيد : خذ الصدقة من المسلمين والجزية من المجوس . . ووجه عمرو بن العاص في سنة 8 بعد إسلامه بقليل سنة ثمان » .
وفى فتوح البلدان للبلاذري : 1 / 92 : « فلما قدم أبو زيد وعمرو عمان وجدا عبداً وجيفراً بصحار على ساحل البحر . فأوصلا كتاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليهما فأسلما ، ودعوا العرب هناك إلى الإسلام ، فأجابوا إليه ورغبوا فيه . فلم يزل عمرو وأبو زيد بعمان حتى قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) » .
وذكر الطبري : 2 / 362 أن سكان عمان كانوا مجوساً ، وكان العرب حول البلد .
--------------------------- 496 ---------------------------
3 - سرية علي « عليه السلام » لمنع تحويل طيئ إلى قاعدة للروم
بعد انتصار الروم على الفرس ومقتل كسرى دخل النظام الفارسي في صراع داخلي على منصب « الشاهنشاه » فارتفع خطرهم الفعلي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين . لكن زاد خطر الروم ، وأخذ قيصر يحضِّر لغزو المدينة والجزيرة كما تقدم في غزوة مؤتة ، وكان اعتماده على ملك الشام ، وعلى الأكيدر ملك دومة الجندل ، كما عمل على تحويل قبيلة طئ إلى قاعدة مساندة ، وقد استجاب له عدى بن حاتم واعتنق المسيحية وكان يقضى وقتاً من سنته في الشام . « قدم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الشام ودعاه إلى الإسلام فقال : إني نصراني ركوسي . فقال إنك لا دين لك ، إنك تصنع ما لا يصلح لك في ركوسيتك ، فأبصر وأسلم » . تاريخ دمشق : 40 / 78 .
وفى فايق الزمخشري : 2 / 6 : « إنك تأكل المرباع وهو لا يحل لك . . المرباع الربع ومثله المعشار ، وكان يأخذه الرئيس مع المغنم في الجاهلية . الركوسية قوم بين النصارى والصابئين » . « والرِّكس بالكسر : الجسر » . لسان العرب : 6 / 101 .
فقد اختار عدى بن حاتم المسيحية الشرقية التي فيها أفكار من الصابئة ، ولا بد أن مذهبه أخذ ينتشر في قبيلته ، الذين كانوا وثنيين يعبدون صنمهم الفُلس ، وله معبد مشهور ، وقد أهدى الحارث بن شمر ملك الغساسنة هدية لصنم طئ فيها سيوف مع أنه مسيحي على دين قيصر ! لذلك رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يقلم أظافر هرقل من الجزيرة قبل غزوة تبوك ! فأرسل علياً ( عليه السلام ) في سرية إلى قبيلة طئ .
قال في الصحيح من السيرة : 26 / 335 ، ملخصاً : « في شهر ربيع الآخر من سنة تسع بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في خمسين ومائة رجل أو مائتين من الأنصار كما ذكره ابن سعد ، على مائة بعير وخمسين فرساً ، ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفُلْس وهو صنم لطئ ليهدمه ، فوجدوا عيناً لطئ على بعد ليلة فأخذوه معهم وشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر ، فهدموا الفلس وخربوه ووجد في خزانته ثلاثة أسياف : رسوب والمخذم وكان الحارث بن أبي
شمر ملك الشام قلده إياهما ، وسيف يقال له : اليماني ، وثلاثة أدرع .
--------------------------- 497 ---------------------------
وأخذوا من نعمهم وسبوا منهم ، وكان في السبي سفانة أخت عدى بن حاتم ، وهرب عدى إلى الشام ، فلما نزلوا رَكَك اقتسموا الغنائم ، وعزلوا للنبي ( صلى الله عليه وآله ) السيوف والخُمس ، ولم يقسم آل حاتم حتى قدم بهم المدينة .
وكانت أخت عدى إذا مرَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) تقول : يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد ، فامنن علينا من الله عليك ، فسألها : من وافدك ؟ فتقول : عدى بن حاتم . فيقول : الفار من الله ورسوله ؟ فلما كان يوم الرابع مرَّ النبي ، فلم تتكلم فأشار إليها رجل قومي فكلميه فكلمته أن يمن عليها فمن عليها فأسلمت . وسألت عن الرجل الذي أشار إليها ، فقيل : على وهو الذي سباكم أما تعرفينه ؟ فقالت : لا والله ما زلت مُدْنِيةً طرف ثوبي على وجهي ، وطرف ردائي على بُرقعى من يوم أُسرت حتى دخلتُ هذه الدار ، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه .
وفى نص آخر قالت : يا محمد أرأيت أن تخلى عنا ولاتشمت بنا أحياء العرب ؟ فإني ابنة سيد قومي وإن أبى كان يحمى الذمار ، ويفك العاني ، ويشبع الجائع ، ويكسو العاري ، ويقرى الضيف ، ويطعم الطعام ، ويفشى السلام ، ولم يرد طالب حاجة قط ! أنا ابنة حاتم طئ . فقال لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا جارية ، هذه صفة المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه ، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق . قالت : وكساني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وحملني وأعطاني نفقة ، فخرجت حتى قدمت على أخي .
وخرجت سفانة بنت حاتم إلى الشام ، قال عدي : « فوالله إني لقاعد في أهلي ، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلى تَؤُمُّنا . قال : فقلت : ابنة حاتم ، فإذا هي هي ! فلما وقفت على قالت : أنت القاطع الظالم ، ارتحلت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك : أختك وعورتك ؟ ! قال قلت : يا خية ، لا تقولي إلا خيراً ، فوالله ما لي من عذر ، ولقد صنعتُ ما ذكرت . قال : ثم نزلت فأقامت عندي . قال : فقلت لها وكانت امرأة حازمة : ماذا ترين في أمر هذا الرجل ؟ قالت : أرى والله أن نلحق به سريعاً ، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكاً فلن نذل في
--------------------------- 498 ---------------------------
عز اليمن ، وأنت أنت . قال قلت : والله إن هذا الرأي .
قال : فخرجت حتى أقدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة ، فدخلت عليه وهو في مسجده وعنده امرأة وصبيان ، فعرفت أنه ليس بمُلك كسرى ولا قيصر ، فسلمت عليه فقال : مَن الرجل ؟ قال قلتُ : عدى بن حاتم . فرحب به النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقربه وأخذه إلى بيته فلقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها . قال عدي : قلت في نفسي والله ما هذا بمَلِك . قال : ثم مضى حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقدمها إلي ، فقال : أجلس على هذه . قلت : بل أنت فاجلس . فقال : بل أنت فاجلس عليها . فجلست عليها وجلس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على الأرض . فقلت في نفسي : ما هذا بأمر ملك ! فدخل الإسلام في قلبي وأحببت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حباً لم أحبه شيئاً قط !
قال : ثم أقبل على فقال : هيه يا عدى بن حاتم ، أفررت أن توحد الله وهل من أحدٍ غير الله ؟ هيه يا عدى بن حاتم ، أفررت أن تكبر الله ومن أكبر من الله ؟ هيه يا عدى بن حاتم ، أفررت أن تعظم الله ومن أعظم من الله ؟ هيه يا عدى بن حاتم أفررت أن تشهد أن لا إله إلا الله وهل من إلهٍ غير الله ؟ هيه يا عدى بن حاتم أفررت أن تشهد أن محمداً رسول الله ؟ ! قال : فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول نحو هذا وأنا أبكي . قال :
ثم أسلمت .
قال : فلعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم والله لتفتحن عليهم كنوز كسرى بن هرمز . قلت : كنوز كسرى بن هرمز ؟ ! قال : كنوز كسرى بن هرمز . قال عدي : فأسلمت ، فرأيت وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد استبشر ! قال عدي : وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم ( صلى الله عليه وآله ) .
- *
--------------------------- 499 ---------------------------
الفصل السابع والستون
غزوة تبوك لمواجهة الروم
1 - ملك دومة الجندل أكيدر بن عبد الملك
دُومة الجندل بضم الدال وفتحها : مدينة الجَوْف وضواحيها ، هي الآن محافظة في شمال المملكة السعودية . « والدَّوْم شجر يشبه النخل إلا أنه يثمر المُقْل « ليف أو مسد تصنع منه الحبال » وله ليف وخوص مثل ليف النخل . ودومة الجندل خمسة فراسخ ومن قبل مغربه عين تَثِجَّ فتسقى ما به من النخل والزرع . واسم حصنها مارد ، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبنى بالجندل » . لسان العرب : 12 / 218 .
« تتصل به عين التمر وبَرِّية خساف من بادية السماوة » . نزهة المشتاق : 1 / 352 .
وفى قاموس الكتاب المقدس / 381 : « آدوم : اسم مكان ذكر في إشعياء : 21 : 11 ، مع سعير أو أدوم . ويعتقد بعضهم أن هذا المكان هو الواحة التي تسمى دومة الجندل وتدعى الآن الجوف ، وهى في الشمال الغربى من شبه الجزيرة العربية على نحو مسافة مائة ميل من حدود الأردن . وربما سكن نسل دومة بن إسماعيل هذه البلاد » . وفى الصحيح من السيرة : 10 / 126 : « مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال ، وتبعد عن المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة ، وهى بقرب تبوك » .
« أكيدر : صاحب دومة الجندل . وكودر : ملك من ملوك حمير » . لسان العرب : 5 / 135 .
وفى مكاتيب الرسول : 3 / 331 : « ذكر بعض الأخباريين أن كلباً كانت تحكم دومة الجندل ،
--------------------------- 500 ---------------------------
وأن أول من حكمها منهم دجاجة بن قنانة بن عدي . وذكروا أيضاً أن الملك على دومة الجندل وتبوك كان لهم إلى أن ظهر الإسلام ، وأنهم كانوا يتداولون الحكومة مع السكون من كندة ، فلما ظهر الإسلام كان على دومة الجندل الأكيدر بن عبد الملك ، وكان سوق دومة الجندل يعشرها كلب تارة وأكيدر أخري . ويؤيد سلطة كلب وقوتها أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعث سرية إلى دومة مع عبد الرحمن بن عوف في السنة السادسة في شعبان فتزوج ابنة الأصبغ ، وهو رأسهم وملكهم . راجع الطبري : 2 / 642 .
أقول : كانت دومة الجندل « دولة » تابعة لهرقل ، وهى حدود بلاد الشام مع جزيرة العرب ، وهى حدود دولة المناذرة في العراق التي يحكمها الفرس . وقد انتشرت فيها المسيحية إلى جانب الوثنية العربية ، ومثلها تيماء ووادى القرى وتبوك . وعندما ضعف نفود الفرس بعد هزيمتهم على يد الروم ، زاد نشاط الغساسنة والروم في هذه المناطق ، وتعاظم خطر الروم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وكان الأكيدر ملك الدومة على صلة وثيقة بمَلك الشام الحارث بن أبي شمر ، وكان ذراعه داخل الجزيرة ، وكانا يحَضِّرَان لغزو المدينة بأمر هرقل من قديم .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتجنب الاصطدام مع أي حاكم عربى مهما أمكن ليجمع العرب على الإسلام ضد الروم ، وتقدم في غزوة مؤتة أن ملك الشام قتل رسوله ( صلى الله عليه وآله ) إلى حاكم عمَّان ، واستخف برسوله اليه هو ، وعزم على غزو النبي فنهاه قيصر ، ولما بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ما كان منه قال : بادَ ملكه » . السيرة الحلبية : 3 / 304 .
2 - غزوة النبي « صلى الله عليه وآله » لدومة الجندل في السنة الخامسة
في السنة الخامسة بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن الأكيدر يجمع لغزو المدينة فغزاه بنفسه في وقت سوق دومة الجندل السنوي ، فهرب الأكيدر إلى صاحبه ملك الشام فقرر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن لا يهاجم السوق ، ورجع إلى المدينة .
قال الطبري : 2 / 232 : « وفيها « السنة الخامسة » غزا دومة الجندل في شهر ربيع الأول وكان سببها أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بلغه أن جمعاً تجمعوا بها ودنوا من أطرافه ، فغزاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى بلغ دومة الجندل ، ولم يلق كيداً » .
--------------------------- 501 ---------------------------
وفى المحبر / 58 : « وكان تجار العرب شكوا إليه ظلم أكيدر بن عبد الملك السكوني فخرج ( صلى الله عليه وآله ) مستهل المحرم يوم الاثنين ، فبلغ أكيدر إقباله فهرب وخلَّى السوق ! ورجع ( صلى الله عليه وآله ) من الطريق في صدر صفر ، ولم يلق كيداً » .
وفى البدء والتاريخ / 332 : « وأحسَّ بذلك أكيدر فهرب ، واحتمل الرحل وخلى السوق ، وتفرق أهلها ، فلم يجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحداً ، فرجع » .
3 - الوضع السياسي للروم عند غزوة تبوك
ذكر المسعودي في التنبيه والإشراف / 134 ، وهو مؤرخ خبير بالروم : أن هرقل بدأ حكمه في سنة هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحَكَم إلى السنة الثانية من خلافة عثمان ، فكان قائد الروم في حروبهم مع الفرس وانتصارهم عليهم ، وفى حروبهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين ، وانتصار المسلمين عليهم .
أما كسرى أبرويزشاهنشاه الفرس فكان عند هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في السنة الثالثة والثلاثين من حكمه . ولما ملك هرقل جَدَّ في حرب الفرس فكانت بينهم حروب في حوران انتصر فيها الفرس وقال الله تعالى عنها : ألَمِ . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِى أَدْنَى الأرض .
أما انتصار الروم على الفرس فكان في السنة السادسة لهجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما أرسل كسرى جيشاً إلى القسطنطينية وحاصرها ، وأثناء حصارها ساءت العلاقة بينه وبين قائد جيشه شهر براز ، فاتفق مع هرقل ضد كسرى وانسحب من حصار قسطنطينية ، فنشط هرقل في حرب جيوش كسرى في مصر وسوريا فهزمها ، وجمع جيشه في الجزيرة وسار بنفسه إلى الموصل ، وخرج كسرى اليه في جيشه الخاص فاقتتلوا فانهزم الفرس ! ولما رأى ذلك كسرى غضب على كبار قادته وعماله وحبسهم ليقتلهم ، وكان عددهم ثلاثين ألفاً ! فاتفق عليه شخصيات مملكته وخلعوه وملَّكوا ابنه شيرويه . راجع الأخبار الطوال / 106 .
وعاد هرقل منتصراً من الموصل ، وقد اطمأن إلى أن النظام الفارسي في حالة تفكك ، وصار له نفوذ على ابن كسرى وقادة الجيش الفارسي المتصارعين .
وقد صح تقدير هرقل ، فبعد حكم كسرى لمدة ثمانية وثلاثين عاماً حكم ابنه
--------------------------- 502 ---------------------------
شيرويه ستة أشهر ، وأصابته الكآبة والأمراض بعد قتله أباه وإخوته الخمسة عشر ! ثم حكم ابنه أردشير سنة ونصفاً . ثم حكم شهر براز أربعين يوماً . ثم حكم كسرى بن قباذ ثلاثة أشهر . ثم حكمت بوران بنت كسرى سنة ونصفاً ، وفى عهدها قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن الفرس : لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة . ثم حكم فيروز جشنس بنده ستة أشهر . ثم حكمت آزر ميدخت بنت كسرى ستة أشهر .
ثم حكم فرخزاد خسرو بن أبرويز سنة . ثم حكم يزجرد بن شهريار بن كسرى عشرين سنة ، لكنه كان متخفياً هارباً من المسلمين حتى قتل في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين . التنبيه والإشراف / 89 ، المحبر / 362 ، اليعقوبي : 1 / 156 و 172 والطبري : 1 / 587 .
وبعد انتصاره على الفرس ، بقي هرقل في بلاد الشام يرتب أمورها ، وصار واضحاً أن معركته المقبلة ستكون مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه يعِدُّ العُدة لذلك .
كان هرقل يهاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويحسب لقوته حساباً أكثر مما يهاب كسري ، ولذلك أجاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) على رسالته بجواب لين وأنه يؤمن بأنه الرسول الأخير الذي بشر به عيسى ( عليه السلام ) ، وأنه دعا بطارقة الروم ليؤمنوا به ، لكنهم لم يطيعوه !
أراد بذلك أن كسب الوقت للإعداد لحرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان نهيه لملك الشام أن يغزو المدينة ، وقايةً من الهزيمة على يد النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وقد اتضحت سياسة هرقل وعداؤه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما أمر الحارث ملك الشام أن يقتل حاكم عَمَّان ، لأنه بعث إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإسلامه ، ثم جاء إلى تبوك بعد عودة النبي ( صلى الله عليه وآله ) منها ، وأمر بقتل يوحنا حاكم أيلة وصلبه ، لأنه كتب مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) عهد صلح ! كما كان أمر بقتل رسول النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى حاكم بصرى من قبله ، بينما أكرم هو رسول النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأجاب جواباً ليناً !
كان هرقل يحشد جيش الشام ، وجيش كندة عند الأكيدر ملك دومة الجندل ، ويهئ « طابوره الخامس » من متنصرة المدينة ومنافقيها ومنافقى قريش وبقايا اليهود ، بقيادة أبى عامر الفاسق . لكن كل ذلك مقدمة لجيشه الرومي من فرسان الروم المحترفين الذين سيزحف بهم إلى المدينة خلف هذا الجيش العربي !
--------------------------- 503 ---------------------------
وينبغي أن نشير إلى دولتي العرب في الشام والعراق ، اللتين كانتا تحت نفوذ الروم والفرس ، فقد ذكروا أن أول ملوك الشام التابعين للروم جفنة بن عمرو بن ماء السماء . وآخرهم جبلة بن الأيهم ، الذي لحق بالروم بعد فتح الشام .
أما في العراق فقد ملَّك الفرس على الحيرة : النعامنة والمناذرة وآخرين من تميم وكندة وغسان وطيئ ، وآخرهم النعمان بن المنذر الذي قتله كسرى وملَّك بعده أياس بن قبيصة الطائي وغيره ، ثم جاء الله بالإسلام . التنبيه والإشراف / 1589 .
4 - النبي « صلى الله عليه وآله » يعمل لنقل المعركة إلى الشام وحصرها بالروم
مقابل ذلك كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يرى أن هزيمة كسرى والصراع الداخلي على السلطة بعده ، تسهل على المسلمين فتح فارس . أما هرقل فيجب توجيه رسالة قوية اليه والمبادرة إلى الاشتباك معه في بلاد الشام ، لصرفه عن التفكير في غزو الجزيرة . وكان ( صلى الله عليه وآله ) حريصاً على أن يتجنب المعركة مع الحكام المحليين التابعين لهرقل ويحصر المعركة مع جيشه الرومي الخالص ليضغط عليه أن ينسحب من الشام ومصر ، ويضغط على الحكام المحليين ليكونوا على الحياد ، ويعقدوا معه معاهدات صلح .
وبهذه الرؤية أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) جعفر بن أبي طالب « رحمه الله » وأمره أن يتوغل بجيشه إلى قريب القدس حيث الجيش الرومي المحترف ، ولم يأمره أن يثأر لرسوله من حاكم بصري ، أو يشتبك مع الحارث حاكم الشام ! وبذلك وجه رسالة إلى هرقل أن موضع الاشتباك معه في عقره بالشام ومع جيشه الرومي ، وليس في الجزيرة !
وبهذه الرؤية قصد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه مركزاً آخر لتجمع الجيش الرومي هو تبوك وكان يحث المسلمين على المعركة فيقول : « أغزوا الروم تنالوا بنات الأصفر » ! « تفسير القمي : 1 / 293 والاستيعاب : 1 / 266 » فهو يوجههم إلى المعركة المقبلة الطويلة مع الروم ، ويطمعهم ببناتهم البيض ، وليس ببنات المنطقة السمر !
وكان قيصر أيامها في حمص وقيل في دمشق ، وكانت قواته الرومية فضلاً
--------------------------- 504 ---------------------------
عن العربية في حالة استنفار ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) منذ أن راسله في السنة السادسة ودعاه إلى الدخول في الإسلام ، أي قبل ثلاث سنوات من تبوك ، وكانت تبوك وحمص وأجنادين ومؤتة ، أهم نقاط تجمع الجيش الرومي .
وتبعد تبوك عن المدينة سبع مئة كيلو متر ، وهى الآن مدينة قرب الحدود السعودية الأردنية ، وتبعد عن عَمَّان أربع مئة وخمسين كيلو متراً ، وعن الشام نحو ذلك . وهى الأيكة التي ورد ذكرها في القرآن ، وقربها مَدْين التي بعث فيها شعيب ( عليه السلام ) . معجم البلدان : 1 / 291 .
وقد علم هرقل بحركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بجيش من ثلاثين ألفاً ، فقد أخبره جواسيسه في المدينة والجزيرة بحركته ، وأنه أعلن مقصده ودعا الناس إلى حرب الروم ! فأمر هرقل بسحب جميع قواته والقوات العربية من تبوك وأخلاها من أي قوة ، لأنه لم يستعد لخوض المعركة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وبلغه ما فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالأكيدر ملك دومة الجندل ، وكتب معه معاهدة صلح ، فلم يحرك هرقل ساكناً .
وقد أقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) في تبوك نحو عشرين يوماً وأرسل إلى هرقل رسالة أو أكثر وتلقى جوابها ، وقد خلطها الرواة برسالة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الأولي .
وقال المسعودي في التنبيه والإشراف / 236 : « وقد أتينا على ما كان بينه وبين هرقل ملك الروم من المراسلات في هذه الغزاة في حال مقامه بتبوك ، وهرقل يومئذ بحمص وقيل بدمشق ، فيما سلف من كتبنا » .
5 - تبوك والثأر لجعفر بن أبي طالب « رحمه الله »
قال اليعقوبي في تاريخه : 2 / 67 : « سار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في جمع كثير إلى تبوك من أرض الشأم يطلب بدم جعفر بن أبي طالب « رحمه الله » ، ووجه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرهم ويرغبهم في الجهاد ، وحض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أهل الغنى على النفقة ، فأنفقوا نفقات كثيرة وقووا الضعفاء » .
وفى تاريخ ابن خلدون : 2 ق : 1 / 224 : « وَجَد النبي « حَزِنَ » على من قتل من المسلمين ، ولا كوجده على جعفر بن أبي طالب لأنه كان تلاده ، ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف أن يتهيؤا لغزو الروم ، فكانت غزوة تبوك » .
--------------------------- 505 ---------------------------
أي : كان حزنه ( صلى الله عليه وآله ) على جعفر « رحمه الله » عميقاً ، لأنه من ذخائره القديمة العزيزة .
6 - هرقل يحرك المنافقين والأكيدر لحرب النبي « صلى الله عليه وآله »
كان مسجد الضرار عملاً من جماعة أبى عامر الراهب ، الذي سماه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبا عامر الفاسق ، وكانوا على صلة بقيصر الروم ، وقد بنوا « مسجدهم » في السنة التاسعة للهجرة ليكون مقراً لهم ، فكشفهم الله تعالى ، وأمر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) فهدمه وجعله المسلمون موضع كناسة ! وقد رأيت موضعه قبل نحو أربعين سنة إلى يسار الداخل إلى مسجد قباء ، وكان محل قمامة ، لكن الوهابيين أزالوه .
قال القمي في تفسيره : 1 / 305 : « قوله : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا ، فإنه كان سبب نزولها أنه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا رسول الله أتأذن لنا أن نبنى مسجداً في بنى سالم للعليل والليلة المطيرة والشيخ الفاني ؟ فأذن لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو على الخروج إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله لو أتيتنا فصليت فيه ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : أنا على جناح سفر فإذا وافيت إن شاء الله أتيته فصليت فيه فلما أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك نزلت عليه هذه الآية في شأن المسجد وأبى عامر الراهب . . . وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَينَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ، يعنى أبا عامر الراهب كان يأتيهم في ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه . وَلَيحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يوْمٍ : يعنى مسجد قبا ، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يحِبُّونَ أَنْ يتَطَهَّرُوا وَاللهُ يحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ . قال كانوا يتطهرون بالماء .
وقوله : أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . وفى رواية أبى الجارود عن أبي
جعفر ( عليه السلام ) قال : مسجد ضرار الذي أسس عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ . فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مالك بن الدخشم الخزاعي وعامر بن عدي على أن يهدموه ويحرقوه ، فجاء مالك فقال لعامر : إنتظرنى حتى أخرج ناراً من منزلي ،
--------------------------- 506 ---------------------------
فدخل فجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد فتفرقوا ، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية ، ثم أمر بهدم حائطه » .
أما أبو عامر الفاسق فهرب إلى القسطنطينية ، على أمل أن يعود بعد احتلال الأكيدر وأنصاره المدينة ، لكنه خاب وبقى هناك حتى مات ! « الإستيعاب : 1 / 381 » . راجع في قصة أبى عامر الراهب : شرح النهج : 14 / 219 و 244 ، ابن هشام : 4 / 956 ، قصص الأنبياء / 349 ، قصص الأنبياء للراوندي / 350 ، تفسير الطبري : 11 / 38 ، الفخر الرازي : 16 / 194 ، الدر المنثور : 3 / 277 ، تاريخ المدينة : 1 / 54 ، الصحيح من السيرة : 4 / 130 ونظرية عدالة الصحابة / 45 .
7 - أكبر جيش في تاريخ الجزيرة
كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرف خصمه هرقل جيداً ويتعامل معه بلغة يفهمها ، ولذا أعد جيشاً كبيراً ، فأرسل إلى القبائل والنواحي يدعوهم للسير معه إلى غزو الروم ، أراد بهذا الإعلان أن يجرئ العرب عليهم ولم تكن لهم جرأة قبل ذلك ، وأن يثبت لهرقل قوة المسلمين الذين رأى نموذجاً من بسالتهم في مؤتة !
قال المفيد في الإرشاد : 1 / 154 : « ثم كانت غزاة تبوك ، فأوحى الله تبارك وتعالى اسمه إلى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يسير إليها بنفسه ويستنفر الناس للخروج معه ، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها إلى حرب ولا يمْنَى بقتال عدو ، وأن الأمور تنقاد له بغير سيف ، وتعبده بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم ، ليتميزوا بذلك وتظهر سرائرهم فاستنفرهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى بلاد الروم وقد أينعت ثمارهم واشتد القيظ عليهم ، فأبطأ أكثرهم عن طاعته رغبة في العاجل ، وحرصاً على المعيشة وإصلاحها ، وخوفاً من شدة القيظ وبعد المسافة ولقاء العدو ، ثم نهض بعضهم على استثقال للنهوض ، وتخلف آخرون » .
وفى إعلام الوري : 1 / 243 : « ثم كانت غزوة تبوك تهيأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في رجب
لغزو الروم ، وكتب إلى قبائل العرب ممن قد دخل في الإسلام وبعث إليهم الرسل يرغبهم في الجهاد والغزو ، فكتب إلى تميم ، وغطفان ، وطيئ ، وبعث إلى عتاب بن أسيد عامله على مكة ، يستنفرهم لغزو الروم » . « وكتب كتباً إلى جميع القبائل التي أسلمت وقتئذ ، يدعوهم إلى غزو الروم » . مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : 1 / 216 .
--------------------------- 507 ---------------------------
وفى الصحيح من السيرة : 29 / 144 : « عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل قال : خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفاً . . عن أبي زرعة قال : كانوا بتبوك سبعين ألفاً . وكانت الخيل عشرة آلاف فرس . وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية . وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جيشه بالإستكثار من النعال وقال : إن الرجل لا يزال راكباً ما دام منتعلاً » .
وفى تفسير القمي : 1 / 295 : « وكان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بتبوك رجل يقال له المضرَّب من كثرة ضرباته التي أصابته ببدر وأحُد ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : عُدَّ لي أهل العسكر ، فعدهم فقال : هم خمسة وعشرون ألف رجل ، سوى العبيد والتُّبَّاع . فقال : عُدَّ المؤمنين ، فعدهم فقال : هم خمسة وعشرون رجلاً » .
أقول : يبدو أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قصد بالمؤمنين أصحاب الدرجات العالية في الإيمان ولا بد أن يكون هذا الصحابي « رحمه الله » من هؤلاء الأصحاب الخاصين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد بحثت عن المُضَرَّب فلم أجد له ترجمة في المصادر ، وله أمثال في الصحابة الخاصين ، كأبى ذر ، وعمرو بن الحمق الخزاعي .
8 - أخبر النبي « صلى الله عليه وآله » المسلمين بمدة الغزوة ونتيجتها
من أساليب الإعجاز النبوي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبر المسلمين عن نتيجة معاركه مسبقاً ، كما حصل في بدر وخيبر وحنين وتبوك .
وقد كشف الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قصة مسجد الضرار وعلاقته بهرقل وغزوة تبوك ، فقال كما في تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 481 : « ولقد اتخذ المنافقون من أمة محمد ( صلى الله عليه وآله ) بعد موت سعد بن معاذ ، وبعد انطلاق محمد ( صلى الله عليه وآله ) إلى تبوك ،
أبا عامر الراهب ، اتخذوه أميراً ورئيساً وبايعوا له وتواطؤوا على إنهاب المدينة ، وسبى ذرارى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسائر أهله وصحابته ودبروا التبييت على محمد ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه في طريقه إلى تبوك ، فأحسن الله الدفاع عنه وفضح المنافقين وأخزاهم .
وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لتسلكن سبيل من كان قبلكم ، حَذْوَ النعل بالنعل والقُذَّة بالقذة حتى أن أحدهم لو دخل جُحْرَ ضب لدخلتموه !
--------------------------- 508 ---------------------------
قال : إعلموا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل ، وكانت تلك النواحي مملكة عظيمة مما يلي الشام ، وكان يهدد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأن يقصده ويقتل أصحابه ويبيد خضراءهم ! وكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خائفين وجلين من قبله حتى كانوا يتناوبون على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كل يوم عشرون منهم ، كلما صاح صائح ظنوا أن قد طلع أوائل رجاله وأصحابه !
وأكثرَ المنافقون الأراجيف والأكاذيب وجعلوا يتخللون أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) ويقولون : إن أكيدر قد أعد لكم من الرجال كذا ، ومن الكراع كذا ، ومن المال كذا ، وقد نادى فيما يليه من ولايته : ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة !
ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم : وأين يقع أصحاب محمد من أصحاب أكيدر ؟ يوشك أن يقصد المدينة فيقتل رجالها ويسبى ذراريها ونساءها ! حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين فشكوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما هم عليه من الجزع !
ثم إن المنافقين اتفقوا وبايعوا لأبى عامر الراهب الذي سماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) « الفاسق » وجعلوه أميراً عليهم وبخعوا له بالطاعة فقال لهم : الرأي أن أغيب عن المدينة لئلا أتهم إلى أن يتم تدبيركم .
وكاتبوا أكيدر في دومة الجندل ليقصد المدينة ليكونوا هم عليه وهو يقصدهم فيصطلموه . فأوحى الله تعالى إلى محمد ( صلى الله عليه وآله ) وعرفه ما أجمعوا عليه من أمره ، وأمره بالمسير إلى تبوك ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كلما أراد غزواً وَرَّى بغيره إلا غزاة تبوك فإنه أظهر ما كان يريده ، وأمرهم أن يتزودوا لها ، وهى الغزاة التي افتضح فيها المنافقون وذمهم الله في تثبيطهم عنها ، وأظهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما أوحى الله تعالى إليه أن الله سيظهره بأكيدر حتى يأخذه ويصالحه على ألف أوقية ذهب في صفر ، وألف أوقية ذهب في رجب ، ومائتي حلة في رجب ومائتي حلة في صفر وينصرف سالماً إلى ثمانين يوماً !
فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن موسى ( عليه السلام ) وعد قومه أربعين ليلة وإني أعدكم ثمانين ليلة ، أرجع سالماً غانماً ظافراً بلا حرب تكون ، ولا أحد يستأسر من المؤمنين ! فقال المنافقون : لا والله ولكنها آخر كرَّاته التي لاينجبر بعدها ، وإن أصحابه ليموت
--------------------------- 509 ---------------------------
بعضهم في هذا الحر ورياح البوادي ومياه المواضع المؤذية الفاسدة ، ومن سلم من ذلك فبين أسير في يد أكيدر وقتيل وجريح !
واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها : بعضهم يعتل بالحر ، وبعضهم بمرض جسده وبعضهم بمرض عياله ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يأذن لهم . فلما صح عزم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على الرحلة إلى تبوك ، عمد هؤلاء المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجداً وهو مسجد ضرار ، يريدون الاجتماع فيه ويوهمون أنه للصلاة ، وإنما كان ليجتمعوا فيه فيتم تدبيرهم ، ويقع هناك ما يسهل لهم به ما يريدون .
ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقالوا : يا رسول الله إن بيوتنا قاصية عن مسجدك وإنا نكره الصلاة في غير جماعة ويصعب علينا الحضوروقد بنينا مسجداً فإن رأيت أن تقصده وتصلى فيه لنتيمن ونتبرك بالصلاة في موضع مصلاك ، فلم يعَرِّفهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما عرفه الله تعالى من أمرهم ونفاقهم فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إئتونى بحمارى فأتى باليعفور فركبه يريد نحو مسجدهم ، فكلما بعثه هو وأصحابه لم ينبعث ولم يمش ، وإذا صرف رأسه عنه إلى غيره سار أحسن سير وأطيبه ! قالوا : لعل هذا الحمار قد رأى في هذا الطريق شيئاً كرهه ولذلك لا ينبعث نحوه !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إئتونى بفرس ، فأتى بفرس فركبه فكلما بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث ، وكلما حركوه نحوه لم يتحرك ، حتى إذا ولوا رأسه إلى غيره سار أحسن سير ! فقالوا : ولعل هذا الفرس قد كره شيئاً في هذا الطريق !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تعالوا نمشى إليه ، فلما تعاطى هو ومن معه المشي
نحو المسجد جثوا في مواضعهم ولم يقدروا على الحركة ، وإذا هموا بغيره من المواضع خفت حركاتهم ، وخفت أبدانهم ، ونشطت قلوبهم ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن هذا أمر قد كرهه الله فليس يريده الآن ، وأنا على جناح سفر فأمهلوا حتى أرجع إن شاء الله ، ثم أنظر في هذا نظراً يرضاه الله تعالى .
وجدَّ في العزم على الخروج إلى تبوك وعزم المنافقون على اصطلام مخلفيهم إذا خرجوا ! فلما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وشيعه على ( عليه السلام ) خاض المنافقون فقالوا : إنما
--------------------------- 510 ---------------------------
خلفه محمد بالمدينة لبغضه له ولملالته منه ، وما أراد بذلك إلا أن يبَيته المنافقون فيقتلوه أويحاربوه فيهلكوه ، فاتصل ذلك برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال على ( عليه السلام ) : تسمع ما يقولون يا رسول الله ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أما يكفيك أنك جلدة ما بين عيني ونور بصرى وكالروح في بدني .
ثم سار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأصحابه وأقام على ( عليه السلام ) بالمدينة فكان كلما دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من على ( عليه السلام ) وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك ! وجعلوا يقولون فيما بينهم : هي كرَّة محمد التي لا يؤوب منها !
فلما صار بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين أكيدر مرحلة ، قال تلك العشية : يا زبير بن العوام ويا سماك بن خرشة ، إمضيا في عشرين من المسلمين إلى باب قصر أكيدر فخذاه وأتيانى به ! فقال الزبير : يا رسول الله وكيف نأتيك به ، ومعه من الجيوش الذي قد علمت ، ومعه في قصره سوى حشمه ألف ومائتان عبد وأمة وخادم ؟ !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تحتالان عليه فتأخذانه . قال : يا رسول الله وكيف نأخذه وهذه ليلة قمراء وطريقنا أرض ملساء ، ونحن في الصحراء لا نخفي ؟ !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أتحبان أن يستركما الله عن عيونهم ، ولا يجعل لكما ظلاً إذا سرتما ، ويجعل لكما نوراً كنور القمر لاتتبينان منه ؟ قالا : بلي . قال : عليكما بالصلاة على محمد وآله الطيبين معتقدين أن أفضل آله علي بن أبي طالب ، وتعتقد أنت يا زبير خاصة أنه لا يكون على في قوم إلا كان هو أحق بالولاية عليهم ، ليس لأحد أن يتقدمه . فإذا أنتما فعلتما ذلك وبلغتما الظل الذي بين يدي قصره من حائط قصره ، فإن الله تعالى سيبعث الغزلان والأوعال إلى بابه فتحتك قرونها به فيقول : من لمحمد في مثل هذا ؟ ويركب فرسه لينزل فيصطاد ، فتقول امرأته : إياك والخروج فإن محمداً قد أناخ بفنائك ، ولست تأمن أن يكون قد احتال ودس عليك من يقع بك ! فيقول لها : إليك عنى فلو كان أحد انفصل عنه في هذه الليلة لتلقته في هذا القمر عيون أصحابنا في الطريق ، وهذه الدنيا بيضاء لا أحد فيها ، ولو كان في ظل قصرنا هذا إنسي لنفرت منه الوحوش !
--------------------------- 511 ---------------------------
فينزل ليصطاد الغزلان والأوعال فتهرب من بين يديه ويتبعها ، فتحيطان به وأصحابكما فتأخذانه ! فكان كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخذوه ! فقال : لي إليكم حاجة . قالوا : وما هي فإنا نقضيها إلا أن تسألنا أن نخليك .
فقال : تنزعون عنى ثوبي هذا وسيفي ومنطقتى وتحملونها إليه ، وتحملوننى إليه في قميصى لئلا يراني في هذا الزي ، بل يراني في زي التواضع فلعله يرحمني ، ففعلوا ذلك . فلما أتى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال له : يا محمد أقلني وخلني على أن أدفع عنك من ورائي من أعدائك . فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فإن لم تف بذلك ؟ قال : يا محمد إن لم أفِ بذلك فإن كنت رسول الله فسيظفرك بي من منع ظلال أصحابك أن تقع على الأرض حتى أخذوني ، ومن ساق الغزلان إلى بابى حتى استخرجنى من قصرى وأوقعنى في أيدي أصحابك ! وإن كنت غير نبي فإن دولتك التي أوقعتنى في يدك بهذه الخصلة العجيبة والسبب اللطيف ستوقعنى في يدك بمثلها .
قال : فصالحه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على ألف أوقية ذهب في رجب ومائتي حلة ، وألف أوقية في صفر ومائتي حلة ، وعلى أنهم يضيفون من مرَّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام ، ويزودونه إلى المرحلة التي تليها ، على أنهم إن نقضوا شيئاً من ذلك فقد برئت منهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وعاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غانماً ظافراً ، وأبطل الله تعالى كيد المنافقين ، وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بإحراق مسجد الضرار ، وأنزل الله تعالى : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَينَ الْمُؤْمِنِينَ . . . الآيات » . والبحار : 21 / 258 .
أقول : بعد معركة مؤتة ، رأى الروم أن جيش النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتحفز ضدهم بجرأة وشجاعة وأنه سيعاود الكرة لأخذ ثأر جعفر ( عليه السلام ) ، فدبروا خطة أكيدر والمنافقين من قريش وأهل المدينة لاستئصال النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين بزعمهم ، ولهذا أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يبقى علياً ( عليه السلام ) في المدينة ، بينما أراد المنافقون أن يغادرها لتخلو لهم !
وبهذا تعرف أن محاولة قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في رجوعه من تبوك ، ومحاولة قتل على ( عليه السلام ) في المدينة في تلك الفترة ، كانت خطة بديلة بعد فشل خطة هرقل في
--------------------------- 512 ---------------------------
الأكيدر ملك دومة الجندل . وقد أنجى الله علياً ( عليه السلام ) في المدينة ، وأنجى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) منها وأمره أن يخفى أسماء المشاركين فيها ، لئلا تعلن قريش الردة ، كما سيأتي !
9 - عَسْكرَ النبي « صلى الله عليه وآله » في ثنية الوداع
قال المسعودي في التنبيه والإشراف / 235 : « ثم غزوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في رجب تبوك مما يلي دمشق من أرض الشام ، وبين تبوك والمدينة تسعون فرسخاً ، وذلك مسيرة اثنتي عشرة ليلة ، وكان معه في هذه الغزاة ثلاثون ألفاً ، الخيل عشرة آلاف والإبل اثنا عشر ألف بعير ، ويسمَّى جيش العسرة لأنهم أمروا بالخروج لما طابت الثمار واشتد الحر وطاب لهم الظلال ، وشق عليهم الخروج لبعد المسافة وعسرة من الماء وعسرة من النفقة والظهر . وحث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الأغنياء على النفقة والحملان ، فصار إلى تبوك فأقام بها بضع عشرة ليلة وقيل عشرين ، يصلى ركعتين ركعتين ، وعاد إلى المدينة وكان استخلف عليها علي بن أبي طالب » .
وفى الإختصاص / 342 وتفسير القمي : 1 / 290 ، عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قال : « خطب النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما أراد الخروج إلى تبوك بثنية الوداع فقال : بعد أن حمد الله وأثنى عليه : أيها الناس إن أصدق الحديث كتاب الله ، وأوثق العرى كلمة التقوى وخير الملل ملة إبراهيم وخير السنن سنة محمد ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص القرآن ، وخير الأمور عزائمها ، وشر الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف القتل قتل الشهداء ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدي ، وخير الأعمال ما نفع ، وخير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلي ، وما قل وكفى خير مما كثر وألهي ، وشر المعذرة حين يحضر الموت ، وشر الندامة يوم القيامة ، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزراً ، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً ، ومن أعظم الخطايا للسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوي ، ورأس الحكمة مخافة الله ، وخير ما ألقى في القلب اليقين ، والارتياب من الكفر ، والنياحة من عمل الجاهلية ، والغلول من جمر جهنم ، والسكر جمر النار ، والشعر
--------------------------- 513 ---------------------------
من إبليس ، والخمر جماع الآثام ، والنساء حبالات إبليس ، والشباب شعبة من الجنون ، وشر المكاسب كسب الربا ، وشر المآكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره ، والشقي من شقى في بطن أمه ، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع ، والأمر إلى آخره ، وملاك العمل خواتيمه ، وأربى الربا الكذب ، وكل ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسوق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن يبالي على الله يكذبه ، ومن يعفو يعف الله عنه ، ومن كظم الغيظ يأجره الله ، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به ، ومن يصم بصره ومن يعصى الله يعذبه الله . اللهم اغفر لي ولأمتى اللهم اغفر لي ولأمتي . أستغفر الله لي ولكم .
قال : فرغب الناس في الجهاد ، لما سمعوا هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وقدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم . وقعد عنه قوم من المنافقين ، ولقى رسول الله الجد بن قيس فقال له : يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزاة لعلك أن تستحفد من بنات الأصفر ! فقال : يا رسول الله والله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء مني ، وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر ، فلا تفتنِّى وائذن لي أن أقيم !
وقال لجماعة من قومه : لا تخرجوا في الحر ، فقال ابنه : تردُّ على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقول له ما تقول ، ثم تقول لقومك لا تنفروا في الحر ! والله لينزلن في هذا قرآناً تقرأه الناس إلى يوم القيامة ! فأنزل الله على رسوله في ذلك : وَمِنْهُمْ مَنْ يقُولُ ائْذَنْ لِى وَلاتَفْتِنِّي ، أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ . ثم قال الجد بن القيس : أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم ، لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً » !
10 - استخلف علياً « عليه السلام » وودعه وناجاه
في المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي / 443 : « وكان سبب تخلف على ( عليه السلام ) عنه أن تبوك بعيدة عن المدينة فلم يأمن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) العرب أن يصيروا إليها ، إذ كان قد وترهم وسفك دماءهم . وأخرى أنه علم ( صلى الله عليه وآله ) أنه لا يكون
--------------------------- 514 ---------------------------
هناك قتال . وخرج في جيش يروى أنهم كانوا أكثر من أربعين ألف رجل ، وخلَّف بالمدينة جيشاً وهو على ( عليه السلام ) وحده . فحصن الله عز وجل به المدينة وعفف به حرمهم ، فتكلم فيه المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالاً له ! فلحق على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله زعم المنافقون أنك خلفتني استثقالاً لي ؟ فتضاحك رسول الله ، ثم أمر فنودي في الناس كلهم فاعصوصبوا وتجمعوا ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا أيها الناس ما فيكم من أحد إلا وله خاصة من أهله ، ألا إن علياً منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ! فصار على من النبي ( عليه السلام ) بذلك المكان الذي أردوا أن يضعوا منه ، بمنزلة هارون من موسى في أسبابه كلها ، إلا ما استثناه من النبوة . ولا أحسبهم يأتون بمثلها في أحد من العالمين » .
وفى المناقب لمحمد بن سليمان : 1 / 523 : « عن الحارث بن ثعلبة قال : قلت لسعد بن أبي وقاص : هل شهدت لعلى منقبة ؟ قال : شهدت لعلى أربع مناقب لأن يكون لي إحداهن أحب إلى من الدنيا وما فيها ! والخامسة خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة تبوك فخلف علياً في أهله فقالت قريش استثقله ! فجاء على فأخذ بغرز الناقة وقال : يا رسول الله إني لخارج معك وتابعك ، زعمت قريش أنك استثقلتني ! فقال : هل منكم إلا وله خاصة من أهله ؟ أنت منى بمنزلة هارون من موسي » .
وقال المفيد « رحمه الله » في الإرشاد : 1 / 154 : « فاستخلفه ونص عليه بالإمامة من بعده نصاً جلياً وذلك فيما تظافرت به الرواية أن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) على المدينة حسدوه لذلك ، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه ، وعلموا أنها تُحرس به ولا يكون للعدو فيها مطمع ، فساءهم ذلك !
وكانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن المدينة وخلوها من مرهوب مخوف يحرسها ! وغبطوه ( عليه السلام ) على الرفاهية والدعة بمقامه في أهله ، وتكلف من خرج منهم المشاق بالسفر والخطر . فأرجفوا به وقالوا : لم يستخلفه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إكراماً له وإجلالاً ومودة ، وإنما خلفه استثقالاً له . فلما بلغ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إرجاف المنافقين به ، أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم فلحق
--------------------------- 515 ---------------------------
بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالاً ومقتاً !
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إرجع يا أخي إلى مكانك ، فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسي ، إلا أنه لا نبي بعدي . وأوجب له به جميع منازل هارون من موسى « عليهما السلام » إلا ما خصه العرف من الأخوة واستثناه هو من النبوة .
ألا ترى أنه ( صلى الله عليه وآله ) جعل له كافة منازل هارون من موسي ، إلا المستثنى منها لفظاً أو عقلاً . . . وكان له من الإمامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته ، وأنه كان أحب قومه إليه وأفضلهم لديه . قال الله عز وجل حاكياً عن موسى ( عليه السلام ) : قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِي . وَيسِّرْ لِى أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يفْقَهُوا قَوْلِي . وَاجْعَلْ لِى وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِي . فأجاب الله تعالى مسألته وأعطاه سؤله في ذلك وأمنيته حيث يقول :
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَي . . .
ولو علم الله تعالى أن نبيه ( صلى الله عليه وآله ) في هذه الغزاة حاجة إلى الحرب والأنصار لما أذن له في تخليف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) » .
وفى خصائص الأئمة / 66 : « وروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما أجمع على المضي إلى تبوك ناجى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأطال ، فقال أبو بكر لعمر : لقد أطال مناجاته لابن عمه فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) ما أنا ناجيته ولكن الله ناجاه ، وفى ذلك يقول حسان :
ويوم الثنية عند الوداع * وأجمع نحو تبوك المضيا
تنحى يودعه خالياً * وقد وقف المسلمون المطيا
فقالوا يناجيه دون الأنام * بل الله أدناه منه نجيا
على فم أحمد يوحى إليه * كلاماً بليغاً ووحياً خفيا » .
وفى مناقب ابن سليمان : 1 / 333 ، عن أبي رافع قال : « لما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى غزوة تبوك خلف علياً وكثرت فيه الأقاويل من الناس فقالوا : لم يخلقه إلا
--------------------------- 516 ---------------------------
بغضاً له وكراهية أن يتبعه ! فبلغ ذلك علياً فلحقه على مرحلة أو مرحلتين فسار محادثه وهما على بعيرين لهما والناس ينظرون إليهما وأنا قريب منهما ، فجاءت عائشة لما رأت حالهما ومناجاة كل واحد منهما لصاحبه فأدخلت بعيرها بينهما ، فالتفت إليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال : أما والله ما يومه منك بواحد ! ثم قال : أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة ، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة في الدنيا والآخرة وأنك أخي ووزيري ووارثي . انصرف فلايصلح ما هناك إلا أنا أوأنت » .
11 - أبو ذر تأخر به بعيره
في تفسير القمي : 1 / 294 : « وتخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قوم من أهل ثبات وبصائر لم يكن يلحقهم شك ولا ارتياب ، ولكنهم قالوا نلحق برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . منهم أبو خثيمة ، وكان قوياً وكانت له زوجتان وعريشتان ، فكانت زوجتاه قد رشتا عريشتيه وبردتا له الماء وهيئتا له طعاماً ، فأشرف على عريشته ، فلما نظر اليهما قال : والله ، ما هذا بإنصاف ! رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قد خرج في الصخ والريح وقد حمل السلاح مجاهداً في سبيل الله ، وأبو خثيمة قوى قاعد في عريشته وامرأتين حسناوتين ! لا والله ما هذا بإنصاف ! ثم أخذ ناقته فشد عليها رحله فلحق برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنظر الناس إلى راكب على الطريق فأخبروا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كن أبا خثيمة ، فأقبل وأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بما كان منه فجزَّاه خيراً ودعا له .
وكان أبو ذر « رحمه الله » تخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثة أيام ، وذلك أن جمله كان أعجف ، فلحق بعد ثلاثة أيام به ، ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره ، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كن أبا ذر ، فقالوا : هو أبو ذر ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أدركوه بالماء فإنه عطشان ! فأدركوه بالماء ، ووافى أبو ذر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا ذر معك ماء وعطشت ؟ فقال : نعم يا رسول الله بأبى أنت وأمي انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السماء فذقته
--------------------------- 517 ---------------------------
فإذا هو عذب بارد ، فقلت لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال رسول الله : يا أبا ذر رحمك الله تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، يسعد بك قوم من أهل العراق ، يتولون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك » ! ونحوه ابن هشام : 4 / 950 ، الطبري : 2 / 371 والكشاف : 2 / 219 .
أقول : فسر بعضهم قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) « كن أبا ذر » بأنه على نحو المعجزة ، فهو إعمال للولاية التكوينية التي أعطاها الله لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) .
قال الشعراني الصوفي في الجواهر والدرر : 3 / 123 : « هل يعطى أحد من الأولياء التصرف بكن في هذه الدار ؟ فقال : نعم بحكم الإرث لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإنه تصرف بها في عدة مواطن منها قوله في غزوة تبوك : كن أبا ذر ، فكان أبا ذر » .
وقال ابن عربى الصوفي في الفتوحات المكية : 2 / 126 : « جاء عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة تبوك أنهم رأوا شخصاً فلم يعرفوه فقال رسول الله : كن أبا ذر ، فإذا هو أبو ذر ، ولم يقل بسم الله فكانت كن منه كن الإلهية ، فإنه قال الله تعالى فيمن أحبه حب النوافل كنت سمعه وبصره ولسانه الذي يتكلم به . وقد شهد الله لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) بأن له نافلة بقوله تعالي : ومن الليل فتهجد به نافلة لك . فلا بد أن يكون سمعه الحق وبصره الحق وكلامه الحق ، ولم يشهد بها لأحد من الخلق على التعيين . فعلامة من لم تستغرق فرائضه نوافله ، وفضلت له نوافل أن يحبه الله تعالى هذه المحبة الخاصة ، وجعل علامتها أن يكون الحق سمعهم وبصرهم ويدهم وجميع قواهم . ولهذا دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يكون كله نوراً فإن الله نور السماوات والأرض . ولهذا تشير الحكماء بأن الغاية المطلوبة للعبد التشبه بالإله وتقول فيه الصوفية التخلق بالأسماء ، فاختلفت العبارات وتوحد المعني ، ونحن نرغب إلى الله ونضرع أن لا يحجبنا في تخلقنا بالأسماء الإلهية عن عبوديتنا » .
وقال صدر المتألهين الشيرازي في الأسفار : 8 / 9 : « وإنا قد قدمنا إليكم يا إخواني في الطريق من أنوار الحكم ولطائف الكلم مبادئ عقليات وضوابط كليات وقوانين ميزانية وأحكاما ذهنية ، هي مقدمات ذوات فضائل جمة ودرجات
--------------------------- 518 ---------------------------
للمسير إلى الله بقدم الفكر والهمة ، وهى معارج للارتقاء إلى معرفة الإلهية والإعتلاء إلى شهود جمال الأحدية وصفاته الواجبية ، ومجاورة المقدسين ومنادمة أهل الملكوت والعليين ، من مقاصد أصحاب الوحي والتنزيل ومحكمات أسرار أهل التأويل ، الآخذين علومهم عن الملائكة المقربين والحفظة الكرام الكاتبين . . . فهذا العلم يجعل الإنسان ذا ملك كبير ، لأنه الإكسير الأعظم الموجب للغنى الكلى والسعادة الكبري ، والبقاء على أفضل الأحوال ، والتشبه بالخير الأقصى والتخلق بأخلاق الله تعالى ، ولذلك ورد في بعض الصحف المنزلة من الكتب السماوية أنه قال سبحانه : يا ابن آدم خلقتك للبقاء وأنا حي لا أموت ، أطعني فيما أمرتك وانته عما نهيتك أجعلك مثلي حياً لا تموت . . فهذا مقام من المقامات التي يصل إليها الإنسان بالحكمة والعرفان ! وهو يسمى عند أهل التصوف بمقام كن ، كما ينقل عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة تبوك أنه قال : كن أبا ذر ، فكان أبا ذر . وله مقام فوق هذا يسمى بمقام الفناء في التوحيد ، المشار إليه بقوله تعالى في الحديث القدسي : فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع وبصره الذي به يبصر . . الحديث . وسينكشف لك في هذا السفر بيان هذا المطلب بالبرهان ويلقى إليك معرفة العلم الذي من أجله يستوجب من علمه وعمل بموجبه تلك البهجة الكبرى والمنزلة العظمي ، فافهم واغتنم به وكن به سعيداً ، ولا تلقه الا إلى أهله العامل بمقتضاه وموجبه » .
أقول : لا كلام في إمكان أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال للسوادة : كن أبا ذر ، فكان على نحو الإعجاز . لكن الإشكال في زعمهم أن ذلك مقامٌ يمكنهم أن يبلغوه هم وأمثالهم ، ودعوتهم الناس أن يتبعوهم لكي يبلغوه ! ولم يكتفوا بذلك حتى اخترعوا مقاماً أعلى منه هو الفناء في التوحيد !
قال صدر المتألهين في الأسفار : 2 / 18 : « فإن المنازل اللائقة بالأولياء هذه ، وكذا يترقون من الواحدية إلى الفناء في الأحدية ، ويسافرون من الحق إلى الخلق » .
وقال في : 3 / 183 : « فالعشق الأكبر عشق الإله جل ذكره وهو لا يكون إلا للمتألهين الكاملين الذين حصل لهم الفناء الكلي . وهؤلاء هم المشار اليه في قوله تعالي : يحِبُّهُمْ ويحِبُّونه ،
--------------------------- 519 ---------------------------
فإنه في الحقيقة ما يحب إلا نفسه لا غيره ، فالمحب والمحبوب في الطرفين شئ واحد .
والأوسط عشق العلماء الناظرين في حقائق الموجودات المتفكرين دائماً في خلق السماوات والأرض كما في قوله تعالي : الَّذِينَ يذْكُرُونَ اللهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . وهو عذاب الفرقة والإحتجاب عن رؤية الآثار وجنة الأفعال .
والأصغر عشق الإنسان الصغير ، لكونه أيضاً أنموذجاً مما في عالم الكبير كله والعالم كله كتاب الحق الجامع ، وتصنيف الله الذي أبرز فيه كمالاته الذاتية ومعانيه الإلهية ، وكتاب الإنسان مجموعة مختصرة ، فيه آيات الكتاب المبين ، فمن تأمل فيه وتدبر في آياته ومعانيه بنظر الاعتبار يسهل عليه مطالعة الكتاب الكبير وآياته ومعانيه وأسراره ! وإذا اتفق وأحكم معاني الكتاب الكبير يسهل معها العروج إلى مطالعة جمال الله وجلال أحديته ، فيرى الكل منطوياً في كبريائه مضمحلاً تحت أشعة نوره وضيائه » .
فهذا المذهب يدعى أولاً : أن مقامات الأنبياء والأئمة « عليهم السلام » ثمرة لسلوكية معينة .
ويدعى ثانياً : أن باستطاعة الإنسان أن يصل إلى تلك المقامات !
ونلاحظ أنهم جعلوا عشق الإنسان من عشق الله تعالى أو مقدمة له لأن الله : « أبرز فيه كمالاته الذاتية ومعانيه الإلهية » ! ولم يبينوا من هو ذلك الإنسان ، فإن قصدوا غير المعصوم فهو كلام باطل .
ويدعى ثالثاً : لأئمته وأساتيذه مقامات شبيهة بمقامات المعصومين « عليهم السلام » بل أعلى منهم ، وهذا واضح من هرم شخصياتهم الذي يزعمه ابن عربي ، وأعلاه أهل الظاهر وهم ستة منهم أبو يزيد البسطامي وهم الذين يتصرفون في الطبيعة . وفوقهم ستة هم الباطن الذين يتصرفون في الملكوت ، ورئيسهم ابن عربي !
قال في الفتوحات المكية : 1 / 187 : « قال الله تعالى : وعلى الأعراف رجال .
أهل الشم والتمييز والسراح عن الأوصاف فلا صفة لهم ، كان منهم أبو يزيد البسطامي ، ورجال إذا دعاهم الحق إليه يأتونه رجالاً لسرعة الإجابة لا يركبون :
--------------------------- 520 ---------------------------
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً ، وهم رجال المطلع . فرجال الظاهر هم الذين لهم التصرف في عالم الملك والشهادة ، وهم الذين كان يشير إليهم الشيخ محمد بن قائد الأواني ، وهو المقام الذي تركه الشيخ العاقل أبو السعود بن الشبل البغدادي أدباً مع الله أخبرني أبو البدر التماشكى البغدادي رحمه الله قال : لما اجتمع محمد بن قائد الأواني وكان من الأفراد بأبى السعود هذا ، قال له : يا أبا السعود إن الله قسم المملكة بيني وبينك ، فلم لا تتصرف فيها كما أتصرف أنا فقال له أبو السعود : يا ابن قائد وهبتك سهمي ، نحن تركنا الحق يتصرف لنا » !
وكل ذلك أماني ومزاعم ولقلقة لسان ، لا أكثر .
12 - في ذهابه « صلى الله عليه وآله » إلى تبوك أسَرَ الأكيدر وأطلقه
تقدمت الرواية عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما وصل إلى دومة الجندل أرسل الزبير وأبا دجانة الأنصاري ليلاً في سرية من عشرين شخصاً ، فأسروا الأكيدر بآية ربانية ، وأتوه به فكتب معه معاهدة وأطلقه .
لكن رواة السلطة أعطوا هذه السرية إلى خالد بن الوليد ، فقالوا إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسله من تبوك إلى الدومة فأسرالأكيدر ! لكن لا يصح إرساله من تبوك لأن الدومة في طريق النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى تبوك ! ولأن يوحنَّه حاكم إيلات ومن جاورها جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في تبوك ، لمَّا سمعوا بما حدث للأكيدر . فالصحيح أنه أسره وصالحه وأطلقه ، في ذهابه إلى تبوك .
ونحن نرجح رواية تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 486 ، المتقدمة ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل أبا دجانة والزبير .
وقد نص اليعقوبي : 2 / 67 على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تحرك في غرة رجب ، ووصل إلى تبوك في شعبان أي بعد شهر أو أكثر ، والمسافة إلى تبوك على أكثر تقدير عشرون يوماً ، فالباقي كان في فرق الطريق إلى دومة الجندل ، حيث أسره النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وفى مغازى الواقدي / 615 : « وكانت دومة وأيلة وتيماء قد خافوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما رأوا العرب قد أسلمت . وقدم يحنة بن رؤبة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان ملك أيلة وأشفقوا
--------------------------- 521 ---------------------------
أن يبعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما بعث إلى أكيدر ، وأقبل معه أهل جرباء وأذرح فأتوه فصالحهم ، فقطع عليهم الجزية جزية معلومة وكتب لهم كتاباً » .
13 - راسل النبي « صلى الله عليه وآله » هرقل من تبوك
أقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) في تبوك نحو عشرين يوماً ، لأنه راسل هرقل وانتظر جوابه ، ففي الخرائج : 1 / 169 : « واختلفت الرسل بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وملك الروم ، فطالت في ذلك الأيام حتى نفد الزاد فشكوا إليه نفاده فقال ( صلى الله عليه وآله ) : من كان معه شئ من دقيق أو تمر أو سويق فليأتنى به ، فجاءه رجل بكف تمر والآخر بكف سويق فبسط رداءه وجعل ذلك عليه ووضع يده على كل واحد منها ، ثم قال : نادوا في الناس : من أراد الزاد فليأت ، فأقبل الناس يأخذون الدقيق والتمر والسويق حتى ملؤوا جميع ما كان معهم من الأوعية ، وذلك الدقيق والتمر والسويق على حاله ، ما نقص من واحد منها شئ ولا زاد على ما كان » .
ويشعر قوله « واختلفت الرسل » أنهما تبادلا أكثر من رسالة ، لكن لم تذكر المصادر إلا رسالة واحدة ، شبيهة برسالة النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى هرقل في السنة السادسة .
ففي مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : 2 / 410 : « من محمد رسول الله إلى صاحب الروم : إني أدعوك إلى الإسلام ، فإن أسلمت فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم ، فإن لم تدخل في الإسلام ، فأعط الجزية ، فإن الله تبارك وتعالى يقول : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيوْمِ الآخِرِ وَلا يحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يعْطُوا الْجِزْيةَ عَنْ يدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . وإلا فلا تَحُل بين الفلاحين وبين الإسلام ، أن يدخلوا فيه ، أو يعطوا الجزية » .
لكن هذا النص للرسالة ناقص ، فجواب هرقل يدل على أنه كان فيها آية : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . فقد رووا عن رجل تنوخى اسمه سعيد بن أبي راشد أنه قال : لما جاء كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعا قسيسى الروم وبطارقتها ثم غلق عليه وعليهم الدار ،
--------------------------- 522 ---------------------------
فقال : قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم ، وقد أرسل إلى يدعوني إلى ثلاث خصال : يدعوني إلى أن أتبعه على دينه ، أو على أن نعطيه ما لنا على أرضنا والأرض أرضنا ، أو نلقى إليه الحرب ، والله لقد عرفتم فيما تقرؤن من الكتب ليأخذن ما تحت قدمي ، فهلم نتبعه على دينه أو نعطيه مالنا وأرضنا ! فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا : تدعونا إلى أن ندع النصرانية ، أو نكون عبيداً لأعرابى جاء من الحجاز ! فقال : إنما قلت ذلك لكم لأعلم صلابتكم على أمركم !
ثم دعا رجلاً من عرب تجيب كان على نصارى العرب فقال : « أدع لي رجلاً حافظاً للحديث عربى اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه ، فجاء بي ، فدفع إلى هرقل كتاباً وقال : إذهب بكتابي إلى هذا الرجل فما ضيعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال : أنظر هل يذكر صحيفته التي كتب إلى بشئ ، وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل وانظر في ظهره هل به شئ يريبك ، فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوك فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبياً على الماء فقلت : أين صاحبكم ؟ قيل ها هوذا فأقبلت أمشى حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال : ممن أنت ؟ فقلت : أنا أحد تنوخ . قال : هل لك في الإسلام الحنيفية ملة أبيك إبراهيم ؟ قلت إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم ، فضحك وقال : إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين . يا أخا تنوخ إني كتبت بكتابي إلى كسرى فمزقه والله ممزقه وممزق ملكه ، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها والله مُخرقه ومخرق ملكه ، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها فلن يزل الناس يجدون منه بأساً ما دام في العيش خير . قلت : هذه إحدى الثلاثة التي أوصاني بها صاحبي ، وأخذت سهماً من جعبتى فكتبتها في جلد سيفي ، ثم إنه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره . . فإذا في كتاب صاحبي : تدعوني إلى جنة عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فأين النار ؟ فقال رسول الله : سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار ؟ قال فأخذت سهماً من جعبتى فكتبته في جلد سيفي » . سبل الهدي : 11 / 356 .
وقد أجاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) على ادعاء هرقل أنه مسلم مؤمن بنبوته فقال : « كذب بل هو
--------------------------- 523 ---------------------------
على نصرانيته » . مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : 2 / 410 ، فتح الباري : 1 / 35 والروض الأنف : 4 / 302 .
وفى مغازى الواقدي / 608 : « وكان هرقل قد بعث رجلاً من غسان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فينظر إلى صفته وإلى علاماته إلى حمرة في عينيه ، وإلى خاتم النبوة بين كتفيه ، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة ، فوعى أشياء من حال النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم انصرف إلى هرقل فذكر له ذلك ، فدعا قومه إلى التصديق به فأبوا حتى خافهم على ملكه ، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف » . أي لم يحرك جيشه إلى تبوك !
14 - انتقم هرقل من يوحنا فقتله ولم ينتقم من الأكيدر !
كان انسحاب هرقل من تبوك حتى لايشتبك مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) تخاذلاً واضحاً ، وحتى لو لم تكن له قوات هناك ، فالواجب على أمبراطور أن يبادر إلى قتال جيش معادٍ من ثلاثين ألفاً دخل في عمق بلاده وعسكر في مكان قريب منه ، وأسر أحد الملوك التابعين له وهو الأكيدر ، وكتب معه معاهدة صلح يدفع بموجبها جزية كبيرة مرتين في السنة ، وخاف منه حكام محليون فجاؤوه طائعين أو مكرهين وكتبوا معه معاهدات ، يدفعون بموجبها الجزية .
لكن هرقل لم يفعل ، وواصل استعمال الدهاء الغربى لكسب الوقت ، وأجاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه مؤمن به ، لكن وزراءه وبطارقته لا يقبلون !
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن هرقل : « كذب عدو الله إنه على نصرانيته » وصدق رسول الله فقد قتل هرقل حاكم عَمَّان لأنه أسلم ، وقتل رسول النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى حاكم بصري ، وقتل يوحنا حاكم إيلات ، لأنه وقع مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) معاهدة صلح !
قال الواقدي في المغازي / 615 : « وكانت دومة وأيلة وتيماء قد خافوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما رأوا العرب قد أسلمت ، وقدم يحَنَّه بن رؤبة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان ملك أيلة ، وأشفقوا أن يبعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما بعث إلى أكيدر . وأقبل معه أهل جرباء وأذرح فأتوه فصالحهم ، فقطع عليهم الجزية جزية معلومة وكتب لهم كتاباً : بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمَنَةً من الله ومحمد النبي رسول الله ،
--------------------------- 524 ---------------------------
ليحَنَّهْ بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسائرهم في البر والبحر ، لهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله ، ولمن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر . ومن أحدث حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه ، وإنه طيب لمن أخذه من الناس ، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه ، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر » . ومكاتيب الرسول : 3 / 116 ، معجم البلدان : 1 / 292 والطبري : 2 / 372 ، ابن هشام : 4 / 952 والتبيان : 5 / 172 .
وجاء يوحنا بعد ذلك إلى المدينة فروى عن جابر « رحمه الله » أنه قال : « رأيت يحنة بن رؤبة يوم أُتى به إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليه صليب من ذهب وهو معقود الناصية ، فلما رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) كفَّرَ وأومأ برأسه « وضع يديه على بعضهما لأن ذلك من فعل الفرس والروم في الخضوع لملكهم » فأومأ إليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إرفع رأسك ! وصالحه يومئذ وكساه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) برداً يمنية ، وأمر له بمنزل عند بلال .
وكتب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأهل جر باء وأذرح هذا الكتاب : من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد ، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة والله كفيل عليهم . . وكتب لأهل مقنا » . مغازى الواقدي / 615 .
وبلغ خبر يوحنا إلى هرقل فأمر بقتله وصلبه عند قريته ! » ابن خلدون : 2 / ق : 1 / 224 .
انتظر هرقل حتى انسحب النبي ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك وجاء وقتل يوحنا !
قال الشيخ الغزالي في التسامح / 140 : « ما إن عاد المسلمون من تبوك حتى جاء هرقل ! فأمر بقتل يوحنا بن رؤبة أمير أيلة ، ثم صلبه أمام قريته لأنه رضى بعقد صلح مع المسلمين » .
لكن هرقل سكت عن معاهدة الأكيدر مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لأن لقتله تداعيات !
15 - مؤامرة الصحابة العدول لقتل النبي « صلى الله عليه وآله » في عودته من تبوك !
1 . اعترفت كل المصادر بحصول هذه المؤامرة ، وتُعرف بليلة العقبة ، ويعرف منفذوها بأصحاب العقبة ! لكنهم اتفق الجميع على إخفاء أسماء « أبطالها » !
روى مسلم في صحيحه : 8 / 123 ، عن أبي الطفيل قال : « كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟
--------------------------- 525 ---------------------------
قال فقال له القوم : أخبره إذْ سألك ! قال : كنا نُخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ! وأشهد بالله أن اثنى عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ! وعَذَرَ ثلاثة قالوا : ما سمعناه منادى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا علمنا بما أراد القوم ! » .
وتدل هذه الرواية الرسمية على أن المتآمرين كانوا بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بين المسلمين وكان حذيفة يعرفهم ، وكذا عمار ، وكذا أهل البيت « عليهم السلام » . وقد أبهمت الرواية الموضوع وذكرت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عَذَر ثلاثة منهم غير الأربعة عشر ، لأنهم قالوا إنهم كانوا في محل الجريمة صدفةً ، ولم يكونوا مع المتآمرين ، حيث لم يسمعوا منادى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يطلب من المسلمين أن يمروا من الوادي ، ولا يصعدوا العقبة !
أما قصة الماء ونهى النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يشربوا منه إذا وصلوا اليه قبله ، فهي منفصلة عن مؤامرة العقبة ، فقد كان ذلك الماء قليلاً وأراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يباركه ويجريه بما يكفى الجيش والمنطقة ، فوصل اليه جماعة قبله وعصوا وشربوا منه ، وهم من أصحاب العقبة وغيرهم ! فلعنهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثانية بعد لعنة العقبة !
2 . روى المفسرون مؤامرة العقبة في تفسير قوله تعالي : يا أَيهَا النَّبِى جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ينَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يتُوبُوا يكُ خَيرًا لَهُمْ وَإِنْ يتَوَلَّوْا يعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الأَرْضِ مِنْ وَلِى وَلا نَصِيرٍ . 73 - 74 .
قال البيضاوي في تفسيره : 3 / 158 : « وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ينَالُوا ، من الفتك بالرسول وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل ! فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا » .
وفى الخصال / 499 ، عن حذيفة أنهم أربعة عشر ، ثم عدَّد أسماءهم كما يأتي ، وقال : « وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم : وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ينَالُوا » .
--------------------------- 526 ---------------------------
3 . اتفقت روايتهم على أن المؤامرة كانت لقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في نقطة معينة من العقبة ! قال الصحابي عامر بن واثلة كما في روايتهم الصحيحة : « أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه » . « مسند أحمد : 5 / 453 » . كما اتفقوا على أن غزوة تبوك كانت في الصيف وكانوا يسيرون ليلاً اتقاء الحر ، وكان أمامهم طريق مختصر من العقبة لا يناسب جيشاً من ثلاثين ألفاً ، فسلك الجيش طريق الوادي ، وقرر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يسلك طريق العقبة ، وأحس بأن بعضهم يأتمر عليه فنادى مناديه أن لايسلك أحد العقبة ، فبادر المتآمرون وصعدوا الجبل ليدحرجوا صخوراً كبيرة عليه فتقتله ، أو تنفر ناقته ( صلى الله عليه وآله ) فتسقط في الوادي ، وكان مسلكاً ضيقاً يتسع في نقطة منه لجمل واحد ، وكان واديه عميقاً ، روى أنه مقدار ألف رمح ! البحار : 82 / 267 .
كما ورد ذكر الدِّبَاب ، وهى كراتٌ كبيرة من جلود أو خشب ، يلقونها فتصدر منها أصوات تنفر الناقة : « فسبق بعضهم إلى تلك العقبة وكانوا قد أخذوا دباباً كانوا هيأوها من جلد حمار ، وضعوا فيها حصى وطرحوها بين يدي الناقة » . الصحيح من السيرة : 30 / 143 .
وفى الإحتجاج : 1 / 64 : « ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر بالرحيل في أول نصف الليل الأخير ، وأمر مناديه فنادي : ألا لا يسبقن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحد إلى العقبة ولا يطؤها حتى يجاوزها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة فينظر من يمر بها ويخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان رسول الله أمره أن يتشبه بحجر فقال حذيفة : يا رسول الله إني أتبين الشر في وجوه القوم من رؤساء عسكرك ، وإني أخاف إن قعدت في أصل الجبل وجاء منهم من أخاف أن يتقدمك إلى هناك للتدبير عليك يحس بي ويكشف عنى فيعرفنى ويعرف موضعي من نصيحتك ، فيتهمنى ويخافنى فيقتلني . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنك إذا بلغت أصل العقبة فاقصد أكبر صخرة هناك إلى جانب أصل العقبة وقل لها : إن رسول الله يأمرك أن تنفرجى لي حتى أدخل جوفك ، ثم يأمرك أن تثقبى فيك ثقبة أبصر منها المارين وتدخل على منها الروح لئلا أكون من الهالكين ، فإنها تصير إلى ما تقول لها بإذن الله رب العالمين . فأدى حذيفة الرسالة ودخل جوف الصخرة وجاء الأربعة والعشرون على جمالهم وبين أيديهم رجالتهم يقول بعضهم
--------------------------- 527 ---------------------------
لبعض : من رأيتموه هنا كائناً من كان فاقتلوه ، لئلا يخبروا محمداً أنهم قد رأونا هاهنا ، فينكص محمد ولا يصعد هذه العقبة إلا نهاراً ، فيبطل تدبيرنا عليه ! وسمعها حذيفة ، واستقصوا فلم يجدوا أحداً ، وكان الله قد ستر حذيفة بالحجر عنهم ، فتفرقوا فبعضهم صعد على الجبل وعدل عن الطريق المسلوك ، وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال . . . فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بما رأى وسمع فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أوَعرفتهم بوجوههم ؟ فقال : يا رسول الله كانوا متلثمين وكنت أعرف أكثرهم بجمالهم ، فلما فتشوا المواضع فلم يجدوا أحداً أحدروا اللثام ، فرأيت وجوههم وعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم : فلان وفلان وفلان حتى عد أربعة وعشرين . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا حذيفة إذا كان الله يثبِّت محمداً ، لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه ، إن الله تعالى بالغ في محمد أمره ولو كره الكافرون . ثم قال : يا حذيفة فانهض بنا أنت وسلمان وعمار وتوكلوا على الله ، فإذا جزنا الثنية الصعبة فأذنوا للناس أن يتبعونا ، فصعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو على ناقته وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بخطام ناقته يقودها والآخر خلفها يسوقها ، وعمار إلى جانبها ، والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثون حوالي الثنية على تلك العقبات ، وقد جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويقع به في المهوى الذي يهول الناظر إليه من بعده ، فلما قربت الدباب من ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أذن الله لها فارتفعت ارتفاعاً عظيماً فجاوزت ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم سقطت في جانب المهوي ، ولم يبق منها شئ إلا صار كذلك ، وناقة رسول الله كأنها لا تحس بشئ من تلك القعقعات التي كانت للدباب . ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعمار : إصعد إلى الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه رواحلهم فارم بها ، ففعل ذلك عمار فنفرت بهم رواحلهم وسقط بعضهم فانكسر عضده » .
4 . وأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن لا يعاقبهم ، كما أمره أن يكتم أسماءهم ، حتى لا ترتد قريش ! ففي الصحيح من السيرة : 30 / 141 ملخصاً : « فأخبر الله تعالى
--------------------------- 528 ---------------------------
رسوله بمكرهم ، فلما بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تلك العقبة نادى مناديه للناس : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخذ العقبة فلا يأخذها أحد ، واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع ، فسلك الناس بطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا . فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يسير من العقبة إذ سمع حسَّ القوم قد غَشَوْهُ ، فنفَّروا ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى سقط بعض متاعه . فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمر حذيفة أن يردهم فرجع حذيفة إليهم ، وقد رأى غضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه محجن يضرب وجوه رواحلهم وقال : إليكم إليكم يا أعداء الله تعالى . فعلم القوم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد اطلع على مكرهم ، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس !
قالوا : أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاء الناس أن تضرب أعناقهم ؟ قال : أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمداً قد وضع يده في أصحابه » .
أقول : هذا يدل على أن أولئك المجرمين كانوا صحابة ، وكانت خطتهم أن يقتلوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) سراً ثم يبكون عليه ، ويقدموا أحدهم ويصفقوا على يده لخلافته ! فأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يكتم عليهم ! لأن إعلان أسمائهم يؤدى إلى إعلان قريش الردة ومعها بعض القبائل ، وهذا أضر على الإسلام من الصبر عليهم !
5 - تراوح عدد المتآمرين في الروايات بين اثنى عشر وأربع وعشرين ، فكان فيهم أساسيون ومساعدون . وروى أنهم ثمانية من قريش وأربعة من غيرهم ، وروى أنهم اثنا عشر من بنى أمية وخمسة من غيرهم . وذكرت رواياتنا أن حذيفة « رحمه الله » كشف أسماءهم في خطبته في مرض وفاته في المدائن ، لما تحدث عن مؤامرة قريش على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته ، وقال في حديثه عن ليلة العقبة : « فبرقت برقة فأضاءت جميع ما حولنا وثبتت البرقة حتى خلتها شمساً طالعة ، فنظرت والله إلى القوم فعرفتهم رجلاً رجلاً ، وإذا هم كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وعدد القوم أربعة عشر رجلاً ، تسعة من قريش ، وخمسة من سائر الناس ، فقال له : سمهم لنا يرحمك الله ، فقال حذيفة : هم والله . . . قال حذيفة : ثم انحدرنا من العقبة وقد طلع الفجر ، فنزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتوضأ وانتظر أصحابه حتى انحدروا من العقبة واجتمعوا ، فرأيت القوم بأجمعهم وقد دخلوا مع الناس وصلوا خلف رسول الله !
--------------------------- 529 ---------------------------
فلما انصرف من صلاته ( صلى الله عليه وآله ) التفت فنظر إلى أبى بكر وعمر وأبى عبيدة يتناجون فأمر منادياً فنادى في الناس : لا يجتمع ثلاثة نفر من الناس يتناجون فيما بينهم بسر » . البحار : 28 / 100 .
وفى تاريخ دمشق : 32 / 93 : « عن أبي تحيى حكيم قال : كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال : ما لي ولك ألست أخاك ؟ قال : ما أدري ، إلا أنى سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يلعنك ليلة الجبل ! قال : إنه قد استغفر لي ! قال عمار : قد شهدت اللعن ، ولم أشهد الاستغفار ! » .
وقال عنه ابن حجر في لسان الميزان : 5 / 290 : « قال ابن عدي : عند محمد بن علي هذا ، من هذا الضرب عجائب وهو منكر الحديث ، والبلاء فيه عندي منه لا من حسين . . وقال الخطيب قال محمد بن منصور : كان ثقة مأموناً حسن النقل » !
أقول : تعجبَ ابن حجر من كون أبى موسى الأشعري من أهل العقبة ، ولا قيمة لاستنكاره ، فالراوي ثقة ! وأبو موسى عند أهل البيت « عليهم السلام » كسامرى اليهود !
6 . استبدل رواة السلطة أسماء أصحاب العقبة بآخرين ، لاهم في العير ولا النفير ، ولا مصلحة لهم أو لمن وراءهم بقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فذكروا لائحتين بأسمائهم :
1 - معتب بن قشير بن مليل ، من بنى عمرو بن عوف . 2 - وديعة بن ثابت بن عمرو بن عوف . 3 - جدّ بن عبد الله بن نبتل من بنى عمرو بن عوف . 4 - الحارث بن يزيد الطائي . 5 - أوس بن قيظي ، من بنى حارثة . 6 - الحارث بن سويد . 7 - سعد بن زرارة ، من بنى مالك . 8 - قيس بن قهد ، من بنى مالك . 9 - سويد من بنى بلحبلي . 10 - داعس من بنى بلحبلي . 11 - قيس بن عمرو بن سهل . 12 - زيد بن اللصيت . 13 - سلامة بن الحمام . وهما من بنى قينقاع .
والثانية ذكرها ابن القيم والسيوطي والصالحي :
1 - عبد الله بن أبي « سعد » . 2 - سعد بن أبي سرح . 3 - أبوخاطر « حاضر »
الأعرابي . 4 - عامر . 5 - أبو عامر « أبو عمر » . 6 - الجلاس بن سويد بن الصامت . 7 - مجمع بن حارثة « جارية » . 8 - فليح « مليح » التيمي . 9 - طعمة
--------------------------- 530 ---------------------------
بن أبيرق . 10 - عبد الله بن عيينة . 11 - مرة بن الربيع . 12 - حصين بن النمير .
وذكرت لائحة أخرى بأسمائهم في مصادر لاتهتم برضا رموز السلطة ، وهم :
1 - أبو بكر . 2 - عمر . 3 - عثمان . 4 - طلحة . 5 - الزبير . 6 - أبو سفيان . 7 - معاوية . 8 - عتبة بن أبي سفيان . 9 - أبو الأعور السلمي . 10 - المغيرة بن شعبة . 11 - أبو موسى الأشعري . 12 - أبو قتادة . 13 - عمرو بن العاص . 14 - سعد بن أبي وقاص . وفى نص آخر : الثمانية من قريش هم : سعد بن أبي وقاص ، معاوية ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة . بالإضافة إلي : 15 - عبد الرحمن بن عوف . 16 - أبو عبيد بن الجراح . والذين هم من غير قريش : 17 - أوس بن الحدثان . 18 - أبو هريرة . 19 - أبو طلحة الأنصاري . 20 - أبو موسى الأشعري .
وزاد في نص آخر : 21 - سالم مولى أبى حذيفة . 22 - خالد بن الوليد . وأبا المعازف . 23 - وأباه . 24 - وأبا مسعود . وينتهى العدد انتهى إلى أربعة وعشرين ، وقد جمعناه من الروايات المختلفة وهو ما صرحت به بعض الروايات . الصحيح : 30 / 123 .
أقول : هذه الحادثة لا يكفى فيها التعليق ، فهي توجب ثورة في فهم الصحابة والسيرة !
16 - في تلك الفترة حاول المنافقون قتل علي « عليه السلام » في المدينة !
في الإحتجاج : 1 / 59 : « قال أبو محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) : لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على العقبة ، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فما قدروا على مغالبة ربهم ! حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في علي ( عليه السلام ) لما فخَّمَ من أمره وعظَّمَ من شأنه .
من ذلك أنه لما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له : إن جبرئيل أتاني وقال لي : يا محمد إن العلى الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم على أو تقيم أنت ويخرج علي ، لا بد من ذلك ، فإن علياً قد ندبته لإحدى اثنتين لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما وعظيم ثوابه غيري . فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا : ملَّه وسئمه وكره صحبته فتبعه على ( عليه السلام ) حتى لحقه
--------------------------- 531 ---------------------------
وقد وجد غماً شديداً مما قالوا فيه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما أشخصك يا علي عن مركزك ؟ فقال : بلغني عن الناس كذا وكذا . فقال له : أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟ فانصرف على ( عليه السلام ) إلى موضعه فدبروا عليه أن يقتلوه ، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعاً ثم غطوها بخص رقاق ، ونثروا فوقها يسيراً من التراب بقدر ما غطوا به وجوه الخص ، وكان ذلك على طريق على ( عليه السلام ) الذي لا بد له من سلوكه ، ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها ، وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة ، ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه ! فلما بلغ على ( عليه السلام ) قُرب المكان لوى فرسه عنقه . . فقال على ( عليه السلام ) : سر بإذن الله سالماً سوياً ، عجيباً شأنك ، بديعاً أمرك ، فتبادرت الدابة فإذا الله عز وجل قد متن الأرض وصلَّبها ولأَّم حفرها ، كأنها لم تكن محفورة وجعلها كسائر الأرض ، فلما جاوزها على ( عليه السلام ) لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال : ما أكرمك على رب العالمين ، أجازك على هذا المكان الخاوي . . . فلما قرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من العقبة التي بإزائها فضائح المنافقين والكافرين ، نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم : هذا جبرئيل الروح الأمين يخبرني أن علياً دُبِّرَ عليه كذا وكذا ،
فدفع الله عز وجل عنه من ألطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا » .
وفى تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 560 : « فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ! تقيم يا علي فإن لك في مقامك من الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولك مثل أجور كل من خرج مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) موقناً طائعاً ، وإن لك على يا علي أن أسأل الله بمحبتك أن تشاهد من محمد سمته في سائر أحواله ، إن الله يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع الأرض التي نسير عليها والأرض التي تكون أنت عليها ويقوى بصرك حتى تشاهد محمداً وأصحابه في سائر أحوالك وأحوالهم ، فلا يفوتك الأنس من رؤيته ورؤية أصحابه ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة .
--------------------------- 532 ---------------------------
فقام رجل من مجلس زين العابدين ( عليه السلام ) لما ذكر هذا وقال له : يا ابن رسول الله كيف يكون هذا لعلي ، إنما يكون هذا للأنبياء لا لغيرهم ! فقال زين العابدين : هذا هو معجزة لمحمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا لغيره ، لأن الله تعالى لما رفعه بدعاء محمد ( صلى الله عليه وآله ) زاد في نوره أيضاً بدعاء محمد حتى شاهد ما شاهد ، وأدرك ما أدرك .
ثم قال الباقر ( عليه السلام ) : ما أكثر ظلم هذه الأمة لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأقل إنصافهم له ! ؟ يمنعون علياً ما يعطونه سائر الصحابة وعلى ( عليه السلام ) أفضلهم ! فكيف يمنعون منزلة يعطونها غيره ؟ ! قيل : وكيف ذاك يا ابن رسول الله ؟ قال : لأنكم تتولون محبي أبى بكر بن أبي قحافة وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان ، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان ، وتتولون عثمان بن عفان وتبرؤون من أعدائه كائناً من كان . حتى إذا صار إلى علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) قالوا : نتولى محبيه ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم !
وكيف يجوز هذا لهم ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول في علي : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ! فتراهم لا يعادون من عاداه وخذله ،
ليس هذا بإنصاف !
ثم أخري : أنهم إذا ذكر لهم ما اختص الله به علياً ( عليه السلام ) بدعاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكرامته على ربه تعالى جحدوه ، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة ! فما الذي منع علياً ( عليه السلام ) ما جعله لسائر أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟
هذا عمر بن الخطاب إذا قيل لهم : إنه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته : يا سارية الجبل ، وعجبت الصحابة وقالوا : ما هذا من الكلام الذي في هذه الخطبة ! فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا : ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل ؟ فقال : إعلموا أنى وأنا أخطب رميت ببصرى نحو الناحية التي خرج فيها إخوانكم إلى غزو الكافرين بنهاوند وعليهم سعد بن أبي وقاص ، ففتح الله لي الأستار والحجب ، وقوى بصرى حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك ، وقد جاء بعض الكفار ليدوروا خلف سارية وسائر من معه من المسلمين فيحيطوا بهم فيقتلوهم ، فقلت يا سارية الجبل ليلتجئ إليه فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا به ثم يقاتلوا . . .
--------------------------- 533 ---------------------------
قال الباقر ( عليه السلام ) : فإذا كان هذا لعمر ! فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ؟ ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون !
ثم عاد الباقر ( عليه السلام ) إلى حديثه عن علي ( عليه السلام ) قال : فكان الله تعالى يرفع البقاع التي عليهامحمد ( صلى الله عليه وآله ) ويسير فيها لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حتى يشاهدهم على أحوالهم » .
هذا ، وسيأتي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر في تلك الأيام في طريق عودته من تبوك أن يعمل له منبر ، وبين للمسلمين مقام على والعترة الطاهرة « عليهم السلام » .
17 - نهاهم النبي « صلى الله عليه وآله » عن الشرب قبله ، فعصوْهُ فلعنهم
في معجم البلدان : 5 / 135 : « المشقَّق : قال ابن إسحاق في غزوة تبوك : وكان في الطريق ماء يخرج من وَشَل ، ما يروى الراكب والراكبين والثلاثة ، بواد يقال له المشقق ، فقال رسول الله : من سبقنا إلى هذا الماء فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه ، قال : فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه ، فلما أتاه رسول الله وقف عليه فلم ير فيه شيئاً فقال : من سبقنا إلى هذا الماء ؟ فقيل له : يا رسول الله فلان وفلان ، فقال : أوَلم أنههم أن يستقوا منه شيئاً حتى آتيهم ؟ ! ثم لعنهم رسول الله ودعا عليهم !
ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده ، ودعا رسول الله بما شاء أن يدعو به فانخرق من الماء كما يقول من سمعه أما إن له حساً كحس الصواعق ، فشرب الناس واستقوا حاجتهم ، فقال رسول الله : لئن بقيتم أو من بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه » . وسيرة ابن هشام : 4 / 954 والطبري : 2 / 373 .
وفى إمتاع الأسماع : 2 / 71 : « وأقبل قافلاً حتى كان بين تبوك وواد يقال له وادى الناقة وهو وادى المشقق . . . فسبق إليه أربعة من المنافقين : معتب بن قشير والحارث بن يزيد الطائي حليف بنى عمرو بن عوف ، ووديعة بن ثابت ، وزيد بن اللصيت فقال : ألم أنهكم ؟ ! ولعنهم ودعا عليهم ثم نزل » . ونحوه قرب الإسناد للحميري / 327 ، الخرائج : 1 / 109 وجعله في طريق عودته ( صلى الله عليه وآله ) من الحديبية .
--------------------------- 534 ---------------------------
وفى الإمتاع : 5 / 112 ، عن عامر بن واثلة : « فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان ، والعين مثل الشراك تبض بشئ من ماء ، قال : فسألها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هل لمستما من مائها شيئاً ؟ قالا : نعم ، فسبهما النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال لهما ما شاء الله أن يقول » !
وفى صحيح مسلم : 8 / 123 : » وقد كان في حَرَّة فمشى فقال : إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد ، فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ » !
أقول : أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالنهى عن الشرب قبل وصوله أن يمتحن المؤمنين بالطاعة كما امتحنهم طالوت ( عليه السلام ) بعدم شرب الماء في قوله تعالي : فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيسَ مِنِّى وَمَنْ لَمْ يطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ » .
وقد أخفت الحكومات أسماء الذين لعنهم ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانوا اثنين في رواية ، وقوماً في رواية ، وأقواماً في رواية ، ولا بد أنهم كانوا من كبارهم فأخفوهم !
وقد وقعت هذه الحادثة بعد محاولتهم قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأخفوا أسماء الصحابة المجرمين ومنهم من أهل العقبة ! وسموا غيرهم ممن لاوزن لهم .
قال السيد شرف الدين في كتابه أبو هريرة / 97 : « وما كان للأمة أن تحتفظ بكرامة من لعنهم نبيها ( صلى الله عليه وآله ) لنفاقهم ونفاهم لإفسادهم ، فتضيع على أنفسها المصلحة التي توخاها ( صلى الله عليه وآله ) لها في لعنهم وإقصائهم ، وهم الذين دحرجوا الدباب ليلة العقبة لينفروا برسول الله فيطرحوه ، وكان إذ ذاك قافلاً من غزوة تبوك في حديث ثابت مستفيض وهو طويل ، وقد جاء في آخر فلعنهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومئذ .
والعجب من المسلم ينتصر لهم وقد جرعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) كل غصة ، وقعدوا له في كل مرصد ، ووثبوا عليه وعلى أهل بيته « عليهم السلام » من بعده كل وثبة ! وما لعنهم إلا ليطردهم الله من رحمته ويجتنبهم المؤمنون من أمته ، جزاء وفاقاً ، لا ليقربهم
إلى الله زلفي ، كما يخرِّفون » .
يقصد السيد شرف الدين بتخريفهم ، أنهم جعلوا لعنة الملعون على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) منقبة له ! فروى مسلم في صحيحه : 8 / 25 : « أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : اللهم إني
--------------------------- 535 ---------------------------
أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه ، فإنما أنا بشر ، فأي المؤمنين آذيته أو شتمته أو لعنته أو جلدته ، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة » . فصار الملعون أحسن حظاً من غيره » !
18 - نزول سورة التوبة في طريق العودة من تبوك
من المؤكد أن قسماً منها نزل في طريق العودة من تبوك ، وروى أنها نزلت كلها : « روى البراء بن عازب قال : آخر سورة نزلت كاملة ، براءة » . التبيان : 3 / 407 .
وسميت « براءة » لأن أولها : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وهى السورة الوحيدة التي لاتبدأ بالبسملة ، لأنها غضب على المشركين والمنافقين .
قال الشافعي في الأم : 4 / 201 : « لما قوى أهل الإسلام أنزل الله عز وجل على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) مرجعه من تبوك : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ، فأرسل بهذه الآيات مع علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه فقرأها على الناس في الموسم ، وكان فرضاً أن لا يعطى لأحد مدة بعد هذه الآيات ، إلا أربعة أشهر » .
كما سميت الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وخاصة محاولتهم قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) « قال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال : تلك الفاضحة ! ما زال ينزل : ومنهم . . ومنهم . . حتى خفنا ألا تدع أحداً » ! معاني القرآن : 3 / 179 .
وفى تفسير القرطبي : 8 / 61 : « وفى السورة كشف أسرار المنافقين . وتسمى الفاضحة والبَحُوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين ! وتسمى المبعثرة ، والبعثرة : البحث » .
وهى مئة وتسع وعشرون آية ، وفيها بحوث عديدة ، نكتفي ببعضها :
فقد بينت الآيات الأربع وعشرون الأولي ، تحريم دخول المشركين إلى مكة بعد
تلك السنة .
ثم تعرضت الآيات : 25 - 27 إلى معركة حنين وفرار المسلمين وثبات النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبنى هاشم ونصر الله تعالى لهم . ثم أكدت الآية : 28 تحريم مكة على المشركين .
ثم بينت الآيات : 29 - 35 ، الموقف من اليهود والنصارى وبعض صفاتهم .
ثم بينت الآيتان : 36 - 37 ، تحريم القتال في الأشهر الحرم ، وبطلان النسئ فيها .
--------------------------- 536 ---------------------------
أما بقية الآيات من آية : 38 ، إلى 129 ، فعالجت مواضيع عن الجهاد ، والمنافقين ، وغزوة تبوك . ونشير منها إلى ست مسائل تتعلق بالسيرة :
الأولي : قوله تعالي : عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يتَبَينَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ . « التوبة : 43 » فقد استأذن بعض المؤمنين وبعض المنافقين من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، مدعين أعذاراً ، فقبل منهم وأذن لهم . « والمستأذنون ثمانون رجلاً من قبائل شتي » . « تفسير القمي : 1 / 293 » . وزعم مفسروا الحكومات أن إذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) للمنافقين معصية لربه ! وخففها بعضهم فجعلها ذنباً صغيراً ! وأطلقوا العنان لخيالهم في ذنوب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأخطائه التي عاتبه الله عليها فعفا عن بعضها وعاقبه على بعضها مثل ذنبه في أسر قرشيين في بدر ! الذي عاقبه الله عليه بجرحه وهزيمته في أحُد ! وقد بحثنا ذلك في كتاب « ألف سؤال وإشكال : 2 / 422 » .
والمسألة الثانية : قوله تعالي : لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِى وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . التوبة : 117 .
فقد سموا جيش تبوك جيش العسرة وفسروها بالضائقة المالية ، وجعلوا التوبة في الآية بسبب الإنفاق ، وجعلوا المنفقين أبا بكر وعمر وعثمان ، وزادوا من حصة عثمان في الإنفاق وسهمه في التوبة عليه ، وناقش ذلك صاحب الصحيح .
والمسألة الثالثة : قصة الذين تخلفوا عن تبوك في قوله تعالي : وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ التوبة : 118 . وستأتي .
والمسألة الرابعة : مسجد الضرار ، وتقدم شئ من تفسير آياته عن الإمامين الحسن العسكري والكاظم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
والمسألة الخامسة : الآيتان في مؤامرتهم لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا أَيهَا النَّبِى جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ينَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يتُوبُوا يكُ خَيرًا لَهُمْ وَإِنْ يتَوَلَّوْا يعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الأَرْضِ مِنْ وَلِى وَلا نَصِيرٍ . « التوبة : 73 - 74 » . وتقدم شئ في تفسيرهما ، ونشير هنا إلى أن مرتكبى الجريمة هم الذين كانوا
--------------------------- 537 ---------------------------
فقراء وأغناهم الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) من فضله ، فهم قريبون من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد شاركوه في حروبه لكن في الصف الخلفي ، ووصلت إليهم الغنائم وعطايا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأغناهم الله ورسوله من فضله !
والمسألة السادسة : قتال أهل الكتاب حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية ، وهذا بحث فقهى وحقوقى مهم ، لكنه خارج عن غرضنا هنا .
19 - عودة النبي « صلى الله عليه وآله » إلى المدينة
اتفقت المصادر على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خرج من المدينة إلى تبوك في رجب في يوم الخميس سنة تسع ، وعند اليعقوبي في أول رجب ، ورجع في شهر رمضان . ونصت رواية الإمام الكاظم ( عليه السلام ) على أنه واعد أمته ثمانين ليلة ، فيكون رجوعه في نحو العشرين من شهر رمضان .
وقال اليعقوبي : 2 / 67 : « واستخلف علياً على المدينة واستعمل الزبير على راية المهاجرين . . وقدم رسول الله تبوك في شعبان فأتاه يحَنَّة بن رؤبة أسقف أيلة فصالحه » . وفى مناقب آل أبي طالب : 1 / 27 : « أنشد العباس في النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
من قبلها طبت في الظلال وفى * مستودعٍ حيث يخصف الورقُ
ثم هبطت البلاد لا بشرٌ أنت * ولا مضغةٌ ولا علقُ
بل نطفةٌ تركب السفير وقد * ألجم نسراً وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم * إذا مضى عام بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء نحلتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض * وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفى * النور وسبل الرشاد نحترق
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لايفضض الله فاك » .
وروى أنه لغيره ، وروى الحاكم : 3 / 326 أن ذلك كان منصرف النبي ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك .
--------------------------- 538 ---------------------------
ومن مكذوباتهم في رجوع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك أنه لم يدخل بيت فاطمة « عليها السلام » على عادته ، لأنها اشترت ستراً ملوناً وسوارين من فضة للحسن والحسين ( صلى الله عليه وآله ) !
ففي مسند أحمد : 5 / 275 ، عن ثوبان قال : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة « عليها السلام » ، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة « عليها السلام » فقدم من غزاة له فأتاها فإذا هو بمسح على بابها ورأى على الحسن والحسين قُلبين من فضة فرجع ولم يدخل عليها ! فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأي ، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكى الصبيان فقسمته بينهما ، فانطلقا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهما يبكيان فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منهما فقال : يا ثوبان إذهب بهذا إلى بنى فلان أهل بيت بالمدينة ، واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج ، فإن هؤلاء أهل بيتي ، ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا » .
ورواه بلفظ آخر في فضائل سيدة النساء لعمر بن شاهين / 15 : « عن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان إذا خرج كان آخر عهده فاطمة « عليها السلام » وإذا رجع كان أول عهده فاطمة « عليها السلام » ، فلما رجع من غزوة تبوك وقد اشترت مقينعة وصبغتها بزعفران وعلقت على بابها ستراً ، وألقت في بيتها بساطاً ، فلما رأى ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) رجع فأتى المنزل فقعد فيه ، فأرسلت إلى بلال فقالت : إذهب فانظره ما رده عن بابي ؟ فأتاه فأخبره فقال : إني رأيتها صنعت كذا وكذا ! فأتاها فأخبرها فهتكت الستر وكل شئ أحدثته وألقت ما عليها ولبست أطمارها فأخبره ، فجاء حتى دخل عليها فقال : كذا كونى فداك أبي وأمي » . ورواه أبو داود : 2 / 291 ، البيهقي : 1 / 26 ، ابن حبان : 2 / 470 ، حماد بن زيد في تركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) / 56 وأخذته بعض مصادرنا كذخائر العقبي / 51 ، البحار : 43 / 89 وكشف الغمة : 2 / 79 ، ظناً أنه فضيلة .
وسبب تكذيبنا لهذا الحديث : أن أهل البيت « عليهم السلام » لم يرووه ، وأن ما نسبه إلى الزهراء « عليها السلام » ليس حراماً ولا خلاف الأولي . وما نسبه إليها من أنها انتزعت السوارين بعنف حتى قطعتهما ، مما أبكى الحسن والحسين ( صلى الله عليه وآله ) ! ثم استكثاره على فاطمة « عليها السلام » أن يكون لها ستر لباب دارها ، وسواران من فضة لولديها ، وقوله عن ذلك : « ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا » !
--------------------------- 539 ---------------------------
هو من نوع التبرير لما فعلته السلطة من مصادرة فدك وكل أموالهم ، لتجويعهم وإخضاعهم ، فبرروا ذلك بأن أهل البيت « عليهم السلام » نصيبهم في الآخرة فقط !
وكأن القصة كانت مع إحدى زوجاته فجعلوها للزهراء « عليها السلام » ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يصف النبي ( صلى الله عليه وآله ) « نهج البلاغة / 88 ح : 580 » : « ويكون السِّتر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول : يا فلانة لإحدى أزواجه غيبيه عني ، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها » .
وينبغي الالتفات إلى أن حسد قريش تصاعد ضد على والعترة « عليهم السلام » في تلك الفترة ، فهم يريدون أن يقولوا إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) غيرَ عادته عند عودته من تبوك وذهب إلى المسجد ولم يذهب إلى بيت فاطمة « عليها السلام » ، لأنها أرادت زينة الدنيا !
20 - المتخلفون الثلاثة الذين تاب الله عليهم
قال الله تعالى : لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِى وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لامَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ لِيتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَالتَّوَابُ الرَّحِيمُ . سورة التوبة : 117 - 118 .
في تفسير القمي : 1 / 296 : « وقد كان تخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قوم من المنافقين وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق ، منهم كعب بن مالك الشاعر ، ومرادة بن الربيع ، وهلال بن أمية الواقفي ، فلما تاب الله عليهم قال كعب : ما كنت قط أقوى منى في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى تبوك ، وما اجتمعت لي راحلتان قط إلا في ذلك اليوم ، وكنت أقول أخرج غداً أخرج بعد غد ! فإني قوى وتوانيت ، وبقيت بعد خروج النبي ( صلى الله عليه وآله ) أياماً أدخل السوق فلا أقضى حاجة ! فلقيت هلال بن أمية ومرادة بن الربيع ، وقد كانا تخلفا أيضاً ، فتوافقنا أن نبكر إلى السوق ولم نقض حاجة ، فما زلنا نقول نخرج غداً وبعد غد ، حتى بلغنا إقبال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فندمنا !
--------------------------- 540 ---------------------------
فلما وافى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استقبلناه نهنؤه بالسلامة فسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا ، وسلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام ! فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا ! وكنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد ، ولا يكلمنا ! فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حل بهم قالوا : ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلمنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا إخواننا ولا أهلونا ! فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت ! فخرجوا إلى ذناب جبل بالمدينة فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم فلا يكلمونهم ، فبقوا على هذا أياماً كثيرة يبكون بالليل والنهار ويدعون الله أن يغفر لهم . فلما طال عليهم الأمر قال لهم كعب : يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله ، قد سخط علينا وأهلونا وإخواننا قد سخطوا علينا ، فلا يكلمنا أحد ، فلم لا يسخط بعضنا على بعض ؟ ! فتفرقوا في الليل وحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه ، فبقوا على هذه ثلاثة أيام ، كل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه ! فلما كان في الليلة الثالثة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقوله تعالي : لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِى وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ » . وابن هشام : 4 / 957 .
أقول : استثنى النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذين تخلفوا عن تبوك لعذر فقال ، كما في الغارات للثقفي : 1 / 230 ، وغيره : « لقد كان بالمدينة أقوام ما سرتم من مسير ، ولا هبطتم من واد إلا كانوا معكم ! ما حبسهم إلا المرض . يقول : كانت لهم نية » .
وكان كبير المتخلفين كعب بن مالك الشاعر الأنصاري ، وقد ورد عن أهل البيت « عليهم السلام » قراءة تفسيرية : لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين . الإحتجاج : 1 / 98 .
21 - النبي « صلى الله عليه وآله » يرد على حُسَّاد علي « عليه السلام » في طريق تبوك
بعد معركة بدر خاصة ، ظهر حسدهم لعلى ( عليه السلام ) لأن اسمه سطع في المعارك بطلاً وعضداً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ووزيراً مقرباً منه . وصار حسدهم له بغضاً ، ثم صار اتجاهاً ، ثم صار حزباً ، ثم صار ديناً !
--------------------------- 541 ---------------------------
قال بريدة : « لم أجد من الناس أبغض على من علي بن أبي طالب ، حتى أحببت رجلاً من قريش ولا أحبه إلا على بغض علي » ! خصائص علي « عليه السلام » للنسائي / 102 .
ثم زاد بغضهم له ( عليه السلام ) حتى تركوا من أجله السنة ! قال ابن عباس : « اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي » . سنن البيهقي : 5 / 113 .
ثم زاد بغضهم لعلى ( عليه السلام ) حتى بنوا مساجد خاصة بسبه ! « بنى عبيد الله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض علي بن أبي طالب والوقيعة فيه : مسجد بنى عدي ، ومسجد بنى مجاشع ، ومسجد كان في العلافين على فرضة البصرة ، ومسجد في الأزد » ! شرح النهج : 4 / 94 .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعلم نشاط المبغضين لعلى ( عليه السلام ) ، وقد اتخذ موقفاً حاسماً لوقف هذا الانحراف فقال : « لا يبغض علياً مؤمن ولا يحبه منافق » . ابن شيبة : 7 / 503 .
وتقدم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) واجه المنافقين الذين تكلموا على على ( عليه السلام ) عندما استخلفه على المدينة ، وأرادوا أن تخلو المدينة منهما ، فأعلن أن الله جعله منه بمنزلة هارون من موسى « عليهم السلام » ! وفى طريق عودة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك وبعد فشل مؤامرتهم لقتله وفشل مؤامرتهم لقتل على في المدينة ، بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن جماعة يتكلمون على على والعترة « عليهم السلام » ، فأمر أن يعملوا له منبراً كمنبر غدير خم ، وخطب في المسلمين وأبلغ رسالة ربه ، وأتم عليهم الحجة !
قال أنس بن مالك : « رجعنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قافلين من تبوك ، فقال لي في بعض الطريق : ألقوا لي الأحلاس والأقتاب ، ففعلوا فصعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : معاشر الناس ، مالي إذا ذكر آل إبراهيم تهللت وجوهكم ، وإذا ذكر آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) كأنما يفقأ في وجوهكم حب الرمان ! فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب ، لأكبه الله في النار » ! أمالي الطوسي / 308 .
وفى نوادر المعجزات لمحمد بن جرير الطبري الشيعي / 98 : « روى عبد الله بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : كنا في غزاة تبوك ونحن نسير معه فقال : يا بن مسعود
--------------------------- 542 ---------------------------
إن الله عز وجل أمرني أن أزوج فاطمة من على ففعلت . وقال لي جبرئيل : إن الله عز وجل قد بنى جنة من قصب اللؤلؤ ، بين كل قصة إلى قصبة لؤلؤة من ياقوتة مشذرة بالذهب ، وجعل سقوفها زبرجداً أخضر ، فيها طاقات من اللؤلؤ مكللة بالياقوت ، وجعل عليها غرفاً ، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ولبنة من در ، ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد ، وقباباً من در قد شعبت بسلاسل الذهب ، وحفت بأنواع الشجر ، وبنى في كل قصر قبة ، وجعل في كل قبة أريكة من درة بيضاء ، فرشها السندس والإستبرق ، وفرش أرضها بالزعفران والمسك والعنبر ، وجعل في كل قبة مائة باب ، وفى كل باب جاريتان وشجرتان ، وفى كل قبة فرش وكتاب مكتوب حول القبة آية الكرسي . فقلت : يا جبرئيل لمن بنى الله عز وجل هذه الجنة ؟ فقال : هذه جنة بناها الله تعالى لعلي بن أبي طالب وفاطمة ابنتك « عليهما السلام » ، تحفة أتحفها الله بها وأقربها عينيك يا محمد » . ودلائل الإمامة / 142 .
وعندما رجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة رأى أن المنافقين ما زالوا ناشطين في معاداة على ( عليه السلام ) فغضب وأوضح لهم مقامه عند الله تعالى ، وأتم الحجة عليهم :
ففي الروضة في فضائل أمير المؤمنين / 169 والمسترشد / 615 ، قال : « مر على بنفر من قريش في المسجد فتغامزوا ، فدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وشكا له ، فخرج وهو مغضب فقال : أيها الناس مالكم إذا ذكرت إبراهيم وآل إبراهيم أشرقت وجوهكم ، وإذا ذكر محمد وآل محمد قست قلوبكم وعبست وجوهكم ؟ ! والذي نفسي بيده لو عمل أحدكم عمل سبعين نبياً ، لم يدخل على حتى يحب هذا أخي علياً وولده ! والذي نفسي بيده لو أن أحدهم وافى بعمل سبعين نبياً ، ما قبل الله منه حتى يوافى بولايتي وولاية أهل بيتي » .
22 - متفرقات من تبوك
1 . تقدم ذكر عدد من معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله ) في تبوك ، وهى كثيرة ، وأولها أنه أخبر بأن الغزوة ستكون ثمانين يوماً ، وأخبر بما يقع له فيها ، وبتفصيل معاهدته مع الأكيدر ، فوقعت الأحداث كما أخبر .
ومن معجزاته ( صلى الله عليه وآله ) : إرواء جيش المسلمين بالماء وهو نحو ثلاثين ألفاً ، بدعائه بالمطر
--------------------------- 543 ---------------------------
حيناً ، وبإنباع الماء حيناً ، وتكثير الماء القليل حتى يكفيهم .
وقد حدث ذلك بضع مرات ، ومنها نبع تبوك ونبع وادى المشقق الذي ما زال جارياً ، كما تقدم . الخرائج : 1 / 28 ، مجمع البيان : 5 / 138 والحاكم : 1 / 159 .
ومنها : معجزته في الإخبار عن أبي ذر وإحضاره ، كما تقدم .
ومنها : معجزته في كشف المؤامرة لقتله ( صلى الله عليه وآله ) .
ومنها إخبارهم بما حدث لعلى ( عليه السلام ) من محاولة الاغتيال
ومنها : مباركته الظهرالذى أجهده الطريق والحر ، فنشط . مجمع الزوائد : 6 / 193 .
ومنها : « أنه ضلت ناقته القصوى فقال عمارة بن حزم : يخبرنا محمد بخبر السماء ولا يدرى أين ناقته ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إني لا أعلم إلا ما علمني الله ، وقد أخبرني الآن أنها بشعب كذا وزمامها ملتف بشجرة . فكان كما قال ( صلى الله عليه وآله ) » ! الخرائج : 1 / 121 .
2 . كان ( صلى الله عليه وآله ) يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ويصلى النافلة على راحلته ، ففي قرب الإسناد للحميري / 16 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى تبوك ، وكان يصلى على راحلته صلاة الليل حيثما توجهت به ويومئ إيماء » .
3 . أجرى مسابقة لخيل ، ومسابقة للإبل ، ففي قرب الإسناد / 134 ، عن علي ( عليه السلام ) : « أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أجرى الخيل وجعل فيها سبع أواق من فضة ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أجرى الإبل مقبلة من تبوك فسبقت العضباء وعليها أسامة ، فجعل الناس يقولون : سبق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورسول الله يقول : سبق أسامة » .
« أهدى عُبيد للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فرساً عتيقاً يقال له مراوح ، وقال : يا رسول الله سابق ! فأجرى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الخيل بتبوك فسبق الفرس ، فأخذه رسول الله منه ، فسأله المقداد بن عمرو الفرس ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أين سبحة ؟ فرس للمقداد قد شهد عليها بدراً . قال : يا رسول الله عندي وقد كبرت ، وأنا أضن بها للمواطن التي شهدت عليها ، وقد خلفتها لبعد هذا السفر وشدة الحر عليها ، فأردت
--------------------------- 544 ---------------------------
أحمل هذا الفرس المعرق عليها فتأتينى بمهر . قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فذاك إذاً ! فقبضه المقداد فخبر منه صدقاً ، ثم حمله على سبحة فنتجت له مهراً كان سابقاً يقال له الذيال سبق في عهد عمر وعثمان فابتاعه منه عثمان بثلاثين ألفاً » . الواقدي / 617 .
4 - أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يصل إلى المدينة رجلين ليهدما مسجد الضرار فهدماه ، قال الله تعالى : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَينَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللهُ يشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَلِ يوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يحِبُّونَ أَنْ يتَطَهَّرُوا وَاللهُ يحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ . أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . لايزَالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . سورة التوبة : 107 - 110 .
ففي التبيان : 5 / 297 و 598 : « قيل إنهم كانوا خمسة عشر رجلاً منهم عبد الله بن نفيل . . . وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل قدومه من تبوك عاصم بن عون العجلاني ومالك بن الدخشم وكان مالك من بنى عوف ، فقال لهما : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم احرقاه ، فخرجا يشتدان سريعين على أقدامها ففعلا ما أمرهما به ، فثبت قوم من جملتهم زيد بن حارثة بن عامر حتى احترقت البتة » .
وفى تفسير القمي : 1 / 305 : « فجاء مالك فقال لعامر : إنتظرنى حتى أخرج ناراً من منزلي فدخل فجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد فتفرقوا وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البلية ، ثم أمر بهدم حايطه » .
وفى فقه القرآن للقطب الراوندي : 1 / 159 : « وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ : هو أبو عامر الراهب لحق بقيصر متنصراً ، وكان يبعث إليهم : سآتيكم بجند فأخرج محمداً ، فبنوه يترقبونه ! وهو الذي حزب الأحزاب مع المشركين . فلما فتحت مكة هرب إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الروم . وابنه عبد الله أسلم وقتل يوم أحد وهو غسيل الملائكة . ووجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم ، وكان مالك من بنى عوف الذين بنوا مسجد الضرار ،
--------------------------- 545 ---------------------------
فقال لهما : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم احرقاه ، ففعلا ما أمر به » . وفى سيرة ابن هشام : 4 / 956 ، أنه بعثهما من أوان ، وهى قبل المدينة بساعة من نهار .
23 - تذكير ببعض مكذوبات الحكومات عن تبوك
كتب صاحب الصحيح من السيرة في غزوة تبوك أكثر من خمس مئة صفحة ، وفنَّد أكثر مكذوبات رواة السلطة فيها ! وتبدأ مكذوباتهم في أسباب الغزوة ، إلى ادعاء إنفاق عثمان وأبى بكر على جيش العسرة ، إلى تنقيصهم من أهمية حديث أنت منى بمنزلة هارون من موسي ، إلى زعمهم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل بدل الزبير خالداً إلى الأكيدر ، إلى ادعائهم فضائل لعمر وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يخطئ وكان عمر يصيب مثل أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمرهم أن يذبحوا جمالهم فنهاه عمر !
ومنها مكذوباتهم في التغطية على أسماء المتآمرين لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلة العقبة . . الخ .
24 - بعد تبوك مات ابن سلول كبير المنافقين المدنيين
بعد رجوع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك ، وقيل بعد رجوعه من فتح مكة ، مات عبد الله بن أُبى بن سلول رئيس المنافقين المدنيين . ففي تفسير القمي : 1 / 302 : « وكان ابنه عبد الله بن عبد الله مؤمناً ، فجاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبوه يجود بنفسه فقال : يا رسول الله بأبى أنت وأمي إنك إن لم تأت أبى كان ذلك عاراً علينا ! فدخل إليه رسول الله والمنافقون عنده ، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله : يا رسول الله استغفر له فاستغفر له فقال عمر : ألم ينهك الله يا رسول الله أن تصلى عليهم أو تستغفر لهم ! فأعرض عنه رسول الله ، فأعاد عليه فقال له : ويلك إني خُيرْتُ فاخترت ! إن الله يقول : إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يغْفِرَ اللهُ لَهُمْ » .
فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : بأبى أنت وأمي يا رسول الله إن رأيت أن تحضر جنازته ، فحضره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقام على قبره ، فقال له الثاني : يا رسول الله ألم ينهك الله أن تصلى على أحد منهم مات أبداً ، وأن تقوم على قبره ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ويلك وهل تدرى ما قلت ؟ إنما قلت : اللهم احش قبره
--------------------------- 546 ---------------------------
ناراً وجوفه ناراً وأصله النار ، فبدا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما لم يكن يحب » ! وسبب خطأ عمر وتصوره أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخطأ ، أنه تخيل أن قبوله حضور جنازة ابن سلول وصلاته عليه ، يعنى الاستغفار له ، مع أن لا ملازمة بينهما ، فقد زاره وصلى على جنازته ولم يستغفر له ! فقد قال أهل البيت « عليهم السلام » إن الصلاة المنهى عنها في قوله تعالي : وَلاتُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاتَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ . . هي الدعاء والاستغفار ، أما الصلاة عليهم بدون استغفار فليس
منهياً عنها . الكافي : 3 / 188 .
ومعناه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يستعمل التقية مع أتباع ابن سلول ليجذبهم إلى الإسلام ، ولكن فضول عمر أجبره على إظهار أنه دعا عليه لا له !
وفى الإستبصار : 1 / 476 : « عن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) جالساً فدخل رجل فسأله عن التكبير على الجنائز ، فقال : خمس تكبيرات ، ثم دخل آخر فسأله عن الصلاة على الجنائز ؟ فقال : له أربع صلوات ، فقال الأول : جعلت فداك سألتك فقلت خمساً ، وسألك هذا فقلت أربعاً ، فقال : إنك سألتني عن التكبير وسألني هذا عن الصلاة ، ثم قال : إنها خمس تكبيرات بينهن أربع صلوات ثم بسط كفه فقال : إنهن خمس تكبيرات ، بينهن أربع صلوات » .
فقد عبَّر الإمام الأدعية التي بين التكبيرات بالصلوات ليبين أن تحريم الصلاة على المنافق يخص الدعاء له ، الذي يقع بعد التكبيرة الرابعة ، فالصلاة هنا بمعناها اللغوي وليس الاصطلاحي . والحدائق : 10 / 417 والجواهر 17 / 359 .
وقد بينا مكذوباتهم وطعنهم بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه أخطأ وأصاب عمر ! في كتاب ألف سؤال وإشكال : 2 / 329 .
25 - وفد ثقيف بعد تبوك
في إعلام الوري : 1 / 233 : « سار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الطائف في شوال سنة ثمان فحاصرهم بضعة عشر يوماً ، وخرج نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف فلقيه على ( عليه السلام ) في خيله ، فالتقوا ببطن وج فقتله على ( عليه السلام ) وانهزم المشركون .
--------------------------- 547 ---------------------------
ونزل من حصن الطائف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جماعة من أرقائهم ، منهم أبو بكَرَة وكان عبداً للحارث بن كلدة المنبعث ، وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله المنبعث ووردان وكان عبداً لعبد الله بن ربيعة ، فأسلموا .
فلما قدم وفد الطائف على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلموا قالوا : يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك ، فقال : لا ، أولئك عتقاء الله .
وفى إعلام الوري : 1 / 249 : « ثم قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عروة بن مسعود الثقفي مسلماً ، واستأذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الرجوع إلى قومه فقال : إني أخاف أن يقتلوك فقال : إن وجدونى نائماً ما أيقظوني ! فأذن له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرجع إلى الطائف ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه الأذي ، حتى إذا طلع الفجر نام في غرفة من داره فأذن وتشهد ، فرماه رجل بسهم فقتله !
وأقبل بعد قتله وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم أشراف ثقيف فأسلموا فأكرمهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحباهم ، وأمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص بن بشر ، وقد كان تعلم سوراً من القرآن . قال : قلت : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بين صلاتي وقراءتي . قال : ذاك شيطان يقال له : خنزب ، فإذا خشيت فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً . قال : ففعلت فأذهب الله عني » .
وقال الشيخ الأحمدي في مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : 3 / 70 ملخصاً : « خلال تلك المدة رأت ثقيف ممن حولها من الأعراب ما يسوؤها في الأموال والأنفس ، إذ أسلم من حولهم وكانوا يستحلون أموال ثقيف لأنهم كفار ، فكانوا يسلبون أموالهم ويرعون زروعهم ولا يؤدون دَينهم ، فاضطرت ثقيف للدخول في الإسلام ، وقال بعضهم لبعض : أفلا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع ! فأتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رجلاً كما أرسلوا عروة ، فكلموا في ذلك عبد ياليل بن عمرو وكان في سن عروة بن مسعود فأبى لأنه خشي أن يفعل به كما فعل بعروة ، فكلموا شرحبيل بن غيلان وغيره من أشراف ثقيف فوفدوا في تسعة عشر رجلاً أو أقل ، فلما وصلوا إلى المدينة
--------------------------- 548 ---------------------------
لقوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فحيوه بتحية الجاهلية : أنعم صباحاً ، فضربت لهم قبة في المسجد ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا ، فكان خالد بن سعيد بن العاص يمشى بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى اكتتبوا كتابهم ، وكان خالد هو الذي كتب الكتاب بيده . » « راجع الطبقات : 4 / 96 » « فشرطوا أن يدع لهم الطاغية وهى اللات لايهدمها ثلاث سنين ، فأبى عليهم ذلك ، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهراً واحداً فأبى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا أن يرسل أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها .
وفيما شرطوا لأنفسهم أن يعفيهم عن الصلاة ، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم عنه ، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه ! فقالوا : يا محمد فسنؤتيكها وإن كانت دناءة ! وسألوا أن يترك لهم الزنا والربا وشرب الخمر ، فأبى عليهم ذلك كله » .
أقول : وصفوا الصلاة بأنها دناءة لأن فيها سجوداً ! وكان عوام عرب الجزيرة يرون السجود كأنه انحناء لمن يفعل به الفاحشة ، فكان الذي يدعى إلى الإسلام يقول : لا أريد أن تعلوني إستي ! وقد أشاعت قريش هذه السخرية لتنفير الناس من الإسلام ، وافتروا على أبى طالب ( عليه السلام ) أنه قالها !
26 - خضوع العرب للنبي « صلى الله عليه وآله » بعد فتح مكة وتبوك
وذكر ابن إسحاق أن العرب كانت تتربص بالإسلام قريشاً ثم ثقيفاً فلما رأت أنهما أسلما وخضعا للنبي ( صلى الله عليه وآله ) توافدت قبائل العرب من أقصى الجزيرة إلى أقصاها إلى المدينة ، لإعلان إسلامها ومبايعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال الطبرسي في إعلام الوري : 1 / 250 : « فلما أسلمت ثقيف ضربت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفود العرب ، فدخلوا في دين الله أفواجاً » .
وقال المحامي أحمد حسين يعقوب في كتابه المواجهة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) / 310 : « سقطت عاصمة الشرك رسمياً ، وتلقت عقيدة الشرك ضربة قصمت ظهرها تماماً وهدمت أركانها . . لقد احترقت راية الشرك والمعارضة التي كانت تلجأ إليها العرب ، فإذا سلَّم
--------------------------- 549 ---------------------------
قادة البطون وأسلموا ، وأعطوا القيادة لمحمد وهم ألد أعدائه ، فما هي مصلحة الآخرين بمعارضة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! ومن الذي يقف بوجه محمد الذي قضى على الحركة اليهودية بكل قوتها ومكرها ، ودوَّخَ القبائل العربية وأذهب ريحها مع كثرتها ، ثم ركَّع قادة بطون قريش بكل فخرها وشرفها .
لقد كان فتح مكة إعلاناً وبخط عريض بأن محمداً سيد الجزيرة بغير منازع ، والمالك الحقيقي لخيراتها ، والمخول بتوزيع الأدوار كلها على سكانها ، وأن الدين الذي جاء به محمد هو الدين الرسمي للسكان ، فمن لم يوالِ محمداً أو يتظاهر بموالاته ، ومن لم يعتنق دين محمد أو يتظاهر باعتناقه ، فقد أسقط ضمنياً حقه بالرزق والملك والجاه والنفوذ وبالمستقبل له ، ورضى أن يعيش خائفاً في مجتمع موعود بالأمن والاستقرار .
وبفتح مكة وباستسلام هوازن والطائف سقطت آخر حصون المقاومة للنبوة والدين ، وأخذت قبائل العرب تتوافد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لتعلن قبولها بولايته واعتناقها لدينه ، حتى سمى عام الفتح بعام الوفود .
كان محمدٌ يبحث عن الناس والناس الآن يبحثون عن محمد ! كان محمد يركض خلفهم وصار العرب يركضون لمحمد ! وأخذ جباته يتحركون بين القبائل ويجبون الأموال ، ليوزعها محمد على الوجه الشرعي .
وباختصار فإنك لا تجد إلا مسلماً أو متظاهراً بالإسلام ، وموالياً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أو متظاهراً بالولاء ! لقد أصبحت الجزيرة دولة إسلامية واحدة قامت لأول مرة في التاريخ ، وحَّدها النبي ( صلى الله عليه وآله ) خلال مدة لا تتجاوز العشر سنين ، ونالت شرف رئاسة النبي لهذه الدولة ، فأعظم مظاهر وحدتها كانت رئاسة النبي المباركة فقد والته كل العرب أو تظاهرت بموالاته بدون إكراه ، ودخلت في دينه أو تظاهرت بالدخول في دينه ، وبدون إكراه أيضاً .
لقد أصبح محمد نظام وحدة العرب ونظام وحدة الدولة ونظام وحدة القانون . لقد اختلط محمد بالدين واختلط الدين بمحمد ، فهما وجهان لعملة واحدة ، فلو
--------------------------- 550 ---------------------------
قمت بكل واجباتك الدينية من صلاة وصيام وحج وقراءة قرآن وصدقة وقيام ليل ولكنك لا توالى محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، فأنت كافر بلا خلاف . . لقد صار الرئيس بمثابة خيط سبحة إذا قطع الخيط تبعثرت حبات السبحة » .
ثم أكدت غزوة تبوك للعرب أن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) صار قوة تهابه الروم فها هو يقصدهم في تبوك بثلاثين ألفاً ، فينسحب هرقل خوفاً من مواجهته ويرسل اليه بأنه مؤمن به ، لكن بطارقته لا يقبلون !
27 - بعث النبي « صلى الله عليه وآله » أبا بكر بسورة براءة ثم سحبها منه
في تفسير القمي : 1 / 281 : « بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . عن الصادق ( عليه السلام ) قال : نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة ، قال : وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، وكان سنة في العرب في الحج أنه من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، وكان من وافى مكة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يرده ، ومن لم يجد عارية اكترى ثياباً ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً ! فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده ، فقالوا لها إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقى بها ! فقالت وكيف أتصدق بها وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة ! وأشرف عليها الناس . . فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت إن لي زوجاً !
وكانت سيرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلا من قاتله ، ولا يحارب إلا من حاربه وأراده ، وقد كان نزل عليه في ذلك من الله عز وجل : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيهِمْ سَبِيلاً . فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا يقاتل أحداً قد تنحى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة ، وأمره الله بقتل المشتركين من اعتزله ومن لم يعتزله ، إلا الذين قد كان عاهدهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم فتح مكة إلى مدة ، منهم صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، فقال الله عز وجل : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ
--------------------------- 551 ---------------------------
إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، ثم يقتلون حيثما وجدوا .
فهذه أشهر السياحة : عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرة من شهر ربيع الآخر ، فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى أبى بكر وأمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد لا يؤدى عنك إلا رجل منك ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في طلبه فلحقه بالروحاء فأخذ منه الآيات ، فرجع أبو بكر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله أأنزل الله في شئ ؟ قال لا ، إن الله أمرني أن لا يؤدى عنى إلا أنا أو رجل مني . . .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمرني أن أبلغ عن الله أن لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام ، وأقرأ عليهم :
بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ،
فأحل الله للمشركين الذين حجوا تلك السنة أربعة أشهر ، حتى يرجعوا إلى مأمنهم ، ثم يقتلون حيث وجدوا » !
وفى الإرشاد : 1 / 65 : « فركب أمير المؤمنين ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) العضباء وسار حتى لحق أبا بكر ، فلما رآه فزع من لحوقه به واستقبله وقال : فيم جئت يا أبا الحسن أسائر معي أنت أم لغير ذلك ؟ فقال له أمير المؤمنين : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمرني أن ألحقك فأقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم ، وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه . فقال : بل أرجع إليه .
وعاد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلما دخل عليه قال يا رسول الله إنك أهلتنى لأمر طالت الأعناق فيه إلي ، فلما توجهت له رددتني عنه ، ما لي أنزل في قرآن ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لا ، ولكن الأمين هبط إلى عن الله جل جلاله بأنه لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك ، وعلى مني » .
وفى الخصال / 369 : قال على ( عليه السلام ) « فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل منى إرباً لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك
--------------------------- 552 ---------------------------
نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدى لي البغضاء ويظهر الشحناء ، من رجالهم ونسائهم فكان منى في ذلك ما قد رأيتم » .
وفى تفسير العياشي : 2 / 74 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فوافى الموسم فبلغ عن الله وعن رسوله بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار وفى أيام التشريق كلها ، ينادي : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . . . لايطوفن بالبيت عريان . . الخ . خطب على بالناس واخترط سيفه وقال : لايطوفن بالبيت عريان ، ولا يحجن بالبيت مشرك ولا مشركة . . » .
وفى الإقبال : 2 / 39 : « وصعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب ، فأذن ثلاث مرات : ألا تسمعون يا أيها الناس أنى رسول رسول الله إليكم ثم قال : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . . تسع آيات من أولها ، ثم لمع بسيفه فأسمع الناس وكررها ، فقال الناس : من هذا الذي ينادى في الناس ؟ فقالوا : علي بن أبي طالب ، وقال من عرفه من الناس : هذا ابن عم محمد ، وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمد . فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادى بذلك ، ويقرأ على الناس غدوةً وعشية ، فناداه الناس من المشركين : أبلغ ابن عمك أن ليس له عندنا إلا ضرباً بالسيف وطعناً بالرماح » !
وفى المناقب : 1 / 392 والإقبال : 2 / 41 : عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنه عندما تلا عليهم : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . « قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك ، فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح وإن شئت بدأنا بك ! فقال على ( عليه السلام ) : أجل أجل إن شئت هلموا ! ثم قال : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيرُ مُعْجِزِى اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ » .
أقول : غضب جماعة أبى بكر من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سحب منه سورة براءة ، فقالوا إنه بعثه أميراً على الحج وذهب على بالسورة معه ! فقد روى ابن كثير في سيرته : 4 / 72 ، عن أحمد بن حنبل : « لما أردف أبا بكر بعلى فأخذ منه الكتاب بالجحفة رجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ قال : لا ولكن جبريل جاءني فقال لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك . وهذا ضعيف الإسناد ومتنه فيه نكارة والله أعلم » .
--------------------------- 553 ---------------------------
وعدَّ صاحب الغدير « رحمه الله » : 6 / 338 أكثر من ستين من علمائهم ، أوردوا الحديث ولم يطعنوا فيه كما فعل ابن كثير ! وينبغي التذكير بأن المشركين حجوا في السنة الثامنة وحدهم وحج بالمسلمين أمير مكة من قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) عتاب بن أسيد ، وفى السنة التاسعة لم يرو أي توثيق لحج أبى بكر بالمسلمين ، ولكنهم جعلوه أميراً على الحج وعلى على ( عليه السلام ) ! ومن الطبيعي عندما ذهب على ( عليه السلام ) أن يكون أميراً للحج ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يؤمِّر عليه أحداً أبداً ، بينما أمَّر على أبى بكر وعمر ، عمرو بن العاص .
ويظهر أن كذبتهم ظهرت في زمن الإمام الباقر ( عليه السلام ) فقال : « إنكم لتجعلون لآل أبى بكر شيئاً ما كان ! تقولون : إن أبا بكر أمَّ الناس عام براءة وما أمَّهم إلا علي » .
مناقب أمير المؤمنين « عليه السلام » لمحمد بن سليمان : 1 / 474 .
هذا ، وقد روينا بسند صحيح « أمالي الطوسي / 343 » : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما أسرى بي إلى السماء ، ثم من سماء إلى سماء ثم إلى سدرة المنتهي ، أوقفت بين يدي ربي عز وجل فقال لي : يا محمد . فقلت : لبيك ربى وسعديك . قال : قد بلوتَ خلقي فأيهم وجدت أطوع لك ؟ قال قلت : رب علياً . قال : صدقت يا محمد فهل اتخذت لنفسك خليفة يؤدى عنك ويعلم عبادي من كتابي ما لا يعلمون ؟ قال قلت : إختر لي فإن خيرتك خير لي . قال : قد اخترت لك علياً فاتخذه لنفسك خليفةً ووصياً فإني قد نحلته علمي وحلمى وهو أمير المؤمنين حقاً ، لم يقلها أحد قبله ولا أحد بعده . يا محمد على راية الهدى وإمام من أطاعني ونور أوليائي ، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين . من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني ، فبشره بذلك يا محمد » .
وكشف اليقين / 278 ، عن مناقب الخوارزمي .
- *
--------------------------- 554 ---------------------------
الفصل الثامن والستون
السنة التاسعة للهجرة : عام الوفود
1 - وفادة قبائل العرب إلى رسول الله « صلى الله عليه وآله »
قال اليعقوبي : 2 / 79 : « وقدمت عليه وفود العرب ولكل قبيلة رئيس يتقدمهم . فقدمت مزينة ورئيسهم خزاعي بن عبد نهم ، وأشجع ورئيسهم عبد الله بن مالك ، وأسلم ورئيسهم بريدة ، وسليم ورئيسهم وقاص بن قمامة ، وبنو ليث ورئيسهم الصعب بن جثامة ، وفزارة ورئيسهم عيينة بن حصن ، وبنو بكر ورئيسهم عدى بن شراحيل ، وطئ ورئيسهم عدى بن حاتم ، وبجيلة ورئيسهم قيس بن غربة ، والأزد ورئيسهم صرد بن عبد الله ، وخثعم ورئيسهم عميس بن عمرو ، ووفد نفر من طيئ ورئيسهم زيد بن مهلهل وهو زيد الخيل ، وبنو شيبان . وعبد القيس ورئيسهم الأشج العصري ، ثم وفد الجارود بن المعلى فولاه رسول الله على قومه ، وأوفدت ملوك حمير بإسلامهم وفوداً وهم : الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وكتبوا إليه بإسلامهم فبعث إليهم معاذ بن جبل ، وعكل ورئيسها خزيمة بن عاصم ، وجذام ورئيسها فروة بن عمرو ، وحضرموت ورئيسها وائل بن حجر الحضرمي ، والضباب ورئيسها ذو الجوشن ، وبنو أسد ورئيسها ضرار بن الأزور وقيل نقادة بن العايف ، وعامر بن الطفيل في بنى عامر فرجع ولم يسلم ، وأربد ابن قيس رجع ولم يسلم ، وبنو الحارث بن كعب ورئيسهم يزيد بن عبد المدان ، وبنو تميم وعليهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم ومالك بن
--------------------------- 555 ---------------------------
نويرة ، وبنو نهد وعليهم أبو ليلى خالد بن الصقعب ، وكنانة ورئيسهم قطن وأنس ابنا حارثة من بنى عليم ، وهمدان ورئيسهم ضمام بن مالك ، وثمالة والحدان فخذ من الأزد ورئيسهم مسلمة بن هزان الحداني ، وباهلة ورئيسهم مطرف بن كاهن الباهلي ، وبنو حنيفة ومعهم مسيلمة بن حبيب الحنفي ، ومراد ورئيسهم فروة بن مسيك ، ومهرة ورئيسهم مهرى بن الأبيض » .
وقال ابن هشام : 4 / 985 : « قال ابن إسحاق : لما افتتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت ، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه . قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع وأنها كانت تسمى سنة الوفود .
قال ابن إسحاق : وإنما كانت العرب تربَّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم ، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم « عليهما السلام » وقادة العرب لا ينكرون ذلك . وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخلافه ، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوخها الإسلام ، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا عداوته ، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجاً ، يضربون إليه من كل وجه ، يقول الله تعالى لنبيه : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيتَ النَّاسَ يدْخُلُونَ فِى دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَابًا . أي فاحمد الله على ما أظهر من دينك ، واستغفره إنه كان توابا » .
وقال ابن سعد في الطبقات : 1 / 291 - 359 : « ذكر وفادات العرب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وفد مزينة . وفد أسد . وفد تميم . وفد عبس . وفد فزارة . وفد مرة . وفد ثعلبة . وفد محارب . وفد سعد بن بكر . وفد كلاب . وفد رؤاس بن كلاب . وفد عقيل بن كعب . وفد جعدة . وفد قشير بن كعب . وفد بنى البكاء . وفد كنانة . وفد بنى عبد بن عدي . وفد أشجع . وفد باهلة . وفد سليم . وفد هلال بن عامر . وفد عامر بن صعصعة . وفد ثقيف . وفود ربيعة عبد القيس . وفد بكر بن وائل . وفد تغلب . وفد حنيفة .
--------------------------- 556 ---------------------------
وفد شيبان . وفادات أهل اليمن وفد طئ . وفد تجيب . وفد خولان . وفد جعفي .
وفد صداء . وفد مراد . وفد زبيد . وفد كندة . وفد الصدف . وفد خشين . وفد سعد هذيم .
وفد بلي . وفد بهراء . وفد عذرة . وفد سلامان . وفد كلب . وفد جرم .
وفد الأزد . وفد غسان . وفد الحارث بن كعب . وفد همدان . وفد سعد العشيرة . وفد عنس . وفد الداريين . وفد الرهاويين حي من مذحج . وفد غامد .
وفد النخع . وفد بجيلة . وفد خثعم . وفد الأشعرين . وفد حضرموت . وفد أزد عمان .
وفد غافق . وفد بارق . وفد دوس . وفد ثمالة والحدان . وفد أسلم . وفد جذام .
وفد مهرة . وفد حمير . وفد نجران . وفد جيشان . وفد أسباع » .
2 - ملاحظات حول الوفود إلى النبي « صلى الله عليه وآله »
1 . لا شك في أن حركة الوفود إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانت واسعة من أنحاء الجزيرة واليمن والشام ، وكانت رسالة قوية إلى كل المعارضين والمنافقين داخل الدولة الإسلامية ، والى هرقل وقادة الفرس ، بأن الإسلام أمر واقع فرض نفسه في دولة قوية ، وخضعت له كل القوى التي حاربته ، بل كان ذلك رسالة لهم بأن المد الإسلامي قادم إلى بلاد الفرس والروم ، لا محالة .
2 . كانت جمهرة الوفود في السنة التاسعة بعد تبوك ، وتأخر عدد منها إلى السنة العاشرة والحادية عشرة ، كما كانت أوائلها قبل السنة التاسعة .
قال في الصحيح من السيرة : 7 / 135 : « وهذه الوفود وإن كانت قد ظهرت على نطاق واسع سنة تسع من الهجرة ، أي بعد فتح مكة وكسر شوكة قريش والقضاء على جبروتها ، ولكن بدء هذه الوفود ولو بصورة محدودة في السنة الخامسة ، يدلل على وجود تحول حقيقي في ميزان القوى في المنطقة ، ثم في نظرة الناس للإسلام والمسلمين ، وحساباتهم الدقيقة وتصوراتهم فيما يختص بالتعامل معه كقوةٍ جديدة في المنطقة ، وكدينٍ جديد أيضاً » .
3 . كانت الوفود تأتى بحرية تامة ، فلم يفِدْ أحدٌ إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مجبراً ، ولا يعتبر الجو
--------------------------- 557 ---------------------------
العام إجباراً . ولذا كان في الوفود من جاء لإبرام الصلح ، أو لحل مشكلة كانت له مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أراد أن يعفو عنها ، وبعضهم جاء ليناظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويثبت له خطأه فكان يناقش النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشدة وسوء أدب ! وبعضهم جاء يطلب منه أن يجعله خليفته ويجعل له الأمر بعده لكي يسلم . وبعضهم كان مسلماً وجاء ليؤكد إسلامه ، أو ليتبرك بزيارة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
3 . صارت الوفادة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومجرد مشاهدته والسلام عليه ، تاريخاً وفخراً للقبائل وأفرادها ، لذلك انفتح باب الادعاء والكذب والتضخيم ، في أصل الوفد وفيما قالوه وقاله لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وفيما أعطاهم وكتب لهم ! وأطلق بعضهم خياله في الكذب ، مثل في تميم الذي زعم أنه وفد مع بعض الداريين فكتب لهم النبي ( صلى الله عليه وآله )
قرى من الشام قبل فتحها ، ومثل أبى رزين العقيلي الذي زعم أنه وفد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله )
عن قبيلة المنتفق ، وروى أحاديث التجسيم .
4 . اهتم رواة السيرة بالوفود فأطالوا فيها ، وقال ابن حجر عن ابن سعد : « وقد عقد محمد بن سعد في الترجمة النبوية من الطبقات للوفود باباً ، وذكر فيه القبائل من مضر ثم من ربيعة ثم من اليمن ، وكاد يستوعب ذلك بتلخيص حسن ، وكلامه أجمع ما يوجد في ذلك » . فتح الباري : 8 / 76 .
وكتب فيها صاحب الصحيح من السيرة نحو مجلدين : 27 / 75 و 28 واخترنا منها نماذج لأهميتها أو أهمية ما تضمنته من دلالات .
3 - عدى بن حاتم الطائي
في الصحيح من السيرة : 28 / 69 ملخصاً : « في سنة تسع جاء وفد طئ ، وقالوا : كانوا خمسة عشر رجلاً ، رأسهم وسيدهم زيد الخيل بن مهلهل من بنى نبهان ، وفيهم وزر بن جابر بن سدوس ، وقبيصة بن الأسود بن عامر ، من جرم طئ ، ومالك بن عبد الله بن خيبري من بنى معن ، وقعين بن خليف من جديلة ، ورجل من بنى بولان . فدخلوا المدينة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المسجد فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد ، ثم دخلوا فدنوا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعرض عليهم الإسلام فأسلموا
--------------------------- 558 ---------------------------
وحسن إسلامهم ، وأجازهم بخمس أواق فضة كل رجل منهم ، وأعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشاً . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما ذكر رجل من العرب إلا رأيته دون ما ذكر لي إلا ما كان من زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه . وسماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زيد الخير ، وقطع له فيد وأرضين وكتب له بذلك كتاباً ، ورجع مع قومه . وفى لفظ : فخرج به من عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) راجعاً إلى قومه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن ينجُ زيد من حمى المدينة فإنه ، أي فإنه قد نال مراده أو نحو ذلك . فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له فردة ، أصابته الحمى بها فمات هناك ، وعمدت امرأته بجهلها وقلة عقلها إلى ما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كتب له به فحرقته بالنار » !
وعن أبي سعيد الخدري : أن علياً ( عليه السلام ) بعث إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها ، فقسمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين أربعة نفر : عيينة بن بدر ، وأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، وعلقمة بن غيلان .
وقد انتقد صاحب الصحيح مدحهم لزيد الخيل بن المهلهل وقال : « لا ندري ما الذي لفت نظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) في شخصية زيد حتى قال : ما ذكر رجل من العرب إلا رأيته دون ما ذكر لي إلا ما كان من زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه ! هل رآه متميزاً بعلمه أم بأخلاقه أم بشجاعته أم بعقله ، أم بضخامة جثته ؟ !
إنا لم نجد في التاريخ ما يشير إلى امتيازه في شئ من ذلك ، فكيف إذا رأيناه لا يرضى بالإسلام ديناً حتى اعتبره النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المؤلفة قلوبهم كما روته صحاحهم ، مما يعنى أن هذا الثناء مكذوب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! وهو أصح عندهم من حديث مدحه فلماذا تركوا الحديث الصحيح وأخذوا بالضعيف » !
وفى إعلام الوري : 1 / 251 : « ذكر محمد بن إسحاق : أن عدى بن حاتم فرَّ ، وأن خيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أخذوا أخته فقدموا بها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنه من عليها وكساها وأعطاها نفقة فخرجت مع ركب حتى قدمت الشام وأشارت على أخيها بالقدوم ، فقدم وأسلم وأكرمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأجلسه على وسادة رمى بها إليه بيده » . وقد تقدم ذلك في غزوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لبلاد طئ .
--------------------------- 559 ---------------------------
4 - وفد عبد القيس من هَجَر
في الخصال / 416 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذ ورد عليه وفد عبد القيس فسلموا ، ثم وضعوا بين يديه جلَّة تمر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أصدقةٌ أم هدية ؟ قالوا : بل هديةٌ يا رسول الله ، قال : أي تمراتكم هذه ؟ قالوا : البَرْني . فقال : إن هذا جبرئيل يخبرني أن فيه تسع خصال : يطيب النكهة ، ويطيب المعدة ، ويهضم الطعام ، ويزيد في السمع والبصر ويقوى الظهر ، ويخبل الشيطان ، ويقرب من الله عز وجل ويباعد من الشيطان » .
وفى الخرائج : 1 / 107 : « قال : إئتونى بتمر أرضكم مما معكم . فأتاه كل واحد منهم بنوع منه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : هذا يسمى كذا ، وهذا يسمى كذا . قالوا : أنت أعلم بتمر أرضنا منا ! فوصف لهم أرضهم فقالوا : دخلتها ؟ قال : لا ولكن فسح لي فنظرت إليها ! فقام رجل منهم فقال : يا رسول الله هذا خالى وبه خبل . فأخذ بردائه وقال : أُخرج يا عدو الله ثلاثاً ثم أرسله ، فبرئ . فأتوه بشاة هرمة فأخذ إحدى أذنيها بين إصبعيه فصار لها ميسماً ، ثم قال : خذوها فإن هذا ميسم في آذان ما تلد إلى يوم القيامة ، فهي تتوالد كذلك » !
وفى الصحيح من السيرة : 27 / 309 ، ملخصاً : « رووا أنه بينما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحدث أصحابه إذ قال لهم : سيطلع عليكم من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق .
وفى حديث البيهقي : فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبِّل يد رسول الله ورجله ، وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عيبته فلبس ثوبيه فأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما ثم جاء يمشى حتى أخذ بيد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقبَّلها وكان رجلاً دميماً ، فلما نظر ( صلى الله عليه وآله ) إلى دمامته ، قال : إنه لا يسْتَقَى في مُسُوك الرجال ، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه . قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم والأناة . قال : يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلنى عليهما ؟ قال : بل الله تعالى جبلك عليهما . قال : الحمد لله الذي جبلنى على
--------------------------- 560 ---------------------------
خَلَّتين يحبهما الله تعالى ورسوله . وقال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا معشر عبد القيس ما لي أرى وجوهكم قد تغيرت ؟ قالوا : يا نبي الله نحن بأرض وخمة ، وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا ، فلما نهيتنا عن الظروف ، فذلك الذي ترى في وجوهنا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الظروف لا تُحلّ ولا تُحرم ولكن كل مسكر حرام ، وليس أن تجلسوا فتشربوا حتى إذا ثملت العروق تفاخرتم ، فوثب الرجل على ابن عمه بالسيف فتركه أعرج . قال : وهو يومئذ في القوم الأعرج الذي أصابه ذلك !
وعن ابن عباس قال : إن أول جُمعة جُمعت بعد جُمعة في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين . وعن نوح بن مخلد : أنه أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو بمكة فسأله ممن أنت ؟ فقال : أنا من بنى ضبيعة بن ربيعة . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : خير ربيعة عبد القيس ، ثم الحي الذي أنت منهم . وكانت لهم وفادتان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) إحداهما سنة ست أو خمس ، والثانية سنة تسع أو بعدها ، وكان عدد الوفد أربعين رجلاً . كتب النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى العلاء بن الحضرمي في البحرين أن يقدم عليه عشرون رجلاً منهم ، فقدموا عليه ورأسهم عبد الله بن عوف الأشج ، فشكى الوفد العلاء بن الحضرمي فعزله النبي ( صلى الله عليه وآله ) وولى أبان بن سعيد ، وأوصاه بعبد القيس خيراً . وقد نصرت عبد القيس أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في حروبه ، لا سيما أبناء صوحان : صعصعة ، وزيد ، وسيحان ، وعمرو . . . وقد اشتهروا بالفصاحة والخطابة والشعر وقيل كان لصحار بن العباس العبدي كتاب : الأمثال » .
5 - الجارود بن المنذر من عبد القيس
قال الجوهري في مقتضب الأثر / 31 : « ومن أتقن الأخبار المأثورة وغريبها وعجيبها ، ومن المصون المكنون في أعداد الأئمة « عليهم السلام » وأسمائهم من طريق العامة مرفوعاً ، وهو خبر الجارود بن المنذر وإخباره عن قس بن ساعدة . حدثني الجارود بن المنذر العبدي وكان نصرانياً فأسلم عام الحديبية وحسن إسلامه ، وكان قارياً للكتب ، عالماً بتأويلها على وجه الدهر وسالف العصر ، بصيراً بالفلسفة والطب ، ذا رأى أصيل ووجه
--------------------------- 561 ---------------------------
جميل ، أنشأ يحدثنا في إمارة عمر بن الخطاب قال : وفدت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في رجال من عبد القيس ، ذوى أحلام وأسنان وفصاحة وبيان ، وحجة وبرهان ، فلما بصروا به ( صلى الله عليه وآله ) راعهم منظره ومحضره ، وأفحموا عن بيانهم واعتراهم العرواء في أبدانهم ! فقال زعيم القوم لي : دونك من أقمت بنا أممه ، فما نستطيع أن نكلمه ! فاستقدمت دونهم إليه فوقفت بين يديه ( صلى الله عليه وآله ) وقلت : السلام عليك يا نبي الله بأبى أنت وأمي ثم أنشأت أقول :
يا نبي الهدى أتتك رجالٌ * قطعت قرددا وآلاً فآلا
جابت البيد والمهامهَ حتى * غالها من طوى السرى ما غالا
قطعت دونك الصحاصح تهوي * لا تعد الكلال فيك كلالا
كل دهناء تقصر الطرف عنها * أرقلتها قلاصنا إرقالا
خصك الله يا ابن آمنة الخير * إذا ما تلت سجال سجالا
أنبأ الأولون باسمك فينا * وبأسماء بعده تتلألأ
قال : فأقبل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصفحة وجهه المبارك وشِمْتُ منه ضياء لامعاً ساطعاً كوميض البرق فقال : يا جارود لقد تأخر بك وبقومك الموعد ، وقد كنت وعدته قبل عامي ذلك أن أفد إليه بقومى فلم آته وأتيته في عام الحديبية ، فقلت : يا رسول الله ! بنفسي أنت ما كان إبطائى عنك إلا أن جلة قومي أبطأوا عن إجابتي حتى ساقها الله إليك لما أراد لها من الخير لديك . وقد كنت على دين النصرانية قبل أن آتى إليك الأولى فها أنا تاركه بين يديك إذ ذلك مما يعظم الأجر ، ويمحو المآثم والحوب ، ويرضى الرب عن المربوب .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنا ضامن لك يا جارود ! قلت : أعلم يا رسول الله أنك بذلك ضمين قمين . قال : فَدِنْ الآن بالوحدانية ودع عنك النصرانية ، قلت : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك عبده ورسوله ، ولقد أسلمت على علم بك وبناء فيك علمته من قبل . فتبسم ( صلى الله عليه وآله ) كأنه علم ما أردته من
--------------------------- 562 ---------------------------
الأنباء فيه فأقبل على وعلى قومي فقال : أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي ؟
قلت : يا رسول الله كلنا نعرفه غير أنى من بينهم عارف بخبره ، واقف على أثره : كان قس بن ساعدة يا رسول الله سبطاً من أسباط العرب ، عمِّر خمس مائة عام ، تقفَّر منها في البراري خمسة أعمار ، يضج بالتسبيح على منهاج المسيح ، لا يقره قرار ولا يكنه جدار ، ولا يستمتع منه جار ، لا يفتر من الرهبانية ، ويدين الله بالوحدانية ، يلبس المسموح ، ويتحسى في سياحته بيض النعام ، بالنور والظلام ، يبصر فيعتبر ، ويتفكر فيختبر ، تضرب بحكمته الأمثال ، أدرك رأس الحواريين شمعون ، وأدرك لوقا ويوحنا وأمثالهم ، ففقه كلامهم ونقل منهم ، تحوَّبَ الدهر وجانَبَ الكفر ، وهو القائل بسوق عكاظ وذى المجاز : شرقٌ وغرب ، ويابسٌ ورطب ، وأجاجٌ وعذب ، وحبٌّ ونبات ، وجمعٌ وأشتات ، وذهابٌ وممات ، وآباءٌ وأمهات ، وسرورُ مولود ، ورزء مفقود . تباً لأرباب الغفلة ، لِيصلحنَّ العامل عمله قبل أن يفقد أجله ، كلا بل هو الله الواحد ليس بمولود ولا والد ، أمات وأحيا ، وخلق الذكر والأنثي ، وهو رب الآخرة والأولي . . ثم صاح : يا معاشر أياد : أين ثمود ، وأين عاد ، وأين الآباء والأجداد ، وأين العليل والعواد ، وأين الطالبون والرواد ، وكل له معاد .
قلت : يا رسول الله لقد شهدت قساً خرج من ناد من أندية أيد ، إلى صحصح ذي قتاد ، وصمرة وعتاد ، وهو مشتمل بنجاد ، فوقف في أضحيان ليل كالشمس ، رافعاً إلى السماء وجهه وإصبعه ، فدنوت منه وسمعته يقول :
اللهم رب هذه السبعة الأرقعة ، والأرضين الممرعة ، وبمحمد والثلاثة المحامدة معه ، والعليين الأربعة ، وسبطيه النبعة ، والأرفعة الفرعة ، والسري اللامعة ، وسمى الكليم الضرعة ، والحسن ذي الرفعة ، أولئك النقباء الشفعة ، والطريق المهيعة ، درسة الإنجيل ، وحفظة التنزيل ، على عدد النقباء من بني إسرائيل ، محاة الأضاليل ونفاة الأباطيل ، الصادقو القيل ، عليهم تقوم الساعة ، وبهم تنال الشفاعة ولهم من الله تعالى فرض الطاعة .
اللهم ليتني مدركهم ولو بعد لأي من عمرى ومحياي . ثم آب يكفكف دمعه ويرن
--------------------------- 563 ---------------------------
رنين البكرة ، وقد بريت ببراة وهو يقول :
أقسمَ قِسٌّ قسما * ليس به مكتتما
لو عاش ألفي عمر * لم يلق منها سأما
حتى يلاقى أحمداً * والنقباء الحكما
هم أوصياء أحمدٍ * أكرم من تحت السما
يعمى العباد عنهم * وهم جلاء للعمي
لست بناس ذكرهم * حتى أحُلَّ الرجما
ثم قلت : يا رسول الله أنبئني أنبأك الله بخير عن هذه الأسماء التي لم نشهدها وأشهدنا قس ذكرها ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا جارود ليلة أسرى بي إلى السماء أوحى الله عز وجل إلى أن سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بعثوا ؟ فقلت : على ما بعثتم ؟ فقالوا : على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما . ثم أوحى إلى أن التفت عن يمين العرش ، فالتفت فإذا على والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسي ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، والمهدى في ضحضاح من نور يصلون ، فقال لي الرب تعالي : هؤلاء الحجج لأوليائي ، وهذا المنتقم من أعدائي . قال الجارود : فانصرفت بقومى وقلت في وجهتي إلى قومي :
أتيتك يا ابن آمنة الرسولا * لكي بك أهتدى النهج السبيلا
فقلت وكان قولك قول حق * وصدق ما بدالك أن تقولا
وبصرت العمى من عبد قيس * وكل كان من عمه ضليلا
وأنبأناك عن قس الأيادي * مقالاً فيك ظلت به جديلا
وأسماء عمت عنا فآلت * إلى علم وكنت به جهولا » .
ورواه أبو الفتح في الإستنصار / 34 ، كنز الفوائد / 256 ، المناقب : 1 / 245 ، والصراط المستقيم : 2 / 239 .
--------------------------- 564 ---------------------------
6 - أشهر وفود اليمن
في الغيبة للنعماني / 46 ، عن جابر الأنصاري قال : « وفد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أهل اليمن فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : جاءكم أهل اليمن يبسون بسيساً « يسوقون إبلهم سوقاً سريعاً » فلما دخلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : قوم رقيقة قلوبهم ، راسخ إيمانهم ، منهم المنصور يخرج في سبعين ألفاً ينصرخلفى وخلف وصيي ، حمائل سيوفهم المسك ! [ المسد ] فقالوا : يا رسول الله ومن وصيك ؟ فقال : هو الذي أمركم الله بالاعتصام به فقال عز وجل : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا . فقالوا : يا رسول الله ، بين لنا ما هذا الحبل ؟ فقال : هو قول الله : إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ، فالحبل من الله كتابه والحبل من الناس وصيي . فقالوا : يا رسول الله ، من وصيك ؟ فقال : هو الذي أنزل الله فيه : أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ! فقالوا : يا رسول الله وما جنب الله هذا ؟ فقال : هو الذي يقول الله فيه : وَيوْمَ يعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يدَيهِ يقُولُ يا لَيتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً . هو وصيي ، والسبيل إلى مِن بعدي !
فقالوا : يا رسول الله بالذي بعثك بالحق نبياً أرناه فقد اشتقنا إليه . فقال : هو الذي جعله الله آية للمؤمنين المتوسمين ، فإن نظرتم إليه نظر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عرفتم أنه وصيي كما عرفتم أنى نبيكم ، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه ، فمن أهوت إليه قلوبكم فإنه هو ، لأن الله عز وجل يقول في كتابه : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيهِمْ ، أي : إليه وإلى ذريته .
ثم قال : فقام أبو عامر الأشعري في الأشعريين ، وأبو غرة الخولاني في الخولانيين ، وظبيان وعثمان بن قيس في بنى قيس ، وعرنة الدوسي في الدوسيين ولاحق بن علاقة ، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه ، وأخذوا بيد الأصلع البطين وقالوا : إلى هذا أهوت أفئدتنا يا رسول الله . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنتم نجبة الله حين عرفتم وصى رسول الله ، قبل أن تعرفوه فبم عرفتم أنه هو ؟ فرفعوا أصواتهم يبكون ويقولون : يا رسول الله نظرنا إلى القوم فلم تحن لهم قلوبنا ، ولما رأيناه رجفت قلوبنا ، ثم اطمأنت نفوسنا وانجاشت أكبادنا وهملت أعيننا ، وانثلجت صدورنا ، حتى كأنه لنا أب ونحن
--------------------------- 565 ---------------------------
له بنون ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : وَمَا يعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ ! أنتم منهم بالمنزلة التي سبقت لكم بها الحسني ، وأنتم عن النار مبعدون . قال : فبقى هؤلاء القوم المسمون حتى شهدوا مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الجمل وصفين فقتلوا في صفين رحمهم الله . وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشرهم بالجنة ، وأخبرهم أنهم يستشهدون مع علي
بن أبي طالب ( عليه السلام ) » .
وفى الكافي : 6 / 417 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من اليمن قوم فسألوه عن معالم دينهم فأجابهم ، فخرج القوم بأجمعهم فلما ساروا مرحلة قال : بعضهم لبعض : نسينا أن نسأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عما هو أهم إلينا .
ثم نزل القوم ثم بعثوا وفداً لهم فأتى الوفد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا رسول الله إن القوم بعثوا بنا إليك يسألونك عن النبيذ ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وما النبيذ ، صِفُوُه لي ؟ فقالوا : يؤخذ من التمر فينبذ في إناء ثم يصب عليه الماء حتى يمتلئ ويوقد تحته حتى ينطبخ ، فإذا انطبخ أخذوه فألقوه في إناء آخر ، ثم صبوا عليه ماء ، ثم يمرس ، ثم صَفَّوْه بثوب ، ثم يلقى في إناء ، ثم يصب عليه من عكر ما كان قبله ، ثم يهدر ويغلي ، ثم يسكن على عكرة . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا هذا قد أكثرت أفيسكر ؟ قال : نعم ، قال : فكل مسكر حرام !
قال : فخرج الوفد حتى انتهوا إلى أصحابهم فأخبروهم بما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال القوم : إرجعوا بنا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى نسأله عنها شفاهاً ولا يكون بيننا وبينه سفير ، فرجع القوم جميعاً فقالوا : يا رسول الله إن أرضنا أرض دوية ونحن قوم نعمل الزرع ولا نقوى على العمل إلا بالنبيذ ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : صفوه لي فوصفوه له كما وصف أصحابهم فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أفيسكر ؟ فقالوا : نعم . فقال : كل مسكر حرام ، وحق على الله أن يسقى شارب كل مسكر من طينة خبال ، أفتدرون ما طينة خبال ؟ قالوا : لا ، قال : صديد أهل النار » .
--------------------------- 566 ---------------------------
7 - السائب الأشعري جد الأشعريين القميين
في رجال النجاشي / 81 : « أحمد بن محمد بن عيسى . وأول من سكن قم من آبائه سعد بن مالك بن الأحوص ، وكان السائب بن مالك وفد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهاجر إلى الكوفة وأقام بها . وذكر بعض أصحاب النسب : أن في أنساب الأشاعرة أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد الله بن سعد بن مالك بن هانئ بن عامر بن أبي عامر الأشعري ، واسمه عبيد ، وأبو عامر له صحبة . وقد رُوى أنه لما هزم هوازن يوم حنين عقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأبى عامر الأشعري على خيل فقتل ، فدعا له فقال : اللهم أعط عبيدك عبيداً أبا عامر ، واجعله في الأكبرين يوم القيامة » .
8 - الرجل اليماني المجادل السخي
في الكافي : 4 / 39 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفد من اليمن وفيهم رجل كان أعظمهم كلاماً ، وأشدهم استقصاء في محاجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى التوى عرق الغضب بين عينيه ، وتربد وجهه وأطرق إلى الأرض ، فأتاه جبرئيل فقال : ربك يقرؤك السلام ويقول لك : هذا رجل سخى يطعم الطعام . فسكن عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) الغضب ورفع رأسه ، وقال له : لولا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك سخى تطعم الطعام ، لشردت بك وجعلتك حديثاً لمن خلفك ! فقال له الرجل : وإن ربك ليحب السخاء ؟ فقال : نعم . فقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا رددتُ من مالي أحداً » !
9 - عمرو بن معدى كرب الفارس المشهور
في إعلام الوري : 1 / 251 : « قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمرو بن معدى كرب وأسلم ثم نظر إلى أبي بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته وأدناه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أعْدُنى على هذا الفاجر الذي قتل والدي ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية ! فانصرف عمرو مرتداً وأغار على قوم من بنى الحارث بن كعب ، فأنفذ رسول الله علياً ( عليه السلام ) إلى بنى زبيد » .
--------------------------- 567 ---------------------------
أقول : تقدم في فتح اليمن أن علياً ( عليه السلام ) جعل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص ، وبارز على ( عليه السلام ) عمرو بن معديكرب وصرخ به صرخة فهرب ! وأخضع قبيلة زبيد وولى على المنطقة خالد بن سعيد وتوغل في فتح اليمن .
« قالوا لخالد : والله لقد دخلنا فيما دخل فيه الناس وصدقنا بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) وخلينا بينك وبين صدقات أموالنا ، وكنا لك عوناً على من خالفك من قومنا .
قال خالد : قد فعلتم ؟ قالوا : فأوفد منا نفراً يقدمون على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويخبرونه بإسلامنا ويقبسونا منه خيراً .
فقال خالد : ما أحسن ما عدتم إليه وأنا أجيبكم ، ولم يمنعني أن أقول لكم هذا إلا أنى رأيت وفود العرب تمر بكم فلا يهيجنكم ذلك على الخروج ، فساءنى ذلك منكم حتى ساء ظني فيكم ، وكنتم على ما كنتم عليه من حداثة عهدكم بالشرك ، فحسبت أن لا يكون الإسلام راسخاً في قلوبكم » . الصحيح من السيرة : 28 / 158 .
10 - وفد قبيلة النخع إلى النبي « صلى الله عليه وآله »
بعثت قبيلة النخع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وافدين عنها بإسلامها هما : أرطأة بن شراحيل بن كعب ، والجهيش ، واسمه الأرقم من بنى بكر بن عوف بن النخع ، فخرجا حتى قدما على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعرض عليهما الإسلام فقبلاه وبايعاه على قومهما فأعجب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شأنهما وحسن هيئتهما فقال : هل خلفتما وراءكما قومكما مثلكما ؟ فقالا : يا رسول الله قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلاً كلهم أفضل منا ، وكلهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء ، ما يشاركوننا في الأمر إذا كان .
فدعا لهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولقومهما بخير وقال : اللهم بارك في النخع . وعقد لأرطأة لواء على قومه وكتب له كتاباً ، فكان في يده يوم الفتح .
وقدموا من اليمن للنصف من المحرم سنة إحدى عشرة وهم مائتا رجل ، فنزلوا دار رملة بنت الحدث ، ثم جاؤوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقرين بالإسلام ،
--------------------------- 568 ---------------------------
وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل باليمن ، فكان فيهم زرارة بن عمرو ، فقال : يا رسول الله إني رأيت في سفري هذا رؤيا هالتني ! قال : وما رأيت ؟ قال : رأيت أتاناً تركتها في الحي كأنها ولدت جدياً أسفع أحوي ! فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هل لك من أمة تركتها مصرة حملاً ؟ قال : نعم تركت أمة لي أظنها قد حملت . قال : فإنها قد ولدت غلاماً وهو ابنك ! فقال : يا رسول الله ما باله أسفع أحوي ؟ قال : أُدن منى فدنا منه فقال : هل بك برص تكتمه ؟ قال : والذي بعثك بالحق نبياً ما علم به أحد ولا اطلع عليه غيرك ! قال : فهو ذلك .
أقول : ترجمنا لمالك الأشتر « رحمه الله » في كتابنا قبيلة النخع ، وأثبتنا صحبته للنبي ( صلى الله عليه وآله ) .
11 - كان النبي « صلى الله عليه وآله » يهدد من يخاف عصيانهم بعلي « عليه السلام »
في أمالي الطوسي / 579 : « عن أبي ذر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد قدم عليه وفد أهل الطائف : يا أهل الطائف ، والله لتقيمن الصلاة ، ولتؤتن الزكاة ، أو لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يقصعكم بالسيف ! فتطاول لها أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأخذ بيد على فأشالها ثم قال : هو هذا . فقال أبو بكر وعمر : ما رأينا كاليوم في الفضل قط » .
« عن عبد الله بن شداد قال : قدم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وفد آل تنوخ من اليمن قال فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة ولتسمعن ولتطيعن أو لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي يقاتل مقاتليكم ويسبى ذراريكم ، اللهم أنا أو كنفسي ، ثم أخذ بيد على ( عليه السلام ) » . مناقب أمير المؤمنين « عليه السلام » لمحمد بن سليمان : 1 / 468 .
« وفى حديث جابر أنه قال لوفد هوازن : أما والذي نفسي بيده ليقيمن الصلاة وليؤتن الزكاة أو لأبعثن إليهم رجلاً وهو منى كنفسي ، فليضربن أعناق مقاتليهم وليسبين ذراريهم ، هو هذا وأخذ بيد على ( عليه السلام ) . فلما أقروا بما شرط عليهم قال : ما استعصى عَلَى أهل مملكة ولا أمةٌ إلا رميتهم بسهم الله علي بن أبي طالب ! ما بعثته في سرية إلا رأيت جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وملكاً أمامه وسحابة تظله حتى يعطى الله حبيبي النصر والظفر !
--------------------------- 569 ---------------------------
وروى الخطيب في الأربعين نحواً من ذلك عن مصعب بن عبد الرحمن أنه قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لوفد ثقيف . . الخبر ، وفى رواية أنه قال مثل ذلك لبنى وليعة » . « المناقب : 2 / 67 » . أما حديث تهديد النبي ( صلى الله عليه وآله ) قريشاً بعلى ( عليه السلام ) ، فمتواتر مشهور .
12 - مالك بن نويرة « رحمه الله » من وفود بنى تميم
في الفضائل لشاذان بن جبرئيل القمي / 75 : « قال البراء بن عازب بينا رسول الله جالس في أصحابه إذا أتاه وافد من بنى تميم مالك بن نويرة ، فقال : يا رسول الله علمني الإيمان . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : تشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله ، وتصلى الخمس ، وتصوم رمضان ، وتؤدى الزكاة وتحج البيت ، وتوالى وصيي هذا من بعدى وأشار إلى علي ( عليه السلام ) بيده ، ولا تسفك دماً ولا تسرق ولا تخون ولا تأكل مال اليتيم ولا تشرب الخمر ، وتوفى بشرائعي ، وتحلل حلالي ، وتحرم حرامي ، وتعطى الحق من نفسك للضعيف والقوي ، والكبير والصغير ، حتى عد عليه شرائع الإسلام .
فقال يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أعد عَلَى فإني رجل نَسَّاء ، فأعاد عليه ، فعقدها بيده وقام وهو يجر إزاره وهو يقول : تعلمت الإيمان ورب الكعبة ، فلما بعد من رسول الله قال ( صلى الله عليه وآله ) : من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا الرجل ! فقال أبو بكر وعمر : إلى من تشير يا رسول الله ؟ فأطرق إلى الأرض ، فجدَّا في السير فلحقاه فقالا : لك البشارة من الله ورسوله بالجنة . فقال : أحسن الله تعالى بشارتكما إن كنتما ممن يشهد بما شهدت به فقد علمتما ما علمني النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وإن لم تكونا كذلك فلا أحسن الله بشارتكما .
فقال أبو بكر : لا تقل فأنا أبو عائشة زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! قال : قلت ذلك ، فما حاجتكما ؟ قالا : إنك من أصحاب الجنة فاستغفر لنا ، فقال : لا غفر الله لكما تتركان رسول الله صاحب الشفاعة ، وتسألاني أستغفر لكما ، فرجعا والكآبة لائحة في وجهيهما ، فلما رآهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تبسم وقال : أفي الحق مغضبة ؟ !
--------------------------- 570 ---------------------------
فلما توفى رسول الله ورجع بنو تميم إلى المدينة ومعهم مالك بنو نويرة فخرج لينظر من قام مقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدخل يوم الجمعة وأبو بكر على المنبر يخطب بالناس فنظر إليه وقال : أخو تيم ؟ ! قالوا : نعم . قال : فما فعل وصى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي أمرني بموالاته ؟ قالوا : يا أعرابي الأمر يحدث بعده الأمر ! قال : بالله ما حدث شئ ، وإنكم قد خنتم الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) !
ثم تقدم إلى أبى بكر وقال : من أرقاك هذ المنبر ووصى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جالس ؟ فقال أبو بكر : أخرجوا الأعرابي البوال على عقبيه من مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) !
فقام إليه قنفذ بن عمير وخالد بن الوليد فلم يزالا يلكزان عنقه حتى أخرجاه ، فركب راحلته وأنشأ يقول :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيا قوم ما شأني وشأن أبى بكر
إذا مات بكر قام عمرٌو ومقامه * فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
يدب ويغشاه العشار كأنما * يجاهد جماً أو يقوم على قبر
فلو قام فينا من قريش عصابة * أقمنا ولكن القيام على جمر
قال : فلما استتم الأمر لأبى بكر وجه خالد بن الوليد وقال له : قد علمت ما قاله مالك على رؤس الأشهاد ، ولست آمن أن يفتق علينا فتقاً لا يلتئم ، فاقتله .
فحين أتاه خالد ، ركب جواده وكان فارساً يعد بألف ، فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثيق ، ثم غدر به بعد أن ألقى سلاحه ، فقتله وأعرس بامرأته في ليلته وجعل رأسه في قدر فيها لحم جزور لوليمة عرسه وبات ينزو عليها نزو الحمار » !
13 - صعصعة بن ناجية جد الفرزدق
في أمالي المرتضي : 4 / 192 : « وفَدَ صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في وفد بنى تميم ، وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية ، فلم يدع تميماً تئد وهو يقدر على ذلك . وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موؤودة ، وفى أخرى ثلاثمائة ، فقال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : بأبى أنت وأمي أوصني . فقال : أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك
--------------------------- 571 ---------------------------
وأدانيك أدانيك . فقال : زدني ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إحفظ ما بين لحييك ورجليك .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : ما شئ بلغني عنك فعلته ؟ فقال : يا رسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب ، غير أنى علمت أنهم ليسوا عليه ، فرأيتهم يئدون بناتهم فعرفت أن ربهم عز وجل لم يأمرهم بذلك ، فلم أتركهم ففديت ما قدرت عليه .
وفى رواية أخرى إن صعصعة لما وفد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فسمع قوله تعالي : فَمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يرَهُ . وَمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يرَهُ . قال : حسبي ، ما أبالي أن لا أسمع من القرآن غير هذا . ويقال إنه اجتمع جرير والفرزدق يوماً عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا ، فقال الفرزدق : أنا ابن محيى الموتى ! فقال له سليمان : أنت ابن محيى الموتى ؟ ! فقال إن جدى أحيا الموؤودة ، وقد قال الله تعالى : وَمَنْ أَحْياهَا فَكأَنَّمَا أَحْيا النَّاسَ جَمِيعاً ، وقد أحيا جدى اثنتين وتسعين موؤودة ، فتبسم سليمان وقال : إنك مع شعرك لفقيه » .
14 - النابغة الجعدي الشاعر المتأله
في أمالي المفيد / 224 : « كان نابغة الجعدي ممن يتأله في الجاهلية ، وأنكر الخمر والسكر ، وهجَر الأوثان والأزلام ، وقال في الجاهلية كلمته التي قال فيها :
الحمد لله لا شريك له من لم يقلها لنفسه ظلما
وكان يذكر دين إبراهيم ( عليه السلام ) والحنيفية ويصوم ويستغفر ، ويتوقى أشياء لغواً فيها ، ووفد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال :
أتيت رسول الله إذ جاء بالهدي * ويتلو كتاباً كالمجرة نُشِّرَا
وجاهدت حتى ما أحس ومن معي * سهيلاً إذا ما لاح ثم تغورا
وصرت إلى التقوى ولم أخش كافراً * وكنت من النار المخوفة أزجرا
وقال : وكان النابغة علوي الرأي ، وخرج بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى صفين ، فنزل ليلة فطاف به وهو يقول :
--------------------------- 572 ---------------------------
قد علم المصران والعراقُ * إن علياً فحلها العتاقُ
أبيض جحجاحٌ له رواقُ * وأمه غالى بها الصداق
أكرم من شد به نطاق * إن الأولى جاروك لا أفاقوا
لكم سباق ولهم سباق * قد علمت ذلكم الرفاق
سقتم إلى نهج الهدى وساقوا * إلى التي ليس لها عراق
في ملة عادتها النفاق
15 - من الوفود المكذوبة وفد تميم الداري
تميم الداري من نصارى بلاد الشام يظهر أنه من داريا قرب دمشق ، كان يعمل مع أقاربه في تجارة الخمر من الشام إلى الجزيرة ، وكان يحدث بقصص أهل الكتاب اليهود والنصاري ، وقد أعلن إسلامه قبيل وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وسكن المدينة .
وكانت ثقافته يهودية وكان يهتم بالأمور الخارقة للعادة والأساطير ، وكان مقرباً من اليهود ومن عمر وكعب الأحبار ، ونشط هو وتلامذته في إشاعة التجسيم والإسرائيليات في عقائد المسلمين !
وكتب له عمر مرسوماً خلافياً أن يقص عن أهل الكتاب يوم السبت في مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وحضر مجلسه احتراماً له وتأييداً ! ثم زاده يوماً آخر في الأسبوع !
فقام تميم بنشر الإسرائيليات والأكاذيب ، كما ترى في حديث الجساسة والدجال في مسلم وغيره من أنه أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن الدجال المحبوس في جزيرة وأنه رآه ! ففرح النبي ( صلى الله عليه وآله ) وصعد المنبر وحدث ببشارة أخيهم تميم عن الدجال ! راجع تدوين القرآن / 444 ، جواهر التاريخ : 1 / 135 وألف سؤال وإشكال : 2 / 112 .
وجعل رواة الخلافة تميماً شخصية صاحب كرامات ! فقال إمامهم الذهبي في سيره : 2 / 445 : « نام ليلة لم يقم يتهجد فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع » !
وفى دلائل البيهقي : 6 / 80 : « خرجت نار بالحرة فجاء عمر إلى تميم فقال : قم إلى هذه النار ، فقال يا أمير المؤمنين ! ومن أنا وما أنا ! قال : فلم يزل به حتى قام معه قال
--------------------------- 573 ---------------------------
وتبعتهما فانطلقا إلى النار فجعل تميم يحوشها بيده حتى دخلت الشعب ودخل تميم خلفها ! قال : فجعل عمر يقول : ليس من رأى كمن لم ير » !
ومن أكاذيب تميم ادعاؤه أنه كان يهدى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) كل عام زق خمر ، فلما حُرمت الخمر لم يأخذها فقال له : خذه وبعه وانتفع بثمنه ! « فتح الباري : 8 / 209 » . مع أن تميماً جاء في السنة التاسعة ، وحُرِّمت الخمر في السنة الثانية !
الدر المنثور : 2 / 317 .
وزعم تميم أنه وفد هو وأقاربه على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكتب لهم إقطاعاً بقرى سيفتحها المسلمون من أرض الشام ! قالوا : قدموا بعد تبوك وهم عشرة نفر منهم : تميم ونُعيم ابنا أوس ، ويزيد بن قيس بن خارجة ، والفاكه بن النعمان بن جَبَلَة ، وأبو هند والطيب ابنا ذر ، وهو عبد الله بن رزين ، وهانئ بن حبيب ، وعزيز ومرة ابنا مالك بن سواد بن جَذِيمَة ، فأسلموا وأهدى هانئ بن حبيب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أفراساً وقباء مخوصاً بالذهب ، فقبل الأفراس والقباء . وقال تميم : لنا جيرة من الروم لهم قريتان يقال لإحداهما : حِبْرَى والأخرى بيت عينون ، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي . قال : فهما لك وكتب له به كتاباً .
فلما قام أبو بكر أعطاه ذلك ، وأقام وفد الداريين حتى توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأوصى لهم بمائة وسق من تمر خيبر !
ونقد صاحب الصحيح : 28 / 59 هذه الروايات ، لأن الإقطاع إنما كان للأرض الموات ونحوها مما هجره أهله ، ولأن بعض نصوص الكتاب الذي زعموه فيه أخطاء نحوية لا تصدر عنه ( صلى الله عليه وآله ) كقوله : إني أنطيكم بيت عينون وجيرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم ، وجميع ما فيهم ! وبعض نصوص الكتاب ذكرت أن من آذى الداريين فقد آذى الله ، وهذا معناه أنهم معصومون لأن غير المعصوم قد يؤذى لمنعه من ارتكاب المعصية أو لأخذ الحق منه فإن كان يحرم إيذاؤه مطلقاً لزم أن يرضى الله
بالمعصية والباطل !
--------------------------- 574 ---------------------------
16 - من الوفود المكذوبة وفد أبى رزين
أبو رزين العقيلي : اسمه لقيط بن عامر أو ابن صبرة . زعم أنه وفد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن قبيلة المنتفق قال : « كنت وافد بنى المنتفق إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلم نجده فأطعمتنا عائشة تمراً وعصدت لنا عصيدة ، إذ جاء رسول الله فقال : هل طعمتم من شئ ؟ قلنا نعم ، فبينا نحن على ذلك ، دفع الراعي الغنم إلى المراح وعلى يده سخلة فقال هل ولدت ؟ قال نعم ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : لا تحسبن أنا ذبحنا الشاة لأجلكم ، لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد عليها إذا ولدت بهمة ذبحنا شاة » ! أسد الغابة : 4 / 266 .
وفى أسد الغابة : 5 / 44 : « ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق قال : فقدمنا المدينة لانسلاخ رجب ، فأتينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين انصرف من صلاة الغداة » . « وفى كنز العمال : 7 / 146 » ، « أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يكره المسائل ويعيبها فإذا سأله أبو رزين أجابه وأعجبه » !
وأكثر ما اشتهر به أبو رزين أحاديث التجسيم ، وأنه سمع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « لَعَمْرُ إلهك ! ويقول : إن الله تعالى يضحك ويظل يضحك ! قلت : يا رسول الله ! أويضحك الرب ؟ قال : نعم ، قلت : لن نعدم من رب يضحك خيراً ! وفى رواية : قلت : يا رسول الله أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق خلقه ؟ قال : كان في عماء . ما تحته هواء وما فوقه هواء . ثم خلق عرشه على الماء » . مسند أحمد : 4 / 11 . وقد نقدنا أحاديثه في الإنتصار : : 2 / 234 وغيره ونقدها صاحب الصحيح : 27 / 223 .
- *
--------------------------- 575 ---------------------------
الفصل التاسع والستون
مباهلة النبي « صلى الله عليه وآله » مع نصارى نجران
1 . نجران العاصمة الدينية للمسيحية في الجزيرة
كانت نجران ولاية تابعة للدولة الرومانية ، يحكمها أسقف من قِبل هرقل مع رؤساء قبائلها ، والمشهور فيهم بنو عبد المدان . وكان ارتباطهم بهرقل وثيقاً فهو يدافع عنهم وينفق عليهم ، وقد بعث لهم بصليب كبير من ذهب .
وفى نجران كانت قصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله تعالى في سورة البروج فقال : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ . وَالْيوْمِ الْمَوْعُودِ . وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ . قُتِلَ أَصْحَابُ الآخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ .
قال القمي في تفسيره : 2 / 413 : « كان سببهم أن الذي هيج الحبشة على غزو اليمن ذو نواس ، وهو آخر من ملك من حمير ، تهوَّد واجتمعت معه حمير على اليهودية وسمى نفسه يوسف ، وأقام على ذلك حيناً من الدهر ، ثم أُخبر أن بنجران بقايا قوم على دين النصرانية ، وكانوا على دين عيسى وعلى حكم الإنجيل ، ورأس ذلك الدين عبد الله بن بريا ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها ، فسار حتى قدم نجران فجمع من كان بها على دين النصرانية ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها فأبوا عليه ، فجادلهم وعرض عليهم وحرص الحرص كله ، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها واختاروا القتل ، فخد لهم أخدوداً جمع فيه الحطب وأشعل فيه النار ، فمنهم
--------------------------- 576 ---------------------------
من أحرق بالنار ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومثَّل بهم كل مثلة ! فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار عشرين ألفاً ، وأفلت رجل منهم يدعى دوس ذو ثعلبان على فرس له وركضه واتبعوه حتى أعجزهم في الرمل ، ورجع ذو نواس إلى ضيعته في جنوده فقال الله : قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ » .
فأمر هرقل عامله ملك الحبشة أن يغزو اليمن ثأراً لشهداء نجران ، فغزا اليمن وهزم ذا نواس الذي ألقى نفسه في البحر وغرق ، وحكموا اليمن إلى زمن سيف بن ذي يزن . قال المسعودي في مروج الذهب : 1 / 89 إن المسيحيين أصحاب الأخدود « كانوا مؤمنين موحِّدين ، لا على رأى النصرانية في هذا الوقت » . لكن أهل نجران تبنوا بعد ذلك عقيدة هرقل في أن المسيح ابن الله .
2 . رسالة النبي « صلى الله عليه وآله » إلى أسقف نجران وأهلها
لما كتب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ملوك العالم بعد الحديبية ، أرسل عتبة بن غزوان ، وعبد الله بن أبي أمية ، والهدير بن عبد الله ، وصهيب بن سنان ، إلى نجران وحواشيها ، وكتب معهم إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى رفض الأقانيم والأنداد والالتزام بالتوحيد وعبادة الله تعالى . ونص كتابه ( صلى الله عليه وآله ) كما يلي : « باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب . من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران : أسلمٌ أنتم ، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، وإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم آذنتكم بحرب ، والسلام . وقيل : كتب لهم آية : قُلْ يا أَهْلَ الْكتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَينَكمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِك بِهِ شَيئًا وَلا يتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » . آل عمران : 64 .
والأسقف أصلها أبيسكوبوس يونانية بمعنى الناظر ، وكان الأسقف أبو حارثة بن علقمة ، الشخص الأول ، والباقون دون رتبته . فلما قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وقام وقعد ، وشاور أهل الحجى والرأي منهم ، فقال شرحبيل وكان ذا لب ورأى بنجران : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة ، فما يؤمنك أن
--------------------------- 577 ---------------------------
يكون هذا الرجل وليس لي في النبوة رأي ، ولو كان أمر من أمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك .
فبعث الأسقف إلى كل واحد واحد من أهل نجران ، فتشاوروا وكثر اللغط وطال الحوار والجدال ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً يأتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيرجع بخبره . فوفدوا إليه في ستين راكباً وفيهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوى الرأي والحجى منهم ، وثلاثة يتولون أمرهم : العاقب واسمه عبد المسيح أمير الوفد وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، والسيد واسمه الأيهم ، وهو ثمالهم وصاحب رحلهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأول وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم ، وهو الأسقف الأعظم ، قد شرفه ملك الروم ومولوه وبنوا له الكنائس وبسطوا له الكرامات ، لما بلغهم من علمه واجتهاده في دينه . فلما توجهوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جلس أبو حارثة على بغلة وإلى جنبه أخ له يقال له كرز إذ عثرت بغلته ، قال : تعس الأبعد يريد محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست ! فقال له : ولم يا أخ ؟ فقال : والله إنه النبي الذي كنا ننتظره ! فقال كرز : فما يمنعك وأنت تعلم هذا أن تتبعه ؟ فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه ، ولو فعلت نزعوا كل ما تري ! فأضمر عليه منه أخوه كرز حتى أسلم بعد ذلك وكان كرز يرتجز ويقول :
إليك يغدو قلقاً وضينها * معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها
مكاتيب الرسول « صلى الله عليه وآله » 2 / 489 ملخصاً .
3 . أمهل النبي « صلى الله عليه وآله » وفدهم ثلاثاً ثم ناظرهم
في الإختصاص للمفيد « رحمه الله » / 112 ، عن محمد بن المنكدر عن أبيه قال : « لما قدم السيد والعاقب أسقفا نجران في سبعين راكباً وافداً على النبي ( صلى الله عليه وآله ) كنت معهم فبينا
--------------------------- 578 ---------------------------
كرز يسير وكرز صاحب نفقاتهم ، إذ عثرت بغلته فقال : تعس من نأتيه الأبعد يعنى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال له صاحبه وهو العاقب : بل تعست وانتكست ! فقال : ولم ذلك ؟ قال : لأنك أتعست النبي الأمى أحمد ، قال : وما علمك بذلك ؟ قال : أما تقرأ من المفتاح الرابع من الوحي إلى المسيح : أن قل لبنى إسرائيل : ما أجهلكم تتطيبون بالطيب لتطيبوا به في الدنيا عند أهلها وأهلكم وأجوافكم عندي كالجيفة المنتنة ! يا بني إسرائيل ، آمنوا برسولي النبي الأمى الذي يكون في آخر الزمان ، صاحب الوجه الأقمر والجمل الأحمر ، المشرب بالنور ، ذي الجناب الحسن والثياب الخشن ، سيد الماضين عندي وأكرم الباقين عَلَي ، المستن بسنتي ، والصائر في دارجتي ، والمجاهد بيده المشركين من أجلي ، فبشر به بني إسرائيل ومر بني إسرائيل أن يعزروه وأن ينصروه .
قال عيسى صلى الله عليه : قدوس قدوس ، من هذا العبد الصالح الذي قد أحبه قلبي ولم تره عيني ؟ قال : هو منك وأنت منه وهو صهرك على أمك ، قليل الأولاد كثير الأزواج ، يسكن مكة من موضع أساس وطى إبراهيم ، نسله من مباركة ، وهى ضرة أمك في الجنة ، له شأن من الشأن ، تنام عيناه ولا ينام قلبه ، يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة ، له حوض من شفير زمزم إلى مغيب الشمس حيث يغرب ، فيه شرابان من الرحيق والتسنيم ، فيه أكاويب عدد نجوم السماء ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداوذلك بتفضيلى إياه على سائر المرسلين ، يوافق قوله فعله وسريرته علانيته ، فطوبى له وطوبى لأمته ، الذين على ملته يحيون وعلى سنته يموتون ومع أهل بيته يميلون ، آمنين مؤمنين مطمئنين مباركين ويظهر في زمن قحط وجدب فيدعوني ، فترخى السماء عزاليها حتى يرى أثر بركاتها في أكنافها ، وأبارك فيما يضع فيه يده .
قال : إلهي سمه ، قال : نعم هو أحمد وهو محمد رسولي إلى الخلق كافة ، وأقربهم منى منزلة وأحضرهم عندي شفاعة ، لا يأمر إلا بما أحب وينهى لما أكره . قال له صاحبه : فأنى تقدم بنا على من هذه صفته ؟
قال : نشهد أحواله وننظر آياته فإن يكن هو هو ساعدناه بالمسالمة ، ونكفه بأموالنا عن أهل ديننا من حيث لا يشعر بنا ، وإن يكن كاذباً كفيناه بكذبه على الله عز وجل !
--------------------------- 579 ---------------------------
قال : ولم إذا رأيت العلامة لا تتبعه ؟ قال : أما رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم أكرمونا ، ومولونا ونصبوا لنا الكنائس وأعلوا فيه ذكرنا ، فكيف تطيب النفس بالدخول في دين يستوى فيه الشريف والوضيع .
فلما قدموا المدينة قال من رآهم من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما رأينا وفداً من وفود العرب كانوا أجمل منهم ، لهم شعور وعليهم ثياب الحبر ، وكان رسول الله متنائياً عن المسجد ، فحضرت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تلقاء المشرق فهمَّ بهم رجال من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فمنعهم ، فأقبل رسول الله فقال : دعوهم فلما قضوا صلاتهم جلسوا إليه وناظروه ، فقالوا : يا أبا القاسم حاجنا في عيسى ، قال : هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فقال أحدهما : بل هو ولده وثاني اثنين . وقال آخر : بل هو ثالث ثلاثة : أب وابن وروح القدس ، وقد سمعناه في قرآن نزل عليك يقول : فعلنا وجعلنا وخلقنا ولو كان واحداً لقال : خلقت وجعلت وفعلت !
فتغشى النبي ( صلى الله عليه وآله ) الوحي فنزل عليه صدر سورة آل عمران إلى قوله رأس الستين ، منها : فَمَنْ حَاجَّك فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَك مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ . آل عمران : 61 .
فقص عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القصة وتلا عليهم القرآن ، فقال بعضهم : لبعض : قد والله أتاكم بالفصل من خبر صاحبكم . فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله عز وجل قد أمرني بمباهلتكم ، فقالوا : إذا كان غداً باهلناك . فقال القوم بعضهم لبعض : حتى ننظر بما يباهلنا غداً بكثرة أتباعه من أوباش الناس أم بأهله من أهل الصفوة والطهارة ، فإنهم وشيج الأنبياء وموضع نهلهم .
فلما كان من غد غدا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بيمينه على وبيساره الحسن والحسين « عليهم السلام » ومن ورائهم فاطمة صلى الله عليها ، عليهم النمار النجرانية ، وعلى كتف رسول الله كساء قطوانى رقيق خشن ليس بكثيف ولا لين ، فأمر بشجرتين فكسح ما بينهما ونشر الكساء عليهما وأدخلهم تحت الكساء وأدخل منكبه الأيسر معهم تحت
--------------------------- 580 ---------------------------
الكساء ، معتمداً على قوسه النبع ، ورفع يده اليمنى إلى السماء للمباهلة ، واشرأب الناس ينظرون ، واصفرَّ لون السيد والعاقب وكرَّا حتى كادت أن تطيش عقولهما فقال أحدهما لصاحبه : أنباهله ؟ قال : أوَما علمت أنه ما باهل قوم قط نبياً فنشأ صغيرهم وبقى كبيرهم ؟ ! ولكن أره أنك غير مكترث وأعطه من المال والسلاح ما أراد ، فإن الرجل محارب ، وقل له : أبهؤلاء تباهلنا لئلا يرى أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بيته .
فلما رفع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يده إلى السماء للمباهلة قال أحدهما لصاحبه : وأي رهبانية ! دارك الرجل فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلى أهل ولا مال ! فقالا : يا أبا القاسم أبهؤلاء تباهلنا ؟ قال : نعم ، هؤلاء أوجه من على وجه الأرض بعدى إلى الله عز وجل وجهة وأقربهم إليه وسيلة ، قال : فبصبصا يعنى ارتعدا وكرَّا وقالا له : يا أبا القاسم نعطيك ألف سيف وألف درع وألف حجفة وألف دينار كل عام ، على أن الدرع والسيف والحجفة عندك إعارة حتى يأتي من وراءنا من قومنا فنعلمهم بالذي رأينا وشاهدنا فيكون الأمر على ملأ منهم ، فإما الإسلام وإما الجزية وإما المقاطعة في كل عام . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : قد قبلت ذلك منكما . أما والذي بعثني بالكرامة لو باهلتمونى بمن تحت الكساء لأضرم الله عز وجل عليكم الوادي ناراً تأجج ، حتى يساقها إلى من وراءكم في أسرع من طرفة العين فأحرقتم تأججاً ! فهبط عليه جبرئيل الروح الأمين ( عليه السلام ) فقال : يا محمد الله يقرؤك السلام ويقول لك : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لو باهلت بمن تحت الكساء أهل السماوات وأهل الأرض لتساقطت السماء كسفاً متهافتة ، ولتقطعت الأرضون زبراً سائحة ، فلم تستقر عليها بعد ذلك ! فرفع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يديه حتى رئى بياض إبطيه ، ثم قال : وعلى من ظلمكم حقكم ، وبخسنى الأجر الذي افترضه الله فيكم عليهم بهلة الله تتابع إلى يوم القيامة » .
أقول : هذه الرواية من أقوى الرويات في المباهلة ، ولعلها أقواها على الإطلاق .
وفى الإرشاد : 1 / 168 : « فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكنا نصالحك ، فصالحنا على ما ننهض به . فصالحهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) على ألفي حلة من حلل الأواقي ، قيمة كل حلة أربعون درهماً جياداً ، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك ، وكتب لهم
--------------------------- 581 ---------------------------
النبي ( صلى الله عليه وآله ) كتاباً بما صالحهم عليه وكان الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لنجران وحاشيتها في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق ، لا يؤخذ منهم شئ غير ألفي حلة من حلل الأواقى ثمن كل حلة أربعون درهماً ، فما زاد أو نقص فبحساب ذلك ، يؤدون ألفاً منها في صفر وألفاً منها في رجب ، وعليهم أربعون ديناراً مثواة رسولي فما فوق ذلك وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذي عدن عارية مضمونة ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً مضمونة ، لهم بذلك جوار الله وذمة محمد بن عبد الله ، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتى منه بريئة » . مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) 2 / 489 و 494 .
وفى رواية الإقبال / 343 : « أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً ، فلم يدعهم ولم يسألوه ، لينظروا إلى هديه ويعتبروا ما يشاهدون منه مما يجدون من صفته . فلما كان بعد ثالثة دعاهم إلى الإسلام فقالوا : يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عز وجل بشئ من صفة النبي المبعوث بعد الروح عيسى ( عليه السلام ) إلا وقد تعرفناه فيك إلا خلة هي أعظم الخلال آية ومنزلة وأجلاها أمارة ودلالة . قال ( صلى الله عليه وآله ) : وما هي ؟ قالوا : إنا نجد في الإنجيل من صفة النبي الغابر من بعد المسيح أنه يصدق به ويؤمن به وأنت تسبه وتكذب به وتزعم أنه عبد ! قال : فلم تكن خصومتهم ولامنازعتهم للنبي إلا في عيسى ( عليه السلام ) . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لا ، بل أصدقه وأصدق به وأؤمن به ، وأشهد أنه النبي المرسل من ربه عز وجل وأقول : إنه عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً . قالوا : وهل يستطيع العبد أن يفعل ما كان يفعل ؟ وهل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة ؟ ألم يكن يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، وينبئهم بما يكنون في صدورهم وما يدخرون في بيوتهم ؟ فهل يستطيع هذا إلا الله عزو جل أو ابن الله ؟ وقالوا في الغلو فيه وأكثروا تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قد كان عيسى أخي كما قلتم يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخبر قومه بما في نفوسهم ، وبما يدخرون في بيوتهم ، وكل ذلك بإذن الله عز وجل ، وهو لله
--------------------------- 582 ---------------------------
عز وجل عبد ، وذلك عليه غير عار ، وهو منه غير مستنكف ، فقد كان لحماً ودماً وشعرًا وعظماً وعصباً وأمشاجاً ، يأكل الطعام ويظمأ وينصب . بارؤه وربه الأحد الحق الذي ليس كمثله شئ وليس له ند . قالوا : فأرنا مثله من جاء من غير فحل ولا أب ؟ قال : هذا آدم ( عليه السلام ) أعجب منه خلقاً جاء من غير أب ولا أم ! وتلا عليهم : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كنْ فَيكونُ . آل عمران : 59 .
4 . كتاب الصلح مع أهل نجران
وفى مكاتيب الرسول : 3 / 152 : « كتابه ( صلى الله عليه وآله ) لأهل نجران : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي رسول الله محمد لنجران ، إذ كان له عليهم حكمه في كل ثمرة وصفراء وبيضاء وسوداء ورقيق ، فأفضل عليهم وترك ذلك : ألفي حلة حلل الأواقى في كل رجب ألف حلة ، وفى كل صفر ألف حلة ، كل حلة أوقية وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقى فبالحساب ، وما قصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب . وعلى نجران مثواة رسلي شهراً فدونه ، ولا يحبس رسلي فوق شهر ، وعليهم عارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين فرساً ، وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة ، وما هلك مما أعاروا رسلي من خيل أو ركاب فهم ضمن يردوه إليهم ، ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم ، وأموالهم ، وبيعهم ، ورهبانيتهم وأساقفتهم ، وغائبهم وشاهدهم ، وكلما تحت أيديهم من قليل أو كثير ، وعيرهم وبعثهم ، وأمثلتهم ، لا يغير ما كانوا عليه ، ولا يغير حق من حقوقهم وأمثلتهم » . ثم أورد نصوصه بفروقاتها ، ومنها نص المفيد المتقدم . راجع : تفسير العياشي : 1 / 175 ، ابن هشام : 2 / 412 وتفسير القمي : 1 / 104 .
5 . سمع اليهود بمجيئ وفد النصارى فحضروا معهم
في الإرشاد : 1 / 166 : « فقدموا المدينة وقت صلاة العصر ، وعليهم لباس الديباج والصلب ، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم فقالت النصارى لهم : لستم على شئ وقالت لهم اليهود : لستم على شئ ! وفى ذلك أنزل الله سبحانه : وَقَالَتِ الْيهُودُ لَيسَتِ
--------------------------- 583 ---------------------------
النَّصَارَى عَلَى شَئٍْ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيسَتِ الْيهُودُ عَلَى شَئٍْ وَهُمْ يتْلُونَ الْكتَابَ كذَلِك قَالَ الَّذِينَ لايعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يحْكمُ بَينَهُمْ يوْمَ الْقِيامَةِ فِيمَا كانُوا فِيهِ يخْتَلِفُون » .
وفى تفسير فرات / 89 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « لما قدم وفد نجران على النبي ( صلى الله عليه وآله ) قدم فيهم ثلاثة من النصارى من كبارهم : العاقب وقيس والأسقف ، فجاؤوا إلى اليهود وهم في بيت المدارس ، فصاحوا بهم : ياإخوة القردة والخنازير هذا الرجل بين ظهرانيكم قد غلبكم ، إنزلوا إلينا . فنزل إليهم ابن صوريا اليهودي وكعب بن الأشرف اليهودي ، فقالوا لهم : احضروا غداً نمتحنه . قال : وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) إذا صلى الصبح قال : هاهنا من الممتحنة أحد ؟ فإن وجد أحداً أجابه وإن لم يجد أحداً قرأ على أصحابه ما نزل عليه في تلك الليلة . فلما صلى الصبح جلسوا بين يديه فقال له الأسقف : يا أبا القاسم فداك أبي : موسى من أبوه ؟ قال : عمران . قال : فيوسف من أبوه ؟ قال : يعقوب . قال : فأنت فداك أبي وأمي من أبوك ؟ قال : عبد الله بن عبد المطلب . قال : فعيسى من أبوه ؟ قال : فسكت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان رسول الله ربما احتاج إلى شئ من المنطق فينقض عليه جبرئيل ( عليه السلام ) من السماء السابعة فيصل له منطقه في أسرع من طرفة عين ، فذاك قول الله تعالى : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر . قال : فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : هو روح الله وكلمته فقال له الأسقف : يكون روح بلا جسد ؟ قال : فسكت النبي ( صلى الله عليه وآله ) . قال : فأوحى إليه : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كنْ فَيكونُ . . قال : فنزا الأسقف نزوةً إعظاماً لعيسى ( عليه السلام ) أن يقال له : من تراب . ثم قال : ما نجد هذا يا محمد في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا نجد هذا إلاعندك ! قال : فأوحى الله إليه : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ . . فقالوا : أنصفتنا يا أبا القاسم فمتى موعدك ؟ قال : بالغداة
إن شاء الله . قال : فانصرف اليهود وهم يقولون : لا إله إلا الله ، ما نبالى أيهما أهلك الله : النصرانية أو الحنيفية » .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 390 : « قال ابن إسحاق : ولما قدم أهل نجران من
--------------------------- 584 ---------------------------
النصارى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شئ ، وكفروا بعيسى وبالإنجيل ، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شئ ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم : وَقَالَتِ الْيهُودُ لَيسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَئٍْ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيسَتِ الْيهُودُ عَلَى شَئٍْ وَهُمْ يتْلُونَ الْكتَابَ كذَلِك قَالَ الَّذِينَ لا يعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يحْكمُ بَينَهُمْ يوْمَ الْقِيامَةِ فِى مَا كانُوا فِيهِ يخْتَلِفُونَ . أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى ( عليه السلام ) بالتصديق بعيسى ( عليه السلام ) وفى الإنجيل ما جاء به عيسى ( عليه السلام ) ، من تصديق موسى ( عليه السلام ) ، وما جاء به من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد صاحبه » .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 35 : « وقال أبو رافع القرظي : حين اجتمعت الأحبار من يهود والنصارى من أهل نجران ، عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ودعاهم إلى الإسلام : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من أهل نجران نصراني ، يقال له : الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ، فما بذلك بعثني الله ولا أمرني ، أو كما قال . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يؤْتِيهُ اللهُ الْكتَابَ وَالْحُكمَ وَالنُّبُوَةَ ثُمَّ يقُولَ لِلنَّاسِ كونُوا عِبَادًا لِى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكنْ كونُوا رَبَّانِيينَ بِمَا كنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكتَابَ وَبِمَا كنْتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلا يأمُرَكمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكةَ وَالنَّبِيينَ أَرْبَابًا أَيامُرُكمْ بِالْكفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » .
6 . مستحبات يوم المباهلة
قال في الجواهر : 17 / 109 : « وهو اليوم الرابع والعشرين من ذي الحجة ، قيل وهو الذي تصدق فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بخاتمه في ركوعه فنزل قوله تعالي : إِنَّمَا وَلِيكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ . وأظهر الله فيه نبيه ( صلى الله عليه وآله ) على خصمه . فهو حينئذ أشرف الأيام الذي ينبغي فيه الصيام شكراً لهذه النعم الجسام والمنن العظام » .
وفى مصباح المتهجد / 764 : « عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : يوم المباهلة اليوم الرابع
--------------------------- 585 ---------------------------
والعشرون من ذي الحجة ، تصلى في ذلك اليوم ما أردت من الصلاة ، فكلما صليت ركعتين استغفرت الله تعالى بعقبها سبعين مرة ، ثم تقوم قائماً وترمى بطرفك في موضع سجودك وتقول وأنت على غسل : الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله فاطر السماوات والأرض . . . » .
7 . مسائل في المباهلة
المسألة الأولي : المباهلة ابتكار إسلامي ، معناها أن الله تعالى تكفل بنصرة صاحب الحق وخذلان صاحب الباطل ، فهي ميزان مهم إذا أحسن الناس استعماله .
وآيتها نزلت في محاجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلماء النصاري : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . « آل عمران : 59 - 61 » لكنها لا تختص بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ولابألوهية المسيح ( عليه السلام ) بل تصح من كل الناس في مسائل العقيدة .
وقد أفتى الفقهاء بجواز مباهلة المعاند ، وعقد في الكافي : 2 / 513 باباً بعنوان : باب المباهلة ، روى فيه خمسة أحاديث ، منها بسند صحيح عن أبي مسروق عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قلت : إنا نكلم الناس فنحتج عليهم بقول الله عز وجل : أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولى الأمْرِ مِنْكُم ، فيقولون : نزلت في أمراء السرايا ، فنحتج عليهم بقوله عز وجل : إنما وليكم الله ورسوله إلى آخر ، الآية فيقولون : نزلت في المؤمنين ، ونحتج عليهم بقول الله عز وجل : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ، فيقولون نزلت في قربى المسلمين ! قال : فلم أدع شيئاً مما حضرني ذكره من هذه وشبهه إلا ذكرته . فقال لي : إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة ، قلت : وكيف أصنع ؟ قال : أصلح نفسك ثلاثاً ، وأظنه قال وصم واغتسل ، وابرز أنت وهو إلى الجبان ، فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ، ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل : اللهم رب السماوات السبع ورب
--------------------------- 586 ---------------------------
الأرضين السبع ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، إن كان أبو مسروق جحد حقاً وادعى باطلاً ، فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً . ثم رد الدعوة عليه فقل : وإن كان فلان جحد حقاً وادعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً . ثم قال لي : فإنك لاتلبث أن ترى ذلك فيه ! فوالله ما وجدت خلقاً يجيبني إليه » !
وقال المفيد في تصحيح اعتقادات الإمامية / 71 : « وقال ( عليه السلام ) لطائفة من أصحابه : بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه ، وبينوا لهم ضلالهم الذي هم عليه ، وباهلوهم في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فأمر بالكلام ودعا إليه وحث عليه » .
وقال الحر العاملي في هداية الأمة 3 / 121 : « تستحب مباهلة العدو والخصم . . . يستحب غسل المباهلة . . يستحب الصوم قبلها والخروج إلى الجبان . . دعاء كل منهما على نفسه سبعين مرة ثم على خصمه سبعين مرة . . أن يشبك كل منهما أصابعه في أصابع الآخر ويدعو بالمأثور . . يستحب كونها بين طلوع الفجر وطلوع الشمس » .
وقال السيد السبزواري في تفسيره : مواهب الرحمن 6 / 31 : « المباهلة نوع من الدعاء والابتهال والتضرع والتبتل إلى الله تعالى لإثبات حق عَلم به . وهى عادة جارية بين الناس في جميع الملل والأقوام ممن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي ، فتكون نظير صلاة الاستسقاء أو الاستخارة ونحوهما .
والمستفاد من الآيات الشريفة وما ورد في شأنها من السنة المقدسة أنها تتقوم بأمرين : الأول : ثبوت حق علم بأنه حق قد سبق الإعلام به بالحجة والبيان ، وبعد اليأس عن الفائدة فيهما يرجع بالدعاء واللعان واللجوء إلى الأمرالغيبى الذي يعترف به الخصمان ، وهذا يدل عليه قوله تعالي : فَمَنْ حَاجَّكَ فيه ، أي في الحق المعلوم . الثاني : وجود الرابط بين عالم الغيب وعالم المادة ، إما في شخص الرسول أو من يقوم مقامه علماً وعملاً ، أو حالة الإنكسار والخضوع والتضرع التي تكون رابطة حالية ، فإذا تحقق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحق بالتماس من عالم الغيب ، فلا تختص المباهلة بمورد خاص . . .
وللمباهلة آداب خاصة مذكورة في أبواب الدعاء ، ولا ريب في تقومها بمن يقوم به
--------------------------- 587 ---------------------------
الإحتجاج وإظهار الحق وهو في المقام نفس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وحيث إنها تدل على الملاعنة والهلاك يكون إحضار من يريده صاحب الحق أولى في الإحتجاج وأثبت للمدعى وأقطع لدعوى الخصم ، ولأن الاجتماع في الدعاء والتأمين عليه مرغوب اليه كثيراً في السنة المقدسة » .
المسألة الثانية : قوله تعالي : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ . أي جاءك العلم من الله بأمرعيسى ( عليه السلام ) ، فصار عندك حجة من الله وبينتها للناس فتمت عليهم الحجة ، فمن جادلك ليبطل حجتك بزعمه فهو مكابر ، فلا تجادله بل ادعه إلى المباهلة . فطالب الحق يبين له وتُقام عليه الحجة ، لكن المُحَاجّ مجادل ، يعرض عنه ، أو يدعى إلى المباهلة .
المسألة الثالثة : المباهلة دعاء ، وهى بنفس الوقت منازلة وتوسل . والمنازلة تقتضى أن تضرب الخصم بأقوى أسلحتك . والتوسل إلى الله تعالى في المنازلة يقتضى أن تتقرب إلى الله بأقوى الناس وسيلة عنده ليستجيب دعاءك على خصمك .
ولما قال الله لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . واختار ( صلى الله عليه وآله ) للمباهلة بأمر ربه خاصة عترته ، فمعناه أنهم أقوى سلاح رباني ، لا يخطئ ولا ينهزم ، وأنهم أقرب الناس وسيلة إلى الله تعالى ، فلا يخيب من توسل بهم ، ولا يرد دعاءه .
المسألة الرابعة : تدل المباهلة على أن الذين باهل الله بهم أفضل أهل الأرض ، وكل كلام في تفضيل غيرهم عليهم ، أو مساواته بهم ، ردٌّ عملي على الله تعالى وعلى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وصاحبه ذو غرض وذو مرض ، وانقطع الخطاب .
المسألة الخامسة : يمثل المباهَل بهم الأمة كلها : المباهل ونفسه والأبناء والنساء . فهم القيادة النبوية وورثتها ، وهم البنت والأم والزوجة والأبناء ، وهم مكونات المجتمع الإنساني ، يباهل بهم قيادة المسيحيين وأبناءهم ونساءهم ، ويباهل من ادعى للأم مريم وابنها عيسى ألوهيةً ومقاماً غير صحيح .
--------------------------- 588 ---------------------------
المسألة السادسة : قوله : تعَالوا نَدْعُ . معناه : اُحضروا أنتم إلى مكان المنازلة والمباهلة ، وأحضروا مكونات دينكم ومجتمعكم . وروى أن كبيرالقساوسة ومعاونه أحضرا ولديهما : ( وغدا العاقب والسيد بابنين لهما ، عليهما الدر والحلى وقد حفوا بأبى حارثة ) اليعقوبي 2 / 82 . ولم يقل تعالوا نحضرهم ، بل قال ادعوهم للحضور ، لأنهم حسب المفروض شخصيات مستقلة يدعون دعوةً .
المسألة السابعة : تعالوا ندعوهم الحضور في المكان المحدد للمباهلة ، وقبلها كانت المناظرة في المسجد ، لكن المباهلة ينبغي أن تكون تحت السماء ، في مكان اختاره النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقع اليوم في شارع الستين ، ومشى ( صلى الله عليه وآله ) أمام المسلمين مسافة ، حتى وصلوا إلى قرب المكان فقال لهم قفوا أنتم هنا ، وتقدم المباهلون معه فقط !
المسألة الثامنة : قال بعضهم إن المباهلة الملاعنة ، فجعل الدعاء على الخصم بمعنى ملاعنته ، تشبيهاً بملاعنة الزوج إذا تبرأ من ولده ولاعنَ زوجته . ويصح ذلك مجازاً لأنها دعاء يترتب عليه جعل اللعنة على المبطل . لكن الآية قالت : فنبتهل ولم تقل فنتباهل ، أي فندعو ، وينتج عنه أن تكون اللعنة على الكاذب .
قال ابن فارس في المقاييس 1 / 311 : ( أصول ثلاثة : أحدها التخلية ، والثاني جنس من الدعاء ، والثالث قلة في الماء . . وأما الآخر فالإبتهال والتضرع في الدعاء . والمباهلة ترجع إلى هذا فإن المتباهلين يدعو كل واحد منهما على صاحبه ) .
فمعنى تعالوا نبتهل : تعالوا ندعوأن يظهرالله الحق وينتقم من المبطل . وجزم فنبتهل لأنه جواب تعالوا مثل ندعو ، وجزم نجعل لأنه جواب نبتهل ، وهو يدل على أن الله تعالى جعل اللعنة مترتبة على المباهلة ومحققة بها .
المسألة التاسعة : ذكرت الآية أبناءنا بصيغة الجمع ، والمقصود بهم الحسن والحسين « عليهما السلام » فقط ، وهما مثني ، وذكرت نساءنا بالجمع والمقصود فاطمة ( عليها السلام ) فقط ، وهى مفرد . ومثله كثير في القرآن وفى لغة العرب حيث يذكر الجمع ويقصد به المفرد أوالمثني .
وذكرت الآية أنفسنا بالجمع ، والمقصود بها شخص واحد هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولا
--------------------------- 589 ---------------------------
يصح أن تشمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأنه الداعي ولا يدعو نفسه .
قال الشيخ المفيد « رحمه الله » في الفصول المختارة / 38 : ( قال المأمون يوماً للرضا ( عليه السلام ) : أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يدل عليها القرآن .
قال فقال له الرضا ( عليه السلام ) : فضيلته في المباهلة ، قال الله جل جلاله : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ . فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الحسن والحسين « عليهما السلام » فكانا ابنيه ودعا فاطمة ( عليها السلام ) فكانت في هذا الموضع نساءه ، ودعا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكان نفسه بحكم الله عز وجل ، وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأفضل فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
بحكم الله عز وجل .
قال فقال له المأمون : أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنيه خاصة وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنته وحدها ، فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين ما ذكرت من الفضل ؟
قال فقال له الرضا ( عليه السلام ) : ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين وذلك أن الداعي إنا يكون داعياً لغيره كما يكون الأمر آمراً لغيره ، ولا يصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة ، وإذا لم يدع رسول الله رجلاً في المباهلة إلا أمير المؤمنين فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه وجعل حكمه ذلك في تنزيله . قال فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط السؤال ) .
وتعبير أنفسنا في الآية ، يعنى أنه نفس النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا ما اختص به من نبوة ، وهو يشرح المقصود من أقوال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : على منى وأنا منه ، ومَن أطاعه أطاعني ومن عصاه عصاني ، ومَن سبه سبني ، ومَن كنت مولاه فعلى مولاه ، وأنا وعلى من شجرة واحدة والناس من شجر شتي ، وأنا وعلى كالضوء من الضوء ، وكنت وعلياً نوراً قبل أن يخلق الله الخلق ، وأنت منى بمنزلة هارون من موسي . .
--------------------------- 590 ---------------------------
إلى آخر كلماته المضيئة التي تبين مكانة على ( عليه السلام ) وأنه بحكم نفسه إلا ما استثني .
فلا يبقى مجال لتفضيل غيره عليه ، ولا لتقديم غيره عليه في الفضائل ، ولا في قيادة الأمة وإمامتها ، ولا في الموالاة والمودة ولا في تلقى علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ !
المسألة العاشرة : « الحسنان « عليهما السلام » أبناء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحكم الآية ، ولقوله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ، ما بعث الله عز وجل نبياً إلا وجعل ذريته من صلبه ، وجعل ذريتي من صلبك ، ولولاك ما كانت لي ذرية » . الفقيه 4 / 365 .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) الكافي 8 / 318 في قوله تعالي : حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ . . وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ : فسلهم يا أبا الجارود : هل كان يحل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نكاح حليلتيهما ؟ فإن قالوا : نعم كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا ، فهما ابناه لصلبه » .
وروى مخالفونا قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « كل ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم ، ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم » . كبير الطبراني 3 / 44 ، الزوائد 4 / 224 و 6 / 301 .
وقال علماؤهم : « وأولاد بناته ينسبون إليه لحديث : إن ابني هذا سيد مشيراً إلى الحسن . وفى حديث : إن الله لم يبعث نبياً قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري ، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي . دون أولاد بنات غيره فينسبون إلى آبائهم . قال تعالي : أُدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ » . كشاف القناع 5 / 31 .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 6 / 139 : « قال السخاوي : وقد كنت سئلت عن هذا الحديث وبسطت الكلام عليه ، وبينت أنه صالح للحجة » .
المسألة الحادية عشرة : الآية نص في التوسل ، حتى بالأقل درجة من المتوسِّل : « ثم جثى ( صلى الله عليه وآله ) بركبتيه وجعل علياً أمامه بين يديه وفاطمة بين كتفيه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره ، وهو يقول لهم : إذا دعوت فأمِّنوا ، فقال الأسقف : جثى والله محمد كما يجثو الأنبياء للمباهلة » . مناقب آل أبي طالب 3 / 144 .
ومعني : إذا دعوت فأمنوا : أن تأمينهم جزء من الابتهال ، وهو توسل بهم .
هذا ، وفى الآية مسائل أخرى مهمة ، اكتفينا بما تقدم .
--------------------------- 591 ---------------------------
الفصل السبعون
حجة الوداع
1 - أجواء حجة الوداع
أ . أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بالحج ونزل عليه قوله تعالي : وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالحَجِّ يأْتُوك رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ يأْتِينَ مِنْ كلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم : بأن رسول الله يحج في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب ، واجتمعوا لحج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فكتب إلى من بلغه كتابه ممن دخل في الإسلام : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يريد الحج ، يؤذنهم بذلك ليحج من أطاق الحج » . الكافي : 4 / 244 .
وأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) رسُلَهُ يدعون الناس إلى الحج ، وبلغت دعوته أقاصي بلاد الإسلام ، فتجهز الناس للخروج معه ، وحضر إلى المدينة خلق كثير ، ووافاه في الطريق خلائق ، وكانوا مد البصر ، كلهم يريد أن يأتم برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويعمل مثل عمله . البحار : 21 / 384 والصحيح من السيرة : 30 / 288 .
ب . في الحج أخبرهم أنه يوشك أن يدعى فيجيب ، وأنهم قد لا يرونه بعد عامهم هذا ، فسماها الناس حجة الوداع ، وأقرَّ هذا الاسم أهل البيت « عليهم السلام » .
ففي الكافي : 7 / 373 قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقف بمنى حين قضى مناسكها في حجة الوداع فقال : أيها الناس إسمعوا ما أقول لكم واعقلوه عني ، فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم في هذا الموقف بعد عامنا هذا ، ثم قال : أي يوم أعظم حرمة ؟ قالوا : هذا اليوم
--------------------------- 592 ---------------------------
قال : فأي شهر أعظم حرمة ؟ قالوا : هذا الشهر ، قال : فأي بلد أعظم حرمة ؟ قالوا : هذا البلد ، قال : فإن دماء كم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه ، فيسألكم عن أعمالكم . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم قال : اللهم اشهد . . » .
ج - - هدف النبي ( صلى الله عليه وآله ) من حجة الوداع : إتمام تبليغ الإسلام ، ومنه تبليغ مناسك الحج ، حيث قال لهم : خذوا عنى مناسك حجكم . حجوا كما رأيتموني أحج .
لكن الهدف الأهم عنده ( صلى الله عليه وآله ) التأكيد على خلافة على والأئمة من عترته « عليهم السلام » ، وتحذير الأمة من مخالفته فيهم بأن من يخالفه فيهم لا يوافيه على الحوض .
ولا ننس أن حجة الوداع كانت بعد شهرين من محاولة اغتياله ( صلى الله عليه وآله ) في رجوعه من تبوك . لقد استبطأت قريش موته لتأخذ دولته كما قال على ( عليه السلام ) ، فأعلن قرب وفاته ليطمئنهم بأنه مغادر عن قريب فليكفُّوا عن محاولة اغتياله ، أو إعلان الردة وإعادة العرب إلى وثنيتهم ، بحجة أن محمداً يريد بناء ملك لعترته « عليهم السلام » !
لكن قريشاً لم تقنع بتطمينه ( صلى الله عليه وآله ) ، فحاولت اغتياله في عودته من حجة الوداع !
د . خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من المدينة يوم الخميس السادس والعشرين من ذي القعدة « لأربع بقين منه » وبات في ذي الحليفة « مسجد الشجرة » . وفى اليوم التالي أحرم وتحرك بالمسلمين نحو مكة ، فوصلها لأربع مضين من ذي الحجة .
أما رجوعه إلى المدينة فكان في العشر الأخير من ذي الحجة ، ولم أجد من حدده .
وأما عدد الذين حضروا حجة الوداع فتفاوتت الرواية في عددهم بين سبعين ألفاً ، ومئة وأربع وعشرين ألفاً .
ه - . روى المسلمون عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أحاديث عديدة من حجة الوداع ، وأجزاءً من الخطب الست التي خطبها : عندما وصل إلى مكة ، ثم في عرفات ، ثم في منى عند جمرة العقبة يوم العيد وثاني العيد ، ثم في اليوم الثالث في مسجد الخيف ، ثم في عودته في غدير خم عند الجحفة .
وتضمنت توجيهاته ووصاياه لأمته ، وقد أخفى رواة الحكومة منها أكثر ما يتعلق
--------------------------- 593 ---------------------------
بأهل البيت « عليهم السلام » وهو بضع عشرة مادة ، وسيأتي ذكر مضامينها .
و . عن جابر قال : « طاف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ، ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه ، فإن الناس غَشَوْهُ » .
أي أحاطوا به وزاحموه . تذكرة الفقهاء : 8 / 111 .
2 - صفة حج النبي « صلى الله عليه وآله » عند أهل البيت « عليهم السلام »
في الكافي : 4 / 244 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لم يحج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد قدومه المدينة إلا واحدة ، وقد حج بمكة مع قومه حجات مستسراً في كلها . . . فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أربع بقين من ذي القعدة ، فلما انتهى إلى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل ، ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر وعزم بالحج مفرداً » سألته : أليلاً أحرم رسول الله أم نهاراً ؟ فقال : نهاراً . قلت : أية ساعة ؟ قال : صلاة الظهر « وخرج حتى انتهى إلى البيداء عند الميل الأول ، فصُفَّ له سماطان فلبى بالحج مفرداً ، وساق الهدى ستاً وستين ، حتى انتهى إلى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة ، فطاف بالبيت سبعة أشواط ، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم ( عليه السلام ) ، ثم عاد إلى الحجر فاستلمه ، وقد كان استلمه في أول طوافه .
ثم قال : إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله . فأبدأ بما بدأ الله تعالى به . وإن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شئ صنعه المشركون ، فأنزل الله عز وجل : إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيهِ أَنْ يطَّوَّفَ بِهِمَا . ثم أتى الصفا فصعد عليه ، واستقبل الركن اليماني فحمد الله وأثنى عليه ودعا مقدار ما يقرأ سورة البقرة مترسلاً ، ثم انحدر إلى المروة فوقف عليها كما وقف على الصفا ، ثم انحدر وعاد إلى الصفا فوقف عليها ، ثم انحدر إلى المروة حتى فرغ من سعيه . فلما فرغ من سعيه وهو على المروة أقبل على الناس بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن هذا جبرئيل وأومأ بيده إلى خلفه يأمرني أن آمر من لم يسق هدياً أن يحل ، ولو استقبلت من أمرى ما استدبرت لصنعت مثل ما
--------------------------- 594 ---------------------------
أمرتكم ، ولكني سقت الهدي ، ولا ينبغي لسائق الهدى أن يحل حتى يبلغ الهدى محله .
قال : فقال له رجل من القوم « عمر » : لنخرجن حجاجاً ورؤوسنا وشعورنا تقطر ! فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أما إنك لن تؤمن بهذا أبداً ! فقال له سراقة بن مالك بن جعشم الكناني : يا رسول الله علمنا ديننا كأنا خلقنا اليوم ، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : بل هو للأبد إلى يوم القيامة ثم شبك أصابعه وقال : دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة .
قال : وقدم على ( عليه السلام ) من اليمن على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو بمكة ، فدخل على فاطمة سلام الله عليها وهى قد أحلت ، فوجد ريحاً طيبة ووجد عليها ثياباً مصبوغة فقال : ما هذا يا فاطمة ؟ فقالت أمرنا بهذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فخرج على ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مستفتياً فقال : يا رسول الله إني رأيت فاطمة قد أحلت وعليها ثياب مصبوغة ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنا أمرت الناس بذلك فأنت يا علي بمَ أهللت ؟ قال : يا رسول الله إهلالاً كإهلال النبي ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قُرَّ على إحرامك مثلي ، وأنت شريكي في هديي .
قال : ونزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة بالبطحاء هو وأصحابه ، ولم ينزل الدور ، فلما كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلوا بالحج ، وهو قول الله عز وجل الذي أنزل على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) : فاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْرَاهيم .
فخرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه مُهِلِّين بالحج حتى أتى منى فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر ، ثم غدا والناس معه ، وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهى جُمع ويمنعون الناس أن يفيضوا منها ، فأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون ، فأنزل الله تعالى عليه : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ ، يعنى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم ، فما رأت قريش أن قبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد مضت كأنه دخل في أنفسهم شئ للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم ، حتى انتهى إلى نمرة ، وهى بطن عرنة بحيال الأراك ، فضربت قبته ، وضرب الناس أخبيتهم عندها .
--------------------------- 595 ---------------------------
فلما زالت الشمس خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه قريش ، وقد اغتسل وقطع التلبية ، حتى وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم ، ثم صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، ثم مضى إلى الموقف فوقف به ، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جانبها فنحاها ، ففعلوا مثل ذلك فقال : أيها الناس ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف ، ولكن هذا كله وأومأ بيده إلى الموقف ، فتفرق الناس . وفعل مثل ذلك بالمزدلفة ، فوقف الناس حتى وقع القرص قرص الشمس ، ثم أفاض وأمر الناس بالدعة حتى انتهى إلى المزدلفة ، وهو المشعر الحرام فصلى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين ، ثم أقام حتى صلى فيها الفجر ، وعجل ضعفاء بني هاشم بليل وأمرهم أن لا يرموا الجمرة جمرة العقبة حتى تطلع الشمس ، فلما أضاء له النهار أفاض ، حتى انتهى إلى منى فرمى جمرة العقبة .
وكان الهدى الذي جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ستاً وستين وجاء على بأربع وثلاثين فنحر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ستة وستين ونحر على ( عليه السلام ) أربعة وثلاثين بدنة ، وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يؤخذ من كل بدنة منها جذوة من لحم ، ثم تطرح في برمة ثم تطبخ ، فأكل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلى وحَسَيا من مرقها ، ولم يعطيا الجزارين جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وتصدق به ، وحلق ، وزار البيت ورجع إلى مني ، وأقام بها حتى كان اليوم الثالث من آخر أيام التشريق .
ثم رمى الجمار ونفر ، حتى انتهى إلى الأبطح ، فقالت له عايشة : يا رسول الله ترجع نساؤك بحجة وعمرة معاً وأرجع بحجة ؟ فأقام بالأبطح وبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فأهلت بعمرة ثم جاءت وطافت بالبيت وصلت ركعتين عند مقام إبراهيم ( عليه السلام ) وسعت بين الصفا والمروة ، ثم أتت النبي ( صلى الله عليه وآله ) فارتحل من يومه ، ولم يدخل المسجد الحرام ولم يطف بالبيت . ودخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين ، وخرج من أسفل مكة من ذي طوي .
وذكر أنه حيث لبى قال : لبيك اللهم لبيك لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يكثر من ذي
--------------------------- 596 ---------------------------
المعارج ، وكان يلبى كلما لقى راكباً ، أو علا أكمةً ، أو هبط وادياً ، ومن آخر الليل ، وفى إدبار الصلوات . فلما دخل مكة دخل من أعلاها من العقبة وخرج حين خرج من ذي طوي ، فلما انتهى إلى باب المسجد استقبل الكعبة ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على أبيه إبراهيم ، ثم أتى الحجر فاستلمه ، فلما طاف بالبيت صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم ودخل زمزم فشرب منها ، ثم قال : اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاءً من كل داء وسقم . فجعل يقول ذلك وهو مستقبل الكعبة ثم قال لأصحابه : ليكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر ، فاستلمه ، ثم خرج إلى الصفا .
الذي كان على بُدْن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ناجية بن جندب الخزاعي الأسلمي . والذي حلق رأس النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حجته معمر بن عبد الله بن حارثة . قال : ولما كان في حجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يحلقه قالت قريش : أي معمر ، أذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في يدك وفى يدك الموسي ! فقال معمر : والله إني لأعده من الله فضلاً عظيماً عَلَي ، قال : وكان معمر هو الذي يرحل لرسول الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا معمر إن الرحل الليلة لمسترخٍ فقال معمر : بأبى أنت وأمي لقد شددته كما كنت أشده ، ولكن بعض من حسدنى مكاني منك يا رسول الله أراد أن تستبدل بي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما كنت لأفعل » .
وفى الكافي : 4 / 257 ، عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قال : « لما وقف ( صلى الله عليه وآله ) بعرفة وهمَّت الشمس أن تغيب ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا بلال قل للناس فلينصتوا ، فلما نصتوا قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن ربكم تطوَّل عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم وشفع محسنكم في مسيئكم ، فأفيضوا مغفوراً لكم ، قال : وزاد غير الثمالي أنه قال : إلا أهل التبعات ، فإن الله عدل يأخذ للضعيف من القوي .
فلما كانت ليلة جمع لم يزل يناجى ربه ويسأله لأهل التبعات ، فلما وقف بجمع قال لبلال : قل للناس فلينصتوا ، فلما نصتوا قال : إن ربكم تطول عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم وشفع محسنكم في مسيئكم ، فأفيضوا مغفوراً لكم ، وضمن لأهل التبعات من عنده الرضا » .
أقول : معناه أن الله تعالى ضمن لمن شملته المغفرة في عرفات أن يرْضِى عنه من له
--------------------------- 597 ---------------------------
عليه حق ، فيعطيه حتى يسقط حقه عنه . ولا يمكن أن يكون هذا الحكم لكل من حج ، لأنه يحج أناسٌ مشهود لهم من النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنهم مجرمون من أهل النار .
3 - خطب النبي « صلى الله عليه وآله » في حجة الوداع
مع أن المسلمين اهتموا بحجة الوداع ورووا منها أحاديث كثيرةً ، لكن رواة السلطة القرشية نَتَّفُوا الأحاديث وجَزَّؤوها ، وخلطوا بين مضامينها !
وسبب ذلك أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ركز فيها على مكانة عترته « عليهم السلام » ، وخصهم بكلام بليغ كثير ، فتعمدوا إهمال ذلك لأنه إدانة لنظام الخلافة القرشي الذي قام أساساً على إقصاء العترة « عليهم السلام » . فذنب أحاديث حجة الوداع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنها تأمر بطاعة أهل بيته « عليهم السلام » ، وتحذر قريشاً والصحابة من معصيتهم !
وقد راجعتُ نصوص هذه الخطب في أكثر من مائة مصدر من مصادرهم فوجدت أنها تشكل منظومة كاملة في حقوق الإنسان واحترام حريته ودمه وملكيته وكرامته ، وفى مكانة القرآن والعترة !
واليك فهرساً بها ، وقد أفردنا بشارته ( صلى الله عليه وآله ) بالأئمة الإثنى عشر « عليهم السلام » :
1 - خطبة النبي « صلى الله عليه وآله » في عرفات
حسب رواية ابن شعبة الحراني « رحمه الله » في تحف العقول / 30 : « الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على العمل بطاعته ، وأستفتح الله بالذي هو خير .
أما بعد : أيها الناس ! إسمعوا منى ما أبين لكم ، فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا .
أيها الناس : إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
--------------------------- 598 ---------------------------
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها . وإن ربا الجاهلية موضوع ، وإن أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب . وإن دماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب .
وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ، والعمد قَوَدٌ ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية .
أيها الناس : إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضى بأن يطاع فيما سوى ذلك ، فيما تحتقرون من أعمالكم .
أيها الناس : إنما النسئ زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ، ليواطؤوا عدة ما حرم الله . وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ، منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ، وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بين جمادى وشعبان . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقاً ، ولكم عليهن حقاً ، حقكم عليهن أن لا يوطئن أحداً فرشكم ، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ، وألا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف . أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكتاب الله ، فاتقوا الله في النساء ، واستوصوا بهن خيراً .
أيها الناس : إنما المؤمنون إخوة ، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ، فلا ترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .
أيها الناس : إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ،
إِنَّ أَكرَمَكمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكمْ . وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوي . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : فليبلغ الشاهد الغائب .
أيها الناس : إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز لوارث وصية في
--------------------------- 599 ---------------------------
أكثر من الثلث ، والولد للفراش وللعاهر الحجر .
من ادُّعى إلى غير أبيه ، ومن تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً . والسلام عليكم ورحمة الله » .
2 - من خطب النبي « صلى الله عليه وآله » في مني :
في تفسير علي بن إبراهيم : 1 / 171 : « وحج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة ، فكان من قوله بمنى أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أيها الناس : إسمعوا قولي واعقلوه عني ، فإني لا أدرى ألقاكم بعد عامي هذا .
ثم قال : هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة ؟ قال الناس : هذا اليوم . قال : فأي شهر ؟ قال الناس : هذا . قال : وأي بلد أعظم حرمة ؟ قالوا : بلدنا هذا . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، إلى يوم تلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم . ألا هل بلغت أيها الناس ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد . ثم قال : ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية ، أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتين ، ليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوي . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبد المطلب . ألا وكل دم كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوع دم ربيعة . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد !
ألا أيها الناس : إن المسلم أخو المسلم حقاً ، لا يحل لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله ، إلا ما أعطاه بطيبة نفس منه . وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله . ألا هل بلغت أيها الناس ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
--------------------------- 600 ---------------------------
ثم قال : أيها الناس : إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدى وافهموه تنعشوا ، ألا لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن فعلتم ذلك ولتفعلن ! لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف ! ثم التفت عن يمينه فسكت ساعة ثم قال : إن شاء الله ، أو علي بن أبي طالب .
ثم قال : ألا وإني قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا ، ومن خالفهما فقد هلك . ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
ثم قال : ألا وإنه سيرد عَلَى الحوض منكم رجال فيدفعون عني ، فأقول : رب أصحابي ؟ فيقول : يا محمد إنهم أحدثوا بعدك وغيروا سنتك ! أقول : سحقاً سحقاً .
فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : نُعِيتْ إلى نفسي . ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخَيف ، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
نَضَّرَ اللهُ امرأً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه . ثلاث لايغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ولزم جماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم . المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم .
أيها الناس : إني تارك فيكم الثقلين . قالوا : يا رسول الله وما الثقلان ؟ قال : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عَلَى الحوض كإصبعى هاتين وجمع بين سبابتيه ، ولا أقول كهاتين وجمع سبابته والوسطى فتَفْضُلُ هذه على هذه ! فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته ! فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً : إن مات محمد أو قتل أن لايردُّوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً ! فأنزل الله على نبيه في ذلك : أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ . أَمْ يحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيهِمْ يكتُبُونَ . الزخرف : 79 - 80 .
--------------------------- 601 ---------------------------
وفى بصائر الدرجات / 433 : « عن جابر قال قال أبو جعفر ( عليه السلام ) دعا رسول الله أصحابه بمنى وقال : يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ، أمَا إن تمسكتم بهما لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عَلَى الحوض .
ثم قال : أيها الناس ، إني تارك فيكم حرمات الله : كتاب الله ، وعترتي ، والكعبة البيت الحرام . ثم قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : أما كتاب الله فحرفوا ، وأما الكعبة فهدموا ، وأما العترة فقتلوا ، وكل ودايع الله فقد تَبَّروا » !
وفى الخصال / 486 ، بسنده عن عبد الله بن عمر قال : « نزلت هذه السورة : إذا جاء نصر الله والفتح ، على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أوسط أيام التشريق ، فعرف أنه الوداع ، فركب راحلته العضباء فحمد الله وأثنى عليه . . إلى آخر رواية القمي » .
وفى الكافي : 1 / 403 : « قال سفيان الثوري « لصاحبه » : إذهب بنا إلى جعفر بن محمد ، قال فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابته ، فقال له سفيان : يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مسجد الخيف . قال : دعني حتى أذهب في حاجتي فإني قد ركبت فإذا جئت حدثتك . فقال : أسألك بقرابتك من رسول الله لما حدثتني . قال : فنزل فقال له سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته ، فدعا به ثم قال أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . خطبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مسجد الخيف : نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه . يا أيها الناس : ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه : ثلاثٌ لايغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم . المؤمنون إخوةٌ تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم . . .
فكتبه سفيان ثم عرضه عليه ، وركب أبو عبد الله وجئت أنا وسفيان ، فلما كنا في بعض الطريق قال لي : كما أنت ، حتى أنظر في هذا الحديث . قلت له : قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً ، لا يذهب من رقبتك أبداً ! فقال : وأي شئ ذلك ؟ فقلت له : ثلاث لايغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، قد
--------------------------- 602 ---------------------------
عرفناه . والنصيحة لأئمة المسلمين ، من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان ، ويزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وكل من لا تجوز الصلاة خلفهم ؟ وقوله : واللزوم لجماعتهم ، فأي الجماعة ؟ مُرْجِئٌ يقول : من لم يصلِّ ولم يصُم ولم يغتسل من جنابة ، وهادم الكعبة وناكح أمه ، فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل ؟ ! أو قدرى يقول لا يكون ما شاء الله عز وجل ويكون ما شاء إبليس ؟ أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب ويشهد عليه بالكفر ؟ أو جهمي يقول إنما هي معرفة الله وحده ليس الإيمان شئ غيرها ؟ !
قال : ويحك وأي شئ يقولون ؟ ! فقلت : يقولون : إن علي بن أبي طالب والله الإمام الذي وجب علينا نصيحته . ولزوم جماعتهم : أهل بيته !
قال : فأخذ الكتاب فخرقه ، ثم قال : لاتخبر بها أحداً » ! . انتهي .
وفى الكافي : 2 / 74 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حجة الوداع فقال : يا أيها الناس والله ما من شئ يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار ، إلا وقد أمرتكم به ، وما من شئ يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه . ألا وإن الروح الأمين نفث في روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحمل أحدكم استبطاء شئ من الرزق أن يطلبه بغير حله ، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته » . راجع في تفسير القمي : 2 / 303 ، خطبته ( صلى الله عليه وآله ) في مكة ، وقد أخذ بحلقة الكعبة . وفي : 2 / 447 ، خطبته ( صلى الله عليه وآله ) في مسجد الخيف .
3 - ومن مصادر السنيين
في سنن الدارمي : 2 / 47 : « حتى إذا زاغت يعنى الشمس « يوم عرفة » أمر بالقصواء فرُحِّلَتْ له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ، وقال : إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة . . . فاتقوا الله في النساء ، فإنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله . .
--------------------------- 603 ---------------------------
أنتم مسؤولون عنى فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فقال بإصبعه السبابة فرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد » .
وفى صحيح بخاري : 5 / 126 : عن أبي بكرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان . أي شهر هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس ذا الحجة ؟ قلنا : بلي . قال : فأي بلد هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس البلدة ؟ قلنا : بلي . قال : فأي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ! قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلي . قال : فإن دماءكم وأموالكم - قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم . ألا فلا ترجعوا بعدى ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض . ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه » . وروته المصادر : « كفاراً » ورواها بخارى وقليل غيره « ضلالاً » ! أيضاً في صحيحه : 1 / 24 .
وفى صحيح مسلم : 4 / 41 : « حتى أتى عرفة . . فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِّلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس . . . وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله » . فحذف وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعترته !
وفى ابن ماجة : 2 / 1024 والحاكم : 1 / 77 : « خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا أيها الناس : إني فرط لكم على الحوض ، وإن سعته ما بين الكوفة إلى الحجر الأسود ، وآنيته كعدد النجوم ، وإني رأيت أناساً من أمتي « أصلها أصحابي » لما دنوا منى خرج عليهم رجل فمال بهم عني ، ثم أقبلت زمرة أخرى ففعل بهم كذلك فلم يفلت إلا كمثل همل النعم ! فقال أبو بكر : لعلى منهم يا نبي الله ؟ ! قال : لا » !
--------------------------- 604 ---------------------------
وواضحٌ أن الراوي تعمد ذكرأبى بكر ليخرجه من الصحابة المطرودين !
وفى ابن ماجة : 2 / 1016 ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو على ناقته المخضرمة بعرفات . . « ألا وإني مستنقذ أناساً ، ومستنقَذٌ منى أناس ، فأقول : يا رب أصيحابي ! فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك » !
وفى سنن ابن ماجة : 2 / 1300 : « عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ويحكم أو ويلكم ! لا ترجعوا بعدى كفاراً . . » .
وفى سنن الترمذي : 2 / 62 ، عن أبي أمامة : « سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يخطب في حجة الوداع فقال : اتقوا الله ربكم ، وصلُّوا خَمْسَكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم . قال : قلت لأبى أمامة : منذ كم سمعت هذا الحديث ؟ قال : سمعت وأنا ابن ثلاثين سنة » .
وفى مسند أحمد : 5 / 412 : « فقال . . . ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم ، فلا تسوِّدُوا وجهي ! ألا وقد رأيتموني وسمعتم منى وستسألون عنى فمن كذب على فليتبوأ مقعده من النار . ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً ، ومستنقَذٌ منى آخرون فأقول : يا رب أصحابي . . الخ . » !
وفى مجمع الزوائد : 3 / 265 ، عن الرقاشي قال : « كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله في وسط أيام التشريق أذود عنه الناس فقال . . » . وفيه : « ألا لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . . أيها الناس : إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله . . . لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه . أيها الناس : إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله فاعملوا به » . ولم يذكر الراوي أهل بيته « عليهم السلام » !
4 - بشارة النبي « صلى الله عليه وآله » في حجة الوداع بالأئمة الإثنى عشر بعده
كان من الواضح للمسلمين أن ولاية الأمر بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعترته « عليهم السلام » فقد أمره الله تعالى أن يبلغ الأمة ولايتهم ، على سنته تعالى في أنبيائه السابقين الذين ورَّث عترتهم الكتاب والحكم ، ذُرِّيةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . « آل عمران : 34 » .
--------------------------- 605 ---------------------------
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِك هُوَ الْفَضْلُ الْكبِيرُ . فاطر : 32 .
والذين اصطفاهم الله على وأبناؤه من فاطمة « عليهم السلام » ، والسابقون بالخيرات الأئمة المعصومون « عليهم السلام » منهم . والمقتصد : هو المؤمن بهم . والظالم لنفسه : من حسدهم وأنكرهم ! ولا يستقيم معنى الآية بتفسير آخر .
وقد بَلَّغَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) طوال نبوته ولاية عترته بالتدريج والحكمة ، بالتلويح والتصريح ، لعلمه بحسد قريش لهم ، وقد روت مصادرهم أنه ( صلى الله عليه وآله ) بشر بالأئمة الإثنى عشر في خطب حجة الوداع ، لكنهم أبهموا وحذفوا منها ! ففي صحيح بخاري : 8 / 127 ، عن : « جابر بن سمرة قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش » !
وفى مسلم : 6 / 3 : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثنى عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : كلهم من قريش » !
ثم روى ثانية فيها : « ثم تكلم بشئ لم أفهمه » .
وثالثة فيها : « لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى إثنى عشر خليفة ، فقال كلمة صَمَّنِيها الناس ! فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش » .
ولم يقل بخارى إن هذا الحديث من خطب حجة الوداع ! لكن عدداً من المصادر قالته ، كمسند أحمد : 5 / 93 و 96 و 99 : « عن جابر بن سمرة قال : خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعرفات » . وفي / 87 : « يقول في حجة الوداع » . وفي / 99 : « سمعت رسول الله يخطب بمني » . وهذا يعنى أنه ( صلى الله عليه وآله ) كرره في عرفات ومني ، ثم أعلنه صريحاً في غدير خم !
وأصل الحديث : اثنا عشر إماماً كلهم من أهل بيتي ، « ففي مسند أحمد : 5 / 100 و 107 » ، لكن السلطة لا تريد العترة فقال الراوي : « ثم قال كلمة لم أفهمها ، قلت لأبي : ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش » . وفى الحاكم : 3 / 617 : « وقال كلمة خفيت علي ، وكان أبى أدنى إليه مجلساً منى فقلت : ما قال ؟ فقال كلهم من قريش » .
--------------------------- 606 ---------------------------
وفى أحمد : 5 / 90 و 98 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخفاها وخفض بها صوته وهمس بها همساً !
وفى الحاكم : 3 / 618 : « ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمى وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال : قال يا بني : كلهم من قريش » .
وفى الطبراني الكبير : 2 / 213 و 214 : « قال ( صلى الله عليه وآله ) : يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً لا يضرهم من خذلهم ، ثم همس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكلمة لم أسمعها ، فقلت لأبي : ما الكلمة التي همس بها النبي ؟ قال أبي : كلهم من قريش » .
وقالت روايات أخرى إن الذي ضيع الكلمة هم الناس ، وليس الراوي ولا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فالناس المحرمون لربهم ، المنتظرون لكل كلمة تصدر من نبيهم ، صاروا عند الكلمة الحساسة مشاغبين ! يلغطون ، ويضجون ، ويكبرون ، ويتكلمون ويقومون ويقعدون !
ففي سنن أبي داود : 2 / 309 : « قال : فكبر الناس وضجوا ، ثم قال كلمة خفية ، قلت لأبي : يا أبة ما قال ؟ قال : كلهم من قريش » .
ومثله أحمد : 5 / 98 . وفيه : « ثم قال كلمة أصَمَّنِيها الناس ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش » . وفى رواية مسلم المتقدمة : « صَمَّنيها الناس » .
وفى رواية أحمد : 5 / 93 : « وضج الناس . . ثم لغط القوم وتكلموا فلم أفهم قوله بعد كلهم » . وفى نفس الصفحة : « لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ، ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثنى عشر خليفة . قال فجعل الناس يقومون ويقعدون . . . » !
فهل سمعت بأمة يودعها نبيها ، ويبشرها بأن الله عز وجل حلَّ مشكلة القيادة فيها وعين اثنى عشر إماماً ربانياً ، ثم لم يحدد لها هؤلاء الأئمة ، لا بأسمائهم ولا بأسرتهم ! بل جعلهم ضائعين في عشرين قبيلة ! ولم يسأله أحد من أمته من هم ؟ !
إنها فضيحة وراءها قريش بكيدها وخططها ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته !
إن زعمهم أن الأئمة الربانيين ضاعوا في قريش ، هو نفس كلامهم في السقيفة حيث قالوا إن قريشاً تأبى أن تجمع لبنى هاشم بين النبوة والخلافة ، فيجب أن تدور الخلافة بين بطون قريش العشرين ! وهم بتهمتهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه ضيع هوية الأئمة من بعده ، يتهمون ربهم سبحانه وتعالى وينسبون اليه أنه جعل في هذه الأمة اثنى عشر
--------------------------- 607 ---------------------------
إماماً مجهولين في عشرين قبيلة ! وأشعل الصراع بين هذه القبائل على الخلافة ورئاسة الدولة ، خاصة وهم يتحاربون سنين على فرس وبعير !
فالصحيح أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حددهم بعترته « عليهم السلام » وسماهم : علياً والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين « عليهم السلام » ، لكنهم تعمدوا تضييعهم !
وقد قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم !
بنا يستعطى الهدي ، ويستجلى العمي . إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم « نهج البلاغة : 1 / 82 و 2 / 27 » . وقال ( عليه السلام ) أيضاً : « والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيزنا ، فكانوا كما قال الأول :
أدَمْتَ لعَمرى شُرْبَك المحضَ صابحاً * وأكلَك بالزُّبد المَقَشَّرة البُجْرَا
ونحن وهبناك العلاءَ ولم تكنْ * علياً وحُطْنَا حولك الجُرْدَ والسُّمْر .
هذا ، وقد تحير الشراح السنيون في الأئمة الإثنى عشر ، وحاولوا تطبيقهم على خلفائهم فلم يستطيعوا ! واعترف ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 في عارضة الأحوذي ، بأن تطبيق الحديث على خلفائهم لا يصح !
كما أخفوا أحاديث أن الأئمة من أهل البيت ( صلى الله عليه وآله ) ، وأحرقوها ، أو أنكروها .
قال ابن مسعود : « سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : الأئمة بعدى اثنا عشر ، تسعة من صلب الحسين ، والتاسع مهديهم » . كفاية الأثر / 33 .
وقد كتبنا رسالة خاصة في : « بشارة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالأئمة الإثنى عشر « عليهم السلام » » .
5 - تحذير النبي « صلى الله عليه وآله » لقريش والصحابة أن يطغوا بعده
سبب التحذير النبوي أن قريشاً لها موقع القيادة في العرب ، فقبائل العرب تَبَعٌ لها ، والخطر الذي يخشاه على أهل بيته إنما هو من قريش وحدها ، والتحريف الذي يخشاه على الإسلام ، والظلم على المسلمين ، إنما هو من قريش وحدها !
--------------------------- 608 ---------------------------
لذا قال لهم ( صلى الله عليه وآله ) : « يا معشر قريش لاتجيؤوا بالدنيا تحملونها على رقابكم ، وتجئ الناس بالآخرة ، فإني لا أغنى عنكم من الله شيئاً » .
وهذا نفس تحذيره ( صلى الله عليه وآله ) للصحابة من الصراع على السلطة كقوله : « ويحكم أو ويلكم لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » . « ابن ماجة : 2 / 1300 » . وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : « لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا فإن فعلتم ذلك وَلَتَفْعَلُنَّ » . تفسير القمي : 1 / 1717 .
فأخبرهم أنهم سيفعلون ! واستعمل بلاغته ( صلى الله عليه وآله ) وكل موجبات الخوف والحذر ليقيم عليهم الحجة فلايقولون يوم القيامة : لماذا لم تحذرنا ؟ ! فالذين حذرهم صحابته فقط ! لا اليهود ، ولا الروم ، ولا القبائل العربية ، ولا حتى زعماء قريش بدون شركائهم
من الصحابة !
ذلك أن الخوف من الاقتتال بعده ليس من القبائل التي خضعت للإسلام طوعاً أو كرهاً ، فهي مهما كانت كبيرة وموحدة مثل هوازن وغطفان . . لاتطمح إلى قيادة هذه الدولة ، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة !
واليهود انكسروا وأجلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قسماً منهم من الجزيرة ، ولم تبق لهم قوة عسكرية تذكر ، ومكائدهم لاحظَّ لها في النجاح إلا بواسطة الصحابة ، الذين تعاهدوا معهم سراً ! سَنُطِيعُكمْ فِى بَعْضِ الأمر وَاللهُ يعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . محمّد : 26 .
وزعماء قريش في مكة ، مع أنهم يملكون نحو ثلاثة آلاف مقاتل ، لكنهم لا طريق لهم إلى قيادة الدولة إلا بالصحابة القرشيين ! فلايستطيعون أن يدَّعوا حقاً في قيادة دولة النبي ( صلى الله عليه وآله ) التي كانوا أعداؤها ! لهذا كان تحذيره ( صلى الله عليه وآله ) من الصراع على السلطة بعده ، محصوراً بهؤلاء الصحابة المهاجرين ، ثم بالأنصار فقط !
لكنك تقرأ في مصادر السلطة عشرات الأحاديث في مدح قريش ، وأن القيادة لهم دون غيرهم ! ولا ترى من أحاديث تحذيره لهم إلا ما أفلت من الرقابة ، فقد حرفوها أو جعلوها تحذيراً لبنى هاشم بأن لا يطمعوا في الدنيا ، لأنه لايغنى عنهم من الله شيئاً ! صحيح بخاري : 6 / 17 .
--------------------------- 609 ---------------------------
أو جعلوها تحذيراً لفاطمة « عليها السلام » بأنها لو سرقت لقطع يدها ! « صحيح بخاري : 4 / 151 و 5 / 97 و 8 / 16 » . وتحذيراً لبنى عبد المطلب ، بنحو هذا !
ومما أفلت وكان حجة دامغة وما زال ، تحذير النبي ( صلى الله عليه وآله ) لصحابته في حجة الوداع رسمه ببلاغته النبوية لوحةً خالدة لاتنقصها إلا الأسماء ، أظهرت المصير الجهنمي الذي يمشى إليه هؤلاء الصحابة ! ورسم مجيئهم إلى حوض الكوثر يوم المحشر ، فيأتي النداء الإلهى بمنعه من الشفاعة لهم ومنعهم من ورود الحوض ، ثم يؤمر بهم إلى جهنم !
إنها صورة رهيبة نزل بها جبرئيل ( عليه السلام ) ليبلغها النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى الأمة في حجة الوداع ! تجسد الكارثة على صحابته ، جزاءً لهم على الكارثة التي سينزلونها في أمته بعده ! ولا ينجو من هؤلاء المجرمين إلا مثل « هَمَل النَّعم » كما في رواية بخاري ، أي الغنم المنفردة عن القطيع ! ومعناه أن قطيع الصحابة في النار ، ولا يفلت منهم إلا قلة مخالفون لرأى جمهورهم !
وهى حقيقةٌ مذهلةٌ ، صعبة التصديق على المسلم السنى المسكين ، الذي رباه أبواه على حب كل الصحابة ، وخير القرون ، والجيل الفريد ، والصحابة العدول ، وأصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . . وزرعوا في ذهنه من صغره الصور المثالية لزيد وعمرو ، فإذا به يفاجأ بصورة مرعبة عنهم !
ولو كان المتكلم غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما تردد السنى في الحكم عليه بأنه عدو الإسلام ، يريد أن يكيد له بالطعن في صحابة رسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله ) !
ولو كان الراوي غير البخاري ، لما ترددوا في تضعيف حديثه واتهامه !
لكن المتكلم هو الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يخبر عن وحى ربه عز وجل ، وعن حدث سوف يحدث لا محالة !
والراوي للكارثة البخاري الذي أعطوا كتابه درجة العصمة من الجلد إلى الجلد !
إنها جرعةٌ مُرَّةٌ مذهلة للسني المسكين ، الذي تعلَّم أن الحقيقة دائماً حلوة ، وأن الحق دائماً مفصلٌ على قامة الصحابة !
--------------------------- 610 ---------------------------
ولم يكتف النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك ، حتى أوقف المسلمين في الجحفة وأخذ بيد على وأعلنه إماماً بعده ، وجعل له الولاية على أمته ، ونصب له خيمة وأمرهم أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ويباركوا له ولايته عليهم ، فهنؤوه وباركوا له وبخبخوا له ، وأمر نساءه أن يهنئنه فجئن إلى باب خيمته وهنأنه وباركن له !
ثم أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبيل وفاته ، أن يبعد هؤلاء الصحابة بعيداً عن المدينة ، فأرسلهم جميعاً في جيش أسامة إلى مؤتة قرب القدس ، وكان الجيش ثلاثة آلاف فيهم سبع مئة من قريش الطلقاء والمهاجرين . لكنهم اعترضوا على قيادة أسامة بن السبع عشرة سنة ، وسوفوا وتعللوا لمدة أسبوعين حتى توفى النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ثم أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مرض وفاته ، أن يؤكد عليهم الحجة بوثيقة مكتوبة ، فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ، ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً .
ولكنهم رفضوا ذلك بشدة ، ورفعوا في وجهه القرآن فقالوا له : حسبنا كتاب الله ! ومعناه : أيها الرسول لا نريد أن تكتب لنا أطيعوا بعدى علياً ، ثم أولاد ابنتي فاطمة حسناً ثم حسيناً ، ثم تسعة من ذرية الحسين !
وغضبوا ولغطوا وصاحوا بالحاضرين : لا تقربوا له دواة ولا قرطاساً !
فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وطردهم ، وقال لهم : قوموا عنى فما أنا فيه من اعترافكم بنبوتي خير مما تدعونني اليه لأن أصرَّ عليكم ، فتعلنوا الردة !
فاعجب لأمة تنقلب على نبيها في حياته !
6 - عقوبة المخالفين لوصية النبي « صلى الله عليه وآله » في عترته « عليهم السلام »
من الأساليب النبوية المبتكرة في خطب حجة الوداع ، أنه ( صلى الله عليه وآله ) بعد حديثه عن
أهل بيته « عليهم السلام » ، أعلن مبدأ : « لعن من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه » !
ففي مسند أحمد : 4 / 186 : « خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرة من كاهل ناقته فقال : ولا ما يساوى هذه ، أو ما يزن هذه . لعن الله من ادُعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه » ! وسيأتي في فصل جيش أسامة تفسير النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهذه اللعنة بأنها على من ترك ولاية أهل بيته .
--------------------------- 611 ---------------------------
7 - قريش تكتب معاهدة لأخذ خلافة النبي « صلى الله عليه وآله » من بني هاشم
كانت قريش في حجة الوداع مستنفرة خوفاً من فرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) خلافة عترته ! وكان المتآمرون لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في طريق تبوك موجودين معه في حجة الوداع ! وقد فرحوا لأنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يستطع أن يكشف أسماءهم ، ولا أن يعاقبهم على مؤامرة تبوك ! واعتبروا ذلك انتصاراً بالحد الأدنى عليه ( صلى الله عليه وآله ) ! وكانوا يرون أنه ماضٍ في تركيز خلافة علي ، فقد أشاد به في طريق تبوك ، وفى المدينة بعد عودته ، وسحب سورة براءة من أبى بكر وبعثه بها ، لأن جبرئيل ( عليه السلام ) أمره بأنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه ! ثم أشركه في أضاحيه لأنهما من ولد عبد المطلب ، وجعلها مئة ناقة على عدد نذر عبد المطلب عن أبيه عبد الله « عليهم السلام » .
ثم خص ابنته فاطمة « عليها السلام » بأضحية وقال لها قومي فاشهدى أضحيتك ، « المغني : 1 / 156 » بينما ذبح عن كل نسائه بقرة المغني : 3 / 501 .
وتواصلت أحاديثه في مدح على وفاطمة والحسن والحسين « عليهم السلام » ، فقال إن فاطمة سيدة نساء العالمين ، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وإنهما إمامان قاما أو قعدا ، وإن علياً أسد الله وأسد رسوله ، وولى المؤمنين بعده .
ثم أكد على ميزانية « الخمس » التي شرعت من أول الهجرة لبنى هاشم خاصة لينزههم عن الزكوات التي هي أوساخ الناس ، وهذا أقصى الرفعة لهم !
ثم لم يرض بذلك حتى قرن عترته بالقرآن وأوصى بهما الأمة ، ثم بشر باثني عشر إماماً ربانيين من عترته ، أي أن إمامتهم من الله ! فماذا بقي لقبائل قريش ؟ !
ثم تراه يتعمد الحديث عن ظلم قريش ومحاصرتهم له ولبنى هاشم سنين في شعب أبى طالب ، فقد أعلن يوم التروية : « منزلنا غداً إن شاء الله تعالى بخيف بنى كنانة حيث تقاسموا على الكفر » . « صحيح بخاري : 2 / 158 » ثم كرره بعد عرفات ، « بخاري : 4 / 247 » . وكان أكد عليه يوم فتح مكة !
فلا حل عند قريش في مواجهة هذا الإصرار النبوي إلا مواصلة العمل لقتل محمد ! فإن لم يمكن فبالحيلولة بينه وبين إعلان على خليفة ، بالتشويش على
--------------------------- 612 ---------------------------
كلامه وبالقول للناس إنه لم يقل ، وبالتهديد بإعلان الردة عندما يلزم ذلك !
وهو الأمر الذي يخاف منه النبي ( صلى الله عليه وآله ) كثيراً !
إن قراءة نصوص خطب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عرفات حتى برواية السلطة ، يكفى لمعرفة الجو الذي أوجدته قريش حول النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكيف كانت تترقب كلماته لتشوش على ما لايناسبها وترفضه ، وتأخذ ما يناسبها وتضخمه !
فقد كان يوم عرفات أهدأ مكان وأنسبه لأن يوصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ما يريده إلى المحرمين الواقفين لربهم ، فركب ناقته ليشاهدوه ويسمعوه ، وكان صوته يصل إلى أكثرهم ، ودعا برجل جهوري الصوت فكان يلقى الجملة ويقول له : أُصرخ بها ، فيصرخ ويسمعها من لم يسمعها مباشرة .
لكن ما إن بشر أمته بالأئمة الإثنى عشر من عترته ، حتى ارتفعت الضجة واللغط « فضجوا وقاموا وقعدو وكبروا ولغطوا » وقال راوي قريش إن النبي قال : اثنا عشر إماماً ، ثم قال كلمة لم أفهمها فسألت عمر فقال : كلهم من قريش !
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « إن العرب كرهت أمر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وحسدته على ما آتاه الله من فضله واستطالت أيامه ! حتى قذفت زوجته ونفرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها ! وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته » ! شرح النهج : 20 / 298 .
ولم تكتف قريش بأعمالها لعزل العترة ، فكتبت معاهدة بذلك في الكعبة !
ففي الكافي : 4 / 545 : عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « كنت دخلت مع أبي الكعبة فصلى على الرخامة الحمراء بين العمودين فقال : في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو قتل ألايردوا هذا الأمر في أحد من أهل بيته أبداً ! قال قلت : ومن كان ؟ قال : كان الأول والثاني وأبو عبيدة بن الجراح وسالم بن الحبيبة » !
ففي تفسير القمي : 1 / 173 « فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته ! فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً : إن مات محمد أو قتل أن لايردُّوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً . » .
--------------------------- 613 ---------------------------
وفى الاستغاثة : 2 / 66 : « وكتبوا بينهم صحيفة بذلك ، ثم جعلوا أبا عبيدة بينهم أميناً على تلك الصحيفة ، وهى الصحيفة التي روت العامة أن أمير المؤمنين دخل على عمر وهو مسجى فقال : ما أبالي أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجي ، وكان عمر كاتب الصحيفة فلما أودعوه الصحيفة خرجوا من الكعبة الشريفة ودخلوا المسجد ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيه جالساً فنظر إلى أبى عبيدة فقال : هذا أمين هذه الأمة على باطلها ! يعنى أمين النفر الذين كتبوا الصحيفة ! فروت العامة أن رسول الله قال : أبو عبيدة أمين هذه الأمة » !
والمعنى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قالها باستنكار ، وليس مدحاً لأبى عبيدة !
وعُرفت الصحيفة التي كتبوها في حجة الوداع بالصحيفة الملعونة الثانية ، والأولى صحيفة مقاطعة المشركين لبنى هاشم حتى يسلموهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وفى مختصر بصائر الدرجات / 19 : « عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال إنه بلغ رسول الله عن بطنين من قريش كلام تكلموا به فقالوا : يرى محمد أن لو قد قضى أن هذا الأمر يعود في أهل بيته من بعده ! فأعلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذلك فباح في مجمع من قريش بما كان يكتمه فقال : كيف أنتم معاشر قريش وقد كفرتم بعدى ثم رأيتموني في كتيبة من أصحابي أضرب وجوهكم ورقابكم بالسيف ؟ !
قال : فنزل جبرئيل فقال : يا محمد قل إن شاء الله أو يكون ذلك علي بن أبي طالب إن شاء الله . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أو يكون ذلك علي بن أبي طالب إن شاء الله . فقال جبرئيل : واحدة لك واثنتان لعلي بن أبي طالب ، وموعدكم السلم ! قال أبان : جعلت فداك وأين السلم ؟ فقال : يا أبان السلم من ظهر الكوفة » .
وفى تفسير العياشي : 1 / 334 : « عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قول الله : وَحَسِبُوا أَلا تَكونَ فِتْنَةٌ
قال : حيث كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين أظهرهم . فَعَمُوا وَصَمُّوا : حيث قبض رسول الله ! ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيهِمْ : حيث قام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . قال : ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا . . إلى الساعة » !
وسيأتي أن أبي بن كعب « رحمه الله » كان يسميهم أصحاب العقدة !
--------------------------- 614 ---------------------------
8 - نتيجة حجة الوداع عند قريش وعند النبي « صلى الله عليه وآله »
كان زعماء قريش يتكلمون عن خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وميله إلى ابن عمه وعترته وكأنهم لم يشموا رائحة الإسلام ! وكأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي يعطى الإمامة والخلافة من عنده ، فأعطاها لبنى هاشم تعصباً لهم وظلماً لقبائل قريش !
واعتبر القرشيون أن حجة الوداع مرَّت بسلام ، فقد تحدث النبي ( صلى الله عليه وآله ) كثيراً عن عترته ، والأئمة منهم إلى آخر الدهر . . الخ . لكن كانوا مرتاحين لأنه لم يطلب منهم أن يبايعوا علياً كبير أهل البيت بصفته الإمام الأول من أئمة العترة « عليهم السلام » .
أما النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاعتبر أنه بلَّغَ رسالة ربه في عترته بأقصى ما يمكنه ، وأن قريشاً لا تتحمل أكثر من ذلك ! ولو طلب منها بيعة على بعده ، لطعنت في نبوته وقالت إنه ينطق عن الهوي ، ويريد إقامة ملك لبنى هاشم كملك كسرى وقيصر ، وقادت حركة ردة في العرب بتخويفهم من ملك بني هاشم بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لأنه ملك يبدأ بعلى وهو في الثلاثينات من عمره ، ثم يكون للحسن والحسين وهما دون العاشرة ، ثم لا يخرج من أبناء فاطمة إلى يوم القيامة ، وتكون بطون قريش محكومة لبنى هاشم ولا يكون لها شئ !
لذلك أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يؤخر بقية تفسيره للولاية وإعلانه علياً ( عليه السلام ) خليفته إلى المدينة ، لكن جاءه الأمر الإلهى بأن يبلغ ذلك في طريق عودته من حجة الوداع عند غدير خم ، ووعده بعصمته من الناس وحفظ نبوته ، فصدع بأمر ربه .
ففي الكافي : 1 / 289 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « أمر الله عز وجل رسوله بولاية على وأنزل عليه : إِنَّمَا وَلِيكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيؤْتُونَ الزَّكاةَ وفرض ولاية أولي الأمر فلم يدروا ما هي ؟ فأمر الله محمداً ( صلى الله عليه وآله ) أن يفسر لهم الولاية كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج .
فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتخوف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه ! فضاق صدره وراجع ربه عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه : يا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعْصِمُك مِنَ النَّاسِ . . فصدع بأمر الله تعالى ذكره ، فقام بولاية على ( عليه السلام ) يوم غدير خم ، فنادى الصلاة جامعة ، وأمر
--------------------------- 615 ---------------------------
الناس أن يبلغ الشاهد الغائب .
وقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : الْيوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكمْ نِعْمَتِي . قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض » .
وفى تفسير العياشي : 1 / 331 ، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا : « أمر الله تعالى نبيه محمداً ( صلى الله عليه وآله ) أن ينصب علياً ( عليه السلام ) علماً للناس ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ! فأوحى الله إليه : ياأَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعْصِمُك مِنَ النَّاسِ . . فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بولايته يوم غدير خم » .
وفى إقبال الأعمال : 2 / 241 : « فخرجنا إلى مكة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حجة الوداع ، فنزل جبرئيل فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول : أنصب علياً علماً للناس ! فبكى النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى اخضلت لحيته وقال : يا جبرئيل إن قومي حديثو عهد بالجاهلية ، ضربتهم على الدين طوعاً وكرهاً حتى انقادوا لي ، فكيف إذا حملت على رقابهم غيري ، قال : فصعد جبرئيل » .
أقول : نصَّ حديث الإمام الباقر ( عليه السلام ) على أن فريضة الولاية لأولى الأمر من أهل البيت « عليهم السلام » نزلت في المدينة قبل حجة الوداع ، فأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بتفسيرها للمسلمين ، لأن آية : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمر مِنْكمْ . .
في سورة النساء ، وقد نزلت قبل حجة الوداع . وكانت أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حق على والعترة « عليهم السلام » تفسيراً لها ، ومنها بشارته بالأئمة الإثنى عشر « عليهم السلام » في حجة الوداع .
ومعنى قوله ( عليه السلام ) : « وراجع ربه عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه : يا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ . . أنه قال لجبرئيل إن قومي حديثو عهد بالإسلام وأخشى أن يرتدوا ! فسكت جبرئيل ففهم منه الرخصة بأن يواصل خطته التدريجية في التفسير ، حتى نزل جبرئيل ( عليه السلام ) في غدير خم بآية التبليغ ، وفيها تشديد على التبليغ ووعد بعصمته من ارتداد الناس عن نبوته ! فأمر حينئذ بإيقاف المسلمين وبلغهم أمر ربه .
--------------------------- 616 ---------------------------
الفصل الحادي والسبعون
بيعة على « عليه السلام » يوم الغدير
1 - حديث الغدير في بيعة علي « عليه السلام » صحيح متواتر عندهم
حديث الغدير يهز المنكرين ويحيرهم ، لأنه عندهم صحيحٌ متواترٌ ، خاصة أنه حدث مستقل . وقد سمعت أحد علماء السلطة يقول متعجباً : لم يكن للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أي شغل ولا هدف آخر في نزوله وخطبته في غدير خم ، إلا البيعة لعلي !
ومن أصح رواياته عندهم حديث أبي هريرة في فضل صوم يوم الغدير شكراً لله تعالي ، ونصه : « من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي ( صلى الله عليه وآله ) بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست ولى المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلى مولاه . فقال عمر بن الخطاب بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ! فأنزل الله عز وجل : الْيوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكمُ الإسلام دِينًا » . تاريخ دمشق : 42 / 233 ، تاريخ بغداد : 8 / 248 والمنتظم : 5 / 233 .
وقد استقصى السيد الميلاني مصادره ، وكلماتهم فيه ، في نفحات الأزهار : 8 / 262 .
وأورد الأميني في الغدير : 1 / 236 عدداً من علماء السنة رووه ، وقال : « رواية أبي هريرة صحيحة الإسناد عند أساتذة الفن ، منصوص على رجالها بالتوثيق . .
ومع صحة حديث تاريخ بغداد ودمشق ، على شرط البخاري ومسلم ، فقد حاول الذهبي الطعن فيه بدون دليل ، إلا التعصب » !
--------------------------- 617 ---------------------------
وأما ابن كثير فزوَّر الحديث وكذب جهاراً نهاراً ، فزعم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بين في خطبته يوم الغدير أشياء ، ثم عالج مشكلة كانت بين على وكثير من الناس ! وكلاهما كذب ، فلم يبين فيها إلا ما يتصل بولاية على ( عليه السلام ) ، ولم يكن فيها أي معالجة للمشكلة المزعومة بين على ( عليه السلام ) وأحد من الصحابة !
قال في النهاية : 5 / 408 : « لما تفرغ النبي من بيان المناسك ورجع إلى المدينة خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدير خم ، تحت شجرة هناك ، فبين فيها أشياء ، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه ، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ، وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري ، فجمع فيه مجلدين ، وأورد فيها طرقه وألفاظه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة » . يحاول بذلك ابن كثير أن يصوِّر القضية بأن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين على على متحاملين عليه ، فأوقفهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غدير خم ليرضِّيهم عنه ويزيح « ما في نفوس كثير من الناس منه » ! و « أشياء » من هذا القبيل !
وارتكب العجلوني شبيهاً بتزوير ابن كثير « كشف الخفاء : 2 / 258 » ونقل تكذيب الذهبي للحديث بدليل واهٍ ولم يؤيده ، لكنه لم يذكر أسانيده الصحيحة !
وارتكب التحريف قبلهم الحسن البصري ، وهو من رواة السلطة القدماء ، لكن المحرفين جميعاً لم يبلغوا جناية ابن كثير ! ولهذا يحبه الوهابية ، وينشرون كتبه ؟ !
ومن رواياته الصحيحة عندهم ، ما رواه مسلم في صحيحه : 7 / 122 : « عن يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً . حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قال : يا ابن أخي ، والله لقد كبرت سنى وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعى من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا ، فلا تكلفونيه . ثم قال : قام رسول الله
--------------------------- 618 ---------------------------
يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربى فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً ، فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ؟ ! ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . قال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم » . « ورواه أحمد : 2 / 366 ، الحاكم : 2 / 148 » ، وفيهما وإنهما لن يتفرقا حتى يردا على الحوض . وهو إخبارٌ بوجود إمام من أهل بيته ( صلى الله عليه وآله ) إلى يوم القيامة .
2 - جبرئيل ينزل بآية التبليغ ويوقف قافلة النبي « صلى الله عليه وآله »
كان جبرئيل ( عليه السلام ) ينزل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأوامر ربه طوال حجة الوداع ، وقد يملى عليه عبارات من خطبه . وكان قال له في المدينة : إن الله عز وجل يقول لك إنه قد دنا أجلك ، ويأمرك أن تدل أمتك على وليهم ، فاعهد عهدك واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث الأنبياء فورثه علياً وأقمه للناس علماً ، فإني لم أقبض نبياً من أنبيائي إلا بعد إكمال ديني ، ولم أترك أرضى بغير حجة على خلقي . . الخ .
ففي دعائم الإسلام : 1 / 14 ، أن رجلاً قال للإمام الباقر ( عليه السلام ) : « يا ابن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري ، وخشيت أن يكذبني الناس ، فتواعدنى إن لم أبلغها أن يعذبني ؟ قال له أبو جعفر : فهل حدثكم بالرسالة ؟ قال : لا ، قال : أما والله إنه ليعلم ما هي ولكنه كتمها متعمداً ! قال الرجل : يا ابن رسول الله جعلني الله فداك وما هي ؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه ، فلم يدروا ما الصلاة ولا كيف يصلون ، فأمر الله عز وجل محمداً نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يبين لهم كيف يصلون ، فأخبرهم بكل ما افترض الله عليهم من الصلاة مفسَّراً ، وفرض الصلاة في القرآن جملة ، ففسرها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في سنته وأعلمهم بالذي أمرهم به من الصلاة التي فرض الله عليهم . وأمر بالزكاة فلم
--------------------------- 619 ---------------------------
يدروا ما هي ففسرها رسول الله وأعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع ، ولم يدع شيئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته وبينه لهم . وفرض عليهم الصوم فلم يدروا ما الصوم ولا كيف يصومون ، ففسره لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين لهم ما يتقون في الصوم وكيف يصومون . وأمر بالحج فأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يفسر لهم كيف يحجون حتى أوضح لهم ذلك في سنته .
وأمر الله عز وجل بالولاية فقال : إِنَّمَا وَلِيكمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ . ففرض الله ولاية ولاة الأمر فلم يدروا ما هي ، فأمر الله نبيه ( عليه السلام ) أن يفسر لهم ما الولاية مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذرعاً وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه ، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه : ياأَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعْصِمُك مِنَ النَّاسِ ، فصدع بأمر الله وقام بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه يوم غدير خم ونادى لذلك : الصلاة جامعة وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب . وكانت الفرائض ينزل منها شئ بعد شئ ، تنزل الفريضة ثم تنزل الفريضة الأخري . وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عز وجل : الْيوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكمُ الإسلام دِينًا ، قال أبو جعفر : يقول الله عز وجل : لاأنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة ، قد أكملت لكم هذه الفرائض » .
ونحوه في : 2 / 276 ، وفيه : « فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا جبرائيل أمتي حديثة عهدٍ بجاهلية ، وأخاف عليهم أن يرتدوا ، فأنزل الله عز وجل : ياأَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيك مِنْ رَبِّك - في علي - وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعْصِمُك مِنَ النَّاسِ . فلم يجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بداً من أن جمع الناس بغدير خم فقال : أيها الناس إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً فتواعدنى إن لم أبلغها أن يعذبني ، أفلستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي وأنى مولى المسلمين ووليهم وأولى بهم من أنفسهم ؟ قالوا : بلي ، فأخذ بيد على ( عليه السلام ) فأقامه ورفع يده بيده وقال : فمن كنت مولاه
--------------------------- 620 ---------------------------
فعلى مولاه ، ومن كنت وليه فهذا على وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار . ثم قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : فوجبت ولاية على ( عليه السلام ) على كل مسلم ومسلمة » .
ونحوه العياشي : 1 / 333 ، وفيه : « فقام إليه رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعشي ، كان يروى عن الحسن البصري . . إلى آخر ما تقدم » .
وفى شرح الأخبار : 1 / 104 : « قال جعفر بن محمد ( عليه السلام ) عن أبيه عن آبائه صلوات الله عليهم أجمعين : إن آخر ما أنزل الله عز وجل من الفرائض ولاية على ( عليه السلام ) فخاف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إن بلغها الناس أن يكذبوه ويرتد أكثرهم حسداً له ، لما علمه في صدور كثير منهم له ! فلما حج حجة الوداع وخطب بالناس بعرفة ، وقد اجتمعوا من كل أفق لشهود الحج معه ، علمهم في خطبته معالم دينهم وأوصاهم وقال في خطبته : إني خشيت ألا أراكم ولا تروني بعد يومى هذا في مقامي هذا ، وقد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به بعدى لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عَلَى الحوض ، حبل ممدود من السماء إليكم طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، وأجمل ( صلى الله عليه وآله ) ذكر الولاية في أهل بيته إذ علم أن ليس فيهم أحد ينازع فيها علياً ( عليه السلام ) وأن الناس إن سلموها لهم سلموها لعلى ( عليه السلام ) ، واتقى عليه وعليهم أن يقيمه هو بنفسه . فلما قضى حجه وانصرف وصار إلى غدير خم أنزل الله عز وجل عليه : يا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعْصِمُك مِنَ النَّاسِ ، فقام بولاية على ( عليه السلام ) ونص عليه كما أمر الله تعالى فأنزل الله عز وجل : الْيوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكمُ الإسلام دِيناً » .
3 - خطبة النبي « صلى الله عليه وآله » يوم الغدير
جاءه جبرئيل ( عليه السلام ) بآية التبليغ وهو في كراع الغميم ، لخمس ساعات مضت من النهار ، فخشع لربه وتَسَمَّرَ في مكانه ، وأصدر أمره إلى المسلمين بالتوقف ، وكان أولهم قد وصل إلى مشارف الجحفة ، وهى بلدةٌ عامرة على بعد ميلين أو أقل ، لكنه ( صلى الله عليه وآله ) أراد تنفيذ الأمر الإلهى فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي ، ونادى مناديه :
--------------------------- 621 ---------------------------
أيها الناس أجيبوا داعى الله ، وأمرهم أن يوقفوا من تأخر من المسلمين ويردوا من تقدم منهم . وتقدم نحو دوحة غدير خم وأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبته وللصلاة في ذلك الهجير ، فنصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر ، ووضعوا عليها حدائج الإبل فصارت أكثر ارتفاعاً ، ووردوا ماء الغدير فشربوا منه وتوضؤوا . ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير ، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة ، فجلس بعضهم في الشمس ، أو استظل بناقته .
عرفوا أن أمراً حدث ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سيخطب ، فقد نزل عليه وحى أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير ، قبل محطة الجحفة القريبة ! وصعد ( صلى الله عليه وآله ) منبر الأحجار والأحداج ، وبدأ باسم الله تعالى وأخذ يرتل قصيدته في حمده والثناء عليه ، ويشهد الله تعالى والناس على عبوديته المطلقة لربه العظيم عز وجل . ثم قدم لهم عذره لأنه اضطر أن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر ، ولم يمهلهم إلى الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبيرة ، وكلفهم الاستماع إليه في حر الظهيرة !
أخبرهم ( صلى الله عليه وآله ) أن جبرئيل ( عليه السلام ) أمره أن يفسر للمسلمين فريضة الولاية ويقيم علياً إماماً بعده للناس ، قال لهم : إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وخفت الناس أن يكذبوني ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لسانط : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي ، يقول قائل ويقول قائل ! فأتتني عزيمة من الله بَتْلة « قاطعة » في هذا المكان وتوعدنى إن لم أبلِّغها ليعذبني ! وقد ضمن لي العصمة من الناس وهو الكافي الكريم ، فأوحى إلي : يا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعْصِمُك مِنَ النَّاسِ ، ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : « لا إله إلا هو ، لا يؤمن مكره ، ولا يخاف جوره أقرُّ له على نفسي بالعبودية وأشهد له بالربوبية ، وأؤدى ما أوحى إلى حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعةٌ ، لايدفعها عنى أحدٌ ، وإن عظمت حيلته .
أيها الناس : إني أوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟
فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت .
--------------------------- 622 ---------------------------
فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق ؟
قالوا : بلى يا رسول الله . فأومأ رسول الله إلى صدره وقال : وأنا معكم .
قال ( صلى الله عليه وآله ) : أنا لكم فرط وأنتم واردون على الحوض ، وسعته ما بين صنعاء إلى بصري ، فيه عدد الكواكب قِدْحان ، ماؤه أشد بياضاً من الفضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين . فقام رجل فقال : يا رسول الله وما الثقلان ؟
قال : الأكبر كتاب الله طرفه بيد الله وسبب طرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا . والأصغر : عترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي « ثلاثاً » وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، سألت ربى ذلك لهما ، فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .
أيها الناس : ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنى أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : قم يا علي ، فقام على عن يمين النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما ، وقال : من كنت مولاه فعلى مولاه . اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار .
فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضةً طاعته على المهاجرين والأنصار ، وعلى التابعين لهم بإحسان ، وعلى البادى والحاضر ، وعلى الأعجمى والعربي ، والحر والمملوك والصغير والكبير .
فقام أحدهم فسأله وقال : يا رسول الله ولاؤه كماذا ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ولاؤه كولائي ، من كنت أولى به من نفسه فعلى أولى به من نفسه » !
وأفاض النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بيان مكانة على والعترة والأئمة الإثنى عشر من بعده : على والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين واحدٌ بعد واحد مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا على حوضي .
ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه ، فشهدوا له ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد
--------------------------- 623 ---------------------------
الغائب ، فوعدوه . وقام إليه آخرون فسألوه ، فأجابهم .
وما إن أتم خطبته حتى نزل جبرئيل بقوله تعالي : الْيوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكمُ الإسلام دِينًا ، فكبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي وولاية على بعدي . ونزل عن المنبر وأمر أن تنصب لعلى خيمة ويهنئه المسلمون بولايته عليهم ويبايعوه على الولاية ، وأمر نساءه فجئن إلى باب الخيمة وهنأنه !
وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له : بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة !
وجاء حسان بن ثابت وقال : إئذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتاً :
يناديهمُ يوم الغدير نبيهُمْ * بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكمُ ووليكمْ * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدى إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى علياً معاديا
راجع : كمال الدين / 276 ، أمالي الصدوق / 50 ، الإحتجاج : 1 / 70 ، روضة الواعظين / 89 ، المسترشد / 117 والكافي : 4 / 148 ، الفقيه : 2 / 90 ، تهذيب الأحكام : 4 / 305 وثواب الأعمال / 74 وغيرها .
وفى كتاب الغيبة للنعماني / 74 : « أن معاوية لما دعا أبا الدرداء وأبا هريرة ونحن مع أمير المؤمنين على صلوات الله عليه بصفين ، فحملهما الرسالة إلى أمير المؤمنين على ( عليه السلام ) وأدياها إليه قال : قد بلغتمانى ما أرسلكما به معاوية ، فاستمعا منى وأبلغاه عنى كما بلغتماني » . قالا : نعم . وجاء في جوابه قوله ( عليه السلام ) : « فنصبنى رسول الله بغدير خم وقال : إن الله عز وجل أرسلني برسالة ضاق بها صدري وظننت أن الناس يكذبوني ، فأوعدني لأبلغنها أو ليعذبني ! قم يا علي ، ثم نادى
--------------------------- 624 ---------------------------
بأعلى صوته بعد أن أمر أن ينادى بالصلاة جامعة فصلى بهم الظهر ثم قال :
أيها الناس ، إن الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم منهم بأنفسهم ، من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
فقام إليه سلمان الفارسي فقال : يا رسول الله ، ولاء ماذا ؟ فقال : من كنت أولى به من نفسه فعلى أولى به من نفسه ، فأنزل الله عز وجل : الْيوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكمُ الإسلام دِينًا ، فقال له سلمان : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآيات في علي ؟ قال : بل فيه وفى أوصيائي إلى يوم القيامة . فقال : يا رسول الله ، بينهم لي . قال : على أخي ووصيي وصهري ووارثي وخليفتي في أمتي وولى كل مؤمن بعدي ، وأحد عشر إماماً من ولدي ، أولهم ابني حسن ، ثم ابني حسين ، ثم تسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا على الحوض . . .
يا أيها الناس ، إني قد أعلمتكم مفزعكم بعدي ، وإمامكم ووليكم وهاديكم بعدي ، وهو علي بن أبي طالب أخي ، وهو فيكم بمنزلتي فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم ، فإن عنده جميع ما علمني الله عز وجل ، أمرني الله عز وجل أن أعلمه إياه وأن أعلمكم أنه عنده ، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصيائه ، ولا تعلموهم ولا تتقدموا عليهم ولا تتخلفوا عنهم ، فإنهم مع الحق والحق معهم ، لا يزايلهم ولا يزايلونه » . انتهي .
هذه خلاصة خطبة الغدير ، وهى أطول من ذلك ، فقد روتها مصادرنا بصفحات وروتها مصادر السلطة بصفحة ، والمطلب الأساسي فيها حديث الثقلين ، وولاية أولهم على ( عليه السلام ) ، وبخبخة عمر بن الخطاب ! راجع : كمال الدين / 276 ، الإحتجاج : 1 / 70 ، روضة الواعظين / 89 ، المسترشد / 117 وغيرها .
4 - أمر النبي « صلى الله عليه وآله » بنصب خيمة لعلي « عليه السلام » وتهنئته ومبايعته
ظهرت عصمة لله لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) من الناس يوم الغدير ! فقد كمَّمَ أفواه قريش عن المعارضة وفتحها للموافقة فقالوا جميعاً : نشهد أنك بلغت عن ربك وأنك نعم الرسول ، سمعنا لك وأطعنا ! وكبروا مع المكبرين عندما نزلت آية : الْيوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكمْ نِعْمَتِي
--------------------------- 625 ---------------------------
ثم أصغوا جميعاً إلى قصيدة حسان في وصف نداء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإبلاغه عن ربه ولاية على ( عليه السلام ) . ثم تهافتوا مع المهنئين إلى خيمة على ( عليه السلام ) ، واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر إلى ما شاء الله ، وبعد صلاة المغرب والعشاء ليلة التاسع عشر من ذي الحجة ، فقد بات النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غدير خم ، وقيل بقي فيه يومان !
في مسارِّ الشيعة للمفيد / 38 : « وفى اليوم الثامن عشر منه سنة عشر من الهجرة عقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لمولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب العهد بالإمامة في رقاب الأمة كافة ، وذلك بغديرخم عند مرجعه من حجة الوداع ، حين جمع الناس فخطبهم ووعظهم ونعى إليهم نفسه ، ثم قررهم على فرض طاعته حسب ما نزل به القرآن وقال لهم . . . ثم نزل فأمر الكافة بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين تهنئة له بالمقام ، وكان أول من هنأه بذلك عمر بن الخطاب » .
وفى الإرشاد : 1 / 176 : « ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض ، فصلى بهم الظهر ، وجلس ( صلى الله عليه وآله ) في خيمته وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يجلس في خيمة له بإزائه ، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنؤوه بالمقام ، ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ذلك كلهم ، ثم أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه ويسلمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن .
وكان ممن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب فأظهر له المسرة به وقال فيما قال : بخ بخ يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » !
وفى كتاب سليم بن قيس / 356 : « وأمر بنصب خيمة وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يدخل فيها وأول من أمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هما أبو بكر وعمر ، فلم يقوما إلا بعد ما سألا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هل من أمر الله هذه البيعة ؟ فأجابهما : نعم من أمر الله جل وعلا واعلما أن من نقض هذه البيعة كافر ومن لم يطع علياً كافر ، فإن قول على قولي وأمره أمري ، فمن خالف قول على وأمره فقد خالفني » !
وفى مناقب آل أبي طالب : 2 / 237 عن أبي سعيد الخدري : « ثم قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا قوم هنئونى هنئوني ، إن الله خصني بالنبوة ، وخص أهل بيتي بالإمامة » .
--------------------------- 626 ---------------------------
5 - حجر من سجيل للمعترضين من قريش !
معنى قوله تعالي : « وَاللهُ يعْصِمُك مِنَ النَّاسِ » أنه تعالى تكفل بحفظ نبوة النبي وأن لا تقوم ضده حركة ردة إذا بلغ رسالة ربه في علي والعترة « عليهم السلام » . فهو ضمان لأن تتحمل قريش تبليغ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولاية على ( عليه السلام ) نظرياً ، ولا يعنى ضمان طاعتها وعدم اعتراضها ، ولا عدم محاولتها قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) مجدداً !
لذلك بدأ الاعتراض يوم الغدير ، ووقعت محاولة قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في طريق عودته من حجة الوداع ، لكن لم تحدث حركة ردة عن نبوته ( صلى الله عليه وآله ) !
وروت مصادرنا وبعض مصادرهم ما قاله المعترضون القرشيون ! واعتراض بعضهم نزول العذاب عليهم ! وقد بحثنا ذلك في كتابنا آيات الغدير .
ونكتفي هنا بما رواه في الكافي : 1 / 422 و 8 / 57 وتفسير فرات / 504 وفيه : « طُرحت الأقتاب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم غدير خم ، قال : فعلا عليها فحمد الله وأثنى عليه ، ثم أخذ بعضد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فاستلها فرفعها ، ثم قال : اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله . فقام إليه أعرابي من أوسط الناس فقال : يا رسول الله دعوتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فشهدنا ، وأنك رسول الله فصدقنا ، وأمرتنا بالصلاة فصلينا ، وبالصيام فصمنا ، وبالجهاد فجاهدنا ، وبالزكاة فأدينا ، قال : ولم يقنعك إلا أن أخذت بيد هذا الغلام على رؤوس الأشهاد فقلت : اللهم من كنت مولاه فهذا على مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ! فهذا عن الله أم عنك ؟ ! قال : هذا عن الله ، لاعني ! قال : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا عن الله لاعنك ! قال : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا عن الله لاعني .
ثم قال ثالثة : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا عن ربك لاعنك ؟
قال : آلله الذي لا إله إلا هو لهذا عن ربى لاعني .
قال : فقام الأعرابي مسرعاً إلى بعيره وهو يقول : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَالْحَقَّ مِنْ عِنْدِك فَأَمْطِرْ عَلَينَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . قال : فما استتم الأعرابي الكلمات حتى
--------------------------- 627 ---------------------------
نزلت عليه نار من السماء فأحرقته ، وأنزل الله في عقب ذلك : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع ٍ . لِلْكافِرِينَ لَيسَ لَهُ دَافِعٌ . مِنَ اللهِ ذِى الْمَعَارِجِ » .
وأقدم من روى ذلك من أئمة السنيين أبو عبيد الهروي في : غريب القرآن ، قال : « لما بَلَّغَ رسول بغدير خم ما بَلَّغ وشاع ذلك في البلاد أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال : يا محمد ! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وبالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، فقبلنا منك ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلى مولاه ! فهذا شئ منك أم من الله ؟ ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : والذي لا إله إلا هو إن هذا إلا من الله . فولى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فَأَمْطِرْ عَلَينَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ! فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . . الآية » .
6 - نزلت ثلاث آيات في بيعة الغدير
فأولها قوله تعالي : يا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعْصِمُك مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يهْدِى الْقَوْمَ الْكافِرِينَ . المائدة : 67 .
والثانية : قوله تعالي : الْيوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكمُ الإسلام دِينًا . « المائدة : 3 » . نزلت بعد أن خطب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونصب علياً ( عليه السلام ) خليفته .
والثالثة : قوله تعالي : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . لِلْكافِرِينَ لَيسَ لَهُ دَافِعٌ . « المعارج : 1 - 2 »
نزلت عندما اعترض على النبي ( صلى الله عليه وآله ) معترضون من قريش .
وفى كل واحدة منها حديث صحيح في مصادرنا ومصادر أتباع السلطة ، وقد فصلناها في رسالة : تفسير آيات الغدير .
--------------------------- 628 ---------------------------
7 - محاولة قريش اغتيال النبي « صلى الله عليه وآله » بعد يوم الغدير !
في بحار الأنوار : 2 / 97 : « فأقبل بعضهم على بعض وقالوا : إن محمداً يريد أن يجعل هذا الأمر في أهل بيته ، كسنة كسرى وقيصر إلى آخر الدهر ! لا والله مالكم في الحياة من حظ ، إن أفضى هذا الأمر إلى علي بن أبي طالب ! وإن محمداً عاملكم على ظاهركم وإن علياً يعاملكم على ما يجد في نفسه منكم ! فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك وقدموا رأيكم فيه . ودار الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي ، فاتفقوا على أن ينفروا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ناقته على عقبة هرشي ، وقد كانوا عملوا مثل ذلك في غزوة تبوك ، فصرف الله الشر عن نبيه ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفى تفسير القمي : 1 / 174 : « فقال أصحابه الذين ارتدوا بعده : قد قال محمد في مسجد الخيف ما قال ، وقال هاهنا ما قال ، وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له ! فاجتمعوا أربعة عشر نفراً وتآمروا على قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقعدوا في العقبة وهى عقبة هرشى بين الجحفة والأبواء ، فقعدوا سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها ، لينفروا ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما جن الليل تقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في تلك الليلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته ، فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل : يا محمد إن فلاناً وفلاناً وفلاناً قد قعدوا لك ، فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : من هذا خلفي ؟ فقال حذيفة اليماني : أنا يا رسول الله حذيفة بن اليمان ، قال : سمعت ما سمعت ؟ قال : بلي . قال : فاكتم ، ثم دنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منهم فناداهم بأسمائهم ، فلما سمعوا نداء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فروا ودخلوا في غمار الناس ، وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها ! ولحق الناس برسول الله وطلبوهم وانتهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى رواحلهم فعرفهم ، فلما نزل قال : ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن مات محمد أو قتل ألا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً ؟ !
فجاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فحلفوا أنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً ولم يريدوه ولم يكتموا شيئاً من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأنزل الله : يا أَيهَا النَّبِى جَاهِدِ الْكفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا : أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وَلَقَدْ قَالُوا كلِمَةَ الْكفْرِ وَكفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ينَالُوا : من
--------------------------- 629 ---------------------------
قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ . . .
فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة وبقى بها محرم والنصف من صفر لا يشتكى شيئاً ثم ابتدأ به الوجع الذي توفى فيه ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفى كتاب سُلَيم / 271 ، عن أبي ذر « رحمه الله » أن بعض الصحابة تعاقدوا في الكعبة في حجة الوداع وقالوا : « ما بال هذا الرجل ما زال يرفع خسيسة ابن عمه ! وقال أحدهما :
إنه ليحسن أمر ابن عمه ! وقال الجميع : ما لنا عنده خير ما بقي علي » .
وفى الإقبال : 2 / 249 : « فلما كان في تلك الليلة قعد له ( عليه السلام ) أربعة عشر رجلاً في العقبة ليقتلوه ، وهى عقبة بين الجحفة والأبواء ، فقعد سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها لينفروا ناقته ، فلما أمسى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلى وارتحل ، وتقدم أصحابه وكان ( صلى الله عليه وآله ) على ناقة ناجية ، فلما صعد العقبة ناداه جبرئيل : يا محمد إن فلاناً وفلاناً وسماهم كلهم . . » !
- *
--------------------------- 630 ---------------------------
الفصل الثاني والسبعون
جيش أسامة وهدف النبي « صلى الله عليه وآله » منه
1 - عاش النبي « صلى الله عليه وآله » سبعين يوماً بعد حجة الوداع
عاد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة من حجة الوداع في أواخر ذي الحجة ، وأمضى بقية أيامه في المدينة . وهى نحو سبعين يوماً حسب روايتنا ، لأن وفاته ( صلى الله عليه وآله ) عندنا في الثامن والعشرين من صفر . ونحو ثمانين يوماً في رواية السلطة ، لأن وفاته عندهم في الثاني عشر من ربيع . وفى هذه المدة وقعت أحداث وأمور ، ونزلت آيات ، وصدرت منه ( صلى الله عليه وآله ) خطب وأحاديث !
2 - عَرَضَ الأنصار على النبي « صلى الله عليه وآله » ثلث أموالهم
في الكافي : 1 / 293 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فلما قدم المدينة « من حجة الوداع » أتته الأنصار فقالوا : يا رسول الله إن الله جل ذكره قد أحسن إلينا وشرفنا بك وبنزولك بين ظهرانينا ، فقد فرح الله صديقنا وكبت عدونا . وقد يأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم فيشمت بك العدو ، فنحب أن تأخذ ثلث أموالنا حتى إذا قدم عليك وفد وجدت ما تعطيهم . فلم يردَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عليهم شيئاً ، وكان ينتظر مايأتيه من ربه ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) وقال : قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَيهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَي ، ولم يقبل أموالهم فقال المنافقون : ما أنزل الله هذا على محمد وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه ويحمل علينا أهل بيته ! يقول أمس : من كنت مولاه فعلى مولاه واليوم : قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَيهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَي . ثم [ كان ] نزل عليه آية الخمس فقالوا يريد أن يعطيهم أموالنا وفيأنا ! ثم أتاه جبرئيل فقال : يا محمد إنك قد قضيت نبوتك
--------------------------- 631 ---------------------------
واستكملت أيامك ، فاجعل الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة عند على ( عليه السلام ) ، فإني لم أترك الأرض إلا ولى فيها عَلَمٌ تُعرف به طاعتي وتعرف به ولايتي ، ويكون حجة لمن يولد بين قبض النبي إلى خروج النبي الآخر .
قال : فأوصى إليه بالاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة ، وأوصى إليه بألف كلمة وألف باب ، يفتح كل كلمة وكل باب ألف كلمة وألف باب » .
وفى الإرشاد : 1 / 179 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « أيها الناس ، إني فرطكم وأنتم واردون على الحوض ، ألا وإني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني ، وسألت ربى ذلك فأعطانيه . ألا وإني قد تركتهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .
أيها الناس ، لا ألفينكم بعدى ترجعون كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقونى في كتيبة كمجرى السيل الجرار ! ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدى على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله . فكان يقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه . ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة » .
أقول : أكد القرآن على أن الأنبياء « عليهم السلام » كانوا يقولون لأممهم إنهم لا يطلبون منهم أجراً على تبليغ الرسالة ، وكذلك نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، قال تعالي : قُلْ لا أَسْأَلُكمْ عَلَيهِ أَجْرًا إِنْ هُوَإِلا ذِكرَى لِلْعَالَمِينَ . وقال تعالي : وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَإِلا ذِكرٌ لِلْعَالَمِينَ .
لكنه خص هذه الأمة بأن جعل أجر نبيها ( صلى الله عليه وآله ) محبتها وطاعتها لعترته « عليهم السلام » فقال : قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَيهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَنْ يقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ شَكورٌ . الشوري : 23 .
ثم بين لهم أن هذا الأجر هو السبيل إلى رضا الله تعالى وثوابه فقال : قُلْ مَا أَسْأَلُكمْ عَلَيهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً .
ثم قال لهم إن هذا الأجر الذي فرضه الله على هذه الأمة ليس غرماً عليها بل غنمٌ لها ، فقال : قُلْ مَا سَأَلْتُكمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكمْ إِنْ أَجْرِى إِلا عَلَى اللهِ . أي أنتم المنتفعون به لأنكم بمودتهم وطاعتهم لا تضلون .
--------------------------- 632 ---------------------------
وفى تفسير فرات / 392 ، عن عطاء بن أبي رباح قال : « قلت لفاطمة بنت الحسين : أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث ، وأحتج به على الناس . قالت : نعم ، أخبرني أبى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان نازلاً بالمدينة وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فريضة يستعين بها على من أتاه ، فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقالوا : قد رأينا ما ينوبك من النوائب ، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك . قال : فأطرق النبي ( صلى الله عليه وآله ) طويلاً ثم رفع رأسه فقال : إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئاً ، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشئ وإن أمرت به أعلمتكم . قال : فنزل جبرئيل فقال : يا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك وقد أنزل الله عليهم فريضة : قُلْ لا أَسْئَلُكمْ عَلَيهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَي . . قال فخرجوا وهم يقولون : ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبنى عبد المطلب .
قال : فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار ! ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ! ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار ! قال : فقام رجل وقال : يا أبا الحسن ما لهن من تأويل ؟ فقال : الله ورسوله أعلم . فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره ، فقال رسول الله : ويل لقريش من تأويلهن ، ثلاث مرات ! ثم قال : يا علي انطلق فأخبرهم أنى أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء ، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين ، وأنا وأنت أبوا المؤمنين » !
أقول : يظهر أن هؤلاء قرشيون جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد مجئ الأنصار ، وطلبوا أن يفرضوا له فريضة في أموالهم ، فأجابهم بآية المودة في القربى ، فنكصوا !
وفى الكافي : 1 / 293 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « أوصى موسى ( عليه السلام ) إلى يوشع بن نون وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون ، ولم يوص إلى ولده ولا إلى ولد موسي ، إن الله تعالى له الخيرة يختار من يشاء ممن يشاء . وبشرموسى ويوشع بالمسيح ، فلما أن بعث الله عز وجل المسيح قال المسيح لهم إنه سوف يأتي من بعدى نبي اسمه أحمد ، من ولد إسماعيل ، يجئ بتصديقى وتصديقكم ، وعذرى وعذركم . وجرت من بعده في الحواريين
--------------------------- 633 ---------------------------
في المستحفظين ، وإنما سماهم الله تعالى المستحفظين لأنهم استحفظوا الاسم الأكبر وهو الكتاب الذي يعلم به علم كل شئ ، الذي كان مع الأنبياء صلوات الله عليهم . يقول الله تعالى : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَينَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكتَابَ وَالْمِيزَانَ . الكتاب الاسم الأكبر . فلم تزل الوصية في عالم بعد عالم حتى دفعوها إلى محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتألفهم ويستعين ببعضهم على بعض ، ولا يزال يخرج لهم شيئاً في فضل وصيه . . . وقال : إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله عز وجل وأهل بيتي عترتي . . . فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم . . . فوقعت الحجة بقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبالكتاب الذي يقرأه الناس فلم يزل يلقى فضل أهل بيته بالكلام ويبين لهم القرآن . فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل فقال : يا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيك مِنْ رَبِّك . . .
فنادى الناس ، فوقعت حسيكة النفاق في قلوب القوم وقالوا : ما أنزل الله جل ذكره هذا على محمد قط ، وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه » !
3 - النبي « صلى الله عليه وآله » يجهر بالحقيقة ويتحدى قريشاً !
وقد بدأ النبي ( صلى الله عليه وآله ) هذا التحدي في حجة الوداع بصيغة اللعنة النبوية على من ادعى لغير أبيه ، كما تقدم ! فقد روى ابن ماجة : 2 / 905 ، أنه ( صلى الله عليه وآله ) خطبهم في حجة الوداع على راحلته فقال : « ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل » والترمذي : 2 / 293 ، أحمد : 4 / 239 ، الدارمي : 2 / 244 و 344 والبخاري : 2 / 221 ، و 4 / 67 . .
واستعمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) هذا الأسلوب عمداً لتنقله الأجيال ولا تطمسه قريش ! وقد روت مصادرهم أنه كتبه في صحيفة صغيرة معلقة في ذؤابة سيفه الذي ورَّثه لعلى ( عليه السلام ) ، فرواه بخارى في صحيحه : 4 / 67 ، مسلم : 4 / 115 ، بروايات والترمذي : 3 / 297 ، وفى تلك الصحيفة لعن من تولى غير مواليه ! ويقصد بذلك من تولى غيره وغير على ( عليه السلام ) ، لأنهما الأبوان المعنويان لهذه الأمة !
--------------------------- 634 ---------------------------
ويدل عليه أن الولد الذي يهرب من أبيه وينتسب إلى آخر ويتوب ، تقبل توبته ! بينما هذا الذي لعنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا يقبل منه صرف أي توبة ، ولا عدل أي فدية ! فهي عقوبة الردة والخروج من الملة ، وليست عقوبة ولد يدعو نفسه لغير أبيه ! سنن البيهقي : 8 / 26 ، الزوائد : 1 / 9 ، وكنز العمال : 5 / 872 و 10 / 324 .
وقد رووا هذه اللعنة بعد ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأهل بيته وحقهم في الخمس .
ففي مسند أحمد : 4 / 186 : « خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرة من كاهل ناقته ، فقال : ولا ما يساوى هذه أو ما يزن هذه . لعن الله من ادعى إلى غيرأبيه ، أو تولى غير مواليه » !
وفسرته بذلك مصادرنا . وروت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) استعمله عندما كثر طلقاء قريش في المدينة ، وتصاعد عملهم ضد أهل بيته « عليهم السلام » وقالوا : إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا ، أي مزبلة ! فبلغ ذلك النبي فغضب وأمر علياً ( عليه السلام ) أن يصعد المنبر ويجيبهم وقال له : « يا علي انطلق حتى تأتى مسجدى ثم تصعد منبري ، ثم تدعو الناس إليك ، فتحمد الله تعالى وتثنى عليه وتصلى عَلَى صلاة كثيرة ، ثم تقول : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره ! فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوى فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصليت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلاة كثيرة ثم قلت : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي ، على من انتمى إلى غير أبيه ، أو ادعى إلى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره . قال : فلم يتكلم أحد من القوم إلا عمر بن الخطاب فإنه قال : قد أبلغت يا أبا الحسن ولكنك جئت بكلام غير مفسر ، فقلت : أُبْلِغُ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرجعت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأخبرته الخبر فقال : إرجع إلى مسجدى حتى تصعد منبرى فاحمد الله وأثن عليه وصل على ثم قل : أيها الناس ، ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره ، ألا وإني أنا أبوكم ، ألا وإني أنا مولاكم ألاوإنى أنا أجيركم » ! أمالي المفيد / 353 والطوسي / 123 .
--------------------------- 635 ---------------------------
4 - جيش أسامة لإفراغ المدينة من خصوم علي « عليه السلام »
في الإرشاد : 1 / 179 : « ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة ، وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه ( عليه السلام ) على إخراج جماعة من متقدمى المهاجرين والأنصار في معسكره ، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته ( صلى الله عليه وآله ) من يختلف في الرئاسة ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده ، ولا ينازعه في حقه منازع . فعقد له الأمرة على من ذكرناه وجدَّ ( صلى الله عليه وآله ) في إخراجهم ، فأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف ، وحث الناس على الخروج إليه والمسير معه وحذرهم من التلوُّم والإبطاء عنه . فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفى فيها ، فلما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع ، فقال لمن تبعه : إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع ، فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم فقال ( صلى الله عليه وآله ) : السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها !
ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً وأقبل على أمير المؤمنين فقال : إن جبرئيل ( عليه السلام ) كان يعرض على القرآن كل سنة مرة ، وقد عرضه عَلَى العام مرتين ، ولا أراه إلا لحضور أجلي » .
وفى إعلام الوري : 1 / 263 : « ولما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة من حج الوداع بعث بعده أسامة بن زيد وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه ، وقال له : أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الروم . وجعل في جيشه وتحت رايته أعيان المهاجرين ووجوه الأنصار وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة . وعسكر أسامة بالجرف فاشتكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شكواه التي توفى فيها ، وكان يقول في مرضه : نفذوا جيش أسامة ويكرر ذلك ، وإنما فعل ذلك لئلا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الإمامة ويطمع في الإمارة ، ويستوسق الأمر لأهله » .
--------------------------- 636 ---------------------------
وفى كتاب سليم بن قيس « رحمه الله » / 424 : « وفى ذلك الجيش أبو بكر وعمر ، فقال كل واحد منهما : لا ينتهى يستعمل علينا هذا الصبى العبد » !
وقال ابن حجر في فتح الباري : 8 / 115 ، وهو من كبار أئمة السلطة : « وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر أن يكون أبو بكر وعمر في بعث أسامة ، ومستند ما ذكرناه ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي ، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد ، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه : بدأ برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجعه يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال : أُغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك ، فقد وليتك هذا الجيش . فذكر القصة وفيها : لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر وعمر . . وعند الواقدي أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف ، فيهم سبعمائة من قريش » .
أقول : أوردنا كلام ابن حجر لإثبات أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تعمد أن يفرغ المدينة من القرشيين ، ومن كل من يمكن أن يعارض استخلاف على ( عليه السلام ) .
وتعمد أن يؤمِّر عليهم أسامة الشاب الأسود ابن الثمان أو السبع عشرة سنة ، حتى لايعترض أحد على سن على ( عليه السلام ) الذي كان في الثالثة والثلاثين من عمره .
كما نلاحظ أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبر عن النتائج السيئة لما يجرى حوله ، وأطلق تحذيره لأجيال الأمة من الفتن التي سيسببها طمع قريش في خلافته !
وروى ابن هشام : 4 / 1057 قوله ( صلى الله عليه وآله ) لعائشة لما رجع من البقيع وتحدث عن الفتن : « ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك ؟ قالت قلت : والله لكأني بك لو قد فعلتُ ذلك ، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك » !
5 - أمير المؤمنين « عليه السلام » يصف عملهم لإفشال جيش أسامة
في الخصال / 371 ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، في جوابه للحبر اليهودي عن امتحانات الله للوصي النبي ، قال ( عليه السلام ) : « وأما الثانية يا أخا اليهود ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمَّرنى في حياته على جميع أمته ، وأخذ على من حضره منهم البيعة بالسمع والطاعة لأمري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب في ذلك ، فكنت المؤدى إليهم عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمره
--------------------------- 637 ---------------------------
إذا حضرته ، والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الأمور ، في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا بعد وفاته .
ثم أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد ، عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ، ممن يخاف على نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم ، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده . ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر أمته أن يمضى جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم ، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد !
فلم أشعر بعد أن قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره ، قد تركوا مراكزهم وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيما أنهضهم له وأمرهم به ، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه ، حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ولرسوله ( صلى الله عليه وآله ) في أعناقهم ، فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منا بنى عبد المطلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ! فعلوا ذلك وأنا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مشغول ، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها !
فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية وفاجع المصيبة ، وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك وتعالي ، فصبرت
--------------------------- 638 ---------------------------
عليها إذ أتت بعد أختها على تقاربها وسرعة اتصالها » . والاختصاص / 170 .
وفى المراجعات / 365 : « سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى غزو الروم ، وهى آخر السرايا على عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد اهتم فيها بأبى وأمي اهتماماً عظيماً فأمر أصحابه بالتهيؤ لها وحضهم على ذلك ، ثم عبأهم بنفسه الزكية إرهافاً لعزائمهم واستنهاضاً لهممهم ، فلم يبق أحداً من وجوه المهاجرين والأنصار ، كأبي بكر وعمر وأبى عبيدة وسعد وأمثالهم ، إلا وقد عبأه بالجيش . . . فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف ، ثم تثاقلوا هناك فلم يبرحوا ، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصريحة في وجوب إسراعهم . . . وطعن قوم منهم في تأمير أسامة كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه ، وقالوا في ذلك فأكثروا مع ما شاهدوه من عهد النبي له بالإمارة . . . حتى غضب ( صلى الله عليه وآله ) من طعنهم غضباً شديداً ، فخرج بأبى وأمي معصب الرأس مدثراً بقطيفته محموماً ألماً . . . فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال فيما أجمع أهل الأخبار على نقله واتفق أولوا العلم على صدوره : أيها الناس ما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ! وأيم الله إنه كان لخليقاً بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليق بها ! وحضهم على المبادرة إلى السير فجعلوا يودعونه ويخرجون إلى العسكر بالجرف وهو يحضهم على التعجيل .
ثم ثقل في مرضه فجعل يقول : جهزوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أسامة ، أرسلوا بعث أسامة . . لعن الله من تخلف عنه . . . وقد تعلم أنهم إنما تثاقلوا عن السير أولاً ، وتخلفوا عن الجيش أخيراً ، ليحكموا قواعد سياستهم ويقيموا عمدها ، ترجيحاً منهم لذلك على التعبد بالنص .
وإنما أمَّر عليهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة ، لياً لأعِنَّة البعض ، ورداً لجِمَاح أهل الجماح منهم ، واحتياطاً على الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس . . لكنهم فطنوا إلى ما دبر ( صلى الله عليه وآله ) فطعنوا في تأمير أسامة وتثاقلوا عن السير معه ، فلم يبرحوا من الجرف حتى لحق النبي ( صلى الله عليه وآله ) بربه . . .
فهذه خمسة أمور في هذه السرية لم يتعبدوا فيها بالنصوص الجلية ، إيثاراً لرأيهم في
--------------------------- 639 ---------------------------
الأمور السياسية ، وترجيحاً لاجتهادهم فيها على التعبد بنصوصه ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفى منهاج الكرامة / 100 : « وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مرض موته مرة بعد أخرى مكرراً لذلك : أنفذوا جيش أسامة ! لعن الله المتخلف عن جيش أسامة ! وكان الثلاثة معه » .
وفى تقريب المعارف / 314 : « ولا فرق بين خلافه ( صلى الله عليه وآله ) فيما أمر به من المسير مع أسامة ، وبين خلافه فيما أمر به من الصلاة والزكاة والإمامة ، وذلك فسق لا شبهة فيه ، ودعوى خروج أبى بكر من البعث لايفى شيئاً ، لثبوت الرواية به » .
وفى الإرشاد : 1 / 182 : « واستمر به المرض أياماً وثقل ( صلى الله عليه وآله ) ، فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله مغمور بالمرض فنادي : الصلاة يرحمكم الله ، فأوذن رسول الله بندائه فقال : يصلى بالناس بعضهم فإنني مشغول بنفسي . فقالت عائشة : مروا أبا بكر ! وقالت حفصة : مروا عمر ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين سمع كلامهما ، ورأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بأبيها وافتتانهما بذلك ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حي : أُكففن فإنكن صويحبات يوسف !
ثم قام ( صلى الله عليه وآله ) مبادراً خوفاً من تقدم أحد الرجلين وقد كان أمرهما بالخروج إلى أسامة ، ولم يكن عنده أنهما قد تخلفا ، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنهما متأخران عن أمره ، فبدر لكف الفتنة وإزالة الشبهة ، فقام وإنه لا يستقل على الأرض من الضعف ، فأخذ بيده علي بن أبي طالب والفضل بن عباس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف ! فلما خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده أن تأخر عنه ، فتأخر أبو بكر وقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقامه فكبر فابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأ بها أبو بكر ، ولم يبن على ما مضى من فعاله . فلما سلَّم النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الصلاة انصرف إلى منزله ، واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضر المسجد من المسلمين ، ثم قال : ألم آمر أن تنفذوا جيش أسامة ! قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فلم تأخرتم عن أمري ؟ فقال أبو بكر : إنني كنت خرجت ثم عدت لأجدد بك عهداً . وقال عمر : يا رسول الله ، لم أخرج لأننى لم أحب أن أسأل عنك الركب ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
--------------------------- 640 ---------------------------
فأنفذوا جيش أسامة ، فأنفذوا جيش أسامة يكررها ثلاث مرات ، ثم أغمي عليه من التعب الذي لحقه والأسف ، فمكث هنيهة مغمى عليه ، وبكى المسلمون ، وارتفع النحيب من أزواجه وولده والنساء المسلمات ومن حضر من المسلمين » .
6 - حذيفة يصف تسلل أبى بكر وعمر ليلاً إلى المدينة
« أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن تفرغ المدينة من دعاة الفتنة وأرسلهم جميعاً في جيش أسامة إلى فلسطين ، وفيهم سبع مئة رجل من قريش ! وأمره بالتحرك ولعن من تخلف عن جيش أسامة ! فافتعلوا المشاكل والأعذار حتى سوفوا الوقت وأفشلوا برنامج النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وتسللوا من معسكره من الجرف لواذاً عائدين إلى المدينة !
وقد روى في إرشاد القلوب : 2 / 237 والدرجات الرفيعة / 290 ، أن حذيفة صاحب سر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان حاكم المدائن فلما جاءه خبر بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فرح بذلك ، وصعد المنبر ودعا الناس إلى بيعته وخطب خطبة طويلة ، بين فيها فضائل على ( عليه السلام ) وكشف مؤامرة قريش على عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . ومما قاله « رحمه الله » : « وأمر ( صلى الله عليه وآله ) أسامة بن زيد فعسكر بهم على أميال من المدينة ، فأقام بمكانه الذي حد له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منتظراً القوم أن يرافقوه إذا فرغوا من أمورهم وقضاء حوائجهم ، وإنما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بما صنع من ذلك أن تخلو المدينة منهم ولا يبقى بها أحد من المنافقين . قال : فهم على ذلك من شأنهم ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دائب يحثهم ويأمرهم بالخروج والتعجيل إلى الوجه الذي ندبهم إليه ، إذ مرض رسول الله مرضه الذي توفى فيه ، فلما رأوا ذلك تباطؤوا عما أمرهم رسول الله من الخروج ، فأمر قيس بن سعد بن عبادة وكان سياف رسول الله والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن يرحلوا بهم إلى عسكرهم ، فأخرجهم قيس بن سعد والحباب بن المنذر حتى ألحقاهم بمعسكرهم ، وقالا لأسامة : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يرخص لك في التخلف فسر من وقتك هذا ، ليعلم رسول الله ذلك . فارتحل بهم أسامة وانصرف قيس بن سعد والحباب بن المنذر إلى رسول الله فأعلماه برحلة القوم ، فقال لهم : إن القوم غير سائرين من مكانهم !
--------------------------- 641 ---------------------------
قال : فخلا أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بأسامة وجماعة من أصحابه فقالوا : إلى أين ننطلق ونخلي المدينة ، ونحن أحوج ما كنا إليها وإلى المقام بها ؟ !
قالوا : إن رسول الله قد نزل به الموت ، ووالله لئن خلينا المدينة ليحدثن بها أمور لا يمكن إصلاحها ! ننظر ما يكون من أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم المسير بين أيدينا !
قال : فرجع القوم إلى المعسكر الأول فأقاموا به ، فبعثوا رسولاً يتعرف لهم بالخبر من أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأتى الرسول عائشة فسألها عن ذلك سراً فقالت : إمض إلى أبى بكر وعمر ومن معهما فقل لهما : إن رسول الله قد ثقل ولا يبرحن أحد منكم ! وأنا أعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت ! واشتدت علة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدعت عائشة صهيباً فقالت : إمض إلى أبى بكر وأعلمه أن محمداً في حال لاترجي ، فهلموا إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ومن رأيتم أن يدخل معكم ، وليكن دخولكم المدينة بالليل سراً ! قال : فأتاهم بالخبر فأخذوا بيد صهيب فأدخلوه إلى أسامة بن زيد فأخبروه الخبر وقالوا له كيف ينبغي لنا أن نتخلف عن مشاهدة رسول الله ، واستأذنوه للدخول فأذن لهم بالدخول ، وأمرهم أن لا يعلم أحد بدخولهم ، وقال : إن عوفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رجعتم إلى عسكركم ، وإن حدث حادث الموت عرفونا ذلك لنكون في جماعة الناس ، فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلاً المدينة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد ثقل .
قال : فأفاق بعض الإفاقة فقال : لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم ! فقيل له وما هو يا رسول الله ؟ قال فقال : إن الذين كانوا في جيش أسامة قد رجع منهم نفر يخالفون أمري ، ألا إني إلى الله منهم بريء !
ويحكم نفذوا جيش أسامة ! فلم يزل يقول ذلك حتى قالها مرات كثيرة .
قال : وكان بلال مؤذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يؤذن بالصلاة في كل وقت صلاة ، فإن قدر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على الخروج تحامل وخرج وصلى بالناس ، وإن هو لم يقدر على الخروج أمر علي بن أبي طالب فصلى بالناس ، وكان على ( عليه السلام ) والفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك . فلما أصبح
--------------------------- 642 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ليلته تلك التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يدي أسامة ، أذن بلال ثم أتاه يخبره كعادته فوجده قد ثقل فمنع من الدخول إليه ، فأمرت عائشة صهيباً أن يمضى إلى أبيها فيعلمه أن رسول الله قد ثقل ، وليس يطيق النهوض إلى المسجد وعلي بن أبي طالب قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس ، فأخرج أنت إلى المسجد وصل بالناس فإنها حالة تهيئك وحجة لك بعد اليوم .
قال : ولم يشعر الناس وهم في المسجد ينتظرون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو علياً ( عليه السلام ) يصلى بهم كعادته التي عرفوها في مرضه ، إذ دخل أبو بكر المسجد وقال : إن رسول الله قد ثقل وقد أمرني أن أصلى بالناس ! فقال له رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وأنَّى لك ذلك وأنت في جيش أسامة ! لا والله ما أعلم أحداً بعث إليك ولا أمرك بالصلاة ! ثم نادى الناس بلالاً فقال : على رسلكم رحمكم الله لأستأذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ذلك ، ثم أسرع حتى أتى الباب فدقه دقاً شديداً ، فسمعه رسول الله فقال : ما هذا الدق العنيف فانظروا ما هو ؟ قال فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فإذا بلال فقال : ما وراءك يا بلال ؟ فقال : إن أبا بكر دخل المسجد وتقدم حتى وقف في مقام رسول الله ، وزعم أن رسول الله أمره بذلك ! فقال أوليس أبو بكر مع أسامة في الجيش ! هذا والله هو الشر العظيم الذي طرق البارحة المدينة ! لقد أخبرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك !
ودخل الفضل وأدخل بلالاً معه فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ما وراءك يا بلال ؟ فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الخبر فقال : أقيمونى أخرجوني إلى المسجد والذي نفسي بيده قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن !
ثم خرج ( صلى الله عليه وآله ) معصوب الرأس يتهادى بين على ( عليه السلام ) والفضل بن عباس ورجلاه تجران في الأرض ، حتى دخل المسجد وأبو بكر قائم في مقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
وقد طاف به عمر وأبو عبيدة وسالم وصهيب والنفر الذين دخلوا ، وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما يأتي به بلال ، فلما رأى الناس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد دخل المسجد وهو بتلك الحالة العظيمة من المرض أعظموا ذلك ، وتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجذب أبا بكر من ردائه فنحاه عن المحراب ، وأقبل أبو بكر والنفر
--------------------------- 643 ---------------------------
الذين كانوا معه ، فتواروا خلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! وأقبل الناس فصلوا خلف رسول الله وهو جالس وبلال يسمع الناس التكبير حتى قضى صلاته ، ثم التفت فلم ير أبا بكر ! فقال : أيها الناس لا تعجبون من ابن أبي قحافة وأصحابه الذين أنفذتهم وجعلتهم تحت يدي أسامة ، وأمرتهم بالمسير إلى الوجه الذي وجهوا إليه فخالفوا ذلك ورجعوا إلى المدينة ابتغاء الفتنة ، ألا وإن الله قد أركسهم فيها !
أعرجوابى إلى المنبر فقام وهو مربوط حتى قعد على أدنى مرقاة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنني قد جاءني من أمر ربى ما الناس صائرون إليه وإني قد تركتكم على المحجة الواضحة ليلها كنهارها ، فلا تختلفوا من بعدى كما اختلف من كان قبلكم من بني إسرائيل !
أيها الناس : لا أحِلُّ لكم إلا ما أحله القرآن ولا أحَرِّم عليكم إلا ما حرَّمه القرآن وإني مخلِّف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي هما الخليفتان ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فأسألكم ماذا خلفتموني فيهما . وليذادن يومئذ رجال عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل ، فيقول أنا فلان وأنا فلان ، فأقول أما الأسماء فقد عرفت ولكنكم ارتددتم من بعدى
فسحقاً لكم سحقاً !
ثم نزل عن المنبر وعاد إلى حجرته . ولم يظهر أبو بكر وأصحابه حتى قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! وكان من الأنصار سعد وغيرهم من السقيفة ما كان ، فمنعوا أهل بيت نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) حقوقهم التي جعلها الله عز وجل لهم » .
7 - أبو بكر وعمر يظهران الندم على تركهما جيش أسامة !
في الخصال / 171 : « عن جابر بن عبد الله قال : شهدت عمر عند موته يقول : أتوب إلى الله من ثلاث : من ردى رقيق اليمن ، ومن رجوعي عن جيش أسامة بعد أن أمَّره رسول الله علينا ، ومن تعاقدنا على أهل هذا البيت إن قبض الله رسوله لا نولى منهم أحداً » . وروى نحوه عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) .
--------------------------- 644 ---------------------------
وفى الإيضاح / 159 ، عن إياس بن قبيصة الأسدي ، من حديث قال : « سمعت أبا بكر يقول . . وأما الثلاث اللاتي لم أفعلهن وليتني كنت فعلتهن ، فوددت أنى كنت أقدت من خالد بن الوليد بمالك بن نويرة ، ووددت أنى لم أتخلف عن بعث أسامة ، ووددت أنى كنت قتلت عيينة بن حصين وطلحة بن خويلد » .
8 - الرواية الرسمية لجيش أسامة
في سيرة ابن هشام : 4 / 1025 و 1064 : « ثم قفل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفراً ، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون . . .
استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه ، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة : أمَّر غلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار ! فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقاً لها ! قال : ثم نزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وانكمش الناس في جهازهم ، واستعز برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجعه ، فخرج أسامة وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ « نحو 6 كيلومتر » فضرب به عسكره ، وتتامَّ إليه الناس ، وثقل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأقام أسامة والناس لينظروا ما الله قاض في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .
وفى صحيح بخاري : 1 / 175 ، عن عائشة : « لما ثقل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال : مروا أبا بكر أن يصلى بالناس ، فقلت : يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى ما يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر . فقال : مروا أبا بكر يصلي ، فقلت لحفصة ، قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر . قال : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر أن يصلى بالناس ! فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في نفسه خفة فقام يهادى بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض ، حتى دخل المسجد ، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب
--------------------------- 645 ---------------------------
أبو بكر يتأخر فأومأ إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبى بكرفكان أبو بكر يصلى قائماً ، وكان رسول الله يصلى قاعداً يقتدى أبو بكر بصلاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والناس مقتدون بصلاة أبى بكر » !
9 - رد قولهم إن النبي « صلى الله عليه وآله » نصب أبا بكر للصلاة
رد علماؤنا روايتهم بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر أن يصلى أبو بكر بالناس ، وقال السيد الميلاني في إبطال ما استدل به لإمامة أبى بكر / 33 : « أما أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يؤكد على بعث أسامة ، وإلى آخر لحظة من حياته ، فلم يخالف فيه أحد ولا خلاف فيه أبداً ، وهو مذكور في كتبنا وفى كتبهم . . وأما أن كبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث ، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر ، فكيف يأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بخروج أبى بكر في بعث أسامة ويؤكد على خروجه إلى آخر لحظة من حياته ، ومع ذلك يأمر أبا بكر أن يصلى في مكانه ؟
وهنا يضطر مثل ابن تيمية لأن ينكر وجود أبى بكر في بعث أسامة ، ويقول هذا كذب ، لأنه يعلم بأن وجود أبى بكر في بعث أسامة يعنى كذب خبر إرسال أبى بكر إلى الصلاة . . ولذا لما توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان أسامة بجيشه في خارج المدينة ، ولذا لما ولى أبو بكر اعترض أسامة ولم يبايع أبا بكر قال : أنا أمير على أبى بكر وكيف أبايعه ؟ ولذا لما سير أبو بكر أسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة . فالقرائن الداخلية والخارجية تقتضى كذب هذا خبر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسل أبا بكر إلى الصلاة » .
وقال السيد الميلاني في رسالة في صلاة أبى بكر : 76 : « خرج معتمداً على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ورجل آخر وهو في آخر رمق من حياته ليصرفه « أبا بكر » عن المحراب . . ويعلن بأن صلاته لم تكن بأمر منه بل من غيره » !
وقال كبير أئمة الزيدية الهادي يحيى بن الحسين في تثبيت الإمامة / 18 : « وكيف تنعقد بيعة لمن هو في بيعة غيره ؟ ألم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجه أبا بكر وعمر
--------------------------- 646 ---------------------------
وغيرهما في جيش أسامة بن زيد قبل وفاته صلوات الله عليه ، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا ويصلوا بصلاته ويأتمروا بأمره ؟ وقال ( صلى الله عليه وآله ) : أنفذوا جيش أسامة ولا يتخلف إلا من كان عاصياً لله ولرسوله . فلما صار أسامة بعسكره على أميال من المدينة بلغهم مرض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرجع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فلما دخلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تغير لونه وقال : اللهم إني لا آذن لأحد أن يتخلف عن جيش أسامة ! وهمَّ أبو بكر بالرجوع إلى أسامة واللحوق به فمنعه عمر !
ثم قال : وقال عمر لأبى بكر : أُكتب إلى أسامة بن زيد يقدم عليك ، فإن في قدومه عليك قطع الشنعة عنا ! فكتب إليه أبو بكر : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله أبى بكر خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى أسامة بن زيد : أما بعد ، فانظر إذا أتاك كتابي هذا فأقبل إلى أنت ومن معك ، فإن المسلمين قد اجتمعوا عَلَي ، وولونى أمرهم ، فلا تتخلفن فتعصينى ويأتيك ما تكره ، والسلام . فأجابه أسامة بن زيد ، وكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله أسامة بن زيد عامل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على غزوة الشام إلى أبى بكر بن أبي قحافة ، أما بعد فقد أتاني كتابك ينقض أوله آخره ! ذكرت في أوله : أنك خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وذكرت في آخره أن الناس قد اجتمعوا عليك ، وولوك أمرهم ورضوا بك ! واعلم أنى ومن معي من المهاجرين والأنصار وجميع المسلمين ما رضيناك ولا وليناك أمرنا ، فاتق الله ربك ، وإذا قرأت كتابي هذا فأقدم إلى ديوانك الذي بعثك فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا تعصه ، وأن تدفع الحق إلى أهله فإنهم أحق به منك ، وقد علمت ما قال رسول الله في علي يوم الغديروما طال العهد فتنسي ؟ ! فانظر أن تلحق بمركزك ولا تتخلف فتعصى الله سبحانه وتعالى ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) وتعصى من استخلفه رسول الله عليك وعلى صاحبك ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استخلفنى عليكم ولم يعزلني ، وقد علمت كراهة رسول الله لرجوعكم منى إلى المدينة وقال : لا يتخلفن أحد عن جيش أسامة إلا كان عاصياً لله ولرسوله ! فيالك الويل يا ابن أبي قحافة ! تعدل نفسك بعلى بن أبي طالب وهو وارث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيه وابن عمه وأبو ولديه ؟ ! فاتق الله أنت وصاحبك فإنه لكما بالمرصاد وأنتما منه في غرور !
--------------------------- 647 ---------------------------
والذي بعث محمداً بالحق نبياً ما تركت أمة وصى رسولها ولا نقضوا عهده إلا استوجبوا من الله اللعنة والسخط !
فلما وصل الكتاب إلى أبى بكر هم أن يخلعها من عنقه فقال عمر : لا تفعل ، قميص قمصك الله تعالى لا تخلعه فتندم ! فقال له : يا عمر أكفرٌ بعد إسلام ؟ فألح عليه عمر وقال : أُكتب إليه وإلى فلان وأمر فلاناً وفلاناً وفلاناً جماعة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يكتبوا إليه أن أقدم ، ولا تفرق جماعة المسلمين !
فلما وصلت كتبهم قدم المدينة ودخل إلى علي ( عليه السلام ) فعزاه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبكى بكاءً شديداً وضم الحسن والحسين إلى صدره وقال : يا علي ما هذا ؟ ! قال : هو ما أنت تري ! قال : فما تأمرني ؟ فأخبره بما عهد إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من تركهم حتى يجد أعواناً ! ثم أتى أبو بكر إلى أسامة وسأله البيعة ؟ فقال له أسامة : إن رسول الله أمَّرنى عليك فمن أمَّرك عَلَي ؟ والله لا أبايعك أبداً ولا حللت لك عهدي فلا صلاة لك إلا بصلاتي ! أفلا يرى من عقل أن أسامة أمير على أبى بكر وهو أحق بهذا الأمر وأولى منه ، لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مات وهو عليه أمير ، ولم يعزله عن إمرته . فأين الإجماع والرضا مع هذه الأخبار ؟ ! » .
وقال في تثبيت الإمامة / 22 : « فسألناهم البينة من غير أهل مقالتهم على أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر أبا بكر بالصلاة بالناس ؟ فلم يأتوا بالبينة على ذلك ! وأجمعت الثلاث الفرق التي خالفتهم أن عائشة هي التي أمرت بلالاً عندما آذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت : مر أبا بكر أن يصلى بالناس ! فبطلت حجة من زعم أن رسول الله أمر أبا بكر بالصلاة ، ولم نجد أحداً يشهد لها على هذا الادعاء !
ثم أجمع جميع أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) على أنه لما أفاق من غشيته سأل : من المتولى للصلاة ؟ فقالوا : أبو بكر . فنهض ( صلى الله عليه وآله ) متوكئاً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه . . . تخط الأرض قدماه حتى جر أبا بكر من المحراب فأخره وتقدم ( صلى الله عليه وآله ) فصلى بالناس » .
--------------------------- 648 ---------------------------
الفصل الثالث والسبعون
مرض النبي « صلى الله عليه وآله » وشهادته
1 - النبي « صلى الله عليه وآله » يزور البقيع ويحذر صحابته !
لمَّا أحس بالمرض أخذ بيد على ( عليه السلام ) واتبعه جماعة من الناس ، وذهب إلى البقيع فاستغفر لأهله وقال : « السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولي » ! الإرشاد : 1 / 179 والإفصاح / 50 .
وفى كنز الفوائد / 60 ، أنه قال لأصحابه في مرضه الذي توفى فيه : « أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولي » !
وقال لهم : « إنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ، إنهم لا يزالون مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم » ! وقال لهم : « ألا لأخبرنكم ترتدون بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ! ألا إني قد شهدت وغبتم » !
وقال لهم : « ستتبعون سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم . فقالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصاري ؟ قال : فمن إذن ؟ ! » . « وسمعهم يذكرون فتنة الدجال فقال لهم : إني لفتنة بعضكم أخوف منى من فتنة الدجال » !
وروت نحوه مصادر السلطة ، ففي مسند أحمد : 3 / 489 عن أبي مويهبة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من جوف الليل « يقصد أيقظني » فقال : يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي ، فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السلام عليكم
--------------------------- 649 ---------------------------
يا أهل المقابر ، ليهْنِ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس ! لو تعلمون ما نجاكم الله منه ! أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها ، الآخرة شر من الأولي ! قال : ثم أقبل علَى فقال : يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة ، قال قلت : بأبى وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة . قال : لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربى والجنة . ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف ، فبدأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في وجعه الذي قبضه الله عز وجل فيه » . وابن هشام : 4 / 1056 ، الدارمي : 1 / 36 ، الحاكم : 3 / 55 ، الطبراني الكبير : 22 / 347 ، الطبقات : 2 / 204 .
وهذا تأكيد ما عليه مزيد من النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن الفتنة تنتظر وفاته ، وأن الموتى أحسن حالاً ممن سيقع فيها ! ولا تفسير لها إلا أن الحكم سينحرف من بعده !
لكن السلطة القرشية تغمض عيونها عما ترويه ، وتقول : إن الأمور سارت بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأفضل ما يكون ، وإن خير القرون قرن صحابته !
2 - مدة مرض النبي « صلى الله عليه وآله »
تفاوتت الرواية في مدة مرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) بين ثلاثة عشر وثمانية عشر يوماً ، والأخير أرجح ، لأن وفاته كانت يوم الاثنين ، وبدأ مرضه يوم السبت .
والمشهور عندنا أن وفاته ( صلى الله عليه وآله ) كانت في الثامن والعشرين من صفر ، وعند أتباع المذاهب أنها في الثاني عشر من ربيع الأول .
وكان مرضه ( صلى الله عليه وآله ) الحمى والصداع ، وقد نفى أئمتنا « عليهم السلام » أن يكون مرضه ذات الجنب أي التهاب الرئة ، ففي الكافي : 8 / 193 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال :
« اشتكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت له عائشة : بك ذات الجنب ؟ فقال : أنا أكرم على الله عز وجل من أن يبتلينى بذات الجنب » .
لكن عائشة قالت : « ما مات رسول الله إلا من ذات الجنب » ! الزوائد : 9 / 34 .
--------------------------- 650 ---------------------------
3 - مات النبي « صلى الله عليه وآله » شهيداً بالسُّمّ !
قال الله تعالى : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكمْ وَمَنْ ينْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيهِ فَلَنْ يضُرَّ اللهَ شَيئًاوَسَيجْزِى اللهُ الشَّاكرِينَ .
فأخبر عز وجل بأن وفاته ( صلى الله عليه وآله ) ستكون بالموت الطبيعي أو بالقتل ، وهذا الترديد من الله العليم بكل شئ ، يعنى فتح الباب لاحتمال قتله بالسيف أو السُّم .
وقد أهدت له يهودية بعد فتح خيبر شاة مسمومة ، وأكلوا منها لقمة أو شموا رائحتها فأخبره الله تعالى بأنها مسمومة ، وزعموا أنه أكل منها وأن ذلك السم كان يعاوده سنوياً . أبو داود : 2 / 370 وابن ماجة : 2 / 1174 .
وقال في شفاء السقام / 332 : « قال العلماء : فجمع الله له بذلك بين النبوة والشهادة » .
لكن أحاديثنا نفت أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله ) أكل من تلك الشاة ، ففي الثاقب لابن حمزة / 81 : « فلما وضعت الشاة بين يديه ( صلى الله عليه وآله ) ، تكلمت كتفها فقال : مه يا محمد لا تأكلني ، فإني مسمومة » . فالصحيح أنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يأكل منها .
وروينا أنه مات مسموماً من غير لحم الشاة ، بالدواء الذي لُدَّ به في مرضه ! والُّلدود دواء كالمرهم يوضع في الفم ! وقد روته عامة مصادرهم .
وخلاصة القصة : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يغشى عليه من شدة الحمى لدقائق ويفيق ، فأحس بأن بعض من حوله يريدون أن يسقوه دواء عندما يغمى عليه ، فنهاهم وشدد نهيه عليهم ، ومع ذلك عصوه ووضعوا في فمه دواء كالمرهم عندما أغمي عليه فرفضه فوضعوه في فمه بالقوة ! فأفاق ( صلى الله عليه وآله ) ووبخهم على عملهم ، وأمر كل من كان حاضراً أن يشرب من ذلك الدواء ، ما عدا بني هاشم !
قال البخاري : 7 / 17 : « قالت عائشة : لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء . فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ ! قلنا : كراهية المريض للدواء . فقال : لا يبقى في البيت أحد إلا لد وأنا أنظر ، إلا العباس فإنه لم يشهدكم » ! « ورواه في : 8 / 40 و 42 » وفيه أنه أحس باللد فنهاهم فلم يمتنعوا فعاقبهم !
وفى رواية الحاكم : 4 / 202 : « والذي نفسي بيده لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمِّى
--------------------------- 651 ---------------------------
قال فرأيتهم يلدونهم رجلاً رجلاً قالت عائشة : ومن في البيت يومئذ فيذكر فضلهم ، فلُدَّ الرجال أجمعون وبلغ اللدود أزواج النبي فلددن امرأة امرأة » !
ويظهرأنهم لدوه مرتين ! أولاهما في أول مرضه ( صلى الله عليه وآله ) ، كما في مسند أحمد : 6 / 438 : عن أسماء بنت عميس قالت : أول ما اشتكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بيت ميمونة فاشتد مرضه حتى أغمي عليه ، فتشاور نساؤه في لده فلدوه ، فلما أفاق قال : ما هذا ؟ ! فقلنا : هذا فعل نساء جئن من ههنا ، وأشرن إلى أرض الحبشة وكانت أسماء بنت عميس فيهن . قالوا : كنا نتهم فيك ذات الجنب يا رسول الله ! قال : إن ذلك لداء ما كان الله عز وجل ليقرفنى به ! لا يبقين في هذا البيت أحد إلا التدَّ إلا عمُّ رسول الله يعنى العباس ! قال فلقد التدت ميمونة يومئذ وإنها لصائمة لعزمة رسول الله .
والمرة الثانية التي رواها بخارى ومسلم في آخر مرضه يوم الأحد : « ونزل أسامة يوم الأحد ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثقيل مغمور وهو اليوم الذي لدُّوه فيه ، فدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعيناه تهملان » . الطبقات : 2 / 190 ، تاريخ دمشق : 2 / 56 ، عيون الأثر : 2 / 352 ، الإمتاع : 14 / 520 وسبل الهدي : 6 / 249 .
وقد اضطربت روايتهم فيمن وضع الدواء في فم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالقوة ، وسألهم هو فأشاروا في المرة الأولى إلى أسماء بنت عميس ، وقالوا له في الثانية إنه العباس ، والصحيح أنهما عائشة وحفصة . كما تحير الفقهاء في يمينه ( صلى الله عليه وآله ) بمعاقبة جميع من حضر وغرضه من ذلك ! ولا تفسير له إلا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أراد أن يفهم أجيال الأمة أنه مات مسموماً ، وأن الحاضرين غير بني هاشم ، متهمون بدمه !
ومما يدل على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مات مسموماً قول الإمام الحسن ( عليه السلام ) بسند صحيح « إني أموت بالسم كما مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقالوا : ومن يفعل ذلك ؟ ! قال : امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس ، فإن معاوية يدس إليها ويأمرها بذلك . قالوا : أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك ! قال : كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً ، ولو أخرجتها ما قتلني غيرها وكان لها عذر عند الناس » !
--------------------------- 652 ---------------------------
وفى كتاب سليم / 363 : « فقام إليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وهو يبكى فقال : بأبى أنت وأمي يا نبي الله أتُقتل ؟ قال : نعم أهلك شهيداً بالسم ! وتُقتل أنت بالسيف وتُخضب لحيتك من دم رأسك ، ويقتل ابني الحسن بالسم ، ويقتل ابني الحسين بالسيف ، يقتله طاغٍ ابن طاغ ، دعى ابن دعي » ! وما رواه العياشي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « تدرون مات النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو قتل ؟ إن الله يقول : أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكمْ ، فسُمَّ قبل الموت ، إنهما سقتاه » . !
وما رواه وصححه مجمع الزوائد : 8 / 34 ، عن ابن مسعود قال : « لأن أحلف تسعاً أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قتل قتلاً أحب إلى من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل ، وذلك بأن الله عز وجل جعله نبياً واتخذه شهيداً ! قال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم فقال : كانوا يرون أن اليهود سموه » !
ومما يؤيد موته بالسم ، أنه سقى ذلك الدواء يوم الأحد ، وتقيأ دماً يوم الاثنين ! قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 10 / 266 : « يروى أنه ( صلى الله عليه وآله ) قذف دماً يسيراً وقت موته ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب ، وأن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال وكانت فيها نفسه » .
وبما أنه ( صلى الله عليه وآله ) نفى أن يكون مرضه ذات الرئة ، فالمرجح أنه قذف دماً يوم الاثنين مما سقى يوم الأحد !
4 - جاء الأنصار يبكون ، فخطب فيهم النبي « صلى الله عليه وآله »
في أمالي المفيد / 46 : « عن عبد الله بن عباس قال : إن علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس ، دخلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مرضه الذي قبض فيه فقالوا : يا رسول الله هذه الأنصار في المسجد تبكى رجالها ونساؤها عليك . فقال : وما يبكيهم ؟ قالوا : يخافون أن تموت . قال ( صلى الله عليه وآله ) : أعطونى أيديكم فخرج في ملحفة وعصابة حتى جلس على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فما تنكرون من موت نبيكم ؟ ألم أُنْعَ إليكم وتُنْع إليكم أنفسكم ؟ لو خُلِّدَ أحد قبلي ثم بعث إليه لخلدت فيكم . ألا إني لاحق بربى وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به
--------------------------- 653 ---------------------------
لن تضلوا : كتاب الله تعالى بين أظهركم ، تقرؤونه صباحاً ومساءً ، فلا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، وكونوا إخواناً كما أمركم الله ، وقد خلفت فيكم عترتي أهل بيتي وأنا أوصيكم بهم ، ثم أوصيكم بهذا الحي من الأنصار ، فقد عرفتم بلاهم عند الله عز وجل وعند رسوله وعند المؤمنين ، ألم يوسعوا في الديار ويشاطروا الثمار ويؤثروا وبهم الخصاصة ؟
فمن ولى منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسن الأنصار ، وليتجاوز عن مسيئهم . وكان آخر مجلس جلسه حتى لقى الله عز وجل » .
5 - الأمة تواجه رسولها بالانقلاب عليه !
روت كل المصادر حديث الانقلاب على النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي قاده عمر بن الخطاب بمناصرة طلقاء قريش ، فقد وقف في وجه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مرضه وردَّ عليه ومنعه أن يكتب لأمته عهداً يؤمِّنُها من الضلال ، ويجعلها سيدة العالم !
وبمجرد أن أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك أعلن عمر رفضه ، وصاح : حسبنا كتاب الله . .
وصاح خلفه القرشيون الطلقاء : القول ما قاله عمر ، لا تقربوا له شيئاً !
قال البخاري : 1 / 36 : « عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وجعه قال : إئتونى بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده . قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا : وكثر اللغط ! قال ( صلى الله عليه وآله ) : قوموا عنى ولا ينبغي عندي التنازع . فخرج ابن عباس يقول : إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين كتابه » .
« فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله : قوموا » . بخاري : 5 / 137 .
وفى مسلم : 5 / 75 : « عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ! قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إئتونى بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، فقالوا : إن رسول الله يهجر ! وفى رواية أخري : فقال عمر : إن رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله » .
--------------------------- 654 ---------------------------
وفى مسند أحمد : 3 / 346 : « دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده قال فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها » !
وفى مجمع الزوائد : 9 / 33 : « عن عمر بن الخطاب قال : لما مرض النبي قال : أُدعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتاباً لا تضلون بعدى أبداً ، فكرهنا ذلك أشد الكراهة ! ثم قال : أُدعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً ! فقال النسوة من وراء الستر : ألاتسمعون ما يقول رسول الله ؟ فقلت : إنكن صواحبات يوسف إذا مرض رسول الله عصرتن أعينكن وإذا صح ركبتن رقبته . فقال رسول الله : دعوهن فإنهن خير منكم » !
وقد وصف المحامي الأردنى أحمد حسين يعقوب / 182 ، أجواء المواجهة في كتابه القيم : عدالة الصحابة ، فكتب تحت عنوان : المواجهة الصاخبة :
« النبي على فراش الموت ، وجبريل الأمين لا ينقطع عن زيارته ، وأكثر ما كان يأتيه جبريل في مرضه . النبي على علم بمستقبل هذه الأمة وقد أدى دوره كاملاً وبلغ رسالات ربه ، وبين لهم كل شئ على الإطلاق ، وهو على علم تام بما يجرى حوله ، ومدرك أنه السكون الذي يسبق الانفجار ، فينسف الشرعية السياسية والمرجعية ! وبنسف الشرعية السياسية والمرجعية يتجرد الإسلام من سلاحه الجبار ويتعطل المولد الأساسي للدعوة والدولة .
ولكن مثل النبي لاينحنى أمام العاصفة ، ولا يقعده شئ عن متابعة إحساسه العميق بالرأفة والرحمة لهذه الأمة ! وبالرغم من كمال الدين وتمام النعمة الإلهية والبيان الإلهى الشامل لكل شئ تحتاجه الأمة ، بما فيه كيف يتبول وكيف يتغوط أفرادها ، إلا أنه أراد أن يلخص الموقف لأمته حتى تهتدى وحتى لاتضل ، وحتى تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها وتنتظر موت النبي لتفتح أشداقها فتعكر صفو الإسلام وتعيق حركته وتغير مساره !
النبي على فراش المرض ، وبيته المبارك يغص بأكابر الصحابة ، وقد أصر النبي على تلخيص الموقف والتذكير بالخط المستقبلى لمسيرة الإسلام ، فقال : قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً . ما هو الخطأ بهذا العرض النبوي ؟ من يرفض التأمين ضد
--------------------------- 655 ---------------------------
الضلالة ؟ ولماذا ؟ ولمصلحة من ؟
ثم ، إن من حق أي مسلم أن يوصي ، ومن حق أي مسلم أن يقول ما يشاء قبل موته ، والذين يسمعون قوله أحرار فيما بعد بإعمال هذا القول أو إبطاله !
هذا إذا افترضنا أن محمداً مجرد مسلم عادي ، وليس نبياً وقائداً للأمة .
فتصدى الفاروق عمر بن الخطاب ووجه كلامه للحضور وقال : إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله !
فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، ومنهم من يقول : القول ما قاله عمر !
فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله : قوموا عني !
وفى رواية ثانية أن الرسول عندما قال : إئتونى بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، تنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا هجر رسول الله ! قال النبي : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ! .
وفى رواية ثالثة ، قال النبي : إئتونى بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقالوا : إن رسول الله يهجر .
وفى رواية رابعة للبخاري : إن النبي قال : إئتونى بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، قال عمر بن الخطاب : إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وأكثروا اللغط ! قال النبي : قوموا عنى ولا ينبغي عندي التنازع .
رواية بلفظ خامس للبخاري : قال النبي : إئتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا : ما شأنه أهجر ؟ استفهموه . فذهبوا يرددون عليه فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه .
رواية بلفظ سادس للبخاري : قال النبي : إئتونى بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا : ما له أهجر ، استفهموه ، فقال النبي : ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه .
رواية بلفظ سابع للبخاري : قال النبي : هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده .
--------------------------- 656 ---------------------------
قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ! واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي قال : قوموا عني . وفى رواية أن عمر بن الخطاب قال : إن النبي يهجر .
وقد اعترف الفاروق أنه صد النبي عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الأمر لعلي !
تحليل المواجهة :
أطراف المواجهة : الطرف الأول ، محمد رسول الله وخاتم النبيين وإمام الدولة الإسلامية « رئيسها » . الطرف الثاني ، عمر بن الخطاب أحد كبار الصحابة ، ووزير من أبرز وزراء دولة النبي ، والخليفة الثاني من خلفاء النبي فيما بعد .
مكان المواجهة : بيت النبي .
شهود المواجهة : كبار الصحابة رضوان الله عليهم .
النتائج الأولية للمواجهة :
1 - الانقسام : إن الحاضرين قد انقسموا إلى قسمين : القسم الأول : يؤيد الفاروق فيما ذهب إليه من الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما يريد . وحجة هذا الفريق أن الفاروق من كبار الصحابة ، وأحد وزراء النبي ، ومشفق على الإسلام ، وأن النبي مريض ، وبالتالي فلا داعى لإزعاجه بكتابة هذا الكتاب . ثم إن القرآن وحده يكفي ، فهو التأمين ضد الضلالة ، ولا داعى لأي كتاب آخر يكتبه النبي !
القسم الثاني : يرفض المواجهة أصلاً بين التابع والمتبوع وبين نبي ومصدق به وبين رسول يتلقى تعليماته من الله ، وبين مجتهد يعمل بما يوحيه له اجتهاده ، وبين رئيس دولة ونبى بنفس الوقت وبين واحد من وزرائه .
ويرى هذا القسم أن تتاح الفرصة للنبي ليقول ما يريد ، ولكتابة ما يريد لأنه نبي وما زال نبياً حتى يتوفاه الله ، ولأنه رئيس الدولة وما زال رئيساً للدولة حتى يتوفاه الله ويحل رئيس آخر محله .
ثم على الأقل ، لأنه مسلم يتمتع بالحرية كما يتمتع بها غيره ، ومن حقه أن يقول ما
--------------------------- 657 ---------------------------
يشاء وأن يكتب ما يشاء . ثم إن الأحداث والمواجهة تجرى في بيته فهو صاحب البيت ومن حق أي إنسان أن يقول ما يشاء في بيته .
2 - بروز قوة هائلة جديدة : برز الفاروق كقوة جديدة هائلة استطاعت أن تحول بين النبي وبين كتابة ما يريد ، واستطاعت أن تستقطب لرأيها عدداً كبيراً من المؤيدين بمواجهة مع النبي نفسه وبحضور النبي نفسه » ! انتهى كلام المحامي الأردني .
أقول : جاء انقلاب يوم الخميس نتيجة صراع قريش مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي أخذ منحى جديداً بعد فتح مكة ، فقد قرر زعماء قريش أن يخوضوا مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) المواجهة حول خلافته وأن تكون بزعامة عمر ! وكثفوا وجود الطلقاء في المدينة لشد ظهر عمر فبلغوا ألوفاً ! لأن الذين كتب النبي ( صلى الله عليه وآله ) أسماءهم منهم في جيش أسامة كانوا سبع مئة ! فتح الباري : 8 / 116 .
وقد أخبر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن أمته ستختلف بعده كالأمم السابقة : « وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَينَاتُ وَلَكنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكنَّ اللهَ يفْعَلُ مَا يرِيدُ » . البقرة : 253 .
فكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يؤكد على مكانة أهل بيته « عليهم السلام » ويحذر أمته أن يرتدوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض ، لأجل الحكم والخلافة ! وخطب فيهم في حجة الوداع خمس خطب بينَ فيها كل ما ينبغي بيانه وبشرهم بالأئمة الإثنى عشر « عليهم السلام » من عترته بعده ، وأكد على وجوب اتباعهم وإلا وقعوا في الضلال والانهيار !
« وفى خطبته السادسة بغديرخم أخذ بيد على ( عليه السلام ) وأصعده المنبر وأعلنه خليفته ، وأمرهم أن يهنئوه ويبايعوه ففعلوا ، وكان عمر أول المهنئين ! فقال كما في حديثهم الصحيح : بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم » .
وفى مرض وفاته ( صلى الله عليه وآله ) أمره ربه عز وجل أن يدعو أصحابه وأهل الحل والعقد من أمته ويتم عليهم الحجة ، فعرض عليهم أعظم عرض قدمه نبي لأمته ! أن يضمن لهم أن يكونوا سادة العالم إلى يوم القيامة ، بشرط أن يقبلوا حكم الله
--------------------------- 658 ---------------------------
ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ويلتزموا بتنفيذ عهد يكتبه لهم ! فانبرى له عمر بالنيابة عن قريش فرد عليه ،
وأعلن رفضهم لعرضه !
فشد ظهر عمر أكثر الحاضرين وصاحوا في وجهه ( صلى الله عليه وآله ) : القول ما قاله عمر ، أي لا نريد أن تكتب لنا كتاباً ، ولا نريد أمانك من الضلال ! فقد غلب عليك الوجع وفقدت الصلاحية العقلية فأنت تهذي ! فردوا عليه وأهانوه ( صلى الله عليه وآله ) ، وحكموا عليه بأنه فقد عقله فهو يهذي ! واختاروا الضلال عن عمد وإصرار ، وأن يصادروا من نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) قيادة الأمة ويعطوها إلى عمر ، زعيم قريش الجديد !
واضطر النبي المظلوم ( صلى الله عليه وآله ) إلى السكوت ، لأنهم خيروه بين الكف عن كتابة عهده وبين أن يعلنوا الردة ، وأنه ليس نبياً بل أراد تأسيس ملك لأسرته كملك كسرى وقيصر ! فاليوم ابن عمه على ابن الثلاث والثلاثين سنة ثم من بعده أولاد ابنته الذين هم دون العاشرة ، وإن دخلت الخلافة فيهم فلن تخرج منهم ، ولن يصل إلى قبائل قريش شئ ، وهذا ظلم لقريش ما بعده ظلم !
لهذا ، تقدم عمربتخويل زعماء قريش ، وواجهه بالقول إن بني هاشم تكفيهم النبوة ، والخلافة يجب أن تكون لبقية البطون ، وبنو هاشم فيها كغيرهم لا أكثر !
قال عمر ، شرح النهج : 12 / 21 لعبد الله بن عباس : « يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها ! هل بقي في نفسه ( علي ) شئ من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم ، قال : أيزعم أن رسول الله نص عليه ؟ قلت : نعم ، وأزيدك سألت أبى عما يدعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ ( طرف ) من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ! لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله أنى علمت ما في نفسه ، فأمسك » . ثم قال ابن أبي الحديد : ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً .
لكنهم حذفوه من تاريخ بغداد ! ولعل السبب أن عمر صرح فيه بأنه منع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن
--------------------------- 659 ---------------------------
يكتب الكتاب لعلى ( عليه السلام ) بالخلافة ، وادعى أن دافعه لمواجهة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الإشفاق على الإسلام ، لأن قريشاً والعرب لا يطيعون علياً ( عليه السلام ) !
وهكذا اعتبرت قريش أنها انتصرت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مرض وفاته ، فمنعته من كتابة عهده لعترته ! وما إن أغمض عينيه ( صلى الله عليه وآله ) حتى سارعت بالصفق على يد خليفتها ، وأسست نظام الخلافة القرشي على قانون الغلبة والتسلط ! وفتحت بذلك صراعاً على السلطة لم تعرف أمة بعد رسولها أكثر منه سفكاً للدماء ! وكان نتيجة هذا النظام بعض فتوحات على غير منهج ، ثم غلبة غلمان بنى أمية على الخلافة ، ثم غلمان بنى العباس ، ثم غلمان الشراكسة والعثمانيين ، حتى انهارت الخلافة ودفنها الغربيون في استانبول !
كانت المدة بين يوم الغدير يوم الخميس 18 ذي الحجة ، وبين يوم الخميس يوم الرزية 24 صفر من نفس السنة ستاً وستين يوماً فقط ! نشط فيها القرشيون ضد خلافة عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووقعت أحداث ونزلت آيات ، وصدرت من النبي ( صلى الله عليه وآله ) خطب وأحاديث ! ومن أبرزها دعوتهم إلى كتابة عهده ، فأفشلوها كما رأيت !
وقبلها إرسالهم في جيش أسامة ليخلو الجو منهم في المدينة ، فيرتب الخلافة قبل وفاته ! فأفشلوا جيش أسامة كما رأيت ، وكان لحفصة وعائشة دور خطير كما قال الله تعالى : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَمَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكةُ بَعْدَ ذَلِك ظَهِيرٌ .
وتدل رواية سُليم بن قيس / 324 ، على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حاول في آخر يوم من حياته الشريفة أيضاً أن يكتب عهده فوقف عمر نفس الموقف ! قال سليم : « كنت عند عبد الله بن عباس في بيته وعنده رهط من الشيعة ، قال فذكروا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وموته فبكى ابن عباس وقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم الاثنين وهو اليوم الذي قبض فيه وحوله أهل بيته وثلاثون رجلاً من أصحابه : إيتونى بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لن تضلوا بعدى ولن تختلفوا بعدي ! فمنعهم رجل فقال : إن رسول الله يهجر ! فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : إني أراكم تخالفونى وأنا
--------------------------- 660 ---------------------------
حي فكيف بعد موتي ! قال سليم : ثم أقبل على ابن عباس فقال : يا سليم ، لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضل أحد ولا يختلف ! فقال رجل من القوم : ومن ذلك الرجل ؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل . فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم فقال : هو عمر . فقلت : صدقت قد سمعت علياً وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون إنه عمر . فقال : يا سليم أكتم إلا ممن تثق بهم من إخوانك ، فإن قلوب هذه الأمة أشربت حب هذين الرجلين كما أشربت قلوب بني إسرائيل حب العجل » !
كما يدل قول الطبري الشيعي في المسترشد / 680 ، على غضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحزنه عندما أمرهم بالقبول بعهده فعصوه ! قال : « أليس قال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وقد تغرغر « شرق بكلماته حزناً » إيتونى بدواة وصحيفة أكتب لكم ما لا تضلون معه بعدي . فقال الثاني : هجر رسول الله ، ثم قال : حسبنا كتاب الله » !
أقول : عملت السلطة بكل حيلة لإخفاء هذه القضية وتغييبها ، وتفسير ما أفلت منها لمصلحتها ، ثم دافعوا عن قادة الانقلاب وجعلوا فعلهم صواباً ، وجعلوا أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالكتابة خطأ ! وهنا بحوث مهمة . راجع : ألف سؤال وإشكال : 2 / 369 .
6 - وصايا النبي « صلى الله عليه وآله » العامة والخاصة
مع أن زعماء قريش منعوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) من كتابة عهده لأمته ، فقد صدرت عنه مجموعة وصايا : منها للمسلمين ، ومنها لعلى وفاطمة والحسنين « عليهم السلام » .
ومنها وصيته ( صلى الله عليه وآله ) التي نزل بها جبرئيل ، وشهد عليها هو والملائكة « عليهم السلام » .
ومنها عهد الله تعالى للأئمة « عليهم السلام » الذي جاء به جبرئيل ( عليه السلام ) في صحف مختومة لكل إمام باسمه .
ومنها عهد الله تعالى إلى الأئمة من ذرية فاطمة « عليهم السلام » في اللوح الذي جاء به جبرئيل ( عليه السلام ) هدية من الله تعالى لفاطمة « عليها السلام » .
هذا مضافاً إلى تأكيداته المتواصلة على الثقلين والخليفتين بعده : كتاب الله وعترته أهل بيته « عليهم السلام » ، وعلى على ( عليه السلام ) بصفته أول العترة .
--------------------------- 661 ---------------------------
ولا يتسع المجال لتفصيل هذه الوصايا النبوية ، التي أخفاها رواة السلطة ، لكن بقي منها ما فيه بلاغ لمن كان له قلب .
7 - تأكيداته الأخيرة على على والعترة « عليهم السلام »
في أمالي المفيد / 134 ، عن أبي سعيد الخدري : « إن آخر خطبة خطبنا بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لخطبة خطبنا في مرضه الذي توفى فيه ، خرج متوكياً على علي بن أبي طالب وميمونة مولاته ، فجلس على المنبر ثم قال : يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين وسكت . فقام رجل فقال : يا رسول الله ما هذان الثقلان ؟ فغضب حتى احمر وجهه ثم سكن ، وقال : ما ذكرتهما إلا وأنا أريد أن أخبركم بهما ولكن رَبَوْتُ فلم أستطع : سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم تعملون فيه كذا ، ألا وهو القرآن ، والثقل الأصغر أهل بيتي . ثم قال : وأيم الله إني لأقول لكم هذا ورجال في أصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم ! ثم قال : والله لا يحبهم عبد إلا أعطاه الله نوراً يوم القيامة حتى يرد على الحوض ، ولا يبغضهم عبد إلا احتجب الله عنه يوم القيامة » !
وفى مناقب آل أبي طالب : 2 / 217 : « حلية الأولياء ، وفضايل السمعاني ، وكتاب الطبراني ، والنطنزي ، بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلي ، عن الحسن بن علي قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أُدعوا لي سيد العرب يعنى علياً ، فقالت عايشة : ألست سيد العرب ؟ قال : أنا سيد ولد آدم وعلى سيد العرب . فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال : معاشر الأنصار على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده . قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : هذا على فأحبوه لحبى وأكرموه لكرامتي ، فإن جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل . . وفى رواية : فقالت عايشة : وما السيد ؟ قال : من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي » .
وفى كفاية الأثر / 41 : عن سلمان الفارسي قال : « خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب ، أوصيكم في عترتي
--------------------------- 662 ---------------------------
خيراً ، وإياكم والبدع ، فإن كل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار .
معاشر الناس : من افتقد الشمس فليتمسك بالقمر ، ومن افتقد القمر فليتمسك بالفرقدين ، فإذا فقدتم الفرقدين فتمسكوا بالنجوم الزاهرة بعدي ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . قال : فلما نزل عن المنبر ( صلى الله عليه وآله ) تبعته حتى دخل بيت عائشة فدخلت إليه وقلت : بأبى أنت وأمي يا رسول الله سمعتك تقول : إذا افتقدتم الشمس فتمسكوا بالقمر ، وإذا افتقدتم القمر فتمسكوا بالفرقدين ، وإذا افتقدتم الفرقدين فتمسكوا بالنجوم الزاهرة . قيل : فما الشمس وما القمر وما الفرقدان وما النجوم الزاهرة ؟ فقال : أنا الشمس وعلى القمر والحسن والحسين الفرقدان ، فإذا افتقدتمونى فتمسكوا بعلى بعدي ، وإذا افتقدتموه فتمسكوا بالحسن والحسين . وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسين تاسعهم مهديهم . ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : إنهم هم الأوصياء والخلفاء بعدي ، أئمة أبرار ، عدد أسباط يعقوب وحوارى عيسى .
قلت : فسمهم لي يا رسول الله . قال : أولهم علي بن أبي طالب ، وبعده سبطاي ، وبعدهما على زين العابدين ، وبعده محمد بن علي الباقر علم النبيين ، والصادق جعفر بن محمد ، وابنه كاظم سمى موسى بن عمران والذي يقتل بأرض الغربة ، ثم ابنه علي ، ثم ابنه محمد ، والصادقان على والحسن ، والحجة القائم المنتظر في غيبته ، فإنهم عترتي من دمى ولحمي ، علمهم علمي وحكمهم حكمي ، من آذاني فيهم فلا أناله الله شفاعتي » . ومناقب آل أبي طالب : 1 / 242 .
وفى كتاب سليم / 300 و 414 ، أن أمير المؤمنين ناشد كبار الصحابة ، فكان مما قاله : « أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قام خطيباً ولم يخطب بعدها . . ثم دخل بيته فلم يخرج حتى قبضه الله إليه ، وقال : يا أيها الناس ، إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد عهد إلى اللطيف الخيبر أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ؟ فقالوا : اللهم نعم قد شهدنا ذلك . . فقال ( عليه السلام ) : حسبي الله » .
وفى تفسير العياشي : 1 / 5 : « عن مسعدة بن صدقة قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إن الله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن وقطب جميع الكتب ، عليها يستدير محكم
--------------------------- 663 ---------------------------
القرآن ، وبها نوهت الكتب ، ويستبين الإيمان . وقد أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يقتدى بالقرآن وآل محمد ، وذلك حيث قال في آخر خطبة خطبها : إني تارك فيكم الثقلين : الثقل الأكبر والثقل الأصغر ، فأما الأكبر فكتاب ربي ، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي ، فاحفظونى فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما » .
وفى الكافي : 2 / 414 : « عن سليم بن قيس قال : سمعت علياً صلوات الله عليه يقول وأتاه رجل فقال له : ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً وأدنى ما يكون به العبد كافراً وأدنى ما يكون به العبد ضالاً ؟ فقال له : قد سألت فافهم الجواب : أما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أن يعرفه الله تبارك وتعالى نفسه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فيقر له بالطاعة ، ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة . قلت له : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت ؟ قال : نعم إذا أُمِرَ أطاع ، وإذا نُهِى انتهي .
وأدنى ما يكون به العبد كافراً : من زعم أن شيئاً نهى الله عنه أن الله أمر به ، ونصبه ديناً يتولى عليه ويزعم أنه يعبد الذي أمره به ، وإنما يعبد الشيطان .
وأدنى ما يكون به العبد ضالاً أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده ، الذي أمر الله عز وجل بطاعته وفرض ولايته .
قلت : يا أمير المؤمنين صفهم لي فقال : الذين قرنهم الله عز وجل بنفسه ونبيه ، فقال : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمر مِنْكمْ . قلت : يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أوضح لي ، فقال : الذين قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في آخر خطبته يوم قبضه الله عز وجل إليه : إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدى ما إن تمسكتم بهما : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلى أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض كهاتين ، وجمع بين مسبحتيه ، ولا أقول كهاتين ، وجمع بين المسبحة والوسطي ، فتسبق إحداهما الأخري ، فتمسكوا بهما لا تزلوا ولا تضلوا ولا تقدموهم فتضلوا » .
وفى المراجعات / 279 : « وحسبك في وجوب اتباع الأئمة من العترة الطاهرة ،
--------------------------- 664 ---------------------------
اقترانهم بكتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكما لا يجوز الرجوع إلى كتاب يخالف في حكمه كتاب الله سبحانه وتعالي ، لا يجوز الرجوع إلى إمام يخالف في حكمه أئمة العترة » .
أقول : ورد في أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) وصف القرآن بالثقل الأكبر ، ووصف أئمة العترة بالثقل الأصغر . ثم ورد النص على أنهما ليسا متفاوتين كالأصبع الوسطى والسبابة ، بل هما متساويان كالسبابتين . وهذا يعنى أن الصغر والكبر لا يرجع إلى ذاتهما فهما متساويان ، بل إلى شئ يتعلق بهما وبنوع علاقة الأمة بهما ، أو التكليف والمسؤولية عنهما وما شابه . وعندنا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكذا عترته « عليهم السلام » أعظم شأناً وأفضل من القرآن ، على عظمته وعلو شأنه .
8 - الوصية التي نزلت من الله تعالى إلى الأئمة « عليهم السلام »
نصت أحاديث وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه أملاها على على ( عليه السلام ) فكتبها وأخذ تعهده بها ثم طلب من جبرئيل ( عليه السلام ) أن يشهد عليها ، فعرج بها ثم جاء بصحيفة مختومة ومعه الملائكة ليشهدوا على تبليغ النبي ( صلى الله عليه وآله ) إياها لعلى ( عليه السلام ) ، وتعهده بتنفيذها !
ففي الكافي : 1 / 281 ، عن الإمام الكاظم أنه سأل أباه الصادق « عليهما السلام » قال : « قلت لأبى عبد الله ( عليه السلام ) أليس كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كاتب الوصية ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المملى عليه وجبرئيل والملائكة المقربون ( عليه السلام ) شهود ؟ قال : فأطرق طويلاً ثم قال : يا أبا الحسن قد كان ما قلت ، ولكن حين نزل برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الأمر نزلت الوصية من عند الله كتاباً مسجلاً ، نزل به جبرئيل مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة ، فقال جبرئيل : يا محمد ، مُرْ بإخراج من عندك إلا وصيك ليقبضها منا ، وتشهدنا بدفعك إياها إليه ، ضامناً لها ، يعنى علياً ( عليه السلام ) . فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإخراج من كان في البيت ما خلا علياً ، وفاطمة فيما بين الستر والباب ، فقال جبرئيل : يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول : هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليك ، وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي يا محمد شهيداً . قال : فارتعدت مفاصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا جبرئيل ، ربى هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه يعود السلام ، صدق عز وجل وبر ،
--------------------------- 665 ---------------------------
هات الكتاب ، فدفعه إليه وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال له : إقرأه ، فقرأه حرفاً حرفاً ، فقال : يا علي هذا عهد ربى تبارك وتعالى إلى وشرطه علَى وأمانته ، وقد بلغت ونصحت وأديت . فقال علي : وأنا أشهد لك بأبى وأمي أنت بالبلاغ والنصيحة ، والتصديق على ما قلت ، ويشهد لك به سمعي وبصرى ولحمى ودمي . فقال جبرئيل : وأنا لكما على ذلك من الشاهدين . فقال رسول الله : يا علي أخذت وصيتي وعرفتها ، وضمنت لله ولى الوفاء بما فيها ؟ فقال علي : نعم بأبى أنت وأمي على ضمانها ، وعلى الله عوني وتوفيقي على أدائها .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي إني أريد أن أشهد عليك بموافاتى بها يوم القيامة ! فقال على ( عليه السلام ) نعم أشهد . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن جبرئيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن ، وهما حاضران معهما الملائكة المقربون لأشهدهم عليك .
فقال : نعم ليشهدوا وأنا بأبى أنت وأمي أشهدهم . فأشهدهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وكان فيما اشترط عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمر جبرئيل ( عليه السلام ) فيما أمر الله عز وجل أن قال له : يا علي تفي بما فيها من موالاة من والى الله ورسوله ، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله والبراءة منهم . على الصبر منك ، وعلى كظم الغيظ ، وعلى ذهاب حقك ، وغصب خمسك ، وانتهاك حرمتك ؟
فقال : نعم يا رسول الله . فقال أمير المؤمنين : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل ( عليه السلام ) يقول للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا محمد عَرِّفْه أنه تُنتهك الحرمة ، وهى حرمة الله وحرمة رسول الله ، وعلى أن تخضب لحيته من رأسه بدم عبيط !
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل ، حتى سقطت على وجهي وقلت : نعم قبلت ورضيت ، وإن انتهكت الحرمة ، وعطلت السنن ، ومزق الكتاب ، وهدمت الكعبة ، وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط ، صابراً محتسباً أبداً ، حتى أقدم عليك ! ثم دعا رسول الله فاطمة والحسن والحسين « عليهم السلام » وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقالوا مثل قوله ! فختمت الوصية بخواتيم من ذهب ، لم تمسه النار ، ودفعت إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
--------------------------- 666 ---------------------------
قال الراوي : فقلت لأبى الحسن « الإمام الكاظم ( عليه السلام ) » : بأبى أنت وأمي ، ألا تذكر ما كان في الوصية ؟ فقال : سنن الله وسنن رسوله . فقلت : أكان في الوصية توثبهم وخلافهم على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟ فقال : نعم والله شيئاً شيئاً ، وحرفاً حرفاً ، أما سمعت قول الله عز وجل : إِنَّا نَحْنُ نُحْيى الْمَوْتَى وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكلَّ شَئٍْ أَحْصَينَاهُ فِى إِمَامٍ مُبِينٍ .
والله لقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأمير المؤمنين وفاطمة ( صلى الله عليه وآله ) : أليس قد فهمتما ما تقدمت به إليكما وقبلتماه ؟ فقالا : بلى وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا » ! !
أقول : نقل صاحب البحار « رحمه الله » أحاديث هذه الوصية : 22 / 476 من كتاب الطُّرف لابن طاووس « رحمه الله » عن كتاب عيسى بن المستفاد ، وهو الراوي الأخير في سند حديث الكليني ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عنده موته وأخرج من كان عنده في البيت غيري ، والبيت فيه جبرئيل والملائكة أسمع الحس ولا أرى شيئاً ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كتاب الوصية من يد جبرئيل مختومة فدفعها إلى وأمرني أن أفضها ففعلت ، وأمرني أن أقرأها فقرأتها فقال : إن جبرئيل عندي ، أتاني بها الساعة من عند ربى فقرأتها ، فإذا فيها كل ما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوصى به شيئاً شيئاً ما تغادر حرفاً !
وبالإسناد المتقدم عنه عن أبيه عن جده الباقر « عليهم السلام » قال : « قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : كنت مسند النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى صدري ليلة من الليالي في مرضه ، وقد فرغ من وصيته وعنده فاطمة ابنته ، وقد أمر أزواجه والنساء أن يخرجن من عنده ففعلن ، فقال : يا أبا الحسن تحول من موضعك وكن أمامي ، قال ففعلت ، وأسنده جبرئيل ( عليه السلام ) إلى صدره ، وجلس ميكائيل ( عليه السلام ) على يمينه فقال : يا علي ضم كفيك بعضها إلى بعض ففعلت ، فقال لي : قد عهدت إليك أحدث العهد لك بمحضر أميني رب العالمين : جبرئيل وميكائيل ، يا علي بحقهما عليك إلا أنفذت وصيتي على ما فيها وعلى قبولك إياها بالصبر والورع على منهاجى وطريقي ، لا طريق فلان وفلان ، وخذ ما آتاك الله بقوة . وأدخل يده فيما بين كفى وكفاى مضمومتان ، فكأنه أفرغ بينهما شيئاً فقال : يا علي قد أفرغت بين يديك الحكمة وقضاء ما يرد عليك ، وما هو وارد لا يعزب عنك من أمرك شئ ، وإذا حضرتك الوفاة ، فأوص وصيتك
--------------------------- 667 ---------------------------
إلى من بعدك على ما أوصيك ، واصنع هكذا بلا كتاب ولا صحيفة » .
وفيه عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : كان في وصية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أولها : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) وأوصى به ، وأسنده بأمر الله إلى وصيه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين .
وكان في آخر الوصية : شهد جبرئيل وميكائيل وإسرافيل على ما أوصى به محمد إلى علي بن أبي طالب ، وقبضه وصيه ، وضمانه على ما فيها على ما ضمن يوشع بن نون لموسى بن عمران ، وعلى ما ضمن وأدى وصى عيسى بن مريم ، وعلى ما ضمن الأوصياء قبلهم ، على أن محمد أفضل النبيين وعلياً أفضل الوصيين . وأوصى محمد وسلم إلى علي وأقر علي ، وقبض الوصية على ما أوصى به الأنبياء ، وسلم محمد الأمر إلى علي بن أبي طالب ، وولاه الأمر على أن لا نبوة لعلى ولا لغيره بعد محمد ، وكفى بالله شهيداً » .
وفيه أيضاً : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) حين دفع إليه الوصية : إتخذْ لها جواباً غداً بين يدي الله تبارك وتعالى رب العرش ، فإني محاجك يوم القيامة بكتاب الله حلاله وحرامه ، ومحكمه ومتشابهه على ما أنزل الله ، وعلى ما أمرتك ، وعلى فرائض الله كما أنزلت ، وعلى الأحكام من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجتنابه ، مع إقامة حدود الله وشروطه ، والأمور كلها ، وإقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة لأهلها ، وحج البيت ، والجهاد في سبيل الله ، فما أنت قائل يا علي ؟
فقال علي : بأبى أنت وأمي ، أرجو بكرامة الله لك ومنزلتك عنده ونعمته عليك ، أن يعينني ربى ويثبتني ، فلا ألقاك بين يدي الله مقصراً ولا متوانياً
ولا مفرطاً ، ولا أمغز وجهك ، وِقَاهُ وجهي ووجوه آبائي وأمهاتي ، بل تجدني
بأبى أنت وأمي مشمراً متبعاً لوصيتك ومنهاجك وطريقك ما دمت حياً ، حتى أقدم بها عليك ، ثم الأول فالأول من ولدي ، لا مقصرين ولا مفرطين .
قال على ( عليه السلام ) ثم انكببت على وجهه وعلى صدره وأنا أقول : واوحشتاه بعدك بأبى أنت وأمي ، ووحشة ابنتك وبنيك ، بل وأطول غمى بعدك يا أخي ، انقطعت
--------------------------- 668 ---------------------------
من منزلي أخبار السماء ، وفقدت بعدك جبرئيل وميكائيل ، فلا أحس أثراً ولا أسمع حساً ، فأغمى عليه طويلاً ، ثم أفاق ( صلى الله عليه وآله ) .
قال أبو الحسن : فقلت لأبي : فما كان بعد إفاقته ؟ قال : دخل عليه النساء يبكين وارتفعت الأصوات ، وضج الناس بالباب من المهاجرين والأنصار ، فبيناهم كذلك إذ نودي : أين علي ؟ فأقبل حتى دخل عليه ، قال على ( عليه السلام ) فانكببت عليه فقال : يا أخي إفهم فَهَّمَك الله وسددك وأرشدك ووفقك وأعانك ، وغفر ذنبك ورفع ذكرك ، إعلم يا أخي أن القوم سيشغلهم عنى ما يشغلهم ، فإنما مثلك في الأمة مثل الكعبة نصبها الله للناس علماً ، وإنما تؤتى من كل فج عميق ونأى سحيق ، ولا تأتي . وإنما أنت علم الهدى ونور الدين وهو نور الله .
يا أخي ، والذي بعثني بالحق لقد قدمت إليهم بالوعيد بعد أن أخبرتهم ، رجلاً رجلاً ، ما افترض الله عليهم من حقك ، وألزمهم من طاعتك ، وكل أجاب وسلم إليك الأمر ، وإني لأعلم خلاف قولهم ! فإذا قبضت وفرغت من جميع ما أوصيك به ، وغيبتنى في قبرى فالزم بيتك ، واجمع القرآن على تأليفه ، والفرائض والأحكام على تنزيله ، ثم امض على غير لائمة على ما أمرتك به ، وعليك بالصبر على ما ينزل به وبها حتى تقدموا علَي » .
وفيه عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قلت لأبي : فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : فقال : ثم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين وقال لمن في بيته : أُخرجوا عني ، وقال لأم سلمة : كونى على الباب فلا يقربه أحد ففعلت ، ثم قال : يا علي أُدن منى فدنا منه فأخذ بيد فاطمة فوضعها على صدره طويلاً ،
وأخذ بيد على بيده الأخري ، فلما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الكلام غلبته عبرته ، فلم يقدر على الكلام ، فبكت فاطمة « عليها السلام » بكاء شديداً وعلى والحسن والحسين « عليهم السلام » لبكاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالت فاطمة : يا رسول الله قد قطعت قلبي ، وأحرقت كبدي لبكائك ، يا سيد النبيين من الأولين والآخرين ، ويا أمين ربه ورسوله ويا حبيبه ونبيه ، من لولدي بعدك ؟ ولذل ينزل بي بعدك ؟ ! من لعلى أخيك وناصر الدين ؟ من
--------------------------- 669 ---------------------------
لوحى الله وأمره ؟ ثم بكت وأكبت على وجهه فقبلته ، وأكب عليه على والحسن والحسين ، فرفع رأسه ( صلى الله عليه وآله ) إليهم ويدها في يده فوضعها في يد على وقال له : يا أبا الحسن هذه وديعة الله ووديعة رسوله محمد عندك ، فاحفظ الله واحفظني فيها وإنك لفاعله . يا علي هذه والله سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين ، هذه والله مريم الكبري . أما والله ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها ولكم فأعطاني ما سألته .
يا علي ، أنفذ لما أمرتك به فاطمة ، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل ( عليه السلام ) ، واعلم يا علي أنى راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة ، وكذلك ربى وملائكته .
يا علي ، ويل لمن ظلمها وويل لمن ابتزها حقها ، وويل لمن هتك حرمتها ، وويل لمن أحرق بابها ، وويل لمن آذى خليلها ، وويل لمن شاقها وبارزها .
اللهم إني منهم بريء ، وهم منى برآء ، ثم سماهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وضم فاطمة إليه وعلياً والحسن والحسين « عليهم السلام » وقال : اللهم إني لهم ولمن شايعهم سلم ، وزعيم بأنهم يدخلون الجنة ، وعدو وحرب لمن عاداهم وظلمهم وتقدمهم أو تأخر عنهم وعن شيعتهم ، زعيم بأنهم يدخلون النار . ثم والله يا فاطمة لا أرضى حتى ترضَي ، ثم لا والله لا أرضى حتى ترضَي ، ثم لا والله لا أرضى حتى ترضَي .
قال عيسى : فسألت موسى ( عليه السلام ) وقلت : إن الناس قد أكثروا في أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر أبا بكر أن يصلى بالناس ثم عمر ، فأطرق عنى طويلاً ثم قال : ليس كما ذكروا ، ولكنك يا عيسى كثير البحث عن الأمور ، ولا ترضى عنها إلا بكشفها . فقلت : بأبى أنت وأمي إنما أسال عما أنتفع به في ديني وأتفقه مخافة أن أضل وأنا لا أدري ، ولكن متى أجد مثلك يكشفها لي .
فقال : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما ثقل في مرضه دعا علياً فوضع رأسه في حجره ، وأغمى عليه وحضرت الصلاة فأذِّن بها فخرجت عائشة فقالت : يا عمر أُخرج فصل بالناس فقال : أبوك أولى بها ، فقالت : صدقت ولكنه رجل لين وأكره أن يواثبه القوم فصلِّ أنت ، فقال لها عمر : بل يصلى هو وأنا أكفيه إن
--------------------------- 670 ---------------------------
وثب واثب أو تحرك متحرك ، مع أن محمداً مغمى عليه لا أراه يفيق منها ، والرجل مشغول به لا يقدر أن يفارقه ، يريد علياً ( عليه السلام ) ، فبادره بالصلاة قبل أن يفيق ، فإنه إن أفاق خفت أن يأمر علياً بالصلاة ، فقد سمعت مناجاته منذ الليلة ، وفى آخر كلامه : الصلاة الصلاة ! قال : فخرج أبو بكر ليصلى بالناس فأنكر القوم ذلك ، ثم ظنوا أنه بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فلم يكبِّر حتى أفاق ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أُدعوا لي العباس فدعى فحمله هو وعلى فأخرجاه حتى صلى بالناس وإنه لقاعد ، ثم حمل فوضع على منبره فلم يجلس بعد ذلك على المنبر ، واجتمع له جميع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار حتى برزت العواتق من خدورهن ، فبين باك وصائح وصارخ ومسترجع والنبي يخطب ساعة ويسكت ساعة ، وكان مما ذكر في خطبته أن قال : يا معشر المهاجرين والأنصار ومن حضرني في يومى هذا وفى ساعتي هذه من الجن والإنس : فليبلغ شاهدكم الغائب ، ألا قد خلفت فيكم كتاب الله ، فيه النور والهدى والبيان ، ما فرط الله فيه من شئ ، حجة الله لي عليكم ، وخلفت فيكم العلم الأكبر علم الدين ونور الهدى وصيي علي بن أبي طالب ، ألا هو حبل الله فاعتصموا به جميعاً ولا تفرقوا عنه .
أيها الناس : ومن كانت له قبلي تبعة فها أنا ، ومن كانت له عدة فليأت فيها علي بن أبي طالب ، فإنه ضامن لذلك كله حتى لا يبقى لأحد على تباعة » .
أقول : تدل أحاديث وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) على أن الإمامة مهمة هداية البشرية بعد النبوة ولها مسؤوليتها الثقيلة وعهدها ميثاقها ، وعلومها وأسرارها الربانية .
لكن زعماء قريش قرروا أن لايفهموا الإمامة وخلافة النبوة إلا رئاسة دولة محمد والتمتع بسلطانه ، وقالوا ليس من العدل أن يجمع بنو هاشم النبوة والخلافة ! فالنبوة سهمهم والخلافة لبقية البطون !
والله أصدق منهم حيث يقول : أهُمْ يقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك ، نَحْنُ قَسَمْنَا بَينَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ .
--------------------------- 671 ---------------------------
9 - وصية النبي « صلى الله عليه وآله » لنسائه وعائشة خاصة
في إرشاد القلوب / 337 والبحار : 28 / 107 ، عن حذيفة بن اليمان قال : « أمر ( صلى الله عليه وآله ) خادمةً لأم سلمة فقال : إجمعى لي هؤلاء يعنى نساءه ، فجمعتهن له في منزل
أم سلمة ، فقال لهن : إسمعن ما أقول لكن ، وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب فقال لهن : هذا أخي ووصيي ووارثي والقائم فيكن وفى الأمة من بعدي ، فأطعنه فيما يأمركن به ، ولا تعصينه فتهلكن لمعصيته .
ثم قال : يا علي أوصيك بهن فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك ، وأنفق عليهن من مالك وأمرهن بأمرك وانههن عما يريبك ، وخل سبيلهن إن عصينك .
فقال على ( عليه السلام ) يا رسول الله إنهن نساء وفيهن الوهن وضعف الرأي . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إرفق بهن ما كان الرفق أمثل ، فمن عصاك منهن فطلقها طلاقاً يبرأ الله ورسوله منها . قال : كل نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد صمتن فما يقلن شيئاً ، فتكلمت عائشة فقالت : يا رسول الله ما كنا لتأمرنا بشئ فنخالفه إلى ما سواه ! فقال لها : بلى قد خالفت أمرى أشد خلاف ! وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصينه بعدي ، ولتخرجين من البيت الذي خلفتك فيه متبرجة فيه ، قد حف بك فئات من الناس فتخالفينه ظالمة له عاصية لربك ولتنبحنك في طريقك كلاب الحوأب . ألا إن ذلك كائن ! ثم قال : قمن فانصرفن إلى منازلكن فقمن فانصرفن » .
10 - النبي « صلى الله عليه وآله » يخرج عمه العباس من وصيته
في الكافي : 1 / 236 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال للعباس : يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضى دينه وتنجز عداته ؟ فرد عليه فقال : يا رسول الله
بأبى أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال ، من يطيقك وأنت تبارى الريح !
قال : فأطرق هنيئة ثم قال : يا عباس أتأخذ تراث محمد ، وتنجز عداته وتقضى دينه ؟ فقال بأبى أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تبارى الريح !
--------------------------- 672 ---------------------------
قال ( صلى الله عليه وآله ) : أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ، ثم قال :
يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضى دينه وتقبض تراثه ؟
فقال : نعم ، بأبى أنت وأمي ذاك على ولي . قال : فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من إصبعه فقال : تختم بهذا في حياتي ! قال : فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في إصبعى فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم .
ثم صاح : يا بلال علَى بالمغفر والدرع والراية والقميص وذى الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضيب . قال : فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك ، يعنى الأبرقة ، فجئ بشقة كادت تخطف الأبصار فإذا هي من أبرق الجنة ، فقال : يا علي إن جبرئيل أتاني بها وقال : يا محمد إجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة ، ثم دعا بزوجَى نعال عربيين جميعاً ، أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف ، والقميص الذي أسرى به فيه ، والقميص الذي خرج فيه يوم أحد ، والقلانس الثلاث : قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين والجمع ، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه . ثم قال : يا بلال على بالبغلتين الشهباء والدلدل ، والناقتين العضباء والقصوي ، والفرسين : الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وحيزوم وهو الذي كان يقول : أقدم حيزوم ، والحمار عفير فقال : إقبضها في حياتي . فذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن أول شئ من الدواب توفى عفير ساعة قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قطع خطامه ثم مر يركض حتى أتى بئر بنى خطمة بقباء ، فرمى بنفسه فيها فكانت قبره » . وعلل الشرائع : 1 / 166 والمناقب : 2 / 248 .
وفى مناقب محمد بن سليمان : 1 / 432 : « يا عباس ترثني وتقضى ديني وتنجز عنى عداتي ؟ قال : بل يعافيك الله يا رسول الله وهل يسع هذا مال بنى عبد المطلب . . . فقال علي : نعم يا رسول الله . قال فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : أنت لذاك أنت لذاك يا علي . قال : فمكث على تسع سنين ينشد الناس في كل موسم : هل يطلب أحد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بدين أو بموعد حتى أنجز عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عداته وقضاء دينه ؟ قال : ثم قام بذلك الحسن من بعد على ( عليه السلام ) » .
--------------------------- 673 ---------------------------
وفى الإرشاد : 1 / 184 ، قال العباس للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا رسول الله إن يكن هذا الأمر فينا مستقراً بعدك فبشرنا ، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا ، فقال : أنتم المستضعفون من بعدي ، وأصمت ! فنهض القوم وهم يبكون قد أيسوا من النبي ! فلما خرجوا من عنده قال : أُرددوا على أخي علي بن أبي طالب وعمي ، فأنفذوا من دعاهما فحضرا ، فلما استقر بهما المجلس قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عباس يا عم رسول الله ، تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضى عنى ديني ؟ فقال العباس : يا رسول الله ، عمك شيخ كبير ذو عيال كثير ، وأنت تبارى الريح سخاء وكرماً ، وعليك وعد لا ينهض به عمك . . إلى آخر ما تقدم » .
11 - قوله « صلى الله عليه وآله » لفاطمة « عليها السلام » : أنت أول أهل بيتي لحوقاً بي
روت مصادرنا ومصادرهم حديث عائشة وأنها قالت عن فاطمة الزهراء « عليها السلام » : « كنَّ أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنده لم يغادر منهن امرأة ، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشى ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شيئاً ، فلما رآها رحب بها ثم قال : مرحباً بابنتي ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ، ثم سارَّها فبكت بكاءً شديداً فلما رأى جزعها سارَّها الثانية فضحكت ! فقلنا : خصَّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من نسائه بالسِّرار ثم أنت تبكي ؟ ! فضحكت . قلت : ما رأيت ضحكاً أقرب من بكاء ، فلما قامت سألتها ما قال لك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قالت : ما كنت لأفشى على رسول الله سره . فلما توفى قلت : عزمت عليك بمالي عليك من الحق لما حدثتني بما قال لك . فقالت : أما الآن فنعم ، أما حين سارَّنى في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل سنة مرة ، وأنه عارضه العام مرتين ، وأنى أرى الأجل قد اقترب فاتقى الله واصبري ، فإني نعم السلف أنا لك ! فبكيت بكائي الذي رأيت ، فلما رأى جزعي سارَّنى الثانية فقال : يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين . فقال : يا بنية لا تجزعي فإني سألت ربى أن يجعلك أول أهل بيتي لحاقاً بي فأخبرني أنه قد استجاب لي ، فضحكت ضحكى الذي رأيت » . شرح الأخبار : 3 / 23 ، العمدة / 386 ، مسلم : 7 / 143 ، الآحاد : 5 / 367 وابن راهويه : 8 / 5 / 8 .
--------------------------- 674 ---------------------------
وفى البحار : 22 / 490 ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) عن أبيه ( عليه السلام ) قال : « لما كانت الليلة التي قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) في صبيحتها دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين « عليهم السلام » وأغلق عليه الباب وعليهم وقال لفاطمة « عليها السلام » وأدناها منه ، فناجى من الليل طويلاً ، فلما طال ذلك خرج على ومعه الحسن والحسين « عليهما السلام » وأقاموا بالباب والناس خلف ذلك ، ونساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ينظرن إلى علي ( عليه السلام ) ومعه ابناه فقالت عائشة : لأمر ما أخرجك عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخلا بابنته دونك في هذه الساعة ؟ فقال لها على ( عليه السلام ) قد عرفت الذي خلا بها وأرادها له ، وهو بعض ما كنت فيه ، وأبوك وصاحباه قد أسماه ! فوجمت أن ترد عليه كلمة !
قال على ( عليه السلام ) فما لبثت أن نادتني فاطمة فدخلت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يجود بنفسه ، فبكيت ولم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحال يجود بنفسه ، فقال لي : ما يبكيك يا علي ؟ ليس هذا أوان البكاء فقد حان الفراق بيني وبينك ، فأستودعك الله يا أخي فقد اختار لي ربى ما عنده ، وإنما بكائي وغمى وحزني عليك وعلى هذه أن تضيع بعدي ، فقد أجمع القوم على ظلمكم ، وقد استودعتكم الله وقبلكم منى وديعة . يا علي إني قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك فأنفذها فهي الصادقة الصدوقة ، ثم ضمها إليه وقبل رأسها وقال : فداك أبوك يا فاطمة ! فعلا صوتها بالبكاء ، ثم ضمها إليه وقبل رأسها وقال : أما والله لينتقمن الله ربى وليغضبن لغضبك ! فالويل ثم الويل ثم الويل للظالمين ، ثم بكى ( صلى الله عليه وآله ) !
قال على ( عليه السلام ) فوالله لقد حسست بضعة منى ذهبت لبكائه حتى هملت عيناه كمثل المطر ، حتى بلت دموعه لحيته وملاءة كانت عليه ، وهو ملتزم فاطمة « عليها السلام » ورأسه على صدري وأنا مسنده ، والحسن والحسين يقبلان قدميه ، وهما يبكيان بأعلى أصواتهما . قال على ( عليه السلام ) فلو قلت إن جبرئيل لم يكن في مثل تلك الليلة يفارق النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقد رأيت من بكائها ما أحسست أن السماوات والأرضين قد بكت لها ، ثم قال لها : يا بنية خليفتي عليكم الله وهو خير خليفة ، والذي بعثني بالحق لقد بكى لبكائك عرش الله وما حوله من الملائكة ، والسماوات والأرضون وما فيها ، يا فاطمة والذي بعثني
--------------------------- 675 ---------------------------
بالحق نبياً ، لقد حرمت الجنة على الخلائق حتى أدخلها ، وإنك لأول خلق الله كاسية حالية ناعمة ، يا فاطمة فهنيئاً لك .
والذي بعثني بالحق إن الحور العين ليفخرن بك وبقربك منهن ، ويتزين لزينتك ، والذي بعثني بالحق إنك لسيدة من يدخلها من النساء .
والذي بعثني بالحق إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا صعق ، فينادى بها إليك أن يا جهنم يقول لك الجبار : أُسكتى واستقرى بعزتي حتى تجوز فاطمة بنت محمد إلى الجنان ، ولا يشغلهم قتر ولا ذلة .
والذي بعثني بالحق ليدخل حسن عن يمينك ، وحسين عن يسارك ، والحور العين يتشرفن من أعلى الجنان فينظرن إليك بين يدي الله في المقام الشريف . ولواء الحمد مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أمامي ، يكسى إذا كسيت ويحَلَّى إذا حُلِّيت . والذي بعثني بالحق لأقومن بالخصومة لأعدائك ، وليندمن قوم ابتزوا حقك وقطعوا مودتك وكذبوا علي ! وليختلجن دونى فأقول : أمتي ! فيقال : إنهم بدلوا بعدك ، وصاروا إلى السعير » .
وفى كمال الدين / 262 : « عن سليم بن قيس الهلالي قال : سمعت سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول : كنت جالساً بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مرضته التي قبض فيها ، فدخلت فاطمة « عليها السلام » فلما رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتى جرت دموعها على خديها فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما يبكيك يا فاطمة ؟ قالت : يا رسول الله أخشى على نفسي وولدي الضيعة بعدك ! فاغرورقت عينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالبكاء ، ثم قال : يا فاطمة أما علمت أنا أهل بيت اختار الله عز وجل لنا الآخرة على الدنيا ، وإنه حتم الفناء على جميع خلقه ، وإن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختارني من خلقه فجعلني نبياً ، ثم اطلع إلى الأرض اطلاعة ثانية فاختار منها زوجك وأوحى إلى أن أزوجك إياه ، وأتخذه ولياً ووزيراً ، وأن أجعله خليفتي في أمتي . فأبوك خير أنبياء الله ورسله ، وبعلك خير الأوصياء ، وأنت أول من يلحق بي من أهلي . ثم اطلع إلى الأرض اطلاعة
--------------------------- 676 ---------------------------
ثالثة فاختارك وولديك ، فأنت سيدة نساء أهل الجنة وابناك حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبناء بعلك أوصيائي إلى يوم القيامة ، كلهم هادون مهديون ، وأول الأوصياء بعدى أخي علي ، ثم حسن ثم حسين ، ثم تسعة من ولد الحسين في درجتي ، وليس في الجنة درجة أقرب إلى الله من درجتي ودرجة أبى إبراهيم . أما تعلمين يا بنية إن من كرامة الله إياك أن زوجك خير أمتي ، وخير أهل بيتي أقدمهم سلماً ، وأعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً ؟ !
فاستبشرت فاطمة وفرحت بما قال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم قال : يا بنية إن لبعلك مناقب : إيمانه بالله ورسوله قبل كل أحد ، فلم يسبقه إلى ذلك أحد من أمتي ، وعلمه بكتاب الله عز وجل وسنتي وليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي غير على ( عليه السلام ) ، وإن الله جل وعز علمني علماً لا يعلمه غيري ، وعلم ملائكته ورسله علماً ، فكلما علمه ملائكته ورسله فأنا أعلمه ، وأمرني الله أن أعلمه إياه ففعلت ، فليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي وفهمى وحكمتى غيره . وإنك يا بنية زوجته ، وابناه سبطاي حسن وحسين وهما سبطا أمتي ، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ،
فإن الله عز وجل آتاه الحكمة وفصل الخطاب . . . الخ .
ثم أقبل على على ( عليه السلام ) فقال : يا أخي أنت ستبقى بعدي ، وستلقى من قريش شدة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك ، فإن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك ، وإن لم تجد أعواناً فاصبر وكفَّ يدك ، ولا تلق بها إلى التهلكة ، فإنك منى بمنزلة هارون من موسي ، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه ! فاصبر لظلم قريش إياك ، وتظاهرهم عليك فإنك بمنزلة هارون ومن تبعه ، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه .
يا علي إن الله تبارك وتعالى قد قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأمة ، ولو شاء الله
لجمعهم على الهدي ، لا يختلف فيه اثنان من هذه الأمة ، ولا ينازع في شئ من أمره ، ولايجحد المفضول لذي الفضل فضله . ولو شاء لعجل النقمة وكان منه التغييرحتى يكذَّبَ الظالم ويعلم الحق أين مصيره ، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال وجعل
--------------------------- 677 ---------------------------
الآخرة دار القرار : لِيجْزِى الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَي . فقال على ( عليه السلام ) الحمد لله شكراً على نعمائه ، وصبراً على بلائه » .
أقول : روت مصادر السلطة هذا الحديث وحذفت منه ، لكن ما بقي منه حجة كافية لمن يريد الحق ! ففي الطبراني الكبير : 3 / 57 : « عن علي بن علي المكي الهلالي عن أبيه قال : دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في شكاته التي قبض فيها ، فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه ، قال : فبكت حتى ارتفع صوتها فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) طرفه إليها فقال : حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك ؟ فقالت : أخشى الضيعة من بعدك ! فقال : يا حبيبتي أما علمت أن الله عز وجل اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعث برسالته ، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك وأوحى إلى أن أنكحك إياه . يا فاطمة ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم يعط أحد قبلنا ولا يعطى أحد بعدنا : أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على الله وأحب المخلوقين إلى الله عزو جل وأنا أبوك . ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء وأحبهم إلى الله ، وهو عمك حمزة بن عبد المطلب وهو عم أبيك وعم بعلك . ومنا من له جناحان أخضران يطير في الجنة مع الملائكة حيث يشاء ، وهو ابن عم أبيك وأخو بعلك . ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما والذي بعثني بالحق خير منهما .
يا فاطمة والذي بعثني بالحق إن منهما مهدى هذه الأمة ، إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً ، وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ، فلا كبير يرحم صغيراً ، ولا صغير يوقر كبيراً ، فيبعث الله عز وجل عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً ! يقوم بالدين آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ، ويملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً .
يا فاطمة لا تحزني ولا تبكي ، فإن الله عز وجل أرحم بك وأرأف عليك منى وذلك لمكانك من قلبي ، وزوَّجك الله زوجاً هو أشرف أهل بيتك حسباً
--------------------------- 678 ---------------------------
وأكرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعية وأعدلهم بالسوية وأبصرهم بالقضية ، وقد سألت ربي عز وجل أن تكوني أول من يلحقني من أهل بيتي !
قال على رضي الله عنه : فلما قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم تبق فاطمة رضي الله عنها بعده إلا خمسة وسبعين يوماً ، حتى ألحقها الله عز وجل به » .
12 - وصية النبي « صلى الله عليه وآله » لعلي « عليه السلام » بتجهيزه
في روضة الواعظين / 71 : « قال ابن عباس : لما مرض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعنده أصحابه قام إليه عمار بن ياسر وقال له : فداك أبي وأمي يا رسول الله من يغسلك منا إذا كان ذلك منك ؟ قال : ذاك علي بن أبي طالب ، إنه لا يهم بعضو من أعضائي ، إلا أعانته الملائكة على ذلك » .
وفى كفاية الأثر / 124 ، عن عمار ، قال : « لما حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوفاة دعا بعلى فسارَّه طويلاً ثم قال : يا علي أنت وصيي ووارثي ، قد أعطاك الله علمي وفهمي ، فإذا مت ظهرت لك ضغائن في صدور قوم ، وغصب على حقد .
فبكت فاطمة وبكى الحسن والحسين « عليهم السلام » فقال لفاطمة : يا سيدة النسوان مم بكاؤك ؟ قالت : يا أبة أخشى الضيعة بعدك ! قال : أبشرى يا فاطمة فإنك أول من يلحقني من أهل بيتي ، ولا تبكى ولا تحزني ، فإنك سيدة نساء أهل الجنة ، وأباك سيد الأنبياء ، وابن عمك خير الأوصياء ، وابناك سيدا شباب أهل الجنة ، ومن صلب الحسين يخرج الله الأئمة التسعة مطهرون معصومون ، ومنا مهدى هذه الأمة . ثم التفت إلى علي ( عليه السلام ) فقال : يا علي لايلى غسلي وتكفيني غيرك .
فقال على ( عليه السلام ) يا رسول الله من يناولني الماء فإنك رجل ثقيل لا أستطيع أن أقلبك . فقال : إن جبرئيل معك والفضل يناولك الماء وليغطى عينيه ، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا انفقأت عينيه » .
أي لا يرى أحد غير على ( عليه السلام ) بدن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد وفاته ( صلى الله عليه وآله ) إلا عمي ،
وهى خصوصية لبدنه بعد وفاته ( صلى الله عليه وآله ) ، وخصوصية لعلى ( عليه السلام ) .
ويدل على ذلك أن علياً ( عليه السلام ) لا يمكن أن ينظر إلى عورته ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن الفضل كان
--------------------------- 679 ---------------------------
معصوب العينين ، فيتعين أن يكون المقصود بدنه ( صلى الله عليه وآله ) غير عورته ، ويؤيده أن ابن المغازلي روى في المناقب / 99 ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « لا يحلُّ لرجل يرَى مُجَرّدى إلاّ علي » . والمجرد ما تحت القميص ، وهو غير العورة ، وقد عبر عنه بالعورة .
وفى أمالي الطوسي / 600 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) عن أبيه عن جده على ( عليه السلام ) قال : « لما ثقل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مرضه الذي قبض فيه كان رأسه في حجري . . . فقال : يا علي أجلسني ، فأجلسته وأسندته إلى صدري . قال على ( عليه السلام ) فلقد رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإن رأسه ليثقل ضعفاً ، وهو يقول يسمع أقصى أهل البيت وأدناهم : أن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب ، يقضى ديني وينجز موعدي . يا بني هاشم يا بنى عبد المطلب : لا تبغضوا علياً ولا تخالفوا أمره فتضلوا ، ولا تحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا ، أضجعنى يا علي فأضجعته .
فقال : يا بلال إئتنى بولدَى الحسن والحسين ، فانطلق فجاء بهما فأسندهما إلى صدره فجعل ( صلى الله عليه وآله ) يشمهما ، قال علي : فظننت أنهما قد غمَّاه فذهبت لآخذهما عنه فقال : دعهما يا علي يشمانى وأشمهما ويتزودا منى وأتزود منهما ، فسيلقيان من بعدى أمراً عضالاً ، فلعن الله من يخيفهما . اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين »
وفى الإرشاد : 1 / 184 : « وكان أمير المؤمنين لا يفارقه إلا لضرورة ، فقام في بعض شؤونه ، فأفاق ( عليه السلام ) إفاقة فافتقد علياً ( عليه السلام ) فقال وأزواجه حوله : أُدعوا لي أخي وصاحبي ، وعاوده الضعف فأصمت ، فقالت عائشة : أُدعوا له أبا بكر ، فَدُعِى فدخل عليه فقعد عند رأسه ، فلما فتح عينه نظر إليه وأعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر وقال : لو كان له إلى حاجة لأفضى بها إلي .
فلما خرج أعاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القول ثانية وقال : أُدعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت حفصة : أُدعوا له عمر ، فدعى فلما حضر رآه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأعرض عنه فانصرف ، ثم قال ( عليه السلام ) : أُدعوا لي أخي وصاحبي ، فقالت أم سلمة :
أُدعوا له علياً فإنه لا يريد غيره ، فدعى أمير المؤمنين فلما دنا منه أومأ إليه ، فأكب عليه فناجاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) طويلاً ، ثم قام فجلس ناحية حتى أغفى
--------------------------- 680 ---------------------------
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال له الناس : ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن ؟ فقال : علمني ألف باب فتح لي كل باب ألف باب ، ووصاني بما أنا قائم به إن شاء الله .
ثم ثقل ( صلى الله عليه وآله ) وحضره الموت وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) حاضر عنده . فلما قرب خروج نفسه قال له : ضع رأسي يا علي في حجرك ، فقد جاء أمر الله عز وجل ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثم وجهني إلى القبلة ، وتول أمري ، وصل على أول الناس ، ولا تفارقني حتى توارينى في رمسي ، واستعن بالله تعالي . فأخذ على ( عليه السلام ) رأسه فوضعه في حجره فأغمى عليه ( صلى الله عليه وآله ) ، فأكبت فاطمة « عليها السلام » تنظر في وجهه وتندبه وتبكى وتقول :
وأبيضُ يستسقى الغَمامُ بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمة للأرامل
ففتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عينيه وقال بصوت ضئيل : يا بنية هذا قول عمك أبى طالب « رحمه الله » لا تقوليه ولكن قولي : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكمْ . . فبكت طويلاً ، فأومأ إليها بالدنو منه ، فدنت فأسرَّ إليها شيئاً تهلل له وجهها . ثم قضى ( صلى الله عليه وآله ) ويد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه ( صلى الله عليه وآله ) فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثم وجهه وغمضه ومد عليه إزاره » .
وفى الكافي : 1 / 297 : « عن يونس بن رباط قال : دخلت أنا وكامل التمار على أبى عبد الله ( عليه السلام ) قال له كامل : جعلت فداك حديث رواه فلان ؟ فقال : أُذكره ، فقال : حدثني أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حدث علياً ( عليه السلام ) بألف باب يوم توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، كل باب يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب ؟ فقال : لقد كان ذلك . قلت : جعلت فداك فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم ؟ فقال : يا كامل باب أو بابان . فقلت : جعلت فداك ، فما يروى من فضلكم من ألف ألف باب إلا باب أو بابان ؟ قال : وما عسيتم أن ترووا من فضلنا ، ما تروون من فضلنا إلا ألفاً غير معطوفة » !
13 - صفة احتضاره ووفاته « صلى الله عليه وآله »
في الفقيه : 4 / 163 ، عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما حضرت النبي ( صلى الله عليه وآله ) الوفاة نزل جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله هل لك في الرجوع إلى الدنيا ؟ فقال : لا ، قد
--------------------------- 681 ---------------------------
بلغت رسالات ربي . فأعادها عليه ، فقال : لا ، بل الرفيق الأعلي . ثم قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمون حوله مجتمعون : أيها الناس إنه لا نبي بعدي ، ولا سنة بعد سنتي ، فمن ادعى بعد ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ، ومن اتبعه فإنه في النار . أيها الناس : أحيوا القصاص ، وأحيوا الحق لصاحب الحق ، ولا تفرقوا ، أسلموا وسلموا تسلموا : كتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللهَ قَوِى عَزِيزٌ » .
وفى أمالي الصدوق / 384 ، أنه دخل على الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) رجلان من قريش فقال : « ألا أحدثكما عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقالا : بلى حدثنا عن أبي القاسم . قال : سمعت أبي ( عليه السلام ) يقول : لما كان قبل وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثة أيام هبط عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً لك وخاصة ، يسألك عما هو أعلم به منك يقول : كيف تجدك يا محمد ؟ قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أجدني يا جبرئيل مغموماً ، وأجدني يا جبرئيل مكروباً !
فلما كان اليوم الثالث هبط جبرئيل وملك الموت ، ومعهما ملك يقال له إسماعيل في الهواء على سبعين ألف ملك ، فسبقهم جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا أحمد ، إن الله عز وجل أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك خاصة ، يسألك عما هو أعلم به منك ، فقال : كيف تجدك يا محمد ؟ قال : أجدني يا جبرئيل مغموماً ، وأجدني يا جبرئيل مكروباً ! فاستأذن ملك الموت فقال جبرئيل : يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك لم يستأذن على أحد قبلك ، ولايستأذن على أحد بعدك . قال : إئذن له ، فأذن له جبرئيل فأقبل حتى وقف بين يديه فقال : يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك ، وأمرني أن أطيعك فيما تأمرني ، إن أمرتني بقبض نفسك قبضتها ، وإن كرهت تركتها . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أتفعل ذلك يا ملك الموت ؟ قال : نعم ، بذلك أمرت أن أطيعك فيما تأمرني . فقال له جبرئيل ( عليه السلام ) : يا أحمد ، إن الله تبارك وتعالى قد اشتاق إلى لقائك . فقال رسول الله لملك الموت : إمض لما أمرت به ، فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : هذا آخر وطئى الأرض ، إنما كنت حاجتي من الدنيا » .
وفى الإرشاد / 187 : « ثم قضى ( صلى الله عليه وآله ) ويد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) اليمنى تحت حنكه
--------------------------- 682 ---------------------------
ففاضت نفسه فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثم وجَّهَه وغمضه ، ومد عليه إزاره ، واشتغل بالنظر في أمره » .
14 - صفة تغسيله وتحنيطه وتكفينه « صلى الله عليه وآله »
في الإرشاد / 187 : « لما أراد أمير المؤمنين غسله صلوات الله عليه ، استدعى الفضل بن عباس فأمره أن يناوله الماء لغسله بعد أن عصب عينيه ، ثم شق قميصه من قبل جيبه حتى بلغ به إلى سرته ، وتولى ( عليه السلام ) غسله وتحنيطه وتكفينه ، والفضل يعاطيه الماء ويعينه عليه ، فلما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلى عليه وحده ، لم يشركه معه أحد في الصلاة عليه » . ثم صلى عليه المسلمون كما يأتي .
وفى البحار : 22 / 492 ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : كان في الوصية أن يدفع إلى الحنوط ، فدعاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل وفاته بقليل فقال : يا علي ويا فاطمة هذا حنوطى من الجنة ، دفعه إلى جبرئيل وهو يقرئكما السلام ويقول لكما : إقسماه واعزلا منه لي ولكما . قالت : لك ثلثه ، وليكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فبكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وضمها إليه . وقال : موفقة رشيدة مهدية ملهمة . يا علي قل في الباقي ، قال : نصف ما بقي لها ، ونصف لمن ترى يا رسول الله ، قال : هو لك فاقبضه . قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي أضمنت ديني تقضيه عني ؟ قال : نعم ، قال : اللهم فاشهد . ثم قال : يا علي تغسلنى ولا يغسلني غيرك فيعمى بصره ، قال علي : ولم يا رسول الله ؟ قال : كذلك قال جبرئيل ( عليه السلام ) عن ربي ، إنه لا يرى عورتي « أي بدني » غيرك إلا عمى بصره !
قال علي : فكيف أقوى عليك وحدي ؟ قال : يعينك جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وإسماعيل صاحب السماء الدنيا .
قلت : فمن يناولني الماء ؟ قال : الفضل بن العباس من غير أن ينظر إلى شئ منى فإنه لا يحل له ولا لغيره من الرجال والنساء النظر إلى عورتي وهى حرام عليهم ، فإذا فرغت من غسلي فضعني على لوح ، وافرغ علَى من بئري بئر غَرْس « قرب مسجد قباء » أربعين دلواً مفتحة الأفواه . قال عيسى : أو قال أربعين قربة شككت أنا في ذلك ،
--------------------------- 683 ---------------------------
قال : ثم ضع يدك يا علي على صدري ، وأحضر معك فاطمة والحسن والحسين من غير أن ينظروا إلى شئ من عورتي ، ثم تفهم عند ذلك منى تفهم ما كان وما هو كائن إن شاء الله تعالى ! أقبلتَ يا علي ؟ قال : نعم . قال : اللهم فاشهد .
قال : وكان فيما أوصى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يدفن في بيته الذي قبض فيه ويكفن بثلاثة أثواب : أحدها يمان ، ولا يدخل قبره غير على ( عليه السلام ) .
ثم قال : يا علي كن أنت وابنتي فاطمة والحسن والحسين وكبروا خمساً وسبعين تكبيرة ، وكبر خمساً وانصرف ، وذلك بعد أن يؤذن لك في الصلاة .
قال على ( عليه السلام ) بأبى أنت وأمي من يؤذنني ؟ قال : جبرئيل ( عليه السلام ) يؤذنك . قال : ثم من جاء من أهل بيتي يصلون على فوجاً فوجاً ثم نساؤهم ، ثم الناس بعد ذلك » .
وفى الطبقات : 2 / 280 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « غسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثلاث غسلات بماء وسدر ، وغسل في قميص ، وغسل من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خيثمة بقباء وكان يشرب منها ، وولى على غسله والعباس يصب الماء والفضل محتضنه يقول : أرحنى أرحنى قُطعت وتيني ! إني أجد شيئاً يتنزل علَى مرتين » .
أقول : عرفت من رواية أهل البيت « عليهم السلام » أن العباس لم يكن يشارك ، بل ابنه الفضل .
وفى دعائم الإسلام : 1 / 227 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أوصاه بأن يتولى غسله فكان هو الذي وليه ، قال : فلما أخذت في غسله سمعت قائلاً من جانب البيت وهو يقول : لاتنزع القميص عنه فغسلته ( صلى الله عليه وآله ) في قميصه ، وإني لأغسله وأحس يداً مع يدي تتردد عليه ، وإذا قلبته أعنت على تقليبه ، وقد أردت أن أكبه لوجهه فأغسل ظهره فنوديت لاتكبه ، فقلبته لجنبه وغسلت ظهره » .
وفى تهذيب الأحكام : 1 / 296 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « كفن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ثلاثة أثواب : برد أحمر حبرة ، وثوبين أبيضين صحاريين . قلت له وكيف صُلى عليه ؟ قال سجى بثوب وجعل وسط البيت ، فإذا دخل عليه قوم داروا به وصلوا عليه ودعوا له ، ثم يخرجون ويدخل آخرون ، ثم دخل على ( عليه السلام ) القبر فوضعه على يديه وأدخل معه الفضل بن عباس ، فقال رجل من الأنصار من بنى
--------------------------- 684 ---------------------------
الخيلاء يقال له أوس بن خولي : أنشدكم الله أن تقطعوا حقنا ! فقال له على ( عليه السلام ) أدخل فدخل معهما . فسألته : أين وضع السرير ؟ فقال : عند رجل القبر وسُلَّ سلاً » .
15 - صفة الصلاة عليه ودفنه « صلى الله عليه وآله »
في الكافي : 1 / 450 ، عن أبي مريم الأنصاري أنه سأل الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « كيف كانت الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : لما غسله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكفنه سجَّاه ، ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله ، ثم وقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وسطهم ، فقال : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ يصَلُّونَ عَلَى النبي ، يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، فيقول القوم كما يقول ، حتى صلى عليه أهل المدينة وأهل العوالي .
عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : أتى العباسُ أميرَ المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا علي إن الناس قد اجتمعوا أن يدفنوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بقيع المصلى وأن يؤمهم رجل منهم ، فخرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الناس فقال : يا أيها الناس إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إمام حياً وميتاً ، وقال : إني أدفن في البقعة التي أقبض فيها ، ثم قام على الباب فصلى عليه ، ثم أمر الناس عشرة عشرة يصلون عليه ، ثم يخرجون .
عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : لما قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلت عليه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجاً فوجاً . وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول في صحته وسلامته : إنما أنزلت هذه الآية في الصلاة على بعد قبض الله لي : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ يصَلُّونَ عَلَى النبي يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا » .
أقول : صلى عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحده صلاة الجنازة ، ثم كانت صلاة المسلمين عليه دعاء ، فكانوا يتحلقون حوله وعلى ( عليه السلام ) معهم يقرأ الآية : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ يصَلُّونَ عَلَى النبي . . . ويرددونها معه . راجع الحدائق : 10 / 451 .
وفى دعائم الإسلام : 1 / 234 : « فخرج على صلوات الله عليه عليهم فقال : أيها الناس ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان إماماً حياً وميتاً ، وإنه لم يقبض نبي إلا دفن في البقعة التي مات فيها . قالوا : إصنع ما رأيت . فقام على على باب البيت فصلى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ،
--------------------------- 685 ---------------------------
وقدم الناس عشرة عشرة ، يصلون عليه وينصرفون » .
وفى مناقب آل أبي طالب : 1 / 206 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « فصلوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ، ويوم الثلاثاء ، حتى صلى عليه الأقرباء والخواص . ولم يحضر أهل السقيفة وكان على ( عليه السلام ) أنفذ إليهم بريدة ، وإنما تمت بيعتهم بعد دفنه » . وسيأتي سبب عدم حضور أهل السقيفة لمراسم جنازة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وفى نهج البلاغة : 2 / 172 : قال ( عليه السلام ) : « ولقد قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإن رأسه لعلى صدري لقد سالت نفسه في كفى فأمررتها على وجهي ، ولقد وُليت غسله والملائكة أعواني ، فضجت الدار والأفنية ملأٌ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمةٌ منهم يصلون عليه ، حتى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحق به منى حياً وميتاً » !
وفى روضة الواعظين / 17 ، أن عمار بن ياسر قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « فداك أبي وأمي يا رسول الله فمن يصلى عليك منا ، إذا كان ذلك منك ؟ قال : مه رحمك الله ، ثم قال لعلي ( عليه السلام ) يا بن أبي طالب : إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلنى وأنِقْ غسلي ، وكفِّنى في طمرى هذين ، أو في بياض مصر وبرد يماني ، فلا تغال في كفني ، واحملونى حتى تضعونى على شفير قبرى فأول من يصلى على الجبار جل جلاله من فوق عرشه ، ثم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصى عددهم إلا الله جل وعز ، ثم الحافُّون بالعرش ، ثم سكان أهل سماء سماء » .
وفى الإرشاد : 1 / 187 : « ولما صلى المسلمون عليه أنفذ العباس بن عبد المطلب برجل إلى أبى عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويضرح ، وكان ذلك عادة أهل مكة ، وأنفذ إلى زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد ، واستدعاهما وقال . اللهم خر لنبيك . فوجد أبو طلحة زيد بن سهل فقيل له : إحتفر لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فحفر له لحداً ، ودخل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس وأسامة بن زيد ، ليتولوا دفن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنادت الأنصار من وراء البيت : يا علي ، إنا نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يذهب
--------------------------- 686 ---------------------------
أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فقال : ليدخل أوس بن خولي ، وكان بدرياً فاضلاً من بنى عوف من الخزرج ، فلما دخل قال له على ( عليه السلام ) إنزل القبر فنزل ، ووضع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على يديه ودلاه في حفرته ، فلما حصل في الأرض قال له : أُخرج فخرج ، ونزل علي بن أبي طالب القبر ، فكشف عن وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووضع خده على الأرض موجهاً إلى القبلة على يمينه ، ثم وضع عليه اللبن ، وهال عليه التراب » .
وفى أمالي المفيد / 102 ، عن ابن العباس قال : « لما توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تولى غسله علي بن أبي طالب ، والعباس معه والفضل بن العباس ، فلما فرغ على ( عليه السلام ) من غسله كشف الإزار عن وجهه ثم قال : بأبى أنت وأمي طبت حياً وطبت ميتاً ، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء . خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس فيك سواء . ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع ، لأنفدنا عليك ماء الشؤون . ولكن ما لا يرفع كمد وغصص محالفان وهما داء الأجل ، وقلاّ لك . بأبى أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك . ثم أكب عليه فقبل وجهه ومد الإزار عليه » .
أقول : معنى قوله ( عليه السلام ) : « انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك : انقطاع وحى النبوة إذ لا نبي بعده ( صلى الله عليه وآله ) . أما وحى الإمامة والإلهام ، ونزول جبرئيل ( عليه السلام ) فمستمر » . وقد ذكر القرآن الوحي لأم موسى ( عليه السلام ) وللنحل وغيرهما .
16 - من خصائص النبي « صلى الله عليه وآله » عند موته !
تضمنت أحاديث وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مجموعة خصائص له ، نذكر منها :
1 . ثقل بدنه الشريف ثقلاً غير عادي ، « ففي المناقب : 1 / 205 » ، قال على ( عليه السلام ) « فما تناولت عضواً إلا كأنما كان يقلبه معي ثلاثون رجلاً ، حتى فرغت من غسله » .
وفى طبقات ابن سعد : 1 / 280 ، عن الباقر ( عليه السلام ) قال : « وولى على غسله والعباس يصب الماء والفضل محتضنه يقول : أرحنى أرحنى قُطعت وتيني ! إني أجد شيئاً يتنزل علَى مرتين » ! وشاهدنا منه ثقل بدنه ( صلى الله عليه وآله ) والعباس لم يشترك في تغسيله .
--------------------------- 687 ---------------------------
2 . أن كل ما تحت قميصه عورة ، لا يجوز لأحد أن ينظر اليه لئلا يعمي ! فكأن فيه نوعاً من الأشعة تسبب فقدان البصر ، ولا يتحملها إلا وصيه على ( عليه السلام ) » .
« قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي غسلنى ولا يغسلني غيرك فيعمى بصره . قال على ( عليه السلام ) ولمَ يا رسول الله ؟ قال : كذلك قال لي جبرئيل عن ربى إنه لا يرى عورتي [ مجردي ] أحد غيرك إلا عمى بصره » ! جامع أحاديث الشيعة : 3 / 154 .
« فإنه لا يرى أحد عورتي غيرك إلا طمست عيناه . . قلت : فمن يناولني الماء ؟ قال : الفضل بن العباس من غير أن ينظر إلى شئ مني ، فإنه لا يحل له ولا لغيره من الرجال والنساء النظر إلى عورتي . . . وأحضر معك فاطمة والحسن والحسين من غير أن ينظروا إلى شئ من عورتي » . المناقب : 1 / 205 والبحار : 22 / 493 .
3 . أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تكلم بعد موته ! وقد عقد في بصائر الدرجات / 203 ، باباً روى فيه عشرة أحاديث ، ونحوها الكافي : 1 / 296 و 3 / 150 .
منها : عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) إذا أنا مِتُّ فاستق لي ست قرب من ماء بئر غرس فغسلني وكفني ، وخذ بمجامع كفنى وأجلسني ، ثم سلني ما شئت ، فوالله لا تسألني عن شئ إلا أجبتك » !
وفى رواية : « وكفِّنى ثم أقعدني واسألني ، واكتب » .
وفى رواية : « فخذنى وأجلسنى وضع يدك على صدري ، وسلني عما بدا لك » .
وفى رواية : « وكفني وأقعدنى وما أملى عليك فاكتب . قال قلت : ففعل ؟ قال : نعم »
وفى رواية : « فأدرجنى في أكفاني ، ثم ضع فاك على فمي . قال : ففعلت وأنبأئى بما هو كائن إلى يوم القيمة » .
وفى الخرائج : 2 / 800 و 2 / 827 ، بروايات ، منها : « قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : أمرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا توفى أن أستقى سبع قرب من بئر غرس فأغسله بها ، فإذا غسلته وفرغت من غسله أخرجت من في البيت ، فإذا أخرجتهم قال : فضع فاك على في ثم سلني أخبرك عما هو كائن إلى يوم الساعة من أمر الفتن . قال على ( عليه السلام ) ففعلت ذلك ، فأنبأني بما يكون إلى أن تقوم الساعة ، وما من فتنة تكون
--------------------------- 688 ---------------------------
إلا وأنا أعرف أهل ضلالتها من أهل حقها » .
ومنها : « فغسلني بسبع قرب من بئر غرس ، غسلنى بثلاث قرب غسلاً ، وسُنَّ على أربعاً سَنّاً ، فإذا غسلتنى وحنطتنى فأقعدني ، وضعْ يدك على فؤادي ثم سلني أخبرك بما هو كائن إلى يوم القيامة ! قال : ففعلت . وكان على ( عليه السلام ) إذا أخبرنا بشئ يكون قال : هذا مما أخبرني به النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد موته » ! والمناقب : 1 / 316 .
17 - لم يحضر أهل السقيفة مراسم جنازة النبي « صلى الله عليه وآله »
في الإرشاد : 1 / 187 : « ولم يحضر دفن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أكثر الناس ، لما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة ، وفات أكثرهم الصلاة عليه لذلك ! وأصبحت فاطمة « عليها السلام » تنادي : واسوء صباحاه ! فسمعها أبو بكر فقال لها : إن صباحك لصباح سوء ! واغتنم القوم الفرصة لشغل علي بن أبي طالب برسول الله وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فتبادروا إلى ولاية الأمر واتفق لأبى بكر ما اتفق ، لاختلاف الأنصار فيما بينهم ، وكراهة الطلقاء والمؤلفة قلوبهم من تأخر الأمر حتى يفرغ بنو هاشم فيستقر الأمر مقره ، فبايعوا أبا بكر لحضوره المكان ، وكانت أسباب معروفة تيسر منها للقوم ما راموه » .
وفى المناقب : 1 / 206 : « ولم يحضر أهل السقيفة ، وكان على ( عليه السلام ) أنفذ إليهم بريدة وإنما تمت بيعتهم بعد دفنه » .
أقول : لما توفى النبي ( صلى الله عليه وآله ) لبس عمر لباس حربه وخرج شاهراً سيفه يجول أمام بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) يهدد من يقول إنه مات ، ويعيد تهديده « حتى أزبد شدقاه » !
ففي سنن الدارمي : 1 / 39 : « فقام عمر فقال : إن رسول الله لم يمت ، ولكن عرج بروحه كما عرج بروح موسي ، والله لا يموت رسول الله حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم ! فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه مما يتوعد ويقول ! فقام العباس فقال : إن رسول الله قد مات ، وإنه لبشر » . ومسند أحمد : 3 / 196 . .
وفى شرح النهج : 1 / 178 : « لما مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وشاع بين الناس موته طاف
--------------------------- 689 ---------------------------
عمر على الناس قائلاً إنه لم يمت ولكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه ! وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات ! فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعده ، حتى جاء أبو بكر فقال : أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت » !
وسبب هذا الفعل أن عمر خاف أن يبادر بنو هاشم لبيعة على ( عليه السلام ) حيث دعا العباس إلى ذلك وقال لعلى ( عليه السلام ) « أبسط يدك أبايعك فيقال : عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله » « الإمامة لابن قتيبة : 1 / 12 » . فأراد عمر أن يكسب الوقت حتى يحضر أبو بكر ، من بيته في السنح خارج المدينة ! فلما اطمأن إلى أن علياً ( عليه السلام ) لم يقبل البيعة ، وجاء أبو بكر وقال إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مات ، قبل عمر ذلك ، وسكت !
وبقى عندهما الخوف من الأنصار أن يبادروا إلى بيعة سعد بن عبادة ، وكان مريضاً في سقيفته التي تسمى سقيفة بنى ساعدة ، فسارعا ليصفقا على يد أبى بكر في بيت سعد ، بمساعدة اثنين من خصومه الأوس وجمهور الطلقاء !
قال ابن كثير في سيرته : 4 / 491 : « توفى رسول الله وأبو بكر في صائفة من المدينة ، قال فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال : فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً ، مات محمد ورب الكعبة . فذكر الحديث قال : فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان حتى أتوهم ،
فتكلم أبو بكر . . . » .
وفى رواية النسائي في كتاب الوفاة / 75 : « ثم قال أبو بكر عندكم صاحبكم ، وخرج » !
وفى سنن البيهق : 8 / 145 : « دونكم صاحبكم ، لبنى عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعنى في غسله وما يكون من أمره ، ثم خرج » !
وفى مصنف ابن أبي شيبة : 8 / 572 ، عن عروة : « إن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي وكانا في الأنصار ، فدفن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يرجعا » .
وقد اعترف عمر بغيابهم عن مراسم جنازة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ففي الطبقات : 2 / 262 : « عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن كعب الأحبار قام زمن عمر فقال ونحن
--------------------------- 690 ---------------------------
جلوس عند عمر أمير المؤمنين : ما كان آخر ما تكلم به رسول الله ؟ فقال عمر : سل علياً . قال : أين هو ؟ قال هو هنا ، فسأله فقال علي : أسندته إلى صدري ، فوضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة . فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا وعليه يبعثون . قال : فمن غسله يا أمير المؤمنين ؟ قال : سل علياً . قال فسأله فقال : كنت أغسله وكان العباس جالساً وكان أسامة وشقران يختلفان إلى بالماء » .
وفى غيبة النعماني / 100 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أن سكك المدينة يومها كانت خالية قال : « لما توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دخل المدينة رجل من ولد داود على دين اليهودية فرأى السكك خالية ، فقال لبعض أهل المدينة : ما حالكم ؟ فقيل له : توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال الداودي : أما إنه توفى اليوم الذي هو في كتابنا » !
كما تركت عائشة وحفصة جنازة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من حين وفاته ، وخالفتا الحداد الواجب عليهما ، وانشغلتا بالذهاب إلى بيوت الأنصار لإقناعهم ببيعة أبى بكر !
قالت عائشة : « ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحى من جوف الليل » . الاستيعاب : 1 / 47 ، ابن هشام 4 / 321 ، الطبري : 3 / 213 ودلائل النبوة : 7 / 256 .
ومع ذلك كانت عائشة تتحسر لتجهيز على ( عليه السلام ) للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وغيابها فقالت : « لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه » . أحكام الجنائز للألباني / 49 وصححه .
18 - دفن النبي « صلى الله عليه وآله » في بيته وليس في حجرة عائشة
كتبنا في جواهر التاريخ : 3 / 303 ، بحثاً مستوفياً تحت عنوان : أين دفن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ وأثبتنا فيه أنه دفن في بيته وفى حجرته الكبيرة ، التي كان يستقبل فيها الناس ، وكان لها بابان باب إلى المسجد وباب إلى داخل داره ( صلى الله عليه وآله ) . فقد صلى المسلمون على جثمانه الشريف ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانوا يدخلون من باب ويخرجون من آخر .
أما غرفة عائشة فقد نصوا على أنه كان لها باب واحد !
إلى آخر الأدلة على أنه لم يدفن في بيت عائشة ، ولا تمرض فيه كما زعموا .
لكن السلطة سيطرت على بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم ادعت عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعطاها هذه الحجرة ، وأشاعت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دفن في حجرة عائشة !
--------------------------- 691 ---------------------------
19 - حُزن أهل البيت على النبي « صلى الله عليه وآله » وتعزية جبرئيل والخضر لهم
روى الكليني : 1 / 445 ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « لما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بات آل محمد « عليهم السلام » بأطول ليلة ، حتى ظنوا أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم ! لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتر الأقربين والأبعدين في الله ! فبيناهم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه ، فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ،
إن في الله عزاء من كل مصيبة ، ونجاة من كل هلكة ، ودرَكاً لما فات : كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ يوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ . إن الله اختاركم وفضلكم وطهركم وجعلكم أهل بيت نبيه ، واستودعكم علمه وأورثكم كتابه ، وجعلكم تابوت علمه وعصا عزه ، وضرب لكم مثلاً من نوره ، وعصمكم من الزلل ، وآمنكم من الفتن ، فتعزوا بعزاء الله ، فإن الله لم ينزع منكم رحمته ، ولن يزيل عنكم نعمته ، فأنتم أهل الله عز وجل الذين بهم تمت النعمة ، واجتمعت الفرقة وائتلفت الكلمة ، وأنتم أولياؤه ، فمن تولاكم فاز ومن ظلم حقكم زهق .
مودتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين ، ثم الله على نصركم إذا يشاء قدير ، فاصبروا لعواقب الأمور ، فإنها إلى الله تصير . قد قبلكم الله من نبيه وديعة ، واستودعكم أولياء المؤمنين في الأرض ، فمن أدى أمانته أتاه الله صدقه ، فأنتم الأمانة المستودعة ، ولكم المودة الواجبة ، والطاعة المفروضة ، وقد قبض رسول الله وقد أكمل لكم الدين ، وبين لكم سبيل المخرج ، فلم يترك لجاهل حجة ، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسي ، فعلى الله حسابه ، والله من وراء حوائجكم . وأستودعكم الله ، والسلام عليكم . فسألت أبا جعفر ( عليه السلام ) : ممن أتاهم التعزية ؟ فقال : من الله تبارك وتعالى على لسان جبريل ( عليه السلام ) » . ونحوه : 3 / 221 والمناقب : 2 / 83 . .
وفى شرح الأخبار : 2 / 419 ، أن سفيان بن عيينة قال : « أتينا جعفر بن محمد ( عليه السلام ) نعزيه بابنه إسماعيل ، فتحدث معنا فذكر وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال في الحديث : فلما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أتاهم آت يعنى أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يسمعون كلامه
--------------------------- 692 ---------------------------
ولا يرون شخصه ، فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته : كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ يوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ . إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك ، فالله فارجوه ، وإياه فاعبدوه ، واعلموا أن المصاب من حرم الثواب ، والسلام علكيم ورحمة الله وبركاته . قال سفيان بن عيينة : فقلت لجعفر بن محمد : من كنتم ترون المتكلم ؟ قال : كنا نراه جبرائيل ( عليه السلام ) » .
وفى الأصول الستة عشر / 122 : « فسأله يحيى بن أبي القاسم فقال : جعلت فداك ممن آتاهم التعزية ؟ قال : من الله عز وجل » .
وفى أمالي الصدوق / 349 : « فلما توفى رسول الله صلى الله على روحه الطيب ، جاءت التعزية ، جاءهم آتٍ يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكمْ يوْمَ الْقِيامَة . إن في الله عز وجل عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك ، ودركاً من كل ما فات ، فبالله فثقوا وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : هل تدرون من هذا ؟ هذا الخضر ( عليه السلام ) »
ورواه في كمال الدين / 392 ، وقال : « قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : إن أكثر المخالفين يسلمون لنا حديث الخضر ( عليه السلام ) ويعتقدون فيه أنه حي غائب عن الأبصار ، وأنه حيث ذكر حضر ، ولا ينكرون طول حياته ، ولا يحملون حديثه على عقولهم . ويدفعون كون القائم ( عليه السلام ) وطول حياته في غيبته وعندهم أن قدرة الله عز وجل تتناول إبقاءه إلى يوم النفخ فييالصور ، وإبقاء إبليس مع لعنته إلى يوم الوقت المعلوم في غيبته ، وأنها لا تتناول إبقاء حجة الله على عباده مدة طويلة في غيبته ، مع ورود الأخبار الصحيحة بالنص عليه بعينه واسمه ونسبه عن الله تبارك وتعالي ، وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وعن الأئمة « عليهم السلام » » .
ورواه الحاكم وصححه : 3 / 57 قال : « لما توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عزتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص فقالت : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته . إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل فائت ، فبالله فثقوا وإياه فارجوا ، فإنما المحروم
--------------------------- 693 ---------------------------
من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » .
وفى البحار : 43 / 213 عن علي ( عليه السلام ) قال : « إن فاطمة « عليها السلام » لما توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانت تقول : وا أبتاه من ربه ما أدناه ، وا أبتاه جنان الخلد مثواه ، وا أبتاه يكرمه ربه إذ أتاه ، يا أبتاه الرسل تسلم عليه حين تلقاه » .
وفى البخاري : 5 / 144 عن أنس قال : « لما ثقل النبي جعل يتغشاه فقالت فاطمة « عليها السلام » واكرب أباه ! فقال لها : ليس على أبيك كرب بعد اليوم ! فلما مات قالت : يا أبتاه ، أجاب رباً دعاه . يا أبتاه ، من جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه . فلما دفن قالت فاطمة « عليها السلام » : يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب ؟ ! » .
وفى كفاية الأثر / 198 ، عن محمود بن لبيد قال : « لما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانت فاطمة تأتى قبور الشهداء وتأتى قبر حمزة وتبكى هناك ، فلما كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة فوجدتها تبكى هناك ، فأمهلتها حتى سكتت فأتيتها وسلمت عليها وقلت : يا سيدة النسوان قد والله قطعت أنياط قلبي من بكائك . فقالت : يا با عمرو يحق لي البكاء ، ولقد أصبت بخير الآباء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، واشوقاه لي رسول الله ، ثم أنشأت عليها السلام تقول :
إذا مات يوماً ميتٌ قلَّ ذكره * وذكر أبى إذ مات والله أكثر
قلت : يا سيدتي إني سائلك عن مسألة تلجلج في صدري ؟ قالت : سل ، قلت : هل نص رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل وفاته على على بالإمامة ؟ قالت : واعجباه أنسيتم يوم غدير خم ؟ ! قلت : قد كان ذلك ، ولكن أخبريني بما أسرَّ إليك . قالت : أشهد الله تعالى لقد سمعته يقول : على خير من أخلفه فيكم ، وهو الإمام والخليفة بعدي ، وسبطاي وتسعة من صلب الحسين أئمة أبرار ، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادين مهديين ، ولئن خالفتموهم ليكون الاختلاف فيكم إلى يوم القيامة . . الخ . » .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « إن أصبت بمصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك ، فاذكر مصابك برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط » . الكافي : 3 / 220 .
--------------------------- 694 ---------------------------
20 - جاؤوا بخبر السقيفة بعد دفن النبي « صلى الله عليه وآله »
في الإرشاد : 1 / 189 : « لما تم لأبى بكر ما تم وبايعه من بايع ، جاء رجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يسوى قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمسحاة في يده ، فقال له : إن القوم قد بايعوا أبا بكر ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم ، وبدر الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر ! فوضع طرف المسحاة في الأرض ويده عليها ، ثم قال : بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . اَلَم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يتْرَكوا أَنْ يقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يعْمَلُونَ السَّيئَاتِ أَنْ يسْبِقُونَا سَاءَ مَا يحْكمُونَ . وقد كان أبو سفيان جاء إلى باب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلى والعباس متوفران على النظر في أمره فنادي :
بني هاشم لاتُطمعوا الناس فيكمُ * ولا سيما تَيمُ بن مرةَ أو عَدِي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم * وليس لها إلا أبو حسنٍ علي
أبا حسن فاشدد بها كف حازمٍ * فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي
ثم نادى بأعلى صوته : يا بني هاشم يا بنى عبد مناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل « بكر » الرذل بن الرذل ! أما والله لئن شئتم لأملأنها خيلاً ورجلاً ؟ ! فناداه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إرجع يا أبا سفيان ، فوالله ما تريد الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وعلى كل امرئ ما اكتسب ، وهو ولى ما احتقب ! فانصرف أبو سفيان إلى المسجد فوجد بنى أمية مجتمعين فيه ، فحرضهم على الأمر فلم ينهضوا له » .
في نهج البلاغة : 1 / 116 : « لما انتهت إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ( عليه السلام ) : ما قالت الأنصار ؟ قالوا قالت : منا أمير ومنكم أمير ! قال ( عليه السلام ) : فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ! قالوا وما في هذا من الحجة عليهم ؟ فقال ( عليه السلام ) : لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم . ثم قال ( عليه السلام ) : فما ذا قالت قريش ؟ قالوا : احتجت بأنها
--------------------------- 695 ---------------------------
شجرة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال ( عليه السلام ) : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » !
وفى نهج البلاغة : 1 / 40 : « ومن خطبة له ( عليه السلام ) لما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة :
أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا عن تيجان المفاخرة . أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح . هذا ماء آجن ، ولقمة يغص بها آكلها ! ومجتنى الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه ! فإن أقل يقولوا حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت ! هيهات بعد اللتيا والتي والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدى أمه .
بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة » . أي اضطراب حبل الدلو في البئر العميقة .
وفى البحار : 22 / 492 ، عن الطُّرف ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « قال ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ما أنت صانع لو قد تأمر القوم عليك بعدى وتقدموا عليك ، وبعث إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة ، ثم لببت بثوبك تقاد كما يقاد الشارد من الإبل مذموماً مخذولاً محزوناً مهموماً ، وبعد ذلك ينزل بهذه الذل ؟ ! قال : فلما سمعت فاطمة ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صرخت وبكت ، فبكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لبكائها وقال : يا بنية لا تبكى ولا تؤذى جلساءك من الملائكة ، هذا جبرئيل بكى لبكائك وميكائيل وصاحب سر الله إسرافيل ! يا بنية لا تبكى فقد بكت السماوات والأرض لبكائك ! فقال على ( عليه السلام )
يا رسول الله أنْقَادُ للقوم وأصبر على ما أصابني ، من غير بيعة لهم ، وما لم أصب أعواناً لم أناجز القوم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم اشهد .
فقال : يا علي ما أنت صانع بالقرآن والعزائم والفرائض ؟
فقال : يا رسول الله أجمعه ، ثم آتيهم به ، فإن قبلوه ، وإلا أشهدت الله عز وجل وأشهدتك عليهم . قال : اللهم اشهد » .
--------------------------- 696 ---------------------------
21 - ذهول الصحابي البراء بن عازب « رحمه الله » من بيعة الخلسة !
قال الجوهري في كتابه السقيفة / 48 ، وهو من أقدم الكتب في هذا الموضوع : « سمعت البراء بن عازب ، يقول : لم أزل لبنى هاشم محباً ، فلما قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم ، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول ، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبي في الحجرة وأتفقد وجوه قريش . فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر وعثمان ، وإذ قائل يقول : القوم في سقيفة بنى ساعدة ، وإذ قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر ! فلم ألبث وإذا أنا بأبى بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبى بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبي !
فأنكرت عقلي ! وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق ، فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً وقلت : قد بايع الناس لأبى بكر بن أبي قحافة ، فقال العباس : تربت أيديكم إلى آخر الدهر ، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني !
فمكثت أكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل المقداد ، وسلمان ، وأبا ذر ، وعبادة بن الصامت ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وحذيفة ، وعماراً ، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ! فلما كان بليل خرجت إلى المسجد فلما صرت فيه تذكرت أنى كنت أسمع همهمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالقرآن ، فامتنعت من مكاني فخرجت إلى الفضاء فضاء بنى قضاعة ، وأجد نفراً يتناجون فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم ، فعرفوني وما أعرفهم ، فأتيتهم فأجد المقداد بن الأسود ، وعبادة بن الصامت ، وسلمان الفارسي ، وأبا ذر ، وحذيفة ، وأبا الهيثم بن التيهان وإذا حذيفة يقول لهم : والله ليكونن ما أخبرتكم به ، والله ما كذبت ولا كذبت !
وإذ القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين !
ثم قال : إئتوا أبي بن كعب فقد علم كما علمت ، قال فانطلقنا إلى أبى فضربنا عليه بابه حتى صار خلف الباب فقال : من أنتم ؟ فكلمه المقداد فقال : ماحاجتكم ؟ فقال له :
--------------------------- 697 ---------------------------
ما أنا بفاتح بابى وقد عرفت ما جئتم له كأنكم أردتم النظر في هذا العقد ؟ فقلنا : نعم ، فقال : أفيكم حذيفة ؟ فقلنا : نعم ، قال : فالقول ما قال ! وبالله ما أفتح عنى بابى حتى تجرى على ما هي جارية ، ولمَا يكون بعدها شر منها ، والى الله المشتكي !
وبلغ الخبر أبا بكر وعمر ، فأرسلا إلى أبى عبيدة والمغيرة بن شعبة ، فسألاهما عن الرأي ؟ فقال المغيرة : الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له هذا الأمر نصيباً فيكون له ولعقبه ، فتقطعوا به من ناحية علي ، ويكون لكم حجة عند الناس على علي ، إذا مال معكم العباس . فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة ، حتى دخلوا على العباس ، وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وقال : إن الله ابتعث لكم محمداً نبياً وللمؤمنين ولياً ، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، فخلى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم ، متفقين غير مختلفين فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وتسديده وهناً ولا حيرةً ولا جبناً ، وماتوفيقى إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب ، وما انفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين ، يتخذ لكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع وخطبه البديع ، فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس ، أو صرفتموهم عما مالوا إليه ، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عم رسول الله ، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أهلك ، ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم ! وعلى رسلكم بني هاشم فإن رسول الله منا ومنكم !
فاعترض كلامه عمر ، وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الأمر من أصعب جهاته ، فقال : إي والله وأخرى أنا لم نأتكم عن حاجة إليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم فانظروا لأنفسكم وعامتهم ، ثم سكت » . انتهي .
أقول : البراء بن عازب صحابي كبير ، وبطولاته في معارك الإسلام مشهورة .
قال الذهبي في سيره : 3 / 194 : « البراء بن عازب بن الحارث ، الفقيه الكبير ، أبو
--------------------------- 698 ---------------------------
عمارة الأنصاري الحارثي المدني ، نزيل الكوفة ، من أعيان الصحابة . روى حديثاً كثيراً وشهد غزوات كثيرة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) » .
وتدل شهادته على أن خلافة أبى بكر كانت خلسة وفلتةً بعيدة عن النص النبوي ومشورة الأمة ! وكانت إجباراً وإرهاباً بالطلقاء الذين خرجوا مسلحين يخبطون من رأوه ويجبرونه على البيعة ! وتدل على أنها كانت متزلزلة أياماً ، حتى غلبت فيها قريش والطلقاء ، وانقسم الأنصار وتحاسدوا وتخاذلوا !
22 - خطبة سلمان في اليوم الثالث لوفاة النبي « صلى الله عليه وآله »
في الإحتجاج : 1 / 151 ، عن الإمام الصادق عن آبائه « عليهم السلام » قال : « خطب الناس سلمان الفارسي « رحمه الله » بعد أن دفن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بثلاثة أيام فقال فيها :
ألا يا أيها الناس : إسمعوا عنى حديثي ثم اعقلوه عني ، ألا وإني أوتيت علماً كثيراً ، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضايل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لقالت طائفة منكم هو مجنون ، وقالت طائفة أخرى اللهم اغفر لقاتل سلمان ! ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا ، ألا وإن عند على ( عليه السلام ) علم المنايا والبلايا وميراث الوصايا ، وفصل الخطاب ، وأصل الأنساب ، على منهاج هارون بن عمران من موسى إذ يقول له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
أنت وصيي في أهل بيتي ، وخليفتي في أمتي وأنت منى بمنزلة هارون من موسي ! ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل فأخطأتم الحق ، فأنتم تعلمون ولا تعلمون ! أما والله لتركبن طبقاً عن طبق ، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ! أما والذي نفس سلمان بيده لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم ، ولو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء ، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولى الله ، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله . ولكن أبيتم فوليتموها غيره فأبشروا بالبلايا ، واقنطوا من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء ! عليكم بآل محمد فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها يوم القيامة .
عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مراراً جمة مع نبينا ، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا ! فما بال القوم عرفوا
--------------------------- 699 ---------------------------
فضله فحسدوه ، وقد حسد هابيل قابيل فقتله ، وكفاراً قد ارتدت أمة موسى بن عمران ، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل ، فأين يذهب بكم !
أيها الناس : ويحكم ما لنا وأبو فلان وفلان ! أجهلتم أم تجاهلتم ؟ أم حسدتم أم تحاسدتم ؟ والله لترتدن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة ، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة !
ألا وإني أظهرت أمرى وسلمت لنبيى ( صلى الله عليه وآله ) ، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علياً أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، وإمام الصديقين ، والشهداء والصالحين » .
23 - خطبة أمير المؤمنين « عليه السلام » في اليوم السابع لوفاة النبي « صلى الله عليه وآله »
في الكافي : 8 / 18 عن جابر بن يزيد الجعفي « رحمه الله » قال : « دخلت على أبى جعفر ( عليه السلام ) فقلت : يا ابن رسول الله قد أرمضنى اختلاف الشيعة في مذاهبها فقال :
يا جابر ألم أقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا ، ومن أي جهة تفرقوا ؟ قلت : بلى يا ابن رسول الله قال : فلا تختلف إذا اختلفوا ! يا جابر
إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أيامه ! يا جابر إسمع وعِ ، قلت : إذا شئت ، قال : إسمع وعِ ، وبلغ حيث انتهت بك راحلتك :
إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب الناس بالمدينة ، بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه فقال ( عليه السلام ) : « مختصراً » :
الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده ، وحجب العقول أن تتخيل ذاته لامتناعها من الشبه والتشاكل ، بل هو الذي لا يتفاوت في ذاته ، ولا يتبعض بتجزئة العدد في كماله . فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ، ويكون فيها لا على وجه الممازجة ، ويعلمها لا بأداة ، لا يكون العلم إلا بها ، وليس بينه وبين معلومه علم غيره به . كان عالماً بمعلومه . إن قيل كان ، فعلى تأويل أزلية الوجود وإن قيل لم يزل ، فعلى تأويل نفى العدم . فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه واتخذ إلهاً غيره ، علواً كبيراً .
--------------------------- 700 ---------------------------
نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه ، وأوجب قبوله على نفسه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل ، خف ميزانٌ ترفعان منه ، وثقل ميزانٌ توضعان فيه ، وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار ، والجواز على الصراط . وبالشهادة تدخلون الجنة ، وبالصلاة تنالون الرحمة . أكثروا من الصلاة على نبيكم ( صلى الله عليه وآله ) : إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ يصَلُّونَ عَلَى النبي يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .
أيها الناس : إنه لا شرف أعلى من الإسلام ، ولا كرم أعز من التقوي ، ولا معقل أحرز من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجمل من العافية ، ولا وقاية أمنع من السلامة ، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضا بالقناعة ، ولا كنز أغنى من القنوع ، ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة ، والرغبة مفتاح التعب ، والإحتكار مطية النصب ، والحسد آفة الدين ، والحرص داع إلى التقحم في الذنوب ، وهو داعى الحرمان . . .
إعلموا أيها الناس أنه من مشى على وجه الأرض ، فإنه يصير إلى بطنها ، والليل والنهار يتنازعان في هدم الأعمار . . .
وما تناكرتم إلا لما فيكم من المعاصي والذنوب ، فما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النعيم ، وما شر بشر بعده الجنة ، وما خير بخير بعده النار ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية ، وعند تصحيح الضمائر تبدو الكبائر ، تصفية العمل أشد من العمل ، وتخليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد . هيهات لولا التقى لكنت أدهى العرب .
أيها الناس : إن الله تعالى وعد نبيه محمداً ( صلى الله عليه وآله ) الوسيلة ووعده الحق ، ولن يخلف الله وعده ، ألا وإن الوسيلة أعلى درج الجنة ، وذروة ذوائب الزلفة ، ونهاية غاية الأمنية ، لها ألف مرقاة ، ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام ، وهو ما بين مرقاة درة إلى مرقاة جوهرة ، إلى مرقاة زبرجدة ، إلى مرقاة لؤلؤة ، إلى مرقاة ياقوتة ، إلى مرقاة زمردة ، إلى مرقاة مرجانة . . قد أنافت على كل الجنان ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومئذ
--------------------------- 701 ---------------------------
قاعد عليها ، مرتدٍ بريطتين : ريطة من رحمة الله وريطة من نور الله ، عليه تاج النبوة ، وإكليل الرسالة ، قد أشرق بنوره الموقف ، وأنا يومئذ على الدرجة الرفيعة وهى دون درجته ، وعلى ريطتان : ريطة من أرجوان النور وريطة من كافور ، والرسل والأنبياء « عليهم السلام » قد وقفوا على المراقي ، وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أيماننا ، وقد تجللهم حلل النور والكرامة ، لا يرانا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بهت بأنوارنا ، وعجب من ضيائنا وجلالتنا . . .
ولا مصيبة عظمت ولا رزية جلت كالمصيبة برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لأن الله ختم به الإنذار والإعذار ، وقطع به الإحتجاج والعذر بينه وبين خلقه ، وجعله بابه الذي بينه وبين عباده ، ومهيمنه الذي لا يقبل إلا به ، ولا قربة إليه إلا بطاعته ، وقال في محكم كتابه : مَنْ يطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيهِمْ حَفِيظًا . فقرن طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته ، فكان ذلك دليلاً على ما فوض إليه ، وشاهداً له على من اتبعه وعصاه ، وبين ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتباعه ، والترغيب في تصديقه ، والقبول لدعوته : قُلْ إِنْ كنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يحْبِبْكمُ اللهُ وَيغْفِرْ لَكمْ ذُنُوبَكمْ ، فاتباعه ( صلى الله عليه وآله ) محبة الله ، ورضاه غفران الذنوب ، وكمال الفوز ووجوب الجنة ، وفى التولي عنه والإعراض محادة الله وغضبه وسخطه ، والبعد منه مسكن النار ، وذلك قوله : أُولَئِك يؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يكفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، يعنى الجحود به والعصيان له . . .
فإن الله تبارك اسمه امتحن بي عباده وقتل بيدي أضداده ، وأفنى بسيفي جحاده وجعلني زلفة للمؤمنين وحياض موت على الجبارين ، وسيفه على المجرمين ، وشد بي أزر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأكرمني بنصره ، وشرفنى بعلمه وحباني بأحكامه ، واختصنى بوصيته واصطفاني بخلافته في أمته ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) وقد حشده المهاجرون والأنصار ، وانغصت بهم المحافل : أيها الناس إن علياً منى كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ! فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول ، إذ عرفوني
--------------------------- 702 ---------------------------
أنى لست بأخيه لأبيه وأمه كما كان هارون أخا موسى لأبيه وأمه ، ولا كنت نبياً فأقتضى نبوة ، ولكن كان ذلك منه استخلافاً لي كما استخلف موسى هارون « عليهما السلام » حيث يقول : أُخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ .
وقوله ( صلى الله عليه وآله ) حين تكلمت طائفة فقالت : نحن موالى رسول الله فخرج رسول الله إلى حجة الوادع ثم صار إلى غدير خم ، فأمر فأصلح له شبه المنبر ثم علاه ، وأخذ بعضدي حتى رئى بياض إبطيه رافعاً صوته ، قائلاً في محفله : من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . فكانت على ولايتي ولاية الله وعلى عداوتى عداوة الله . وأنزل الله عز وجل في ذلك اليوم : الْيوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكمْ نِعْمَتِي . فكانت ولايتي كمالَ الدين ورضا الرب جل ذكره ، وأنزل الله تبارك وتعالى اختصاصاً لي وتكرماً نحلنيه وإعظاماً وتفضيلاً من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منحنيه ، وهو قوله تعالي : ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكمُ وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ . في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع ، فطال لها الاستماع .
ولئن تقمصها دونى الأشقيان ونازعانى فيما ليس لهما بحق ، وركباها ضلالة واعتقداها جهاله ، فلبئس ما عليه وردا ولبئس ما لأنفسهما مهدا ، يتلاعنان في دورهما ، ويتبرأ كل واحد منهما من صاحبه ، يقول لقرينه إذا التقيا : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ، فيجيبه الأشقى على رثوثة : يا ليتني لم أتخذك خليلاً ، لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى وَكانَ الشَّيطَانُ للَّإِنْسَانِ خَذُولاً ، فأنا الذكر الذي عنه ضل ، والسبيل الذي عنه مال ، والإيمان الذي به كفر ، والقرآن الذي إياه هجر ، والدين الذي به كذب ، والصراط الذي عنه نكب .
ولئن رتعا في الحطام المنصرم ، والغرور المنقطع ، وكانا منه على شفا حفرة من النار ، لهما على شر ورود ، في أخيب وفود ، وألعن مورود ، يتصارخان باللعنة ويتناعقان بالحسرة ، مالهما من راحة ، ولا عن عذابهما من مندوحة .
إن القوم لم يزالوا عباد أصنام وسدنة أوثان ، يقيمون لها المناسك ، وينصبون لها العتائر ، ويتخذون لها القربان ، ويجعلون لها البحيرة والوصيلة ، والسائبة والحام ، ويستقسمون
--------------------------- 703 ---------------------------
بالأزلام ، عامهين عن الله عز ذكره ، حائرين عن الرشاد ، مهطعين إلى البعاد ، وقد استحوذ عليهم الشيطان ، وغمرتهم سوداء الجاهلية ، ورضعوها جهالة ، وانفطموها ضلالة ، فأخرجنا الله إليهم رحمة ، وأطلعنا عليهم رأفة ، وأسفر بنا عن الحجب ، نوراً لمن اقتبسه ، وفضلاً لمن اتبعه ، وتأييداً لمن صدقه ، فتبوؤوا العز بعد الذلة ، والكثرة بعد القلة ، وهابتهم القلوب والأبصار ، وأذعنت لهم الجبابرة ، وطوائفها وصاروا أهل نعمة مذكورة ، وكرامة ميسورة وأمن بعد خوف ، وجمع بعد كوف ، وأضاءت بنا مفاخر معد بن عدنان ، وأولجناهم باب الهدي ، وأدخلناهم دار السلام ، وأشملناهم ثوب الإيمان ، وفلجوا بنا في العالمين ، وأبدت لهم أيام الرسول آثار الصالحين ، من حام مجاهد ، ومصل قانت ، ومعتكف زاهد ، يظهرون الأمانة ويأتون المثابة .
حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ورفعه إليه ، لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة ، أو وميض من برقة ، إلى أن رجعوا على الأعقاب ، وانتكصوا على الأدبار ، وطلبوا بالأوتار ، وأظهروا الكتاب ، وردموا الباب ، وفلوا الديار ، وغيروا آثار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورغبوا عن أحكامه ، وبعدوا من أنواره ، واستبدلوا بمستخلفه بديلاً ، اتخذوه وكانوا ظالمين ، وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ممن اختار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لمقامه ! وأن مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجري الأنصاري الرباني ، ناموس هاشم بن عبد مناف !
ألا وإن أول شهادة زور وقعت في الإسلام ، شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان ، رجعوا عن ذلك وقالوا : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مضى ولم يستخلف ! فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الطيب المبارك أول مشهود عليه بالزور في الإسلام ! وعن قليل يجدون غب ما يعملون ، وسيجد التالون غب ما أسسه الأولون !
ولئن كانوا في مندوحة من المهل ، وشفاء من الأجل ، وسعة من المنقلب واستدراج من الغرور ، وسكون من الحال ، وإدراك من الأمل ، فقد أمهل
--------------------------- 704 ---------------------------
الله عز وجل شداد بن عاد ، وثمود بن عبود ، وبلعم بن باعور ، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، وأمدهم بالأموال والأعمار ، وأتتهم الأرض ببركاتها ، ليذكروا آلاء الله ، وليعرفوا الإهابة له ، والإنابة إليه ، ولينتهوا عن الاستكبار . فلما بلغوا المدة ، واستتموا الأكلة ، أخذهم الله عز وجل واصطلمهم ، فمنهم من حصب ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من أحرقته الظلة ، ومنهم من أودته الرجفة ، ومنهم من أردته الخسفة : وَمَا كانَ اللهُ لِيظْلِمَهُمْ وَلَكنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يظْلِمُونَ .
ألا وإن لكل أجل كتاباً ، فإذا بلغ الكتاب أجله ، فلو كشف لك عما هوى إليه الظالمون ، وآل إليه الأخسرون ، لهربت إلى الله عز وجل مما هم عليه مقيمون وإليه صائرون !
ألا وإني فيكم أيها الناس كهارون في آل فرعون ، وكباب حطة في بني إسرائيل ، وكسفينة نوح في قوم نوح . إني النبأ العظيم ، والصديق الأكبر ، وعن قليل ستعلمون ما توعدون ، وهل هي إلا كلعقة الآكل ، ومذقة الشارب ، وخفقة الوسنان ، ثم تلزمهم المعرات ، خِزْى فِى الْحَياةِ الدُّنْيا وَيوْمَ الْقِيامَةِ يرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . فما جزاء من تنكب محجته ، وأنكر حجته ، وخالف هداته ، وحاد عن نوره ، واقتحم في ظلمه ، واستبدل بالماء السراب وبالنعيم العذاب ، وبالفوز الشقاء ، وبالسراء الضراء ، وبالسعة الضنك ، إلا جزاء اقترافه ، وسوء خلافه ، فليوقنوا بالوعد على حقيقته ، وليستيقنوا بما يوعدون : يوْمَ يسْمَعُونَ الصَّيحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِك يوْمُ الْخُرُوجِ . إِنَّا نَحْنُ نُحْيى وَنُمِيتُ وَإِلَينَا الْمَصِيرُ . يوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِك حَشْرٌ عَلَينَا يسِيرٌ . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يخَافُ وَعِيدِ » .
24 - احتجاج اثنى عشر من شخصيات المهاجرين والأنصار
3 - كان كبار الصحابة مذهولين ، غاضبين لحركة أهل السقيفة ، وأسلوبهم في الخلسة والعنف لأخذ الخلافة ! وقد اعترضوا أعلى أبى بكر وعمر رغم الجو الإرهابي القمعى الذي أوجده الطلقاء لفرض خليفتهم !
وفى أول جمعة عندما صعد أبو بكر على منبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) قام اثنا عشر صحابياً ،
--------------------------- 705 ---------------------------
وتكلموا بكلام قوي ، فأفحموه ومن معه ، فانسحبوا من المسجد وظلوا ثلاثة أيام ، يحشدون مناصريهم ، ثم عادوا بقوة وتهديد !
روى في الإحتجاج : 1 / 97 : « عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبى عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) : جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنكر على أبى بكر فعله وجلوسه مجلس رسول ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : نعم كان الذي أنكر على أبى بكر اثنا عشر رجلاً . من المهاجرين : خالد بن سعيد بن العاص ، وكان من بنى أمية ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي . ومن الأنصار : أبو الهيثم بن التيهان ، وسهل وعثمان ابنا حنيف ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبي بن كعب ، وأبو أيوب الأنصاري .
قال : فلما صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم فقال بعضهم لبعض : والله لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! وقال آخرون منهم : والله لئن فعلتم ذلك إذاً أعنتم على أنفسكم فقد قال الله عز وجل : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، فانطلقوا بنا إلى أمير المؤمنين لنستشيره ونستطلع رأيه ، فانطلق القوم إلى أمير المؤمنين بأجمعهم فقالوا : يا أمير المؤمنين تركت حقاً أنت أحق به وأولى به من غيرك ، لأنا سمعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : على مع الحق والحق مع علي يميل مع الحق كيفما مال . ولقد هممنا أن نصير إليه فننزل عن منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجئناك لنستشيرك ونستطلع رأيك فما تأمرنا ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً ، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين ، وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتمونى شاهرين بأسيافكم مستعدين للحرب والقتال ، وإذاً لأتونى فقالوا لي بايع وإلا قتلناك ، فلا بد لي من أدفع القوم عن نفسي ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أوعز إلى قبل وفاته وقال لي : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدى وتنقض فيك عهدي ، وإنك منى بمنزلة هارون من موسي ، وإن الأمة من بعدى كهارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه ! فقلت : يا رسول الله فما تعهد إلى إذا كان كذلك ؟ فقال : إذا وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد
--------------------------- 706 ---------------------------
أعواناً كف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً .
فلما توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ، ثم آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ، ففعلت ، ثم أخذت بيد فاطمة وابنى الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد ! ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي ، فأبوا علَى إلا السكوت لما علموا من وغارة صدور القوم وبغضهم لله ورسوله ولأهل بيت نبيه ! فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل فعرفوه ما سمعتم من قول نبيكم ، ليكون ذلك أوكد للحجة وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا وردوا عليه .
فسار القوم حتى أحدقوا بمنبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان يوم الجمعة ، فلما صعد أبو بكر المنبر قال المهاجرون للأنصار : تقدموا وتكلموا ، فقال الأنصار للمهاجرين : بل تكلموا وتقدموا أنتم فإن الله عز وجل بدأ بكم في الكتاب . فأول من تكلم خالد بن سعيد بن العاص ، ثم باقي المهاجرين ، ثم بعدهم الأنصار .
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال : إتق الله يا أبا بكر ، فقد علمت أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ونحن محتوشوه يوم بني قريظة ، حين فتح الله له باب النصر ، وقد قتل علي بن أبي طالب يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولى البأس والنجدة منهم : يا معاشر المهاجرين والأنصار إني موصيكم بوصية فاحفظوها ، ومودعكم أمراً فاحفظوه ، ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدى وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربي . ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه ، اختلفتم في أحكامكم ، واضطرب عليكم أمر دينكم ووليكم أشراركم .
ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمرى والعالمون لأمر أمتي من بعدي . اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم في زمرتي ، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي ، يدركون به نور الآخرة . اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض .
--------------------------- 707 ---------------------------
فقال له عمر بن الخطاب : أُسكت يا خالد فلست من أهل المشورة ، ولا ممن يقتدى برأيه . فقال له خالد : بل أسكت أنت يا ابن الخطاب ، فإنك تنطق على لسان غيرك ! وأيم الله لقد علمت قريش أنك من ألأمها حسباً ، وأدناها منصباً ، وأخسها قدراً ، وأخملها ذكراً ، وأقلهم غناءً عن الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإنك لجبان في الحروب ، بخيل بالمال ، لئيم العنصر ، مالك في قريش من فخر ، ولا في الحروب من ذكر ، وإنك في هذا الأمر بمنزلة الشيطان : إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين . فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين . فأبلس عمر ، وجلس خالد بن سعيد » .
ثم أورد الإمام الصادق ( عليه السلام ) خُطَبَهم واحداً واحداً ، وقال : « فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يحر جواباً ، ثم قال : وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني ! فقال له عمر بن الخطاب : إنزل عنها يا لكع ! إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لمَ أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبى حذيفة . قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل فقال لهم : ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم ؟ وجاءهم سالم مولى أبى حذيفة ومعه ألف رجل ، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل ، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل ، فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال عمر : والله يا أصحاب على لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس ، لنأخذن الذي فيه عيناه . فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال : يا بن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددوننا ، أم بجمعكم تفزعوننا ، والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم ، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قليلين لأن حجة الله فينا ، والله لولا أنى أعلم أن طاعة الله ورسوله وطاعة إمامي أولى بي ، لشهرت سيفي وجاهدتكم في الله إلى أن أبلط عذري . فقام أمير المؤمنين وقال : أجلس يا خالد ، فقد عرف الله لك
--------------------------- 708 ---------------------------
مقامك وشكر لك سعيك ، فجلس ! وقام إليه سلمان الفارسي فقال : الله أكبر الله أكبر ! سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بهاتين الأذنين وإلا صُمَّتا يقول : بينا أخي وابن عمى جالس في مسجدى مع نفر من أصحابه إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل من معه ، فلست أشك إلَّا وإنكم هم ! فهمَّ به عمر بن الخطاب ، فوثب إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ، ثم قال : يا بن صهاك الحبشية لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم ، لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً !
ثم التفت إلى أصحابه فقال : انصرفوا رحمكم الله ، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواى موسى وهارون ، إذ قال له أصحابه : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ . والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو لقضية أقضيها ، فإنه لا يجوز بحجة أقامها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يترك الناس في حيرة » !
وعن عبد الله بن عبد الرحمن قال : « ثم إن عمر احتزم بإزاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي : ألا إن أبا بكر قد بويع له فهلموا إلى البيعة ، فينثال الناس يبايعون فعرف أن جماعة في بيوت مستترون ، فكان يقصدهم في جمع كثير ويكبسهم ، ويحضرهم المسجد فيبايعون ! حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل على ( عليه السلام ) فطالبه بالخروج فأبي ، فدعا عمر بحطب ونار وقال : والذي نفس عمر بيده ليخرجن أو لأحرقنه على ما فيه ! فقيل له : إن فيه فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وولد رسول الله وآثار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنكر الناس ذلك من قوله فلما عرف إنكارهم قال : ما بالكم أتروني فعلت ذلك إنما أردت التهويل ، فراسلهم على أن ليس إلى خروجي حيلة ، لأنى في جمع كتاب الله الذي قد نبذتموه وألهتكم الدنيا عنه ، وقد حلفت أن لا أخرج من بيتي ولا أدع ردائي على عاتقي حتى أجمع القرآن . قال : وخرجت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إليهم فوقفت خلف الباب ثم قالت : لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم ، تركتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم فيما بينكم ولم تؤمرونا ، ولم تروا لنا حقاً ، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم ! والله لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيكم ! والله
--------------------------- 709 ---------------------------
حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة » .
هذا ، وفى الموضوع أحاديث وبحوث ، لا يتسع لها الكتاب .
25 - خطبة أخرى لأبى بن كعب « رحمه الله » في إدانة السقيفة
في الإحتجاج 1 / 153 : « لما خطب أبو بكر قام إليه أبي بن كعب وكان يوم الجمعة أول يوم من شهر رمضان ، وقال : يا معشر المهاجرين الذين اتبعوا مرضاة الله وأثنى الله عليهم في القرآن . ويا معشر الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان ، وأثنى الله عليهم في القرآن ، تناسيتم أم نسيتم أم بدلتم أم غيرتم أم خذلتم أم عجزتم ؟ ! ألستم تعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قام فينا مقاماً أقام في علياً فقال : من كنت مولاه فهذا مولاه يعنى علياً ، ومن كنت نبيه فهذا أميره ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي أنت منى بمنزلة هارون من موسى طاعتك واجبة على من بعدى كطاعتي في حياتي غير أنه لا نبي بعدي ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : أوصيكم بأهل بيتي خيراً فقدموهم ولا تقدموهم ، وأمِّروهم ولا تأمروا عليهم ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : أهل بيتي منار الهدى والدالون على الله ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لعلي ( عليه السلام ) أنت الهادي لمن ضل ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : على المحيى لسنتى ومعلم أمتي ، والقائم بحجتي ، وخير من أخلف من بعدي ، وسيد أهل بيتي ، وأحب الناس إلى طاعته كطاعتي على أمتي ؟
ألستم تعلمون أنه لم يول على على أحداً منكم وولاه في كل غيبته عليكم ؟
ألستم تعلمون أنه كان منزلهما في أسفارهما واحداً وارتحالهما واحداً ؟
ألستم تعلمون أنه قال : إذا غبت فخلفت عليكم علياً فقد خلفت فيكم رجلاً كنفسي ؟
ألستم تعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل موته قد جمعنا في بيت ابنته فاطمة فقال لنا : إن الله أوحى إلى موسى بن عمران أن اتخذ أخاً من أهلك فاجعله نبياً ،
--------------------------- 710 ---------------------------
واجعل أهله لك ولداً ، أطهرهم من الآفات ، وأخلصهم من الريب ، فاتخذ موسى هارون أخاً ، وولده أئمة لبنى إسرائيل من بعده ، الذين يحل لهم في مساجدهم ما يحل لموسي . وأن الله تعالى أوحى إلى أن أتخذ علياً أخاً كما أن موسى اتخذ هارون أخاً ، واتخذ ولده ولداً ، فقد طهرتهم كما طهرت ولد هارون ، إلا أنى قد ختمت بك النبيين ، فلا نبي بعدك ، فهم الأئمة الهادية !
أفما تبصرون ، أفما تفهمون أفما تسمعون ! ضربت عليكم الشبهات ، فكان مثلكم كمثل رجل في سفر فأصابه عطش شديد ، حتى خشي أن يهلك فلقى رجلاً هادياً في الطريق فسأله عن الماء ، فقال له أمامك عينان : إحداهما مالحة والأخرى عذبة ، فإن أصبت المالحة ضللت ، وإن أصبت العذبة هديت ورويت ! فهذا مثلكم أيتها الأمة المهملة كما زعمتم ! وأيم الله ما أهملتم ، لقد نصب لكم علمٌ يحل لكم الحلال ويحرم عليكم الحرام ، ولو أطعتموه ما اختلفتم ولا تدابرتم ولا تقاتلتم ولا برئ بعضكم من بعض ، فوالله إنكم بعده لناقضون عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإنكم على عترته لمختلفون ، وإن سئل هذا عن غير ما يعلم أفتى برأيه فقد أبعدتم ، وتخارستم وزعمتم أن الخلاف رحمة !
هيهات أبى الكتاب ذلك عليكم يقول الله تعالى جَده : وَلا تَكونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَينَاتُ وَأُولَئِك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
ثم أخبرنا باختلافكم فقال سبحانه : وَلا يزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّك وَلِذَلِك خَلَقَهُمْ ، أي للرحمة ، وهى آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : يا علي أنت وشيعتك على الفطرة ، والناس منها براء ، فهلا قبلتم من نبيكم ؟ ! كيف وهو خبركم بانتكاصتكم عن وصيه علي بن أبي طالب ، وأمينه ووزيره وأخيه ووليه دونكم أجمعين ، وأطهركم قلباً ، وأقدمكم سلماً ، وأعظمكم وعياً من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أعطاه تراثه ، وأوصاه بعداته ، فاستخلفه على أمته ، ووضع عنده سره ، فهو وليه دونكم أجمعين ، وأحق به منكم أكتعين ، سيد الوصيين ، ووصى خاتم المرسلين ، أفضل المتقين ، وأطوع الأمة لرب العالمين ، سلمتم عليه بإمرة المؤمنين في حياة سيد النبيين ، وخاتم المرسلين ، فقد أعذر من أنذر وأدى النصيحة من وعظ
--------------------------- 711 ---------------------------
وبصَّر من عمي ! فقد سمعتم كما سمعنا ، ورأيتم كما رأينا ، وشهدتم كما شهدنا !
فقام إليه عبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل فقالوا : يا أبى أصابك خبل أم بك جنة ؟ ! فقال : بل الخبل فيكم ، والله كنت عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوماً فألفيته يكلم رجلاً أسمع كلامه ولا أرى شخصه ، فقال فيما يخاطبه : ما أنصحه لك ولأمتك وأعلمه بسنتك ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أفترى أمتي تنقاد له من بعدي ؟ قال : يا محمد يتبعه من أمتك أبرارها ، ويخالف عليهم من أمتك فجارها ، وكذلك أوصياء النبيين من قبلك ، يا محمد إن موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون ، وكان أعلم بني إسرائيل وأخوفهم لله وأطوعهم له ، فأمره الله عز وجل أن يتخذه وصياً كما اتخذت علياً وصياً ، وكما أمرت بذلك ، فحسده بنو إسرائيل ، سبط موسى خاصة ، فلعنوه وشتموه وعنفوه ووضعوا له ! فإن أخذت أمتك سنن بني إسرائيل كذبوا وصيك وجحدوا إمرته وابتزوا خلافته وغالطوه في علمه ! فقلت : يا رسول الله من هذا ؟
« فقال رسول لله ( صلى الله عليه وآله ) : هذا ملك من ملائكة ربي عز وجل ، ينبئنى أن أمتي تتخلف على وصيي علي بن أبي طالب ، وإني أوصيك يا أبى بوصية إن حفظتها لم تزل بخير : يا أبى عليك بعلى فإنه الهادي المهدي ، الناصح لأمتي ، المحيى لسنتي ، وهو إمامكم بعدي ، فمن رضى بذلك لقيني على ما فارقته عليه . يا أبي ، ومن غير أو بدل لقيني ناكثاً لبيعتي ، عاصياً أمري ، جاحداً لنبوتي ، لا أشفع له عند ربي ، ولا أسقيه من حوضي ! فقامت إليه رجال من الأنصار فقالوا : أقعد رحمك الله يا أبي ، فقد أديت ما سمعت الذي معك ووفيت بعهدك » .
أقول : روينا عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأهل البيت « عليهم السلام » توثيق أبي بن كعب الأنصاري « رحمه الله » ، وروى البخاري في صحيحه : 6 / 102 وروى غيره أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر الأمة فقال : « خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبي بن كعب » .
لكنهم لم يأخذوا منه القرآن فكيف يأخذون برأيه في الخلافة ؟ ! وقد كان « رحمه الله » يسمى أصحاب السقيفة : أهل العقدة ويقول : « هلك أصحاب العقدة ورب
--------------------------- 712 ---------------------------
الكعبة ! يقولها ثلاثاً ثم قال : والله ما عليهم آسى ولكن آسى على من أضلوا ! قال قلت من تعنى بهذا ؟ قال : الأمراء » . الحاكم 2 / 226 ، أحمد 5 / 140 وتدوين القرآن للمؤلف / 254 .
وفى آخر عمره قرر أُبى أن يخطب مرة أخرى ويفضحهم فقال : « والله لئن عشت إلى هذه الجمعة لأقولن فيهم قولاً ، لا أبالي أستحييتمونى عليه أو قتلتموني » !
الطبقات 3 / 500 . فمات « رحمه الله » يوم الأربعاء « رحمه الله » ! راجع : ألف سؤال وإشكال 1 / 341 .
إلفات إلى أهمية الخرائط التوضيحية لمواقع السيرة
تُبَينُ الخرائط الجغرافية مواقع أحداث السيرة النبوية ، فتساعد في فهم مواضيعها . ومن الممكن تجميع الكثير منها من شبكة النت ، بالبحث عن أسماء الأماكن الواردة في السيرة . ومن المصادر المفيدة : أطلس السيرة النبوية لشوقى أبو خليل ، وأطلس التاريخ الإسلامي للدكتور حسين يونس . وهذه روابطها :
http : / / www . waqfeya . net / search . php
337 http : / / www . waqfeya . net / book . php ? bid =
http : / / www . islamichistory . net / forum / showthread . php ? p = 31938
وتبقى الحاجة قائمة إلى عمل دقيق في أطلس السيرة النبوية ، لبيان مواقع حركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) طول حياته الشريفة ، من سفراته إلى الشام في صباه وشبابه ، وحركته في مكة إلى حراء وغيرها ، ثم حركة الإسراء به من المسجد الحرام في مكة ، إلى كوفان من العراق حيث نزل وصلى في مسجدها ، ثم إلى بيت المقدس في فلسطين .
ثم هجرته المباركة إلى المدينة ، ثم تحركاته الكثيرة إلى أكثر من عشرين موقعاً في أنحاء الجزيرة ، وصلت غرباً إلى تبوك عند حدود الأردن ، وشرقاً إلى حدود اليمن وداخل نجد ، وكان ختامها سفره إلى مكة لحجة الوداع . لكن ينبغي تحرى الدقة في النص الذي يحدد مكان الحدث ، والدقة في الخريطة . وكنا اخترنا مجموعة خرائط لهذا الكتاب ، لكن منع مانع من نشرها !
- *
« تم المجلد الثاني وبه تمت السيرة النبوية عند أهل البيت « عليهم السلام »
والحمد لله رب العالمين »
--------------------------- 713 ---------------------------
--------------------------- 714 ---------------------------
--------------------------- 715 ---------------------------
--------------------------- 716 ---------------------------
--------------------------- 717 ---------------------------
--------------------------- 718 ---------------------------
--------------------------- 719 ---------------------------
--------------------------- 720 ---------------------------
--------------------------- 721 ---------------------------
--------------------------- 722 ---------------------------
--------------------------- 723 ---------------------------
--------------------------- 724 ---------------------------
--------------------------- 725 ---------------------------
--------------------------- 726 ---------------------------
--------------------------- 727 ---------------------------
--------------------------- 728 ---------------------------
--------------------------- الغلاف 2 ---------------------------
.