إلى طالب العلم ـ نسخة جديدة
----------------------- [ 1 ] -----------------------
إلى طالب العلم
بقلم:
علي الكَوْراني العاملي
الطبعة الثانية - 1439 -2018
----------------------- [ 2 ] -----------------------
----------------------- [ 3 ] -----------------------
مقــدمـة
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام
على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين .
وبعد ، فقد طلب مني بعض الأعزاء أن أنشر مشاهداتي ومذكراتي ، لأني عاصرت عهوداً فيها منعطفات تاريخية مهمة ، وعملت مع مرجعيات تختلف ظروفها وأساليب عملها ، وعاصرت تأسيس أكبر حركة إسلامية شيعية «الدعوة الإسلامية»وعملت في صفوفها ثم في قيادتها سنين طويلة ، ثم تطورت قناعتي ورجعت الى أسلوب العمل الإصلاحي التقليدي .
وكنت أعتذر عن الكتابة بأن بعض الناس لايتحملون أن تقدم قراءتك ، ولاشهادتك ، فإن لم توافقهم فأنت خصمٌ لهم، فالسكوت أحرى بالعاقل!
ثم قرأت بعض ما كُتب عن أحداث عايشتها ، فقلت في نفسي: إذا كان الحدث الذي شاهدناه يكتب بهذا النحو: منزوعاً من جَوِّه ، موضوعاً في محيط آخر، مخلوطة أحداثه وأشخاصه وتواريخه ، مع تعتيم وتضخيم ، فكيف نثق بروايات تاريخنا الإسلامي ، الذي اهتم حكامه الظلمة بمفرداته الصغيرة ، وحاسبوا عليها الراوي والمؤرخ ؟!
لذلك كتبت أشياء وأوصيت بنشرها بعد وفاتي ، فبعض المكتوبات تنفع بعد وفاة صاحبها أكثر منها في حياته !
----------------------- [ 4 ] -----------------------
وفي هذه المدة أقنعني بعض الأعزاء أن أستخير الله تعالى على كتابة تجربتي الى طالب العلم ليستفيد منها خبرةً وعبرةً ، خاصة وأن حوزة النجف الأشرف تجدد بناء نفسها ، وتجمع أفلاذ أكباد الشيعة لترويهم بينابيعها العذبة ، وما أقرب أن ينطلقوا من مدارسها رسل هداية في العالم .
فأطعت الإستخارة وكتبت هذه المذكرات ، وحرصت قدر المستطاع أن لاتمس أحداً بسوء ، واقتصرت على ما ينفع الطالب في بنائه الفكري والروحي ، لعلي أوفر عليه عناءً طويلاً عشناه ، ولم نخرج من ثقله إلا بشق الأنفس ، أو أفتح له باباً لم ينفتح علينا إلا بجهد جهيد ، ودهر مديد .
وأعتذر من أعزائي الطلبة إذا غلب الجانب الذاتي في هذا الكتاب ، فإنما هو حديث عن النفس ، ليستفيد منه الغير ، أعاننا الله على أنفسنا ، ورزقنا خيرها ، وأعاذنا من شرها . كما أعتذر من الذين ذكرتهم لماماً ولم أستوف الحديث عنهم ، أمثال مراجعنا الراحلين السيد محسن الحكيم ، والسيد عبد الهادي الشيرازي ، والسيد أبي القاسم الخوئي ، والسيد محمود الشاهرودي ، والسيد مهدي الشيرازي ، والسيد حسين الحمامي ، والسيد محمد باقر الصدر ، رضوان الله عليهم ، ممن عاصرتهم أو درست عندهم ، لأن الحديث عن كل واحد من هؤلاء الكبار ، يحتاج الى كتاب خاص ، أو فصول .
كذلك أعتذر للشخصيات التي عاصرتها ولم أذكرها أو لم أستوف الحديث عنها ، من السادة المحترمين آل الحكيم ، وفي طليعتهم أستاذنا المرجع السيد محمد
----------------------- [ 5 ] -----------------------
سعيد الحكيم، ووالده الموقر السيد محمد علي الحكيم ، والسادة المحترمين آل الصدر ، وآل بحر العلوم ، وآل الجواهري ، وآل ياسين .
وقد يرى القارئ أني أسندت العديد من الأعمال والأدوار الى السيد مهدي الحكيم ، وأبي عصام الحاج عبد الصاحب دْخَيِّل رحمهما الله تعالى .
لكن ما أصنع إذا كان هذا الواقع، ولا أستحل أن أنتقص من دور شخص في الأحداث ، أو أعطي دوره لآخرين .
كتبه: علي الكَوْراني العاملي - قم المشرفة - غرة ربيع المولد 1431
----------------------- [ 6 ] -----------------------
----------------------- [ 7 ] -----------------------
الفصل الأول: مدرسة الحب والبغض
خالتي الحاجة تفاحة
كان عمري ثلاث سنين عندما وُلد أخي عباس ، في سنة1366هـ. 1947م. وأذكر أنه حدثت في بيتنا حركة ، فقد جاءت داية القرية الحاجة صالحة وعدة نساء ، وخالتي الحاجة تفاحة ، وهي أخت جدتي لوالدي .
أذكر أن والدي انشغل قليلاً في الغرفة الكبيرة ، ثم تركهم وذهب.
وأمرونا نحن الأطفال أن لا ندخل الى الغرفة .
كان الوقت صيفاً ، وكانت خالتي الحاجة تفاحة تعمل بهدوء ومثابرة ، أما جدتي الحاجة نرجس ، فكانت تتحرك وتدير الأمور كعادتها .
وقبل الظهر سمعنا صوتهن وصلواتهن ، وأنها ولدت صبياً والحمد لله ، وفرح الذين حولنا ، وفرحنا بأنه ولد لنا أخ جديد .
ثم رأيتهم جاؤوا بدجاج مذبوح وأعطوه الى خالتي تفاحة ، وكان ذلك اليوم آخر عهدي بالدجاج ، فقد أعطتني كاسة فيها ماء دجاج وقالت إشرب ، فشممت رائحة زفرة ، ثم شربت شيئاً من مائه فصدمت! ثم لم آكل الدجاج الى الآن إلا أن أكون مجبراً ، فعندما أرى الدجاج أذكر ذلك الطعم الذي صدمني!
----------------------- [ 8 ] -----------------------
وقد فرحت عندما رأيت حديث: الدجاج خنزير الطيور ، وكأن ذلك انتقامٌ لي من الدجاج ، مع أنه نعمة من الله تعالى ، ومشوياته من أفضل المشويات ، لكن الأمور النفسية لا تخضع للمنطق .
وقد يكون معنى: الدجاج خنزيز الطيور ، أنه كالخنزيز قد يأكل القاذورات فامنعوه منها ، أما اليوم فصارت تغذية الدجاج مبرمجة .
وكما كرهت في ذلك اليوم الدجاج أحببت خبز الصاج ، فعندما رأتني خالتي تفاحة لم آكل قالت لي: تعال أعمل لك بَعْقَة ، وخبزت لي بَقْعة تغدَّيت بها ، وهي رغيفان مدمجان، يضعون عليهما زيتاً أو زعتراً أو سمسماً. ويلفظها الناس بَقْعَة بتقديم العين، وهي في اللغة كما يقول الخليل قطعة الأرض التي تختلف عما حولها ، وجمعها بقاع، وسميت بها بَقْعة الخبز، لأنها تختلف عن بقية الخبز .
وأذكر من أحداث ذلك اليوم أنهم أخذونا أنا وأختيَّ وكانتا في الخامسة والسابعة ، وأخي قاسم في التاسعة ، الى كَرْم الدَّوَاوير القريب ، وعملوا لنا أرجوحة في شجرة تين كبيرة ، ثم عادوا بنا في أول الليل الى البيت .
الطفل يدرك ويختزن مادة المعرفة
قد يذكر ابن ثلاث سنين أموراً ، أو يختزن صوراً فيهفمها ويحللها بعد أن يكبر . فقد حفظت الفرق بين خالتي الحاجة تفاحة ، وأختها جدتي نرجس رحمهما الله فجدتي مديرة تأمر وتنهى الجميع ، حتى أبي وعمي الحاج محمود الوجيه الكبير ، وكانت والدتي تهابها لهيبة أبي لها.
----------------------- [ 9 ] -----------------------
سمعتها ذات يوم تقول لوالدي:يا محمد إذهب وادع لي أخاك محموداً وحيدر فكانت تجمعهم لتطلب منهم أمراً يتعلق بالبلد ، أو بخلاف بين شخصين ، أو بين عائلة كَوراني وعائلة أخرى ، أو لتعتب عليهم ، أو لتعطيهم توجيهاً !
كان هذا دأبها لمدة أربعين سنة ، من وفاة زوجها الى وفاتها رحمهما الله .
وعندما توفي زوجها كان والده جد أبي حياً ، وهو الحاج محمد كوراني ، وكان وجيهاً في القرية ، لكني سمعت من والدي أنه كان يحترمها ولا يرد لها رأياً ، وأنها هي التي أدارت أملاكه ، وكان يعمل عندهم في الصيف عشرون عاملاً.
كانت رحمها الله قوية البنية ، حديدة النظر ، ترى من قريتنا مدينة صور وهي على مسافة22كيلو متراً ، وقريتنا على ارتفاع 800 متر عن سطح البحر ، فتقول: أنظروا لقد بدؤوا يبنون بناية على الرمل ، فلا نرى شيئاً ، ثم نذهب الى صور ، فنرى الأمر كما وصفت !
أما خالتي تفاحة ، وهي والدة المرحوم الحاج حسن سليم ، فكانت من النوع الهادئ ، العطوف مع كل الناس ، الحنون عليهم ، الخدوم لهم .
من النوع الذي لايهمه ما يقول الناس في بعضهم ، ولا ما يقولون فيه ، ولا ما يختلفون عليه . يهمه فقط أن يقوم بعمله ، ويخدم الناس قدر استطاعته !
إنها تحبُّ بطبيعتها ، ولا تعرف البغض، ولو كلفت بأن تبغض لما استطاعت ! لا تسمع منها إلا: يا روحي، ياعيني ، يا تقبرني ، إسم الله عليك ، الله يوفقك.. فهذا قاموسها ، وهذه روحيتها وعالمها الذي لا تعرف غيره .
----------------------- [ 10 ] -----------------------
عرفت بعد ذلك أنه توجد عدة نساء في قريتنا من نوع خالتي الحاجة تفاحة . منهن: زوجة نمر سويدان ، وزوجة أبي علي عبد الحسين سويدان ، وزوجة الحاج علي خليل كريم ، والداية الحاجة صالحة زوجة حسين كوراني ، وزوجة الحاج ابراهيم موسى عيسى كوراني ، الحاجة سكيبة ، التي عاشت أكثر من مئة سنة ، وتوفيت قبل ثلاث سنوات . رحمهم الله جميعاً .
زرت الحاجة سكيبة قبل بضع سنوات،وسألتني عن بعض الأحكام والأذكار، وسألتها عن برنامجها اليومي فقالت إنها تصلي وتسبح الله تعالى وتذكره أكثر أوقاتها ، وتنام قليلاً ، وأن طعامها عادي ، ولا تشكو من مرض ، إلا أن يصعب عليها الرواح والمجئ . فقدرت أنها تعبد الله تعالى عشرين ساعة في يومها وليلتها . وهذا رقم قياسي لمثلها .
سألتها عن منامها الذي رأت فيه جبرئيل عليه السلام فقالت: كنت ماشية بين الحارتين، فرأيت جبرئيل وإسرافيل عليهما السلام فسلمت عليهما ، فأعطاني جبرئيل عليه السلام كفناً ففرحت به . ومشيت خطوات فجاءت الحاجة فلانة وسألتني ما هذا ؟ فأخبرتها، قالت: أعطني إياه أنت يأتون لك بغيره ، فلم أقبل ، فقال لي جبرئيل وقد ابتعد عنا: أعطها ، أجيب لك غيره إن شاء الله ، فأعطيتها إياه .
وسألتها: والآن بعد ثلاث سنوات ، ألم يأتك جبرئيل عليه السلام بكفن ؟ قالت: لا ، لم أره في المنام الى الآن . ثم لم أعرف هل رأته بعد ذلك ؟
----------------------- [ 11 ] -----------------------
أما شيخة هذه النوعيات الطاهرة ورئيستهن جميعاً ، فهي المرحومة خاتون الورد ، التي كان آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره في قريتنا ، فرأى في منامه بيته في الجنة ، ورأى بيتاً أحسن منه أعجبه ، فسأل: لمن هذا البيت؟ فقالوا له: هو لخاتون الورد ! فسأل يومها: هل عندكم في ياطر إمرأة إسمها خاتون الورد ؟ قالوا نعم سيدنا ، إنها امرأة تعيش في بيت صغير ، معروفة بأنها ترش الحبوب للعصافير في بيتها ، وفي الصيف الحار تأخذ الماء وتضعه في تجاويف الصخور في البراري ، لتشرب منه الطيور والحيوانات !
يقول أحدهم: رأيتها تحمل كوز ماء تحت منديلها حتى لا يسخروا منها ، وهي ذاهبة في الحر الى البر ، فقلت لها: يا خالتي إن هذا الماء الذي تتعبين به وتضعينه في الأجْرَانِ ، تشرب منه الحيَّات ! فقالت: إنها ذات روحٍ يا ولدي !
وقالوا عنها إنها عندما يشتد الشتاء أو ينزل ثلج ، تحمل ما تجده من خبز وطعام وتذهب الى رأس تلة صخرية مشرفة على الوادي ، فيأتيها الواوية أي الثعالب فتوزعها عليهم ، وقد تضع لهم الطعام على الأرض فيأكلون أمامها ، ويطمع أحد الثعالب بسهم غيره ، فتقول له: أنت أكلت سهمك ، رُحْ ، فيذهب!
فقال السيد شرف الدين قدس سره : خذوني الى بيتها ، وذهب وزارها ، وسألها عن حالها ، وبشرها بمنامه ، وطلب منها الدعاء !
وسألت عن أولادها ، فقالوا عندها بنت واحدة ، متزوجة في غير قريتنا .
----------------------- [ 12 ] -----------------------
مدرسة بغض الناس مقابل مدرس حبهم
على النقيض من خاتون الورد وأخواتها ، يوجد نساء ورجال لايستطيعون أن يحبوا أحداً أبداً ! أما البغض فحدث ولا حرج ، إنهم يطفحون بالبغض ، ويبغضون أقرب الناس اليهم ، وربما أبغض أحدهم نفسه !
قال أحدهم إنه يجلس مع أصدقائه ويبدؤون بتقصيب الناس ، أي غيبتهم ، وأحياناً تنتهي قائمتهم ، فيقول أحدهم: انتهينا من القواويد كلهم ، بقي نحن فلنبدأ بهذا القواد ! ويبدؤون بتقصيب بعضهم واحداً واحداً !
إنها القدرة على الكره والبغض ، والعجز عن الحب وحسن الظن !
وقد تعجبتُ عندما رأيت بعض الناس يحب شخصاً محترماً لأنه ليس من النوع الذي يحب أحداً ، ثم رأيته بعدها قد تعب من حبه له ، وأعلن بغضه وشتمه ! هذا الشخص الأصل عنده البغض ، والحب عنده محدود موقت ، لدوافع وأغراض ، وسرعان ما تنتهي مادته ، ويتوب صاحبه منه !
وقد رأيت نموجاً من تربيتهم فذهلتُ ، طفلةً نظرتْ الى القمر وقالت له: إمشِ وْلك ، أنظر كيف ينظر الينا بجنب عينه ابن الكلب! يا الله إمشِ،تخيَّبْ !
لعل هذا أسوأ نموذج لتلاميذ هؤلاء ! فما ذنب القمر ومن الذي أفقد هذه الطفلة الحب الطبيعي للقمر، وعلمها هذا البغض الى حد العدوانية؟!
لا بد أن أمها مريضة بالبغض والكره ! آمنت أن الأم هي الحضارة ، وهي الدين ، وهي الإنسانية ، وهي الحب والبغض .
هل يمكننا أن نكون من أبناء مدرسة بغض القمر ، وسبه وشتمه ، ولعن أبيه؟
يمكن ذلك ، إذا أطلقنا لشيطان هوانا أن يسيطر علينا ، وأطعناه واندفعنا معه ، عندها سنرى الجميل قبيحاً والقبيح جميلاً ، ونرى المعروف منكراً ، ونرى ولي الله عدواً .
----------------------- [ 13 ] -----------------------
أليس علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام أجمل من القمر ، وهل رأيت كم يبغضهم النواصب!
مدرسة خاتون الورد ومدرسة شرف الدين
قال صاحبي: هل يمكنك أن تكون من مدرسة خاتون الورد وأخواتها ؟
قلت له: نعم يمكنني ، لكني لا أؤمن بهذا المنهج ،لأنه منهج السذج البسطاء الذين يرون الجميل في الناس والحياة ، ولا يرون النصف الآخر .
يمكنني أن أغمض عيني عن مساوئ الناس ، وعن أعداء الله وأعداء عباده ، أن أعيش بالولاية وأنسى البراءة ، لكني لا أريد ذلك ، ولا يجوز لي .
أرأيت لو كانت خاتون الورد رحمها الله في محيط الوهابية أو الخوارج ؟ ألاتحبهم وتخدمهم ، كما كانت تحب المؤمنين وتخدمهم !
قال صاحبي: إن من الثوابت عندها أنها تسأل العلماء عمن تواليه وتعاديه ، ومن تحبه أو تبغضه ، وكفى باعتقادها بالرجوع الى العلماء ضماناً ، وهذا معنى أن العلماء حصون الإسلام ، فهم يحفظون المسلمين في حصنه .
ثم من قال لك: ليس عندها براءة ، إن غلبة عنصر المحبة لايعني أنها تحب حتى إبليس والمجرمين ، فبغضهم في عقيدتها وقلبها ، لكنها مشغولة عنه بمحبة الناس وخدمتهم . ويدل على ذلك أن الله تعالى جعلها من أهل الجنة .
قلت له: أقبل منك أن عندها ولاية وبراءة ، لكن براءتها مجملة ساكنة ، وأقبل منك أنها ترجع الى علماء مذهبها الذي آمنت به ، وهذا الذي أنجاها .
قال: فأنت تؤمن بصحة منام السيد ، وأنها من أهل الجنة ، وأنها أفضل منه ؟
قلت: نعم أؤمن بصحة منامه قدس سره وأنها من أهل الجنة إن شاء الله ، لكنها ليست أفضل منها قطعاً ، إن منامه قدس سره كرامةٌ له ، قبل أن يكون كرامة لها .
----------------------- [ 14 ] -----------------------
قال: وبيتها في الجنة الأفضل من بيته ، ألا يدل على أنها أفضل عند الله منه؟
قلت: كلا ثم كلا ، فالذي أعتقده أن السيد شرف الدين رأى دارةً من مُلكه في الجنة ، دارةً واحدة مما يملك: (فيلا) ، ورأى أخرى أحسن منها لهذه المؤمنة .
ومن المؤكد أنه يملك دوراً وقصوراً مميزة ، وأن خاتون الورد لو أرادت أن تزوره في الجنة ، لكان عليها أن تطلب موعداً من شخصية كبيرة .
قلت له: هل تريدنا أن نمتهن عقولنا ونرد الآيات وأحاديث النبي وآله صلى الله عليه وآله في ثواب العالم الذي يدافع بعلمه عن الدين ، ويرد كيد النواصب عن المؤمنين ؟
مثلاً الحديث الذي رواه الشهيد الثاني في منية المريد/115، عن الصديقة الزهراء عليها السلام قالت: (سمعت أبي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا ، فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نورالعلم الذي حبوناه به ، جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يضئ لأهل تلك العرصات ، وحلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها.. إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله ، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نور . ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد ،الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم ، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم ، فاخلعوا عليهم كما خلعتموهم خلع العلوم في الدنيا . فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم ).
فأين هذا من عمل خاتون الورد وبيتها في الجنة ؟ فلئن كانت وليةً من أولياء الله تعالى فالسيد شرف الدين وأمثاله من سادات الأولياء ، بدون شك ، وسيكون شرفٌ لها أن يقبلها السيد من أتباعه وجماعته !
----------------------- [ 15 ] -----------------------
قلت له: وكيف يجوز لنا أن نسترخص البراءة وأن ننقصها قدرها العظيم ، وقد قال الإمام الصادق عليه السلام (الكافي:2/126): (قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: أي عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم ، وقال بعضهم:الصلاة وقال بعضهم: الزكاة ، وقال بعضهم: الصيام ، وقال بعضهم: الحج والعمرة ، وقال بعضهم : الجهاد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لكل ما قلتم فضل وليس به ، ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وتوالي أولياء الله والتبري من أعداء الله).
فهل يجوز أن نعطي للمحبة لله تعالى وأوليائه والخير ، قيمةً مطلقة ، ولا نعطي مثلها لما يقابلها من بغض أعداء الله والشر ؟ نعم إن منهج خاتون الورد وأخواتها قيمةٌ إسلامية مهمة ، ولكن بشرط وجود البراءة في مقابله .
قال صاحبي: هل نقول إن هذا المنهج لا براءة فيه ؟
قلت له: بلى فيه براءة دون شك ، وإلا لم يكن أصحابه مرضيين عند الله تعالى . لكن حاملي راية الولاية والبراءة ، ورافعي مشعلها ليضئ للناس ، هم أعلام الطريق للمؤمنين ، لخاتون الورد ، وآلاف أمثالها .
قال صاحبي: وهل نعتبر من نقص بغضه كمن نقص حبه؟
قلت له: بلا شك ، أما قرأت قول الإمام زين العبدين عليه السلام : (وحبب إليَّ من أحببت ، وبَغِّضْ إليَّ من أبغضت). (الصحيفة/263).
وقول أمير المؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة:2/60): (فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لأثره.. قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً. أهضم أهل الدنيا كشحاً ، وأخمصهم من الدنيا بطناً ، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه ، وحقر شيئاً فحقره ، وصغر شيئاً فصغره .
----------------------- [ 16 ] -----------------------
ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله ، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله ، لكفى به شقاقاً لله ، ومحادةً عن أمر الله ) .
قال صاحبي: أليس في ذلك تنقيص لمقام أولياء الله من أمثال خاتون الورد ؟
قلت له: بل الغلو فيهم تنقيص لمقام عظماء أولياء الله ، من العلماء الذين عظمهم النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام وجعلوهم القادة والقدوة بعدهم .
كم ساءني أن أرى بعض المسؤولين يدعون الى المسلك العرفاني فيغالون في تعظيم أمثال خاتون الورد ورجب الخياط، وينشرون مكذوبات الناس فيهم!
لقد كتب عن رجب الخياط أنه لما وضع في لحده ، سمع أحدهم ملك الموت يقول لصاحبه: أتركه لا تحاسبه ، فهو من أهل الجنة بغير حساب !
إن هذا المسؤول لم ينقل هذه (الكرامة) لأحد من كبار الفقهاء وكافلي أيتام آل محمد ، حتى للإمام الخميني الذي يقدسه قدس سره فجعل رجب الخياط خيراً منه!
----------------------- [ 17 ] -----------------------
الفصل الثاني: خواطر من القرية
أذكر سقوط فلسطين وإقامة دولة إسرائيل
في سنة 1948، كان عمري نحو أربع سنوات ، وأذكر أن المرحوم والدي وجماعة من قريتنا انشغلوا يإسكان الفلسطينيين الهاربين من فلسطين .
أذكر أنه رحمه الله قال لأحدهم نفتح لهم بيت عقيل عز الدين، وكان قريباً من بيتنا ووارثه ابنه علي مهاجراً الى الأرجنتين، وكان يحترم الوالد ويسمع كلامه ، فأسكنوا فيه ثلاث عوائل . وبقربه بيت الحاجة ضوية الساكنة في بيروت ، أسكنوا فيه عائلة طالب الصالحاني ، ووزعوا الآخرين في أنحاء القرية ولعلهم كانوا ثلاثين عائلة ، ونصبوا لبعضهم خيماً ، وجمعوا لهم مواد غذائية ، وطحيناً ، وبعض اللوازم الأولية .
وقد رأيت وضعهم رثاً يثير الغيرة ، كان بعضهم يحمل بعض وسائله ولحافاً على حمار ، وتركب عليه امرأة وطفل ، ويمشي خلفه الأب وبعض الأطفال !
وقد سمعت القصص عن الفلسطينيين الذين سكنوا في قريتنا ، وألفتني منها إسم بيت أبو الوحش ، وقصص عن طالب الصلحاني بتعبيرنا ، والصالحان قرية في لبنان على حدود فلسطين ، يظهر أنها كانت مقراً للمتعبدين ، فقد كان النصارى ثم المسلمون يترهبون وينقطعون للعبادة في الجبال ، فيظهر أن
----------------------- [ 18 ] -----------------------
إسم الصالحان جمع صالح بالتركية أو الفارسية ، ومعناه الصلحاء الذين انقطعوا الى العبادة . كما يوجد قرب قرية الحولة: تلة العُبَّاد .
وكان طالب الصالحاني له رحم معنا ، وقد انتقل من الصالحان الى داخل فلسطين فسكن في البصَّة ، ثم تهجَّر وجاء الى ياطر .
وأذكر أن شخصاً سأل المرحوم الوالد عنه هل هو شيعي أم ترك تشيعه وتسنن؟ فقال له: سمعته في إقامة الصلاة يقول: أشهد أن علياً ولي الله .
وسمعت جدتي تقول: جاء أولاد الفلسطينيين ليستعيروا منا بعض الوسائل ، فسألتهم عن أسمائهم فقال أحدهم: إسمي خالد ، تقول جدتي: فقلت له: إسمك حلو يا إبني ، ثم لما ذهبوا انتبهت الى أنه إسم خالد بن الوليد ، الذي نذكره مع الشمر ويزيد !
وكان الفلسطينيون يألفون المرحوم الوالد ويطلبون منه المساعدة في بعض الأمور،وكنا نتعجب من أنهم ينادونه:يا حاج أبو داهود ، فينطقون الواو هاء .
كان الفلسطينيون الذين سكنوا في قريتنا من النوع العادي ، وكان أبرزهم طالب الصالحاني ، والحاج محمود الجشي ، وكان صاحب قطيع ماعز ، وهو شخص محترم ، قال والدي: إن من أخلاقه أنه إذا أكلت عنزة له من زرع أحد حلب حليبها على الأرض ولم يخلطه بحليب ماعزه . وكان خبيراً بتجبير الكسور ، ويقوم بذلك حسبة لله تعالى ، ولا يأخذ أجرة !
----------------------- [ 19 ] -----------------------
توزع الفلسطينيون الذين نزلوا في قريتنا ، وسكن بعضهم في مخيم الرشيدية في صور ، وبعضهم في بيروت . وبقي لبعضهم علاقات في البلد .وكانوا يذكرون ياطر بعرفان الجميل . وكان أهل البلد ينقلون عنهم الكثير من القصص ، وأكثرها قصص بطش اليهود ، وخيانة الدول العربية ، وقصة جيش الإنقاذ الذي أرسله العرب لإيقاف عدوان اليهود ، وكيف أعطوه ذخيرة فاسدة ، وأن فرقة من الجيش العراقي وصلت الى قرب جنين ، وكانت على مشارف النصـر، ومن ضباطها الأبطال عبد الكريم قاسم وناظم الطبقجلي ، فأتاهم الأمر المشدد ، فاضطروا للإنسحاب !
وكان أهل قريتنا يروون قصص تعصب الفلسطينيين ضدنا ، وهم يسموننا المتاولة تبعاً للمماليك الشركس وابن تيمية ، ويقولون إنا كفار !
وقد نقلوا عن فلسطيني أنه قال: آخر عمرنا نهاجر الى بلاد المتاولة ! ولما رأوا منارة في قرية جنوبية قالوا الحمد لله هذه القرية مسلمون ، وليسوا متاولة !
أذكر انتخابات البرلمان وغلو الناس في أحمد الأسعد
لعل هذه الإنتخابات كانت سنة 1948، وأذكر منها أن الصراع كان حاداً بين عائلة كوراني المؤيدة لكاظم الخليل ، وعائلة سويدان المؤيدة لأحمد الأسعد . وأذكر أن يوسف مصطفى سويدان وهو من أرحام والدتي جاء الى بيتنا، وقال لوالدي: هل سمعت رَوِيدهم للبيك في خلة الخوخ؟ أي نشيدهم في مفرق ياطر
----------------------- [ 20 ] -----------------------
قال له: ماذا قالوا؟قال: قالوا: طير البيطير بنذبحوا ، وقلب العدو منجرحوا ، ومنشيل الله من السما ، وبنحط أحمد مطرحوا ! ثم قال:هذا كفر ! فقال لهم فلان قولوا: بنهدّ ركن من السما وبنحط أحمد مطرحوا ! فصلح لهم الرويد !
فأظهر والدي انزعاجه ، ولم يعلق بشئ . وأقدر أن سبب ذلك أنه وجيه عائلة كوراني ، ولايريد أن يظهرانتقاد عائلة سويدان ، فقد كان يحفظ التوازن ، وساعده على ذلك أنه صهر آل سويدان فوالدتي منهم ، وقد ساعدتني هذه الخؤولة أيضاً . وكان المرحوم الوالد على منهج السيد شرف الدين قدس سره لايؤمن بزعامة الأسعد ولا الخليل ، ولا يعتقد بالإنتخابات ، وكان يحضرحتى لايقال إنه يقاطعها ، وينتخب بورقة بيضاء ، ولا يعرف بذلك إلا خاصته .
قراءة القرآن قبل المدرسة
كنت في السادسة من عمري فقرر والدي رحمه الله أن يعلمني القرآن في كتاتيب القرية ، واختار أحسنها: مكتب زينب الشيخة ، وأخذتني والدتي رحمها الله الى بيتها ، وكان غرفة كبيرة لكنها ضيقة لكثرة الطلاب ، وأوصتها بي وتركتني وحدي ، فاستوحشت يومها كثيراً ، وأردت في اليوم التالي أن لا أذهب ، لكن والدتي أقنعتني فذهبت مع جيراننا أولاد البلاغي، وكانت مريم الشيخة تساعد أمها الشيخة زينب ، وكان ابنها طالب نصرالله ، ويساعدها أيضاً .
ولما دخل الصيف انتقلت المدرسة الى كرمهم في الدواوير تحت أشجار التين .
----------------------- [ 21 ] -----------------------
كانت أخلاق شيختنا جيدة ، وعاطفتها ، فلم أرها يوماً ضربت طفلاً أبداً ، وكنت تلميذاً ناجحاً فلم أحتج منها الى تأنيب ، بل كانت تشجعني وتمدحني وقد تعلمت الحروف والحركات بطريقة الكتاتيب ، وبدأت أتعلم قراءة السور القصار ثم الكبار حتى ختمت القرآن في بضعة شهور ، واحتفل أهلي بختمي القرآن ، وأهدى لنا الحاج طالب الصالحاني تمراً بالمناسبة ، وطلب من والدي أن أعلم ابنته قراءة القرآن ، وكانت في العشرين من عمرها وأنا في السادسة . فعلمتها مدة وكانت تعرف القراء تقريباً ، وتعرفت من الداخل على هذه الأسرة ، أم علي وابنها وبنتها ، وابنهم الكبير من أم أخرى .
وفي السنة التالية ولعلها سنة 1952ميلادية دخلت المدرسة الرسمية ، وكانت مدرسة القرية صفين ابتدائيين فقط ، وكنت الأول أوالثاني على الصف ، وكان أستاذنا علي عطوي من قرية الخيام خلوقاً حازماً وكان يحبني ، وقد رأيته بعد بضع سنين عندما رجعت من النجف في زيارة ، فقال: ما شاء الله يا علي ، كنت قصيراً سميناً ، وقد نشأت طولاً.
الى المدرسة في بيروت
في سنة 1954ميلادية، أخذني المرحوم والدي الى بيروت ليسجلني في مدرسة،
فنزلنا في بيت صغير يسكن فيه أخي الكبير داود ، وأخذني والدي الى الكلية العاملية ، ودخلنا على مؤسسها رشيد بيضون رحمه الله فطلب منه والدي تخفيف القسط ، فكتب على الورقة بالقلم الأحمر: نصف راتب ، أي خمس عشرة ليرة
----------------------- [ 22 ] -----------------------
شهرياً ، وخرجنا ، وكان والدي يفكر في تحمل ميزانيته الراتب الشهري للمدرسة ، مضافاً الى مصاريفي .
وذهبنا الى بيت صديقه الحميم أبي عاطف مختار قرية كفرا ، وكان يسكن في منطقة المصيطبة ، فحكى له الوالد عن ذهابه الى رشيد بيضون وما كتب .
فقال له أبو عاطف: رأيي أن تسجله في مدرسة الشيخ علي الحوماني التي هي قربنا مقابل بيت صائب سلام ، وهو يأخذ في الشهر ثلاث ليرات ، ويمكن لعلي أن يأتي مشياً من بيت أخيه في عائشة بكار ، لقرب المسافة .
وفي اليوم الثاني ذهب معنا أبو عاطف الى: مدرسة معهد لبنان الجديد ، فاستقبلنا صاحبها الشيخ الحوماني وكان ظاهر الجدية والحزم ، يلبس عمامة قضوية ، وكان حليق اللحية ، وقد امتحنني ليعين صفي ، فقبلني في الصف الثالث ، وفي اليوم التالي جئنا الى المدرسة وعلموني الطريق ، وصرت آتي وحدي ، ورجع والدي الى القرية ، وأوصى بي أخي داوود .
أول انطباعي عن بيروت
أول انطباعاتي عن بيروت أنها مدينة السنة الأتراك ، فقد كان أخي مستأجراً عند بيت البوتاري ، ثم عند بيت عبد الرحمن فرشوخ ، ثم سجلت في مدرسة الحوماني وهي في ملك صائب سلام مقابل بيته .
وهؤلاء ما بين أتراك وتركمان وكرد . وكنت أسمع أسماء عوائل: إستانبولي، أرناؤوط، أورفلي، بيرقدار ، قوتلي، سنجقدار .
----------------------- [ 23 ] -----------------------
وهذا الإنطباع من الصغر جعلني أبحث بعد ذلك ، فوجدت كتاباً للدكتور حسان حلاق: موسوعة العائلات البيروتية. وكتباً أخرى في الموضوع نشـرتها جريدة المستقبل، قال مؤلفوها: إن غالبية الأسراللبنانية العريقة الساكنة في مدينة بيروت هي من أصول تركية .وذكروا العديد من هذه الأسر ، ثم ذكروا أسراً من أصول كردية مثل: الصلح، بدارو، قرانوح، مكداشي، يازجي ، المقدسي. ومملوكية تركمانية مثل: رمضان، ودوغان، ونصولي، قباني، كبي، علايلي، غلاييني، فاخوري، فروخ، كنيعو، مكاري .
ومن أصول عراقية ، مثل : الحريري، النقيب، الناطور .
والبانية، مثل: البوشناق ، وإيرانية، وأيوبية مثل: جنبلاط، الصلح، كلش. ومصرية ، مثل: الهواري، الأسطا، البنا، حمادة، حنبلي، برهومي، الحصري، الحبال، حمد، الدمياطي، السماك، علايلي، بربير، الزعني، فايد ، فليفل .
ومغربية بربرية ، مثل:الحص، سلام، منيمنة، إدريس، عيتاني، حمود، جلول، عريس . وفلسطينية ، مثل:الحافي، ستيتية، شاكر، عسلي، موصلي، مشنوق.
ومن الواضح لمن سكن في بيروت أن الشيعة وافدون اليها من جهة الجنوب ولهذا تشكلت الضاحية الجنوبية وأكثريتها من الشيعة ، وجاء المسيحيون من الشرق من الجبل والمتن ، فتشكلت بيروت الشرقية وعامتها من المسيحيين.
وكان المرحوم والدي رحمه الله يزورنا في بيروت ، ويهتم بدراستي ووضعي ، وكان بعض أهل البلد وبعض أصدقائه يأتون لزيارته ، وتدور في السهرات أحاديث
----------------------- [ 24 ] -----------------------
أحفظ منها الكثير .وقد سألوه ذات يوم عن الشيعة في بيروت ، فقال: كنا من قديم نأتي الى بيروت وننزل عند جماعتنا الشيعة ، في الشياح ، من بيت كنج ، وبيت منصور ، والخليل ، وبيضون ، وكانوا أصحاب بساتين ومزارع .
كانت بيروت صغيرة ، أولها من برج أبي حيدر الى السراي ، وكان رأ س بيروت مزارع ، وأكثره لبيت العيتاني .
ثم تكاثر الشيعة في الشياح وحوله ، وتكاثر المسيحيون في المنطقة الشرقية .
مدرستنا مقابل بيت صائب سلام
كانت مدرستنا مقابل بيت صائب سلام ، وهي ملكه ، استأجرها الشيخ الحوماني . وقد رأيت صائب سلام ذات مرة في شرفة بيته وكان رئيس الوزراء، يدخن السيجار الكوبي . وكان يحدث عنه الشاب خليل السيد من قريتنا ، وهو من فداويته ، فيقول إنه ليس متعصباً فهو يحب الشيعة، وله مجموعة قبضايات أي فدائية ، من حي اللجا ، وكلهم شيعة ويحبونه .
رأيت صائب سلام أقصرمن ابنه تمَّام وأسمن ، وشكله أحسن ، وجلد وجهه مشدود ، وليس أوسع من وجهه مثل ابنه .
وكانت مدرستنا داراً ، ملعبها صغير ، لكن فيها صالون كبير ، تتفرع منه غرف كافية للصفوف . وكنت في الصف الثالث أرى من الشباك مسجد المصيطبة ، وآنس بسماع قراءة القرآن والأذان منه ، وأردت يوماً أن أذهب اليه فقد كانت
----------------------- [ 25 ] -----------------------
عندنا فرصة وقت الصلاة ، فقلت لزميلي علي صفا فلنذهب؟ فقال:لا يسمحون للأولاد .
وكان صفنا ثلاثين طالباً ، وكنت لا أراجع دروسي حتى للإمتحان ، بل أحفظها من شرح المعلم ، وكنت الأول بلا منافس ، والحمد لله .
وكان مدير المدرسة الشيخ الحوماني يحبني ويميزني في بعض الأمور . قال لي المرحوم والدي يوماً دخلت على الشيخ علي الحوماني وأعطيته الأجرة لثلاثة أشهر ، فقال: علي تلميذ نابغ نعتز به ، ولا ينبغي أن نأخذ منك راتب ، فقلت له : أنا أشكرك يا حضرة الشيخ ، ويجب أن نعطي أكثر من الراتب .
كان الحوماني ، نسبة الى قرية حومين ، لكنه من أهل حاروف ، جاداً حازماً قليل الكلام ، يهابه المعلمون والتلاميذ .
وكان يدير المدرسة ولا يُدَرِّس، إلا يوماً في شهر رمضان حيث جمع تلاميذ المدرسة في الصالة الكبيرة فلم تمتلئ ، وصلى بنا ، وشرح لنا درساً عن وجود الله تعالى فرسم سيارة انزلقت من الطريق الجبلي فوقعت نحو الوادي،ليركز في أذهاننا أن الكون سيارة يسوقها الله تعالى ، ولو رفع يده عنها لحظة لانزلقت!
وكان ابنه محمد علي معلماً موهوباً محبوباً من التلاميذ ، ونظام الدين ، وكان له ابنة محجبة لم نرها أبداً ، ولعل زوجته كانت متوفاة .
----------------------- [ 26 ] -----------------------
ومن ابتكاراته رحمه الله أنه قرر إلغاء الصف الرابع من مدرسته ، وتدريس طلاب الثالث مواده في الصيف ، ثم نقلهم الى الخامس ، وهو صف السرتفيكا ، وهي شهادة حكومية تشبه السايكل ، أو الثالث المتوسط اليوم .
وركز علينا في الصف الثالث وزارنا مرات ، فأعجبه مستوانا ، فقرر أن يضيف لنا دروس الصف الرابع في الليل بدل الصيف ، فدرسنا أسابيع ، ثم قرر ترك الدروس الليلية ، ونقل الناجحين منا في السنة التالية رأساً الى الصف الخامس ، وحقق فينا نجاحاً ، وأخذ مكافأة من وزارة التربية !
وما زلت أذكر العديد من رفقائي ، وقد انقطعت عنهم لأني بعد السرتفيكا تركت بيروت ، وفي السنة التالية انتميت الى الحوزة ، والحمد لله .
كان أكثرهم حيوية علي صفا من زبدين ، وأكثرهم محافظة عبد الله برو من سنة بيروت ، وأثقلهم همة محمد ناصر من حداثا ، وأعقلهم زين العابدين فقيه من الصرفند . وفي وسط السنة الخامسة جاء المدير ببنت حموية في العشرينات محجبة حتى وجهها ، وأجلسها في آخر الصف وأمرني أن أجلس معها .
كانت حموية متعصبة ، تكثر المديح لخالد بن الوليد ، فيتولاها التلاميذ الشيعة بالنكات ، ويسكت السنة عن سجالهم معها .
كان أخي داود يضمن بساتين برتقال في الشياح فأذهب معه للقطاف ، فأحفظ الصناديق عند باب البستان، ثم أساعده عصراً في البيع. وكان يقول لي إنك محبوب مرزوق ، واقترح على والدي أن أعمل معه بشكل دائم ، فلم يقبل ،
----------------------- [ 27 ] -----------------------
وقال علي.. أتركه لي. وعرفت بعد ذلك أنه كان يفكر من صغري بأن يوجهني لدراسة علم الدين ، لأنه رأى أمير المؤمنين عليه السلام في المنام وأعطاه طعاماً وأمره أن يطعمني إياه ، ففسره بالعلم ، رحمه الله ، وجزاه عني خيراً .
بين المدينة والقرية
تعرفت على الكثير من معالم بيروت ، وأنواع ناسها ، فازددت إيماناً بقريتنا وأهلها ، لأنهم بنظري أصفى ، وأحسن ، وأفهم .
صرت أكثر إيماناً بالقرية ، لأن الإنسان في المدينة مفصول عن الطبيعة ، وفي القرية يلامسها ويعايشها: في القرية ترى شروق الشمس وغروبها ، ونبت النبات ، وتفقيس الدجاجة وانفلاق البيض عن فراخ ، وتفقيس العصافير في أعشاشها ، وتسمع صياح الديك وثغاء الحيوانات ، وترى وضعها لحملها ، وسروحها الى المرعى ، وعودتها .
في القرية تخرج الى البرية ، فترى الغابة والوادي ، والشجر والحجر ، والحرباء والحرذون والعصفور . ترى السماء وغيومها وشتاءها ، وصيفها ، وقمرها ، ونجومها ، فأنت في وسط الطبيعة ، تلامسها وتشعر بأمومتها .
أما في المدينة فأنت في قفص ، بين جدران وبنايات ، وأضواء الكهرباء ، وتزمير السيارات ، وقد تذهب الى الشاطئ أو الجبل ، فتشم الطبيعة قليلاً، لكنك لا بد أن تعود الى محابسك .
----------------------- [ 28 ] -----------------------
أما الناس في المدينة ، فهم أكثر تنوعاً ، وأوسع نشاطاً ، وأرقى مدنيةً ، وأحسن ثياباً ، لكن الفهم فيهم ليس أكثر من أهل القرية ، ولا يملكون صفاءهم وشفافيتهم ، بل أكثرهم معقدون في روحيتهم وسلوكهم .
في المدينة لايزور الناس بعضهم ولا يألفون ، ولا يحبون ، فهم جيران كأهل المقابر ، وصداقتهم آنية مصلحية ، ليس فيها نبض حب الإنسان .
وخصوم البيارتة يتهمونهم بغلظة أذهانهم ، لكن لايصح التعميم ، ففيهم أصحاب أفهام ، وفيها أخيار ، لكن النابغين منهم قلة ، بينما النابغون كثرة من المسيحيين والشيعة .
أمضيت صيفاً جميلاً في القرية
كانت فرحتي كبيرة عندما رأيت إسمي في الجريدة في عداد الناجحين في امتحان السرتفيكا، وهنأني أخي والأصدقاء .
وجاء المرحوم الوالد وأخذني الى ياطر ، وأعطاني حريتي في الصيف ، إلا يوم الجمعة ، فعليَّ أن أذهب معه للصلاة خلف السيد شرف الدين قدس سره .
كنت أحب التجول في البراري وصيد العصافير ، وأمضـي يومي في كَرْمِنا الذي أرى من أعلاه ساحل صور ، وتحيط به غابات وأودية عميقة ، وكان أخي قاسم يأتيني بالطعام عصراً وينام في الكرم ، ويذهب صباحاً . وقد صنع تختاً وهو خيمة مرتفعة عن الأرض نحو مترين ، تستعمل للنوم .
وكان بعض الناس ينامون في كرومهم، ومنهم جيراننا بيت السيد محمد جواد وأولاده: نور الدين ، ومحي الدين ، والشريف ، وكانت أمهم من أرحامنا .
----------------------- [ 29 ] -----------------------
والآن أتعجب من نفسي كيف كنت لا أستوحش ، وأقضـي أيامي في الكرم وفي الجبال والأودية في صيد العصافير بالدِّبق ، وهو قضبان دقيقة عليها مادة لاصقة ننشرها على الشجر ، فتقف عليها العصافير فتلصق أرجلها أو ريشها ، فنأخذها ، وكنت أعطي ما أصيده ، وقلما آكل منه .
وكان من ألذ الطعام عندي أن يمر صاحب قطيع ماعز، فأطلب منه أن يحلب لي في كاسة ، فآخذ قرون الخرنوب الأخضـر وأقطِّعها واضعها في الحليب ، فيتحول الى نوع من الجبن اللذيذ كاللبن ، يسمونه في قريتنا مَقِيقَة !
وكنت أذهب الى الوديان والجبال أتفرج عليها ، وربما أرى الحية فأطاردها أو أهرب منها ! وكان المرحوم والدي يعرف هوايتي فلا ينهاني ، بل يوصيني بالتحفظ من الصخور العالية والحيات ، وأن أكون معه يوم الجمعة .
وفي ذات ليلة كنا نائمين مع أخي قاسم فسمعنا حركة ، فقال أخي بهمس: جاء الضبع يا علي ، أسكت ولا تتكلم ، ولا أذكر أني خفت بل قلت له: عندنا عصا. فقال: أسكت فهو لايستطيع أن يصعد الى التخت .
كان الظلام حولنا شديداً ولم يرض أخي أن نضئ بطارية ، وفجأة لمعت عيون الضبع كأنهما بطاريتان صغيرتان لونهما أصفر ، وسمعنا حركته قرب تختنا ، ثم ذهب ولم نشعر بشئ . ويمكن أن يكون جاء على رائحتنا ، فلم يجد طريقاً لمهاجمتنا فذهب ، أو يكون مستطرقاً الى مكان آخر .
----------------------- [ 30 ] -----------------------
وقال أخي إنه ضبع ، لكن لم نره ، وقد يكون ذئباً فذئاب المنطقة كبيرة كالضباع ، وقد رأيت مرة ذئباً فركضت اليه بعصا فهرب مني والحمد لله .
يوم الجمعة مع الوالد
كان يوم الجمعة يوماً محبباً اليَّ ، فمن الصباح أذهب مع الوالد ، وكان كل يوم يذهب الى جهة ، يسميها طَلَّة على الرزق ، على كرم أو أرض مزروعة ، فيومٌ على كرم الخلة ، ويوم على زيتونات رأس الغربي ، ويوم على عدسات رأس الشرقي ، ومن هناك نذهب الى الصلاة خلف السيد شرف الدين قدس سره في خيمته الكبيرة التي هي مسجد ، أمام بيت المرحوم موسى سويدان .
ذهبنا يوماً الى كرم الخلة ، وقبل أن ندخل سمعنا صوت المرحوم الحاج علي عبد الحسين سويدان ، يقرأ ويهمهم ، قال لي والدي: هذا ديدنه فهو دائماً يقرأ قرآناً أو دعاءً أو يذكر أهل البيت عليهم السلام .كان صوته هادئاً شجياً ينفذ الى القلب ، فدخلنا الى كرمه وكان جالساً ينقِّي العنب ويضعه في صناديق ليرسله الى البيع.
استقبلنا بحفاوة ، واختار قطوف عنب فوضعها أمامنا وقال: تفضلوا . وتحدث معه الوالد طويلاً ، ولا أذكر حديثهما ، ولم يأكل من العنب ، وأكلت قليلاً ، ثم ذهبنا الى كرمنا كرم الخلة المجاور لكرم الحاج علي ، وكان معنا أخي فوجهه والدي لقطف العنب ، وجال في الكرم الصغير ، وألفتني حديثه عن شجرة عنب كبيرة ، قال إنها تعطي في السنة موسمين .
----------------------- [ 31 ] -----------------------
ثم ذهبنا الى الصلاة خلف المرحوم شرف الدين ، وكان الناس جالسين في صف الصلاة ينتظرون الأذان ، ثم مجيئ السيد للصلاة ، وكان محلنا نحن الأولاد في آخر صف .
كان المؤذن الرسمي الحاج أبو علي مصطفى صالح ، وإذا حضر الحاج حسين حسن كوراني أذن هو ، أو ابنه أحمد ، فقد كان صَيِّتاً وأذانه محبباً .
وفي جمعة أخرى ذهبت مع والدي الى رأس الشـرقي ، وهو جبل في مدخل قريتنا ، كتبه المرحوم الوالد لي ، ثم أعطيته مع كل ما أملك لإخوتي وأخواتي .
صعدنا الى الجبل وكان فيه أثر بركة رومانية ، فتجولنا بين العدس ، وكان منه أخضر ومنه أصفر ، ورجعنا الى الصلاة خلف السيد قدس سره قبل الصلاة وكان جالساً في صالة فيها كراسي ، فدخل والدي وسلم عليه وقبل يده ، وقبلت يده فقال له الوالد: يا سيدنا ، علي أخذ السـرتفيكا ، فنظر اليَّ السيد نظرة رضا ، وقال: ما شاء الله ما شاء الله في هذا السن؟ قال والدي: نعم وضعته في مدرسة جيدة في بيروت ، هي مدرسة الشيخ علي الحوماني ، فدعا له السيد: وفقه الله .
ولما أعطيت كل ما أملك في قريتنا لإخوتي وأخواتي ، قال لي بعضهم إنك أعطيتهم ما قيمته نصف مليون دولار ،وبعض القطع مترها بعشرين دولار ، فقلت له: رأيت أن عين بعض الورثة في سهمي الوافر الذي ميزني به الوالد ، وأحببت أن أدخل السرور عليه وعلى والدتي ، بأن أعطي أولادهما .
----------------------- [ 32 ] -----------------------
وقد أخذت الغيرة أخي الحاج كامل وكان مختار القرية ، فقال: لايجوز أن لا يكون للشيخ علي شئ في قريتنا ، فأعطاني ألف متر في تلة رأس الغربي ، وكتبها باسمي رحمه الله فبدأت ببناء بيت فيه .
سبب عمق القرية في ذاكرتنا ؟
السبب أنها المكان الأول الذي تفتحت عليه حواسنا ، وعملت فيه كامراتها ، إنها عالم الدنيا الذي جئنا اليه ، وعرفنا أشياءه ، وأرضه وسماءه ، وألفنا ناسه الذين أحاطوا بنا ، وفي مقدمتهم أمنا وأبونا ، وإخوتنا وأقاربنا .
أضف الى ذلك ، أن غذاء أبوينا وغذاءنا ، من أرضها ومائها وهوائها ، فمنه تكونت خلايانا ، على طعمها ، ورائحتها ، وخصائصها .
لهذا كانت صور القرية محفورة في ذاكرتنا كالنقش في الصخر أكثر من غيرها.
على أن الناس يتفاوتون في التقاط أجهزتهم ، كما تتفاوت أجهزة الفيديو، وتتفاوت ايضاً ذاكرتهم ، كتفاوت أجهزة الهارديسك .
وأحمد الله تعالى أن حواسي التقطت من قريتنا الوفير ، واختزنت ذاكرتي عنها الكثير ، في الأحد عشر عاماً التي عشتها فيها ، ثم من الصيف الذي كنت أمضيه ، ومن ترددي اليها ، ثم من تواصل أحاديث الأقارب والمعارف .
أحجام الأشياء في نظرنا
عندما يكبر أحدنا يصحح تصوراته وأحجام الأشياء في نفسه ، فكثير من الأشياء تكون أحجامها في الصغر كبيرة ، والطرق القصيرة تكون بعين الطفل طويلة ، مثل مسافة بيتنا عن الجامع ، وطَلَعة ما بين الحارتين .
----------------------- [ 33 ] -----------------------
ثم اكتشفت أنها أحجام صغيرة ، وأن الأشجار ليست كبيرة كما كنت أراها ، ولا عَرَمَة القمح ضخمة ، ولا قطيع الماعز كثير ، ولا الربوات الخمس التي تقوم عليها قريتنا كبيرة ، ولا المسافات بينها طويلة .
وفي المقابل توجد أمور كنت أراها صغيرة، فإذا هي كبيرة بحجم قريتنا وأكبر!
منها: أن الناس يعطلون أعمالهم ليقوموا بتشييع الميت ، ويبادرون الى حفر قبره ومراسم دفنه ، ولا يأخذ أحد أجرة على شئ !
ويجتمعون عند بيته يعزون أهله ، ويحملون جنازته بأدب واحترام ، حتى يواروه قبره ، ويقرؤوا عليه قرآناً ، ومجلس تعزية .
وتمشي النساء في الجنازة خلف الرجال ، والجميع بصمت ووقار ، احتراماً لهيبة الموت ، وأصوات القراء تصدح: لا إله إلا الله . الحمد لله الذي تعزز بالقدرة والبقاء ، وقهر عباده بالموت والفناء .
ومنها: الذين يتطوعون لمساعدة أقاربهم أو أصدقائهم مجاناً ، عونةً ، للحصيدة ، أو الحليشة ، أو قطف العنب ، أو زراعة التتن . ففي القرية عُمال بالأجرة ، وفيها تبادل عمل بأن تعمل مع شخص يوماً ، ثم يعمل معك مقابله .
لكن هؤلاء رجال ونساء يتطوعون بدون أجرة ، في حملة عمل لمساعدة الآخرين . وفي هذا قيمة اجتماعية ودينية ، وإشاعة للتضامن والتراحم .
ومنها: دَبَّة الصوت ، عندما تقع سرقة مهمة ، أو يعتدى على أهل القرية جماعة من غيرها ، فيصعد المؤذن وينادي: يا سامعين الصوت صلوا عالنبي .
----------------------- [ 34 ] -----------------------
أولكم محمد وثانيكم علي . وثالثتكم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله .
ثم يقول القضية في ندائه والمطلوب بشأنها ، فيتحرك الناس لملاحقة السراق ، أو لرد المعتدي ، أو لحراسة القطيع ، أو ما يخشى عليه السرقة .
ومنها: العصبة للقرية ، والغيرة على سمعتها ، فبعض القرى لاشخصية لها ، ولا عصبة لأبنائها لها ، وبعضهم متعصبون لقريتهم لكنهم ينتقصون من غيرهم أو يظلمونهم ، وبعضهم متعصبون لقريتهم اعتزازاً بها ووفاءً ، ولا ينتقصون من حق غيرها ، وهذه عصبة محمودة .
ولأهل قريتنا عصبة قوية لها ، وهي غالباً عصبة محمودة ، فتراهم في بيروت أو خارج لبنان ، يحنون الى بعضهم ويتعصبون .
وتراهم في القرية يتداعون للتشاور في أمر يخص القرية ، أو مصلحة من مصالحها ، ويحرصون على تجنيبها الخلافات والتحزبات .
الشيخ علي عبده عالم بلدتنا
هو العلامة الشيخ علي الزين رحمه الله ، من قرية كفرا المجاورة لنا ، وقد سكن في قريتنا ليعلم الأولاد القرآن ، ولكنه كان عالم القرية كلها ، ومربيها .
كان طويلاً جسيماً ، أسمر ، عيناه صغيرتان ، حلو المنطق ، يتكلم بكل فمه ، بتوضيح وبلاغة ، ويحرص على أن يتكلم بالفصحى .
وكان يحفظ الكثيرمن قصص العرب وأشعارهم ، وكثيراً من كتاب العقد الفريد ، وغيره من كتب ابن عبد ربه الأندلسي .
----------------------- [ 35 ] -----------------------
وكان أليفاً مألوفاً محبوباً ، يخدم أهل البلد بدون مقابل ، ولذلك بقي فقيراً حتى كبر أولاده وتوظف بعضهم فتحسنت حاله ، وكانت علاقته حميمة بكل أهل البلد ، ويعتبرهم أولاده ، فهو معلم آبائهم ، وإمام مسجدهم وخطيبهم .
وهو باعث الجو الأدبي الشعري ، الذي تكون في قريتنا وخَرَّجَ شعراء .
كان السيد شرف الدين قدس سره يوصي به أهل القرية ، لكن أهل قريتنا لم يتعودوا أن يعطوا هدية أو راتباً لعالم ولا لقارئ تعزية ، حتى للسيد شرف الدين قدس سره إلا نادراً ، ففي ذهنهم أن هؤلاء يقومون بعملهم لله تعالى ، ولا يأخذون أجرة فكأن الله ينزل لهم بالزنبيل ، أو كأنهم يأكلون التسبيح والتهليل !
وهذه الحالة عامة في أكثر قرى جبل عامل ومدنه ، بسبب كثرة العلماء والقراء من جهة ، وبسبب الفقر العام من جهة أخرى .
وقد قارن السيد الأمين قدس سره بين أهل جبل عامل وأهل إيران من هذه الناحية، فقال في أعيان الشيعة (9/229): (وفي تلك الأعصار التي كان فيها البهائي وأبوه وغيرهما مشائخ الإسلام في هرات وأصفهان ، كان الشهيد الثاني الذي هو أعلم منهم وأجل قدراً ، يحرس الكرم في جبع ، وفي مضيعة العلماء جبل عامل ، وينقل الحطب على حماره لعياله بالليل ، ويبني مسجده في جبع بيده ، ويتجر بالشـريط (شريط الحرير) كما ذكره ابن العودي لتحصيل قوته ، ويسافر في تجارته مع الجمالة إلى الأمكنة البعيدة كالقسطنطينية وغيرها ، ولا يعامله الجمالة معاملة أحدهم ، بل يتعدون عليه !
وفي الوقت الذي كان فيه المحقق الكركي شيخ الإسلام بأصفهان نافذ الأمر مفوضة اليه جميع أمور السلطنة ، ويخرج في موكب الملوك ، كان سميه ومعاصره المحقق الميسي
----------------------- [ 36 ] -----------------------
ينقل الحطب على حماره ليلاً له ولتلاميذه في ميس ، ويعيش عيشة القناعة والفقر ، ويكون عند أهل جبل عامل أقل قدراً من بعض المتفقهة ).
لكن ، لايمكن أن نقيس إيران ، الشعب الذي يحكم نفسه بدولة قوية ، بجبل عامل المنطقة الصغيرة المضطهدة ، المستضعفة من الدولة العثمانية ومن محيطها.
أما العلماء العامليون الذين ذكرهم السيد الأمين رحمه الله فكانوا في إيران أصحاب مناصب عليا في الدولة .
ويبقى الفرق بين الثقافة العامة للشيعة الفرس والعرب ، فالشيعة الفرس متعودون أن يعطوا العلماء ويكرموهم ، فتراهم إذا زارهم عالم لمحاضرة ، أو عقد زواج ، أو صلاة جنازة ، أو مناسبة ، يقدمون له عندما يودعونه باحترام ظرفاً فيه مبلغ . ولاتوجد هذه العادة في الشيعة العرب .
* *
كان الشيخ علي الزين رحمه الله يملك كرماً صغيراً في قريتنا في منطقة (تحت البياض) وهو في الطريق الى كرمنا في نقعة فارس . وكان ابنه الشيخ عبد المنعم يتواجد فيه أحياناً ، وكنت أقصده أو يقصدني ، فقد كانت بيننا رحم ، ويدعو أحدنا الآخر ابن خالتي ، لأن والدتي ووالدته بنات خالات .
وقد رأيت مناماً نادراً في النجف سنة ذهابي اليها: أن الإمام المهدي عليه السلام قد ظهر في قريتنا ، وأنه في كرم الشيخ علي عبدو، فسارعت اليه فوجدت أصحابه يجمعون خيامهم ، والإمام عليه السلام يقول لهم: قوموا قبل أن يلحقنا الأعداء ! فمشى أمامهم ومشيت الى جنبه ، وحاولت ونحن نمشـي أن أرى وجهه الشريف ،
----------------------- [ 37 ] -----------------------
فكنت أرفع رأسي وأحاول النظر اليه فلا أستطيع، من هيبته وشعاع وجهه ، وغاية ما استطعت أن أراه طرف لحيته الشريفة . ثم وصل الى أول كرمنا وصلى ركعتين وقال: هذا المكان لي ، فصليت معه ، وانتهى المنام .
والى الآن ما عرفت معنى أن معسكره هناك ، وقوله عن أول كرمنا أنه له ، وهو دوارة ، أي دائرة صغيرة . ولا عرفت لماذا كان متجهاً من ياطر باتجاه صور، ولامعنى الأعداء الذين قصدهم .
لكنه منام يوجب التفاؤل ، ولعله بشارة للشيخ عبد المنعم ، ولي .
* *
وقد سكن الشيخ علي الزين رحمه الله في القماطية وكان عالمها لسنوات طويلة ، وكنت أزوره فيها ، وهي قرية شيعية ومصيف ، مجاور لعاليه قرب بيروت .
وكان محيطها مسيحيون ودروز وسنيون ، وكان للشيخ علاقات حميمة معهم ، يشارك في مناسباتهم ، ويزورهم ويزورونه ، ويحبونه جميعاً ، لأدبه وحلاوة حديثه . فلما تقدم به السن غلبه حب القرية فعاد اليها سنوات حتى توفي رحمه الله .
وكانت المرحومة زوجته من مدرسة خاتون الورد ، في صفائها وحبها للناس. وبرز له ولدان: عبد الرحيم ، وكان موظفاً ، مثقفاً ، خطيباً ، حسن الحديث .
والعلامة الشيخ عبد المنعم ، وهو عالم فاضل ، سكن في السنغال وهدى الله على يديه الجالية اللبنانية ، وألوفاً من أهل البلد ، وأسس مدارس ومؤسسات تربوية وثقافية نافعة ، وأخذ صفة إمام الطائفة الجعفرية في السنغال .
----------------------- [ 38 ] -----------------------
وقد دعاني الى زيارته فزرته وحاضرت بعض المحاضرات ، وأخذني الى مدينة طوبا مركز الشيخ عبد الأحد مبكي ، رئيس طائفة المريدية الصوفية ، فصلينا في مسجدها ذي المنارة الشاهقة بارتفاع ثلاثة وخمسين متراً .
ورأيت هناك أطفالاً ينشدون نشيداً ، فوقفت عندهم ، وطلبت من الشيخ أن يترجم لي النشيد ، فإذا هو في مديح فاطمة الزهراء عليها السلام .
قال لي الشيخ عبد المنعم: هل نزور الشيخ عبد الأحد مُبَكِّي؟فقلت:لا بأس ، ثم قال: لزيارته مراسم ، وهي أن نجلس في غرفة ، وبعد فترة ينقلونا الى غرفة ، حتى تتم سبع غرف ، ثم ندخل عليه ، فقد يكون نائماً على سريره ، وتكون زيارتنا بالتشرف بالنظر اليه وكفى! ثم قال: وقد يكون حظ بعض الناس كبيراً ، إذا أدار الشيخ وجهه نحوه ، وتفل عليه فهذه بركة كبرى !
قلت له: لا أريد زيارته ، وهذا النظام السباعي من موروثات الفاطميين الإسماعيلية ، لأن أئمتهم الى إسماعيل سبعة ، وكان الحاكم أو الداعية يجلس دونه سبعة حجب هم الحجاب . وأنا لا أريد أن أنتظر ساعات حتى أخرق هذه الحجب وأصل الى هذا الشيخ ، الذي قد يكون نائماً ..الخ.
وفي عودتنا الى دكار قال لي: هل تزور الشيخ عبد العزيز سي ، شيخ الطريقة التيجانية ، وهم أكثرية أهل البلد ، وهو عالم متواضع ، فزرناه ولم يكن دونه حجب ، فنزل عن كرسيه وجلس معنا ، وكان خلوقاً متواضعاً .
----------------------- [ 39 ] -----------------------
قراء التعزية في قريتنا
يعرف الصوت الحسن في قريتنا من العتابا ، وهي نوع من الغناء الشعبي ، يغنيه الشبان في الحقول ، والمناسبات ، ويبدأ عادة بالتأوه بكلمة: أوف .
فإذا برز عرف بحسن صوته ، طلبوا منه أن يقرأ لهم قرآناً أو تعزية أو يؤذن فيأخذ بتعلم ذلك . وفي قريتنا أشخاص عرفوا بحسن أصواتهم، ومن أشهرهم الحاج حسين حسن كوراني ، وقد نبغ من أولاده ابنه أحمد ، لكنه لم يواصل القراءة ، وابنه حميد ومحمود ، وواصل محمود القراءة ، والحاج علي عبد الحسين سويدان ، ونبغ ابنه عبد الله ، وواصل القراءة .
ثم نشأت مجموعة من القراء ، منهم من بيت صالح من أقارب المؤذن الحاج أبي علي صالح ، ومن بيت أمين حسين كوراني وأخيه موسى ، وغيرهم .
ومواهبهم بشكل عام جيدة ، لكنها تحتاج الى صقل وإغناء ، وأصواتهم الى تصنيع .
هل أن القرية توجب ضيق الأفق
يقول بعضهم: صحيح أنا في القرية نلامس الطبيعة أكثر من المدينة ، وأن أهل القرية أكثر صفاءً وشفافية من أهل المدينة.لكن المشكلة أن القروي ضيق الأفق، محدود التفكير ، فكأن قريته عنده كل الدنيا ، وكأن طرفها آخر الدنيا !
وبتعبير آخر:أولاد القرى صغار الهمة، أصحاب أهداف صغيرة محدودة . لذلك لايمكن أن نتوقع منهم إنجاز أعمال كبيرة ، لأن الأعمال الكبيرة تحتاج الى أشخاص أولي همم عالية ، وآفاق واسعة . والجواب في النقاط التالية:
----------------------- [ 40 ] -----------------------
1. نعم هذه الحقيقة موجودة في القرويين لكنها ليست عامة . فإن من أهل القرى شخصيات كبيرة ، وقد نبغ منها قادة ، أسسوا دولاً ، وقادوا حركات اجتماعية واسعة ، ونبغ منها علماء أسسوا علوماً ، وابتكروا نظريات .
ولو استعرضنا مئة شخصية من الكبار في العالم مثلاً، لكان نصفهم من أهل القرى . وهذا كاف لرد وصف أبناء القرى عامة بضيق الأفق ودنو الهمة .
2. توجد موانع ودوافع لضعف الهمة وعلو الهمة ، وبسببها يكون الإنسان كبيراً في أفقه أو صغيراً ، والعوامل النفسية منها أهم من العوامل المادية ، فهي المؤثر الأساسي ، كما قال الشاعر المرحوم السماوي للبلبل:
يَا بُلْبُلَ القفص المطلِّ**وشاعرَ الروض الأغنِّ
ما كان ظني أن أراك**مغرداً ما كان ظني
يا ابن الأراكة قد قتلت **مسـرتي وأثرت حزني
تشدو وأنت بمحبسٍ**وأنا أنوحُ بمطمئني
أتصاغرت للسجن نفسك **فهي من طربٍ تغني
وتعاظمت نفسـي عليَّ *فخلتُ هذا الكون سجني
3. من العوامل التي تسبب أن يكون ابن القرية محدود الهدف صغير الهمة: جماعته ومنطقته وقوميته ، فعندما تكون جماعته مقهورة مستضعفة ، ومنطقته أقلية صغيرة ، ومجالاته المادية محدودة ، ويكون مجبوراً أن يعمل ويكد أكثر نهاره وجزءً من ليله ، لتأمين لقمة عيشه وضرورات حياته ، فإن ظروفه المحيطة هذه تكون مانعاً من علو همته وتوسيع هدفه. فالحالة السياسية لمن ينتمي اليهم عامل مؤثر في علو همته ، فعندما تكون جماعته أو قوميته بيدهم الحكم ، ينشأ وهو
----------------------- [ 41 ] -----------------------
يشعر أن الدولة له وأنه ابنها ، وعندما يكون من أقلية مضطهدة ، ينشأ وهو يشعر أنه مستضعف وأن الحاكم غيره . وهذ ايؤثر على نمط تعامله مع الأمور .
وقد لاحظت في العراق أنه عندما تقوم الحكومة بعمل ضد مصلحة الناس يقول الشيعي بحسرة: هكذا يعملون ! ويقول السني: لا نسمح لهم ، لاحق لهم من الذي أمر بذلك؟ ومعناه أن الشيعي غريب عن الحكم يتكلم بلغة الخاضع ، والسني صاحب الحكم فهو يتكلم بلغة المعترض الذي يقدر على التصحيح !
4. الأصل في الإنسان الضعف ، والقوة استثناء ، والأكثرية الساحقة من الناس أصحاب أهداف ضيقة ، تدور حول ذواتهم ، وأذهانهم محدودة بها . والأشخاص الكبار الهمة الواسعو الأفق قلة في كل الشعوب .
فليس عجيباً أن يكون الإنسان محدود التفكير والهدف ، بل العجيب أن يكون كبير الهمة عالي النفس ، يعيش قضية دينه ، أو قضية بلده أو قومه ، أو جماعته !
كما قال الإمام الصادق عليه السلام : ما عجبت لمن هلك كيف هلك ، بل عجبت لمن نجا كيف نجا !
* *
----------------------- [ 42 ] -----------------------
الفصل الثالث: خواطر من دراستي في جبل عامل
اختار لي والدي رحمه الله أن أكون طالب علم
اتخذ والدي رحمه الله قراره لي بأن أكون طالب علم، بحكم تأثره بآية الله السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه الله ، فقد كان يحبه ويعتقد به ، وكان السيد عالماً في قريتنا ياطر بضع سنين ، قبل ولادتي وقبل أن يسكن في صور.
كان للمرحوم الوالد علاقة بعلماء المنطقة كالشيخ يوسف الفقيه رحمه الله ، من قرية حاريص القريبة ، ولنا معهم رحم لأن جدة الشيخ يوسف من آل كَوْراني ، وكان الوالد يحتفي به إذا جاء الى قريتنا ، ويزوره في حاريص وبيروت ، حيث كان رئيس محكمة التمييز الجعفرية .
وتواصلت العلاقة بعده بأولاده الشيخ علي الفقيه رحمه الله ، وكان عالم حاريص ، والشيخ محمد تقي الفقيه رحمه الله ، وكان في النجف الأشرف من التلاميذ البارزين للمرجع السيد الحكيم رحمه الله .
كما كان للوالد رحمه الله علاقة بالشيخ حسن شمس الدين رحمه الله عالم قرية حناويه القريبة من صور ، والشيخ عبدالله السبيتي رحمه الله صهر السيد شرف الدين ، وبالشيخ موسى السبيتي رحمه الله ، وكان قاضياً شرعياً في بيروت ، وكلاهما من قرية كَفْرَا المجاورة لقريتنا .
ومع علاقة الوالد رحمه الله بمشايخ عديدين ، كان يفضل السيد شرف الدين رحمه الله ،
----------------------- [ 43 ] -----------------------
وإذا دخل فصل الصيف يذهب هو وعدد من وجهاء القرية لدعوة السيد للإصطياف في قريتنا ، ويهيؤون له المكان ويخدمونه ، فكان السيد يقضي فصل الصيف في ياطر ، الى أواخر عمره الشريف رحمه الله .
في صيف سنة1956، أخبرني الوالد بصيغة الإستشارة بأنه اختار لي أن أكون طالب علم ، وأنه يريد أن يسأل السيد رحمه الله عن رأيه في ذلك ؟ فأجبته بموافقتي ورغبتي ، لأني أحب الدين وأحب الوالد والسيد رحمه الله .
وعرفت الأسرة والأقارب بقرار الوالد رحمه الله ، فقبل بعضهم ، وسكت آخرون احتراماً له رحمه الله ، لكن امرأة من أقاربنا قالت لي: سمعت يا علي أن والدك يريد أن يعلمك شيخاً ، لا تقبل فإن الناس يقولون إنه يريد أن يعلمه شحاذاً ! أنت ناجح وتفهم،وقد درست صفين في سنة ، نحن نريدك أن تكون أستاذ جامعة !
ولم أجبها بشئ ، لكن هزتني كلمة (شحاذ)! وأخذت أتساءل هل أن عالم الدين يعيش فقيراً ؟ وحكيت لوالدي كلامها فقال: هؤلاء يا بني لايعرفون . الشيخ عالم دين وليس شحاذاً ، ولكي تكون مطمئناً سأكتب لك نصف ملكيتي حتى لا يقول أحد مثل هذا الكلام !
ثم خفض صوته رحمه الله وقال بلهجة المؤمن الجازم: لقد رأيت في المنام أمير المؤمنين عليه السلام وأعطاني غذاء وقال أطعمه لولدك علي! فاطمأنيت ، ثقةً بصدق كلامه رحمه الله ، وليس اعتماداً على ما كتبه لي من أراضٍ ذات قيمة .
ذهب بي الى السيد رحمه الله وقال له: سيدنا ما رأيكم في أن أجعل علياً وأشار اليَّ ،
----------------------- [ 44 ] -----------------------
طالب علم؟ فقال السيد: نعم ، علي يناسب لذلك (بيطلع منو) ، لكن أين تجد له مدرساً ، فهو صغير على النجف! ولم يكن يومها في لبنان حوزة.
قال الوالد رحمه الله : أسعى في أن يدرسه أحد المشايخ بتوصيتكم .
قال السيد رحمه الله : لا بأس ، إذهب الى الشيخ الفلاني ، وقل له: أريد أن أدرِّس ولدي طالب علم ، فإن وافق فأسْكنه في قريتهم .
وفي اليوم التالي أخذني الوالد الى بيت شيخ في قريتهم القريبة من صور وعرض عليه الموضوع ، فطلب مهلة ليجيبنا . وبعد أيام أخبرني الوالد أن ابن الشيخ اعتذر له بأن سن الشيخ وظروفه لاتسمح له بالتدريس المنتظم.
فأخبر الوالد السيد رحمه الله ، فوجهه الى شيخ آخر، وذهبنا الى قريته ، فقالوا ذهب الى الكرم ، فوجدناه رحمه الله جالساً تحت زيتونة ، فسلمنا عليه وأخبره الوالد ، فكلمني وأعجبه أني نجحت في شهادة (السِّرْتفيكا) الرسمية ، وكانت في وقتها رتبة ، مع أنها شهادة بإكمال الصف الخامس ابتدائي .
امتحنني الشيخ بالإملاء ، ثم بالإنشاء ، وأعطاني درجة نجاح ، وقال للوالد: يا أبا داود ، ابنك يفهم ويصلح أن يكون طالب علم ، لكني لا أستطيع الإلتزام بتدريسه ، لأني أتنقل الى بيروت وأماكن أخرى .
----------------------- [ 45 ] -----------------------
كان الصيف يومها في أواخره وكان السيد رحمه الله نزل الى صور ، فأخذني الوالد معه اليه وأخبره بجواب الشيخ ، فتأثر السيد لعدم قبول المشايخ أن يدرسوني ، وسأل والدي ماذا ستفعل ؟ فأجابه الوالد مازحاً: ياسيدنا أفكر إذا لم يدرسوه لي أن آخذه وأذهب الى النجف وأشتكي عليهم للمرجع !
فكر السيد رحمه الله قليلاً وكتب رسالة قصيرة الى أستاذنا آية الله الشيخ إبراهيم سليمان رحمه الله في قرية البَيّاض، وقال لوالدي: إذهب اليه وأبلغه سلامي وأعطه الرسالة . وكان في المجلس الشيخ إسماعيل البغدادي رحمه الله وكان صديقاً للوالد ، فذهب معنا الى البياض ، ودخلنا بيت الشيخ عصراً فسلمه الرسالة وتكلم معه ، فقال أريد أن أستخير الله تعالى ، فتفضلوا غداً صباحاً ليكون فطوركم عندنا ، وأخبركم بنتيجة الإستخارة .
وفي الصباح وجدنا الشيخ رحمه الله ينتظرنا على سفرة الفطور ، فسلمنا وجلسنا فقال للوالد: إن الإستخارة جيدة ، لكن عندي شرط: أن تهئ له رفيقاً ليكون له مباحثاً ومذاكراً ، فهل تستطيع؟
أجابه الوالد: يامولانا إبدأ بتدريسه ، وأعدك بأن أبحث له عن زميل حتى أجده إن شاء الله . فقبل الشيخ وشكره الوالد ، واستأذنه ليرتب لي مسكناً ولوازم ، وسأله عن الكتب التي يشتريها لي ، فكتبها له: شرح قطر الندى لابن هشام ، وألفية ابن مالك شرح ابن الناظم ، وقال: إشترِ أيضاً شرح ابن عقيل ، والدر الثمين للسيد محسن الأمين .
----------------------- [ 46 ] -----------------------
رتب الوالد رحمه الله مكان سكني في البياض، فقد كان له فيها صديق هو محمد الشيخ محمود سليمان رحمه الله ، فاختار لنا بيت الحاج حسين يوسف ليكون سكني عندهم ، لأن داره واسعة وفيها غرفة إضافية ، يمكن أن يعطونا إياها بأجرة أو مجاناً ، وذهبنا اليه فقبل رحمه الله ورأينا الغرفة .
وذهبنا في ذلك اليوم الى صور وأخبرْنا السيد رحمه الله بموافقة الشيخ إبراهيم فسُرَّ بذلك ، وذهبنا الى السوق فاشترى الوالد لي ملابس وبعض الأواني والأثاث ، ولم نجد الكتب ، فذهبنا الى بيروت واشتريناها .
عدنا الى قرية البياض ورتبنا أسبابنا ، وذهبنا الى الشيخ فأريناه الكتب فأقرها ، وقال لي: غداً نبدأ من هنا وأشار الى أول قطر الندى (الكلمة قول مفرد) ومن هنا ، وأشار الى أول كتاب الدر الثمين ، باب التقليد: يجب على مكلف أن يكون في عباداته ومعاملاته مقلداً أو مجتهداً أومحتاطاً. والدر الثمين رسالة فقهية للسيد الأمين رحمه الله بتعليقات السيد الحكيم رحمه الله .
ودعني الوالد وأوصى بي أصحاب البيت ، وأوصاني ببعض الوصايا ، وعاد الى قريتنا ، التي تبعد عنا بضعة عشر كيلو متراً .
ومما أوصاني به رحمه الله أن أحترم أستاذي وأتأدب معه ، وأجلس بين يديه على ركبتي ، حتى إذا تعبت جلست متربعاً . وقال لي: إخدم الشيخ ولا تنتظر أن يأمرك أو يطلب منك ، فليس له أولاد فكن بمثابة ابنه .
----------------------- [ 47 ] -----------------------
وأوصاني أن أدبر أموري بنفسي ولا ألقي بكلي على أحد ، وأن آخذ ما أحتاج اليه من دكان صديقه محمد الشيخ محمود ، وهو يحاسبه كل شهر .
استقرَّيْتُ في جوي الجديد ، وكان عمري يومها نحو ثلاث عشرة سنة ، ولم يخطر ببالي شئ إسمه وحشة أو خوف من الغربة والوحدة ، والحمد لله! وكان والدي على ثقة من عقلي وأني أتصرف كالكبار ، وكان أستاذي وآخرون يقولون عني ذلك .
تجولت ذلك اليوم في قرية البياض الصغيرة ، فهي نحوخمسين بيتاً كلهم من آل سليمان ، وهي غرب قرية قانا وتبعد عنها أربعة كيلومترات ، وقربها قرية دير عامص شرقاً ، وتبعد عنها نحو2 كيلومتر .
قال السيد الأمين في أعيان الشيعة:5/105: «وآل سليمان بيت علم وصلاح في جبل عامل من زمن بعيد إلى اليوم ، وأحفادهم اليوم يسكنون قرية البيَّاض في ساحل صور ، وكانوا قبل ذلك في مزرعة مشرف ، وعندهم مكتبة يتوارثونها عن أجدادهم تحتوي على مجموعة نفيسة من المخطوطات وبعض المطبوعات النادرة ، وقد ذهبت إلى القرية المذكورة وبقيت فيها عندهم أياماً ، وطالعت محتويات تلك المكتبة ونقلت منها في هذا الكتاب .
وجدهم الذي ينسبون اليه هو الشيخ سليمان بن محمد بن أحمد بن سليمان العاملي المزرعي ، الذي وجدنا بخطه مقتل أمير المؤمنين علي عليه السلام فرغ منه
----------------------- [ 48 ] -----------------------
سنة1033، وعليه خاتمه بتاريخ 1028. ويحتمل أن تكون نسبتهم إلى الشيخ سليمان بن محمد العاملي الجبعي ، تلميذ الشهيد الثاني الذي كان حياً سنة 951، وأن يكون الشيخ سليمان المزرعي من أحفاده ، بل يحتمل أن يكونا شخصاً واحداً ، وأن يكون أصله من جبع ثم انتقل إلى المزرعة ».
وقد أعجبني أن البياض تقع على ربوة حولها كروم التين والعنب ، فقررت أن أستكشف برِّيتها من جهاتها ، لأني أحب صيد العصافير وقتل الحيات ، وكنت أمضيت أكثر الصيف في أودية ياطر في هذه الهواية .
عدت الى غرفتي ظهراً ، وكنت أفكر بجدية ومهابة بيوم غد وبداية دراستي، وأفكر في إسم كتاب قطرالندى وبلِّ الصدى لابن هشام الأنصاري ، وكتاب الدر الثمين في أهم مايجب معرفته على المسلمين ، للسيد محسن الأمين . وتصفحت الكتابين وقرأت المقدمة وأول الدرس الأول ففهمت منهما شيئاً ، وكنت أتشوق الى شرح أستاذي وتفسيره .
حضرت في الموعد وأخذت الدرس الأول في النحو ، وفي الفقه ، وارتحت لأني فهمت الدرس ، وزال تخوفي من صعوبته .
وعلمني الأستاذ أن أكتب درس النحو بعبارتي ، حسب شرحه وليس نقلاً من الكتاب ، وأمرني أن آتي بالدفتر له في الغد ليراه قبل الدرس الثاني . وأمرني أن أعيد قراءة درس الفقه مرات حتى أفهمه وأحفظ مطلبه وليس
----------------------- [ 49 ] -----------------------
ألفاظه ، لأن فهم المطلب هو المهم ، وليس حفظ الألفاظ .
ذهبت الى غرفتي فكتبت درس النحو ، وقرأت درس الفقه مرة ، ورأيت الوقت مبكراً ، فخرجت ومعي كتاب القطر لأقرأ في البرية من جهة قانا وكان بعض الناس يعملون في كرومهم يجمعون التين في آخر موسمه ، فاخترت مكاناً لأجلس فيه كل يوم ، فأكتب درسي وأحفظ.
انتظمت دراستي لشهور حتى استطاع الوالد رحمه الله أن يقنع أحد الآباء في القرية بأن يرسل ابنه ليدرس معي ، وهو الشيخ نجيب سويدان رحمه الله .
وكنت في أواخر كتاب القطر عندما التحق بي ، فأمرني أستاذي أن أشرح له كل يوم درساً مما فاته ، ففعلت .
كان برنامجنا: درسين قبل الظهر ، ثم نكتب درس النحو ، ثم نتباحث في الدروس الماضية ، فيكون أحدنا يوماً أستاذاً يشرح ، ويُشكل عليه الآخر .
كانت عوامل تثبيت الدرس في ذهننا أربعة:
1- تدريس الأستاذ .2- ثم كتابة الدرس .3- ثم التباحث فيه .3- ثم أسئلة العلماء وأساتذة العربية ، الذين يزورون أستاذنا ، أو نلتقي بهم ، فيسألوننا عن إعراب جملة أو بيت شعر .
وكان هذا العامل الأخير يوازي الجميع ، لأنه يفتح للطالب فهم أنواع التراكيب العربية، في ترتيب مفرداتها ، وحركات إعرابها ، وعود ضمائرها .
أما مباحثات الفقه وأسئلته ، فتقوي حفظ الطالب للأحكام والتعابير
----------------------- [ 50 ] -----------------------
الفقهية ، وتعلمه منطق الفقه الإسلامي ، وتدربه على سليقته القانونية ، وما يكون منه معقولاً ، أو نادراً ، أو شاذاً .
أما اليوم فنرى بعض المدارس تقتصر على إعطاء الأستاذ الدرس ، ولا تلزم الطالب بكتابته ، ولا بالمباحثة مع زملائه فيه ، ولا توجد في محيط الطلبة مجالس أسئلة ومذاكرة ، والتي هي دواوين العلم ومرابع تنميته! والأسوأ من ذلك أن بعض المدارس تقوم بتدريس تلخيص كتب المنهج الدراسي ، وغالباً ما يكون تلخيصاً سيئاً ، يعتمد على فهم الملخص .
وهذا معناه أن ذهن الطالب لايعيش مع المعلومة إلا لماماً ، بينما يعيش معها في النظام الطبيعي أربعة أضعاف الزمن وأكثر .
وهذا سبب انخفاض المستوى العلمي في بعض المدارس !
نية الوالدين لطالب العلم
قد يكون طلب الإنسان للعلم بتوجيه والده أو أسرته ، فيقتنع وينوي ما نووه له ، كما حدث لي . أذكر أني بعد أن أكملت مرحلة من دراستي في جبل عامل أرسلني الوالد رحمه الله الى النجف مع أقاربنا من آل الفقيه ، وعندما ودعني في بيروت خاطبني وأثر الدموع في عينيه: إذهب يابني وهبتك لله ، إذا وصلت الى النجف فأمسك بضريح أمير المؤمنين عليه السلام وقل له: يا أمير المؤمنين ، إن والدي وهبني لكم ، فاقبلني ، واجعلني بحماك .
----------------------- [ 51 ] -----------------------
لذلك كنت في السيارة بين الشام وبغداد ، أفكر في معنى أني موهوب لأهل البيت عليهم السلام . ولما وصلت الى النجف نفذت ما قاله لي الوالد رحمه الله .
وقد سمعت من أحد المراجع أن طلب العلم توفيق غيرعادي ، يحتاج الى نية عميقة من أحد والدي طالب العلم ، أو من أحد أجداده .
وهذا لا يلغي تأثير نوايانا ، لكنه يفتح باب تأثيرها في أولادنا، وتأثير نوايا آبائنا فينا ، وأنا نعيش في خيرهم ، وبركة نياتهم فينا ولنا .
كيف يفحص الطالب نيته ؟
عندما يقرر الإنسان أن يكون طالب علم ، فهو أدرى بدوافعه لاتخاذ هذا القرار وسلوك هذا الطريق ، وهل أن نيته لله تعالى والنجاة في الآخرة ، أم لبلوغ هدف في الدنيا ، أو أنها خليطٌ من الدوافع الدنيوية والأخروية .
فينبغي له أن يصحح نيته من أول الطريق ، ثم يراجع دوافعه باستمرار لأن دوافع العمل تتغير، فيصحح ما يطرأ عليها من خلل ، ليبقى طلبه للعلم خالصاً لوجه الله تعالى ، في أول الطريق ، وكل مراحله .
ويمكن له أن يفحص نيته بأن يفرض أن طلبه للعلم مثلاً سيوصله الى مقام علمي، وهدف دنيوي كالمكانة الإجتماعية والمعيشة المادية الحسنة ، لكن ليس له ثواب في الآخرة ! فهل سيواصله أم يتركه؟
فإن رأى نفسه أنه ليس حاضراً للقيام بعمل ، وبذل جهد لانفع فيه
----------------------- [ 52 ] -----------------------
لآخرته ، فهذا علامة أنه يقصد بعمله الآخرة .
وقد تناول الشهيد الثاني رحمه الله هذه المسألة من زاوية موقف الأستاذ من طالب العلم الذي لم تصح نيته ، هل يدرسه أم لا؟
قال رحمه الله في كتابه الفريد في بابه: منية المريد/183: «الخامس: أن لايمتنع من تعليم أحد لكونه غيرصحيح النية ، فربما عسر على كثير من المبتدئين بالإشتغال تصحيح النية ، لضعف نفوسهم وانحطاطها عن إدراك السعادة الآجلة ، وقلة أنسهم بموجبات تصحيحها ، فالإمتناع من تعليمهم يؤدي إلى تفويت كثير من العلم ، مع أنه يرجى ببركة العلم تصحيحها إذا أنس بالعلم . وقد قال بعضهم: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله . معناه كانت عاقبته أن صار لله...لكن يجب على المعلم إذا شعر من المتعلم فساد النية أن يستدرجه بالموعظة الحسنة ، وينبهه على خطر العلم الذي لا يراد به الله ، ويتلو عليه من الأخبار الواردة في ذلك حالاً فحالاً ، حتى يقوده إلى القصد الصحيح ، فإن لم ينجع ذلك ويئس منه ، قيل يتركه حينئذ ويمنعه من التعلم ، فإن العلم لا يزيده إلا شراً ! وإلى ذلك أشار علي عليه السلام بقوله: لاتعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير ! وعن الصادق عليه السلام قال: قام عيسى بن مريم عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل ، لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم. ولقد أحسن القائل:
----------------------- [ 53 ] -----------------------
ومن منحَ الجُهَّال علماً أضاعهُ
ومن منعَ المستوجبين فقد ظلمْ
وفصَّل آخرون فقالوا: إن كان فساد نيته من جهة الكبروالمراء ونحوهما فالأمر كذلك، وإن كان من جهة حب الرئاسة الدنيوية فينبغي مع اليأس من إصلاحه أن لايمنعه، لعدم ثوران المفسدة وتعديها، ولأنه لايكاد يخلص من هذه الرذيلة أحد في البداية ، فإذا وصل إلى أصل العلم عرف أن العلم إنما يطلبه للسعادة الأبدية بالذات ، والرئاسة لازمة له ، قَصَد أو لم يقصد».
علم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام الخاص
عقد الكليني رحمه الله في الكافي (1/41) باباً بعنوان: (باب بذل العلم) روى فيه روايات ، وفيها صحيح السند .كما أورد الشهيد الثاني رحمه الله في منية المريد/184، ما يشعر بوجوب بذل العالم لطالبه، قال:
« السادس: بذل العلم عند وجود المستحق وعدم البخل به ، فإن الله سبحانه أخذ على العلماء من العهود والمواثيق ما أخذه على الأنبياء عليهم السلام لَيُبَيِّنُنَّهُ للناس ولايكتمونه . وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قرأت في كتاب علي عليه السلام : إن الله لم يأخذ على الجهال عهداً بطلب العلم ، حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهال ، لأن العلم كان قبل الجهل . وعن أبي عبد الله عليه السلام في هذه الآية: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً ، قال: ليكن الناس عندك في العلم سواء . وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام : زكاة العلم أن تعلمه عباد الله ».
والمعنى الأولي لذلك أن تدريس العلم وتعليمه واجب على العلماء والطلبة ،
----------------------- [ 54 ] -----------------------
وسيرة سلفنا الصالح في حوزاتنا العلمية أن لايأخذ الأستاذ أجرة ، وقد بحث فقهاؤنا أخذ الأجرة على الواجبات والمستحبات .
لكنا غرضنا هنا أن نبحث كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي نص فيه على أنه لايكاد يجد طالب العلم الذي يستحق أن يبذله له !
قال عليه السلام : «ياكميل العلم دينٌ يدان به ، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته . والعلم حاكمٌ والمال محكومٌ عليه .
يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر . أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة . ها ، إن هاهنا لعلماً جماً ، وأشار إلى صدره ، لو أصبت له حملة ! بلى أصبت لقناً غير مأمون عليه ، مستعملاً آلة الدين للدنيا ، ومستظهراً بنعم الله على عباده ، وبحججه على أوليائه. أو منقاداً لحمَلة الحق ، لا بصيرة له في أحنائه ، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة. ألا لا ذا ، ولاذاك ! أو منهوماً باللذة ، سلس القياد للشهوة ، أو مغرماً بالجمع والإدخار، ليسا من رعاة الدين في شئ ، أقرب شئ شبهاً بهما الأنعام السائمة! كذلك يموت العلم بموت حامليه !
اللهم بلى ، لاتخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته. وكم ذا، وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلُّون عدداً والأعظمون قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم . هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ،
----------------------- [ 55 ] -----------------------
وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى . أولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه . آه آه شوقاً إلى رؤيتهم! إنصرف ياكميل إذا شئت».(نهج البلاغة:4/36).
فالإمام عليه السلام يتكلم عن علم خاص لم يجد له أهلاً، وإلا فقد بذل هو العلم أكثر من غيره، فهو يقول للمسلمين إن عدم بذله هذا العلم الخاص ليس بخلاً عليهم بل لأنه لايجوز بذله إلا لأهله، وهم الأئمة من بعده عليهم السلام ، وبعض الخاصة مثل ميثم التمار ، وحبيب وكميل، كلٌّ بما يستطيع أن يتحمل، ولو بذله لعامة الناس لأساؤوا استعماله ، فهو من باب قوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ .
فوائد مجالس الأستاذ وأحاديثه وكلماته
كنا نقضي وقتاً كثيراً مع أستاذنا آية الله الشيخ إبراهيم سليمان رحمه الله ، فقد كان يحبنا ، وكان بيته مفتوحاً للزائرين ، وقد استفدت كثيراً ، من أحاديثه وتعامله مع الناس ، ومن مجالس العلماء في بيته . فكانت السنتان وكسراً التي أمضيتها عنده ، مرحلة تأسيسية في البناء الفكري والروحي ، وكانت دراستي متواصلة ، فلم نعطل إلا أيام الجمعة ويوم عاشوراء ، وأوقاتاً قصيرة أذهب فيها الى قريتنا ، كما كان أستاذنا رحمه الله قليل السفر .
----------------------- [ 56 ] -----------------------
وقد درست في هذه المدة: شرح قطر الندى ، وألفية ابن مالك بشرح ابنه ، وقسماً من مغني اللبيب لابن هشام، وحاشية ملا عبدالله اليزدي في المنطق، وهي تعليقة على كتاب تهذيب المنطق للتفتازاني ، وقسماً من شرح الشمسية في المنطق لقطب الدين الرازي ، وهو من تلاميذ العلامة الحلي رحمه الله .
والمختصر في المعاني والبيان ، وقسماً من المطول للتفتازاني ، والدر الثمين للسيد الأمين ، وقسماً من شرائع الإسلام للمحقق الحلي ، وقسماً من اللمعة الدمشقية وشرحها للشهيدين .
والأهم من إتقان هذه المواد ، الفوائد الكثيرة من الأستاذ رحمه الله في العقائد والفقه والتاريخ والسيرة والأدب ، والتعرف منه على العلماء الذين درس عندهم وزاملهم وعاصرهم ، وكثير من قصصهم التربوية للطالب .
فعندما كان يوجهنا الى الإهتمام بالمباحثة ، كان ينقل قصص المباحثة ، وينتقد الطالب الذي يكابر ويجادل ولايعترف بخطئه عندما يتبين له وجه الحق ، ويمدح الشيخ يوسف الفقيه رحمه الله ويقول: ما رأيت مثله! فقد كان في عمر والدنا ، لكن عندما نناقشه في مسألة ويتبين له خطؤه ، يتغير فجأة من مدافع متشدد الى شاكر مؤيد فيقول: أحسنت أحسنت ، انتبهت الى وجه الحق في المسألة ، جزاك الله خيراً .
وكان أستاذنا رحمه الله يهتم بالقصص المؤثرة المفسرة للآيات والأحاديث الشريفة . وقد حفظت منه الكثير ، جزاه الله خيراً ، وقدس نفسه الزكية .
* *
----------------------- [ 57 ] -----------------------
أكملت قطر الندى فأخذني الوالد الى السيد رحمه الله
جاء الوالد رحمه الله الى البياض ليزورأستاذي الشيخ رحمه الله ويتفقدني، فأخبرته أني أكملت القطر وبدأت بدراسة الألفية، ففرح بذلك وأخذني معه الى صور لزيارة السيد شرف الدين رحمه الله وكأنه كان أخبره أني في أواخر القطر.
فلما دخلت وسلمت أجابني السيد رحمه الله باستبشار:وعليكم السلام،أهلاً وسهلاً، إعرب: أهلاً وسهلاً. فقبلت يده وجلست وأجبته: مفعولين لفعلين محذوفين وتقديرهما:قدمت أهلاً ومشيت سهلاً. فقال:أحسنت ، أحسنت ، الديك الفصيح من البيضة يصيح . إعربها ، إعربها ! فقلت له: الديك مبتدأ ، فقال: أين خبره؟ قلت: جملة يصيح . فاستبشر وقال: أحسنت أحسنت ، بأبي أنت وأمي ، الآن أسألك شعراً: يقول سيد جليل عن ثأر جده الحسين عليه السلام :
ما لي أسالمُ قوماً عندهم تِرتي
لا سالمتني يدُ الأيام إن سلموا
فأخذت أعربه فكنت أصيب وأخطئ ، فإن أصبت شجعني وفدَّاني ، وإن أخطأت صحح لي كأني لم أخطئ ! ثم قال لي: إذهب الى الداخل وقل للحاجَّة تعطيك سبحة وتربة للوالد ، وسبحة وتربة لك ، فذهبت ووجدت امرأة كبيرة السن ، فأعطتني ما أمر به السيد رحمه الله ، وأعطاني هو كتاب: الى المجمع العلمي العربي بدمشق ، وهو ردٌّ على رئيس المجمع محمد كرد علي ، ينقض فيه تجنياته على الشيعة .
----------------------- [ 58 ] -----------------------
وقد فكرت كيف أمرني السيد رحمه الله أن أذهب الى داخل بيته ، وأنا مميز وعمري أكثر من ثلاث عشرة سنة؟ وقدرتُ فيما بعد أنه رحمه الله لايرى التمييز وحده موجباً لحرمة النظر ، فإن لم يكن المميز من أهل النظر بريبة فلا يحرم.
العلاقة بين طلبة الحوزة وطلبة الكليات الأدبية
يشعر طلاب الفروع الأدبية في الجامعات بنوع من الزمالة مع طلبة الحوزة ، لأنهم مثلهم يدرسون قواعد اللغة وأدبياتها. وهم يحترموننا لأنا نتعمق في اللغة أكثر منهم ، وندرس أهم مراجع النحو، ونتعمق في الدراسة أكثر من طلبة الجامعات ، ونتباحث في المسائل النحوية في مجالسنا أكثر منهم .
وكان بعض الناس يعرفون هذه الزمالة ، ويحبون أن يروا المناقشات أو المباراة بين طلبة الحوزة وأساتذة اللغة العربية في المدارس .
كنت يوماً في صور أنتظر السيارة الى قانا ، وكان وقت انتهاء الدوام ظهراً وخروج الأساتذة من الثانويات ، فتقدم اليَّ أحدهم وكان يعرف أني طالب علم فقال: أيها الشيخ الصغير كيف تعرب:
ذراني والفلاةَ بلا دليل ٍ** ووجهـيَ والهجـير بلا لثــامِ
فأجبته ، وسألني آخر فأجبته ، فاجتمع عدة منهم يسألوني ويعجبون من معرفتي بالنحو على صغرسني! وكان قربنا بائع فلافل ضخم الجثة يلقب (شحِتُّو) فقال: ليس هذا من الإنصاف ، تسألون أنتم الشيخ الصغير ، يجب أن يسألكم هو! قال أحدهم فليسأل ، فسألتهم عن إعراب قوله:
----------------------- [ 59 ] -----------------------
صالحاً صالحاً وإن جا بجرم ج**سالكٌ سالكاً سبيل الرشاد
فلم يعرفوه ، لأن نطق التنوين والنون واحد ، وحقه أن يكتب: صالحن . سال كن . ومعناه صالحْ صالحاً ، ويا سالمْ كن سالكاً .
ففرح بائع الفلافل ورفعني بيديه قائلاً: ديكي الشيخ الصغير، هيا إسألوه وليسألكم ، والجائزة عليَّ ! فكأن المسألة عند صاحبنا مباراة ديكة !
واستكملنا الأسئلة وودعني الأساتذة باحترام ، وأراد صاحبنا الطيب بائع الفلافل أن يعطيني جائزة ، فلافل ، فشكرته وانصرفت .
وكنت كلما ذهبت الى صور ورآني ، يترك عمله في دكانه ويأتيني مرحِّباً ، ويطلب مني أن أقف عنده حتى يأتي أساتذة اللغة العربية ، فلا أقبل ، فيلتفت يميناً وشمالاً ، لعله يرى أحداً منهم فيدعوه الى مباراتي !
* *
استكشفت أودية البياض وربواتها
كنت وزميلي الشيخ نجيب رحمه الله مختلفين في السليقة ، فأنا أحب الحركة في برِّية البياض للصيد أو التنزه والإستطلاع ، وهو لا يحبها .
وكان يخاف من الحيات والكلاب والظُّلْمة ، وكنت لا أخاف منها ، بل أطارد الحية حتى لو كانت كبيرة حتى أقتلها أو تهرب .
أما الكلب فقد سمعت يوماً أنه يطارد الإنسان الذي يهرب منه ، ويخاف من الإنسان الذي يهاجمه ، فيهرب منه ، فقلت لأجرب أن أهاجمه ، فجربت فهرب مني ،
----------------------- [ 60 ] -----------------------
فصرت أهاجمه وأمسك بذيله وأدور به بسرعة عدة دورات ، ثم أتركه دفعة واحدة ، فيهرب خائفاً وهو يعوي !
كان زميلي يطمئن إذا خرج معي الى البرية ، حتى لو رأينا حية أو هاجمنا كلب! لكنه لايحب الخروج إلا إذا كنا مجموعة وذهبنا لنجلس في مكان قريب ومعنا سماور الشاي. ولم يكن لي رفيق في القرية غيره،فصرت أذهب الى البرية وحدي!
كنت في الصيف والربيع أذهب بعد إكمال دروسي ، ومعي بندقية لصيد العصافير، فاستكشفت أراضي البياض من جهاتها الأربع ، وحفظت أكثر أوديتها من جهة قانا ، فقد كانت عامرة بالكُرُوم (البساتين) والعصافير.
وكان استكشاف أودية البياض سهلاً عليَّ ، لأني تعودت على جبال ياطر وأوديتها وهي أضعافها في العمق والوعورة ، وأشجار الغابات .
فقريتنا تعتبر من الجبل وترتفع عن سطح البحر نحو800 متراً ، بينما تعتبر البياض من الساحل ، ولاترتفع عن سطح البحر نصف ذلك .
كما تتميز قريتنا بأن مساحة غاباتها والأودية التابعة لها أكثر من غيرها من قرى جبل عامل ، فهي تمتد جنوباً الى حدود فلسطين ، ومن الجنوب الغربي الى ساحل صور. وأوديتها عميقة ، وأقربها الى القرية وادي الدُّب ، ثم وادي النِّطَارة ، وأطولها وادي العيون الغنية بالمياه، وتستمر حتى تصل الى ساحل البحر بين الناقورة وصور . وأكثر أوديتها غابات خضراء .
----------------------- [ 61 ] -----------------------
أما البياض ففيها وادٍ واحد عميق من جهتها الجنوبية الشرقية ، هو وادي عاشور ، وبقية أوديتها عادية ، وجبالها أقرب الى الربوات .
وفي الربيع اكتشفت مكاناً صالحاً للسكن قرب قرية البياض ، كَرْماً في زاويته من جهة الطريق غرفة ، تُخيِّم على سطحها شجرة لَوْزٍ وارفة .
حاولت أن أقنع زميلي بالسكن هناك ، وقلت له: نسكن في الشتاء في الغرفة ، ونصنع في الصيف خيمة على سطحها. فقال إني أخاف في الليل ، فقلت له نَمْ أنت في الغرفة وأنا على سطحها ، وطمأنته بأن عندي كلب حراسة ، هو كلب ماشية محمد الشيخ محمود ، فلم يقبل .
وقصة هذا الكلب أنه كان أبيض ضخماً مميزاً ، فكنت أطعمه باستمرار ، وربما أخذت له بعض زوائد اللحم من القصاب الوحيد في القرية ، وهو صاحب دكان البلدة ، وصاحب قطيع الماعز ، ومالك الكلب .
كان محمد محمود رحمه الله شخصية مميزة في هدوئه وأخلاقه ومحبته ، وكان أهل القرية يتحدثون عن قصص قوته البدنية ، وكان يعرف أن كلبه اتخذني صديقاً ، ويتعجب من سرعة مجيئه اليَّ إذا سمع صوتي ، ولو من بعيد !
قررت أن أسكن وحدي ، واستجزت أصحاب الكَرْم فأجازوا ، وكان أهل القرية يحبونني ويثقون بي ، فنقلت أسبابي ، وعلَّمت الكلب أن ينام عند الغرفة فكان إذا رجع مع القطيع عند الغروب يأتي لأعشيه وينام ، فإذا سمعتُ
----------------------- [ 62 ] -----------------------
أجراس فحول القطيع بعد شروق الشمس، قدمتُ اليه الطعام ، وأشرت اليه بأن يذهب الى قطيعه ، فيذهب ويعود مساء !
كان أستاذنا رحمه الله يعرف مجريات حياتنا، ولا يعترض على سكني في طرف البلدة ولا على ذهابي الى البرية أياماً في الأسبوع ، بل يبدي إعجابه وثقته بي ، ويمدح شجاعتي، ويشجع زميلي أن يكون مثلي ، وكان مطمئناً الى أني أعطي الأولوية لدروسي ، ولا أغيب عندما يجب الحضور في بيته .
* *
التطبيق الطفولي للفقه الذي نتعلمه
تعلمت أحكام الوضوء ، وكنت ألاحظ الخلل في وضوء البعض فأتعجب لكن لا أجرؤ على تنبيهه الى ذلك ، لأني سمعت من أستاذي قصة الحسن والحسين صلى الله عليه وآله كيف علما شخصاً الوضوء بأن طلبا منه أن يكون حكماً بينهما أيهما وضوؤه أصح ؟ فلما توضآ أمامه انتبه الى قصدهما وقال: جعلت فداكما وضوؤكما صحيح ووضوئي فيه خلل، وقد أردتما أن تنبهاني فشكراً.
لكن غلبني الفضول يوم رجعت من البرية ومررت على مقبرة القرية ، فوجدت شيخاً في نحو السبعين يجلس على باب خيمة على قبر ، وكان ابنه داخل الخيمة يقرأ القرآن. كانا من قرية عيثيث مستأجرَيْن لقراءة القرآن على روح الميت ثلاثة أيام متواصلة ، فهما يتناوبان القراءة ليلاً ونهاراً ، يستريح أحدهما ويقرأ الآخر، فجلست الى الشيخ وكان يأنس بي ويقول لي: سمِّعْنِي ماذا تعلمت من الشيخ، فرأيت أن شواربه طويلة كلحيته فقلت له: سمعت من الشيخ أن النبي عليهما السلام قال:
----------------------- [ 63 ] -----------------------
حُفُّوا الشوارب واعفوا اللحى ، وأراك أطلت شواربك ! قال: نعم الحق معك يا علي . فقلت له: إذا أردت قصرتهما لك ، فعندي مقص صغير . قال: نعم ، قصرهما بارك الله فيك .
فأخذت المقص وقصصت شواربه حتى جعلتها جماء ، فرآه أحدهم بعد ذلك وقد تغير منظره ، فسأله: لماذا فعلت بنفسك هكذا؟ فقال: هذا الشيخ الصغير علي ، قرأ علَّي الحديث وقص شواربي !
وأخبر الشخص أستاذنا ، ولما دخلت عليه قال: تعال ياشيخ علي خبرنا كيف قصصت شوارب الشيخ فلان ! فحكيت له ، فضحك وأعجبه فعلي!
* *
دجاجة الشريفة خالة أهل البياض
كانت هذه السيدة جارتنا ، وهي في الثمانينات من عمرها ، قصيرة القامة عابدة ، وكانت مَحْرَماً على أكثر أهل القرية ، لأنهم كانوا عقدوا زواجها وهي طفلة على جدهم الأكبر ، فهم ينادونها خالتي الشريفة !
وكانت محتاطة في طهارة مأكلها ومشربها، فهي تحضِّر طعامها بيدها، وإذا أصر عليها أحدٌ بضيافة أو هدية تأكل من طعامهم ، ثم تطهر فمها .
كان عندها دجاجات تُهدي من بيضها ، وتخصني بسهمٍ حتى بعد أن سكنت بعيداً عنها ، وفي صباح أحد أيام الشتاء كنت آتياً من سكني خارج القرية الى بيت أستاذي ، فوجدت الشريفة في الطريق مشدوهةً ، ولما رأتني صاحت: يا شيخ علي أنظر! أخذها أخذها ، ها ، ذاك هو ، نزل من هنا !
----------------------- [ 64 ] -----------------------
ونظرت فرأيت الثعلب يحمل دجاجة ويركض منحدراً باتجاه مرج الصفراء في وادي عاشور ، فركضت خلفه وضربت عليه أحجاراً فسبقني وغاب بين الصخور ، فصحت بكلب حراستي مراراً وإذا به جاء فأشرت له باتجاه الثعلب وركضت فركض معي ، وكأنه شم رائحته أو رآه فسبقني وتوغل بين الصخور الكبيرة ، وبعد دقائق عاد وفي فمه الدجاجة مجروحة في جناحيها فأخذتها منه ، وصعدت بها الى الشريفة ، ففرحت!
قال لي أحدهم لقد رأيت الكلب في الجهة الثانية من وادي عاشور ، منقضاً من ذلك الجبل كالسهم ، فتعجبت حتى عرفت أنك ناديته فجاءك !
دير عامص والحاج سعيد الآغا
كنت معنياً بمعرفة الناس والقرى ، وقد استفدت كثيراً من فترة العصر في بيت أستاذنا رحمه الله ، وكان يجلس ويعمل في تأليف ، ويستقبل زائريه الذين يأتون من القرية وخارجها للأنس وشرب الشاي ، أو لمعرفة مسألة شرعية أو لطلب المساعدة في حل مشكلة . كما كنت أذهب مع أستاذي الى بعض هذه القرى ، في مناسباتهم . وأقرب القرى الى البياض دير عامص وتكاد تتصل بها ، وأصلها عاموس ، وهو من أنبياء التوراة وفيها سفر عاموس .
كما أن عاموص قرية قرب بيت لحم (معجم البلدان:4/72) وأسماء قرى جبل عامل من أصل سرياني ، أو عبراني ، أو عربي ، أو روماني . والبياض والبياضة إسم عربي للأرض التي يغلب عليها البياض .
----------------------- [ 65 ] -----------------------
كان كثيرون من أهل دير عامص يزورون الشيخ رحمه الله ويرونني عنده ، أدرس أو أقدم لهم الشاي ، أو أستمع الى أحاديثهم . وبذلك تعرفت على عدد منهم . ومنهم المرحوم السيد حسين بزون ، وهو من وجهاء قريته ، وأصل هذه العائلة من العراق ، وهم سادة معروفون .
ومنهم الحاج أحمد البنا ، وهو معمار: كان يذهب في شبابه الى فلسطين ويعمل في البناء هناك ، وله قصة سمعتها من أستاذي ، ثم سألته عنها .
ومنهم أولاد الحاج خليل دبوق ، وهم أخوال زميلي الشيخ نجيب رحمه الله .
وكنت أذهب الى دير عامص ، إما وحدي أتصيد في جوارها حتى أصل الى كتف وادي عاشور العميقة الوعرة ، وأحياناً أذهب مع أستاذنا في مناسبة دينية أو مع زميلي الشيخ نجيب الى بيت خاله .
ومن طرائف أهل هذه القرية أن أحدهم قال لأستاذنا: يامولانا ماذا أعمل! أنا دائماً أغضب وأسبُّ زوجتي ، وهذا حرام لكني لم أستطع تركه !
فقال له الشيخ رحمه الله : أنا أعلمك طريقة: إذا غضبت فاصرخ عليها على عادتك ، لكن بدل أن تقول (الله يلعن أباك) قل (اللهم يرحم أباك) ! وقل لها ما تريد واصرخ عليها كما تشاء ، لكن غَيِّر اللعنة الى رحمة ، وما شابه!
وبعد مدة عاد الرجل وسلم على الشيخ وهو يبتسم ، وقال: الله يرحم والديك ياشيخنا ، ضَبَطَتْ المسألة ، أي نجحت .
وذكرأن زوجته أخذت تضحك من صراخه بالترحم والدعاء لها ولأبيها وأمها!
----------------------- [ 66 ] -----------------------
ومن طرائفهم المرحوم الحاج سعيد الآغا ، وكان مشهوراً في المنطقة بأنه يمسك الضبع ويركبه ، وبأنه يستطيع أن ينام وهو يمشي !
وذات يوم أخذني أستاذي معه ليزور الحاج سعيد الآغا ، وقد عضه الضبع في رجله ، فوجدناه في فراشه وكان ضخم البدن أجش الصوت ، يحق للضبع أن يخاف منه ! فحدثنا كيف أمسك الضبع وكيف عضه ، قال:
أصطاد الضبع بأن أختبئ في الغابة وأبكي كالطفل فيأتي الضبع ، لأنه يأتي على صوت الطفل ! وأكون حضَّرت له فخاً بحبل ، وبيدي عصا غليظة ، والمهم أن أمسك بأذنيه حتى أسيطر عليه بسهولة ، ثم أربط فمه بالحبل وآتي به الى القرية ، وقد أركب عليه فيكاد يحملني إن كان كبيراً، أو أمشي وأنا راكب عليه إن كان صغيراً ! وأبقيه عندي حتى آخذه الى سوق يوم السبت في جُوَيَّا فأبيعه !
وهذا الضبع جئت به وربطته هنا في محوطة الماشية ، وفي اليوم الثاني جاؤوا يصيحون بأن الضبع أفلت من رباطه ، فصعدت الى حائط الصِّيرة (المحوطة) وأنزلت السُّلَّم من داخلها وأخذت بيدي عصا معول ، وما أن نزلت الى أسفل السلم حتى هاجمني الملعون ، فضربته بالعصا على رأسه فأمسكها بأسنانه وتلها من يدي حتى كسرها ، وعضني في أصابع رجلي ، فناولوني عصا ثانية فضربته وسيطرت عليه ، وربطته ربطاً محكماً !
سأله الشيخ: كيف صار جرحك الآن ، وماذا عملت له ؟ فأخرج قدمه الضخمة فإذا فيها آثار عضة الضبع في أصول أصابعها ، قال: أنا داويتها ولا
----------------------- [ 67 ] -----------------------
أحتاج الى طبيب ، قلت لهم أعطوني زيت زيتون مغلياً ، فصببته على عضة الضبع وربطت قدمي ، تألمت في وقتها كثيراً ، ثم أخذت أتحسن !
وذات يوم زرت بيت الحاج سعيد رحمه الله ، وكان ابنه أبو عباس يحب الأدب ويقرأ لي ما أعجبه من الشعر ، وكانت والدته حسنة الأخلاق تحتفي بي إذا زرتهم ، وتطلب أن أبقى الى وقت الغداء أو العشاء ، فلا أقبل .
سألت الحاج سعيد: سمعت من الشيخ يا حاج أنك تمشي وأنت نائم؟ فقال: نعم ، أنام حتى لو كنت ماشياً في وادي عاشور! وهي واد عميقة وطريقها صعب! فسألته: وإذا وصلت الى مفرق ، فهل تعرف الطريق وأنت نائم ؟ قال: إذا وصلت الى مفرق أستيقظ ، فأحدد مسيري ثم أنام !
وبعد سنوات حاولت أن أقلده وأنا أسير في طريق كربلاء ، فلم أنجح !
كنا نمشي من النجف الى زيارة الحسين عليه السلام بجانب الشارع فحكيت قصة الحاج سعيد الآغا لزميليَّ السيد علاء الدين الحكيم والسيد مرتضى الحكيم رحمهما الله ، وقلت لهما أنا أنام في أي وقت ، وأريد أن أجرب اليوم النوم ماشياً ، فراقباني حتى لا أميل الى الشارع ، فتدهسني سيارة !
وآخرما أذكره قبل أن أنام أن رجلاي كانتا تتحركان هبوطاً وصعوداً ! ونمت حتى أيقظني زميلاي وقالا: أيقظناك لأنا خفنا أن تميل الى الشارع ، فقد خَفَّت سرعتك ولم تمش في خط مستقيم، بل كنت تميل يميناً أو شمالاً !
----------------------- [ 68 ] -----------------------
ومن طرائف أهل دير عامص: أن رجلاً منهم زار الشيخ رحمه الله وكان أخبرنا عنه أنه يأكل الربا ، وكنت سمعت من الشيخ أنك لو أخذت تراباً من تحت قدمي آكل الربا ووضعته على بيت النمل يهرب النمل !
وكان في حديقة الشيخ الصغيرة بيت نمل عجزنا عن معالجته بالأدوية وبالنفظ فقررت أن آخذ له تراباً من تحت قدم ذلك الرجل !
فوضعت له كرسياً على التراب وحفظت مكان قدميه ، ولما ذهب أخذت من موضعهما تراباً ، فسألني الشيخ: ما ذا تريد به ؟ قلت له: أريد أن أضعه على بيت النمل، فتبسم ، ووضعته عليه ! وفي اليوم التالي لم نجد أثراً للنمل! فقد غادر ، وكأنه اشمأز من رائحة آكل الربا !
دير انطار والحاج عبد الله حجيج
ومن طرائف قرية دير أنطار، أن الحاج محمود حجيج رحمه الله كان عنده كتاب فيه طريقة حساب العمر، وكان يخبر الشخص متى يموت ويصدق قوله! وقد حدثنا أستاذنا رحمه الله أن الحاج خليل دبوق جد زميلي الشيخ نجيب في دير عامص ، كان صديق الحاج محمود المذكور ، وذات يوم ركب الحاج محمود فرسه صباحاً وكان في قريته دير انطار ، فسألته زوجته الى أين؟ فقال: الى تشييع الحاج خليل دبوق في دير عامص ، فسألوه هل مات؟قال: اليوم يموت! وكان الوقت صباحاً والمسافة بين قريته ودير عامص ساعات وكان الحاج خليل في ذلك
----------------------- [ 69 ] -----------------------
الصباح صاحياً سالماً ، فصلى الظهر وسجد ، فتوفي وهو ساجد رحمه الله !ووصل الحاج محمود بعيد وفاته فشارك في تشييعه!
وكان أستاذنا يعتقد بصحة حساباته ، وقد توفي رحمه الله وورَّث كتابه الى ولده الحاج عبد الله ! وقد كتب أستاذنا في كتاب ترجمة حياته /78 ، عن الحاج عبدالله قال: «وقد ورث هذا العلم عن والده كما روى لي بنفسه . وقد أخبرعن وفاة كثيرين وعن آجالهم ، وصدقت نبوءته ».
ثم ذكر أستاذنا عدداً من نبوءاته التي صدقت ، وقال: « وفي إحدى الزيارات طلبت اليه أن يخبرني عن عمري ، فإن كان أجلي قريباً فلا تخبرني وإن كان بعيداً فأعلمني به ، فنظر اليَّ نظرة فاحصة ثم سألني عن برجي ، ثم سألني عن إسم الوالدة ، وبعد إجراء حساباته قال: عمرك مثل عمري طويل، لكن أمامك قطوعاً إذا بلغ عمرك سبعة وخمسين عاماً، فإن سلمت منه تعش هذا العمر»! (حياة الشيخ إبراهيم سليمان بقلمه/78 ، دار الأضواء 1427).
وسمعت من أستاذي رحمه الله قصة مشابهة عن شيخ من قرية عيثيث نسيت إسمه ، قال إنه كان مدعواً لعقد قران في قرية وادي جيلو ، وكان من عادتهم أن يصلوا الظهر ثم يذهبوا الى بيت والد العريس، فيتغدوا ثم يجروا مراسم العقد ، ويزفوا العروسين . فكان ذلك الشيخ يتغدى ، فعطس أحدهم عطسة من نوع ما ، فوجل الشيخ ، وقال لمرافقه: إنْهِ طعامك وقم بنا نذهب، هذا العرس يتحول الى عزاء ، ونهض! فتعجب الناس وحاولوا إبقاءه فقال لهم: ليعقد العقد غيري
----------------------- [ 70 ] -----------------------
لا بد أن أذهب! وركب حماره وذهب ، فما لبث العريس أن مات بالسكتة بعد نحو ساعة ، فجعلوا عرسه مأتمه !
مزرعة مشرف والشيخ حسين سليمان
تعرفت على قرية مزرعة مشرف ، التي تقع مقابل البياض، ويفصل بينهما وادي عاشور ، وهي واد عميقة حادة ، لا يمكن النزول اليها مباشرة من جهة البياض ، ولا الصعود منها مباشرة الى مزرعة مشرف ، بل لابد من الدوران من جهة مرج الصفراء ، الذي يقال إنه باسم الصفراء زوجة موسى عليه السلام ، وإن الحرب بينها وبين وصيه يوشع بن نون عليه السلام كانت فيه ، وقد وردت الرواية في حربهما ، لكن لا دليل على أنها في مرج الصفراء هذا.
قال في أعيان الشيعة:10/125، عن مزرعة مشرف: « الشيخ مشرف الوائلي العاملي من آل علي الصغير ، توفي في صيدا سنة1112في صفر ، واليه تنسب مزرعة مشرف التي فوق وادي عاشور بساحل صور، وداره فيها باقية للآن ، وبنى فيها مسجداً كبيرا إلى جهة الغرب هو الآن خراب . حدثني بعض آل سليمان وهم بيت علم قديم ، أن أحد أجداده من العلماء الصلحاء كان في المزرعة أيام الشيخ مشرف ، فلما بنى المسجد المذكور لم يصلِّ فيه ذلك العالم لأن بانيه ظالم ! وبنى مسجداً بيده يساعده بعض فقراء القرية ، وهو المسجد المشرف على وادي عاشور ويرى من الوادي ».
----------------------- [ 71 ] -----------------------
أقول: تعرَّض جد آل سليمان رحمه الله الى مضايقات الزعيم مشرف ، فهاجر مغاضباً الى البياض ، وأسس هذه القرية .
ومن طرائف مزرعة مشرف ما سمعته من أستاذي ، أن وجيهها والد الحاج عقيل وزني ، أرسل الى الشيخ حسين سليمان رحمه الله وهو عم أستاذنا ، يطلب منه الحضور لأنه مريض مرض الموت ويريد أن يوصي ، فزاره الشيخ حسين رحمه الله فقال له: أدع الله لي أن يمد في عمري حتى يرجع ابني من أمريكا وأراه قبل موتي . وكان الشيخ يصلي في الليل ، فرأى المريض سقف بيته انفتح وفيه شخص واقف يسأل آخر فوقه: هل أنزل ؟ قال له: لا ، إن الشيخ حسين لا يقبل ، وقد جاء الأمر بتمديد عمره خمس سنوات !
فكبَّر المريض وأخبرهم بما رأى ، وشفي ، وعاش خمس سنوات بالضبط وجاء ولده بما جمعه من ثروة ، وقرت به عينه !
قانا الجليل المجاورة للبياض
وتعرفت على قرية قانا ، ويبدو أنها قانا الجليل المذكورة في الإنجيل ، قال في قاموس الكتاب المقدس/709: « قانا الجليل:وقانا إسم عبري معناه مكان القصب، وهي مدينة شهيرة صنع المسيح أعجوبته الأولى فيها وهي تحويل الماء إلى خمر (يو2: 1) وبعد ذلك صنع عجيبة ثانية فيها وهي شفاء ابن خادم الملك (يو4: 46) وكانت وطن نثنائيل ( يو21: 2) وكل ما نعرفه من الإنجيل عن موقعها هو أنها في الجليل بمكان عال بالنسبة إلى كفر ناحوم ، إذ يقول يوحنا في إنجيله (يو2:12)
----------------------- [ 72 ] -----------------------
وبعد هذا انحدر إلى كفر ناحوم وخادم الملك الآتي من كفر ناحوم إلى قانا حيث كان يسوع طلب منه أن ينزل ليشفي ابنه (يو4:46و47) ويرجح أنها خربة قانا شمالي الناصرة بثمانية أميال.وهناك عيون ماء ومستنقعات كثيرة القصب. يوسيبيوس وجيروم يؤيدان هذا الرأي بقولهما إن قانا الجليل تقع بالقرب من صيداء.ويقول بعضهم إنها كفركنا،التي تقع شمال شرقي الناصرة بأربعة أميال».
وفي قاموس الكتاب المقدس/710: «قانة: اسم عبري معناه موضع القصب وهو اسم مدينة في أشير(يش 19: 28) غير قانا الجليل المار ذكرها ، والمرجح أنها هي القرية الكبيرة المسماة اليوم باسم قانا الواقعة على بعد نحو6 أميال إلى الجنوب الشرقي من صور ».
ونلاحظ أن هذا المرجع الكنسي يجعل قانا التي زارها المسيح عليه السلام قرب الناصرة ، لكن الشهرة والعمل في لبنان على أنها التي قرب صور . ونحن نقبل الشهرة لكن لا نقبل رواية أن المسيح عليه السلام ساعد الناس على شرب لخمر وحوَّل الماء الى خمر ، لأن الخمر محرم في دينه وفي كافة الأديان ، وقد نصت على ذلك التوراة والإنجيل .
وفي قانا سوق الأحد ، يقصده الناس من القرى للتسوق . وفي بنت جبيل سوق الخميس . وفي النبطية سوق الإثنين . وفي جُوَيَّا سوق السبت . وهكذا قسموا الأسواق في جبل عامل على قرى الجبل والساحل .
----------------------- [ 73 ] -----------------------
وتعتبر مع البياض ساحلاً وقريتنا جبلاً، وكنت أذهب الى قانا في طريقي الى قريتنا ياطر ، وأحياناً مع أستاذنا لزيارة صديقه الوجيه الحاج حسن فتوني . وآل فتوني أصلهم من النبطية ، ومنهم الشريف أبو الحسن الفتوني رحمه الله جد صاحب الجواهر رحمه الله لأمه ، فآل الفتوني أخوال آل الجواهري ، وله كتاب ضياء العالمين في العقائد ، يجري إعداده للطباعة.
وفي قانا آل الصائغ ، وجهاء وعلماء ، وقد عرفت منهم الشيخ بدر الدين الصائغ ، وقد توفي السنة الماضية رحمه الله وجاوز المئة سنة ، ولعله آخر تلامذة الميرزا النايني رحمه الله . وعرفت ابنه الشيخ جعفر الصائغ رحمه الله ، وكانت له فراسات عجيبة يخبر فيها عن أحداث فتقع كما أخبر ! وله ابن فلكي معروف هو المهندس محمد علي الصائغ ، نابغ في الفلك والحساب .
وفي قانا حيٌّ مسيحي فيه كنيسة ، يقع على قرن البلد من جهة البياض. ويتعايش أهلها مع الشيعة في المنطقة ، وتربطهم بهم علاقات حسنة .
ولا يتسع المجال لذكر بقية القرى في محيط البياض . وهي أبعد عنها نسبياً.
تعرفت على شخصيات عديدة في البياض
أول من تعرفنا عليه من العلماء الشيخ سليمان سليمان رحمه الله ، ابن عم أستاذنا ، وكان هادئاً خلوقاً، يحبني أنا وزميلي الشيخ نجيب رحمه الله ، ويسألنا في مسألة نحوية أو فقهية ، ويدعونا أحياناً الى منزله.وقد تزوج زميلي الشيخ نجيب من كريمته .
----------------------- [ 74 ] -----------------------
كما تعرفت على المرحوم الأستاذ كامل سليمان رحمه الله أخ أستاذنا ، وهو شاعر وصاحب كتاب يوم الخلاص، وكان مدير ثانوية في صور ، لطيف المعشر ذكي ، وكان ينشدنا قصائد طريفة . سألني ذات يوم: هل تستطيع أن تذهب ماشياً الى قانا (4كم) ولا تضع قدميك إلا على حجر؟قلت: لا. قال: أنا فعلتها ولم تمس قدماي التراب ، بل كنت أقفز من حجر الى حجر !
وتعرفت أكثر على أقاربنا مشايخ حاريص، وكبيرهم الشيخ علي الفقيه ، وكان وجيهاً معروفاً في جبل عامل رحمه الله ، يقصده الناس للحاجات وحل المشكلات ، وكان اجتماعياً من الدرجة الأولى ، مرتب الشكل والحديث .
وكان يرسل أبناءه كلهم الى حوزة النجف ويقول: من أراد منهم أن يبقى ويكون عالماً فبها ونعمت ، وإلا يتعلم ما يحفظ به دينه .
وبقي في النجف ثلاثة من أولاده وصاروا علماء وهم الشيخ يوسف والشيخ عبد الرحمن ، وأكبرهم أستاذنا الشيخ مفيد حفظه الله ، وقد أسس حوزة علمية في حاريص ، وسيأتي ذكره في الحديث عن النجف .
ومنهم الشيخ عبد الإله الفقيه رحمه الله ، وهو زميلي في مرحلة في النجف ، أما كبير آل الفقيه في النجف ، فهو آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه رحمه الله .
كما تعرفت على علماء وشخصيات ، في ذهابي مع أستاذنا رحمه الله الى عدد من قرى المنطقة قانا ، وحناويه ، وعيثيث ، وجويا ، ومزرعة مشرف ، ودير انطار ، ودير عامص ، وحاريص ، وتبنين ، وصديقين ، وزبقين .
----------------------- [ 75 ] -----------------------
قصة الشيخ رضا فرحات مع الشيخ البهائي
وممن تعرفت عليه من العلماء الشيخ رضا فرحات رحمه الله ، وهو من قرية عرب صاليم ، وهو مؤسس مسجد برج حمود في بيروت ، وهي محلة مختلطة من الشيعة والأرمن والمسيحيين .
ونقل عنه أستاذنا أنه أيام كان في النجف وجد عملاً كتبه الشيخ البهائي لمن أراد أن يراه بعد موته فيسأله سؤالاً واحداً !
فعمل الشيخ رضا العمل، فصام الأيام المحددة ، والتزم بالسور والأوراد الخاصة ، وكان في آخرها أن يذهب الى وادي السلام ويجلس وحده الى الزوال ، فيمر عليه الشيخ البهائي رحمه الله فيسأله سؤالاً واحداً ، فيجيبه عليه وهو ماشٍ !
وعرف الطلبة عمل الشيخ رضا ، ومزح معه بعضهم بأنه سيذهب في اليوم المحدد ليرى الشيخ البهائي ، فغضب وحرَّج عليهم أن يخربوا عمله .
وفي اليوم المحدد ذهب الشيخ رضا الى مقبرة وادي السلام وجلس فيها حتى الظهر ، فرأى الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله يمرُّ أمامه هناك فقال له: لقد حرمت عليكم أن يأتي منكم أحد ويخرب عملي ، فلم يجبه ومرَّ ذاهباً .
وعاد الشيخ رضا غاضباً ، ورأى الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله فوبخه لماذا جئت وخربت عملي! فحلف له أني لم تطأ قدمي وادي السلام اليوم !
قال أستاذنا الشيخ رحمه الله : كان الذي مرَّ أمامه الشيخ البهائي رحمه الله وهو يشبه الشيخ محمد جواد مغنية ، وتخيل الشيخ رضا أنه هو ، ولم يسأله مع الأسف .
----------------------- [ 76 ] -----------------------
ونقل أستاذنا عدداً من قصص الشيخ البهائي رحمه الله ، منها أنه زار قرية رأس العين وهي قرب صور معروفة بنبعها الكبير ، فشكى له أهلها نقيق الضفادع وأنه يزعجهم ليلاً ، فأخذ ورقة وكتب عليها شيئاً ، وقال: إرموها في النبع ، فرموها ، فسكتت الضفادع الى يومنا هذا !
كتاب الأوزان والمقادير لأستاذنا رحمه الله
كنت أرى أستاذنا يعمل في تأليف كتاب وأمامه ميزان صغير كموازين الصاغة ، يزنُ فيه حبات حنطة أو حبات شعير بقطع معدنية صغيرة ، فسألته فقال: أعمل في الموازين الشرعية ، وأحولها الى الأوزان السائدة . وقد أكمل كتابه: الأوزان والمقادير الشرعية وطبعه بعد سفرنا الى النجف . كذلك كان يعمل في كتابه:رواة الشيعة وجمهرة الأسانيد ، وبلغ27مجلداً .
وقد أورد رحمه الله في كتاب: حياته بقلمه/68، دار الأضواء 1427، عدداً من مؤلفاته، وعامتها مخطوط ، أذكر منها ما أقدر أنه مميز ، ينبغي طباعته:
1- أعيان آل سليمان . 2- بلدان جبل عامل . 3- علماء جبل عامل 10 مجلدات . 4- أمراء جبل عامل . 5- وقائع جبل عامل . 6- غرر الأدعية 11 مجلداً .
موقف أستاذنا مع القسيس إبراهيم
التبشير المسيحي مفتوح في لبنان ، وكذا التبشير الإسلامي ، لكنهم يعملون ولا نعمل ، ويذهب مبشروهم الى القرى ويستعملون أسلوب الأخلاق والبشاشة ، وقد يتأثر بهم شخص هنا ، وشخص هناك .
وكان يأتي الى البياض قسيس إسمه إبراهيم ، فيتحدث مع من يراه في الطريق
----------------------- [ 77 ] -----------------------
أو البيت الذي يدعونه اليه ، ويوزع الإنجيل وبعض الكراريس .
فشكى أهل القرية للشيخ بأن هذا القسيس قد يؤثر على بعض الأولاد ، فقال لهم إذا جاء الى البلد فادعوه الى بيتنا لأتحدث معه .
وجاؤوا به يوم الأحد ، فرحب به أستاذنا ، وقدم له الشاي ، وقال له: بلغني أنك تدعونا الى عبادة يسوع عيسى المسيح عليه السلام ؟قال: نعم ، إن يسوع جاء بالخلاص لجميع البشر .
قال له: لا بأس ، هل تعرف نسب يسوع الذي تدعونا الى عبادته ، فهو ابن مريم عليها السلام ، ثم ابن مَن؟ قال: إن نسب يسوع موجود في الإنجيل .
قال: نعم رأيته ، فأخرج لنا إنجيل متي واقرأ لنا نسب المسيح عليه السلام . فأخرجه وقرأ ، فقال له أستاذنا: إحسب عدد آباء مريم عليها السلام ، فعدهم ، وقال ثمانية وعشرون . وهم في الواقع ست وعشرون .
قال له: لا بأس، أخرج إنجيل لوقا واقرأ نسبه، فأخرج إنجيل لوقا وقرأه فقال أستاذنا:عُدَّ أجداده كم ترى عددهم؟فعدهم وقال: واحد وأربعون. فقال له: أيها القسيس ، إنك تدعونا الى عبادة شخص لاتعرف نسبه! فأرجو أن تبحث وتحقق نسب ربكم أولاً ، ثم تأتي الى البياض وتدعونا الى عبادته ! فخجل القسيس ، وذهب ولم يعد الى القرية !
قال الشيخ البلاغي رحمه الله : الهدى إلى دين المصطفى:1/173، و246: «إن الأناجيل التي يدعون تواتر سندها إلى رسل موحى إليهم، قد اختلفت اختلافاً كثيراً يوضح
----------------------- [ 78 ] -----------------------
أنها ليست من عند الله ، ويكفي ذلك اختلافها الفاحش في نسب المسيح عليه السلام » .
وقال سعيد أيوب في ابتلاءات الأمم/117:«ولقد تضارب إنجيل متي مع إنجيل لوقا في نسب المسيح إلى داوود ، فبينما يذكر متي أن من داوود إلى المسيح 26جيلاً ، يذكر لوقا إنه 41 جيلاً ! وبينما يذكر متي أن يوسف النجار ابن يعقوب يذكر لوقا إنه ابن هالي ! وبينما يذكر متي أن المسيح من ولد سليمان بن داوود ، يذكر لوقا إنه من ولد ناثان بن داوود ! وبينما يذكر متي أن شلتائيل ابن يكنيا ، يذكر لوقا إنه ابن نيري ! وبينما يذكر متي أن ابن زور بابل يدعى أبيهود ، يذكر لوقا إنه يدعى ريسا » !
من آراء أستاذنا السياسية
كان أستاذنا رحمه الله يسمع الأخبار، لكنه يخفض صوت الراديو حتى تنتهي الموسيقى قبل النشرة . وكان كعامة الناس يهتم بأخبار العدوان الغربي على قناة السويس، ويفرح بانتصار الجيش المصري عليهم ، لكنه كان لايحب جمال عبد الناصر، لأن سياسته في البلاد العربية لاتخدم الشيعة بل تضرهم .
ففي العراق والأردن واليمن يتبنى عبد الناصر الثورة على الملكية وهم على أي حال من بني هاشم ، وفي لبنان يتبنى زعماء السنة ويهمل زعماء الشيعة .
كانت العروبة تعني لأستاذنا حكم الخط السني المعادي للشيعة ، والميزان عنده مصلحة الشيعة ، كما يفهمها ويقدرها رحمه الله .
----------------------- [ 79 ] -----------------------
وفي السياسة اللبنانية كان ينتقد زعماء الشيعة لأنهم لايخدمون طائفتهم ، ويضرب مثلاً لذلك تبليط طريق البياض،ويقول: كلما راجعنا أحمد الأسعد يقول: مشايخ البياض عمائمهم بيضاء وقلوبهم بيضاء ، ويعدنا ولا يفي!
وقد غير ولاءه التقليدي لبيت الأسعد الى بيت الخليل ، لعلهم يخدمون !
لكن بيت الخليل لم ينجحوا في الإنتخابات ، لأنهم محسوبون على رئيس الجمهورية كميل شمعون ، وهو متطرف ضد سياسة عبد الناصر ، بينما وقف أحمد الأسعد الى جانب المعارضة ، وما سمي بالثورة على شمعون !
هكذا كان الجو السياسي في لبنان خلافاًً بين خط عبد الناصر ومعه جمهور السنة وقسم من الشيعة،والخط الآخر ومعه جمهور المسيحيين وبعض المسلمين .
وكان أكثر العلماء نفوذاً آية الله السيد شرف الدين رحمه الله ، فله احترام في أوساط الشيعة ، لكن غاية ما يمكنه فعله أن يخاطب الدولة أو الزعماء مطالباً ببعض الخدمات ، فلا يستجاب له ، أو يستجاب له جزئياً وشكلياً !
وأما زعماء الشيعة السياسيون ، فلم يكونوا أصحاب قدرة على الفعل المستقل، بل يعيشون على الهامش في ظل النفوذ السني أو المسيحي .
ولذا كان تأثير الشيعة في الحياة السياسية في لبنان شكلياً ، وكانت مناطقهم تغرق في الفقر والحاجة والبطالة ، وانعدام الخدمات !
وقد سبب هذا الواقع الصعب ، زيادة في هجرة الشيعة الى المهاجر المختلفة طلباً لعيش أفضل، كما سبب نمو الأحزاب اليسارية ، بشعاراتها التي تنتقد
----------------------- [ 80 ] -----------------------
الواقع العربي وتعد الناس بمستقبل أفضل ، ولم يستطع العلماء والمتدينون من منعها حتى في بيوتهم ! فقد رأيت أن المدرسة الجعفرية في صور التي بناها السيد شرف الدين رحمه الله بتبرعات مغتربي الشيعة ، وبجهود مديدة ، حوَّلها أساتذتها الى مركز لحزب البعث ، وكان هتاف طلابها:
جينا يا مصر جيناكِ
جينا تنناضل وياكِ
نحن الصوت اللي لبَّاكِ
البعث العربي الإشتراكي
وكان أستاذنا رحمه الله يراهم مغرورين تابعين لميشيل عفلق النصراني الغربي.
كنت أعتقد بأكثر أفكاره أستاذنا رحمه الله ، وأطمح الى عمل أساسي أنجح من وسائلنا القروية ، لنشر التوعية في الناس ، وتحقيق النهضة في المجتمع .
لم أكن مقتنعاً بمشروع عبد الناصر ، لأني أراه شعارات أكثر منه عملاً ، ثم هو مشروع سني لا ينصف الشيعة ، وإن كان القوميون يتقربون الى الشيعة بأن عبد الناصر منفتح على الشيعة وزوجته شيعية من أصل إيراني. ولا مقتنعاً بوضع الشيعة في لبنان ، لأني أراهم مضطهدين غير منصفين ، وزعامتهم السياسية على هامش الزعامة السنية والمسيحية ، وأكثر علمائهم على هامش زعامتهم ، وكنت أتعجب من الأفق القروي لأكثرهم !
كانت سنوات الخمسينات والستينات في العالم العربي عهد زعامة جمال عبد الناصر، وقد بلغت أوجها عندما أعلن تأميم قناة السويس ، وأنهى العقود المصرية مع الفرنسيين والإنكليز في استثمارها ، فوقع العدوان الثلاثي البريطاني
----------------------- [ 81 ] -----------------------
الفرنسي الإسرائيلي على قناة السويس لاحتلالها ، فقاومهم عبد الناصر عسكرياً وشعبياً ، وانتصر عليهم .
وقد استمرت الموجة الناصرية حتى انهزم عبد الناصر أمام إسرائيل في حرب حزيران 1967، فقويت الأحزاب اليسارية المناهضة له .
مضار تعدد اهتمامات طالب العلم ومنافعها
لو سألني أحدٌ يومها عن برنامجي لقلت له: إني أعطي لدروسي الوقت الكافي للدرس والمباحثة والمطالعة والحفظ ، وأحفظ أكثر ألفية ابن مالك ، ويشهدون لي في اللغة والنحو مع صغر سني، وقد نظمت الشعر ولم أبلغ الخامسة عشرة. أما اهتمامي بالخروج الى البرية ، أو بزيارة بعض القرى مع أستاذي أو وحدي ، فلم يؤثر على دروسي بل قد يكون نفعني فيها .
لكني بعد أن كبرت سألت نفسي عن فائدة تلك الإهتمامات المتعددة التي كنت أصرف فيها من وقتي وذهني؟ ثم عن تأثيرها على تقدمي العلمي؟
أرى اليوم ضرورة توجيه الطالب من صغره ، وأنه ينبغي له ولأستاذه أن يفهم اهتماماته الطبيعية المفيدة فيشجعه عليها ، كما ينبغي أن يزرع في ذهنه اهتمامات أخرى ، ويفتح له أبوابها .
لست نادماً على تلك الإهتمامات في ذلك السن ، لكن أتمنى لو اتجهت من يومها الى المطالعة في السيرة والتفسير .. وحفظ القرآن ونهج البلاغة...
----------------------- [ 82 ] -----------------------
وكم أشعر لأستاذي رحمه الله بالفضل والجميل ، لأنه لم يمنعني من اهتماماتي الطبيعية ، بل كان يبدي إعجابه ويشجعني مع زميلي على التحرك واللعب! أذكر أنه أمرني ذات يوم أن أشتري كرة فاشتريتها ، فقال تعالوا أنت والشيخ نجيب والأولاد والعبوا هنا ، وكان يجلس على البيدر ، فلعبنا أمامه مع بعض الصبيان ، وكان فرحاً بذلك ! قال رحمه الله : في هذا السن يجب أن تلعبوا ، ومن لم يلعب في صغره يخشى أن يلعب في كبره !
كان يقدر صغر سننا يومها ، ويحرص على أن نتلقى الدروس براحة ورغبة ، وأحمد الله تعالى أني قضيت عنده سنتين وكسراً ، واستفدت منه ما يدرسه غيري في خمس سنوات ، فجزاه الله عني خير الجزاء .
الأجواء الأدبية في البياض وياطر
الى سنوات خلت ، كان تأثير العلماء في ثقافة الناس في جبل عامل أكثر من تأثير كل المدارس ، ووسائل الإعلام !
فقد كان الناس يستفيدون من مجالس العلماء العامة والخاصة ، ومن مجالس التعزية التي يعقدونها في أسابيع موتاهم ، وفي المناسبات الدينية .
وكان عدد من أهل القرية ينجذبون الى المطالعة، فيشترون الكتب التاريخية والأدبية ، ويقرؤونها ويتداولون أحاديثها، ونبغ بعضهم فصار خطيباً أو أديباً ، ومنهم من يشارك في الخطابة أو بقصائده في المناسبات .
----------------------- [ 83 ] -----------------------
من باب المثال كنت تجد الناس حتى العوام في قريتنا ياطر ، يتذوقون الأدب والشعر ، وكان فيهم ثلاثة شعراء عصاميون ، هم الأستاذ توفيق كوراني ، والأستاذ عبد الله قعيق ، والحاج شبلي الذيب . والأولان لهما قصائد جيدة ومشاركات في المناسبات . وكان الحاج شبلي أمياً لايقرأ ولايكتب ، لكنه لغوي ينقد المفردات والعبارة العربية ، وشاعر ينظم القصائد الحسنة !
وقد استفدت من الذوق الأدبي لأستاذنا رحمه الله وكان شاعراً ، ومن أخيه الأستاذ كامل سليمان رحمه الله ، فتعلمت وزن الشعر وبعض نقده ، ونظمت وأنا في الرابعة عشرة أبياتاً وقصائد ، منها في تهنئة أستاذنا بزواجه ، فقد طلبت زوجته الطلاق لأنهما لم يرزقا أولاداً ، فطلقها وتزوج ، فرزقه الله ابنتين .
وقد فقدت القصيدة لكن أستاذنا رحمه الله نشر منها أبياتاً ، هي:
أعلنت في يوم الزفاف سروري
وازداد أنسي واستبان حبوري
لما تبوأ بيتكم علوية
من بيت قدس رائع مشهور
إن شئت يوماً مدحها قل إنها
بنت الرسول الطاهر المنصور
طوبى لمولى قد سما متعالياً
جمُّ المفاخر ؟؟سابق التعبير
سمحُ الخلائق قد حوى بخصاله
من كل وصفٍ فائحٍ بعبير
(كتاب حياة الشيخ إبراهيم سليمان /28، دار الأضواء 1427).
ونظمت الشعر بعد ذلك ، وشاركت بقصائد في بعض الإحتفالات في النجف والبصرة ، لكني لم أواصل اهتمامي بالشعر فبقي شعري في الدرجة
----------------------- [ 84 ] -----------------------
الخامسة مثلاً. واهتممت بكتابة النثر الأدبي ، وكتبت مقطوعة بعنوان: سبحة كربلاء ، وبعض مقطوعات في كتاب: ملائكة الغيب قادمون .
كان الإهتمام الأدبي سائداً في جبل عامل وقريتنا ياطر ، ومن أمثلته أن الحاج توفيق كَوْراني دعانا يوماً الى بيته لشرب الشاي ، ولما جلسنا أنا وزميلي الشيخ نجيب ، والشيخ عبد الإله الفقيه ، قال توفيق: نحن ننتظر سماحة الشيخ يقصد الشيخ علي الفقيه ، فقد وعدنا أن يشرفنا . فقلت له: ونحن ننتظر ماذا ؟ قال: تنتظرون الشاي ، فتبسمنا ، فذهب ثم عاد وهو يقول:
أسفي ويأس الخير من أحبابي
لم يذكروني في هوى وتصاب
لم يطرقوا بيتي لقاء مودة
إلا لكرع الشاي من أكواب
فأجبته:
لم نطرق البيت الكريم لجرعة
من شايكم تشفي غليل الصابي
لكنما الشاي المحلى خلقكم
ليتمم الأفراح للأحباب
ومن شعر الحاج توفيق:
أبكأس شاي خلت أنك حاتم
والشاي قيمة كاسه فلسان
وتظن أني أكتفي في واحد
وأنا الذي لايكتفي بثمان
أنسيت يا عبد الرحيم موائدي
وقعودك الماحي دجاج خواني
ومن شعر عبدالله أسد الله قعيق:
بكى قلمي فطارحه قصيدي
دموع الحزن في ذكرى الفقيد
بني وطني أفيقوا من سباتٍ
حذارِ من دموع المستفيد
----------------------- [ 85 ] -----------------------
يقاتل بعضنا بعضاً على مَ
وإسرائيل من خلف الحدود
ومن شعري:
مـا أرانـي إلا قـريبَ الرحـيلِ
شيِّعونـي لحفـرتي بالعـويلِ
أنـا يـا ربِّ مُـذعـنٌ بالخطايا
ومقـرُّ إقـرارَ عبـدٍ ذلــيلِ
غـير أنـي مؤمِّـلٌ منـكَ عفـواً
فَتَلَطَّـفْ برحمتي وقَبـولـي
إنَّ لـي إليـكَ حَـْبـلَ وِدَادٍ
برسول الهـدى وآل الرسـولِ
كنـتُ فيهـمْ مُـتَيَّماً مستهاماً
لم أُطـعْ فيهِمُ كلامَ العـذولِ
صَفْـوُ حُبَِـي لهمْ وصَفْوُ دموعي
ونشيدي في بكرتـي وأصـيلي
أيهـا الســادةُ الكـرامُ وحاشا
أن تـروْني أُقـادُ قَـوْدَ الذليل
أنا لمْ أنْسَ حبَّكـمْ في حياتـي
هل جزاءُ الجميلِ غيرُ الجميل
كـنتُ خِـلاً لحِبِّكـم ، وعـذاباً
مستطيراً على العَـدُوِّ الجهـول
إنمـا الكـونُ بلقــعٌ أنعشتــهُ
منكمُ نفحـةُ العطــاء الجزيل
أنا يا سادتـي ربيب حُـجُـورٍ
زاكيـاتٍ بحبكـم ، وأصـول
مُعْـرقٌ في ولائكـم من جـذوري
فـي رُبى عامـلٍ بأرضِ الجليلِ
فخـرُنـا أنـنـا مَـوالـي عـلـيٍّ
إسمـه عنـدنـا شفـاءُ العليل
أرضعتنيه حُـرَّةٌ مـــعْ حليبـي
فجرى في دمي وحَـلَّ غليلي.
والإهتمام الأدبي لازمٌ لطالب العلم ، لكن بهدف أن يتكوَّن له ذوق أدبي وقدرة على النقد فقط ، ثم لاينبغي له أن يصرف وقته في الشعر والأدب ، لأن اهتمامه بطلب علوم الحوزة من فقه وأصول وغيره ، أهم وأنفع .
----------------------- [ 86 ] -----------------------
وقد أعطانا الشيخ الأنصاري رحمه الله درساً عملياً عندما: « عرض عليه السيد محمد بن علي بن السيد أبو الحسن العاملي النجفي كتابه: يتيمة الدهر ، وهو على طراز يتيمة الدهر للثعالبي ، وبظنه أن الشيخ سيجيزه عليه ويحبوه ، فكتب عليه هذا البيت ، ولم يسمع منه مدة عمره غيره !
فيا مُضَيعَ عُمْرٍ في كتابته
فلا أضيع عمري في قراءته ».
(ماضي النجف وحاضرها:2/47).
وما يبدو لك من قسوة في حكم الشيخ الأنصاري رحمه الله ، يزول إذا عرفت أن مخاطبه طلبة العلوم الدينية الذين يفترض فيهم أن يتخصصوا في علوم الدين ، فإن اتجه أحدهم الى الأدب والشعر أدمن عليه ، وألهاه عن تخصصه الفقهي! ونلاحظ أن بعضهم انصرف عن الحوزة الى الأدب فبقي عادياً كل عمره يراوح مكانه ، فلا هو تفقه ، ولا هو نبغ في الشعر !
أما الطالب الذي عنده نبوغٌ شعري ، كالجواهري رحمه الله الذي كان طالب حوزة وظهر نبوغه الشعري ، فينبغي له أن يوجه اهتمامه لخدمة دينه بهذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه ، لأنها لا تقل عن موهبة الفقاهة .
* *
----------------------- [ 87 ] -----------------------
الفصل الرابع: الهدف كل الهدف.. حوزة النجف
هبَّ علينا نسيم النجف
عشت في النجف منذ بدأتُ بطلب العلم ، فهي هدف الطالب وأمنيته، لأن فيها الحرم المقدس لأمير المؤمنين عليه السلام ، وفيها العلم ، والعلماء ، والمرجعية .
وعشتها من أستاذي ، فقد كان حديثه دائماً عن علمائها وطلابها ، من أساتذته وزملائه ، وعن أجوائها ، وأحيائها ، ومجتمعها ، وطرائفها! فالنجف تطبع طالب العلم بطابعها ، وتصوغه بصياغتها ، فتصبح شخصيته نجفية ، تعيش انتماءها الى النجف قبل أي مكان ، ويبقى يحنُّ اليها ، مهما بعدت به الدار !
كان أستاذي رحمه الله مطبوعاً بطابع النجف ، يحدثنا عن أساتذته خاصة السيد حسين الحمامي ، والميرزا النائيني ، والسيد محسن الحكيم ، وعن زملائه الشيخ محمد تقي الفقيه ، وأخيه الشيخ علي ، والشيخ رضا فرحات...الخ.
وعن ذكرياته عن شخصيات علمائية مميزة كالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد محسن الأمين ، وغيرهما . فكان معجباً بالمواقف الشجاعة للشيخ كاشف الغطاء رحمه الله ، وبجدية السيد الأمين رحمه الله في البحث والتأليف ، قال: كنا مجموعة من الطلبة قصدنا بيته ذات ليلة من ليالي الصيف وطرقنا الباب ، فأطل من شرفة السطح وردَّ سلامنا وقال: ماذا تأمرون؟قلنا:جئنا نسهر عندكم سيدنا
----------------------- [ 88 ] -----------------------
ونشرب الشاي . فاعتذر بأنه مشغول في التأليف وقال: سأدلي لكم بالزنبيل من أحسن أنواع الشاي والسكر ، فاذهبوا الى بيت أحدكم ، واشربوا الشاي !
وكم كانت فرحتي كبيرة عندما جاء والدي رحمه الله وقال لي: إن أولاد الشيخ علي الفقيه جاؤوا من النجف لقضاء الصيف ، فتعال معي لنزورهم ونرتب أمر إرسالك معهم الى النجف ! وأخذ لي الوالد رحمه الله إجازة من أستاذي ، وذهبنا الى حاريص فرحب بنا الشيخ علي الفقيه رحمه الله ، وتعرفت على ابنه الشيخ عبد الإله ، وكان أمضى مدة في النجف ودراسته في مستوى دراستي، وكنت أدرس الشرائع والمعالم ، ودعوته الى قريتنا .
ثم أخذني الوالد الى بيروت لنحصل على جواز سفر ، وتأشيرة العراق .
وعدت الى البياض لأودع أستاذي وزميلي ، وأشخاصاً وأشياء وبقاعاً عزيزة عليّ ، لكن فرحتى بالسفر الى النجف لا تفوقها فرحة .
وفي ذلك الصيف واصلت دراستي حتى يحين موعد سفري الى النجف ، وذهبت قبل الموعد بأسبوعين ، لأودع أهلي وأقاربي في قريتنا ياطر .
أما زميلي الشيخ نجيب رحمه الله فتأخر سفره الى النجف نحو سنة ، لظروفه .
من برج أبي حيدر.. الى النجف
ودعتُ قريتنا ولم أودع جبالها وأوديتها ، فقد كان الوقت ضيقاً ، وأمرني الوالد رحمه الله أن أدور على أقاربنا فأودعهم ، وكنت أذهب الى بيروت لمتابعة صدور الجواز من الأمن العام ، وتأشيرة السفارة العراقية .
----------------------- [ 89 ] -----------------------
ولم أودع السيد شرف الدين قدس الله نفسه الزكية ، فقد توفي في تلك السنة ، وكانت أول سنة يمرُّ صيفها على قريتنا بدونه !
كنا نصلي في المسجد الجديد الذي بناه وسط القرية ، والجميع يتذكرونه ويقولون: المقدس السيد عبد الحسين ، ويقرؤون له الفاتحة .
أكملت وداع الأقارب في القرية ، وإخوتي وأخواتي ، وكانت الوالدة رحمها الله تبكي وتدعو ، ثم ودعتها وهي تشمني وتبكي ، وتقول: كفَّلتك لأمير المؤمنين عليه السلام ! لكن جدتي لوالدي كانت من نوع آخر ، كان عمرها أكثر من مئة وعشر سنوات ، وهي في صحة جيدة وحالة ذهنية يقظة ! فقالت وهي تودعني: هنيئاً لك يا علي ، سلم لي على أمير المؤمنين والأئمة ، وزرهم عني .
وكنا تواعدنا مع أقاربنا آل الفقيه في بيت جدهم الشيخ يوسف رحمه الله ، في برج أبي حيدر ببيروت ، وكان رئيس محكمة التمييز الشرعية .
وجدنا الشيخ علي الفقيه رحمه الله جاء مع أولاده من الجنوب ليودعهم ، فجلسنا قليلاً ونهضنا ، فقبلت يد الشيخ الفقيه ويد الوالد رحمه الله مودعاً ، ووضعنا أسبابنا في السيارة التي ستوصلنا الى الشام وركبنا ، فرأيت الوالد رغم متانته ووقاره ، وقف على شباك السيارة ينظر اليَّ بعطف ومحبة ، ثم مشى قليلاً وأدار وجهه لحظات ، ثم عاد وأثر دمعتين في عينيه ، فانحنى على شباك السيارة ، وقال: إذهب يابني وهبتك لله ! إذا وصلت الى النجف فأمسك بضريح أمير المؤمنين عليه السلام وقل له: يا أمير المؤمنين ، إن والدي وهبني لكم ، فاقبلني واجعلني
----------------------- [ 90 ] -----------------------
في حماك !
هزني مشهده وكلامه وبكيت ، وتحركت السيارة ورنين صوته الهادئ الواثق رحمه الله يتردد في أعماقي: إذهب يا بني ، وهبتك لله ...
كنت أعيش في طريقي الى الشام مزيجاً من الفرحة والرهبة ، في زيارة السيدة زينب عليها السلام ، ثم في سيارة (نيرن) الأجنبية الضخمة ، التي تنقل المسافرين بين دمشق وبغداد . وغادرنا دمشق عصراً الى أبي الشامات ثم دخلنا في الصحراء نحو العراق . وقد أنست عندما نام رفيقي الشيخ عبد الإله وتركني في عالمي وتفكيري ، فأنا بحاجة الى الوحدة ، لأهضم ما تراكم عليَّ من أحداث !
كنت أنظر من نافذة السيارة الى الصحراء فأرى نفسي أقطع الطريق وما زال يرنُّ في أعماقي صوت المرحوم والدي رحمه الله : إذهب يابني فقد وهبتك لله... وأتساءل: هل يهب الأب ابنه؟وأقول: تصح الهبة ، لأن الولد وما يملك لأبيه ، ولأنها هبة متفق عليها بين الأب والإبن !
وأعود أفكر: ما معنى أني موهوب لله ؟ وأفهمها بأن أدرس جيداً ، وأخدم ديني مخلصاً ، فأقوم بتعليم الناس الإسلام ، ومذهب أهل البيت عليهم السلام .
لم يقطع تفكيري إلا تعزية الزوار الهنود ! كانوا مجموعة في المقاعد الأمامية ذاهبين الى زيارة الأئمة عليهم السلام في العراق ، وأخذ أحدهم يقرأ لهم بالهندية بصوت هادئ ، حتى لايعترض الركاب ، ثم قرأ شعراً حزيناً فرددوه معه ، وهم يلطمون على صدورهم لطماً خفيفاً ، ثم كانت نبرتهم تتصاعد .
----------------------- [ 91 ] -----------------------
لم أفهم كلامهم ، لكن أثر فيَّ هذا الحنان الهندي الرقيق الذائب ، المنساب في كلماتهم ، ووجيب قلوبهم ، ودموع عيونهم !
جميلٌ أن ترى المشاعر العالمية تشاركك النبض بمودة أهل البيت عليهم السلام ، فكيف يعيش هؤلاء التشيع وولاية أمير المؤمنين عليه السلام في بلادهم وبيوتهم؟!
وقفت السيارة في الليل للإستراحة في آخر صحراء الأردن والعراق ، وكانت المنطقة مظلمة ، فيها مقهى ومطعم ليس فيهما من ذلك إلا الإسم ، والإسم عليهما كثير، لأنك تحتاج الى جهاد النفس حتى تنظر الى الظروف والكؤوس والشاي والطعام !وكنا نسمع من قريب أصوات قيثارة ، كأن أهلها في عرس ، فنظرنا فإذا هم بدوٌ يَسْمَرُون ! جلسوا حلقة ذات اليمين وذات الشمال ، كأنهم أكثروا من الطعام فاتكأوا ، وأباريق القهوة في وسطهم ، وأحدهم يصدح بقيثارته بلحن الرقص والدبكة ، بينما كانوا بحاجة الى لحن ينامون عليه !
قدرت أنهم رعاة في تلك المناطق ، أو هَجَّانة ، موظفون كحرس حدود ، ولم أرَ فيهم من صفات عرب البادية الذين قرأنا عنهم إلا أنهم من نسلهم !
مهما يكن ، فليس قَصْدُنا هذا المقهى ولا أولاء البدو، وإنما النجف . وفي صبيحة اليوم التالي وصلنا الى بغداد ، وأخذنا سيارة الى النجف .
في المدرسة العاملية في النجف
حطَّ رحالنا في النجف الأشرف ، وأنزلني أقرباؤنا في المدرسة العاملية ، ثم ذهبنا الى زيارة كبير العامليين آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه ، فرحب بي وسألني
----------------------- [ 92 ] -----------------------
عن أستاذي الشيخ إبراهيم ، وعن دراستي ، وأبدى إعجابه .
وأمرهم أن يعطوني غرفة في المدرسة ، وأن يعمموني ، وكنت ألبس عقالاً، وأمرهم أن لا أخرج وحدي ، وأن يكون الشيخ مفيد مسؤولاً عن أموري ، وقال لي: بإمكانك أن تحضر عندي درس المعالم واللمعة .
ودعانا الشيخ مفيد لطعام العشاء ، وكان كبير العامليين بعد عمه الشيخ محمد تقي. وفي اليوم التالي ذهبت معه الى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام ، والشيعي مهيأ بطبعه لزيارة إمامه علي عليه السلام ، والحديث الحار معه ، لأنه صلوات الله عليه ، هو انتماؤه ومذهبه ، ونبضه وأنشودته .
كانت الهيبة والإجلال مسيطريْن عليَّ في أول زيارة ، وأنا أقرأ مع الشيخ مفيد الإستئذان عند الباب الأول ، والزيارة ودعاءها في مواجهة الضريح المقدس ، ثم أشار لي أن أمسك بالضريح ، فأمسكت وسلمت على إمامي صلوات الله عليه مجدداً ، وقلت له ما أمرني الوالد رحمه الله أن أقوله ، وبكيت . وأشار الشيخ مفيد أن نصلي ركعتي الزيارة ، فصلينا ودعونا ، ثم نهضنا .
وبعد الزيارة ، رجعنا من السوق الكبير الذي جئنا منه، فاشترينا الوسائل اللازمة للغرفة ، وذهبنا ورتبناها ، فأكملت بذلك إعداد سكني ، لأبدأ في اليوم التالي أول أيام دراستي في حوزة النجف .
* *
----------------------- [ 93 ] -----------------------
الشيخ مفيد الفقيه أستاذي ولم أدرس عنده !
للأستاذ في الحوزة العلمية مقام وحقوق على تلاميذه ، ويطلق الأستاذ على من درستَ عنده ولو دروساً قليلة ، لذلك يختار التلميذ أستاذه بعناية من مستوى علمي وروحي جيد ، ومستوى اجتماعي يتناسب معه ، حتى لايقال بعد ذلك: فلان أستاذ فلان ! ويوصي الآباء أبناءهم أن لا يدرسوا عند أي شخص ، حتى لايُعيرهم أحدٌ لا سمح الله بأنه أستاذهم .
ومن أخلاقية الأستاذ أن لايَمُنَّ على تلاميذه ، ولا يتبجح أمام الناس بأني أستاذ فلان وفلان ، أو إن فلاناً درس عندي ! وقد يخالف ذلك بعضهم فيتبجح ، أو يحاول كسب الشهرة ، لأن تلميذه عالم مشهور !
ومن أخلاقية التلميذ أن يقدر أستاذه ويحفظ له حقه وجميله ! وقد يخالف ذلك بعضهم ، فيُخفي أنه درس عند فلان ، لأنه عند نفسه كبير وأستاذه عادي ، فاعترافه بالتلمُّذ عليه ينقص من مقامه ، أو يرفع مقام أستاذه !
وهذا خطأ وسوء توفيق ، وسببه قلة الشجاعة ، أوالنقص في تدين الشخص ، وغلبة الحسابات الدنيوية عليه .
وهناك حالات أستذة في الحوزة ، في غير الدروس العلمية ، قد يكون الأستاذ فيها أكثر تأثيراً في حياة الطالب من أستاذه في مادة علمية .
من ذلك أستاذ الأخلاق ، الذي يثق الطالب بدينه وتقواه ومستواه ، فيتعلم منه الأخلاق والروحانيات .
ومن ذلك الأستاذ في حل مشكلات ، فيراجعه الطالب في مشكلاته وأموره
----------------------- [ 94 ] -----------------------
الشخصية والإجتماعية ، ثقة منه بعقله ورأيه ، ويعمل بتوجيهه .
ومن ذلك الأستاذ الموجه العام ، ومن هذا النوع كان لي الشيخ مفيد الفقيه حفظه الله ، فأنا أعبر عنه بأستاذي اعترافاً برعايته وخدماته وفضله عليَّ ، رغم أني لم أدرس عنده ، وافترقت عنه في خطي العملي والسياسي .
فهو الذي دلني على السيد الصدر رحمه الله وحزب الدعوة ، لكنه انسحب من الأيام الأولى دفعة واحدة ، وترك حتى بحث السيد الصدر رحمه الله ، وقد كان مع بضعة طلاب أول من حضره !
وسألته عن السبب فلم يخبرني إلا بعد سنين ، قال إن السيد الصدر يتبنى بعض نظريات الميرزا النائيني رحمه الله وينسبها الى نفسه ، ولم يقنعني ذلك واعتبرت أن السبب الحقيقي تخوفه من التهمة التي شاعت في الحوزة بأن السيد الصدر حزبي !
وبقيت أنا على علاقتي بالسيد الصدر رحمه الله وعلى علاقتي بالشيخ مفيد ، الذي تولى توجيهي من يوم دخولي الى النجف ، وأخجلني بنبله وخدماته ، فأنا مدين له بالفضل كأستاذي الشيخ إبراهيم سليمان ، وما زلت أدعو الله تعالى أن يجزيهما عني خير الجزاء .
ومن صفات الشيخ مفيد حفظه الله ، أنه قوي الإيمان ، هادئ ، صبور ، قليل الكلام ، كثير الفوائد في تعليقاته وتوجيهاته .
وهو من ناحية علمية في درجة عالية ، ولعل عنده شهادات اجتهاد ،
----------------------- [ 95 ] -----------------------
لا يظهرها ، وقد أسس حوزة علمية في بلده حاريص ، وهو مجاز ومعتمد من مراجع النجف القدماء والمعاصرين ، رضوان الله على الماضين منهم ، وحفظ الله المعاصرين .
وفائي لأستاذي الشيخ إبراهيم سليمان
أضفت هذا العنوان لأن بعض الأعزاء أشار عليَّ أن أذكر وفائي لأستاذي ، قال: إن هذا ليس تبجحاً ، بل ليتعلم منه الطالب كيف يفي لأستاذه إذا اختلف معه في السليقة ، أو في الخط السياسي .
يمتاز أستاذنا رحمه الله بصفات كثيرة رائعة في الإيمان والعلم والتقوى ، وله صفات تخص شخصيته كأي إنسان . وكان رحمه الله يحبني كثيراً وقد يفتخر بي ، وأقدر أنه بقي يحبني الى آخر حياته ، لأني كنت أتحمل غضبه وكلامه عليَّ ، وكانت فيه حِدَّة يتحدث هو عنها ، وكل من يعرفه .
كان موقفه من الإمام الخميني رحمه الله شديداً ! لأنه يفسر الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام : « كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل». (الكافي:8/295) .
بأنه عام يشمل كل من أراد الحكم وإقامة دولة ، وكان يواجه من يؤيد الإمام الخميني بإشكالاته حتى لو كان ضيفه !
فكان عليَّ كلما أردت زيارته أن أهيئ نفسي لهجوم من أستاذي المحبوب ، وكنت أسكت مؤدباً بين يديه حتى يكمل هجومه ، فيأمر لي بضيافة ، وأفتح
----------------------- [ 96 ] -----------------------
مسألة علمية ، فربما تكلم فيها ، أوبقي غاضباً حتى أودعه!
ودخلت يوماً الى حسينية قرية دير انطار في مناسبة أسبوع ، وكان رحمه الله موجوداً فقصدته وسلمت عليه ، وكنت مدعواً لإلقاء كلمة ، فتطرقت الى وضع الجنوب واعتداءات إسرائيل المتكررة عليه ، وتقصير الدولة في الدفاع عنه ، ثم ذكرت الإمام الخميني رحمه الله ووصفته بالقائد الشجاع ، وكان يومها في باريس . فوقف أستاذي رحمه الله في القاعة وقال بصوت مرتفع: الخميني طاغوت ، ونحن رئيسنا الياس سركيس ، وليس الخميني !
فقلت له: يامولانا ، أنا دعوت سركيس ليقودنا ويدافع عن الجنوب ! فأجابني بحدة ، فصاح ضده بعض الحضور واتجه بعضهم نحوه ، فخشيت أن يهينه أحد بكلام ، فقلت لهم على المكبرة: رجاء أيها المؤمنون ، إحترموا مولانا الشيخ ، فالمسألة بين أستاذ وتلميذه ، ومهما قال أستاذي فأنا أقبله وها أنا أختم كلامي وأترك المنبر لأجلس بخدمته ! ونزلت عن المنبر وجلست الى جنبه مهدئاً ، حتى قام ليذهب فودعته .
وكان بدأ تغيره عليَّ رحمه الله من الكويت ، فقد انتدبه المرجع السيد الحكيم رحمه الله قاضياً شرعياً في الكويت سنة 379-1960م. فسكن هناك نحو عشر سنين. كما انتدبني السيد الحكيم رحمه الله وكيلاً عاماً له في الكويت سنة 1387-1967م. وبادرت منذ وصولي الى زيارة أستاذنا ، وكان يزورني ويحضر المناسبات في مسجدنا. وكنت دقيقاً في احترامه طوال المدة التي كنت وإياه في الكويت وهي نحو أربع
----------------------- [ 97 ] -----------------------
سنين ، فكنت أزوره ، وكنت مشغولاً بأعمال ، وكان لايميل الى النشاط العام فكان يقول لي: أترك هذا المشروع ، وهذا العمل وذاك ، أنا أريدك أن تكون بقربي وأجعلك أحد الأمناء على مكتبتي . وكنت أجيبه: إنا بخدمتك ، لكن عليَّ مسؤولية اجتماعية بصفتي وكيل المرجع ، ولا يمكنني تركها .
ووقعت المصيبة عندما جاءني شخص في قضية راجعه فيها فحكم لخصمه عليه ، فقلت له: إن فتوى السيد الحكيم لمصلحتك ، وذهبت معه الى أستاذنا وبينت له الأمر، فغضب عليَّ وقال: أنا أعرف منك بفتاوى السيد محسن الحكيم ، أنا درست عنده قبل أن تدرس أنت عندي ! فقلت له: مارأيكم أن نكتب له استفتاء ؟ فاستشاط غضباً ، وقال: إذا أجاب السيد الحكيم بما قلتَ ، فسأنزع عمامتي !
وكتبت استفتاء وأخذه صاحب القضية السيد محمود عاشور ، وجاء بفتوى السيد الحكيم رحمه الله فكانت كما قلت ، فقلت له خذ الجواب الى الشيخ بكل لطف ، فأخبرني أنه كرر قراءته وتعجب ، ثم زرته رحمه الله ولم نذكر الموضوع أبداً ، ولكنه رحمه الله حكم في المحكمة حسب جواب الإستفتاء .
كان يبلغني عنه رحمه الله كلامٌ عليَّ ، فأقول للناقل: أرجو أن لاتنقل لي ما يبعدني عنه، لأني أحبه وأريد أن أبقى محباً له ، وكنت أفسر غيبته لي بأنه يستحل ذلك شرعاً ولا أتهمه بارتكاب حرام ، لكنه في اعتقادي قَطَّاع ، أي سريع القطع ، والقطع حجة على صاحبه ، لايؤاخذ إذا عمل بموجبه ، إلا إذا قصر في
----------------------- [ 98 ] -----------------------
مقدمات قطعه ، وهذا أمر بينه وبين ربه عز وجل .
قلت له يوماً: هل بلغكم عني حرف واحد؟ قال: لا ، قلت: أما أنا فبلغني الكثير ، وكلما بلغني أسامحكم ، فأنت أستاذي وصاحب فضل عليَّ لا أنساه ما حييت . فسكت رحمه الله ، ثم قال: الله يرحم والديك .
انتظمت في الدراسة وصرت مدرساً
اشتهر بين الطلاب أني متقن للنحو والمعاني والمنطق واللمعة الدمشقية ، فطلب مني بعضهم أن أدرسه قطر الندى ، وبعضهم درساً في الألفية .
فأشار عليَّ أستاذي الشيخ مفيد أن أقبل ، فبدأت بالتدريس ، واتسع الدرسان ، ثم أضيف اليهما درسان في المنطق ومختصر المعاني ، فصارت أربع تدريسات ، ودرسان ومباحثتان في اللمعة والمعالم . ونقلت تدريساتي الى مسجد الهندي ، لأن طلابي كانوا من اللبنانيين والعراقيين والبلاد العربية الأخرى .
وأعود فأنبه الى أن العوامل التي تجعل الطالب يهضم المادة وتترسخ في ذهنه ، هي: شرح الأستاذ للدرس ، وكتابته ، والمباحثة فيه ، وتدريسه ومجالس المباحثة والأسئلة ، ويمكن أن نضيف اليها الإمتحان بشروطه.
زرتُ أكثر علماء النجف ورأيتهم عن قرب
انتظمت حياتي في النجف: دروسٌ وتدريس من طلوع الشمس الى قرب الظهر، وكنت قبيل المغرب أذهب الى صلاة الجماعة في الصحن العلوي ، بإمامة المرجع السيد الحكيم رحمه الله ، وألتقي بعدد من الطلبة ، أو أزور أمير المؤمنين عليه السلام ،
----------------------- [ 99 ] -----------------------
ثم صرت أذهب بعد الصلاة الى بحث السيد الخوئي رحمه الله ، ولعلي كنت أصغر طالب سناً حضر بحثه الخارج .
زرت عدداً من العلماء في النجف ، فتعرفت على المرجع السيد عبد الهادي الشيرازي رحمه الله ، والمرجع السيد محمود الشاهرودي رحمه الله ، والمرجع السيد الخوئي رحمه الله ، ثم حضرت بحثه ، وعلى الشيخ مرتضى آل ياسين ، والشيخ عبد الكريم الزنجاني ، والسيد إسماعيل الصدر ، وأخيه أستاذنا السيد محمد باقر الصدر رحمه الله وأول ما زرته في بيته مع الشيخ مفيد الفقيه ، وتكررت زيارتنا له ، وعندما أكملنا دراسة الكفاية أنا والشيخ سامي الفقيه ، والشيخ عبد الإله الفقيه ، طلب منه الشيخ مفيد أن يجد لنا أستاذاً في المكاسب ، فكلف السيد عز الدين بحر العلوم بتدريسنا فقبل ودرَّسنا .
وكنت كبقية الطلبة العامليين نذهب الى بيت المرجع السيد الحكيم رحمه الله ، فنزوره ، أو نلتقي في مكتبه بالعلماء الزائرين له أو المراجعين لمكتبه.
وفي بيت السيد الحكيم رحمه الله تعرفت على العديد من الطلبة والمدرِّسين وكبار العلماء ، وزادت علاقتي بآل الحكيم ، حيث درَّست اثنين من أبناء السيد رحمه الله ، ودَرَسْتُ شيئاً من الكفاية الجزء الثاني عند ابنه الشهيد السيد محمد باقر رحمه الله ، ودرستُ رسائل الشيخ الأنصاري رحمه الله عند المرجع السيد محمد سعيد الحكيم ، وهو حفيد السيد المرجع رحمه الله ، ولكنه أكبر سناً من عدد من أخواله أولاد السيد .
وفي السنة الثانية من دخولي النجف توفي آية الله السيد حسين الحمامي رحمه الله وقد
----------------------- [ 100 ] -----------------------
زرته أول ما جئت الى النجف ، وأبلغته سلام أستاذي وطلبت منه الدعاء ، وكان تشييعه مهيباً شاركت فيه مع أستاذي الشيخ مفيد الفقيه ، من مدخل النجف الى الصحن الشريف . ورأينا في التشييع أستاذنا السيد محمد باقر الصدر رحمه الله ، وكان وحده فانضممنا اليه .
وحدثني يومها الشيخ مفيد أن السيد محمد باقر بدأ قبل أيام بحث الخارج ، أي الدروس العالية في الحوزة ، وأنه يحضر عنده مع بضعة نفر منهم السيد محمد باقر الحكيم ابن المرجع ، والشيخ عبد العالي مظفر ، والسيد ذي شان جوادي من الهند ، وربما السيد عبد الغني الأردبيلي من إيران . كان ذلك سنة 1379-1959م. ولعله العالم الوحيد الذي بدأ بحثه الخارج قبل أن يتزوج ، ثم تزوج من قريبته شقيقة السيد موسى الصدر.
----------------------- [ 101 ] -----------------------
آية الله الشيخ حسين الحلي
كنا نحضر درس المكاسب عند أستاذنا السيد عز الدين بحر العلوم رحمه الله ، مع زميلي الشيخ عبد الإله والشيخ سامي ، ونعتبر أنفسنا من أهل الفهم والذكاء ، ونتعجب من أستاذنا لماذا يطيل في شرحه ويكرر ، حتى كان درسنا ساعة وربعاً ، وهو يحتاج برأينا الى ربع ساعة !
قال الشيخ عبد الإله: يتصور أنا لانفهم ، فأثبتوا له أنكم تفهمون! وقررنا أن نشكل عليه ليعرف أنا نفهم! وفي اليوم التالي ما أن بدأ في شرحه حتى أمطرناه بالإشكالات ، وما كان ينتهي من جواب أحدنا حتى يشكل عليه الآخر !
وكانت النتيجة أن نظرة الأستاذ الينا تحسنت ، لكنا ارتكبنا ذنباً أخلاقياً ، فلم تكن إشكالاتنا لحاجة علمية قربة الى الله ، وإنما لإثبات ذاتنا !
وكان أستاذنا يحضر بحث الخارج عند آية الله الشيخ حسين الحلي رحمه الله وكنا نسمع به وبمقامه العلمي وزهده وورعه ، وأن المرجع السيد الحكيم رحمه الله يُرجع اليه في الإحتياطات ، ومعناه أنه يشهد بأنه الأعلم بعده ويرشحه للمرجعية ، لكن الشيخ الحلي رحمه الله كان لايقبل أن يقلده أحد .
فقررنا أن نحضر درس الشيخ الحلي لنتفرج عليه ونرى منطقه ، وذهبنا قبل الوقت الى مكان الدرس ، وكان غرفة في صحن الحرم دفن فيها المرجع الراحل الميرزا النائيني رحمه الله عرفت باسم: مقبرة الميرزا ، فجلسنا في طرف القاعة حتى لايكون المكان لبعض تلاميذه ، وجاء أستاذنا بحر العلوم رحمه الله فنظر الينا وسلم ولم يقل شيئاً ، وأخذ التلاميذ بالحضور ونحن نتفرس في وجوههم لنعرف
----------------------- [ 102 ] -----------------------
نوعية تلاميذ الشيخ الحلي رحمه الله وكان بضعة عشر.
وجاء شيخ بعين واحدة ، يلبس ثياباً عادية جداً ، وعمامة غير منظمة ، فقلنا لبعضنا: هذا المعيدي أيضاً ، يحضر بحث الشيخ الحلي ؟!
وعندما دخل تفاجأنا بأن التلاميذ وقفوا احتراماً له وأخذ صدر المجلس فإذا هو الشيخ الحلي رحمه الله ! وشرع بالبحث ، فسمعنا بعضه ، وخرجنا !
وزرناه مرة أخرى بعد درسه وسألناه أسئلة فقهية .
فوائد مجالس التعزية ليلة الخميس
يلتقي الطلبة في الدروس ، وفي المباحثات ، وفي المدرسة التي هي مسكن الطلبة العزاب ، وفي الصحن بعد الصلاة .
ومن أكثر اللقاءات فوائد مجالس التعزية ، وأكثرها في ليلة الخميس ، لأن ليلة الجمعة يكثر فيها ذهاب الطلبة الى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام ، أو كربلاء . ويمتد مجلس التعزية في الحوزة نحو ثلاث ساعات ، وتكون قراءة المجلس نصف ساعة ، وباقي الوقت لطرح مواضيع ومسائل علمية مختلفة . والمجال مفتوح لمن أراد أن يطرح مسألة ، ثم يدلي الحاضرون بآرائهم ، وقد يحتدم النقاش ، ويحتاج الى تدخل بعضهم ، أو صاحب المنزل .
وقد تكون المسألة المطروحة نحوية ، أو لغوية ، أو أدبية ، أو أصولية ، أو فقهية . فهذه المجالس في الحقيقة دواوين علم ، ومجالس بحث وحوار ، ومعاهد تربية علمية واجتماعية ، وهي تكشف مستوى الطالب ، ومدى هضمه واستيعابه للمسألة التي يطرحها ، أو يشارك في نقاشها .
----------------------- [ 103 ] -----------------------
كما تكشف طريقة تفكير الطالب وأسلوب مناقشته ، ومدى منطقيته وعقله وتدينه ، عندما ينكشف له خطؤه ويظهر له وجه الحق في المسألة .
وتكشف الطالب الشاذ الذي يعتبر البحث العلمي منازلة شخصية ، فلا يقنع بالرأي المخالف ، ويواصل الجدل الى حد المماحكة والمراء ! فيعرفه الطلبة بذلك ويسجلون عليه في أنفسهم درجة سلبية ، بينما يحترمون الطالب المنصف الذي يصغي ويتفهم ، ويقبل الحق عندما يظهر له .
كما تكشف عن نوعية أخرى من الطلبة والعلماء ، تراهم طول المجلس ساكتين يستمعون ، لكن إذا تكلم أحدهم سكت الجميع وأنصتوا ، لأنهم يعلمون أنه من الوزن الثقيل ، يتكلم بزبدة القول وفصل الخطاب !
* *
----------------------- [ 104 ] -----------------------
إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بعين الله !
صحَّ الحديث عن النبي عليهما السلام بأن المؤمن قد يتفرس وينظر بنور الله عز وجل ، فيرى حوادث وأشياء من المستقبل ، ويخبر بها فتكون كما أخبر !
ففي الكافي:1/218، عن الإمام الباقر عليه السلام قال: « قال رسول الله عليهما السلام : إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل ».
وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام :1/216، عن الحسن بن جهم قال: « حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده علي بن موسى الرضا ، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة فسأله بعضهم فقال له: يا ابن رسول الله بأي شئ تصح الإمامة لمدعيها؟ قال بالنص والدليل. قال له: فدلالة الإمام فيمَ هي؟ قال: في العلم واستجابة الدعوة . قال: فما وجه إخباركم بما يكون؟ قال: ذلك بعهد معهود إلينا من رسول الله عليهما السلام . قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟ قال: أما بلغك قول الرسول عليهما السلام : إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. قال: بلى . قال: ما من مؤمن إلا وله فراسة ينظر بنور الله على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه ، وقد جمع الله في الأئمة ما فرَّقَهُ في جميع المؤمنين،قال عز وجل في محكم كتابه:إِن فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ»
وقد رأيت أشخاصاً تفرسوا فصحَّت فراستهم! منهم بدوي رأيته في النجف وكان حلو الحديث، يشع منه نور الإيمان ، يبيع الرطب والباذنجان في دكان صغير، وكنا بعد الدرس نشتري منه ونتحدث معه ، أنا وزميلاي الشيخ عبد الإله الفقيه والشيخ سامي الفقيه ، فنظر الينا يوماً وقال مشيراً الى عبد الإله:
----------------------- [ 105 ] -----------------------
«أنت ما تصير عالَم » ، وينطقونها بفتح اللام ، ثم نظر الى الشيخ سامي ، وقال: «وأنت ما تصير عالَم» ! ونظر اليَّ وقال: أنت تصير عالماً كبيراً ، ويصلي خلفك ناس كثير...!
فتعجبنا ، وجادله الشيخ سامي ، فقال له جازماً: الأمر كما قلت لك .
وفي السنة التالية ذهبنا الى لبنان ، وقرر الشيخ عبد الإله أن يترك الحوزة ويذهب للعمل مع أخيه في سيراليون . وبعد عودتنا من الصيف كنا ندرس الكفاية عند آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه رحمه الله ، ومررنا على البدوي فنظر الينا وتبسم وقال: أين صاحبكم، لقد ذهب وترك الدرس ، أليس كذلك؟ قلنا: نعم ، قال: نعم كما أخبرتكم . فقال له الشيخ سامي: أما أنا فلا أذهب وسأصير عالماً . قال: ما تصير!فقال له مازحاً:أنا سأواصل الدراسة وأصير عالماً غصباً عليك !
فقال بهدوء وثقة: أنت ما تصير عالماً ، بل تذهب الى مكان بعيد ، وتفتح محل ساعات ، ثم تصير معلماً ..الخ.!
وأكملنا مع الشيخ سامي الكفاية ، وفي السنة التالية ذهب الى لبنان فتزوج وعاد بأهله ، وكان البدوي إذا رآه قال:ها، مازلت هنا في النجف؟!
ثم ذهب الشيخ سامي الى لبنان فحصلت له أمور ، قرر بسببها ترك النجف ، وذهب الى ليبيريا بأفريقيا ، ففتح محل ساعات !
وأخذت أبحث عن صاحبنا البدوي فلم أجده في دكانه عند خان المخضر ، حتى رأيته يوماً قرب بيتنا فسلمت عليه فقال لي: أين صاحبك الذي كان
----------------------- [ 106 ] -----------------------
يجادلني ، لقد ذهب وترك الدرس ، أليس كذلك ؟ قلت له: نعم ، ودعوته الى منزلنا ، ولما جلس قال:أعرف أنك تريد أن تسألني من أين تعرف ما أخبرتنا به؟ أنا ليس عندي كتاب ولا حساب لكني أهدس ، أي أحدس ، وينطقونها بالهاء أحس في قلبي بهذا الشئ ، فيكون كما أتصوره .
قلت له: حدثني عن أمور حدست بها . قال: كنت يوماً في هذا الدكان الذي رأيتني فيه، فهدست في قلبي أن بيتنا يحترق ، فأقفلت دكاني وذهبت الى العباسيات ، فوجدت بيتنا في أول ما شبَّت النار فيه ، فأطفأته .
فحسبتُ المدة التي يحتاجها حتى يصل من النجف الى الكوفة ثم الى بيته ، فكانت ثلاث ساعات بالأقل ، وقد وصل أول ما اشتعلت النار في بيته !
موجة الشيوعيين قلصت النزهة على شاطئ الفرات
يَمُرَّ الفرات بالكوفة دون النجف ، لأن أرض النجف مرتفعة ، وتبعد عن الكوفة نحو عشرة كلم ، وتسمى ظهرالكوفة ، ونجفة الكوفة .
ويذهب طلبة الحوزة الى الكوفة لزيارة مسجدها ومسجد السهلة القريب منها، وزيارة قبري مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، رضي الله عنهما .
كما يذهبون يومي الخميس والجمعة لقضاء عطلتهم في شاطئ الفرات ، تحت أشجار النخيل والطرفاء ، فبعضهم يطالع ، وبعضهم يسبح ، وبعضهم يتحدث أو يتباحث ، وبعضهم يأخذ عائلته وأطفاله معه .
وكنا الطلبة اللبنانيين ، نذهب في مجموعات يوم
----------------------- [ 107 ] -----------------------
الجمعة ، وقد نذهب ليلة الجمعة ، فنبيت في مسجد الكوفة ، ونذهب صباحاً الى الفرات .
وفي الفرات تعلمت السباحة ، أو أكملت ما تعلمته منها في شاطئ بيروت فقد كنت فيها سنتين ، أسكن في بيت أخي في محلة تلة الخياط ، وأدرس في محلة المصيطبة ، وأذهب معهم أحياناً الى البحر في منطقة أربعاء أيوب عليه السلام .
وسَبَحْتُ في الفرات مرات ، وعبرته سباحةً مرة في الصيف ومرة في الشتاء ، لكني لم أكن أهوى السباحة ، فقد صار الوقت عندي أغلى ، وكنت كثيراً ما أقتصر التعطيل بيوم الجمعة ، وأعمل كل يوم الخميس .
كما تلاشت عندي هواية استطلاع البراري، بسبب الوضع الأمني ، فقد بدأت الموجة الشيوعية بعد دخولي النجف بقليل، وكان الطلبة يتعرضون لمضايقات من الشيوعيين ، وكانوا يتهموننا بأنا طبقة تخدم البرجوازية ! فلم نكن نتحرك إلا قليلاً ، وفي مجموعات .
* *
----------------------- [ 108 ] -----------------------
الفصل الخامس: المنهج الدراسي في الحوزة
1- ثبات المنهج الدراسي في حوزاتنا
نلاحظ أن مناهج حوزاتنا العلمية ثابتة في مضمونها ، وإن تغيرت بعض كتبها ، فقد بدأتُ قبل أكثر من نصف قرن بدراسة مادتين لا أكثر: النحو والفقه ، لأن الأساس في منهج الحوزات دراسة اللغة العربية ، والشريعة . ودرست النحو بكتبه الثلاثة: قطر الندى ، وألفية ابن مالك ، ومغني اللبيب ، وهي ثلاث مراحل في النحو المبسط ، والتفصيلي ، والمعمق .
ودرست بعدها المنطق الصوري الأرسطي ، وهو تقويةٌ لذهن الطالب في الدقة والتعقل والإستدلال ، يحتاجه في دراسته خاصة في الفقه وأصوله .
والى جانب المنطق ، درسنا علم المعاني والبيان والبديع ، وهو علمٌ يقوي ذهن الطالب في فهم الفصاحة والبلاغة والتراكيب العربية ، ويحتاج اليه الطالب في فهم نصوص القرآن والسنة ، والمتون العربية عموماً .
أما في الفقه فنبدأ بدراسة (الرسالة العملية) وهي فتاوى لأحد المراجع ، في أبواب الفقه المختلفة ، مجردة عن الإستدلال . ليعرف الطالب ما يحتاج اليه من أحكام الشريعة،ويتعرف عموماً على أحكام العبادات والمعاملات.
----------------------- [ 109 ] -----------------------
ثم ندرس كتاب شرح اللمعة الدمشقية ، وهو فقه شبه استدلالي، يتعرف منه الطالب على شئ من مستندات فتاوى الفقهاء في أبواب الفقه المختلفة.
ثم ندرس مستوى ثالثاً من الفقه فيه استدلال معمق ، وأشهر كتبه: المكاسب المحرمة للشيخ الأنصاري رحمه الله .
ثم ندرس المرحلة العليا من الفقه: بحث الخارج ، أي خارج الكتب ، حيث يلقي المجتهد المسألة ويعرض الآراء فيها ، ويناقشها ويصل الى نتيجة ، فيتعلم الطالب كيفية الإجتهاد واستنباط الحكم الشرعي .
أما أصول الفقه فهو أهم علم في تقوية ذهن الطالب وتكوين شخصيته العلمية ، ويعلمه كيف يستدل ويستنبط الأحكام الفقهية ، لأنه بقسميه الأصول اللفظية والعملية ، بحوثٌ تخصصية معمقة في قوانين دلالة الألفاظ والعبارة العربية ، منطوقاً ومفهوماً ، ثم في موقف الفقيه في حالة عدم وجود النص ، أو تعارض النصوص.. الخ.
وندرس أصول الفقه في حوزاتنا بثلاثة مستويات أيضاً:
الأول: باستدلال مختصر ، ويمثله كتاب أصول الفقه للشيخ المظفر رحمه الله .
والثاني: أكثر تفصيلاً وعمقاً ، ويمثله كتاب فرائد الأصول أو الرسائل ، للشيخ الأنصاري ، وكتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني .
والمستوى الثالث: بحث الخارج أي خارج الكتاب ، حيث يلقي المجتهد المسألة الأصولية ويستعرض الآراء فيها ويناقشها ، فيتعلم الطالب كيفية الإستنباط والإجتهاد ، سواء في علم أصول الفقه ، أو علم الفقه نفسه .
----------------------- [ 110 ] -----------------------
إن كل ما تراه من عمق ونبوغ في علماء الشيعة ، يرجع الى دراستهم علم أصول الفقه ، فالذهن الذي يستطيع أن يشق طريقه في مسائله وتفريعاته الصعبة ، يستطيع أن يمشي في غيره بسهولة !
وينبغي الإشارة الى أن علم أصول الفقه يعاني ضموراً شديداً عند بقية المذاهب ، بسبب ضعف عملية الإجتهاد عندهم ، والبحوث المتعلقة بها .
أما المذهب الوهابي فلايعرف مشايخه علم أصول الفقه أبداً ، ولا يحسون بالحاجة اليه ، لأن فتاواهم لاتقوم على تأصيل وقواعد ! بل على الإنتقاء الكيفي من تفسيرهم الشخصي لآيات القرآن والحديث، وكلمات الفقهاء!
وبسبب واقعية هذا المنهج في حوزاتنا ، لم يتغير إلا بأن يحل كتاب مكان كتاب. وهذه خلاصة منهج وضعه أحد مراجع النجف الكبار الشيخ البشير ، دام ظله:
« المستوى الأول: الأجرومية . تبصرة المتعلمين . عقائد الإمامية .
الثاني:قطر الندى أو هداية النحو. شرائع الإسلام ج1.كتاب في الصرف.ميزان المنطق.
الثالث:شرح الألفية لابن الناظم . أو الكفاية لابن الحاجب. حاشية ملا عبد الله . شرح الشمسية. شرائع الإسلام ج2.مطالعة منطق المظفر - القسم الثالث .
الرابع: مختصر المعاني . شرح الباب الحادي عشر. شرائع الإسلام ج3 و4
الخامس: معالم الدين ويعقبه أصول المظفر أو ما يعادله مثل القوانين مطول . شرح التجريد . سلم العلوم.
----------------------- [ 111 ] -----------------------
السادس: شرح اللمعة الدمشقية.كفاية الأصول ج1. رسائل الشيخ الأنصاري منظومة في المعقول . الكفاية ج2. مكاسب الشيخ الأنصاري.
مرحلة البحث الخارج: يحق للطالب بعد الفراغ من الكفاية ج2 حضور بحث الخارج في الأصول ، وبعد الفراغ من المكاسب بحث الخارج في الفقه .
ولا ينتقل الطالب إلى المرحلة التالية إلا بعد الفراغ من السابقة » . انتهى.
إن السبب في ثبات المنهج الدراسي في الحوزة قروناً طويلة ، أن هدفه الإجتهاد في الكتاب والسنة ، والعلوم التي يتوقف عليها التفقه والإجتهاد محددة ، وفي أولها علوم اللغة العربية ، وعلم أصول الفقه ، وعلم التفسير ، والحديث..الخ. وهي علوم قطعت مراحل نموها وتطورها الى حد كبير ، حتى اكتمل نضجها أو كاد ، فلا بد للطالب من أن يستوعبها ويتعمق فيها بدراسة كتبها المعتمدة في الحوزة ، ومطالعة مصادرها الأخرى .
2- الدراسة الحلقية وحرية الطالب والأستاذ
من ميزات المنهج الدراسي في حوزاتنا: الدراسة الحلقية ، ويرجع تاريخها الى تحلُّق المسلمين حول النبي عليهما السلام ثم حول الأئمة عليهم السلام والرواة .
وسرعان ما تحول المسلمون الى طلبة علم ومعلمين ، وتحولت مساجدهم الى حلقات للدراسة .
بل إن الدراسة الحلقية هي الدراسة الطبيعية عند كل الأمم، على يد الأنبياء والأوصياء عليهم السلام والعلماء ، والفلاسفة ، والأطباء ، وعلماء الطبيعة . فقد كانت الدراسات في العالم كله بالنظام الحلقي، حيث يتحلق التلاميذ حول أستاذهم .
----------------------- [ 112 ] -----------------------
وقد كتب ذلك الباحثون عن أنظمة التعليم عند الأمم والحضارات القديمة ، المصرية ، والإغريقية ، والهندية ، والفارسية ، فقد كان الأستاذ هو المحور ، وحلقة درسه هي المدرسة ، وإجازته هي الشهادة. (راجع قصة الحضارة ، تأليف ول ديورانت:2/171 و329، و460، و:3/3، و214، و:5/363).
وتتشكل حلقة الدرس في حوزاتنا ، عندما يطلب بعض الطلاب من أستاذ درساً ، ويعينون مكاناً ، مسجداً أو مدرسة أو غيرهما .
ويُعْلَنُ عادة في الحوزة في أول السنة الدراسية ، عن حلقات الدروس وأوقاتها ، فيختار الطالب الأستاذ الذي يريده ، ويحضر في حلقة درسه .
فالطالب يختار المادة والأستاذ ، والأستاذ يختار الطالب فيحضر بإجازته ، أويعتذر منه فيمنعه من الحضور. بينما لايتيسر ذلك في الجامعات المعاصرة.
وينبغي التحذير من اتجاه جديد في حوزاتنا، يتخيل أصحابه أنهم يخدمون الحوزة ويطورونها الى الأحسن ، بأن يجعلوها شبيهة بكليات الجامعات العصرية ! فتراهم يمتحنون الطلبة للقبول ، ثم يعينون لهم المواد والمدرسين ، وساعات الدوام ، والإمتحانات .
ويجعلون دراسة الطالب للمرحلة الأولى أربع سنوات مثلاً ، ويقسمون موادها على وحدات دراسية ، كالجامعة العصرية الغربية .
يتصورون أنهم بهذا يخدمون الحوزة وطالب العلم ، ولكنهم يصادرون حرية الطالب والأستاذ ، ويساوون بين الطالب الذكي والغبي ، والمُجِدّ والكسول ، ويحولون الإنتاج الطبيعي في التعليم الى إنتاج صناعي !
----------------------- [ 113 ] -----------------------
فالوضع الصحيح للحوزة أن يجتاز الطالب امتحان القبول ، ثم يعطى الحرية ليختار الأستاذ والمادة ، ولا يلزم إلا بما يشجعه على استيعاب الدرس كالمباحثة ، وكتابة بعض الدروس ، والتدريس ، ومجالس المذاكرة ، وامتحان آخر السنة ، الذي يشمل المواد التي قد يختارها الطالب.
3- نظام المباحثة بين الطلبة
من مزايا الدراسة في حوزاتنا: المباحثة . فالطالب لا يكتفي بسماع الدرس من الأستاذ ، بل يتباحث فيه مع زملائه. وقد يكون البحث بين اثنين أو أكثر ، فيتولى الشرح كل يوم أحدهم ويستمع له الآخرون ويشكلون عليه.
ومن فوائدها: أنها تركز المادة في ذهن الطالب ، خاصة إذا كان البحث قريباً من زمان أخذ الدرس . وأنها تدرب الطالب على التدريس ، فكل طالب يكون معيداً . ومن فوائدها ، أنها تنمي قدرة الطالب على الدفاع عن معلومته ، في مجالس المذاكرة ، وفي كتاباته ، وفي عمله التبليغي .
4- كتابة الطالب لدروسه
يُلزم بعض الأساتذة تلاميذهم بكتابة الدرس ، ويرى كتابته قبل الدرس الثاني ، كما كان يفعل أستاذنا رحمه الله ، ويصححها ، أو يذكر ملاحظاته عليها.
والدروس التي تُكتب هي التي يحتاج الطالب الى جهد لتركيزها في ذهنه ، فيكتب ما فهمه من الدرس بتعبيره هو ، بدون التقيد بعبارة الكتاب .
ويطلب عادة كتابة درس النحو ، والمنطق ، والأصول ، والفقه الإستدلالي
----------------------- [ 114 ] -----------------------
دون الفقه المجرد .
ولكتابة الدرس فوائد كثيرة ، منها ترسيخه في الذهن ، لأن الطالب يحتاج عادة الى قراءة الدرس بدقة ليكتب ما فهمه منه ، ويحرص على كتابته بعد درس الأستاذ بفاصلة قصيره ، ليتذكر شرحه ، ويكتب ما فهمه منه .
ومن فوائد كتابة الدرس ، تمرين الطالب على كتابة الموضوعات ، فهو يتعلم ما ينفعه في كتابة المقالة ، وقد يتعلم ما ينفعه في التأليف .
5- لماذا لاتأخذ الجامعات العصرية بنظام الإجازات ؟
من ميزات منهج حوزاتنا: نظام الإجازات في شهاداتها ، وهو أصح من نظام الشهادات المتبع في الجامعات العاصرة .
أعتقد أنا لو أرَيْنَا الجامعات الغربية محاسن نظامنا الحوزوي ، لأعجبوا به ، وطبقوه على عدد من جامعاتهم .
وقد قرأت أن بعض الجامعات الأمريكية بدأت بتطبيق نظام الإجازات ، فالأستاذ يقبل في الهندسة مثلاً ثلاثين طالباً ، ويعمل معهم نظرياً وعملياً ، كمجموعة في حوزة هندسية ، ثم يجيز من ينجح منهم .
إن الجامعات العالمية المعاصرة تشكو من انخفاض المستوى العلمي في كل فروعها ، سواء فروع العلوم الإنسانية ، أو العلوم الطبيعية .
وتحاول بعض الجامعات معالجة هذه المشكلة بتكوين مجموعات علمية ، كل مجموعة منها بإشراف أستاذ متضلع ، أو تؤسس مراكز علمية تخصصية بإدارة أستاذ
----------------------- [ 115 ] -----------------------
معروف مشهود له .
وهذا يعني أنهم توصلوا عملياً الى مايشبه نظام الإجازة في حوزاتنا !
إن أهم هدف للمؤسسة العلمية: تربية الكادر العلمي أو الكفاءة العلمية فإذا وُجِدَتْ في علم من العلوم ، فقد وجدت الحوزة العلمية في ذلك العلم فهي حجر الأساس لأي نهوض علمي ، في الحوزات أو الجامعات .
وقد كانت الأمة الإسلامية تعرف قيمة هؤلاء العلماء الأكفاء ، فكان العالم في الفقه أو الحديث أو الطب هو الحوزة أينما حل وارتحل ، يقصده الطلاب، ويمدهم الحاكم والممولون ويدرسون عنده ويتخرجون على يده .
ولا شك أن نظام الدراسة الطبيعي في الحوزة ، أكثر قدرةً على تربية الكادر العلمي من نظام الدراسة في الجامعات الغربية .
ويكفي أن نعرف أن طالب الحوزة يفكر في المادة العلمية أربع مرات أكثر من طالب الجامعة ! فهو يسمعه من الأستاذ ، ثم يكتبه ، ثم يتباحث فيه مع زملائه ، ثم يُدَرِّسُه ، وربما يذاكره في المجالس ، فيكون مرة خامسة .
والقضية الأساس في العلم والتجزئة والتحليل إنما هي: المدة التي يحتضن فيها ذهنك المسألة ويعيشها ، ثم كيف يتناولها ويتعامل معها .
6- أيهما أفضل كثرة المواد أم قلتها ؟
يعترض بعضهم على المنهج الدراسي في الحوزة بقلة مواده ، فبعد استكمال أدبيات اللغة العربية ، والمنطق ، يكاد ينحصر المنهج في الفقه والأصول ، فترى
----------------------- [ 116 ] -----------------------
البحوث العالية (بحوث الخارج) تتركز على الفقه وأصوله ، وقد توجد بحوث في التفسير والحديث والعقائد.. لكنها قليلة.
يقول المعترضون: أين علوم القرآن وقراءاته وتفسيره ، وعلوم الحديث ، من الدراية ، ورجال الحديث ، والنقد والتجريح ؟
أين علوم العقيدة ، أصولها وفروعها ، والبحوث المقارنة بين الإسلام وغيره ، وتعليم الطالب رد الشبهات التي تثار على الإسلام وعقائده ؟
أين علم السيرة ، وعلوم تاريخ الإسلام ، وعلوم الأدب والشعر ؟ وأين اللغات التي يحتاجها العالم للتبليغ ، أو للرجوع الى المصادر المكتوبة فيها ؟
وأين تعليم الطالب أوضاع عصرنا من فكر وسياسة.. وأين.. وأين ؟!
ويخضع بعض واضعي المناهج لهذه التساؤلات ، فيقولون: نعم إن هذه العلوم لازمة لطالب العلم ، فيدخلون في برنامجهم أقصى ما يستطيعون من موادها ، ثم يرون أنها صارت أكثر من الوقت ، فيقللون من حصصها !
ثم يرون أن الوقت لا يكفي للكتب الوافية فيها ، فيختارون كتباً خفيفة أو يتركون الأمر لاختيار الأستاذ حسب فهمه وسليقته ، أو يكلفون أستاذاً ليضع في المادة كراساً ينتخبه ويسمونها خلاصات أو لباباً وما هي بلباب!
ثم يفتخر واضعوا هذا النوع من البرامج بأنهم يُدَرِّسون طلابهم عشرة علوم ، لكن الواقع أن يُشممونهم رائحة هذه العلوم ، كمن يَشُمُّ رائحة شواء من بعيد ! وكثيراً ما يكون شواؤهم محروقاً !
----------------------- [ 117 ] -----------------------
ثم يزيدون على الطالب ساعات الحضور لإكمال المواد ، فيغصُّ فيها الطالب . وقد عبَّر أحد الطلبة عن هذا المنهج بأن الإدارة تعاملهم كأنهم بطٌّ مصري ! قال: رأيت بعض النساء في مصر تحشو الحبوب في فم البطة بالقوة لكي تسمن ، وهؤلاء يحشون المواد في رؤوسنا بالقوة لنصير علماء !
وقال طالب آخر: ملؤوا البرنامج بالمواد ، وهيؤوا من كل مادة قطعة ، وألزمونا بست ساعات من الدوام ، وقد يضيفون ساعتين بعد الظهر ، وجعلوا الإمتحان تلو الإمتحان ، فلا وقت لنا للمطالعة ، ولا للمباحثة ! فكيف نستوعب المواد ونحن نركض ركضاً ، وأعصابنا متوترة ؟!
قد تقول: على هذا يبقى السؤال:كيف نلبي حاجة الطالب من هذه المواد؟
والجواب: أنه لاحلَّ إلا بأن نُقَوِّي قدرة الطالب الذهنية والفكرية والعقلية ليتمكن هو من تحصيل ما يحتاج اليه من هذه العلوم ، ولن نجد ما يقوي قدراته مثل علم الفقه ، وأصول الفقه ، بعد أن يُتقن اللغة العربية .
فأيُّ طالب يستوعب بحوث علم أصول الفقه ، ويستطيع أن يشرحها ويدافع عن نظرياتها ، يستطيع بجهده الشخصي أن يكون عالماً ، في أي فرع من العلوم المذكورة .
إن تركيز منهج الحوزة على علم أصول الفقه ، يعني حرص علمائنا على أن يبذل الطالب جهداً ليملك مفتاحاً الى العلوم المذكورة وغيرها . وهذا أصح من محاولة حشوها في رأسه ، أو تشميمه رائحتها !
----------------------- [ 118 ] -----------------------
وقد تقول: فمتى وكيف يحصل الطالب على ما يحتاج اليه من هذه العلوم ؟ والجواب: أنها علوم تخصصية أو شبه تخصصية ، بعضها يحصل عليه الطالب بعد تضلعه في علم الأصول ، بجهده الشخصي بدون أستاذ . وبعضها يحتاج الى أستاذ ، والعديد منها لها أساتذة في الحوزة ، وهم من قديم يُخَرِّجُون طلبتهم فيها ، بأساليبهم المتعددة .
والنتيجة: أن تقليل المواد لطالب العلم حاجةٌ منطقية ، ليستوعبها ويعايشها ويتعمق فيها ، وأن التركيز على أدبيات اللغة العربية والمنطق والفقه وأصوله صحيحٌ أيضاً ، ليملك الطالب القدرة على التخصصات اللازمة .
لقد نسي محبوا البرامج المحشودة ، أن النمو العلمي لا يتحقق بكبس المواد في الذهن ، وأن القليل القارّ خير من الكثير الفار ، وأن مهمتهم ليست أن يخرِّجوا طلاباً ملمين بعدة علوم ، شكلاً بدون مضمون ، بل تخريج متخصصين في علم يعطيهم القدرة على التخصص في علوم أخرى !
ورحم الله الشيخ البهائي القائل: غلبتُ كل ذي فنون ، وغلبني كل ذي فن !
7- محاولات تحديث المتون الدراسية
في الحوزة متون مقررة للتدريس، في النحو ، والمنطق ، والحديث ، والفقه والأصول ، يتعصب لها بعض الأساتذة والطلبة لإعجابهم بها وألفتهم لها ، وينتقدها البعض ، ويطالبون باستبدالها بكتب أكثر عصرية .
ولا يمانع المراجع والعلماء في تبني متون درسية جديدة ، إذا كانت أفضل من الكتب الفعلية ، ولكن إشكالهم على الكتب المقترحة بأنها لاتتوفر فيها الشروط ،
----------------------- [ 119 ] -----------------------
فالمتن الدرسي له مواصفات في عبارته ومطلبه ، فيجب أن يكون مطلبه علمياً قوياً ، وعبارته فصيحة بليغة لاخلل فيها ، ولا تطويل .
وقد ألف بعضهم كتباً لهذا الغرض ، ومن أولهم الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله فقد ألف كتاب المنطق ، وأصول الفقه .
وألف السيد الصدر رحمه الله كتاب دروس في علم أصول الفقه ، جعله بثلاث حلقات ، لثلاثة مستويات .
وارتضى بعضهم كتاب النحو الواضح للشيخ علي الجارم ، وهو أزهري كان كبير المفتشين في وزارة المعارف المصرية ، توفي سنة 1949م. وشاركه في التأليف مصطفى أمين وهو كاتب وصحفي مصري ، توفي سنة1997م.
وقد تبنت بعض مدارس الحوزة تدريس هذه الكتب ، بدل الكتب التقليدية ، ونجح بعضها ، وبعضها لم ينجح .
والحاصل: أنه ما زالت كتب المقدمات في اللغة هي السائدة من زمن طويل ، كالأجرومية للصنهاجي المشهور بابن آجروم ، وشرح قطر الندى ومغني الببيب ، وكلاهما لابن هشام الأنصاري ، وألفية ابن مالك .
وفي المعاني والبيان: مختصر المعاني للتفتازاني . وقد تُدرس قبله أو بدله بعض الكتب الجديدة ، وأكثرها تأليف علماء مصريين .
----------------------- [ 120 ] -----------------------
وفي المنطق: يدرس كثيرون كتاب المنطق للمظفر ، ويدرسون معه أو بدله حاشية ملا عبد الله اليزدي على تهذيب المنطق لسعد الدين التفتازاني (ت 792 ). وشرح الرسالة الشمسية: لقطب الدين الرازي (ت:766هـ).
وفي الفقه ما زالت الكتب السائدة في المنهج بدون منافس: كتاب شرح اللمعة الدمشقية للشهيدين ، وكتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي ، وكتاب المكاسب للشيخ الأنصاري رحمه الله .
أما في أصول الفقه ، فمازال كتاب الكفاية للمحقق الخراساني ، وكتاب فرائد الأصول المعروف باسم الرسائل للشيخ الأنصاري ، هما السائدان ويدرس بعضهم كتاب السيد الصدر رحمه الله ، المعروف بالحلقات .
والنتيجة: أن الكتاب الدراسي في الحوزة يخضع الى حد كبير لقانون الإنتخاب الطبيعي، ويجب أن يبقى خاضعاً لهذا القانون ، وأن يترك اختيار الكتاب الى الطالب والأستاذ ، ولا يفرض عليهما كما تفعل بعض المدارس.
فالكتب المقررة في منهج الحوزة ليست قرآناً منزلاً ، لكن لا يجوز الإستعجال في استبدالها ، فإن العاقل لايترك كتاباً أثبت جدارته وربى أجيالاً من العلماء ، الى كتاب بديل لم يثبت نجاحه !
إن تحديث مناهج الحوزة واستبدال الكتب المقررة ، مبدأٌ مُهِمٌّ يتناسب مع طبيعة مذهبنا في فتح باب الإجتهاد وعدم جواز إغلاقه .
لكن لا بد أن يوضع لبابه المفتوح شروط ، كما أن للإجتهاد شروطاً . ومنها أن
----------------------- [ 121 ] -----------------------
يثبت الكتاب نجاحه عملياً بدرجة أفضل من الكتاب المستبدل . فيجرب تدريسه على عدد محدود من الطلبة ، ويطلب من الأستاذ والتلاميذ تسجيل نقاط قوته وضعفه . لتدرس من قبل العلماء..الخ.
كما يجب أن نعرف قيمة المتون المميزة ، التي ربَّت أجيالاً من الطلبة والعلماء ، ككتب ابن هشام الأنصاري في العربية ، وكتاب شرائع الإسلام وشرح اللمعة في الفقه ، وكفاية الأصول والرسائل والمكاسب...
وأختم بما سمعته من الشيخ المنتظري من أن بعض العلماء طلبوا من المرجع الكبير السيد البروجردي رحمه الله أن يؤلف كتاباً في الفقه بدل الشرائع ، ليكون عليه مدار البحث في الحوزات ، فسكت ولم يجب ، ثم أعادوا عليه في مجلس آخر ، فقال للمتكلم: ماذا تقول؟! أنتم لاتعرفون قيمة كتاب الشرائع! أنا لا أستطيع أن أكتب سطراً بمستوى كتاب الشرائع!
وصدق المثل القائل: لايعرف الفضل إلا ذووه !
8- لماذا عارض أكثر العلماء تأسيس كلية الفقه؟
تُعرف المعاهد والمدارس والحواضر العلمية الدينية عند الشيعة باسم: الحوزات العلمية ، بمعنى المجموعة العلمية ، لأنها من حاز حَيْزاً وحوزة ، وفي الحديث النبوي:حَوْزة الإسلام ، أي بيضته وأصله . وتأتي الحوزة بمعنى الناحية والدائرة والذمة والذمار.(لسان العرب:5/342، و الصحاح:3/876).
وتمتاز الحوزات العلمية الشيعية عن مثيلاتها من المؤسسات الدينية الإسلامية ، وعن الجامعات العصرية ، بأمور:
----------------------- [ 122 ] -----------------------
الأول: استقلالها السياسي والمالي . لأن ماليتها من الأخماس والزكوات والتبرعات ، التي يدفعها جمهور الشيعة في العالم إلى مرجع التقليد ، الذي يعتقدون أنه الأفقه من بين العلماء المعاصرين .
وقد حاولت الدول قديماً وحديثاً تغيير عقيدة الشيعة ، وتحويل استلام الحقوق الشرعية إلى وزارات أو هيئات ، فلم تنجح ، لأن الحكم الشرعي أن يعطي المكلف الحقوق التي في ذمته إلى مرجع تقليده الذي يثق به .
الأمر الثاني من ميزات حوزاتنا: منهجها الدراسي كما تقدم ، وهو يحفظ إلى حد كبير حرية اختيار الأستاذ والتلاميذ ، بعكس الجامعات العصرية .
وقد تمسك المراجع بهذا المنهج ، لأنه أكثر واقعية ، ولأنه الطريقة الحلقية الأصيلة ، المتصلة بحلقات دروس النبي عليهما السلام والأئمة الطاهرين عليهم السلام وتلاميذهم ، والسلف الصالح من علمائنا .
الثالث: تتميز الحوزة بنظام الإجازات الإسلامي ، وهو أفضل من نظام الشهادات في الجامعات العصرية ، لأنه يقوم على معايشة علمية أكثر للأستاذ مع تلاميذه ، ومعايشة الطلاب للمواد بنظام المباحثة وغيره .
ويشمل نظام الإجازة العلمية من كبار العلماء أنواع الإجازات ، كإجازة الإجتهاد ، وإجازة الرواية ، والإجازة الوظيفية ، كإجازة القضاء ، وإجازة الوكالة عن المرجع ، وإجازة التبليغ ، وإمامة الجماعة والجمعة ..إلخ.
----------------------- [ 123 ] -----------------------
وقد طرح بعضهم مشاريع لتحديث الحوزة وتطويرها ، في المنهج الدراسي والإدارة ، وواجهها المراجع وكبار العلماء بالتحفظ أو الرفض ، ومن ذلك مشروع كلية الفقه ، الذي تبناه بعض العلماء المحترمين ، وعملوا له حتى تم تأسيس كلية الفقه في النجف ، وافتتحت سنة 1959ميلادية .
وكان من المبررات التي طرحها أصحاب مشاريع التحديث: أن الحوزة العلمية يجب أن تساير العصر وتلبي حاجاته ، وتدرس علوماً أخرى كعلم النفس والإجتماع والتاريخ والسياسة ، مع الفقه والأصول .
وكان المرجع السيد الحكيم رحمه الله وغيره من المراجع لا يحبذون ذلك خوفاً من تحويل الحوزة الى كليات ! وكان معهم الطلبة التقليديون ، بل كنا ننظر الى من يناصرمشروع كلية الفقه بأنه متأثر بالأفكار العصرية ، ولذك رفضنا التسجيل فيها ، بل نهينا الكثيرين عن ذلك .
وسبب معارضة هؤلاء المراجع لتحويل الحوزة الى جامعات وكليات:
أولاً: خوفهم من مصادرة الدولة للحوزة وتحويلها إلى جامعة عادية تابعة للدولة ، كما حدث لحوزة الأزهر في مصر ، والزيتونة في تونس ، والقرويين، التي صارت كليات ، باسم أصول الدين ، والشريعة.. إلخ.
ثانياً: خوفهم من استبدال التعمق العلمي الحوزوي ، بسطحية المعاهد والكليات المنتشرة في العالم الإسلامي .
ثالثاً: خوفهم من تسييس الحوزة ، وسيطرة الدولة عليها ، أي دولة ، حتى لو كانت دولة شيعية .
----------------------- [ 124 ] -----------------------
رابعاً: يعتبر الفقهاء أن أصل مهمة الحوزات ضمان وجود مبلِّغين للدين من خطباء وعلماء . ووجود مجتهدين على مستويات عالية ، يكون منهم مرجع التقليد الذي يقتنع بأعلميته عموم الشيعة .
بينما تطرح هذه المشاريع إضافة علوم أخرى للحوزة ، والتقليل من التركيز على الفقه وأصوله ، الأمر الذي يشعرون معه أنه انحراف بالحوزة عن هدفها ، وصرف الطلبة عن التعمق الضروري في الفقه وأصوله .
خامساً: لأنهم يرون أن مواد المناهج المقترحة ضعيفة ، لاتصل إلى مستوى المواد المقررة في الحوزة ، سواء في أدبيات اللغة والمنطق والبلاغة ، والفقه وأصوله . وأن من شأنها أن تربي طلاباً سطحيين ، ليس لهم أهلية الإجتهاد ولا الكفاءات العلمية الأخرى .
* *
----------------------- [ 125 ] -----------------------
الفصل السادس: نقاط عن المؤسسة الدينية الشيعية
1- لمحة عن المؤسسة الدينية الشيعية
يتكون الجهاز الديني الشيعي ، أو ما يعبر عنه بالمؤسسة الدينية الشيعية ، من المرجعية العليا للشيعة في العالم ، وكبار علماء الحوزة ، وألوف طلبتها ، وعلماء المناطق والبلاد التي يسكنها الشيعة ، والحوزات العلمية التابعة لهم. ويبلغ عدد هذا الجهاز في العالم نحو مئة ألف (رجل دين) .
وإذا قايسناه بالأجهزة الدينية الأخرى لأتباع المذاهب السنية ، وجهاز الدين اليهودي ، وأجهزة المذاهب المسيحية ، لوجدناه يمتاز عن غيره بثلاث ميزات: استقلاله السياسي ، والمالي ، واستمرار وجوده عبر العصور الى اليوم . فهو الجهاز الديني الوحيد الذي حافظ على حياته وفاعليته من عهد الأئمة الأطهار عليهم السلام الى عصرنا الحاضر ، واستعصى على الإبادة والخضوع ، وقاوم أحداث الدهور ، وصروف الزمان !
فجهاز الحاخامات مثلاً خضع في تاريخه وحاضره للحكام ، ولزعماء بني اسرائيل ، حتى فقد الكثير من مصداقيته ، حتى عند اليهود أنفسهم .
وأضعف منه الجهاز الكنسي الذي تحمل أوزار الحكم البابوي في القرون الوسطى ، فثار عليه جمهوره ، وسجنوه في قفص الفاتيكان والكنيسة .
----------------------- [ 126 ] -----------------------
أما الأجهزة الدينية للمذاهب السنية ، من أزهر مصر ، وجامع الزيتونة ، وجامعة القرويين ، ومشيخات الصوفية في العالم الاسلامي ، ومشيخة الاسلام في استانبول ، فلم تصمد أمام الغزو الغربي ، وفقدت نفوذها وصارت مؤسسات بيد الحكومات ، وصار علماؤها موظفين !
بينما قاوم الجهاز الديني الشيعي فحافظ على استقلاله ، حتى في مقابل الحاكم الشيعي ! لذلك يفتخر الإنسان الشيعي بأن مرجعيته وجهازه الديني هو الإستثناء الوحيد بين الأجهزة الدينية ، الذي حفظ استقلاله عبر العصور ، وواصل فاعليته لخير طائفته وعامة المسلمين ، معتمداً على صمود مراجعه وعلمائه ، وتمويل متديني الشيعة وأخيارهم .
2- أنواع طلبة الحوزة واتجاهاتهم
يبلغ عدد طلبة الحوزة في النجف وقُم ألوفاً كثيرة ، ويتزايد عددهم أو يقلُّ حسب ظروف المجتمع والحوزة . وتوجد حوزات صغيرة ومتوسطة في أكثر البلاد التي فيها شيعة .
ويعيش الطلبة العزاب في مدارس داخلية ، والمتأهلون في بيوت في أحياء المدينة ، وتوجد مجمعات سكنية خاصة للطلبة ، تستوعب جزءاً منهم .
ومن طلبة الحوزة من يعمل في التبليغ في المدن والأرياف ، فيذهب في عطلة الخميس والجمعة ، ويَدرس في بقية الأيام .
أما في العطل والمناسبات الدينية ، فينتشر أكثرهم للتبليغ في البلاد ، خاصة في
----------------------- [ 127 ] -----------------------
شهر رمضان ومحرم ، فيعملون في تدريس الأحكام ، وإمامة الصلاة ، وقراءة مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلام وبقية الفعاليات الدينية .
وطلبة الحوزة مجتمع واسع ، تتنوع بلدانهم وأعراقهم وشخصياتهم ، وتتفاوت مستوياتهم ، الفكرية والثقافية والروحية . فلا يصح النظر اليهم وكأنهم نوع واحد ، وكأنهم إخوة لأب وأم !
نعم ، إن الحوزة تصوغ شخصية الطالب وتطبعها بطابعها الفكري والروحي ، لكن تبقى صفاته الذاتية وإرادته في أن ينطبع بفكر الحوزة وروحيتها ، كثيراً أو قليلاً . بل قابليته لذلك .
إن وحدة الزي والمركز العلمي والمذهب ، قاسمٌ مشتركٌ بين طلبة الحوزة وعلمائها ، لكنها وحدة تتسع للتنوع بينهم ، الى حد التضاد أحياناً .
وفيما يلي تقسيمٌ عامٌّ لطلبة حوزة النجف عندما كنت فيها:
1- الطلبة التقليديون ، الذين يغلب عليهم الإهتمام بالدراسة أكثر من غيرها ، وينتقدون مشاريع العصرنة السياسية أو الثقافية ، ويتَّبعون المراجع والعلماء ، ويعتبرون أنفسهم الإمتداد الصحيح لمذهب أهل البيت عليهم السلام ولرواته وعلمائه وجمهوره . وكنت أنا وأمثالي نُصَنَّفُ من هؤلاء .
2- المعجبون بعصرنا ثقافياً ، وهم مغرمون بالأدب والشعر ، والكتب الحديثة والمجلات والجرائد . منفتحون على الغرب ، وينتقدون التخلف في بلادنا ، ويدعون لأن تتحول الحوزة الى جامعة كالجامعات العصرية .
----------------------- [ 128 ] -----------------------
3- المعجبون بعصرنا سياسياً ، مضافاً الى إعجابهم الثقافي ، وهم يؤيدون تيارات سياسية ، أو زعماء سياسيين ، وبعضهم يرتبط بهم ! فقد كان في الحوزة طلبة قوميون يؤيدون جمال عبد الناصر ، وكانوا كثرة نسبياً ، ومنهم من يرتبط بجهات سياسية ناصرية .
كما كان فيها أفراد يميلون الى الشيوعيين ، ويهاجمون المرجعية بحجة سوء نفقاتها ، وكانوا ينشرون الشائعات الكاذبة والخيالية عن إنفاقات المرجعية!
وكان في الحوزة أفراد قليلون يؤيدون البعثيين ، وبعضهم ذهب لاستقبال ميشيل عفلق في مطار بغداد !
4- الطلبة المهتمون بالسياسة الحوزوية ، فهم يهتمون بأخبار المراجع وكبار العلماء ، وزوار الحوزة من شخصيات سياسية وعلمية ، ومواقف الحوزة من الحكومة والعكس ، ويهتمون بأوضاع الطلبة وأخبارهم . وهؤلاء مستويات ، وفيهم شخصيات من أبناء الأسر العلمية وكبار العلماء ، وأفضلهم الذين يعتزون بالحوزة والمرجعية ، ويعيشون العصبة النجفية باعتبارها مركز الحوزة العلمية ، وبلد أمير المؤمنين عليه السلام .
5- أهل العبادة والعرفان والتصوف ، وهم طلبة يعيشون قبل همِّ الدرس والتدريس، همَّ معرفة الله تعالى وجهاد النفس وتربيتها ، ويمضون أكثر وقتهم في العبادة في حرم أمير المؤمنين عليه السلام أو الكوفة وكربلاء .
وهم أنواع واتجاهات ، فمنهم ملتزمون بشيخ يسمونه أستاذ أخلاق ، أو
----------------------- [ 129 ] -----------------------
أستاذ سلوك ، وبعضهم يغالي في أستاذه وينقل له معجزات . وبعضهم لايتقيد بشيخ ، بل يهتم بتطبيق مفاهيمه عن المعرفة والعبادة ، والدعوة اليها ونشرها بين الطلبة .
وبعضهم يتخذ هذا الإتجاه حزباً له يتعصب له ، وينتقد غيره . وبعضهم يتخذه كطريق لتهذيب نفسه ، ولا يرتكب توبيخ الآخرين .
وهم منقسمون بين منهجين مختلفين الى حد التضاد ، أو التناقض: فبعضهم يميل الى قمع النفس لأنها العدو الأول ، ويدعو الى تربيتها بجهادها والحذر منها ، ومنعها من المحرمات والشهوات المحللة ، إلا قليلاً . وهذا النوع عادة من النوع الجاد المتشدد .
وبعضهم يميل الى تكميل النفس بمدح طاقاتها العظيمة ، التي أودعها الله تعالى فيها ، فيدعو الى تنميتها وترقيتها حتى تبلغ مستوىً عالياً من العبودية والقرب من الله تعالى ، بل تصل الى الفناء فيه عز وجل! وأصحاب هذا الإتجاه من المعجبين بالفلسفة اليونانية والصوفية الفارسية .
وفي كلا الإتجاهين إيجابيات وسلبيات ، وينبغي التنبيه على سلبية العنف والقسوة في الإتجاه الأول ، وإغراء الطالب بالذاتية في الإتجاه الثاني وتضليله بأنه يسير في مراحل التكامل حتى يصل الى مقام الفناء في الله تعالى ، ويبلغ بهم الغلو أنهم يصادرون بعض صفات الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم ، ويخلعونها على شخص لم ينتصر على نفسه في أداء الواجبات وترك المحرمات والشبهات ، وترك الدنيا الحرام ومغرياتها !
----------------------- [ 130 ] -----------------------
6- الهامشيون ، وهم طلبة علم بالإسم لكنهم عاديون جداً . مُتهمون بطلب العلم وهم منه براء براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام , فترى أحدهم لايُتعب نفسه في درس ولابحث ولابفتح كتاب ومطالعته ! ليس في العير من العلم ولا النفير، لكنهم حاضردائماً ، في أول عير الحوزة وآخر نفيرها!
وينبغي الإلفات الى أن هذه الأقسام التي ذكرناها ، لا تستوعب كل أنواع الطلبة في الحوزة . كما لايتسع المجال لوصفهم وعرض أفكارهم .
* *
3- الخريطة الشيعية لبناء رجل الدين
من الكتب الفريدة في توجيه الطالب والأستاذ ، التي تستحق التعميم على جامعات العالم وتدريسها ، كتاب: منية المريد في أدب المفيد والمستفيد ، الذي ألفه الشيخ زين الدين الجبعي، المعروف بالشهيد الثاني رحمه الله ، ويقع الكتاب في نحو300 صفحة ، ويعتبر هو البرنامج ، وخطة العمل ، والخريطة الشرعية ، لبناء شخصية الطالب ، والأستاذ ، والمباحث ، والمناظر ، والمؤلف ، لتحقيق النموذج الكامل لهذه الشخصيات .
وقد بحث المؤلف رحمه الله الموضوعات التي يحتاج اليها هؤلاء ، في أكثر من200 عنواناً ، على ضوء آيات القرآن ، وأحاديث النبي وأهل بيته عليهما السلام . ونورد فيما يلي خلاصةً لفهرس موضوعاته:
----------------------- [ 131 ] -----------------------
مقدمة في فضل العلم من الكتاب والسنة والأثر ودليل العقل
في آداب المعلم والمتعلم:
إخلاص النية لله تعالى في طلب العلم وبذله .
في الغرور في طلب العلم والمغترين من أهل العلم .
حسن الخلق والتواضع ، وتمام الرفق وبذل الوسع .
عفة النفس ، والإنقباض عن الملوك وأهل الدنيا .
الإجتهاد في الإشتغال ، قراءةً ومطالعةً وغيرهما .
عدم المراء والسؤال تعنتاً وتعجيزاً .
عدم الإستنكاف من التعلم ممن هو دونه .
الإنقياد للحق بالرجوع عند الهفوة .
عدم حضور مجلس الدرس إلا متطهراً من الحدث والخبث .
آداب يختص بها المعلم:
عدم الإنتصاب للتدريس حتى تكمل أهليته .
عدم الإمتناع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية .
بذل العلم عند وجود المستحق ، وعدم البخل به .
آداب المعلم مع طلبته:
ترغيبهم في العلم ، وتذكيرهم بفضائله ، وفضائل العلماء .
حبه لهم ما يحب لنفسه ، وكراهته لهم ما يكره لنفسه .
استعلام أسماء طلبته ، وأنسابهم وكناهم .
----------------------- [ 132 ] -----------------------
تحريضهم على الإشتغال ، ومطالبتهم بإعادة محفوظاتهم .
طرح مستفاد المسائل الدقيقة لهم ، واختبار أفهامهم .
آداب المعلم في درسه:
عدم الخروج إلى الدرس إلا كامل الأهبة .
الجلوس بسكينة ووقار ، وتواضع وخشوع وإطراق .
تفهيم الدرس بأيسر الطرق ، وأعذب ما يمكنه من الألفاظ .
عدم تطويل مجلسه تطويلاً مملاً ، وتقصيره تقصيراً مخلاً .
وأن يزجر من تعدى في بحثه ، أو ظهر منه ترك إنصاف .
الإرفاق بهم في خطابهم ، وسماع سؤالهم .
نصب نقيب فَطِنِ كَيِّسٍ لهم .
الآداب المختصة بالمتعلم:
تحسين نيته ، وتطهير قلبه من الأدناس .
اغتنام التحصيل في الفراغ وحالة الشباب .
ترك التزويج حتى قضاء وطره من العلم .
علو الهمة وعدم الرضا باليسير ، وترك التسويف .
آدابه مع شيخه وقدوته ، وما يجب عليه من تعظيم حرمته .
حق العالم على المتعلم:
الآداب المستفادة للمتعلم مع معلمه ، من سؤال موسى عليه السلام .
نظر الشيخ بعين الإحترام ، وضرب الصفح عن عيوبه .
الصبر على جفوة تصدر من شيخه ، وتأويل أفعاله .
----------------------- [ 133 ] -----------------------
الدخول على الشيخ كامل الهيأة فارغ القلب .
عدم السؤال عن شئ في غير موضعه .
آدابه في درسه وقراءته:
الإبتداء أولاً بحفظ كتاب الله ، حفظاً متقناً .
الإقتصار من المطالعة على ما يحتمله فهمه .
المذاكرة بالمحفوظات ، وإدامة الفكر فيها .
تقسيم أوقات ليله ونهاره على ما يحصله .
الإنتقال إلى المبسوطات ، إذا بحث المختصرات .
التأدب مع رفقته ، وحاضري المجلس .
في آداب الفتوى والمفتي والمستفتي:
أهمية الإفتاء ، وما ورد فيه والتخدير منه .
الإفتاء وتحصيل مرتبته ، وأنهما فرضا كفاية .
عدم الإفتاء في حال تَغَيُّرِ خلقه ، وحصول المانع من التأمل .
لزوم إعلامه المستفتي برجوعه إذا تغير اجتهاده .
لزوم تبيين الجواب بياناً يزيل الإشكال .
عدم إطلاق الجواب إذا كان في المسألة تفصيل .
كتابة الجواب بخط واضح وسط ، والتوسط في سطوره .
إعادة النظر في الجواب ، وتأمله بعد كتابته .
ذكر حجة مختصرة في الفتوى .
أحكام المستفتي وآدابه وصفته:
----------------------- [ 134 ] -----------------------
الرجوع إلى الأعلم الأتقى ، إن اختلفوا في الفتوى .
عدم جواز تقليد الميت ، مع وجود الحي عند أصحابنا .
تقليد من شاء من المفتين ، لو تعددوا وتساووا .
التأدب مع المفتي وتبجيله .
في المناظرة وشروطها وآدابها وآفاتها:
عدم الإشتغال بالمناظرة وهناك ما هو أهم من المناظرة .
كون المناظر مجتهداً ، يفتي برأيه لا بمذهب أحد .
لزوم كون المناظر في طلب الحق كمنشد ضالة .
آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق:
الإستكبار عن الحق وكراهته . الرئاء وملاحظة الخلق . الغضب . الحقد . الحسد . الهجر والقطيعة . الكلام فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وغيرهما...
في آداب الكتابة والكتب التي هي آلة العلم
أهمية الكتابة ، وشرفها .
وجوب إخلاص النية على الكاتب في كتابته .
عدم الإهتمام بالمبالغة في حسن الخط ، والإهتمام بصحته .
اجتناب قرمطة الحروف ، والإتيان بها مشتبهة بغيرها .
كتابة التراجم والأبواب والفصول بالحمرة ونحو ذلك .
خاتمة في مطالب مهمة:
أقسام العلوم الشرعية الأصلية...
لزوم مراعاة مرتبة كل علم من العلوم .
----------------------- [ 135 ] -----------------------
الغرض الذاتي موافقة مراد الله تعالى .
كون هذه العلوم بمنزلة الآلة للعمل .
تتمة الكتاب ، في نصائح مهمة لطلاب العلوم .
4- نموذج لطالب غبي
كان صاحبنا جاداً وقوراً خجولاً ، لايضحك إلا تبسماً وهو يضع يده على فمه ، ولا يجلس معنا في باحة المدرسة ، ويقضي وقته في غرفته بالصلاة وقراءة الأدعية والقرآن .
كان ينتقدنا إذا رفعنا صوتنا بالضحك ، أو أطلنا في السهر فيقول: كيف تريدون الإستيقاظ لصلاة الصبح ، وأنتم تسهرون كثيراً ؟
وكان يدرس وكأنه لايدرس ، فلايتحدث بشئ من دروسه ، ولا يباحث أحداً ، وإذا طُرحت مسألة علمية بقي على الشاطئ ولم يمد يده الى بحرها ولا نهرها. بينما يتكلم بحماس في أمور أخلاقية جزئية ، فيتشدد مثلاً في النهي عن القهقهة ويوبخ صاحبها ، وكأنه ارتكب كبيرة من الكبائر !
ومع سطحيته وشدته ، كان يعجبني في سمته وهديه فقلت في نفسي: أطلب منه مباحثةً لعلي أفيده علمياً ، وأستفيد من سمته وأخلاقه . وطلبت منه بحثاً في مغني اللبيب فقبل مرحِّباً ، وفي الوقت المحدد طلبت منه أن يبدأ فقرأ: « الألف المفردة:تأتي على وجهين: أحدهما أن تكون حرفاً ينادى به القريب كقوله: أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل. ونقل ابن الخباز عن شيخه أنه للمتوسط ، وأن الذي
----------------------- [ 136 ] -----------------------
للقريب: يا . وهذا خرق لإجماعهم . والثاني: أن تكون للإستفهام وحقيقته طلب الفهم نحو: أزيد قائم ، وقد أجيز الوجهان في قراءة الحرميين: أَمْ مَنْ هُوَقَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ..الخ».
وشرح صاحبنا المطلب فخلط بين أدوات نداء القريب والبعيد والمتوسط وفسر طلب الفهم في الإستفهام ، بطلب التعمق لمعرفة الحقيقة !
لكن المصيبة عندما وصل الى قول ابن هشام: «فصل: قد تخرج الهمزة عن الإستفهام الحقيقي فترد لثمانية معان: أحدها: التسوية..والثاني: الإنكار الإبطالي..والثالث: الإنكارالتوبيخي..والرابع: التقرير..والخامس: التهكم.. والسادس: الأمر..والسابع: التعجب..والثامن: الإستبطاء..الخ.
فخاضها معركة دموية مع هذه المعاني ، يخبطها ويخلطها ، ويشتبك مع أحدها ويقعان أرضاً ! وأخذت أصحح له بلطف ، فكان يقبل الشئ ثم يتبنى نقيضه! فقبول الفكرة عنده له معنى يختلف عن معناه عند الناس!
وبعد أيام تيقنت أن مشكلته في بنيته الفكرية التحتية ، فالبديهي عنده غير بديهي، والكسبي قد يكون بديهياً ، والمتناقض غير متناقض!
والأمر المعضل فيه: أنه اتخذ قراراً حاسماً حازماً جازماً، باتاً قاطعاً قطعياً ، وكأنه حلف يميناً مغلظةً: أن لا يغير طريقة تفكيره ! فودعته على خير .
وأكمل صاحبنا دراسته في الحوزة ، ودرس نصيبه من الفقه والأصول ، وبحث الخارج ، وتخرج عالماً ! وصار عالم بلدة ، فكان يؤم الناس في مسجد ، ويدرسهم الأحكام الشرعية ، ويلقي عليهم مواعظه !
----------------------- [ 137 ] -----------------------
ورأيته بعد مدة ، فسألته عن عمله فكان راضياً ، وسألت بعض المصلين في مسجده فشكَوْا من تشدده الذي عرفناه في المدرسة .
إنه من النوع الذي يدرس في الحوزة ويعود منها حافياً من العلم ، كما دخلها! والسبب أن شخصيته تكتمل في وقت مبكر من عمره ، حيث يمتلئ إناؤه بأول أشياء تصادفه وتعجبه فتكون قالباً لشخصيته ، ويثبت على ذلك القالب الى يوم يبعثون ! فلو صار إمام مسجد بدون سفر الى الحوزة لما اختلف عليه الحال ، ولا على المصلين المستمعين الى مواعظه !
وصاحبنا من خيرة هذا النوع الذي يجمع بين قلة الفهم ومظهر التقوى ، لأنه ليس عدوانياً ، بل هو مشغول بنفسه وبمن يستجيب له ويقبل أن يصبه في قالبه . ومن نعم الله عليه أنه يخاف من المجتمع المتدين والعلماء ، فيحرص أن لايغضبهم ، وبذلك يكفي الله الدين شر جهله وحمقه!
ويوجد من نوعه أحمق لايخاف من المجتمع والعلماء، ويملك ذرابة لسان، ويجيد تسفيط الكلام ، فيضر الدين وأهله أي إضرار !
قال لي المرجع السيد الحكيم رحمه الله ذات مرة: يافلان إختر لي وكلاء ممن تعرفهم ، فقد طلبوا منا وكلاء للمحافظات بمناسبة شهر رمضان ، إنهم يأتون الى النجف فيرون الصحن مملوءاً بالمعممين ، فيتصورون أن عندنا معملاً ينتج العلماء كمعمل الصحون والكؤوس ، ولايدرون أن أكثر هؤلاء إذا أرسلناهم يضرون ولا ينفعون !
* *
----------------------- [ 138 ] -----------------------
5- من صفات الطالب الذكي الجاد
في معرفة الله تعالى:
طالب العلم إنسان آمن بالله عز وجل بفطرته ومحيطه ، وعرف عنه بعض المعلومات ، ويرى أن وجوده في الحوزة العلمية هو الفرصة لأن يعرف ربه بعمق ، بالدراسة والمطالعة والتعلم ممن يعرفه عز وجل .
والأهم عنده: كيف كان النبي عليهما السلام وأهل بيته عليهم السلام يعرفون ربهم عز وجل ويعبدونه ؟ ماذا قالوا عنه ، وكيف علمونا معرفته وعبادته ؟
فالقضية المركزية عند الطالب: أن يعرف ربه معرفة عقلية نظيفة ، خالية من الهرطقة والشطح والخيالية . من أي كتاب أو درس أو تأمل ، لكن الحكَم فيها دائماً نمط معرفة النبي والأئمة عليهم السلام ، لاسواهم .
وأن يعرفه معرفة شعورية صحيحة: فيراه حاضراً فاعلاً في كل الوجود ، بخططه وألطافه ، حتى في القضايا العلمية والإجتماعية والسياسية .
وأن يعيش معه غالباً ، فلاينساه إذا فرح أو حزن ، أو استغرق في جد أو لهو! فالله معه دائماً وهو معه غالباً ، إن نسيه عاد اليه ، وإن عصاه تاب اليه .
فالأصل في الإنسان الضعف والقوة استثناء ، والمؤمن كالغصن ينحني فينهض ، والمنافق كالخشبة تنحني فتنكسر!
والمؤمن إنسان واقعي ، لايغتر بنفسه ، ولا يقنط من رحمة ربه ، بل يخافه
----------------------- [ 139 ] -----------------------
ويرجو رجمته ، ويضرع اليه طوال طريقه .
ولا ينسى الطالب أن عليه أن يكون صادقاً في انتسابه الى ربه عز وجل ، فقد اختار أن يكون عالماً بدينه ، يُوجه الناس اليه ، والى نبيه وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام . وهي دعوى عظيمة تحتاج الى صدق وجدية .
في معرفة النبي عليهما السلام :
وطالب العلم آمن بالنبي عليهما السلام وأهل بيته عليهم السلام ، فهو يريد أن يتعرف عليهم ، ويوثِّق معهم علاقته .
يريد أن يقرأ أي شئ عن نبيه عليهما السلام ، ويسمع عنه ، من هو ، وكيف عاش ، وكيف عرف ربه ، وكيف أوحيَ اليه ، وكيف بلَّغ ما أوحيَ اليه من ربه ، وأنشأ هذه الأمة ، وأطلق هذا المد التوحيدي الحضاري في العالم ؟
لقد كتبوا عنه عليهما السلام كثيراً ، ورووا عنه أكثر ، لكن طالب الحوزة الجاد يريد أن يرسم لنبيه عليهما السلام في عقله ووجدانه ، تصوراً صحيحاً ، بعيداً عن كذب مصادر الحكومات ، وعن خيالات العوام السذج ، وشطحات مدعي التصوف والعرفان . فعليه أن يقرأ ويفكر ، ثم يقرأ ويفكر ، ثم يطرح المسائل مع من يثق بعلمهم ، وفي مجالس المذاكرة .
في معرفة عترة النبي عليهما السلام :
وكذلك معرفة المعصومين من العترة الطاهرة عليهم السلام ، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة التسعة من ذرية الحسين عليهم السلام ، فهؤلاء هم العترة الذين
----------------------- [ 140 ] -----------------------
حددهم النبي عليهما السلام بالكساء والأسماء ، وأخبر الأمة أن الله تعالى فرض ولايتهم وطاعتهم ، وأوصى بهم الى حنب القرآن .
وطالب العلم معنيٌّ بأن يرسم عن كل واحد منهم في عقله ومشاعره صورة صحيحة . وكل واحد منهم عليهم السلام أفق رباني ، وعالم واسع ، وطالب العلم يعيش معهم في دروسه ، وفي ذكرياتهم طول السنة ويزورهم .
لكن عليه أن يقرأ عنهم أحسن ما كُتب ، ويفكر فيهم ، ويذاكر في سيرتهم ومقاماتهم ، حتى يبني عقيدته فيهم .
في طلب العلم:
ومن همِّ طالب العلم أن يدرس الكتب المقررة في منهج الحوزة ويتقنها ، ويكتب دروسه ويباحث دروسه ويذاكرها . ويُدَرِّس إذا طلب منه أحدٌ ذلك . لكن المنهج المقرر لايستوعب كل وقته ، لأنه يحتاج نحو أربع ساعات أو ست ، ويبقى له وقت فائض ليصرفه في بقية أهدافه . لذا ينبغي له أن يبرمج وقته ليومه وأسبوعه ، وللعطل الأسبوعية ، وعطل المناسبات الدينية ، وعطلة السنة .
سأل أحدهم طالباً: كم ساعة تشتغل في اليوم ، وحَسَبَ معه فوجد أنه يعمل ساعات قليلة ، فقال له: إن أقل موظف أو مهني أو عامل بناء ، يعمل أكثر منك ، فكيف لاتخجل لقلة عملك ، وأنت تنسب نفسك للإمام المهدي عليه السلام وتدعي أنك موظف عنده ؟!
إن أساس برمجة الوقت وسرها ووقودها ، أن تكون في قلب الطالب شعلة
----------------------- [ 141 ] -----------------------
الإيمان المتوهج وحب المعرفة المتوقد ، فهذا يجعله يستثمر كل وقته في العمل ، وينسى أكثر مشاغله ومشاكله التي تعوق طلبه للعلم .
* *
6- ملاحظات مفيدة لطالب العلم
1- قرأت لباحث غربي أن الذهن الغربي ليس أقوى من الذهن الشرقي، لكن مدة تركيز ذهن الغربي على النقطة المطلوب فهمها أطول بست مرات من الشرقي ، فهو يركز 12 ثانية ، بينما يركز الشرقي ثانيتين فقط !
لذلك كان من الضروري أن يسأل طالب العلم نفسه: كم ثانية أركز على المسألة العلمية ؟ ويصحح تعامله مع المعلومة .
ثم يسأل نفسه: هل أن طلب العلم أكبر همي أم لا ؟ فإن كان اهتمامه بغير طلب العلم أكثر ، فلا بد أن يصحح النية والعمل .
----------------------- [ 142 ] -----------------------
ثم يسأل نفسه: كم ساعة أعطي من يومي لطلب العلم؟ فلا يرضى بأقل من نصف ساعات نهاره .
ولا بد أن يكون عنده تصور ولو تقريبي للسنوات التي سيعطيها من عمره متفرغاً لطلب العلم ، ونية بأن يطلبه كما قيل: من المهد الى اللحد .
2- من المشكلات التي تعترض طالب العلم فتبقيه قليل البضاعة من العلم الى آخر عمره: أنه يشعر بأهمية العمل الإجتماعي في هداية الناس ، والتبليغ والخطابة ، ويرى أن القليل من العلم الذي عنده يكفيه لهذه المهمة فيقرر أن يقنع به ، ويصرف وقته في المجتمع .
وقد اتسعت هذه الظاهرة في بعض البلدان ، وسببت انخفاض المستوى العلمي ، حتى قلَّ أصحاب التخصص والمستويات العالية .
إن مقولة: ما عندي من العلم يكفيني للتبليغ والعمل الإجتماعي ، قد تصح بالنسبة الى محدود القابلية الذي امتلأ إناؤه ، أو الذي لاتسمح له ظروفه بالتفرغ لطلب العلم . لكن صاحب القابلية العالية الذي يمكنه التفرغ والتخصص والوصول الى مستويات عالية ، عليه أن يأخذ إجازة من العمل الإجتماعي، كالموظف الذي يأخذ إجازة دراسية ، والجندي الذي يأخذ إجازة لدورة ليكون ضابطاً أو قائداً .
وينبغي للطالب أن يأخذ رأي من يثق به ، ليحدد من أي نوع هو ، وأن لاتكون عقبة المعيشة عائقاً أمام قراره ، لأن طالب العلم يسعى رزقه اليه .
----------------------- [ 143 ] -----------------------
3- إذا وجب على الطالب أوجاز له التفرغ لطلب العلم ، فعليه أن يرضى في معيشته بما تيسر له ، وأن يكون على يقين بأن الله تعالى قد تكفَّل برزقه .
قال الشهيد الثاني رحمه الله في منية المريد/227: « ويرضى بما تيسر من القوت وإن كان يسيراً ، وبما يستر مثله من اللباس وإن كان خلقاً ، فبالصبر على ضيق العيش تنال سعة العلم ويجمع شمل القلب عن مفترقات الآمال ، ليتفجر عنه ينابيع الحكمة والكمال » .
وقال رحمه الله في/160: «ورد في الحديث عن النبي عليهما السلام : إن الله تعالى قد تكفل لطالب العلم برزقه ، خاصة عما ضمنه لغيره . بمعنى أن غيره يحتاج إلى السعي على الرزق حتى يحصل عليه غالباً ، وطالب العلم لا يكلفه بذلك الطلب وكفاه مؤونة الرزق إن أحسن النية وأخلص العزيمة . وعندي في ذلك من الوقائع والدقائق ما لو جمعته بلغ ما يعلمه الله من حسن صنع الله تعالى بي وجميل معونته ، منذ اشتغلت بالعلم ، وهو مبادئ عشر الثلاثين وتسع مائة إلى يومي هذا ، وهو منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وتسع مائة . وبالجملة فليس الخبر كالعيان » !
وقال رحمه الله في /103: «وقوله عليهما السلام : من غدا في طلب العلم أظلت عليه الملائكة وبورك له في معيشته ولم ينقص من رزقه ».
4- ينبغي للطالب أن يعترف باستعداده العلمي الطبيعي ، فقد قسم الله القابليات بين الناس ، وكل إنسان مُيَسَّرٌ لما خلق له . فبعض الطلبة كأنه مخلوق
----------------------- [ 144 ] -----------------------
ليكون متخصصاً في القرآن ، أو الحديث ، أو التاريخ . أو ليكون كاتباً ، أو خطيباً ، أو إدارياً ، أو سياسياً ، أو فقيهاً.
وقد رأيت طفلاً دقيقاً في كلماته وتصرفاته ، يميل الى التجزئة والتعمق ، فكأنه مخلوق ليكون فقيهاً ، فقلت لأهله: إبعثوه الى الحوزة! وكم رأيت شيخاً يتكلم في الفقه فيمِلُّ من التفريع فيُعمم، ويَسْأمُ من التعمق فيُسطِّح.
والإنسان على نفسه بصيرة ، لكنه يخطئ ويغالي بسبب حسن ظنه بنفسه ، فيحتاج الى أن يشهد به غيره ، لئلا يضيع جهده وعمره .
5- إحذر أن تكون حشوياً ، والحشوي مَن يحشو ذهنه بأفكار بدون دليل أو يقبل أفكاراً متناقضة فيما بينها ، فيأخذ كل ما يسمعه أو يقرؤه بحجة أنها معلومات دينية ، فهو كالذي يأكل ما تصل اليه يده ، فيحشو به بطنه !
فعليك أن تدقق فيما تأكل لتعرف ماذا تحوي بطنك ، وتدقق فيما تغذي به عقلك ، فلا تقبل معلومة إلا بدليلها وشروطها ، فإن لم تستكمل الشرط فضعها في بقعة الإمكان. وهي بقعة واسعة لكنها احتمالات وليست علماً.
6- عود نفسك التعمق ، ولا ترض بالنظرة السطحية ، فمن الكلمات الحكيمة: العلم بحر ، الغرق فيه في الشاطئ والنجاة فيه في اللجة. وكان أستاذنا السيد الصدر رحمه الله يقول لنا: مَرِّرْ المطلب على ذهنك عشر مرات ، فقد يأتيك ولو في المرة العاشرة إشكال عليه ، أو التفات الى شئ ، وهذا هو العلم والتعمق .
7- كنت محباً لدراسة الفلسفة ، ودرست شرح التجريد وقسماً من شرح
----------------------- [ 145 ] -----------------------
منظومة السبزواري عند المرحوم السيد محمد جمال الهاشمي رحمه الله ، وأعجبت بكتاب أستاذنا السيد محمد باقر الصدر رحمه الله (فلسفتنا) واستوعبته ودرسته مرات ، لكني كنت أعاني من سؤال كبير: حتى لو قلنا بعدم التعارض بين الفلسفة والدين ، فأيهما أحرى باتخاذه منبعاً للمعرفة والتفكير: الوحي ، أم نتاج تفكير رجال يونانيين ، كأرسطو وأفلاطون ؟
ومهما يكن ، فإني أنصح الطالب أن لايدرس الفلسفة إلا بعد أن يتعمق في العقيدة والفكر الإسلامي ، ويكون بمستوى بحث الخارج على الأقل .
وقلت يوماً لأستاذنا السيد الصدر رحمه الله :اشتغلتَ بالفلسفة كثيراً وألفتَ كتاب فلسفتنا ، وكتاب الأسس المنطقية للإستقراء ، فماذا استفدت منها؟
فأجاب: الإنسان عندما يعشق الفلسفة ويبدأ بدراستها ، يتصور أنها ستحل كل مشكلاته الفكرية ، ثم يتقدم فيها فيرى أنها لا تحل شيئاً منها!
قلت له: وأحاديث أهل البيت عليهم السلام هل تحل المشكلات الفكرية للطالب؟ فتأمل وقال: نعم تحلها ، وهي التي تحلها .
8- إن قناعة المتكلم والخطيب والواعظ والكاتب وروحيته ، هي التي تؤثر في الناس أكثر من فكره ومعلوماته التي يقدمها لهم؟! لأن كلماته تحمل أجزاءً من روحه ، والمخاطَب يُحس بها ويراها ، ويرى نوع إيمانه بما يقوله ، فيؤثر ذلك فيه أكثر من المعادلات العقلية التي يتضمنها كلامه .
وهذا يعني أن يقينك بأصول الدين وفروعه ، وقناعتك بمعلوماتك التي
----------------------- [ 146 ] -----------------------
تقدمها للناس، هي الأساس في تأثيرك فيهم .
فإن كنت صاحب بصيرة ويقين فسيؤثر كلامك ، لكن اليقين ليس سلعة تشترى أوثوباً يُلبس لِبساً ، بل غرسةٌ يغرسها الله تعالى في عقول عباده وقلوبهم ، فيرعاها بعضهم وينميها ، ويهملها آخرون فتذبل أو تيبس!
9- من تعابير النجفيين: فلانٌ معمم أفندي ، وفلانٌ أفندي معمم ! والأفندي كلمة تركية تشابه كلمة خواجه في مصر وبلاد الشام ، ومعناها الشخص العصري على الطريقة الغربية . والمعنى أن بعض الطلبة المعممين ليس فيهم من أصالة عالم الدين إلا الزي ، فهم في أفكارهم وسلوكهم عصريون متغربون . وبعض الأفندية رغم أن زيهم عصري ، فهم أصيلون في فكرهم وسلوكهم كعلماء الدين الأصيلين .
ومن أمثلة الحوزة في النجف: فلان الطالب كتفسير جوهري طنطاوي فيه كل شئ إلا التفسير؟ ومعناه أن ذلك الطالب فيه كل شئ إلا علوم الدين وتبليغها ! والشيخ طنطاوي بن جوهري ، أزهري ومدرس ، توفي 1358-1940(الأعلام:3/230) وتفسيره كبير يقع في26مجلداً ، حشد فيه كل ما أعجب به من علوم الغرب ، وقال إن هدفه تفهيم المسلمين العلوم الكونية وحثهم على الإقبال عليها، لذلك كثرت استطراداته وخروجه عن مواضيع الآيات ! واستخدم فيه الرسوم والجداول وصور النباتات والحيوانات والمناظر الطبيعية! http://www.almultaka.net/ShowMaqal.php?cat=
10- أطفئ التلفزيون وطالع . وأطفئ الإنترنت وطالع. وإن كان لابد من
----------------------- [ 147 ] -----------------------
التلفاز لتسمع الأخبار وبعض البرامج ، فاجعل وقتاً محدداً . وإن كان لا بد من الإنترنت لك كباحث ، فاجعل له ساعات محددة .
وبعض الناس يقرأ بجهاز الحاسب أو النت، والمهم أن يكون قارئاً جاداً ، لأن المطالعة لطالب العلم في غير مواد دروسه ، ليست عملاً كمالياً بل ضرورة ، لأن بناء شخصيته كعالم ومثقف يتوقف عليها.
وأول ما يجب عليه أن يستعين بالله تعالى ويغالب ظروفه ويغلبها ويفرِّغ وقتاً كافياً للمطالعة، فيحذف من أعماله ما لايجب عليه شرعاً ، ويدبر بديلاً عن انشغاله شخصياً في بعض مايجب عليه عرفاً ، وسيجد البدائل ويوفقه الله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ .
وطالب العلم يعرف ماذا يطالع ، فمطالعاته قرآنية وحديثية وتاريخية وعقائدية ، قديمة وحديثة ، وثقافة عامة ، حول الإنسان والمجتمعات ، وما يحتاجه من العلوم الطبيعية .
وينبغي له أولاً أن يبني عقائده وفكره وروحه بكتب علمائنا النابغين أمثال الكليني والصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي ، قدس الله أنفسهم الزكية ، فيقرأ كل ما كتبوه إن استطاع ، ليحاكم ما يقرأ بهذه الأصول .
ويتصور بعض الطلبة أن مطالعته تحتاج الى ترتيب وتعيين مايطالعه أولاً وثانياً ، ونقول له لا تخف إقرأ ماشئت أولاً أوثانياً ، فإن الذهن ينظم معلوماتك ويرتب مطالعاتك في خزائنه ورفوفه ، فاشكر الله تعالى .
----------------------- [ 148 ] -----------------------
11- سمعت يوماً نقاشاً حاداً بين طالبين أحدهما أكبر سناً ، فقال له كبير السن: إنك تجادل بالباطل شخصاً طالع من الكتب بقدر وزنك عشر مرات على الأقل ! فأعجبني تعبيره وأنا أثق بصدقه ، ودفعني ذلك الى المزيد من المطالعة . فكنت الى جانب دراستي وتدريسي ، أقرأ كل يوم نحو ثلاث ساعات ، وأذكر أني قرأت وأنا أدرس الكفاية المجلد الثاني ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد كله في شهر وكسر .
ثم قرأت أكثر التفاسير الروائية ، وبعض التفاسير الجديدة ، وقرأت أكثر كتب الصدوق والمفيد ، وقرأت كثيراً من الكتب الإسلامية الجديدة .
وقرأت أنا وغيري في حكم عبد الكريم قاسم كل كتب الإخوان المسلمين حيث امتلأت بها مكتبات النجف ، وكانت رخيصة الثمن !
واتخذت دفتراً للمطالعة أكتب فيه أسئلة حول بعض ما أقرأ ، لأسأل عنها بعض الأساتذة . وأكتب فيه بعض الأمور المفيدة الملفتة ، لئلا أنساها.
ومن الكلمات المعروفة: أن مصر تكتب ن وبيروت تطبع وبغداد تقرأ ، ولعل الشعب العراقي أكثر الشعوب العربية قراءة ، وقد سمعت من بعض الناشرين أن السودان هو الأول في قراءة القصص .
لكن البعثيين تعمدوا أن يفصلوا الإنسان العراقي عن مصادر دينه وثقافته ، وجعلوا الكتاب الإسلامي جريمة كالسلاح ، فلا بد من تعويض خسارة ثلاثين سنة من التجهيل، وأن ينشر طلبة العلم والمبلغون العراقيون عادة القراءة
----------------------- [ 149 ] -----------------------
ويشجعوها ، ليس في الحوزة فقط ، بل في عامة الناس .
12- يشجع الأستاذ تلاميذه عادة أن يشكلوا عليه ، وبعض الأساتذة يتقبل الإشكال عليه في الدرس وفي المسائل العلمية ، ويشجع من يُشكل .
لكن الإمتحان عندما يُشكل عليه الطالب في أمر خارج الدرس ، على خطه الفكري ، أو السياسي ، أو شئ من سلوكه ، فالقليل يتقبل ذلك ، وبعضهم يعتبره تطاولاً من التلميذ ، أو عدواناً !
7- العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
كلما تأملت في أمر التدين وحالة الناس فيه ، وجدت أن المعادلة التالية صحيحة مئةً بالمئة ، وهي: أن التدين هو الفهم ، وعدم التدين عدم الفهم ، ونقص التدين نقص الفهم !
وقد ناقشني بعض الأفاضل في عمومها ، وجاء بأمثلة لمن يفهم وهو غير متدين ، فأثبتتُ له أنه إنما أتيَ من عدم فهمه أو من نقص فهمه !
ذلك أن وراء فعل الإنسان لشئ أو تركه له ، معادلةً فكرية ، تُريه أن من مصلحته أن يفعل أو يترك. وحتى الأفعال الغريزية يجب تفسيرها بالفهم ، فما دام فيها إرادة فهي تستند الى معادلة كلية اتخذ قرارها صاحبها وترك لغريزته أن تعمل بها .
وعليه فإن عملك لتقويم سلوك إنسان ، يتلخص بأن تغير المعادلة التي عمل بها ، وتقنعه بمعادلة صحيحة نظرياً وعملياً !
----------------------- [ 150 ] -----------------------
وهناك معادلات لأفعالنا في كل عملٍ ، ومنها ما يشمل كل أعمالنا كالمعادلة التي تُدخل في حسابنا الحياة الآخرة والثواب والعقاب ، فهي تقوم على فهم الإنسان للأفق الأوسع لمصلحته ، بينما المعادلة التي تحذف ذلك من حسابه تقوم على حصر وجوده في دنياه ، وهذا نقص في فهمه !
وكذلك المعادلة التي تقول: إن تدبير ربي لي خيرٌ من تدبيري لنفسي ، وإن الحكم الشرعي تدبير رباني ، فهي حقيقة تحتاج الى فهم نافذ .
ويقابلها أن أرجح ، نظرياً أو عملياً ، تدبيري لنفسي على تدبير ربي!
وقد عبر عن ذلك النبي عليهما السلام في قوله لعلي عليه السلام : «يا علي إنك باق بعدي ومبتلى بأمتي ومخاصم بين يدي الله ، فأعدد للخصومة جواباً ، فقلت: بأبي وأمي أنت بين لي ما هذه الفتنة التي أبتلى بها وعلى ما أجاهد بعدك ؟ فقال لي: إنك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة ، وحلاهم وسماهم رجلاً رجلاً ، وتجاهد من أمتي كل من خالف القرآن وسنتي من يعمل في الدين بالرأي ، ولا رأي في الدين ، إنما هو أمرُ الرب ونهيه ! فقلت: يا رسول الله فأرشدني إلى الفلح عند الخصومة يوم القيامة ، فقال: نعم . إذا كان ذلك كذلك فاقتصر على الهدى ، إذا قومك عطفوا الهدى على الهوى ، وعطفوا القرآن على الرأي ، فتأولوه برأيهم بتتبع الحجج من القرآن لمشتهيات الأشياء الطارية عند الطمأنينة إلى الدنيا ، فاعطف أنت الرأي على القرآن. وإذا قومك حرفوا الكلمَ عن مواضعه عند الأهوال الساهية، والأمراء الطامحة، والقادة الناكثة، والفرقة القاسطة، والأخرى المارقة ،
----------------------- [ 151 ] -----------------------
أهل الإفك المردي والهوى المطغي، والشبهة الخالفة ، فلا تنكلن عن فضل العاقبة، فإن العاقبة للمتقين». (الإحتجاج:1/289، والدر المنثور:6/407، ومجمع الزائد:1/180).
الفهم في عمقه هو العقل
الفهم في عمقه هو العقل ، فإذا غلبه هوى الحمق والجهل ، فهو ليس فهماً ولا عقلاً وإن كان شبيهاً به . ولذا أجاب الإمام الصادق عليه السلام من سأله: « ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان. قال قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل ». (الكافي:1/11).
ويكفي لإثبات عدم فهم معاوية أنه اشتغل كل عمره ، وبذل جهوده في الليل والنهار ، وتحمل أنواع المتاعب ، وخاض مخاطر الحروب ، فأسس دولة بل أمبراطورية كبيرة ، كانت أعز شئ عليه لأنه دفع ثمنها غالياً جداً .
لكنه سلمها عن سبق قصد وإصرار ، لولده يزيد وهو يعلم ويشهد أنه سوف يبددها ويدمرها ، فقد كان يردد ، وأحياناً يصيح:
« لولا هوايَ في يزيد لأبصرت رشدي» !
(تاريخ دمشق:59/61، و214، وسير أعلام الذهبي:3/155، وتاريخ الطبري:4/241).
«قال ابن حجر الهيثمي: فيه غاية التسجيل على نفسه بأن مزيد محبته ليزيد
----------------------- [ 152 ] -----------------------
أعمت عليه طريق الهدى! وأوقعت الناس بعده مع ذلك الفاسق المارق في الردى »! (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية للحافظ محمد بن عقيل /61).
وقد طال مرض معاوية فكان باستطاعته أن يرتب وصيته ، ويتجنب الخطر على دولته بعد وفاته.
فقد أصابت الَّلقوة ، وهي اعوجاج الفم ، حتى صار فمه تحت أذنه! وأصابته بردية شديدة ! وخرجت في ظهره قرحة عميقة !
وأصابته هَلْوَسَة ، فكان يرى علياً عليه السلام وحجر بن عدي وعمرو بن الحمق ومن قتلهم ، كأنهم أرواح تطارده !
قال ابن الأعثم:4/344: «وجعل معاوية يبكي لما قد نزل به وكان في مرضه يرى أشياء لاتسره! حتى كأنه ليهذي هذيان المدنف وهو يقول: إسقوني إسقوني، فكان يشرب الماء الكثير فلايروى! وكان ربما غُشيَ عليه اليوم واليومين ، فإذا أفاق من غشوته ينادي بأعلى صوته: ما لي ومالك يا حجر بن عدي! مالي ومالك يا عمرو بن الحمق! مالي ومالك يا ابن أبي طالب»! (راجع عجائب حالته في: جواهر التاريخ:2/85، والطبري:4/245).
ولكنه مع كل ذلك أصرَّ على تسليم دولته الى شاب أهوج مدمن خمر ، وهو يعرف أنه ربما دمرها وأنهى آل أبي سفيان الى غير رجعة !
فلو كان يفهم ، لما وضع كل جهوده على كف عفريت !
ولو كان يفهم لما اشترى سنين من نعيم السلطة ، بالخلود في العذاب !
* *
----------------------- [ 153 ] -----------------------
الفصل السابع: الموجة الشيوعية التي عاصرناها
1- ثورة عبد الكريم قاسم والموجة الشيوعية
أحدث جمال عبد الناصر موجةً في كل البلاد العربية ، شعارها التحرر من الإستعمار ومواجهة إسرائيل . ووقفت بعض الأنظمة العربية ضده ، وأولها النظام الملكي السعودي ، ثم النظام الملكي في العراق ، وفي الأردن .
وعندما وقع العدوان الثلاثي الفرنسي الإنكليزي الإسرائيلي ، على قناة السويس ، خرجت المظاهرات المؤيدة لعبد الناصر في البلاد العربية.«فقد شهد العراق مظاهرات صاخبة ودامية كان أعنفها وأكثرها تأثيراً مظاهرة النجف الأشرف ، التي قمعتها السلطة بوحشية رهيبة ، وتلاها إعلان الأحكام العرفية في البلاد...ورغم ذلك استمرت التظاهرات في النجف وأبرزها تلك التي خرجت يوم 23-11-1956وشارك فيها علماء الدين، وأسفرت عن مجزرة دموية ارتكبتها السلطة ».
http://www.metransparent.com/spip.php?page=imprimer_article&id_article
فاستنكر المرجع السيد الحكيم سياسة السلطة ، وطالب بإخراج المعتقلين .
واستطاع عبد الناصرأن يحقق الوحدة بين مصر وسوريا ، فأعلن التوقيع على ميثاق بينه وبين الرئيس السوري شكري القوتلي ، وبموجبه وُلدت
----------------------- [ 154 ] -----------------------
«الجمهورية العربية المتحدة»في22/2/1958، واستمرت نحو أربع سنوات حتى انتهت بانقلاب عسكري في دمشق يوم 28/8/1961، وعادت سوريا الى إسمها «الجمهورية العربية السورية» وبقيت مصر على اسم «الجمهورية العربية المتحدة» حتى سميت عام 1971: جمهورية مصر العربية .
وفي هذه الموجة العروبية التي وصلت الى حدود العراق ، قام عبد الكريم قاسم في 14 تموز سنة 1958بانقلاب على النظام الملكي، فقتل العائلة المالكة وأعلن النظام الجمهوري ، ورفع شعارات يحبها الناس كالديمقراطية والعدالة والتنمية والعروبة ، وأعلن دستوراً موقتاً للعراق ، ومجلس سيادة جعله أعلى هيئة دستورية ، وأعطى رئاسته لنجيب الربيعي ، لكن بدون صلاحيات ، ووعد الناس بانتخاب رئيس جمهورية في ستة أشهر .
وشكل حكومة أخذ هو رئاستها وأخذ وزارة الدفاع ، ومنصب القائد العام للقوات المسلحة ، وجعل عبد السلام عارف نائبه ووزير الداخلية .
وفسر السياسيون هذا الإنقلاب بأنه عمل إنكليزي لامتصاص النقمة على النظام الملكي ، وبأنه عمل لمنع وصول الوحدة الى العراق .
وتفسير الأحداث بأن وراءها الإنكليز ، له حجته في العراق ، فقد عانوا من الإنكليز منذ أن احتلوا العراق في مطلع القرن ، ورأوا منهم ألواناً من الدهاء والخداع ، حتى صار من الأمثلة عندهم: إذا اختلفت سمكتان في شط الفرات ، فهو من تحريك الإنكليز !
وقد جزم السيد مهدي الحكيم رحمه الله في مذكراته بأن خلفية عبد الكريم قاسم إنكليزية ، لكني لاأستبعد الأصابع الأمريكية، لأن مجلة واشنطن بوست نشرت
----------------------- [ 155 ] -----------------------
على غلافها صورة عبد الكريم بعد الإنقلاب، وكتبت: ثائر ولكن صديق. ويصعب تفسير صداقته لهم بأنها بسبب ارتباطه بالإنكليز!
ومهما كانت المؤثرات الأجنبية على عبد الكريم ، فلا يصح أن نتجاهل قوة شخصيته وأفكاره الوطنية ، ولذلك تجاوبت الحوزة مع شعاراته الوطنية فأرسل له المرجع السيد محسن الحكيم رحمه الله رسالة تأييد ، وكان ذلك منسجماً مع دور المرجعية الإصلاحي ، وعدم سعيها للوصول الى الحكم .
وكان القوميون والبعثيون يعادون عبد الكريم لأنه ضد عبد الناصر ، لكن أكثرية الشعب العراقي كانوا يحبونه ويشعرون أنه منهم ، الى أن سلط الشيوعيين على الناس ، وأصدر قانون الأحوال الشخصية ، وحل مجلس السيادة ، وفشل في الإصلاح الزراعي ، فتراجعت شعبيته ، واصطدم بفئات واسعة من الشعب .
وكان الحزب الشيوعي في العراق أقوى الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية ، تنظيراً وتنظيماً وحجماً ، ويليه الحزب الشيوعي السوداني ، ويوازيهما حزب توده الإيراني ، أي حزب جمهور الشعب .
ويرى بعض المحللين أن الإنكليز دفعوا عبد الكريم لتبني الحزب الشيوعي العراقي وإطلاق يده ، ليكشفوا الشيوعيين ، ويضربوهم .
----------------------- [ 156 ] -----------------------
لكن الحقيقة أن عبد الكريم كان يرى أن عبد الناصر يعمل لإسقاط نظامه وأن الشيوعيين قوة تحمي حكمه من القوميين والبعثيين والمتدينين ، وهذا هو السبب الأساس لتسليمه المقاومة الشعبية لهم ، وإطلاقه أيديهم .
وقد استغل الشيوعيون الفرصة وكأن العراق صار ماركسياً لينينياً ، فأنشأوا المنظمات الشعبية ، وأشهرها منظمة أنصار السلام ، وسيطروا على أكثر الإتحادات والنقابات ، كاتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة..الخ.
وأمسكت هذه المنظمات بالعراق ، وحكمت مدنه وقراه ، وكان أسوأها ميليشيا المقاومة الشعبية ، التي انتشر مسلحوها في نقاط تفتيش وحكموا البلاد ، فكانوا يعتقلون ويُرعبون ، وقد يقتلون ولا رقيب ولا حسيب !
وما زال الناس الى اليوم يذكرون أفاعيلهم ، خاصة في الموصل بعد ثورة الشواف الناصرية الفاشلة، في آذار 1959م ، وما ارتكبوه من قتل وسحل ، وتعليق للقتلى على أعمدة الكهرباء !
* *
2- الحوزة العلمية تواجه التحدي !
أطلق الشيوعيون في وسائل إعلامهم شعار:الدين أفيون الشعوب ! وهو مقولة كارل ماركس عن المسيحية ، فكان تحدياً للإسلام وعلماء الدين ومؤسساته ، بل قنبلة تدعو إلى الإلحاد ، ورفض الدين من أساسه !
وبلغ بهم الأمر أنهم صوروا كل متدين على أنه مجرم ، لأنه يعيق تقدم المجتمع! أما طلبة العلم أمثالنا فهم بزعمهم من بقايا البرجوازية والإقطاع الرأسمالي ،
----------------------- [ 157 ] -----------------------
ومن بقايا الدين الذي يخدر الشعب ويمنعه من التقدم والثورة على الإقطاع ! وانتقدوا حتى وجود المساجد والمشاهد المشرفة ، خاصة مناراتها وأبوابها المذهبة، فكتبوا على جدار صحن مشهد أمير المؤمنين عليه السلام : من أين لك هذا ؟!
وبلغ من جرأتهم أن صاحب دكان مجاور لمنزل السيد محسن الحكيم رحمه الله وهو المرجع العام للشيعة في العالم ، كان إذا خرج السيد رفع صوت المذياع في دكانه بأناشيد الشيوعيين ، فإذا وصل السيد رفع صوته: عفلقي عفلقي! أي: بعثي من جماعة ميشيل عفلق ، وكان ذلك اتهامهم الجاهز لمن لايحب عبد الكريم ! وكان من شعاراتهم: وِلْما يصفك عفلقي ، والحبال موجودة ! أي: من لم يصفق للزعيم فهو بعثي ، والحبال حاضرة لسحله في الشوارع !
ولك أن تقدر تأثير ذلك على شعب العراق المسلم ، بشيعته وسنته !
كنا نحن طلبة الحوزة لا نخرج من مدارسنا وبيوتنا إلا جماعة ، ونخاف في الليل أن تدخل علينا المقاومة الشعبية فتقتلنا أو تقتادنا! وقد وصف الدكتور محمد حسين الصغير جانباً من الوضع في تلك الفترة ، فقال:
« بعد الرابع عشر من تموز1958اشتدت الأزمات السياسية في العراق وانقسم الشعب العراقي إلى اتجاهات متعددة في الإنتماء الفكري والعقائدي ، وتصاعد المد الأحمر بشكل ينذر بالخطر، واستقال الوزراء الستة من حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم ، وترك الأستاذ الشيخ محمد مهدي كبه منصبه عضواً في مجلس السيادة وهو أعلى سلطة في البلاد ، إذ لم تقبل استقالته ، فهو (عبد الكريم)
----------------------- [ 158 ] -----------------------
والفريق نجيب الربيعي وخالد النقشبندي الذين يقبلون استقالة الآخرين ضمن الدستور المؤقت .
وكانت النجف الأشرف مركز الثقل الديني والوطني في العراق، وكان الضغط عليها سياسياً وحزبياً ضغطاً مضاعفاً ، وقد أتيحت لها قيادة فذة حكيمة متمثلة بسماحة الإمام السيد محسن الحكيم رحمه الله (توفي 1970م) فأدار الشؤون بروية وصلابة وثبات ، وسيطر مع انفلات الأمر ، وأمسك بزمام المبادرة مع شدة الصدام ، وقوة التحرك المضاد ، ووقف إلى جنبه المراجع العظام الشيخ عبد الكريم الجزائري ، والسيد عبد الهادي الشيرازي ، والسيد محمود الشاهرودي ، وسيدنا الأستاذ الإمام الخوئي رضوان الله عليهم أجمعين . ونهضت جماعة العلماء بقيادة آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين بواجبهم الشرعي بما أصدروه من بيانات تحث على التمسك بشريعة سيد المرسلين عليهما السلام ، فأنصت لها العراق من أقصاه إلى أدناه .
ومرت الظروف الصعبة شديدة ، يصاحبها العنف الثوري حيناً ، والإستهتار الهمجي بالقيم حيناً آخر، والإحتجاج الكلامي بعض الأحايين . وكانت الصحف العراقية تمثل هذه المفارقات كافة ، حتى إذا أُلقحت شرارة الموصل بقيادة العقيد عبد الوهاب الشواف في آذار1959 اختلفت الحال ، وصُب البلاء صباً على الفصائل الدينية والوطنية والقومية في البلاد ، وأفرغت الساحة للحزب الشيوعي العراقي يصول فيها ويجول وسفكت الدماء في الموصل
----------------------- [ 159 ] -----------------------
وكركوك والبصرة والمسيب والنجف الأشرف وكربلاء ، وعدة قصبات أخرى .
وانتهت شرارة الموصل بقتل الشواف والحكم بإعدام ألمع الضباط العراقيين ، كالزعيم ناظم الطبقچـلي والعقيد رفعت الحاج سري ورفاقهما.
وكانت الوفود تترى على الإمام السيد محسن الحكيم للتوسط بإنقاذهما من تنفيذ حكم الإعدام، وكان غاضباً على الزعيم عبد الكريم قاسم بسبب صدور قانون الأحوال الشخصية المخالف لنص كتاب الله: يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الآنْثَيَيْنِ ، فجعلها في قانون الإرث والقضاء:للذكر مثل حظ الأنثى. فأرسل كتاباً لرئيس مجلس السيادة الفريق نجيب الربيعي يحثه بنصح رئيس الوزراء على حد تعبير الإمام الحكيم ، بعدم تنفيذ أحكام الإعدام بحق هؤلاء الضباط من ذوي السمعة الوطنية ، لأن الإعدام يدع الديار بلاقع ، فلم ينتصح عبد الكريم قاسم مع وعده الربيعي بالإستجابة لأمر الإمام الحكيم! ونفذ حكم الإعدام في أم الطبول في:20/9/1959...
والطبقچـلي وسري لهما شعبية ومحبة لدى العراقيين، وقد أوصى بأن يصلّي عليه الإمام الحكيم والإمام الجزائري ، فإن لم يتمكنا فليقرءا عند قبره الفاتحة . وهنا أطبق الوجوم على النجف الأشرف وتملكه الذهول المطلق ، والدماء غضبى في العروق تكاد أن تنفجر .
----------------------- [ 160 ] -----------------------
ويُتوفى فيما يشبه الفجأة الإمام السيد حسين الحمامي1959، بقمة الأحداث ، ويقام له تأبين عظيم برعاية السيد محسن الحكيم وحضوره ، فيلقي كاتب هذه السطور قصيدته ويعرض للمأساة والمقاومة الشعبية في الموصل وغيرها ، منها قوله:
والموصلُ الحدباء أسْدِل فوقها
ستراً فصمتي من مقالي أشعرُ
ماذا يحدِّث شاعرٌ عن فتنة
بالفوضوية سيلها يتحدر
وبأرض كركوك ضحايا أمة
قد لفّهم أجلٌ رموه مقدر
وإذا بأنصار السلام عصابة
للأجنبي يقودها ويسير
وإذا السلام على الشعوب لما ارتأى
همم الحروب قذائف تتفجر
وإذا الجموع مسخرون لطغمةٍ
شرقية الأهداف لا تستبصر...
ويقيم النجف الأشرف أضخم احتفال في ميلاد الإمام علي عليه السلام في مسجد الهندي من قبل الشباب النجفي ، وهو أول مهرجان جماهيري في 1959 ، ويحضره الآلاف، وكان عريف الإحتفال الشيخ الدكتور أحمد الوائلي ، وقدم كاتب هذه السطور بعبارات أنيقة ، فألقيت قصيدتي وكانت عنيفة منها:
وإن حزباً دخيلاً في مبادئه
لينين فيه أقر الذل والهونا
يكاد يعرب عن فحوى مؤسسه
للزيف زيفاً وبالتلوين تلوينا
الفوضويون داء لا دواء له
عيا فياليت شعري من يداوينا
القتل والسحل والتخريب ديدنهم
والنهب والسلب ألفوه موازينا
ضج العراق بأهليه بما ارتكبوا
وجرعوا الشعب زقوماً وغسلينا
----------------------- [ 161 ] -----------------------
تهرأ الحكم وانهارت قواعده
وسوف تحميه في الجلَّى مواضينا
وسوف ينجاب ليل ساد أربده
وسوف يشرق فجر في مغانينا
لابد نقضي عليهم فانتظر فرجاً
أو يرسفون بأغلال مساجينا
لو كنت من مازن لم تستبح إبلى
بنو للقيطة من أتباع لينينا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
لا يدرؤن شيوعياً وصهيونا
وهكذا كل ما في الدين قد لصقوا
زوراً وإفكاً لكي يرضوا ستالينا
وهجم الشيوعيون على المسجد الهندي وقُطع الحفل وتفرق الناس ، وحامى أغلبهم عن الشاعر ووقفوا سداً بشرياً دونه، حتى إذا انقضت الغوغاء اصطحبه ثلاثة من الرجال الأشاوس كان من بينهم مسلح واحد وهم السيد جواد شبر ، والشيخ هادي لايذ ، والشيخ عبد الوهاب محيي الدين ، واتجهوا نحو الحرم محاطين بجملة من النجفيين المدافعين ، فدخل الشاعر والسيد الخطيب جواد شبر معه إلى الروضة الحيدرية ، ووقف الآخران بالباب ، وهيأت للشاعر سيارة نقلته إلى المبيت في غير داره ، وبات في منطقة الحنانة عند المغفور له الحاج عبد الحسين القاموسي، حيث غادر صباحاً مبكراً إلى بغداد ».
http://www.almawsem.net/private /NAJAF/TURIHI/sageer.htm))
* *
----------------------- [ 162 ] -----------------------
3- تشكيل جماعة علماء النجف
كانت موجة الشيوعية أكبرتحدٍّ واجهته الحوزة العلمية في تاريخها الحديث فهو أكبر حتى من تحدي الغزو الوهابي في سنة1216هجرية ، حيث أغاروا على النجف مرتين بعد احتلالهم كربلاء وتخريبها !
وهو أكبر من الغزو الإنكليزي بعده بقرن ! لأن الموجة الشيوعية كانت غزواً من الخارج والداخل معاً ، عسكرياً وفكرياً معاً ، ولايوازي خطرها إلا خطة البعثيين لإبادة الحوزة والشيعة !
كان الطلبة يحثُّون العلماء والمرجع على المواجهة ، وكان المتدينون يأتون من المحافظات يُعلنون استعدادهم للمواجهة والتضحية ، ويستغيثون من سطوة الشيوعيين في مناطقهم ! فقامت الحوزة بتشكيل «جماعة علماء النجف» لتكون جبهة المواجهة ، وتتخذ المواقف ، وتصدر البيانات والتوجيهات للناس. وكان تشكيلها بعد تشاور بين المرجع السيد الحكيم ، والمرجع السيد عبد الهادي الشيرازي ، والمرجع السيد الشاهرودي ، والمرجع السيد أبي القاسم الخوئي ، فاتفقوا على أن يترأسها الشيخ مرتضى آل ياسين ، رضوان الله عليهم .
وسمعت من السيد الصدر رحمه الله أنهم طلبوا من السيد الحكيم رحمه الله أن يكون هو رئيس جماعة علماء النجف ، فقال: لا ، إختاروا أنتم أحدكم ، وأكون أنا خارج التشكيلة ، فإذا وقع عليكم ظلم أستطيع أن أدافع عنكم . وبدأت جماعة العلماء بإصدار منشوراتها ، توجه الناس وتنتقد الشيوعيين وتمدح الزعيم الأوحد ،
----------------------- [ 163 ] -----------------------
وأذيع بيانهم الأول من الإذاعة الرسمية ، ووزعه الشباب المتحمس في المحافظات ، وقرأه الخطباء على المنابر!
وفارت زنابير الشيوعية على جماعة العلماء والمرجعية والحوزة عموماً ، بالإعلام والصراخ والشتائم ، وملاحقة من يوزعون المنشورات ، فتصدى لهم المتدينون ، وصمدوا في مواجهتهم ، حتى انكسرت هيبة الشيوعيين !
وفرح القوميون والبعثيون بأن المرجعية نزلت الى الميدان ، وعملوا على تأجيج الصراع بينها وبين النظام لأن هدفهم إسقاطه ، لكن منشورات جماعة العلماء كانت تمدح الزعيم الأوحد ، لتميز أتباعها عن غيرهم .
وقام السيد الحكيم رحمه الله والمراجع بإصدار فتاوى تأييد لمنشورات جماعة علماء النجف ، وهذا نص فتوى السيد الحكيم:
« بسم الله الرحمن الرحيم . إن جميع ما أصدره فريق من أعلام أهل العلم باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف ، وما سيصدرونه من النشرات وغيرها ، مما يتضمن الدعوة الى دين الإسلام ، لهو من أهم الوظائف الشرعية التي يجب القيام بها في سبيل إعلاء كلمة الدين ، وترويج مبادئه الشريفة وتعاليمه المقدسة ، فعلى عامة المسلمين العمل على مؤازرتهم والوقوف الى صفهم ، ومشاركتهم في تحمل هذه الدعوة الدينية المباركة ». محسن الطباطبائي الحكيم -27ج2- 1378.
ثم أصدر السيد الخوئي ، والسيد الشاهرودي ، والميرزا مهدي الشيرازي ، والشيخ عبد الكريم الجزائري ، فتاوى مشابهة:
----------------------- [ 164 ] -----------------------
«إن النشرات الدينية التي يتولى إصدارها (جماعة العلماء) والتي أقبل عليها المسلمون في کلِّ مکان ، وعرفوها أنها دعوة إسلامية خالصة لوجه الله تعالى ، لهي بلاريب تستمدّ دعوتها من القرآن ، وتأخذ أهدافها من تعاليم الدين، فعلى أبناء المسلمين أن يسترشدوا بها أبداً ويتدبروا حقائقها ، ويعملوا بما جاء فيها من نواميس إسلامية تُسعد حياة المسلمين، وعليهم أن يدفعوا عنها کل غائلة ، ويجتهدوا في نصرتها: «إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ ينصُرْکُمْ وَيثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ» . وأسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لذلك ، ليعيشوا في ظل عدالة الإسلام ونواميسه الخالدة ، وهو سبحانه ولي التوفيق». في 6 شهر رجب المرجّب 1378 أبو القاسم الموسوي الخوئي.
« إن جماعة العلماء في النجف الأشرف أدام الله تأييدهم من أعلام أهل العلم ، المعروفين بدينهم وصلاحهم وإخلاصهم، وإن جميع ما صدر عنهم وما سيصدر من الدعوة إلى الدين والإسلام ، ليس إلا القيام بوظيفتهم الدينية التي هي من أهم وظائف رجال الدين ، المكلّفين من الله تعالى بإرشاد الأمة وتوجيهها إلى منهاجها القويم. فالمرجوُّ من المسلمين أن يقفوا إلى جنبهم مؤيدين ومؤازرين ومعاضدين . والله تعالى الموفق».
كربلا 6رجب 1378مهدي الحسيني الشيرازي
«إن ما أصدره جماعة العلماء في النجف الأشرف، وهم من علماء الدين العاملين وما سيصدرونه من نشر أحكام الإسلام والدعوة للدين هو من صميم الواجب الشرعي . فعلى كافّة إخواننا المسلمين تأييدهم ومؤازرتهم مؤازرةً للإسلام وصالح الأمّة ، والله ولي التوفيق ».
7 رجب 1378 هجرية - عبد الكريم الجزائري.
----------------------- [ 165 ] -----------------------
4- منشورات جماعة العلماء مادة تاريخية
صدر عن جماعة علماء النجف سبعة مناشير ، وهي مصدر تاريخي من الدرجة الأولى لتلك المرحلة ، تكشف ما طرحه الشيوعيون من أفكار وتشير الى ما اقترفوه ، وتوجه الناس الى مواجهتم والتمسك بدينهم ، وتمدح الحاكم وتطمئنه بأن المرجعية والحوزة لايريدون الثورة عليه ، بل يرضون به حاكماً وزعيماً ، لكن يريدون الإنتصاف من الشيوعيين الرُّعَنَاء ، الذين وقفوا ضد الدين ، وعاثوا في البلد فساداً .
وهي بذلك مادة لدراسة اتجاهين سيبرزان في مستقبل الحوزة والعراق ، وهما الإتجاه الإصلاحي ، الذي لايعمل للوصول الى السلطة ، بل يقدم مطالبه الإصلاحية للحاكم أياً كان ، ويطمئنه بأنه لا يعمل لإسقاطه .
والإتجاه الإنقلابي الذي يعمل لإسقاط الحكم ، وإقامة الحكم الإسلامي.
5- المنشور الأول لجماعة علماء النجف الأشرف
« بسم الله الرحمن الرحيم
أيتها الجماهير المسلمة ! أيتها الجماهير الكادحة ! أيها الشعب العراقي المجاهد:
الآن ولأول مرة منذ مئات السنين ، تشرق في بلدنا الحبيب أضواء الحرية والإستقلال بفضل الثورة التحريرية الكبرى ، والمعركة الفاصلة التي وقف فيها الزعيم الأوحد والبطل المنقذ ، سيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم حفظه الله رائداً للإسلام والمسلمين .
----------------------- [ 166 ] -----------------------
والآن ولأول مرة أيضاً منذ قرون ، يشهد العراق زعامة حاكمة منبثقة من صميم الشعب ، تسهر على مصالحه ، وعلى تحقيق آماله وأحلامه ، وتتجاوب مع عواطفه ورغباته ، وتستمد منه قوتها الجبارة ، وسياستها الرشيدة .
فيا أيتها الجماهير المؤمنة بربها ، المخلصة لدينها ، الواثقة بزعيمها ، الى رفع راية الإسلام بقيادة الزعيم الأوحد ، والإلتفاف حوله تحت هذه الراية المقدسة ، راية السماء التي رفعها أجدادكم في ظل قيادة مخلصة ، فقفزوا قفزتهم التاريخية الجبارة وإذا بأمة متهالكة فقيرة كان يسودها الإستعمار والجهل ، تَضْحَى بعد أن عاشت ربع قرن في ظلال الراية المقدسة ، أرقى أمم الأرض وأعظمها حضارة وسياسة وكرامة ، تحمل بيدها مشعل النور والهداية للعالم كله ، وترسم لجميع الشعوب طريق الخلاص من الظلم والإستعباد . هيا الى راية السلام ، راية الكرامة الإنسانية والعزة ، راية الحرية والسعادة ، راية الإنعتاق والتحرير من القوى الطاغية ، فإن الإسلام اليوم هو الإسلام الذي ساد بالأمس في طاقته الجبارة ، في مبادئه الرشيدة، في أهدافه الضخمة، في غايته الخيرة. وهاهو حاضر يلبي كل راغب في المساواة والعدالة الإجتماعية ، وكل محارب للظلم والطبقية والإستغلال الفظيع ، وكل طالب للسيادة والعزة والكرامة ، وكل من يؤمن بنفسه وبلاده وأمته .
إن الإسلام هو المحرر الأكبر للإنسانية ، من شتى ألوان الظلم والطغيان.. ومن نظام الطبقية الفاجر.. ومن الأثرة البغيضة.. ومن سيادة الهيا كل الإجتماعية التي تخلقها الأنانية في مجتمعها . وثورتنا المباركة هي الثورة الكبرى لشعب العراق المسلم، فمن الطبيعي أن ترفع راية الإسلام باعتباره الطاقة السماوية التي في إمكانها أن تُموِّن ثورات التحرير بكل ماتصبو اليه من عدالة وسلام ومساواة ، وتحقيق أهدافها النضالية العالية .
----------------------- [ 167 ] -----------------------
أيها المسلمون: إن الإسلام ثروة فلا تخسروها ، إنه دين الإنسانية الخالد الذي صاحبناه وعشنا معه قروناً ، وقروناً فلم نجد الكرامة المتعالية ، والسيادة الصحيحة إلا في ظله، ولم نذق ألوان الشقاء الإجتماعي والسياسي والإقتصادي ، إلا لأننا لم ننصفه من أنفسنا ، ولم نشيد عليه أسس حياتنا . والزعامات الرأسمالية أعرف ما تكون بما في الإسلام من قوة كامنة في النفوس، ونظام يقضي على جبروتها ، ولذا فهي لا تحارب شيئاً كما تحارب الإسلام ، ولا تخشى شيئاً كما تخشى سيادة الإسلام ، نصير الضعفاء ومحرر الشعوب ، ولهذا حاربته بكل وسائلها ، وحاولت أن تقصيه عن جميع المجالات ليتسع لها المجال للإستغلال بحقوق الضعفاء ، وخدرت عواطف المسلمين تجاه دينهم وإسلامهم ، وحاولت أن تجعل من الإسلام في نظر المسلمين علاقة إسمية بين المسلم وربه ، وتنزع عنه الألوان الزاهية التي تخيفها كل الخوف ، وتهددها في مصالحها وأغراضها .
أما الآن ، وقد تحرر البلد من نير الإستعمار ، والنفوذ السياسي للمعسكر الإنتهازي ، ووجدت السفينة ربانها الأفضل في شخص الزعيم المحبوب ، فلا بد أن يبرز الإسلام من جديد الى المجتمع ، لينشر مفاهيمه التي شوهها المستعمرون، ويشع بأضوائه التي حجبها المستغلون ، ويحمل بيده مصباح الهداية والسعادة ، ويمد الثورة المباركة بقبس من روحه الإصلاحية الرائعة ، ويثبت لهذه الأمة التي رأت النور من جديد ، أن تجد في تراثها الخالد ، وفي جوانبها الحية وفي صميم كيانها ، ديناً يطهر النفس الإنسانية من نزعاتها الشريرة ، ويطهر المجتمع الإنساني من مظالمه ، ويخلصه من آلامه ، ويعلن مبدأ الأخوة العامة بين جميع المسلمين، ويحارب الفقر والترف ، ويضمن لرفقائه النصر
----------------------- [ 168 ] -----------------------
والعزة ، ويعدهم بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة . هذا هو الطريق فسيروا على اسم الله ، والى الملتقى القريب». جماعة العلماء في النجف الأشرف- 23 جمادى الأولى 1378هـ
( منشورات جماعة العلماء في النجف الأشرف 1 - 5 ص 23، مطبعة النعمان – النجف)
قال الشهيد السيد مهدي الحكيم رحمه الله في مذكراته/21: « وكتب السيد الشهيد الصدر رضي الله عنه المنشور الأول للجماعة . وكان إسم عبد الكريم قاسم يتكرر في المنشور مرتين أو ثلاثاً ، وكان إسمه يقرن مع نصيرالإسلام ، لأن الشيوعيين سموه نصيرالسلام لكي يوحوا بأنه شيوعي ، وكنا نحن نحاول كسبه الى جهة الإسلام من خلال تسميته بنصير الإسلام ، أو للتغطية على عملنا ، لأنه كان شخصية محبوبة جماهيرياً في ذلك الوقت ، ووعينا كان بهذا المقدار...،
إن المنشور الأول للجماعة غير موجود الآن لكونه ألغي، وهو في الواقع لايعبر عن فكر حقيقي، وليس فيه اتجاه معين ، لأنا لم نكن نملك رصيداً من الممارسات من هذا النوع . إضافة الى ذلك من المفروض وجود إسم عبد الكريم قاسم ، لأنه في حالة عدم ذكر إسمه في المنشور ، فإنه سيواجه الرفض جماهيرياً ، ومن ثَمَّ لاتتهيأ الفرصة لإذاعته عبر وسائل الإعلام ، بالرغم من أن نشر هذا البيان من الإذاعة ، كان شيئاً مهماً جداً في ذلك الوقت ».
أقول: أراد رحمه الله الإعتذار عن تضمن المنشور مديحاً لعبد الكريم قاسم ، وردّ ما أشاعه البعثيون من أنه دعوة لعبد الكريم ، ليعلن نفسه خليفة !
وقد ذكرنا أن المنشورات السبعة تبقى مصدراً تاريخياً مهماً لتلك الفترة .
* *
----------------------- [ 169 ] -----------------------
6- المنشور الثاني - رسالة توضيحية موالية للزعيم
«بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله الطاهرين ، وصحبه الراشدين .
وبعد ، فلا يخفى على إخواننا المؤمنين بالله أن الدعوة الإلهية العليا التي أفصح عنها القرآن الحكيم بقوله عز من قائل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ، والتي أكدها وأيدها زعيم البلاد الموهوب سيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم حين وفد عليه رجال الدين ، فأهاب بهم الى النهوض بواجب التوجيه والإرشاد الذي هو من صميم وظيفتهم بصفتهم سدنة لهذه الشريعة الغراء ، وهي العامل الوحيد الذي حفَّز جماعة العلماء في النجف الأشرف الى إصدار نشراتهم التوجيهية، الداعية الى التمسك بمبدأ الإسلام ، ونبذ ما عداه من المبادئ المرتجلة . وليس من شك في أن الدعوة الدينية الخالصة ، كالدعوة التي قام بها العلماء في النجف الأشرف ، لاتحتمل الإصطباغ بلون غير لونها الديني، المنزه عن جميع الألوان ، فمن الخطأ والخطأ الفاحش أن توصم هذه الدعوة بما لا يتفق وخطتها الواضحة الصريحة البعيدة عن جميع الميول والإتجاهات إذ كان التهجم عليها أمراً مقصوداً على أي حال ، فإن ذلك سوف لا يقف عقبة في طريق الداعين الى الله ولايحد من نشاطهم في سبيل إعلاء كلمة الله . وحسب الدعوة أن تكون مصونة بعناية الله أولاً وبرعاية زعيم البلاد ثانياً. وإن جماعة العلماء تقدم مراسيم شكرها
----------------------- [ 170 ] -----------------------
وتقديرها الى سيادة الزعيم الكريم على هديته الغالية ، المتمثلة بصورة شخصه الموقر، والمزينة بكلمة الإهداء المحررة بخط يده ، تبتهل الى المولى جل شأنه مخلصة في أن يديمه لهذه الأمة ذخراً وفخراً وملاذاً ومعاذاً ، وأن يعيد الإسلام على عهده ما خسره العهد الغابر من مجده ، إنه على كل شيء قدير» .
مرتضى آل ياسين عن جماعة العلماء - 10 رجب سنة 1378 هـ
(منشورات جماعة العلماء في النجف الأشرف -1 - 5 ص: 2 و 57، ط:1378).
وقلم هذا المنشور يشبه قلم المنشور الأول ، ويدل على أنهم أرسلوا وفداً الى عبد الكريم يعرضون عليه تشكيل الجماعة ومنشورها الأول ، ويظهر أنه رحب بهم وأهدى لهم صورته موقعة بعبارته الآتية:
« لقد استطاع رجال الدين الصالحون أن يجلبوا المشركين الى حظيرة المؤمنين بتوجيههم الصحيح ، فأرجو منكم أيها الإخوان بصفتكم رجالاً مخلصين ، أن تجمعوا كلمة الشعب دوماً ، وأن ترفعوا من ثقافته الدينية بالتوجيه والإرشاد ».
عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء وقائد القوات المسلحة.
ولم أجد تاريخ هذه الكلمة ، وقد أخذتها من موقع الشهيد الصدر رحمه الله :
25 رحمه الله picid=1http://www.mbsadr.com/arabic/pages/filelib.php?nid=
كما تدل الرسالة على أن القوميين ومعهم البعثيون اتهموا جماعة العلماء بأنهم إخوان مسلمون ، لأنهم فهموا من خطابهم أن فيه تمجيداً للخلافة ، ودعوةً لعبد الكريم أن يعيد مجدها في بغداد ، ويكون خليفة المسلمين !
وقد ساعد على ذلك أن عبد الناصر كان يخوض معركته مع الإخوان المسلمين في مصر، وأن عبد الكريم قاسم رفع الرقابة على كتبهم ، من أجل تضعيف
----------------------- [ 171 ] -----------------------
التيار الناصري ، فدخلت الى العراق بكميات كبيرة ، وصار مستوردها في بغداد قاسم الرجب صاحب مكتبة المثنى، ثرياً كبيراً بسببها. وكنت ترى مكتبات النجف مليئة بكتب الإخوان من كل نوع ، والحوزة قَرَّاءة ، والشعب العراقي كله قَرَّاء ، فاتخذها القوميون ذريعة للتهمة .
كما اتهموا جماعة العلماء بأنهم شيوعيون ، لأن خطابهم تضمَّن نقداً للرأسمالية والإستعمار الغربي ، ومديحاً للزعيم ، اشتهر به الشيوعيون .
لكن فتوى السيد الحكيم رحمه الله ضد الشيوعية ردت تهمة القوميين والبعثيين بأن جماعة العلماء شيوعيون ، وبقيت تهمة أنهم إخوان مسلمون !
* *
7- فتوى المرجعية: الشيوعية كفر وإلحاد
بعد تشكيل جماعة العلماء بنحو سنة ، ونجاح منشوراتها في تحريك المتدينين وفئات الناس ضد الشيوعيين ، رأت المرجعية أن الوقت حان لإصدار فتوى ، فأصدر السيد الحكيم رحمه الله فتواه الشهيرة بتحريم الإنتساب الى الحزب الشيوعي ، جواباً على سؤال أحدهم ، ونصها:
« بسم الله الرحمن الرحيم . لا يجوز الإنتماء للحزب الشيوعي ، فإن ذلك كفر وإلحاد ، أو ترويج للكفر والإلحاد . أعاذكم الله وجميع المسلمين من ذلك ، وزادكم إيماناً وتسليماً . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ».
محسن الطباطبائي الحكيم - 17 شعبان 1379.
----------------------- [ 172 ] -----------------------
كان ذلك بتاريخ: 15/2/1959م ، وأذكر أنه كان يوماً فاصلاً بين مرحلة الصمت ، ومرحلة التصدي والمواجهة ! فقد ذهبنا مجموعة لبنانيين الى بيت السيد المرجع رحمه الله ، وكان الجو في الصحن الشريف وفي سوق العمارة مختلفاً فقد لاحظنا فيه حضور عدد من المتدينين واستبشارهم ، ورأينا بخط كبير على الجدار قرب بيت السيد: الشيوعية كفر وإلحاد أو ترويج للكفر والإلحاد !
أما البيت فكان خلية نحل ، مملوءاً بالمناصرين الذين يراقبون رد فعل الشيوعيين ، والذين جاؤوا ليأخذوا الفتوى ليوزعوها في المحافظات !
وأذكر أنا رأينا في بيت السيد اثنين من رؤساء الشباب النجفي من أهل النجدة والبأس ، هما الحاج عباس سدر والحاج هادي كرماشة ، وعندما أردنا الخروج من بيت السيد رحمه الله قال لنا الحاج عباس: تعالوا نذهب معاً الى المدرسة اللبنانية مشياً ، لنرى من يتعرض لنا من هؤلاء الكلاب !
وذهبنا بضعة طلبة ومعنا الحاج عباس رحمه الله وكان مسلحاً ، ومررنا في شارع (الفيترجية) مُصَلِّحِي السيارات ، وكنا لانمر فيه خوفاً من إهانتهم !
ونشرت بعض الصحف في بغداد الفتوى ، فكان لها تأثير غير عادي أنساً واستبشاراً في نفوس المتدينين وحتى القوميين والبعثيين ، وصدمة وخوفاً في نفوس الشيوعيين ، ومقاومتهم الشعبية والمنظمات النصيرة لهم !
وبدأت على أثر الفتوى حركة شعبية تعلن تأييدها للمرجعية ، وكانت البصرة أول المبادرين، ففيها علماء شجعان مثل السيد مير محمد القزويني والسيد علي
----------------------- [ 173 ] -----------------------
عبد الحكيم ، فعقدوا اجتماعات وألقوا الخطب ، وتحركوا الى النجف بوفود جماهيرية مؤيدة .
ولعل أول وفد جاء مؤيداً للسيد الحكيم رحمه الله ، كان من مدينة غماس القريبة من النجف ، فقد كانوا عدة (لوريات) أي سيارات خشبية كبيرة ، كانت رائجة يومها ، الى جانب السيارات الصغيرة التي تسمى(الحوض) .
وقد رأيتهم عند سوق العمارة يسألون عن بيت السيد محسن الحكيم رحمه الله ، فمشيت معهم حتى دخلوا على السيد رحمه الله وزاروه ، وهتفوا تأييداً له .
ولما كثرت الوفود رأى مشاوروا السيد رحمه الله أنه لابد من انتقاله الى الكوفة لأن بيته في النجف صغير ويقع في زقاق ضيقة ، وبيته في الكوفة في شارع عام فانتقل السيد الى الكوفة ، وتدفقت الوفود الشعبية من أنحاء العراق على مدى شهر تقريباً ، ناقمة على الشيوعية مؤيدة للمرجعية ، وكان السيد رحمه الله يظهر للوفد مشيراً اليهم بالسلام ، ويدعو لهم ، وكانوا يلقون الكلمات والقصائد ، ويطلقون هوسات التأييد .
8- من منشورات جماعة العلماء الى مجلة الأضواء
تعتبرمجلة الأضواء خطوة تصعيدية في عمل الحوزة لمواجهة المد الشيوعي وأفكاره المعادية للإسلام . فقد رأت الجهة التي اقترحت تشكيل جماعة العلماء ونجحت ، وابتكرت إصدار المنشورات باسمها وتوزيعها في المحافظات ، وتدريسها ، ونجحت.. رأتْ أن المنشور لا يكفي لإيصال الفكر الإسلامي الى
----------------------- [ 174 ] -----------------------
الناس ، فلا بد من مجلة ولو شهرية . وأخذوا موافقة المرجعية على ذلك ، لكن السيد الحكيم والسيد عبد الهادي الشيرازي اشترطا أن تقرأ موادها لجنة معتمدة منهما، وعينا الشيخ خضر الدجيلي والشيخ حسين الهمداني لذلك .(راجع مقدمة مباحث الأصول:1 /67، للسيد كاظم الحائري).
وتطوع الشيخ كاظم الحلفي وقدم طلب إجازة إصدار مجلة دينية ، وتوسطت له المرجعية ، ومع ذلك طالت مراجعته شهوراً !
كنت في الكاظمية في صيف سنة 1960 ، أستقبل أستاذنا الشيخ إبراهيم سليمان وكان في طريقه الى الكويت كقاضي منتدب من المرجع ، فوجدت الشيخ كاظم الحلفي رحمه الله في فندق الرضا عليه السلام ، وأخبرني أنه مضى عليه مدة وهو يراجع في وزارة الدفاع ، لأخذ إجازة بإصدار مجلة الأضواء الشهرية .
وجاءت الإجازة العتيدة من بغداد بعد طول انتظار ، ففرح الطلبة المتحمسون وموَّل السيد الحكيم رحمه الله المجلة ، فاستأجروا لها مكاناً في شارع الطوسي ، وبعد مدة وجدوا أحسن منه قرب الصحن من جهة الباب القبلي ، واشتغلنا نحن الطلبة وأساتيذنا في كتابة المقالات وأخذها الى مطبعة النعمان ، وتصحيحها ، ثم في رزم النسخ ، وإعطائها الى الشباب المتحمسين ، ليوزعوها في محافظاتهم .
صدر العدد الأول في:15/12/1379-9/6/1960، أي بعد أكثر من سنة ونصف من تشكيل جماعة العلماء ، ومعناه أن الجماعة لم تصدر في تلك المدة إلا بضعة مناشير! وستعرف أن سبب ذلك معارضة أكثرالعلماء لأصل المنشورات أو لأسلوبها ، وأنهم لنفس السبب عارضوا مجلة الأضواء ، وخاصة افتتاحيتها التي كان يكتبها السيد
----------------------- [ 175 ] -----------------------
الصدر رحمه الله بعنوان: رسالتنا ، بحجة أنها خطاب سياسي حزبي ، حتى أجبروه على ترك الكتابة والمجلة ، كما سيأتي من كلامه رحمه الله .
9- تأثير الأضواء وتخوف البعثيين والقوميين منها
كان لصدور الأضواء تأثير واسع في بغداد ومحافظات العراق ، ولم يكن ينظر اليها على أنها مجلة ، بل على أنها مرحلة من حملة المرجعية على الشيوعية واستمرارٌ لمنشورات جماعة العلماء ، فلغتها نفس اللغة ، وعليها عبارة: (نشرة إسلامية عامة ، تشرف عليها اللجنة التوجيهية لجماعة العلماء)
فهي مجلة رسمية للجنة التوجيهية لجماعة علماء النجف ، المؤيدة رسمياً من المرجعية . وهذا أمرٌ أعطى الأضواء ثقلاً علمياً ودينياً عند الناس ، وثقلاً سياسياً في نظر الدولة والقوميين والبعثيين !
ولذلك كانوا يسمون الناشطين المتدينين في المحافظات بجماعة الأضواء أو جماعة الحكيم ، وأشاعوا أنهم حزب يعمل لقلب النظام والوصول الى الحكم ، واشتكوا عليهم عند المرجع وكبار العلماء بأنهم حزب سري ، لتخويفهم منهم ، واشتكوا عليهم عند السلطة لتأليبها عليهم !
وينبغي الإلفات الى أن القوميين كانوا يرفعون شعار العروبة وتأييد جمال عبد الناصر، ويتلقون دعماً مالياً وسياسياً من مصر لأنهم يمثلون التيار العروبي الناصري في العراق ، وكان البعثيون على هامشهم ، لكن المصريين أعجبتهم شراسة البعثيين وجرأتهم عندما عرضوا عليهم قتل عبد الكريم قاسم، فوافقوا!
----------------------- [ 176 ] -----------------------
وقد اعترف علي صالح السعدي في مذكراته وهو أمين سر حزب البعث يومها، بأنهم تلقوا مبلغاً من السفارة المصرية في بغداد ، لقتل عبد الكريم قاسم . وفي يوم: 7/10/ 1959، نفذت مجموعة بعثية محاولة اغتياله في شارع الرشيد وأصيب عبد الكريم في كتفه وصدره وقتل سائقه وأحد المهاجمين:
http://www.iraqoftomorrow.org/civil_studies
10- عمل جماعة العلماء ولجنة الأضواء ضد الأضواء !
قال بعض القريبين من السيد الصدر: كان في النجف شخصيات من الحوزة وغيرها، محسوبة على القوميين والبعثيين ، عملوا ضد الأضواء والسيد الصدر ، ولم يكونوا شيوعيين ، بل قوميين مع عبد الناصر .
وقد نشطوا ضد منشورات جماعة علماء النجف ، ثم ضد الأضواء ، بحجة أنه يكتبها هو والسيد مهدي الحكيم ، وعندهما حزب سري ، وأنهما يقومان بالإتصال بالضباط للقيام بانقلاب والوصول الى الحكم .
وقد أثر هؤلاء على اللجنة الثلاثية التي كانت تراقب منشورات جماعة العلماء والأضواء ، فأوقفت المنشورات فلم تتجاوز سبعة ، مع أن الأحداث كانت تستوجب إصدار منشور كل أسبوعين على الأقل .
----------------------- [ 177 ] -----------------------
ثم أثروا على اللجنة فاعترضت على مواد الأضواء ، خاصة افتتاحيتها التي كان يكتبها السيد الصدر رحمه الله وأجبروه على الإنسحاب من الأضواء .
ثم أثروا على المرجع السيد الحكيم رحمه الله عندما اشتكوا على أولاده والسيد الصدر بأنهم أسسوا حزب الدعوة ، فغضب السيد وأمر ولديه أن ينسحبا ويقطعا صلتهما بالسيد الصدر ، فخرجا من التنظيم وكذا السيد الصدر.
لكن لايمكن قبول أن اللجنة المسؤولة عن الأضواء والمعينة من جماعة العلماء كانت ساذجة بحيث يؤثر عليها قوميون وبعثيون ، ظاهرون أو متستترون ، فتتخذ لذلك موقفاً ضد منشورات جماعة العلماء ، ثم ضد مقالات الأضواء، وضد أشخاص محترمين كالسيد الصدر وأبناء المرجع!
فاللجنة الثلاثية هي: الشيخ مرتضى آل ياسين وهو خال السيد الصدر ، والشيخ خضر الدجيلي ، وهو ممثل السيد الحكيم ، والشيخ حسين همداني ، وهو ممثل السيد عبد الهادي الشيرازي . وهم من كبار العلماء الأبرار ، فلا بد أن نُرجع تحفظاتهم الى سب آخر هو لغة المنشورات والمقالات ، كما قال السيد الصدر رحمه الله في رسائله التي بعث بها الى السيد محمد باقر الحكيم رحمه الله ، ونشر فقرات منها ، قال رحمه الله : « بعد مضي أقل من عام تمكَّنت جماعة العلماء من بناء قاعدة إسلامية شابة، ولذا قررت هذه الجماعة إصدار نشرة الأضواء الإسلامية كأداة للتعبير عن وجودها من ناحية ، ولمواصلة السير في الطريق الذي رسمته من ناحية ثانية . وقد بعثت مجلَّة الأضواء من خلال خطها الفكري والسياسي ومن خلال ما رسمته من معالم الطريق الإسلامي وخطوطه العريضة، وبالأخص الخطوط التي كانت ترسم ضمن موضوع (رسالتنا) الذي كان يكتبه
----------------------- [ 178 ] -----------------------
السيد الشهيد الصدر باسم جماعة العلماء وبإذنها طبعاً ، بعث الروح الإسلامية في قطَّاعات واسعة من الجماهير .وسافرت إلى لبنان في سنة1380 هـ ، حيث كانت طموحاتنا أن ننقل أفكارنا إلى ذلك البلد ، وودعت السيد الأستاذ الشهيد حيث كان في الكاظمية حينذاك بعد أن عشت معه أياماً ، وكنت أراسله باستمرار في رسائل طويلة ، وكان يجيبني بأخرى يتحدث فيها عن عواطفه الفياضة ، وهمومه الإسلامية . هذه الرسائل التي أرى فيها أنها أعز ما أحتفظ به من ذكريات تلك الأيام . وفي هذه الرسائل بدأ السيد الأستاذ الشهيد يحدثني عن هجمة قاسية شرسة قام بها حزب البعث ، تسترت ببعض أهل العلم من أعضاء جماعة العلماء وغيرهم الذين انكشف لهم حقيقة هذا الحزب ، كما تكشفت لنا حقيقته ، نتيجة الوعي الإسلامي الذي بعثه السيد الشهيد فينا . فلقد كانت الواجهة في هذه الهجمة بعض من ينتسب إلى أهل العلم ، ولكن كانت يد حزب البعث وراءها ، حيث يطرح السيد الأستاذ في بعض رسائله بأن المحامي حسين الصافي الذي كان معمماً من قبل ، ومن عائلة علمية ، وله صلات شخصية وطيدة ببعض أهل العلم ، ومسؤول حزب البعث العربي في النجف الأشرف ، كان وراء هذه الحملة وتحدث إلى بعض الأشخاص لإثارتهم .
فقد كتب لي السيد الشهيد في صفر من سنة1380 هـ يقول: « لقد كان بعدك أنباء وهنبثة ، وكلام وضجيج ، وحملات متعددة جندت كلها ضد صاحبك
----------------------- [ 179 ] -----------------------
وبغية تحطيمه...ابتدأت تلك الحملات في أوساط الجماعة التوجيهية المشرفة على الأضواء ! أو بالأحرى لدى بعضهم ومن يدور في فلكهم ، فأخذوا يتكلمون وينتقدون ، ثم تضاعفت الحملة ، وإذا بجماعة تنبري من أمثال حسين الصافي ، ولا أدري ما إذا كانت هناك علاقة سببية وارتباط بين الحملتين أو لا ؟! تنبري هذه الجماعة ، فتذكر عني وعن جماعة ممن تعرفهم شيئاً كثيراً من التهم من الأمور العجيبة » !
ومن الملاحظ أنه استعمل البعثيون في هذه الحملة أسلوبين رئيسيين: الأول: أسلوب الإتهام بأن هذه المجلة لا تعبر عن رأي جماعة العلماء ، وإنما هي تعبر عن رأي تنظيم سياسي ديني سري يستغل إسم جماعة العلماء . وقد كان الإتهام بالتنظيم السياسي في تلك الفترة الزمنية يعتبر تهمة شنيعة ، بسبب التخلَّف السياسي الديني في أوساط المتدينين وبالأخص أهل العلم منهم . الثاني: موضوع (رسالتنا) الذي يكتب باسم جماعة العلماء ، وكان يكتبه السيد الشهيد الصدر ، دون أن يعرضه على أحد منهم ، فقد كتب السيد الشهيد نفس الفترة يقول: «كما أن هناك زحمة من الإشكالات والإعتراضات لدى جملة من الناس أو الآخوندية في النجف على النشرة وخاصة (رسالتنا) باعتبار أنها كيف تنسب إلى جماعة العلماء مع أنها لم توضع من قبلهم ولم يطلعوا عليها سلفاً، وإن في ذلك هدراً لكرامة العلماء!
هذا في الوقت الذي يقول الأخ... إن الكلمة في بغداد متفقة على أن رسالتنا
----------------------- [ 180 ] -----------------------
كتابة تجديد وابتكار، تختص بمستواها الخاص عن بقية الأضواء».
وقد كتب (الشهيد الصدر) في 6/ربيع الأول/ 1380: « لا أستطيع أن أذكر تفصيلات الأسماء في مسألة جماعة العلماء وحملتها على الأضواء... ولكن أكتفي بالقول بأن بعض الجماعة كان نشيطاً في زيارة أعضاء جماعة العلماء لإثارتهم على الأضواء وعلى (رسالتنا) حتى لقد قيل إن الشيخ الهمداني الطيب القول ، قد شوهت فكرته عن الموضوع... وهذا الذي حصل بالنسبة للشيخ الهمداني حصل بالنسبة إلى جملة من الطلبة ، مع الإختلاف في بعض الجهات ...
وقد كتب أيضاً: « فإنني أجيبك على سؤالك فيما يخص موقف الخال ، فإن الشيخ الخال كان في الكاظمية بعيداً عن الأحداث نسبياً ولم يطَّلع إلَّا على سطحها الظاهري، وهو ماض في تأييده للأضواء ومساندته لها ، وقد طلبت أن يكتب إلى بعض جماعة العلماء لتطييب خاطرهم وجلب رضاهم عن الأضواء...فكتب إلى...وأخبره بأن الأضواء لم تكن تصدر إلَّا بعد مراقبته وإشرافه ، وأنها تناط الآن...كما أخبره بأن كاتب (رسالتنا) سوف ينقطع عن الكتابة » .
وأيضاً كتب السيد الشهيد: «فقد حدثني شخص في الكاظمية أنه اجتمع به في النجف الأشرف ، فأخذ يذكر عني له سنخ التهم كالها حسين الصافي من دون مناسبة مبررة . وعلى كل حال عسى أن يكون له وجه صحة في عمله إن شاء الله »! وقد كانت لهذه الإثارة دور كبير في تحريك جماعة العلماء بالخصوص ضد
----------------------- [ 181 ] -----------------------
السيد الشهيد والمجلَّة ، بخلاف الأسلوب الأول ، فإن دوره الأساسي كان في أوساط المتشدّدين من أهل العلم البعيدين عن التيار الإسلامي وهمومه ومشاكل الأمة وانحرافاتها الفكرية والسياسية ، ولذا كان تأثيره على جماعة العلماء محدوداً...وقد أحسن السيد الأستاذ الشهيد الصدر في معالجة الموقف بهدوء، حيث تمكَّن أن يثبت حينذاك أنه لاينتمي إلى تنظيم سياسي معين ، كما أنه منحت اللجنة التوجيهية لجماعة العلماء الإشراف الفعلي على المجلة وعلى موضوع (رسالتنا) وتمسك بالصبر والسكوت ، فقد كتب يقول: «وأما واقع الأضواء هنا فهو واقع المجلة المجاهدة في سبيل الله ، وقد هدأت والحمد لله حملة جماعة العلماء عليها ، بعد أن تم إشعارهم بأنهم المشرفون عليها . غير أن حملة هائلة على ما أسمع يشنها جملة من الطلبة ومن يسمى بأهل العلم أو يحسب عليهم ، وهي حملة مخيفة وقد أدت على ما قيل إلى تشويه سمعة الأضواء في نظر بعض أكابر الحوزة ، حتى كان جملة ممن يسميهم المجتمع الآخوندي مقدسين أو وجهاء لا يتورعون عن إلصاق التهم بالأضواء وكل من يكتب فيها .
ومن الجدير بالذكر أنه كان الإخوان في اللجنة التوجيهية يتسامحون في تقديم ما يكتبونه إلى الجماعة للإشراف المباشر عليه ، خوفاً من ملاحظات تبديها الجماعة تمس الصيغ الجديدة التي كانوا يقدمونها للأفكار الإسلامية التي كانت تمد التيار الإسلامي الواعي بالوقود والعطاء .
ولكن التجربة التي مارسوها بعد الضجّة دلَّت على أن جماعة العلماء كانت على
----------------------- [ 182 ] -----------------------
درجة من الوعي تجعلها لا تعارض مثل هذه الأفكار بل تمنحها التأييد والقبول ، لأنه يشهد رضوان الله عليه بعد ذلك في تاريخ 18ربيع الأول يقول: « وأسرة الأضواء التي لا غبار عليها وجه من الوجوه مورد للإطمئنان الكامل ، وهم يعرضون مقالاتهم على الثلاثة [لجنة المراقبة] ولم يصادفوا لحد الآن مشكلة مبدئية في هذا المقام ، والحمد للَّه ربّ العالمين».
«حدسي أن الأضواء سوف تستمر إن شاء اللَّه تعالى ، لأنها تتمتع الآن برصيد قوي من الداخل والخارج، فمن الخارج بلغت عدد الإشتراكات.. ومن الداخل تتمتع برضا جماعة العلماء » .
وهكذا تمكَّن السيد الشهيد رضوان الله عليه بحكمته وصموده وصبره ، أن يواصل طريقه مع إخوانه وتلامذته في الجهاد ، وأن يقفوا جميعاً في وجه هذه الهجمة الشرسة التي استغلَّت أخس المشاعر في الإنسان ، واستعملت أخبث الأساليب. وتمكن بسبب ذلك الخط الإسلامي الأصيل أن يستمر في تفاعله مع الأمة والتأثير فيها».(مقدمة مباحث الأصول:1 /67، للسيد كاظم الحائري).
وينبغي أن نسجل هنا ملاحظات:
1- أن الذين وصفهم السيد الصدر رحمه الله بأنهم قادوا الحملة ضده ، هم من جماعة العلماء ، ومن اللجنة التوجيهية التي عينوها لتشرف على الأضواء قال رحمه الله : « هجمة قاسية شرسة قام بها حزب البعث ، تسترت ببعض أهل العلم من أعضاء جماعة العلماء وغيرهم». وقال: «ابتدأت تلك الحملات في أوساط الجماعة التوجيهية المشرفة على الأضواء ! أو بالأحرى لدى بعضهم ومن يدور في فلكهم » !
----------------------- [ 183 ] -----------------------
وأعضاء جماعة العلماء هم ثقل حوزة النجف بعلمائها ومرجعيتها ، وقد عدُّوا منهم: الشيخ محمد جواد آل راضي ، والشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي ، والشيخ حسن الجواهري ، والشيخ محمد حسن الجواهري ، والشيخ محمد رضا المظفر ، والشيخ خضر الدجيلي ، والشيخ حسين الهمداني ، والسيد محمد تقي بحر العلوم ، والسيد علي الخلخالي ، والسيد مرتضى الخلخالي، السيد موسى بحر العلوم ، والشيخ مرتضى آل ياسين ، والسيد إسماعيل الصدر ، والسيد محمد باقر الشخص ، والسيد موسى بحر العلوم ، الشيخ محمد تقي الإيرواني..وآخرين.
والمقصود باللجنة التوجيهية لجماعة العلماء: بضعة نفر من شباب العلماء على حد تعبير السيد محمد باقر الحكيم ، منهم الشيخ كاظم الحلفي صاحب الإمتياز ، والشيخ عبد الهادي الفضلي ، والسيد عدنان البكاء ، وآخرون ، كانوا موكلين من جماعة العلماء بتحرير المجلة والإستكتاب لها ، لكنهم لا يملكون القرار، لأن جماعة العلماء عينت لهم ثلاثة علماء (الدجيلي والهمداني وآل ياسين) وجعلت لهم حق قبول المواد أو ردها .
2- المقصود بالثلاثة كما تقدم الشيخ الدجيلي ممثل المرجع الحكيم ، والشيخ حسين الهمداني ممثل المرجع السيد عبد الهادي الشيرازي ، والشيخ مرتضى آل ياسين رئيس جماعة العلماء . والثلاثة من العلماء الكبار رضوان الله عليهم .
ومعنى كلام السيد الصدر رحمه الله :«حتى لقد قيل إن الشيخ الهمداني الطيب القول ، قد شوهت فكرته عن الموضوع...وهذا الذي حصل بالنسبة للشيخ الهمداني حصل
----------------------- [ 184 ] -----------------------
بالنسبة إلى جملة من الطلبة » معناه أن العاملين ضده أثروا على الشيخ الهمداني فصار رأيه سلبياً في الأضواء ومقالاتها ، ومثله جملة من الطلبة . وتقديري أن موقف الهمداني وموقف الشيخ الدجيلي رحمهما الله ، وغيرهما من جماعة العلماء ، لايرجع الى تأثير الآخرين عليهم ، بل الى قناعتهم بالأسلوب التقليدي في التبليغ ، وبالعمل الإصلاحي في السياسة وإشكالهم على الطرح الإنقلابي للإسلام ، والعمل لإقامة حكم إسلامي.
فهذا هو موقف المرجع السيد الحكيم ، والمرجع السيد عبد الهادي الشيرازي ، وقد كان ممثله الشيخ حسين الهمداني يسكن قرب المدرسة اللبنانية ، فكنت أزوره مع بعض الطلبة فيسألنا عن دروسنا ، ويحدثنا بما ينفعنا ، وكان ينصحنا بسلوك الخط الذي سار عليه السلف الصالح من العلماء والمراجع وأصحاب الأئمة عليهم السلام ويحذرنا من الإنجرار الى السياسة !
أما حسين الصافي ، الذي ذكره أستاذنا رحمه الله بأنه كان يحرك عليه ويفتري ، فيختلف منطلقه عمن ذكرهم السيد الصدر أنهم قادوا الحملة عليه من جماعة العلماء ومن اللجنة التوجيهية ، فحسين الصافي بعثي عريق ، كان يعمل بدهاء ضد جماعة العلماء والأضواء والسيد الصدر رحمه الله ، وهو الذي دخل على المرجع السيد الحكيم رحمه الله وبقي واقفاً ولم يجلس وسأله قائلاً: سيدنا ، هل تعمل أنت في السياسة ؟ قال: لا. قال: هل تقبل أن يعمل أحد باسمك في السياسة؟ قال: لا. قال: إذن ليكن معلوماً لديك بأن ابنك السيد مهدي والسيد محمد باقر الصدر
----------------------- [ 185 ] -----------------------
أسسا حزباً للوصول الى الحكم ، وهما يعملان باسمك ! فدهش السيد رحمه الله من كلامه وقال له: أجلس ، قال: لا ، شكراً ، فقد أردت فقط أن يكون عندك علم ! فتأذى السيد المرجع كثيراً ، ودخل الى بيته ذلك اليوم ولم يستقبل أحداً ، وأرسل في إحضار السيد مهدي والسيد باقر رحمهم الله ، ونهاهم .
وقد روى القصة الحاج محمد حسين أديب بشكل آخر لم يصح عندي، قال: «جاء حسين الصافي ، وهو رجل بعثي لئيم جاء إلى المرحوم آية اللَّه الحكيم وقال: إن السيد الصدر وآخرين ممن ذكر أسماءهم ، قد أسسوا حزباً باسم حزب الدعوة الإسلامية ، وبهذا سيهدمون الحوزة العلمية ! وبدأ يهدد ويتكلَّم ضد من أسماهم مؤسسين للحزب، فنهره آية الله العظمى السيد الحكيم وقال له: أفأنت أحرص على مصالح الحوزة العلمية من السيد الصدر؟ ثم أخرجه من بيته بذل وهوان ، ثم أرسل رضوان اللَّه عليه أحد أولاده إلى السيد الصدر..»(مباحث الأصول للسيد كاظم الحائري:1/88).
وبعد انقلاب القوميين والبعثيين على عبد الكريم ، صار حسين الصافي محافظ الديوانية ، ثم صار وزيراً للعدل سنة1971، وتوفي 1987.
11- الشيخ مرتضى آل ياسين: الأضواء جابت بنية !
انسحب أستاذنا الصدر رحمه الله من الكتابة في الأضواء،واعتكف مدة في الكاظمية بسبب هجوم جماعة العلماء الذي ذكره رحمه الله ضده وضد الأضواء ، وبقيت
----------------------- [ 186 ] -----------------------
الأضواء مستمرة ومؤثرة في الناس لكنها فقدت بريقها ، لأن الحملة على السيد الصدر رحمه الله جعلتها محل خلاف بعد أن كانت محل إجماع !
وبقيت بعد ذلك لسنة وأكثر يكتب على غلافها: تشرف عليها اللجنة التوجيهية لجماعة علماء النجف ، حتى أزيل عنها ، وكتب بدله: مجلة دينية تشرف عليها لجنة توجيهية من الهيئة العلمية في النجف . ثم أزيل وكتب عليها: مجلة دينية تشرف عليها لجنة توجيهية من العلماء !
وسبب ذلك أن جماعة العلماء شكوا من أنها تنسب اليهم بدون حق! وقد أثَّروا حتى على الشيخ مرتضى آل ياسين رحمه الله فكان ينتقد نشر موضوعاتها بدون معرفتهم !
فقد أخبرني الشيخ الحلفي أنه زاره وقدم اليه الأضواء فقال له: سمعت أن الأضواء «جابت بنية» ! ويقصد ببنت الأضواء مجلة صغيرة وزعوها ملحقاً ، إسمها «الفتاة المسلمة».
وكان الشيخ الحلفي يشكو من تأخيرهم المقالات ، وكثرة إشكالاتهم !
وهكذا تضاءل تأثير الأضواء على الناس، لأن المتدينين التقليديين لم يعودوا حريصين عليها ، والمتدينين الشباب الذين كنا نسميهم «الواعين» كانوا يرونها نافعة ، لكن الذي يسد حاجتهم هو النشرة التنظيمية .
وكانت الأضواء عملياً هي الشيخ الحلفي رحمه الله فهو صاحب الإمتياز ، وهو المتفرغ، والمسؤول عن تدبير ماليتها من السيد الحكيم رحمه الله والخيرين .
----------------------- [ 187 ] -----------------------
وكان أصعب عمله تهيئة المقالات ، فكُتَّاب الموضوعات التي يريدها قلة فكان يستكتب حتى الناشئين أمثالي، وكان عمري يومها ثمان عشرة سنة .
وقد كتبت في السنة الثالثة موضوعاً بعنوان: وداعة الحياة في نظر المؤمن ، ثم موضوعاً في العدد التاسع بعنوان: أخي المثقف علينا أن نفهم الإسلام. وقد هنأني يومها الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله على هذا القلم الجيد لكني قرأت الموضوعين بعد ذلك فرأيتهما عاديين ، تغلب فيهما العاطفة على العلمية ، ولا يتناسبان بحال مع مجلة تحمل إسم حوزة النجف !
ثم كتبت في السنة الرابعة افتتاحية الأضواء «كلمتنا» لعددين بعنوان: الصلة بين النبوة والإمامة ، وكان أسلوبي شديداَ في نقد منكري الإمامة، فعاتبني أستاذنا الصدر رحمه الله بعد صدور العدد ، حيث لم يكن يرى المقالات أحد سوى الشيخ كاظم الحلفي رحمه الله !
* *
----------------------- [ 188 ] -----------------------
الفصل الثامن: عهود قبل الإستبداد البعثي
1- لماذا سلط عبد الكريم الشيوعيين على الناس؟
كان الجو الحاكم في البلاد العربية موجة التأييد لعبد الناصر وشعاراته القومية المعادية للغرب ، وانقسمت الدول العربية الى تحررية بزعامة عبد الناصر، ورجعية موالية للغرب بزعامة آل سعود وملوك العراق والأردن .
وفي هذا الجو لا بد أن تكون الثورة على النظام الملكي العراقي معاديةً للغرب ومنفتحةً على الشرق الشيوعي، وهذا هو منطق عبد الكريم ورفاقه الضباط الأحرار، فهم لايريدون الخضوع لعبد الناصر، ولايريدون عداءه.
لكن عبد الناصر وأنصاره كانوا يصرون على إخضاع العراق لهم وإعلان الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة ، التي وصلت الى حدوده !
أمام هذا الوضع رأى عبد الكريم أن يستعين بالشيوعيين، فهم يستطيعون بشعاراتهم وتنظيمهم ونشاطهم، أن يساندوه ويقفوا في وجه القوميين والبعثيين عملاء عبد الناصر ، ومعهم المتدينون السنة ، وبعض الشيعة !
لذلك أطلق عبد الكريم يد الشيوعيين ، لكنهم كانوا مجانين ! فقد اشتروا عداء عبد الناصر ، حتى كتبوا على جدار سفارته في بغداد: شيلوا سفارتكم ما نريد وحدتكم . قواويد ! وعلق أحد الطلبة المحبين لعبد الناصر يومها ، فقال: إن الكلمة الأخيرة توقيع الذي كتب الشعار!
----------------------- [ 189 ] -----------------------
ثم استَعْدَوْا المسلمين سنة وشيعة بشعاراتهم ضد الدين ، كشعار: الدين أفيون الشعوب ، مع أن الدين محرر الشعوب ، وشعار: بس هالشهر ، ماكو مهر والقاضي نذبه بالنهر !
أي هذا آخر شهر نعطي فيه مهوراً وسنلغي عقود الزواج! وهو إباحية لايقبلها مجتمع في العالم فكيف بمجتمع العراق العربي المسلم ! ولعل هذا الشعار كان مكذوباً عليهم ، لكنه يدل على اندفاعتهم وإفراطهم !
لكن لا بد أن ننصف الشيوعيين ونقول إنهم لم يكونوا ملحدين ، وربما كان في قياداتهم بضعة أشخاص يتبنون الشيوعية العلمية والديالكتيك ، الذي يعني الإلحاد ، أما كوادرهم وجمهورهم ، فلم يكونوا ملحدين !
ففي سنة1962، قلت للسيد مرتضى الحكيم رحمه الله : هل نستطيع أن نعرف ماذا يُدَرِّس الشيوعيون في حلقاتهم؟ قال: عندي صديق أخبرني أن جواد علي بك ، وكان مسؤولاً شيوعياً في النجف يعقد جلسات في بيته ، وسأكلفه أن يعرف لنا ماذا يدرسهم ؟
وبعد أيام قال لي: كلفته فراقبهم فقال: جاء جواد وبيده كتاب رأس المال لماركس ، وجلس حوله أربعة هم أعضاء الحلقة ، فابتدأ كلامه فقال: قال الرفيق لينين ، ألله يرحمه ويرحم شيعة أمير المؤمنين!
فضحكنا لهذه المفارقة ! ورأينا مثلها في مواكب عاشوراء ، فقد كانوا يشاركون في المواكب ، ويمجدون ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، لأنها برأيهم ثورة الطبقة
----------------------- [ 190 ] -----------------------
الكادحة ضد البرجوازية الأموية !
لذلك لايمكن القول بأن الموجة الشيوعية التي طغت يومها في العراق ، كانت تتبنى الإلحاد ، وتريد تعميمه على العراق ، وإن كان غوغاؤها رفعوا عدداً من شعارات الإلحاد ، وظهر منهم كثير من الجنون الهستيري !
وخير وصف لهم أنهم انفلتوا من سجن النظام الملكي ، ورأوا أناساً يركضون ويهتفون، فركضوا معهم وهتفوا ، حتى اصطدموا بالجدار !
2- غلو الشيوعيين في الزعيم الأوحد !
كان عبد الكريم قاسم بالنسبة الى الشيوعيين فرصة العمر التي لاتتكرر ، لذلك غالوا فيه وسموه الزعيم الأوحد ، وأطلقوا في تمجيده شعارات مفرطة ، وهتفوا بموت من يعاديه ، بل بموت من لايواليه !
وربما كانوا يحاولون بذلك تغطية خسارتهم الشعبية ! لكن غلوهم بالزعيم كان عاملاً في كره فئات من الناس له ! وقد وصف الشواف في بيانه الأول مغالاتهم فيه بقوله: «وتعيث بالبلاد مقابل ذلك فئة ضالة باغية لادين لها ولا ضمير ، تخلق لها صنماً به لوثة في عقله وتعبده ، ولا تخشى الله وتنادي به رباً للعالمين ، وتُسخر موارد الدولة لتخلق منه زعيماً أوحداً ، ومنقذاً أعظم » .
لكن الواقع أن فئات من الشعب كانت تحب عبد الكريم حباً حقيقياً ، حتى بعد أن قتله البعثيون عملاء عبد الناصر ، فقد كانت هذه الفئة الواسعة معجبة بحسه الشعبي ، وتشعر أنه منها ويمثل ضميرها !
وكان عبد الكريم يحب الجمهور ويتقرب اليه بكلامه وسلوكه ، كان يُخرج
----------------------- [ 191 ] -----------------------
علبة التبغ ويلف سيجارة كعامة الناس، ليشعرهم أنه منهم ومثلهم .
وكان يَخرج من وزارة الدفاع في أوقات يأمن فيها ، ويقوم بجولات بين الناس ليراهم ويروه . وقد حدثني سكرتيره جاسم العزاوي وكان من الخالص ، أن عبد الكريم أيقظه يوماً قبل الفجر وقال له: جاسم قم شغِّل السيارة ، وركب معه وأمره أن يذهب من الجسر المعلق ، ثم الى الكرادة ، ثم الى قناة الجيش ، ومرَّ على مخبز الصَّمُّون(الخبز الفرنجي)في قصته المشهورة.
قال العزاوي: ورأى عند قناة الجيش مجموعة نساء جئن من الريف باكراً ليبعن القيمر والرُّوب (القشطة واللبن) فأمرني بالوقوف ، ونزل وسلم عليهن (السلام عليكن خالاتي) وعرَّفهن بنفسه ، ففرحن به وهلهلن، فتحدث معهن، ثم ركب وقال لي: أرأيت أن الشعب يحبني ، وأنا أحبهم !
وسألته عن الإصلاح الزراعي وكان وزيره ، فقال: هو الإفساد الزراعي! وأخذ يتكلم عن التعديات على أملاك الناس وسوء الإدارة والتوزيع !
3- تأثير الموجة الشيوعية على السنة في العراق
تضرر متدينوا السنة وعلماؤهم من الموجة الشيوعية ، وكان ثقلهم في الموصل بزعامة الإخوان المسلمين ، وفي الأعظمية ببغداد بزعامة المفتي ورجال الدين ، لكن مقاومتهم كانت خفيفة ، جاءت على هامش مقاومة المرجعية وعلماء الشيعة وجمهورها المتحمس ، فكنا نرى في النجف وفود مشايخ من الأعظمية
----------------------- [ 192 ] -----------------------
وغيرها ، يزورون المرجعية مؤيدين متضامنين ، كما زاروا المرجع السيد الحكيم رحمه الله في سفرته الى بغداد وسامراء .
أما المراقب العام للإخوان المسلمين وهو الشيخ محمد محمود الصواف فلم يتحمل مضايقة الشيوعين في الموصل وذهب بها عريضة، فهرب في أول موجتهم سنة 1959الى السعودية ، واستقر هناك الى آخر عمره!
فخلفه عبد الكريم زيدان ورفع مذكرة الى عبد الكريم قاسم تدين الأوضاع في العراق ، وتحمله مسؤولية مايجري: «فأمرت السلطات بإلقاء القبض على عبد الجليل ابراهيم ، ووليد عبد الكريم الأعظمي ، وعلى تسعة أعضاء بارزين في حزبهم ، وأغلق مقر الحزب في بغداد يوم 21 تشرين الثاني 1960، وفي 16 اذار 1961، أصدر الحاكم العسكري أحمد صالح العبدي بياناً حل فيه الحزب . وبعد حله انقسمت جماعة الإخوان الى قسمين: الأول ، أراد مواصلة العمل بصورة سرية ، وآخر دعا الى الإنصراف الى التربية والتوقف عن ممارسة أي نشاط حتى إشعار آخر، ومع ذلك فقد واصل الحزب إصدار بيانات تحت تسميات مختلفة مثل: الرابطة الإسلامية ، والجبهة الإسلامية» http://www.madarik.org/mag7/9.htm
ثم جاء عبد السلام فكان العهد الذهبي للإخوان ، وأجاز حزبهم .
أما السياسيون السنة ، فكانوا مؤيدين لعبد الناصر، وقد نشطوا بإدارة مصر وتحالفوا مع البعثيين ، لإسقاط نظام عبد الكريم ، حتى أسقطوه .
* *
----------------------- [ 193 ] -----------------------
4- أول ثورة ناصرية على عبد الكريم قاسم
كان عبد الناصر مستعجلاً لضم العراق الى دولته «الجمهورية العربية المتحدة»فدفع عبد السلام لذلك ففشل ، ثم دفع عبد الوهاب الشواف وكان قائد الفرقة الخامسة من الجيش في الموصل ، ومعه ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية ، وبعث لهم أسلحة عن طريق سوريا ، فقاموا بانقلابهم في الموصل ونجحوا أول الأمر ، وأذاع الشواف البيان الأول ، وجاء فيه:
« أيها المواطنون: عندما أعلن جيشكم الباسل ثورته الجبارة في صبيحة 14تموز الخالد ، عندها حطم الإستعمار وعملائه وقضى على النظام الملكي، وأقام بمؤازرتكم وتأييدكم النظام الجمهوري الخالد ، عندما فعل جيشكم ذلك كله ، لم يدر بخلده ولا بخلدكم أن يحل طاغية مجنون محل طاغية مستبد ، وتزول طبقة استغلالية بشعة ، ليحل محلها فئة غوغائية تعيث بالبلاد والنظام والقانون فساداً، ويُستبدل مسؤولون وطنيون بآخرين يعتنقون مذهباً سياسياً لايمت لهذه البلاد العربية الإسلامية العراقية بمصلحة..وتعيث بالبلاد مقابل ذلك فئة ضالة باغية لادين لها ولا ضمير، تخلق لها صنماً به لوثة في عقله وتعبده ولا تخشى الله وتنادي به رباً للعالمين ، وتُسخر موارد الدولة لتخلق منه زعيماً أوحداً ،ومنقذاً أعظم .
هذا الزعيم ، الذي خان ثورة 14تموز وعاث بمبادئها وأهدافها ، ونكث بالعهد ، وغدر بإخوانه الضباط الأحرار ونكل بهم ، وأبعد أعضاء مجلس الثورة الأشاوس ليحل محلهم زمرة انتهازية رعناء... واستهتر بدستور
----------------------- [ 194 ] -----------------------
جمهوريتنا المؤقت، وسلب مجلس السيادة المؤقت كل مسؤولياته الدستورية واحتكرها لنفسه...، وأعلنها حرباً شعواء على الأمة العربية ، لدرجة أن صار الهتاف بسقوط القومية العربية شعاراً له ولزمرته الباغية الفاجرة...،
لهذه الأسباب كلها، أيها المواطنون الأباة في شتى أنحاء جمهوريتنا الخالدة عزمنا باسم العلي القدير، بعد اتفاقنا مع أخينا الزعيم الركن ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية ، ومع كافة الضباط الأحرار في جيشكم الباسل...على تحرير وطننا الحبيب من الإستعباد والإستبداد ، وتخليصه من الفوضى...،
أيها المواطنون: إننا، إلى أن يستجيب عبد الكريم قاسم فينصاع للحق ، ويتنحى عن الحكم فوراً ، والى أن يمارس مجلس السيادة سلطاته ، ليؤلف وزارة بالتعاون مع مجلس قيادة الثورة ، قد أخذنا على عاتقنا بعد الإتكال على الله ، مسؤولية إدارة البلاد ..».
العقيد الركن عبد الوهاب الشواف قائد الثورة 8 آذار 1959.
لكن عبد الكريم تمكن من السيطرة على فرق الجيش ، وإفشال انقلاب الشواف ، مستعيناً بالضباط الشيوعيين ، وتنظيماتهم الشعبية .
لكن مصر لم تيأس، فواصلت عملها حتى أسقطته وجاءت بعبد السلام.
5- عداوة عبد السلام عارف للشيعة !
عبد السلام عارف ضابطٌ من منطقة حديثة على الحدود السورية ، كان قومياً ناصرياً متحمساً ، يدعو الى الوحدة الفورية مع مصر ، وقد اشترك في انقلاب عبد الكريم قاسم ، وكان نائبه ووزير الداخلية .
----------------------- [ 195 ] -----------------------
وقد ترأس عبد السلام الوفد الذي زار عبد الناصر ، ليبشروه بانتصار الثورة الموالية له ، ويطلبوا منه الدعم السياسي والعسكري ، فاحتفى بهم ، وأرسل الى العراق شحنة أسلحة من سوريا التي كانت في دولة الوحدة ، وجلس مع عبد السلام عارف في غرفة وحدهما .
وعندما رجع عبد السلام من زيارته ظهر خلافه مع عبد الكريم ، فعزله عبد الكريم من مناصبه ، وعينه سفيراً في ألمانيا ، لكن عبد السلام رفض الذهاب وشهر مسدسه ليغتال عبد الكريم ، فأمسكوا يده ، فادعى أنه أراد أن ينتحر ! ثم قبل الذهاب سفيراً الى ألمانيا .
ثم رجع من ألمانيا بدون إذن عبد الكريم فحبسه، فغضب له عبد الناصر ، وشن الإعلام المصري حملات على عبد الكريم ، وكان عبد الناصر يسمي عبد الكريم: قاسم العراق ، بينما لم يتكلم عبد الكريم عليه بحرف !
6- هدية عبد السلام الأموية الى عبد الناصر !
كان نوري السعيد رئيس وزراء النظام الملكي في العراق ، عدواً لدوداً لعبد الناصر، فكان عبد الناصر يتهمه بالعمالة للغرب . وعندما وقع الإنقلاب هرب نوري السعيد فحاصروه ، فقتل نفسه بمسدسه ! وطلب عبد السلام أن يقطعوا إصبعه ويأتوه بها، فأخذها معه هدية الى جمال عبد الناصر ، فاقشعر عبد الناصر من هذه القسوة ، وأمر بدفن الإصبع !
----------------------- [ 196 ] -----------------------
« جاء وفد عراقي ليبشر عبد الناصر بانتصار الثورة والقضاء على حلف بغداد ، وحمل برهانه في علبة ، وطلب من عبدالناصر أن يفتحها ، وإذ بلفافة قطن دامية تحمل إصبعاً بشرياً مقطوعاً ! فامتعض عبدالناصر من هذا العنف غير المبرر ، إنها هدية عبدالسلام عارف لجمال عبدالناصر !
وتكدر حاله في هذا اللقاء الدموي ، فأمر عبدالناصر بدفن إصبع نوري السعيد بكل احترام ، في المقبرة الرفاعية أمام قلعة محمد علي» !
140pagdald رحمه الله 423142http://newsweek.alwatasn.com.kw/Default.aspx?MgDid=
وهذا يكشف عن روح السادية الأموية عند عبد السلام عارف ، شبيهاً بالذين قطعوا إصبع الإمام الحسين عليه السلام ليأخذوا خاتمه ! وقد كتم بعضهم إسم عبد السلام فقال: « قدمت هدية إلى عبدالناصر وكانت عبارة عن لفة صغيرة ، تحوي في داخلها إصبع نوري السعيد، وأمر عبدالناصر بدفنها بسرعة» .140http://www.abdullakhalaf.com/view.asp?ID=
7- حكم المخابرات المصرية للعراق
في تلك الأيام نشطت المخابرات المصرية في العراق ، وكان لها التأثير الأول قبل المخابرات الإنكليزية والأمريكية !
وقد استمر نفوذها القوي في العراق حتى في عهد عبد الرحمن عارف !
قال السيد مهدي الحكيم رحمه الله في مذكراته/76 ، ناقلاً حديثه مع عبد الرحمن:
«قلت: إن عبد الناصر اجتمع مع أنديرا غاندي ، وأعلن أن الإجتماع سري ، فأصدر رئيس الوزراء هنا بياناً قال فيه بأننا نؤيد كل ما جرى في المحادثات بين
----------------------- [ 197 ] -----------------------
الرئيس والرئيسة ! ولما كان الإجتماع سرياً فبأي صفة وأنت رئيس وزراء دولة أخرى ، تؤيد كل ما جرى في الإجتماع الذي كان سرياً ؟ هذا الأمر ليس له معنى إلا أن تعتبر نفسك تابعاً كأي موظف لرئيسه » !
وقد فرضت المخابرات المصرية على القوميين أن يتحالفوا مع البعثيين وجعلت التحالف برئاسة عبد السلام ، وقامت بانقلاب على عبد الكريم قاسم ، ونجحت في إسقاطه .
وبعد بضعة شهور غدر عبد السلام بشركائه البعثيين وأقصاهم ، كما غدر به شريكه عبد الكريم قاسم من قبل ، وأقصاه .
ثم تفرغ عبد السلام لاضطهاد الشيعة وإبعادهم عن المناصب الهامة ، مع أنهم أكثرية البلد ، فوقفت المرجعية ضده ، لمنعه من ذلك .
ومن حماقة عبد السلام أنه لم يكتف بعدائه للشيعة ، حتى فتح جبهة الحرب على عبد الناصر ، عندما رفض اتخاذ خطوات في الوحدة ، بحجة أنها تحتاج الى دراسات عميقة ومفصلة ، فغضب عليه عبد الناصر !
وزاد من غضبه أن عبد السلام انتقد حكم عبد الناصر على سيد قطب بالإعدام سنة 1964، وطالبه بإطلاقه ، وأرسل اليه وفداً وزارياً برئاسة شيت خطاب ليتابع ذلك ، فاضطر عبد الناصر لإطلاق سيد قطب ، لكنه بعد أن أطاح بعبد السلام ، اعتقله وأعدمه !
----------------------- [ 198 ] -----------------------
ففي13نيسان من سنة 1966، كان عبد السلام في طائرة مروحية بين البصرة والعمارة ، فسقطت به وقتل ، وقال بيان حكومة إنها سقطت بسبب عاصفة رملية ، وقال بعضهم كانت السماء صافية ، ولم تكن أي عاصفة ، وكانت الطائرة روسية ، والمتهم عندهم المخابرات المصرية .
وما أن قتل عبد السلام حتى وصل الى العراق المشير عبد الحكيم عامر ، مبعوثاً من عبد الناصر ليرتب وضع العراق ، فقام بجمع مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الأعلى لانتخاب رئيس ، وكان الأمر يدور بين العقيلي الشيعي رئيس الفرقة الأولى في الجيش ، وبين عبد الرحمن البزاز رجل بريطانيا ، وبين عبد الرحمن عارف الضعيف المقبول من مصر . فرتبوا الأمر لعبد الرحمن وأعلنوه رئيساً للجمهورية بعد أخيه .
وكان عبد الرحمن ضعيفاً مسالماً ، حاول إصلاح العلاقة مع الشيعة ، فاستوزر منهم وليَّن خطابه معهم ، واتفق مع المصريين على البدء بخطوات عملية لتحقيق الوحدة ، لكن البعثيين عاجلوه ، وجاؤوا كما صرح أمين سر حزبهم علي صالح السعدي بقطار أنكلو- أمريكي ، وأسقطوا نظامه في 17 تموز 1968، بواسطة عبد الرزاق النايف مدير الإستخبارات العسكرية، وعبد الرحمن الداوود آمر قوات الحرس الجمهوري ، وسعدون غيدان آمر كتيبة الدبابات في الحرس الجمهوري !
----------------------- [ 199 ] -----------------------
وبعد ثلاثة عشر يوماً انقلب البعثيون على النايف ، ونفوه إلى لندن ثم اغتالوه ، بعد أن صرح أن الأمريكان فرضوا عليه التعاون مع البعثيين !
وكان الدكتور ناصر الحاني الذي عينوه وزيراً للخارجية ، عرَّاب الإنقلاب بين النايف والداود والبعثيين والولايات المتحدة .
وفي رئاسة أحمد حسن البكر ، برز من البعثيين صدام ، متميزاً بجرأته على القتل ، فقام بتصفية رفاقه وتنحية البكر، وأخضع الحزب والجيش لحكمه وحكم العراق لأكثر من ثلاثين سنة ، حتى أسقطته أمريكا سنة 2003م.
* *
8 - عاشور هالعام اثنين !
كان عبد السلام متعصباً ضد الشيعة ، ومحبوباً عند متديني السنة ، فقد قرب مشايخهم وشخصيات الإخوان المسلمين ، وأجازتأسيس الحزب الإسلامي ، كما قرب اليه شريحة من الشيعة ورفعهم علماً في مقابل مرجعية السيد الحكيم رحمه الله والحوزة وجماهير الشيعة ، وكان بعضهم مغشوشاً بشعارات عبد السلام القومية والإسلامية ، وبعضهم مهزوماً مذهبياً .
وقد أعلنت الحكومة الحداد العام على عبد السلام ، وكان موته قريب عاشوراء (23/12/1385) ، فكانت مخابرات السلطة تطلب من الخطباء أن يذكروه في مجالسهم . وكنت في الخالص ، فتفاجأنا بالرادود ينشد:
عاشور هالعام اثنين . أول مصيبه الحسين . وثاني مصيبه مصيبة الطيارة !
فنعى عبد السلام ووضعه مع الإمام الحسين عليه السلام !
----------------------- [ 200 ] -----------------------
ولم أستطع الإعتراض عليه وهو على المنبر ، لكن لما نزل قلت له يا فلان: لو تقاسم الحسين ويزيد الناس يوم القيامة فعبد السلام حصة من؟
قال: حصة يزيد ! فقلت له:فاعرف نفسك ماذا فعلت !
وأصيب ببحة في صوته ، ثم مرض ، فقالوا هذه حَوْبة الحسين عليه السلام !
* *
----------------------- [ 201 ] -----------------------
موجتنا ضد الشيوعية خدمت عبد الناصر
1-كوَّنت المرجعية موجةً شعبية ضد الشيوعيين
طغى الشيوعيون وتعدوا على الدين والمجتمع ، وجندوا معهم شريحة غوغائية استعملت العنف مع الناس ، وعاثت فساداً ! فقاومتها المرجعية وكوَّنت موجة شعبية ضدهم ، وأجبرت عبد الكريم على أن يحد انفلاتهم .
وبهذا سجل الشيعة انتصاراً على مستوى العراق ، بدأ بفتوى المرجعية ضد الشيوعية في: 17/ شعبان 1379- 15/2/1959، وبلغ أوجه بوفود ملايينهم من مختلف المحافظات ، وهتافها بتأييد المرجعية وإدانة الشيوعية ثم بأنشطتهم لإنهاء سيطرة الشيوعيين على الشارع ، وإثبات وجودهم .
لكنهم لم يستثمروا هذا النصر مع أنهم أكثرية البلد ، فلا هم تفاهموا مع عبد الكريم ، ولا فرضوا عليه مطاليبهم ، ولا أسقطوه ، ولا شاركوا الذين عملوا لإسقاطه ! فكان عملهم تهيئة الجو للناصريين ليتحالفوا مع البعثيين ويسقطوا عبد الكريم ! فقتلوه بدون محاكمة في: 9/2/1963، وجاؤوا بعبد السلام ، دون أن يكون للشيعة نصيب يذكر ، لأن الإنقلاب كان بتخطيط مصري غربي ، بقيادة ضباط قوميين وبعثيين ، ليس فيهم شيعة ما يذكر!
2- مطاليب الشيعة من عبد السلام عارف
تعاملت مرجعية الشيعة مع نظام عبد الكريم وعبد السلام ، كما كانت تتعامل
----------------------- [ 202 ] -----------------------
مع النظام الملكي، بأن تقدم للنظام مطالب إصلاحية ، فإن استجاب لها شكرته، وإن لم يستجب احتجت وقاطعت المسؤولين ولم تقبل زيارتهم . أو كتبت رسالة مفتوحة ، أو ذهب المرجع في زيارة الى بغداد لتتحرك جماهير الشيعة لزيارته، فيكون ذلك عرضاً لقوة المرجعية والشيعة أمام الحكومة. واستعملت المرجعية هذا الأسلوب مع عبد السلام فقدمت له مطاليب في أول مجيئه الى الحكم سنة1963، لكنه لم يستجب لها وأمعن في سياسته الطائفية ، فقام السيد الحكيم رحمه الله بزيارة الى بغداد وسامراء بتاريخ 29/ج1/1383-17/10/1963. (أساطين المرجعية العليا للدكتور الصغير/145) .
وكانت زيارة تاريخية عرض الشيعة بوفودهم قوتهم أمام الحكومة . لكن لم يترتب عليها تجاوب مهم من السلطة ! ثم أكدت المرجعية مطاليبها ، فقدمت جماعة العلماء في بغداد والكاظمية مطالب في 18رمضان 1383- 2/2/1964، الى عبد السلام جاء فيها:
«حضرة المشير الركن عبد السلام محمد عارف رئيس الجمهورية المحترم.. ثم جاء يوم الرابع عشر من تموز ، وظنت الأمة فيه تحقيقاً لأمالها العذاب على أولئك الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربهم سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد .
ولكن سرعان ما بدت الحقيقة مريرة مؤلمة كالحة ، يوم استبد بالحكم طاغية تلاعب بشريعة الله سبحانه ، وأجهز على آخر ما تبقى للإسلام من أحكام في حياة المسلمين ، بتشريع قانون للأحوال الشخصية ، الذي يخالف القرآن الكريم
----------------------- [ 203 ] -----------------------
والسنة النبوية المطهرة ، وفسح المجال لشذاذ الأرض وزمر الضلال ، فمزقت كلمة الأمة وشتت جمعها وبعثرت طاقاتها ، ومرت الأيام عصيبة مروعة ، تحمل في طياتها المجازر الوحشية القاسية ، والإرهاب المدمر الدامي...، والآن وبعد اليوم الثامن من تشرين ، وقد شرعت الحكومة في وضع دستور للبلاد ، فإن الأمة جاءت تطالبكم أن تحققوا آمالها التي بذلت في سبيلها الكثير من جهودها وجهادها...، وذلك بتحقيق المطالب التالية:
1 – إلغاء قانون الأحوال الشخصية ، وإعادة المحاكم الشرعية ، ليتاح للمسلمين مزاولة أحكامهم الشرعية وفق مذاهبهم..
2 – مراعاة شعور الأمة في وضع الدستور والعمل على إخراجه بصورة لا يتنافى مع أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، التي لا يدين المسلمون بغيرها ولا يرتضون بها بديلا ، وتشريع مادة في الدستور تنص على عدم جواز وضع أي قانون يخالف الأحكام الإسلامية ..
3 – إشاعة العدل والمساواة بين أبناء الأمة ، وعدم التمييز بينهم في مختلف المجالات لتمحوا آثار الكافر الغازي ولتضمنوا بذلك وحدة الكلمة وإشاعة الأمن والإستقرار في بلادنا الحبيبة.
4 – مكافحة التفسخ الخلقي الذي عمل المستعمر الكافر على إيجاده وتوسيعه في مناهج الإذاعة والتلفزيون والخمور وأشباهها لتقضوا بذلك على وسائل هدم كيان الأمة الإجتماعي.
5 – تعديل مناهج التعليم ووسائل التربية والتوجيه بشتى أنواعها ، ومختلف
----------------------- [ 204 ] -----------------------
مجالاتها وتوجيهها توجيهاً سليماً لتكون أدوات فعالة لنشر المعارف الحقة في المجتمع ، والحث على التحلي بالخلق الإسلامي الكريم والعمل لإنشاء جيل مسلم صالح في البلاد .
الموقعون: السيد أحمد الموسوي الهندي ، السيد إسماعيل الصدر ، الشيخ جعفر الساعدي ، السيد جعفر شبر ، السيد حسن الحيدري ، السيد حسين العلاق ، السيد صادق السيد جواد الموسوي ، السيد صادق الموسوي الهندي ، السيد عباس الحيدري الشيخ عبد الحسين الخالصي ، السيد عبد المطلب الحيدري ، السيد علي الحيدري ، الشيخ علي الصغير ، السيد محسن الموسوي ، السيد محمد الحيدري ، الشيخ محمد حسن آل ياسين ، الشيخ محمد حيدر ، الشيخ محمد الشيخ صادق الخالصي ، السيد محمد طاهر الموسوي ، السيد محمد علي الأعرجي ، السيد محمد مهدي الحكيم ، السيد مرتضى العسكري ، الشيخ موسى السوداني ، السيد مهدي الصدر ، الشيخ مهدي النمدي الكاظمي، الشيخ نجم الدين العسكري ، السيد هاشم الحيدري ، السيد هادي الحكيم ».
وبعد أن شكل عبد السلام وزارة جديدة ، حاول رئيس وزرائه طاهر يحيى أن يجلب رضا السيد الحكيم رحمه الله فزاره في 5/11/1383- 19/3/1964، وبصحبته عدد من الوزراء هم السيد حسن الدجيلي وزير المواصلات ، والدكتور شامل السامرائي وزير الصحة، والدكتور عبد الصاحب علوان وزير الإصلاح الزراعي، والدكتور عبد الكريم هاني وزير العمل والشؤون الإجتماعية ، والسيد عبد الكريم كمونه وزير الصناعة ، والسيد عبد الفتاح الآلوسي وزير الأشغال والإسكان ، وعدد من المدراء العامين ، والسيد كاظم الرواف متصرف لواء كربلا ، والسيد صلاح الدين النقيب قائمقام قضاء النجف ،
----------------------- [ 205 ] -----------------------
وسمعوا الى حديث السيد الحكيم رحمه الله ومطالبه في:
1 – إلغاء قانون الأحوال الشخصية.
2 – ونقده للسياسة الطائفية وآثارها السيئة ، وخطرها على العراق .
3 – وطلبه مكافحة التفسخ الخلقي ، ومنع الخمور والقمار .
4 – وطلبه معاملة الناس بالعدل والإحسان على إختلاف مذاهبهم وعقائدهم وتحقيق مطاليبهم المشروعة ، والتثبت والتروي في إصدار الأحكام .
5 - تعديل مناهج التعليم ووسائل التربية والتوجيه .
فأبدى الوزراء تجاوبهم مع مطالبه ، ووعدوا بتنفيذها، لكن عبد السلام رفض الإستجابة لها فتوترت علاقته مع المرجعية ، ورفض السيد الحكيم استقباله عند زيارته النجف في عام 1966، قبيل سقوط طائرته وموته .
3- تظاهرة الشيعة في تجديد ضريح أبي الفضل العباس
في سنة 1385هـ 1965م ، اكتملت صناعة ضريح أبي الفضل العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام الذي أمر به السيد الحكيم رحمه الله ، وهو مشبك مصنوع من الفضة والذهب ، مطعم بالميناء والأحجار الكريمة . وقد أرادت المرجعية أن يستقبل الضريح بتظاهرة جماهيرية ، احتراماً لأبي الفضل العباس عليه السلام وإثباتاً لسعة الجماهير الشيعية لعلها تجبر الدولة على إنصافهم !
واستقبلت الضريح في بغداد والمدن العراقية جماهير حاشدة ، وألقيت الخطب والقصائد وأطلقت الهتافات ، لكن الحكومة لم تستجب لمطاليبها !
http://www.holykarbala.net/karbalacity/abbas/shrine-his/index.html
----------------------- [ 206 ] -----------------------
4- السيد المرجع يأمر ابنه بالسكنى في بغداد
أذكر أنه في أوائل الستينات كان يوجد شعور عام في الحوزة وأوساط المرجعية ، بضرورة أن يكون لها وجود فاعل في بغداد .كانوا يرون أن الحوزة قادت العراق في مقاومة الشيوعية ، فيجب أن تكون على مقربة من الأحداث ، خاصة بعد تشكيل جماعة العلماء وإصدار الأضواء ، فقد توجهت الأنظار الى المرجعية ، وصار لازماً أن تواصل حضورها في العاصمة على مقربة من صناعة القرار . وكذلك كان شعور الشخصيات الشيعية البغدادية القريبة من مراكز الحكم .
وكان السيد مهدي الحكيم رحمه الله كبير أبناء المرجع المتصدين للعمل الإجتماعي والسياسي ، يمثل والده المرجع في مفاوضاته مع المسؤولين ، فاقترحوا مجيئه ليكون عالم بغداد وممثل المرجعية فيها .
لذلك أمره والده في سنة 1964بالسكن في بغداد ، وسرعان ما صار نجماً فيها، وصار بيته في الكرادة مقصداً للشخصيات الدينية والسياسية ، ومركزاً للمداولة في الأمور . ونشط في فعاليات متعددة دينية واجتماعية ، وأقام علاقات واسعة مع طبقة السياسيين في بغداد . فكان عبد السلام عارف وبقية المسؤولين يحترمونه ويهابونه ، ويحسبون له ألف حساب !
أذكر أني كنت وكيل السيد الحكيم رحمه الله في الخالص في ديالى ، فكنت أذهب في شهر رمضان ومحرم وبعض المناسبات ، وفي أواخر شهر رمضان أعلنا أنا سنقيم احتفالاً واسعاً بمناسبة شهادة الإمام الصادق عليه السلام في 25شوال الآتي وكان ذلك سنة1965ميلادية .
----------------------- [ 207 ] -----------------------
وحضرتُ من النجف قبل يوم من المناسبة ، فوجدت استعدادات واسعة من المتدينين في المدينة، حيث وشَّحوا الشوارع بالسواد ، وأعلنوا تعطيل السوق يوم الوفاة ، وبادرت بعض المدارس من نفسها فعطلت الدراسة ، وبعض الدوائر ، وكان حفلاً مهيباً ، أثار حفيظة الأمن ومحافظ ديالى ، لكنهم لم يستطيعوا عمل شئ بسبب الجو العام المؤيد لي .
لكن في اليوم الثاني لعودتي الى النجف اعتقلوني وأنا ذاهبٌ للدرس ، فاستاء السيد المرجع رحمه الله وأمر ولده السيد مهدي أن يحتج عليهم ، وكان رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز ، وفي اليوم الثالث أطلقوا سراحي وكانوا نقلوني الى كربلاء ، وقال البزاز للسيد مهدي إن التقرير من ديالى يقول إن هذا الشيخ اللبناني دعا الناس الى مظاهرة ضد النظام !
وقد كذبوا علينا لأن الإحتفال كان دينياً صرفاً ولا ذكر فيه للسياسة ، وقد أخبرني السيد علاء رحمه الله أن البزاز زار السيد بعد ذلك فقال له: حسب أمركم أطلقنا سراح وكيلكم في ديالى ، فقال له السيد: شكراً لكم ، لكن هل حاسبتم الذين كتبوا ضده وكذبوا عليه ؟!
وبعد مدة اتصل بي السيد مهدي الحكيم رحمه الله يقول: إن رجب عبد المجيد وزير الداخلية يريد أن يراك، وسأذهب اليه في الوقت الفلاني فنذهب معاً.
واستقبلنا وزير الداخلية باحترام كبير ، فترك كرسيه وجلس أسفل منا ، وكنت اتفقت مع السيد مهدي رحمه الله أن أتكلم براحتي، لأني لست ابن السيد
----------------------- [ 208 ] -----------------------
المرجع لأداريه ، وكان الوزير مؤدباً حتى وصل الى قضيتي فقال:ماحدث في الخالص مخالف للقانون ، وأنت تعرف القوانين الخاصة بالأجانب ، فكان عليك أن تراعيها! فأجبته: أنت تعرف ارتباط هذا الشعب بأهل بيت نبيه عليهما السلام ، وهذه المناسبة تخص إمام مذهبهم جعفر الصادق عليه السلام ، فكان اللازم على المحافظ أن يراعي حرمة صاحب الذكرى ومشاعر الناس .
وأما قولك إني أجنبي وعليَّ مراعاة القوانين ، فأنا أراعي القوانين ، لكني لا أستطيع أن أشعر أني أجنبي عن تربة امتزجت بدماء أئمتي الطاهرين!
وتراجع الوزير وليَّنَ لهجته فقال: كلنا محبون لأهل البيت ، وأهلاً وسهلاً بك في بلدك ، في النجف وفي ديالى ، وفي أي مكان أردت أن تذهب اليه .
شعرت أن مكانة السيد مهدي رحمه الله كبيرة في بغداد ، فقد احترمني الوزير ، وتراجع رغم تشدده من أجله .
ثم رأيت مشهداً في بغداد والكوت أو واسط ، يكشف عن هيبة السلطة وخوفها من الشيعة وممثلهم السيد مهدي ابن المرجع رحمه الله ، فقد أقام أهل مدينة الكوت أو واسط ، احتفالاً دينياً ودعوا اليه السيد مهدي رحمه الله ، فخافت الحكومة ونشرت قوات الجيش ابتداءً من بيته في الكرادة ببغداد الى الكوت ! وهي مسافة أكثر من مئة كيلو متر ، وقد لاحظت تواجها على طول الطريق الى قرب مكان الإحتفال في مدينة الكوت !
إن هذا المشهد يعني أن السلطة تعرف أن الشيعة يمثلون أكثرية الجمهور
----------------------- [ 209 ] -----------------------
العراقي ، وأنهم يطيعون الإشارة من المرجع ، وأنها تتخوف أن يتحول أي احتفال جماهيري حاشد برعاية المرجعية ، يحضر فيه ابن المرجع ، بإشارة منه الى موجة شعبية غاضبة تهدد نظام الحكم !
* *
5- المرجعية والشيعة في عهد عبد الرحمن عارف
كان عبد الرحمن عارف بسبب ضعفه ، ليِّناً هادئاً ، وقد حكم سنتين وكسراً من13نيسان 1966- 17 تموز 1968، وكان يتودد الى الشيعة والى فئات الشعب المختلفة ، ويعدهم بالإنصاف والعدل والإحسان ، ولكنه لم ينفذ من ذلك إلا قليلاً ، وكأنه التزم بأن يواصل سياسة أخيه عبد السلام !
وقد واصلت المرجعية تقديم مطاليبها له ، وأذكر أنه استجاب لأن يكون للحوزة العلمية برنامج إذاعي وتلفزيوني ، فأمر السيد الحكيم ولده السيد محمد باقر بأن يرتب معهم ذلك . فتداول السيد محمد باقر في الموضوع مع السيد الصدر ، ومع أبي عصام الحاج صاحب دخيل رحمهم الله ، فقرروا أن يجعلوني مسؤول هذه البرامج ، وجاءني أبو عصام وأخبرني بذلك وبالموعد مع وزير الإرشاد الدكتور مالك دوهان الحسن ، واتصل السيد مهدي بالدكتور مالك وأخبره باسمي، فطلب أن تكون الجلسة في بيته في بغداد وليس في الوزارة .
فذهبت الى بيته فرحب وأبدى سروره ، وتحدثنا واتفقنا على الخطوط العامة للبرنامج ، وكان الوضع السياسي مشحوناً، فقد شكى من الطائفيين في مؤسسات الدولة، وقال: صدق آباؤنا ، فهؤلاء لا ينفع معهم إلا القوة ،
----------------------- [ 210 ] -----------------------
بالأمس عطلت جريدة(الشعب أو المنار)لأنها ضربت على الوتر الطائفي! http://www.shenaar.net/index.php?option=com_content&view=article&id=
ولم يكتب لترتيبنا معه أن يأخذ طريقه الى التنفيذ ، فقد أحبطه الطائفيون حسب تعبير الدكتور الحسن ، مع أنه كان وزير الإرشاد !
ثم وافق وزير الإرشاد على بث احتفال المولد النبوي بثاً مباشراً ، وهو مهرجان جماهيري أقامته جماعة العلماء في بغداد ، برعاية المرجع السيد الحكيم رحمه الله في جامع براثا ، في أعقاب هزيمة حزيران بتاريخ 27-6-1967، وكان حفلاً مهيباً ، فيه تحدٍّ واضح للسلطة ، وقد ألقيتُ فيه كلمة الحوزة العلمية في النجف الأشرف ، وقد كتبها السيد الصدر ، وكانت بالأساس باسم المرجع السيد الحكيم رحمه الله لكنه غير رأيه ، فقرروا أن ألقيها كما هي باسم الحوزة . وكان فيها نقدٌ للدول العربية وللحكومة العراقية لأن سياساتهم كانت السبب في هزيمة العرب والمسلمين أمام إسرائيل !
6- واصل عبد الرحمن سياسة أخيه عبد السلام
رغم أن عبد الرحمن كان يريد إرضاء الشيعة والمرجع السيد الحكيم رحمه الله ، فقد جعل في وزارة طاهر يحيى سبعة وزراء شيعة، هم: اللواء الركن ناجي طالب وزير خارجية ، واللواء محسن حسين الحبيب وزير دفاع ، والدكتور عبد الحسن زلزلة وزيرتخطيط ، والدكتور عبد العزيز الحافظ وزير اقتصاد وفؤاد الركابي وزير البلديات، والدكتور عبد الرزاق محيي الدين وزير وحدة وعبد الصاحب علوان ، وزير الإصلاح الزراعي.
http://www.darbabl.net/news-articles/news-articles
----------------------- [ 211 ] -----------------------
لكن عهده لم يختلف عن عهد عبد السلام كثيراً ، فكان الشيعة يُحرمون من الوظائف والخدمات ، ويخص بها السنة ، مع أنهم أقلية !
وواصلت المرجعية الإحتجاج والمطالبة ، برسائلها وبتجمعات جماهيرها في مناسبات ، وقد اهتمت في زمان عبد السلام وعبد الرحمن أن تقيم احتفالاتها الجماهيرية في بغداد ، ومنها الإحتفال الجماهيري في المبعث النبوي الذي ألقى فيه الدكتورالصغير قصيدته المشهورة التي مطلعها:
سيَّرْتُ كوكبةً من الآلاء وسكبتُ فجر البعث والإسراء
ومنها:
ياشعب هاكَ من الرجال نماذجاً
يتلونون تلونَ الحرباء
حتى إذا الأقدار مُثِّل دورُها
وأديفَ صبح حقيقة بمساء
وتبدلت بعض الوجوه كما انزوت
جرباءُ تُخلف بعدُ في جرباء
فأمر عبد الرحمن عارف باعتقاله ومحاكمته في محكمة أمن الدولة ، فتحرك الناس غاضبين مطالبين به ، وطالبت به المرجعية ، فأطلق سراحه .
قال الدكتور الصغير في كتابه: أساطين المرجعية العليا/156: « ومهما يكن من أمر فإن أيام الفريق عبد الرحمن عارف ، والفريق طاهر يحيى ، واللواء الركن ناجي طالب ، والعميد الركن عبد الغني الراوي ، ومعهم الدكتور عبد الرحمن البزاز ، تعتبر من أفضل أيام الحكم في العراق ، إلا أن الكادر الذي رباه عبد السلام عارف وغذاه بالطائفية ، هو الذي أفسد الحكم على حياته السياسية دون ريب ».
----------------------- [ 212 ] -----------------------
وكتب السيد هاني فحص في جريدة السفير:10/4/2003، ما خلاصته:
«على مر الفترة من تأسيس الدولة العراقية الحديثة بإدارة إنكليزية أوائل العشرينيات من القرن الماضي ، الى اليوم ، مروراً بكل العهود العراقية الإنقلابية... ذات اللافتة الوطنية القومية التقدمية ، من دون إمكان وجود أدلة شافية على وطنيتها أو قوميتها أو تقدميتها ! لأنها لم تختلف في أسلوب إدارتها للشأن الإجتماعي والحكومي عن أي عهد سابق ، حتى العهد العثماني ! على مرِّ هذه الفترة بكل تعقيداتها ، كانت هناك مشكلة هي النجف التي اتكأت على دورها المميز في ثورة العشرين ، وإن كانت قد عوقبت عليه من قبل الإنكليز ومن خلفهم من الحكام العرب أو الوطنيين من خلال تهميش عمقها الشعبي الشيعي ، وتكبيله بكم هائل من القيود التي تمنع مشاركته في القرار ، أو في نظام المصالح الوطنية .
وباتكائها على هذا التراث ، تحولت النجف الى رقيب فعلي على أداء السلطة، فتصدرت أو احتكرت التصدي للإنحراف الذي نتج عن استئثار الشيوعيين بالعراق ، من دون عناية أو احترام لمكوناته وأنظمة قيمه ، مرة بالتفاهم مع عبد الكريم قاسم، ومرة بالخلاف معه ومحاولة الإستقواء عليه وإضعافه ، ووقفت النجف بقوة ، وبقيادة مرجعها السيد محسن الحكيم ، في وجه قانون هجين للأحوال الشخصية مس بالكثير من المسلمات الشرعية ، ثم أعلنت موقفها أو فتواها التي أصدرها السيد الحكيم بموافقة بقية المراجع بتحريم الشيوعية ، ما كان مقدمة للإنقلاب البعثي العارفي المشترك على الحكم القاسمي.
----------------------- [ 213 ] -----------------------
وتصدت النجف لاقترافات العهد العارفي ، خاصة في ما يعود الى الحرب ضد الأكراد ، والفساد المالي والإداري وبطء حركة الإنماء وتعثرها ، وعدم عنايتها بالتوازن بين المناطق والمحافظات .
وبعد وفاة عبد السلام في حادث الطائرة المعروف في منطقة البصرة ، هدأت النجف مع عبد الرحمن عارف ، ولكنها لم تكفَّ عن نقدها الشديد لرئيس وزرائه المتسلط طاهر يحيى التكريتي ، الى أن حدث الإنقلاب البعثي الذي تعاملت معه بريبة شديدة ».
7- فجيعة النجف بهزيمة الأمة على يد إسرائيل
كانت نكسة حزيران سنة 1967، أو حرب الأيام الستة ، من أشد الهزائم وقعاً في نفوس الأمة الإسلامية ، من أقصاها الى أقصاها .
وقد حاولت المرجعية أن تقوم بدور في استنهاض الحكومات والشعوب الإسلامية للرد على النكسة ، فأرسل السيد الحكيم رحمه الله وفوداً من علماء الشيعة والسنة وشخصياتهم الى عدد من الأقطار العربية والإسلامية لاستنهاضهم ، وأصدر فتوى في تأييد المقاومة الفلسطينية وحث المسلمين على التبرع لدعمها .
ودعت النجف قيادة المقاومة الفلسطينية وكانت حركة فتح ، واحتفت بها في 1/1/1968، احتفاءً لم يسبق له مثيل ، وكتبت على مدخل النجف: مدينة فاتح خيبر تحيي أبطال فتح!
فأثار ذلك حنق السلطة وأمعنت في تهجير العلماء والمجتهدين والطلاب من النجف لمجرد أنهم إيرانيون ، طمعاً بإفراغ الحوزة من طلبتها ، ووجهت
----------------------- [ 214 ] -----------------------
عملاءها الى الحوزة ، كطلبة يعتمرون العمة غطاءً لأدوارهم الأمنية! كل ذلك حتى لاتستعيد النجف دورها الطليعي الطبيعي في قضايا الأمة! (راجع: ما كتبه السيد هاني فحص في جريدة السفير:10/4/2003).
8- تنافست ثلاث دول لاستضافة السيد المرجع !
قرر المرجع السيد الحكيم رحمه الله السفر الى حج بيت الله الحرام في سنة 1968، فوجهت له المملكة السعودية الدعوة ليكون في ضيافتها ، وخصصت له طائرة ، ودعاه شاه إيران وخصص له طائرة ، وكذلك فعل طاهر يحيى رئيس وزراء عبد الرحمن عارف .
وكان رأي بعض المشاورين أن يقبل السيد دعوة شاه إيران ، وبعضهم أن يقبل دعوة طاهر يحيى .
وكان رأي بعضهم ومنهم السيد الصدر رحمه الله أن يقبل دعوة السعودية ، وقال: هذه أول مرة ينفتح فيها الوهابية على مرجعية الشيعة . وكان رأيهم أن ينزل في رجوعه في بغداد ، وتتوافد اليه الوفود ويرسل مذكرة مطالب الى عبد الرحمن عارف .
وأخيراً حج السيد المرجع رحمه الله بطائرة الحكومة العراقية ، وكان في الحج بضيافة مطوف إيراني «شربت أوغلي» .
ولما عاد كان رئيس الوزراء طاهر يحيى في استقباله ، ورجَّح السيد أن يذهب مباشرة الى النجف ، ولا ينزل في بغداد ويقدم مطالب لحكومتها ، فتنفست الحكومة الصعداء ، ولكن البعثيين كانوا يعدون عدتهم للإطاحة بعبد الرحمن
----------------------- [ 215 ] -----------------------
عارف بيد أقرب الناس اليه ، وقاموا بانقلابهم في 17 تموز 1968، بواسطة عبد الرزاق النايف مدير الإستخبارات العسكرية ، وعبد الرحمن الداوود آمر قوات الحرس الجمهوري ، وسعدون غيدان آمر كتيبة الدبابات في الحرس الجمهوري ، وبتخطيط ودعم من الولايات المتحدة وبريطانيا كما اعترف عبد الرزاق النايف ، بعد أن اطاح به البعثيون في30 تموز 1968 ، ونفوه إلى لندن ، ثم لم يسكت ، فاغتالوه !
فقد صرح بأن الأمريكان فرضوا عليه التعاون مع البعثيين ، وأن الدكتور ناصر الحاني الذي عينوه وزيراً للخارجية ، كان عرَّاب الإنقلاب بين النايف والداوود والبعثيين ، والولايات المتحدة .
ولم يدم حكم النايف سوى 13 يوماً حتى غدر به شركاؤه البعثيون !
5512http://telskuf.com/articles.asp?article_id=
* *
9- وحدة البعثيين المَلْيُوصَة !
من الأمثلة الشعبية في النجف: مَلْيُوصَة يا حسين الصافي !
ويضرب مثلاً للشئ الذي يراد تلئيمه وهو خراب لا يلتئم ! وقصته أن الناس كانوا يتابعون أخبار مباحثات البعث السوري والعراقي مع عبد الناصر في القاهرة ، ويتنبؤون بأن البعثيين غير صادقين في وحدتهم معه !
وعندما وقعوا على ميثاق الوحدة يوم (13/4/1963)، أقام البعثيون احتفالاً في ميدان النجف (17/4/1963) بمناسبة إعلان الوحدة ، وملؤوا الميدان بالكراسي وجمعوا من استطاعوا من الناس .
----------------------- [ 216 ] -----------------------
وجاء حسين الصافي بجمهور من الديوانية ، وحضره طاهر يحيى ، وحردان التكريتي ، والوزير حميد خلخال عضو القيادة القطرية ، وحسن العامري رئيس المنظمة الوطنية للعمل الشعبي ، وآخرون .
وبدأ الإحتفال ، فوقعت بعض الكراسي وكانت من حديد فأحدثت صوتاً فخاف القريبون منها فقاموا ، واضطرب المجلس فزادت قعقعات الكراسي ، وفرَّ الناس والمسؤولون !
فسأل حسين الصافي مدهوشاً: ماذا حدث ؟!
فقال له أحدهم: ما أدري، لكن مليوصة يا حسين الصافي ! فذهبت مثلاً.
وكنتُ يومها في الصحن الشريف فرأيت الناس يأتون مذعورين ، ورأيت بعد قليل عمالاً جاؤوا بأحمال من أحذية الناس الفارين ، ووضعوها عند باب الصحن ليأخذها أصحابها، فضحكنا من شجاعة البعثيين وجمهورهم! 3025http://www.theiraqweekly.com/inp/view.asp?ID=
وهكذا كان موقف البعثيين الحقيقي من الوحدة العربية: رفع شعارها والمتاجرة فيها ، والعمل بأسلوب شيطاني لتخريبها !
جاء في دراسة بعنوان: «حزب البعث ، نشأته وتطوره» للدكتور أحمد الموصلي: http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia
أن عبد الناصر اشترط فيما اشترط للوحدة مع سوريا ، أن يتوقف النشاط الحزبي ويوقف حزب البعث عمله: «ووصل الخلاف ذروته عام 1959، عندما كان عبد الناصر في زيارة لدمشق ، وقد أُعد له مهرجان خطابي كبيررسمي
----------------------- [ 217 ] -----------------------
وشعبي في سينما الزهراء ، حضره كبار رجال الدولة ، وجمهور كبير من المواطنين ، وألقى عبد الناصر خطاباً مهماً تهجَّم فيه على موقف حزب البعث ، وعلى تآمر قيادته على الوحدة .
وقد نال هذا الهجوم استحسان جميع الحضور ، وقوطع خطاب عبد الناصربعاصفة من التصفيق الحاد ، أكثر من مرة !
وكان ثاني هجوم يشنه عبدالناصر على البعثيين يوم23 ديسمبر 1959في بور سعيد ، أثناء إلقاء خطابه بمناسبة عيد النصر، حيث ندد فيه بالحزبية والنشاط الحزبي ، وقال: أي شخص يعمل في الحزبية خارج الاتحاد القومي ، إنما يعمل من أجل دولة أجنبية ، أو يكون عميلاً لدولة أجنبية .
وفي اليوم التالي قدم الوزراء البعثيون استقالاتهم من الحكومة ، وأعلن صلاح البيطار التصريح التالي: إن التعاون مع جمال عبدالناصر قد أصبح في حكم الخيانة ، بعد أن ثبتت خيانته لمبادئ الوحدة العربية .
وبعد انفصال 28 سبتمبر1961، أصدر ميشيل عفلق بياناً من بيروت ، يوم 4 أكتوبر يؤيد فيه الإنفصال ، وأطلق حزب البعث على واقعة الإنفصال إسم الإنتفاضة . وأقيم مؤتمر سياسي كبير في دمشق شاركت فيه كل الأحزاب السياسية ومن بينها حزب البعث ، لتأييد الانتفاضة السورية . ومثَّل الحزب في هذا المؤتمر صلاح البيطار» !
----------------------- [ 218 ] -----------------------
وجاء في الدراسة: «وعُقدت في القاهرة ، خلال شهر مارس1963، عدة اجتماعات تمهيدية لإعلان الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق . وكان الوفد العراقي برئاسة علي صالح السعدي ، ويشغل منصب نائب رئيس الوزراء ، وأحد قيادات البعث العراقي. وكان الوفد السوري برئاسة ميشيل عفلق . وكان الهدف الرئيسي من تلك الإجتماعات هو رغبة البعث العراقي والسوري في إحراج عبد الناصرعن طريق إصرارهما على التمسك بالوحدة الكونفدرالية ، وبالقيادة الجماعية للجمهورية العربية المتحدة ، باعتبار أنه سوف يرفض هذا الطلب ، وأنه لن يتخلى عن موقع القيادة الذي ينفرد به !
ولكن عبد الناصرفاجأهم بقبول مبدأ القيادة الجماعية، وألا تكون الوحدة اندماجية!وتم توقيع اتفاق الوحدة الثلاثية في 17 أبريل عام 1963 بالقاهرة.
وفي اليوم التالي لإعلان الوحدة وقعت اضطرابات دموية شرسة في دمشق بين الناصريين من جانب ، والبعثيين من جانب آخر، ذهب ضحيتها 170 قتيلاً، وتمكن الضباط البعثيون بقيادة اللواء أمين الحافظ ، من السيطرة على الموقف والقضاء على الفئات الناصرية ومحاكمتهم عسكرياً وإعدامهم! وهكذا فشلت تلك الوحدة فور إعلانها !
وخلال تلك الفترة تحول مشروع الوحدة الثلاثية إلى حرب إعلامية بين الدول الثلاث، بين مصر وسورية، وبين سورية والعراق بقيادة عبد السلام عارف . وتراشق الجانبان الإتهامات والإنتقادات اللاذعة !
----------------------- [ 219 ] -----------------------
ففي إحدى خطب عبد الناصرخلال شهر أبريل عام1963 قال عن البعث: «إن الديمقراطية التي يتحدث عنها حزب البعث هي طبعاً ديمقراطية البعث في أن يقتل الناس ويضعهم في السجون ، وفي أن يتآمر الحزب ! لأن البعثيين أناس متآمرون وحكمهم مبنى على الإرهاب والدماء والقتل! الواحد يستغرب لما يشوف البلد كلها ضدهم ، طبعا همّ جماعة كدابين ، ما هي الأهداف اللي قاعدين من أجلها ، بيقولوا وحدة واشتراكية وحرية ، وهم غدروا بالوحدة ، وغدروا بالحرية ! الحرية بقيت سجون ومعتقلات ، والإشتراكية اللي بيتكلموا عليها اشتراكية مزيفة ، إحنا دفعنا لحزب البعث أموال ، أموال كثيرة ، سبعين ألف جنيه وأربعين ألف جنيه في فترات متقاربة ، والمبلغ استلمه ميشيل عفلق ، واليوم يتحالف حزب البعث مع الإستعمار ومع أعوان الإستعمار!
إسمعوا جميع محطات الإستعمار، واقرؤوا جميع صحف الإستعمار، والصحف العميلة وشوفوا بتقول إيه على حزب البعث ، بيصفقوا لحزب البعث ، وسعداء جداً بحزب البعث ، دي الريحة اللي إحنا شفناها النهارده واللي تدعو إلى الشبهة ! راديو لندن يدافع عن حزب البعث ، الجرايد الناطقة باسم الإستعمار ، باللغة العربية وباللغات الأجنبية ، بتدافع عن حزب البعث . إذن هل يستطيع البعث أن يسأل نفسه بعد هذا هل هو ماشى في الطريق الصحيح؟ لقد أصبح حزب البعث يعتمد على العناصر التي تعاونت مع الإستعمار ليضع البلاد داخل مناطق النفوذ الإستعمارية .
----------------------- [ 220 ] -----------------------
حينما يكون حزب البعث خارج الحكم فهي الحرية البرلمانية ، أما إذا كان في الحكم ، فإن الحرية هي حرية الحزب الواحد ، وهو حزب البعث »!
وأضاف عبد الناصر في مناسبة أخرى: «شعار الحرية لحزب البعث أن تكون المغانم للبعثيين ، وتكون الفرص للبعثيين ، وتكون المساواة للبعثيين أما باقي الشعب فيحرم من المساواة ، ويحرم من حقه في الحياة ، ويحرم من حقه في العيش ، ويحرم من حقه في العمل .
هذا هو شعار الحرية بالنسبة لهؤلاء الساسة ، الذين احترفوا سرقة الشعارات ، واحترفوا سرقة المبادئ ، والذين آمنوا أن سبيلهم إلى تحقيق أهدافهم وتسلطهم ، هو السبيل اللا أخلاقي ، الذين يسيرون في طريق الإستعمار ، ليحققوا أهداف الإستعمار !
إذن حزب البعث اللي طول عمره كذاب ، لما يطلع بيان من القيادة القومية بيكون هذا البيان كذاب . حزب البعثيين يتبع سياسة انتهازية ، ويحاول يلعب بقضايا المصير ولكن الشعب العربي كشفهم ، والشعب العربي عارف أساليبهم ، وعارف أساليب الغدر والطعن في الظهر ، وعارف حقدهم »!
وفي المقابل وجه ميشيل عفلق اتهامات لعبدالناصر، منها:
«إن السياسة التي اتبعتها البيروقراطية الإقليمية العقائدية التي تحكم القاهرة ، كانت مع الأسف الشديد نسخة من السياسة التي كانت في القاهرة قبل عام1952، أي سياسة إقليمية توسعية قصيرة النظر، تعمل لإضعاف الأقطار
----------------------- [ 221 ] -----------------------
العربية لتبقى هي المتفوقة والمسيطرة ، فلا تقوم ثورة إلا إذا عملت لهذه الأجهزة ! كما رددت إذاعة وصحف دمشق اتهامات حزب البعث لعبد الناصر، التي تصفه بالديكتاتور العربي ، وبأنه يحاول إقامة إمبراطورية عربية ناصرية تحقيقاً لمجده الشخصي ، وأنه يريد وحدة عربية تحت زعامته وسيطرته »!
وهكذا شهد أطراف الوحدة بقول النجفيين: مَلْيُوصَهْ يا حْسِين الصافي!
* *
----------------------- [ 222 ] -----------------------
الفصل التاسع: قصة إبعاد الشيعة عن الحكم في العراق !
1- مشكلة الشيعة أنهم أهل قِـيَـم ووفـاء !
كان الشيعة في العراق تحت الحكم العثماني ، وعند الغزو الإنكليزي في مطلع القرن أفتى مراجعهم بالجهاد ومساندة جيش الخلافة العثمانية ، رغم ظلمها التاريخي لهم ، فسجلوا بذلك أروع وأنبل موقف لشعوب المنطقة!
فالمسلمون السنة في الحجاز مثلاً ، كانوا ينعمون بتمييز الدولة العثمانية لهم على الشيعة ، ومع ذلك خانوا دولة الخلافة وقاتلوها مع الإنكليز الغزاة ، وأمدهم الإنكليز بالمال والسلاح ، وعرفوا باسم الحركة الوهابية .
وقد كافأهم الإنكليز بعد انتصارهم على الخلافة العثمانية ، وأعطوهم حكم بلاد نجد والحرمين ، وسموها المملكة السعودية .
والسنة العرب في العراق كانوا أقلية حاكمة في دولة الخلافة العثمانية ، لكنهم داهنوا الإنكليز وتعاونوا معهم وخانوا دولة الخلافة ، فسلطهم الإنكليز على العراق ، وشكلوا منهم الحكومات ، واختاروا منهم كبار الموظفين ، واعتبروهم حلفاءهم ! وما زال الإنكليز يعتبرونهم حلفاءهم الى يومنا هذا ، فبعد سقوط صدام واحتلال الأمريكان والإنكليز للعراق ، كان السفير البريطاني في بغداد يطالب بامتيازات للسنة على حساب غيرهم فقال له أحد الشيعة: هل أنت تفاوض عن السنة العرب ؟ قال: نعم ، إنهم حلفاؤنا !
----------------------- [ 223 ] -----------------------
إن التاريخ القريب والحاضر يشهد بأن الشيعة جاهدوا وقدموا الشهداء ، فاستبعدوا ، وأن السنة داهنوا وتعاونوا ، فسلطهم الإنكليز على العراق !
2- ثورة العشرين: سبعٌ عجاف على الشيعة سمانٌ على السنة !
في أواخر سنة 1914م.1332هـ ، غزا الإنكليز العراق واحتلوا الفاو ، واستمر غزوهم ومعاركهم مع الشيعة ، ومكائدهم السياسية ، الى أواسط سنة1921، حيث نصبوا فيصل بن الشريف حسين ملكاً على العراق .
وفي هذه السنوات السبع كانت النجف وكربلاء خلية نحل، تتواصل فيها المداولات بين المرجع الميرزا محمد تقي الشيرازي رحمه الله والشخصيات ، خاصة رؤساء العشائر ، الممتدة من الفاو الى النجف وبغداد وديالى .
فلما وصل خبر احتلال الفاو ، شكل المرجع مجلساً استشارياً من علماء كربلاء ، ووجه الدعوة الى علماء النجف ورؤساء العشائر الشيعية ، واتخذوا قرار الجهاد والوقوف الى جانب جيش الخلافة العثمانية ، وتحركت أول مجموعة مجاهدين بقيادة السيد محمد سعيد الحبوبي رحمه الله نحو الجنوب ، وكان المجاهدون من العشائر يلتحقون بهم في الطريق ، فبلغوا ألوفاً .
واستعدت الخلافة العثمانية لمقاومة الإنكليز، وكان مجموع جنودها بضعة عشر ألفاً بقيادة الجنرال نور الدين زنكي ، وكان يحضر بعض اجتماعات العلماء في كربلاء والنجف والكاظمية ، فيحثونه على الجهاد والدفاع عن بلاد المسلمين ،
----------------------- [ 224 ] -----------------------
وأهدى اليه السيد إسماعيل الصدر جد أستاذنا السيد محمد باقر الصدرسيفاً من الحضرة الحسينية مرصعاً بالذهب:
http://www.burathanews.com/news_article_html76743
http://www.holykarbala.net/books/tarikh/turath-karbala/
وبدأت معارك ثورة العشرين مع الإنكليز ، وكان فيها بطولات وتضحيات غير عادية من الشيعة ، لكنها كانت غير متكافئة! فقد كان الجيش الإنكليزي بضعة عشر ألفاً ، مجهزاً بأسلحة حديثة لايملكها المقاومون ولا الجيش العثماني ، واستعمل الإنكليز الطيران لضرب معسكرات الأتراك وتجمعات المقاومين، والسفن الصغيرة في النهرين .
ورغم أن جيش الخلافة قاتل في بعض المعارك كحصار الكوت ، لكنه بشكل عام كان سريع الإنهيار حتى أن بعض جنرالاته انتحر ، وساعد على هزيمته أن شخصيات السنة وعلماءهم كانوا متعاونين مع الإنكليز !
ومع أن الإنكليز تكبدوا خسائر كبيرة ، وأخذ المجاهدون منهم أسرى ، لكنهم انتصروا بوضوح على الجيش التركي واعتقلوا جنرالاته ، وانتصروا على كتائب المجاهدين الشيعة ، واعتقلوا قادتهم من علماء وشيوخ عشائر . وطوقت قوات الإنكليز مدن الشيعة خاصة الحلة والنجف وكربلاء . وأرسل الميجر بولي قائد الفرقة الإنكليزية التي طوقت الحلة وكربلاء ، رسالة الى المرجع الميرزا الشيرازي جاء فيها:
«حضرة العلامة المجتهد الاكبر آية الله الميرزا محمد تقي الدين الشيرازي دام علاه . بعد تقديم مراسيم التحية والسلام.
----------------------- [ 225 ] -----------------------
نعرض لحضرتكم أن قسماً من قواتنا قد وردت إلى هذه الأنحاء لأجل حفظ الأمن وإلقاء القبض على عدد من الأشرار الذين يقصدون الإفساد ونهب الأموال وإلقاء الرعب في قلوب الأهلين ! وإن قواتنا هذه لم تتعرض للصلحاء الأبرار ، فنرجو أن تطلعوا على هذه المسألة لكي يرتفع الرعب والإضطراب عنكم . وفي الختام نقدم لحضرتكم فائق الإحترام ».
حاكم الحلة - الميجر بولي -22 حزيران 1920
فأرسل المرجع الى الميجر يطلب حضوره ، فأبى الميجر ، فأرسل اليه:
«إلى الحاكم السياسي للحلة الميجر بولي هداه الله.
قرأنا كتابكم وتعجبنا غاية العجب من مضمونه ، حيث أن جلب العساكر لمقابلة الأشخاص المطالبين بحقوقهم المشروعة الضرورية لحياتهم من الأمور غير المعقولة ، ولا تطابق أصول العدل والمنطق بوجه من الوجوه.. وإذا امتنعتم عن المجئ في هذه المرة أيضاً فستصبح وصيتي للأمة بخصوص مراعاة السلم ملغاة في ذاتها ، وأترك الأمة وشأنها ! وبهذه الصورة تقع مسؤولية نتائج السوء عليك وعلى أصحابك .
وفي الختام لي الأمل أن تؤثر فيك هذه النصيحة ، كي لا يقع ما يفسد النظام والامن ولكي لا تكونوا سبباً لاراقة دماء الابرياء .
محمد تقي الشيرازي - كربلاء 5 شوال 1338
فقدم الميجر بولي قائمة أسماء إلى الإمام الشيرازي لتسليمهم إليه مقابل رفع الحصار عن كربلاء ، وتضمنت أسماء كل من الشيخ محمد رضا نجل زعيم
----------------------- [ 226 ] -----------------------
الثورة الإمام الشيرازي ، والشيخ عبد الكريم العواد ، ومحمد شاه الملقب بالهندي ، وأحمد القنبر ، والشيخ هادي كمونة ، والشيخ كاظم أبوذان ، والسيد محمد علي الطباطبائي ، والشيخ عمر ، والحاج علوان وابراهيم أبي والده ، وعبد المهدي القنبر ، والسيد أحمد البير ، وعثمان العلوان ، والسيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني ، وأبو المحاسن .
ولما رأى المرجع ضعف المقاومة وعدم جدواها ، اضطر أن يأمر المطلوبين بتسليم أنفسهم ، فاعتقلوهم ونقلوهم الى البصرة ، ونفوهم الى جزيرة هنجام بالهند . http://www.annabaa.org/nba51/eshreen.htm
أما النجف فكان الأمر فيها أصعب ، حيث اشتد صراعهم مع الإنكليز بقتلهم الحاكم الإنكليزي ، الكابتن مارشال في 19/3/1918.
فحاصرالإنكليز المدينة وقصفوها بالمدفعية وطالبوا بتسليم القاتلين ، ودفع مبلغ باهظ ! 83662http://www.burathanews.com/news_article_htm
وفي 7 ذي القعدة سنة 1338- 23/7/1920، كانت معركة الرارنجية جنوب الحلة بين المجاهدين وفرقة من الجيش البريطاني تبلغ1500جندياً ، فحقق المجاهدون نصراً مبيناً ، وقتلوا أكثر من ألف جندي، وغنموا اثنين وسبعين رشاشاً من نوعي(فيكرس ولويس) ومدفع عيار17 بوند ، وأرزاقاً ، وأسروا 160 أسيراً منهم 79 بريطانياً، والباقون من الجنود الهنود. وكانت خسائر المجاهدين 158 جريحاً ، و84 شهيداً .
----------------------- [ 227 ] -----------------------
ثم أخذوا ذلك المدفع إلى الكوفة وضربوا به باخرة فايرفلاي ، التي كانت تحاصر الكوفة وأصابوها وأغرقوها . وجاؤوا بالأسرى الى النجف فكتب المرجع شيخ الشريعة رحمه الله إلى مسؤولهم:
« بسم الله الرحمن الرحيم . سلام عليك وثناء على إخلاصك وبعد ، فغير خفي على نباهتك أن للأسرى في الشريعة الإسلامية مكانة عالية ، فالعناية بهم فرض ، والتوجه إلى إكرامهم حتم، وإني أوصيك أطال الله حياتك بتعهدهم ، وتفقد أحوال صحتهم ما داموا وديعة مقدسة وأمانة محترمة.. وإني قوي الأمل بأنك تنشط إلى هذا التكليف لأنه شرعي مدني إنساني ، فواظب على الإنفاق عليهم حتى يتعين لنفقاتهم مورد خاص، فقد اعتمدت وأوكلت ذلك إلى عهدتك وألزمتك به ولاعذر لك ودم مؤيداً».
شيخ الشريعة الأصبهاني
وينبغي الإشارة هنا الى أن شيعة العراق ، كما ضربوا مثلاً في تجاوز المذهبية ، فوقفوا الى جانب جيش الخلافة العثمانية ضد الإنكليز .كذلك ضربوا مثلاً في تجاوز القومية ، فاتبعوا مرجعاً من أصل إيراني هو الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي رحمه الله .
وبعد وفاته اتبعوا مرجعاً آخر من أصل إيراني أيضاً ، هو الشيخ فتح الله شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه الله .
----------------------- [ 228 ] -----------------------
وفي ذلك دلالة على إخلاص رؤساء العشائر والزعماء والعلماء الشيعة ، لأن التقليد في مذهبنا يجب أن يكون للأفقه الأخبر بالشريعة ، ولا يشترط أن يكون عربياً .
وقد تكررت هذه الحالة في عصرنا ، فأطاع شيعة العراق المرجع السيد علي الحسيني السيستاني ، وهومن أصل إيراني ، وإن كان يختلف عن الميرزا الشيرازي وشيخ الشريعة ، بأنه هاشمي النسب ، عربي الأصل .
كما ينبغي ملاحظة أن وفاة الميرزا الشيرازي رحمه الله كانت بدس السم له من قبل الإنكليز ! وقد نص على ذلك الذين عاصروه ، وأن المرجع الذي جاء بعده لم يعش إلا شهوراً أيضاً ! فقد «توفي الميرزا الشيرازي رحمه الله ، مسموماً في 3 ذي الحجة 1338-17/8/1920 ودفن بالصحن الحسيني في كربلاء المقدسة» .
http://www.al-shia.org/html/ara/others/?mod=monasebat رحمه الله id=319
وتوفي شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه الله في 8 ربيع الثاني1339-18/12/1920.
80http://al-shia.org/html/ara/others/?mod=monasebat رحمه الله id=
وكان سبب عمل الإنكليز الحثيث على سم المرجعين في فترة قصيرة ، موقفهما الرافض لنصب ملك على العراق قبل انسحاب الإنكليز ، وتحقيق الإستقلال وانتخاب مجلس يقرر مستقبل البلد .
http://burathanews.org/news_article_22956
وقد ظهر شيخ الشريعة الأصفهاني الى جانب الميرزا الشيرازي في أحداث ثورة العشرين ، وعيَّنا معاً أعضاء للمفاوضة مع الإنكليز ، ووقعا مع رؤساء العشائر على وثيقة تضمنت أسماء المندوبين، بتاريخ:18 رمضان 1338- 6 حزيران1920 ، جاء فيها: «وقد خولناهم أن يدافعوا عن حقوق الأمة ويجمعوا في طلب الإستقلال
----------------------- [ 229 ] -----------------------
للبلاد العراقية بحدودها الطبيعية العاري من كل تدخل أجنبي ، في ظل دولة عربية وطنية يرأسها ملك عربي مسلم مقيد بمجلس تشريعي وطني».
كما أرسلا معاً رسالة مشتركة الى الرئيس الأمريكي ولسن ، يطلبان مساندته لتحقيق رغبة العراقيين جميعاً بإقامة دولة عربية مستقلة إسلامية ، لها ملك مسلم ، يقيد بمجلس وطني .
وبعد موت الميزرا الشيرازي وشيخ الشريعة رحمهما الله ، تابع المرجعان بعدهما الشيخ محمد حسين النائيني، والسيد أبو الحسن الأصفهاني رحمهما الله ، نفس الخط ، فلم يوافقا على ترشيح فيصل أو غيره ، ما لم يُضمن إستقلال العراق ، وينهى الإنتداب البريطاني له .
بينما وافق الشيخ مهدي الخالصي رحمه الله على ترشيحه إذا قبل أن يكون مستقلاً عن الأجنبي، مقيداً بدستور ومجلس نيابي . فوافق فيصل على هذا الشرط وأقسم عليه ، فبايعه الخالصي . ثم سحب بيعته عندما تبين له عدم التزام فيصل بالشرط .
http://burathanews.org/news_article_2295.html
19116http://www.odabasham.net/show.php?sid=
«وحدث الإنقسام بين قادة الثورة ، وكان شيخ الشريعة زعيماً للخط الذي رفض الفكرة وأصدر بيانه الشهير: لا مفاوضة قبل الجلاء ! وأنه سيستخدم المگوار (عصا عشائرية خاصة) إذا أعوزهم السلاح !
قال الزركلي في الأعلام:«برز إسمه في ثورة العراق أيام الإحتلال البريطاني سنة1920، وتناقل الناس ما أصدره من الفتاوى فيها ، وكان في بدئها عوناً لآية
----------------------- [ 230 ] -----------------------
الله محمد تقي الشيرازي، وسنة 1338، انتقلت إليه الزعامة وانتقل مركز القيادة من كربلاء إلى النجف ».
وقد استمر الجهاد حتى دخل الجيش البريطاني النجف وسيطر عليها ، فتفرق الناس ، ولبث الشيخ في بيته ، ونصبوا عليه العيون والمراصد على الداخل والخارج من بيته ، حتى خادمه وبعض حفدته ! فأصيب الشيخ بمرض عضال في صدره ، فكان طريح الفراش، واشتدت عليه الآلام إلى أن اختار الله تعالى له الدار الآخرة ، فتوفي في النجف الأشرف ليلة الأحد الثامن من شهر ربيع الثاني سنة 1339» .
.2http://www.shiaweb.org/books/al-bukhari/pa.html
* *
3- كيف سَلَّمَ الإنكليز حكم العراق للأقلية السنية !
كانت النتيجة أن الإنكليز عاقبوا الشيعة على مقاومتهم لهم ، وسلموا حكم العراق الى السنة ، لتعاونهم معهم! ففي 25/10/1920، وجه المندوب السامي في العراق كوكس ، رسالة الى عبد الرحمن النقيب ، بتعيينه رئيساً للحكومة ، جاء فيه:
« يا صاحب السمو: عملاً برغبة حكومة صاحب الجلالة في إقامة حكومة وطنية في العراق ، ولضمان مشاركة أهل البلاد في هذه الآونة في تسيير الإدارة . وبمقتضى صلاحياتي مندوب سام ، وجدت من الضروري والمناسب إقامة مجلس لتدوير شؤون الإدارة تحت إشرافي وذلك الى أن يتم جمع مجلس تأسيسي
----------------------- [ 231 ] -----------------------
يقرر الشكل النهائي للحكومة في المستقبل...وقد تسلمت بارتياح عظيم إشعاركم بقبول المنصب نفسه، فأتشرف بإحاطتكم علماً أن قائمة بأسماء المقترحين لإشغال مقاعد مجلس الدولة ، وأن نهج الأعمال التي ستخصص اليهم قد نالا موافقتي التامة.وعليه أرجو سموكم أن تتخذوا الخطوات اللازمة لتنفيذ مقترحاتكم بأسرع ما يمكن ».
المندوب السامي بي . ز. كوكس .
« أما أعضاء الحكومة التي انتخبها النقيب، فقد خلت من أي وزير شيعي ، وكان هذا الأمر منسجماً مع التوجه البريطاني! فقد كانت المناطق الشيعية والزعماء الدينيين وشيوخ العشائر يخوضون المعارك الضارية ضد الإحتلال البريطاني إضافة الى أنهم يطالبون بالإستقلال التام عن بريطانيا! وكان الوزراء كالتالي: عبد الرحمن الكيلاني النقيب:رئيساً لمجلس الوزراء سني . طالب النقيب:وزير الداخلية ، سني . حسن الباجه جي: وزير العدل ، سني . جعفر العسكري: وزير الدفاع الوطني ، سني . عزت باشا الكركوكي: وزير الصحة والمعارف ، سني . ساسون حسقيل: وزير المالية ، يهودي . مصطفى الآلوسي: وزير الأوقاف ، سني . عبد اللطيف المنديل: وزير التجارة ، سني . محمد علي فاضل:وزير النافعة ، سني .
وفي 22 شياط 1921، ومن أجل التستر على الفضيحة ، أوعز كوكس الى النقيب بإضافة وزير شيعي الى الوزارة كما يقول الحسني في تاريخ الوزارات العراقية ، وكان الوزير المرشح هو السيد محمد مهدي !
----------------------- [ 232 ] -----------------------
وتجب الإشارة لاستكمال صورة السياق التاريخي للحدث ، أن تشكيل الوزارة النقيبية الأولى ، تم في وقت كانت فيه أحداث الثورة مستمرة ضد الإحتلال البريطاني ! ففي27تشرين الثاني ، أي بعد شهر من تشكيل حكومة النقيب دخل اللواء 55 البريطاني الى النجف قبل الظهر ، وأقفل أبوابها وحاصر أهلها ، ودام الحصار 24 يوماً ، وتسبب الحصار في انتشار المجاعة وتفشي الأمراض ، وقامت السلطة بهدم دور الثوار السيد نور الياسري ، وعبد الواحد الحاج سكر ، وعبادي الحسين ، ومرزوق العواد .
وكان الثوار في السماوة يخوضون المعارك الضارية ضد قوات الإحتلال البريطاني ، وهي المعارك المعروفة بمعركة السُّوَيْر الأولى ومعركة السوير الثانية ، التي تكبدت فيهما القوات البريطانية الخسائر الفادحة ، ولم يتم توقيع الهدنة بين الطرفين إلا في27/10/1920، بعد شهر تقريباً من تشكيل حكومة النقيب!
أما المنتفك فلم تهدأ الثورة فيه إلا في 24تشرين الثاني 1920.
وأما جبهة أبو صخير ، فقد استمرت بالثورة بقيادة الزعيم الكبير الحاج عبد الواحد الحاج سكر ، حتى يوم 6تشرين الثاني 1920، أي بعد عشرة أيام من تشكيل حكومة النقيب .
وفي عهد هذه الوزارة تم تأسيس جيش الليفي البريطاني في العراق ، وفي عهدها أيضاً تم نفي المشاركين في ثورة العشرين الى الهند وغيرها ، وفي عهدها
----------------------- [ 233 ] -----------------------
تم أول إغلاق لجريدة الإستقلال البغدادية ، التي صدرت في 28 أيلول 1920، بسبب انتقادها للحكومة .
واستمرت هذه الوزارة بالحكم حتى23 آب 1921، حيث تُوِّج في ذلك اليوم فيصل الأول ملكاً على العراق ، وفي نفس اليوم قدم عبد الرحمن النقيب استقالته ، فكلفه فيصل الأول بتشكيل الحكومة ، فألف وزارته الثانية».
http://jawadnaser.jeeran.com/dw/GAYLANY.htm
وهكذا قرر الإنكليز نصب فيصل بن الشريف حسين ملكاً على العراق ، ولم يسمعوا لمعارضة مرجعية الشيعة ، وأرسلوه بالباخرة من القاهرة الى بغداد عن طريق البصرة ، وأرسل فيصل برقية الى النقيب هذا نصها: «فخامة رئيس الوزراء حضرة النقيب. بمزيد من السرور أخبر فخامتكم بأني واصل الى البصرة صباح الجمعة القادمة شاكراً للمولى عز وجل الذي أسعدني بقرب لقائكم ومشاهدة البلاد التي هي محط مفاخر الأجداد واثقاً بازدياد عواطفكم الودية،أنتم وزملاؤكم وكافة الشعب العراقي الكريم».
22 حزيران 1921 - فيصل
فأجابه عبد الرحمن النقيب:
« الباخرة الحربية البريطانية نورث بروك . ضياءُ مصباح بيت النبوة ، والكوكب الدري في السماء ، شرف سمو الأمير فيصل المعظم حفظه الله تعالى . لقد أخذت بيد الإحترام برقية سموكم الدالة وعواطفكم الهاشمية نحو هذا الداعي ، والمبشرة بقدوم سموكم الى البصرة يوم الجمعة ، بامتلاء القلب سروراً ،
----------------------- [ 234 ] -----------------------
فنشكركم شكراً وفيراً ، داعين لسموكم بسرعة الوصول بالسلامة ، مرحبين بقدومكم الميمون ، نحن والوزراء والشعب ».
رئيس الوزراء: عبد الرحمن النقيب
«وفي يوم 18 ذي الحجة سنة 1339 و23 آب سنة 1921 للميلاد ، وفي الساعة السادسة صباحاً أقيمت حفلة التتويج في ساحة برج الساعة بالقشلة ، وحضرها عدد كبير من الأعيان والوجوه والسراة ، بينهم بعض ممثلي المناطق التي اشتركت في التصويت ، ثم أقبل الأمير الهاشمي يحيط به المندوب السامي السير برسي كوكس ، وقائد القوات البريطانية الجنرال هالدين، والمستشار الخاص الكولونيل كورنواليس، ففتش حرس الشرف المعد لتحية سموه ، واقتعد المحل الخاص فوق منصة مرتفعة جاعلاً المندوب السامي عن يمينه ، وقائد القوات عن شماله وجلس في الصف كل من السادة رستم حيدر وأمين الكسباني (من السوريين) وحسين أفنان سكرتير مجلس الوزراء ، وبعد لحظات ناول المندوب السامي سكرتير مجلس الوزراء بلاغاً تلاه على الجموع المحتشدة ، وفيه نص القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء في 11 تموز 1921بمبايعة الأمير فيصل بملوكية العراق، والأمر الذي أصدره المندوب لإجراء التصويت العام الذي أسفر عن أكثرية ممثلة في97% من مجموع المنتخبين ، واعتراف بريطانية العظمى بالأمير فيصل ملكاً على العراق . ثم قام السيد محمود النقيب اكبر أنجال السيد عبد الرحمن النقيب فتلى دعاءاً موجزاً لمناسبة هذا الحدث العظيم، ثم أطلقت المدافع 21 إطلاقة تيمناً بهذا الحدث ، بعدها نهض الملك فيصل فألقى خطاباً مدوناً ،
----------------------- [ 235 ] -----------------------
استهله بشكر العراقيين على مبايعتهم إياه مبايعة حرة ، وحيا أبناء النهضة العربية الذين استبسلوا مع أبطال الحلفاء وذهبوا ضحية أوطانهم ، وشكر الإنكليز على جميل معروفهم ! وحث الناس على الإتحاد والتآلف . بعدها عزفت فرقة الموسيقى العسكرية النشيد الملكي (ليحم الله الملك) حيث لم يكن هناك نشيد وطني عربي آنذاك ».
http://www.iraqlights.net/vb/showthread.php?s=
ومن الطريف أن الإنكليز قبلوا باقتراح بعض بسطاء الشيعة، فجعلوا يوم نصب فيصل ملكاً يوم عيد الغدير ، تيمناً بيوم نصب النبي عليهما السلام علياً عليه السلام إماماً وخليفة ! مع أن الناصب هم الإنكليز وليس النبي عليهما السلام ، والمنصوب شاب مطيع لهم ليس فيه من علي عليه السلام إلا الإنتساب!
وهكذا تأسس نظام الحكم في العراق: يوم الغدير ، بحكومة سنية ، وجيش سني ، وبقرار إنكليزي بإبعاد الشيعة ، وجاؤوا بنفس الموظفين العثمانيين السنة ، الذين سارعوا فنقلوا بندقيتهم وولاءهم من الوالي التركي والخلافة العثمانية ، الى الوالي كوكس ، والخلافة الإنكليزية !
أما علماء الشيعة ومراجعهم وقادة عشائرهم العربية، فقُتل منهم من قُتل وانزوى الباقون في النجف مجبرين على السكوت ، أو كانوا في سجون الإنكليز ، أو تشردوا محتمين بمن يعرفونهم في سوريا ومصر والحجاز ! وقد توسط الملك حسين ملك الحجاز لعدد منهم ، فعادوا بالباخرة مع فيصل أو بعده ، وقبلوا بالأمر الواقع ، وبايعوا فيصلاً !
* *
----------------------- [ 236 ] -----------------------
4- الهزة الشيوعية أحيت طموح الشيعة السياسي !
بعد أربعين سنة من الإبعاد والإنزواء ، جاءت الهزة الشيوعية بتحديها وعنفها ، فنهضت المرجعية وكونت موجة شعبية غلبت الشيوعيين ، وعادت الى الساحة السياسية ، وعاد معها علماء الشيعة وزعماءهم ، فماذا قرروا للمستقبل؟
هنا ينبغي أن تعرف أنك في منعطف تاريخي ، حدد نوع تحرك الشيعة فيما بعد! فقد كانت الموجة الشيوعية تحدياً للحوزة استنفر كل كرياتها البيض. ولما انتصرت انبعثت فيها روح الشعور بالقوة ، وروح الطموح والغرور !
لقد كانت تلك الفترة مرحلة تأسيس الإتجاهات الفكرية والسياسية الموجودة في حوزاتنا وعالمنا الشيعي ، إلى اليوم .
إن أصول أكثر الإتجاهات والأفكار ، والكتب والمقالات ، التي تراها اليوم في بيروت ، أو القطيف ، أو طهران ، أو كراتشي ، ترجع الى تلك الفترة ، التي
----------------------- [ 237 ] -----------------------
عجَّت بالأفكار والتنظير والطروحات ، سواء لتطوير الحوزة أو للعمل الإسلامي التوعوي ، والعمل المنظم لإقامة دولة إسلامية .
كانت الأفكار تتلاقح داخل الحوزة في النجف ، وبينها وبين حوزة كربلاء وبعض المنظرين للعمل الإسلامي ودولته العالمية في بغداد ، ويصل التلاقح الى حوزة قم لكن بعد فترة من الزمن .
وقد نضجت الأفكار سنة1380 هـ 1961م. ورسى الأمر على اتجاهين: الإتجاه الإصلاحي الذي هو خط المرجعية والحوزة تاريخياً .
والإتجاه الذي سماه أصحابه «الإنقلابي والتغييري» وتأسس بموجبه تنظيم الدعوة السري . والذين يجعلون تأسيس الدعوة قبل هذا التاريخ ، لا بد أن يقصدوا البذور والأفكار ، لأن ولادة أي تنظيم إنما تكون بعد اتفاق أصحابه ، وبدئهم بدعوة الناس اليه ، وولادة خلاياه الأولى .
وقد كان ذلك في التاريخ المذكور ، وليس قبله .
* *
----------------------- [ 238 ] -----------------------
الفصل العاشر: الإتجاهات الثلاثة بعد الهزة الشيوعية
1-اتجاه المرجعية الإصلاحي التقليدي
عمل السيد الحكيم رحمه الله لمنع اندفاع المرجعية والحوزة الى محاولة انقلاب على عبد الكريم ، ومنع من إنشاء تنظيم حزبي ، لتبقي المرجعية والحوزة في خطها التقليدي الذي هو الإصلاح المطلبي ، لا أكثر .
فقد كان السيد الحكيم رحمه الله كغيره من المراجع ، يعتقد أن هذا هو الخط الأصيل والصحيح لمرجعية الشيعة ، ولهذا تعايشت عبر التاريخ مع الحكومات المختلفة ، وغاية ما كانت تقوم به حركة مطالبة بالإصلاح .
اتجاهان داخل خط المرجعية الإصلاحي:
ومع اتفاق المراجع على مشروعية التعايش مع أنظمة الحكم المختلفة ، يوجد فيهم اتجاهان: اتجاه يتخوف من دخول المرجع في الأمور السياسية كلياً ، سواء بالثورة على السلطة ، أو بالحركة المطلبية ، ويرى أن واجبه ينحصر في تبليغ الدين وحفظ معالمه ، وأن هذا هو الطريق الوحيد لحفظ التشيع ، ومواجهة الانحرافات الداخلية ، والغزو الثقافي الغربي .
وتصح تسميته باتجاه الإنكماش الحضاري للوقاية من الغزو الخارجي، ولعل السيد كاظم اليزدي رحمه الله صاحب كتاب العروة الوثقى المشهور ، يمثل هذا الخط ، فقد أفتى أول الغزو الإنكليزي بوجوب الجهاد واستشهد ابنه في معركة الشعيبة ، ثم سحب نفسه كلياً ورفض أن يتدخل في أي من القضايا السياسية سلباً أو أيجاباً ، حتى في نصب الملك فيصل ملكاً على العراق وكان يقول: أنا
----------------------- [ 239 ] -----------------------
أعرف في الفقه والدين ، ولا معرفة لي في السياسة ، فلا أعطي رأياً . ويشبهه السيد حسن الصدر رحمه الله في الكاظمية .
وكان بعض أصحاب هذا الإتجاه يقولون إنه لافائدة من مقاومة الإنكليز مع تفوقهم ، إلا المزيد من الضرر على الشيعة والعراق .
كما أن حجتهم في العمل الإسلامي الطويل الأمد ، أنه لا يمكن إقامة حكم إسلامي عادل فلا يجب علينا ذلك ، بل يجب أن نحافظ على ثقافتنا وهويتنا ونتعايش مع الأنظمة ، إلى أن يشاء الله تعالى ويُظهر حجته عليه السلام .
ويقابل هذا الإتجاه: اتجاه إصلاحي ، يرى أنه يجب على المرجع مطالبة السلطة بحقوق الشيعة في الحرية المذهبية ، والشؤون المعيشية ، وأن ذلك لايتنافى مع التعايش معها . وكان السيد الحكيم رحمه الله يؤمن بهذا النوع من المرجعية الإصلاحية ، فقد اغتنم فرصة زيارة الملك فيصل إلى النجف ، فاستقبله في حرم أمير المؤمنين عليه السلام ، وقدم له مطالب في الحرية المذهبية وإنصاف المناطق المحرومة .
وعندما نجحت ثورة عبد الكريم قاسم أرسل اليه السيد رحمه الله رسالة تهنئة تضمنت عدداً من المطالب المشابهة . كما كان يرسل مطالبه إلى عبد السلام عارف ، وأخيه عبد الرحمن ، ثم إلى البعثيين .
أما اصطدامه في آخر حياته رحمه الله مع البعثيين ، فكان مضطراً اليه اضطراراً لأنهم أصحاب طبيعة دموية ، وقد فشلت محاولة إقناعهم بالتعامل المدني مع المعارضة ، كما رفضوا تحويل الحكم العسكري الى حكم مدني .
----------------------- [ 240 ] -----------------------
وعندما فشلت محاولة الإنقلاب التي قام بها المرحوم العميد محمد رشيد الجنابي رحمه الله وشارك فيها السيد مهدي ، أعلن البعثيون الحرب على المرجعية فرأى المرجع رحمه الله نفسه مضطراً لتجاوز الخط الإصلاحي المطلبي ، وتحرك من النجف الى بغداد للضغط على الحكومة ، فوقعت المحنة المعروفة .
* *
2- الإتجاه الثاني: مشروع الحركة الإسلامية العالمية
إذا أردنا الحديث عن تلك الفترة التي تأسست فيها حركة إسلامية عالمية باسم: «الدعوة الإسلامية» وعُرِفَتْ بعد عقدين باسم: «حزب الدعوة الإسلامية » فلا بد أن نذكر الذين عملوا من أجل تأسيسها ، رحمهم الله . ونلفت هنا الى كثرة الظنون والرجم بالغيب ممن كتبوا في الموضوع ، لأنهم لم يكونوا في مجرى الحدث ، وبعضهم ناشئ اعتمد فيما كتبه على من لم يكن حاضراً ، ولا تثبَّت من سماعه .
وبعضهم تعمد التأريخ للموضوع بغير الواقع ، ظناً منه أنه يستطيع فرض تصوره على التاريخ ، لأنه لايوجد من يعرف الواقع ويكشفه !
لكن من واكب الحدث مثلي ، يتعجب مما كتبوه عن تأسيس الدعوة ، ويقول: إذا كان الحدث الذي عاصرناه يكتب بهذا النحو: مسلوخاً عن جوه ، مفترضاً له جوٌّ آخر ، فيه خلطٌ ، وتعتيمٌ ، وتضخيمٌ ، وتصغير وتكبير ، في الأحداث والأشخاص والتواريخ! فكيف نثق بروايات تاريخنا الإسلامي، الذي اهتم الحكام بمفرداته الصغيرة وحاسبوا عليها الراوي!
لقد شارك في مداولات تأسيس تنظيم الدعوة بضعة عشرة نفراً ، وكانت جلساتهم متباعدة ، وبدأت سنة (1960م- 1379هـ) واستمرت نحو سنة حتى
----------------------- [ 241 ] -----------------------
تم اتفاق من بقي منهم في الجلسات ، فبدأ أبو عصام رحمه الله بتشكيل الحلقات ، وطلب من السيد الصدر رحمه الله أن يكتب الأسس .
وكانت الجلسات عديدة ومتباعدة أو متقاربة ، وبعضهم حضر جلسة واحدة ، أو جزءاً من جلسة . ولم يكن اهتمامهم بالأمر بدرجة واحدة ، ولاتفريغهم لوقتهم واحداً . وكان بعضهم في بغداد وبعضهم في النجف . وبعضهم له حضوره الفاعل وبعضهم مستمع ، وآخر يثق بشخص ويرى أن حضوره يكفي عنه ..الخ.
لكن المرحوم أبا عصام عبد الصاحب دْخَيِّل ، كان محوراً ثابتاً في الجلسات من أولها الى آخرها ، وكان هو الذي يطرح الفكرة ويدير النقاش ، ويدعو الأشخاص الى الحضور ، ويتابعهم عندما يتأخرون .
ولا ننس أنهم كانوا يتخوفون من البعثيين والقوميين الذين يعملون لانقلاب على عبد الكريم ، وبعضهم من أقاربهم وأصدقائهم ، وكان أولئك يراقبون السيد مهدي الحكيم رحمه الله أن ينافسهم على محاولة انقلاب!
كما كان أعضاء الجلسة يتخوفون من حواشي المرجعية أن يشتكوا عليهم للسيد الحكيم أو السيد عبد الهادي الشيرازي ، أو لكبار الحوزة ، بأن هؤلاء يريدون تأسيس حزب سياسي!
ونقتصر على ذكر الأكثر تأثيراً منهم ، ونذكر أعمارهم ، لتعرف خطأ ما نسب الى بعضهم ، مما لايتناسب مع عمره !
كنت يومها طالباً في نحو السابعة عشرة من عمري ، لكني كنت أدرس الكفاية ، وأدَرِّسُ النحو والمنطق والبيان . وكنت أحضر في مجلة الأضواء
----------------------- [ 242 ] -----------------------
وأساعد في تصحيح ملازمها ، وأسمع بفكرة تأسيس تنظيم ، وأنها محل تداول بين عدد من الأساتذة والعلماء . وعندما تم الإتفاق أخبر السيد الصدر عليهم السلام الشيخ مفيد الفقيه ، فأخبرني وانتظمت معهم .
وما أكتبه هنا سمعته من أستاذنا السيد الصدر ، أو من أبي عصام ، أو السبيتي ، أو السيد مهدي الحكيم ، وغيرهم رحمهم الله ، ممن حضروا تلك الجلسات ، وعايشوا الحدث .
كان أشد المهتمين بتأسيس حركة إسلامية عالمية الشهيد عبد الصاحب دْخَيِّل أبو عصام رحمه الله ، وكان عمره ثلاثون سنة (متولد1930م-1348هـ) . وكان أبو حسن محمد هادي السبيتي صديقه وفي سنِّه ، وكان في بغداد ، وكان رأيهما متقارباً فكان يكتفي بحضور أبي عصام وقلما يحضر الجلسات.
وكان عُمْر السيد محمد باقر الصدر رحمه الله 25سنة ، وكان السيد مهدي الحكيم في سِنِّه ، فهما أصغر من أبي عصام وأبي حسن بخمس سنين .
وكان احترام السيد الصدر لأبي عصام كبيراً واضحاً ، وقد رأيته يتعارف معه في الدخول والخروج فيقدمه ، وربما تقدم عليه أبو عصام ، وكان يدعوه: أبا عصام ! وأبو عصام يدعوه: يا سيد محمد باقر ، وسمعته بعد مدة يدعوه: يا أبا مرام. وشبيهاً به كان احترام السيد مهدي لأبي عصام.
ولم يكن في تلك المجموعة أكبر سناً من أبي عصام إلا الشاعر محمد صادق القاموسي ، كان أكبر منه بنحو ثمان سنوات (متولد 1922-1341) ، لكنه لم يكن متصدياً للأمر بدرجة أبي عصام ، ثم إنه انسحب من الجلسات عندما رفضوا
----------------------- [ 243 ] -----------------------
مقترحه الذي هو مشروع نظام داخلي لحركة الدعوة ، ولم يشارك في بقية جلساتهم ، ولا في عمل الدعوة .
وربما كان السيد طالب الرفاعي أكبر سناً من أبي عصام ، لكن لا يقاس حضور أبي عصام بحضوره ، وكذا الحاج صالح الأديب ، مضافاً الى أنه كان في كربلاء، ولم يحضر إلا جلسة أو اثنتين وكان موافقاً لرأي أبي عصام.
فالحضور القوي في تلك الجلسات كان لأبي عصام أولاً ، وللسيد مهدي الحكيم ثانياً ، وللسيد الصدر ثالثاً ، رحمهم الله .
أما السيد مرتضى العسكري رحمه الله فكان أكبر سناً منهم ، لكن أبا عصام كان معنياً أكثر منه بالحركة وفكرها والتنظير لها .
وكان السيد العسكري كان في بغداد والجلسات في النجف ، وقلما حضرها ، ولم تعقد جلسة حول الموضوع في غير النجف .
وقد حضرت بعد تأسيس الدعوة وانتظامنا فيها ، مجالس تطرح فيها أمور فكرية حركية ، فرأيت أبا عصام هو المتحدث الذي يطرح الفكرة والرأي ، ورأيت السيد العسكري والسيد الصدر يؤيدانه ، أو يناقشانه باحترام كبير.
لذلك يجب أن نشهد بأن الشخصية الأولى في تأسيس الدعوة هو أبو عصام رحمه الله ! فهو الذي بدأ طرح الفكرة على أبي حسن السبيتي ، والسيد مهدي الحكيم ، والسيد محمد باقر الصدر ، وغيرهم ، حتى لو كانت قبل ذلك في أذهانهم ، وهو الذي كان يتابع الأمر ويجمع الشخصيات ، وينسق الوقت والمكان ، ويدير الحديث ويبتكر الحلول لتقريب وجهات النظر .
----------------------- [ 244 ] -----------------------
ثم كان هو الذي يتابع تنفيذ المقررات ، فبعد أن أنهوا مداولاتهم واتفقوا على بدء العمل ، بدأ أبو عصام بالعمل، فكلف السيد الصدر بكتابة الأسس ، وبدأ بمفاتحة الأشخاص وتشكيل اللجان ، فأعطى مجموعة للشيخ عبد الهادي الفضلي ، ومجموعة للسيد محمد باقر الحكيم ، ومجموعة للسيد عدنان البكاء ، ومجموعة للسيد طالب الرفاعي ، ومجموعة للحاج محمد صالح الأديب في كربلاء ، ومجموعة للشيخ عارف في البصرة .
وهو الذي هيأ (رونيو) وهو شبيه بجهاز التصوير ، وكان اقتناؤه يومها جريمة ! ثم اشترى أبو عصام رحمه الله طابعة ، وجعلها في بيت السيد عدنان البكاء ، ثم طلب السيد عدنان إعفاءه ، فتبرعت أنا ونقلناها الى بيتنا ، وكان يطبع عليها الأخ عبود مزهر . وكانت الطابعة ، وكل جهاز نسخ وتكثير ، مواد جرمية كالسلاح وأشد !
ويكفي أن تعرف أنك لكي ترسل رسالة بالبريد ، فعليك أن تعرضها على الرقيب العسكري مفتوحة فيقرؤها ويلصقها ويختمها ، ثم تلصق عليها طابعاً ، وتضعها في صندوق البريد !
وكان أبو عصام رحمه الله يكلف السيد الصدر رحمه الله بمفاتحة بعض الأشخاص الذين يرى فيهم القابلية ، فيقوم بذلك رحمه الله ويحولهم عليه أو على الشخص الذي عينه له .
وبهذه الطريقة كلم السيد الصدر أستاذنا الشيخ مفيد الفقيه ، فكلمني بالموضوع وكلم أخاه الشيخ عبد الإله وابن عمه الشيخ سامي ، فقبلنا الأمر ،
----------------------- [ 245 ] -----------------------
ورتب لنا أبو عصام مسؤولاً هو السيد محمد باقر الحكيم رحمه الله ، فكنا عنده حلقة ، رابعنا السيد عبد الكريم القزويني .
ثم درسنا في الحلقة: الأسس التي كتبها السيد الصدر ، حتى حرَّم المرجع السيد الحكيم التنظيم على أولاده ، فاعتذر مشرفنا السيد محمد باقر الحكيم وفاجأنا بأن التنظيم انتهى! فتعجبنا واتصلنا بالسيد الصدر ، فأخبر أبا عصام رحمه الله فعين لنا مشرفاً آخر ، هو الشيخ عبد الهادي الفضلي .
* *
كان أبو عصام شخصية عجيبة ، فمع أنه لايملك إلا شهادة ثانوية ، لكنه كان واسع الثقافة كثير المطالعة ، وكل ثقافته بجهده الشخصي!
والأهم من ثقافته قوة شخصيته وفكره ، وقوة حضوره في أي مجلس أو عمل يقوم به ، وقدرته على الحوار ، والإقناع ، وطول نفسه على التجزئة والتحليل ، فكان الجميع يحسبون حساباً لآرائه وإشكالاته المنطقية .
وقد أخبرني أبو حسن السبيتي رحمه الله أنه كان يتردد عليه في بغداد ، أيام كان أبو حسن في حزب التحرير ، وأن أبا عصام التقى بالشيخ تقي النبهاني مؤسس حزب التحرير ، وجرى بينهما نقاش مقتضب ، فقد اعتقل النبهاني في العراق في زمن عبد الكريم ولم يعرفوه ، وغادر الى لبنان وبقي فيها متخفياً ، حتى توفي سنة 1977، ودفن في بيروت باسم آخر .
ثم التقى أبو عصام رحمه الله مطولاً بخليفة النبهاني الشيخ عبد القديم زلوم .
ويظهر أن أبا عصام أثَّر على أبي حسن السبيتي ، فترك حزب التحرير واتجها الى تأسيس تنظيم الدعوة ، وكان أبو حسن يثق بفكره ورأيه الى حد كبير، ويسميه صاحب النجف! فكان أبو عصام زميله ، وبمنزلة أستاذه .
----------------------- [ 246 ] -----------------------
وعندما كتب الشيخ تقي النبهاني كتابه «الخلافة» الذي سموه فيما بعد «نظام الحكم في الإسلام» أرسله الى النجف ، فرآه السيد الصدر وأبدى عليه ملاحظات شفهية ، ورأيته كتيباً في نحو مئة صفحة بالقطع العادي ، وتعجبت من أنه لايتضمن آلية لنصب خليفة في عصرنا ، وأنه ليس فيه رأس سطر ولا نقطة ولا فاصلة ! فقلت: هذا كتابٌ كله سطر واحد ! فأعجبت كلمتي السيد الصدر رحمه الله ، وكان يعيدها ويتبسم !
وأراد زلُّوم وبعض جماعته أن يأتوا الى النجف ليبحثوا إشكالات علمائها على الكتاب ، فقرر أبو حسن والسيد الصدر أن يجلس معهم أبو عصام ، ورأيته قبل الجلسة وقد دون ملاحظاته على عدد من صفحات الكتاب .
وجلس معهم تلك الليلة وناقشهم حتى تعبوا ، وكان أبو حسن يقول: ناقشهم أبو عصام حتى أعجزهم ، وتعب بعضهم وغلب عليه النوم !
كان السيد الصدر يحترم أبا عصام كثيراً ويعامله كأخ أكبر، وإذا دخل عليه فرَّغ له وقته وسمعه ، فكان يعرف أن وقته ملئ وأنه جاء لعمل مهم ، ولم أرَ السيد الصدر اعترض عليه يوماً ، بل كان يُرجع اليه في المسائل الحركية .وقد كنت أراجع السيد الصدر رحمه الله في بعض القضايا ، وأعتبر أن رأيه كافٍ لأنه في القيادة ، لكنه كثيراً ما كان يقول لي: أنظر ماذا يقول أبو عصام ، فأنت تعرف أنا لانؤمن بالقيادة الفردية بل بالقيادة الجماعية ، وأننا إذا قال أبو عصام نقبل قوله !
لكن السيد الصدر رحمه الله تغير رأيه في القيادة الفردية والجماعية بعد ذلك . وكان رحمه الله حيوي الذهن لماحاً ، متطور الفكر ، وليس كالذين يجمدون على رأي ،
----------------------- [ 247 ] -----------------------
والكلام عن فكره والتطورات التي مر بها يحتاج الى حديث مستقل ، لكن حديثنا هنا عن مؤسس الدعوة أبي عصام رحمه الله .
* *
كان أبو عصام رحمه الله معجباً بالإخوان المسلمين وفكرهم أكثر من حزب التحرير ، وكان يميل أكثر الى منهج حزب التحرير في التحليل السياسي . أما في الفكر التنظيمي فكان يرى أن الشيوعيين متقدمون فيه أكثر من غيرهم ، وكان ينتقد الوضع التنظيمي للإخوان في عهد الصواف ، ثم في عهد الدكتور عبد الكريم زيدان ، وينتقد الوضع التنظيمي لحزب التحرير عند الشيخ تقي النبهاني ، ثم عند الشيخ عبد القديم زلوم .
ولذلك حرص رحمه الله على أن تكون في ثقافة الدعوة وتنظيماتها حسنات هؤلاء جميعاً ، وأن تتجنب نقاط ضعفهم ، فأشبهت ثقافتها ثقافة الإخوان بل تبنت عدداً من كتب الإخوان للتدريس في حلقاتها ، مثل شبهات حول الإسلام لمحمد قطب ، ومعالم في الطريق لسيد قطب .
وقد كتبت يومها إشكالات على كتاب معالم في الطريق خاصة على عنوان «الإنحراف» وناقشت بعضهم فيه.. فلم يرض بذلك أبو عصام وأبو حسن السبيتي وقال: نحن بحاجة الى نقد الفكر الجامد لا نقد الفكر الحركي.. ولا مجال هنا للإفاضة في هذا الحديث..
ولإعجاب أبي عصام رحمه الله بالمستوى التنظيمي للحزب الشيوعي ، أخذ أحسن ما يراه منه للدعوة ، فكان شكل تنظيمها يشبه تنظيم الحزب الشيوعي، فالحلقة تتكون من خمسة أعضاء يرأسها مشرف ، واللجان المحلية وبقية اللجان الهرمية ، تشبه التنظيم في الحزب الشيوعي .
----------------------- [ 248 ] -----------------------
أما التحليل السياسي ، فكان أبا عصام رحمه الله ينتقد تحليل الشيوعين المملوء بتعبيرات الإقطاع والطبقية والبرجوازية والرأسمالية والبروليتاريا ..الى آخر منظومتهم ، ولا يعجبه تحليل الإخوان الذي يصفه بأنه يغلب عليه السطحية والعاطفية ، ويعجبه تحليل حزب التحرير الذي يتناول القضايا من زاوية الصراع بين المسلمين والمستعمرين خاصة الإنكليز الذين حكموا المنطقة وما زالوا يحركونها ، وهم يورثون نفوذهم طواعية ، أو يضطرون للتخلي عنه للإستعمار الأمريكي الجديد . وقد صار ذلك الطابع للتحليل السياسي في حزب الدعوة .
وكان أبو عصام رحمه الله معجباً بسيد قطب ، لكنه معجب أكثر بشخصية حسن البنا ، فكان يقول: سيد قطب لا يصل الى مستواه أبداً !
وكان يوماً يتحدث عن حسن البنا ، ويتعجب من أنه ركب الطائرة ست ساعات وبقي مستيقظاً يفكر ، ولم ينم ! فقلت له: مالك معجب به الى هذا الحد ؟! أنت أقوى منه شخصية وأعصاباً !
وهذه عقيدتي في شخصية أبي عصام رحمه الله ، وأشهد أنه أقوى شخصية من الشيخ حسن البنا وسيد قطب والشيخ تقي النبهاني وغيرهم ، بل هو من الشخصيات التاريخية النادرة ، في قوة فكرها وطموحها .
ومع مقاومتي للتعب والنوم ، فقد كان أبو عصام أقوى مقاومة مني ، وقد تواعدنا يوماً في منزلنا بعد الظهر لنرتب مواضيع ، فجاءني أبو عصام رحمه الله بعد الظهر في صيف النجف، ففتحت الباب ورأى أني كنت نائماً فقال مستنكراً: أنا تصورت أنك لاتنام بعد الظهر ، أنت قلت: أنا موجود بعد الظهر في أي ساعة ،
----------------------- [ 249 ] -----------------------
فتفضل! فقلت له: نعم قلت إني موجود فتفضل ، ولم أقل إني مستيقظ حتى تأتي!
* *
وقد ظهرت كفاءة أبي عصام القيادية والإدارية بدرجة عالية ، فكان يدير كل تنظيم الدعوة ويوجهه ، من أكبر شخص الى أصغرهم ، في النجف ، وبغداد ، وبقية مناطق العراق ، وخارج العراق ، وكان يأتينا الى الكويت .
كان وحده يمسك كل خطوط التنظيم ويتابع أموره الداخلية والخارجية، ومع ذلك يعمل في التجارة ، فيشتري ويبيع داخل العراق وقد يستورد . وكان يهتم بأمر المناطق والوكلاء ، وهو الذي كان رتب أمر الشيخ عارف البصري رحمه الله ، فجاء به من البصرة الى النجف ، وبعد إكماله كلية الفقه ، أخذ له وكالة من السيد الحكيم رحمه الله عالماً في منطقة الزوية بالكرادة .
وكتب السيد مهدي الحكيم رحمه الله في مذكراته/36 ، أنه كان في الخمسينات قبل ثورة تموز يفكر في إنشاء تنظيم ، وأنه تحدث في ذلك مع أبي عصام رحمه الله والسيد طالب الرفاعي فوجدهما يؤمنان بهذه الفكرة ، فاتصلوا بالسيد الصدر رحمه الله لهذا الغرض ، فتجاوب معهم .
وذكر أن السيد طالب الرفاعي كان على علاقة بالشيخ عارف البصري والسبيتي وهما في حزب التحرير ، وأن الشيخ عارف جاء الى النجف ليفتح فرعاً لحزب التحرير ، فناقشه السيد مهدي ليثنيه عن ذلك .
وذكر السيد مهدي رحمه الله أنه التقى في الكاظمية بفلان ويقصد أبا حسن السبيتي ، وكان متخرجاً يومها من الجامعة (هندسة كهرباء) وناقش معه إنشاء تنظيم بدل عمله مع حزب التحرير ، فوجد منه تجاوباً .
----------------------- [ 250 ] -----------------------
وكل ذلك صحيح ، لكن ينبغي التنبيه الى أن هذه المفردات كانت بعد ثورة 14تموز وبدء موجة الشيوعيين ، وأن المحرك الأساسي لهؤلاء كان أبو عصام رحمه الله ! ويكفي أن نعرف أن كبيرهم السبيتي كان يعامل أبا عصام كأنه أخوه الأكبر وأستاذه ، مع أنهما في سن واحدة .
أما الشيخ عارف فكان أصغر منهما سناً ، وكان السبيتي في حزب التحرير مسؤوله أو بمثابة مسؤوله .
وأقدر أن أبا عصام هو الذي أقنع الشيخ عارف أن يستفتي السيد الحكيم في بقائه في حزب التحرير، فقد سمعت الشيخ عارف رحمه الله يقول: أنا خرجت من حزب التحرير بفتوى السيد الحكيم رحمه الله . ولعل تفكيره بفتح فرع لحزب التحرير كان في سفرة سابقة الى النجف .
فقد كان الشيخ عارف يومها في البصرة ، ثم جاء الى النجف ، وانتسب الى كلية الفقه ولبس العمامة ، ولما أكملها ذهب الى بغداد عالماً في منطقة الزوية وكان أبو عصام مهتماً بأموره .
ومن صفات أبي عصام رحمه الله أنه لايتبجح بأعماله ، بل يحرص على سترها لكي تسير الأمور بشكل جيد . وكم من ابتكار واقتراح له على السيد الصدر ، والسيد مهدي الحكيم ، أخذ طريقه الى العمل ، ولم يقل إنه منه .
* *
وكان أبو عصام قوي الفراسة نافذ النظرة في تقييم الأشخاص ، وقد لمست ذلك عدة مرات ، وثبت لي أنه صَرَّاف شخصيات رحمه الله .
----------------------- [ 251 ] -----------------------
فقد كنتُ أعطيت مسؤولية الى شخص مثقف ذكي ، عملي ، من عائلة معروفة ، فقال لي أبو عصام: هذا لاينفع ، إنه لِعْبِي ! فلم أقبل منه وقلت في نفسي: لعل انطباعه عنه خاطئ لأنه يناقشه كثيراً .
لكني بعد مدة اكتشفت صدق تقييمه ، وأن ذلك الشخص أهل لعب وليس أهل عمل ، فهو يهتم بالإشكال على الآخرين وعلى عملهم ، وينقدهم شخصياً لا ليصحح عملهم ، ويُقَيِّمُ الشخص والأمر بنقطة ضعف فيه ويترك مجموع جوانب قوته ! وكأن هدفه من عمله أن يثبت للآخرين أنه مصيب وغيره مخطئ ! وهذا هو اللعب والغرق في الذات !
* *
وقد ظهرت قدرة أبي عصام رحمه الله على الكتابة ، فكتب موضوعات عديدة للنشرة الداخلية «صوت الدعوة» أولها عن المرحلية وأهمية المرحلة التغييرية ، وهي نظريته . وكان يراجع مايكتبه أبو حسن السبيتي، والشيخ عارف ، وكاتب هذه السطور ، وكذا ما يكتبه السيد الصدر رحمه الله .
وينبغي أن نسجل هنا أن المجلدات الثلاثة التي هي ثقافة الدعوة ، كتب قليلاً منها السيد الصدر رحمه الله ، وأكثر منه أبو عصام ، وأكثر منه الشيخ عارف ، وأكثر منه كاتب هذه السطور، وأكثر من الجميع أبو حسن السبيتي ، وأن بقية القياديين* * من أصدقاء القيادة ، أو من الصفوف الأخرى لم يكتبوا سطراً واحداً من ثقافة الدعوة .
* *
كان أبو عصام رحمه الله يقوم بأعمال كبيرة بعلاقته بالسيد مهدي الحكيم رحمه الله ، وكانت علاقتهما مميزة ، فهم جيران في النجف ، وعائلة دْخَيِّل لها علاقات مع العلماء والمراجع ، وهي من عوائل الوجاهة المحترمة في النجف .
----------------------- [ 252 ] -----------------------
وكان السيد مهدي رحمه الله حيوياً نشيطاً ، مبرزاً في أبناء السيد الحكيم رحمه الله شجاعاً ناشطاً في مواجهة الموجة الشيوعية .
وعندما أرسل البعثيون حسين الصافي الى المرجع السيد الحكيم رحمه الله بأسلوب تهديدي خبيث ، وحرَّم على أولاده دخول الأحزاب ، لتبقى المرجعية ومن يتعلق بها في موقع الإستقلال والأبوة لكل الناس ، وترك السيد مهدي والسيد باقر الدعوة.. يومها بقي أبو عصام على علاقته الحميمة معهما ، وقدر ظرفهما ، وكأنه لم يتغير شئ !
وعندما انتقل السيد مهدي رحمه الله الى بغداد كان أبو عصام رحمه الله يزوره باستمرار ، ويتداول معه في الأمور ، وقد يكلفه بأمر فلا يرد له طلباً ، ولو طلب منه مالاً لأعطاه ، فقد كان السيد مهدي رحمه الله سخياً ، أميراً من أمراء بني هاشم ، لكن أبا عصام كان وقوراً عالي النفس رحمه الله كزعماء بني شيبان.
وقد يكون طلب منه مساعدة لبعض الأعمال ، مثل مواكب طلبة الجامعات الى كربلاء ، الذي نظمه أبو عصام رحمه الله من مختلف المحافظات .
? ?
وكان أبو عصام رحمه الله في معتقله وشهادته ، نموذجاً لصمود المؤمنين ، ثابت الجنان قوي الأعصاب ، عالي النفس ، وكان خبيراً بأمر أعدائه ، يستصغرهم ويحتقرهم !
ومن الثابت عنه رحمه الله أنه كان في السجن يتحدى مدير الأمن المجرم ناظم كزار ، وأنه أمر بتعذيبه تعذيباً وحشياً في حضوره ، وهو يقول له: إعترف ! فقال له أبو عصام: شوف يا ناظم كزار: كل أسرار الدعوة بصدري ، وشْما تسوِّي ما راح تعرف منها ولا حرف ! وعندما عجز ناظم كزار عن إجباره على الإعتراف
----------------------- [ 253 ] -----------------------
بحرف ، اغتاظ من صموده وشموخه ، وأمر به فألقي في حوض (أسيد التيزاب) ! وهذا الفصل من حياته رحمه الله يستحق أن يكتب بالتفصيل ، ويصنع بفيلم .
كما ينبغي للباحث عن مقالع الشخصيات النادرة المؤثرة في تاريخ العراق والشيعة، أن يتعرف على عائلة أبي عصام رحمه الله آل دْخَيِّل ، وهم كما ذكروا من بني سلامة ، من بني شيبان من بكر بن وائل . وقد اشتهر منهم الصحابي القائد المثنى بن حارثة الشيباني في معركة ذي قار مع كسرى ، ثم كان قائد فتح العراق . وقد كتبنا عنهم في (سلسلة القبائل العربية في العراق) .
3-أبو عصام هو الدعوة تأسيساً وقيادة
نسب بعضهم تأسيس الدعوة وقيادتها الى غير أبي عصام رحمه الله ، وهذا من سيئات التنظيم السري الذي يسهل فيه الإدعاء والتسلق ، خاصة إذا استشهد عدد من قادته. ومما يكشف حقيقة الأمر: الكتابة للتنظيم ، وإدارة حلقاته ، وكسب الدعاة . فهذه الثلاثة مقياس لأولئك الذين ادعوا أو ادُّعِيَ لهم أنهم كانوا في قيادة الدعوة .
فإذا قيل فلان كان قيادياً ، فاسأل عن كتابته في النشرة الداخلية صوت الدعوة ، التي كانت تُدَرَّس في الحلقات ، واسأل عن الحلقات التي كانت بيده ، واسأل عن الذين كسبهم ونظمهم في الدعوة !
فإن لم يكتب سطراً ، ولم يُدر حلقة ، ولم يكسب شخصاً ، فلا يكون قيادياً نعم قد يكون صديقاً لقيادي ، أويكون القيادي منفتحاً عليه ، أو يكون في جو
----------------------- [ 254 ] -----------------------
تأسيس الدعوة ، أو في حلقاتها الأولى ، ثم لم يواصل العمل ، بسبب الخوف أو غيره .. الخ.
وينبغي أن نحسن الظن فنقول إن الأمر اختلط على بعض من كتب في الموضوع ، فجعلوا من القيادة أشخاصاً من الصف الثاني والثالث والخامس! أو حسبوا أصدقاء أبي عصام أو السبيتي من القيادة ، كالشاعر القاموسي ، والسيد العسكري ، والسيد مهدي ، والسيد طالب ، والسيد عدنان ، مع أنهم لم يكونوا في التنظيم ، ولم يكتبوا للدعوة سطراً ، ولا كان بيدهم داعية واحد ، وكان القيادي إذا جلس مع أحدهم لا يناقش أوضاع التنظيم الداخلية ، لأنه أمر لايخصهم ولا يعرفون عنه ، بل يناقش بعض الأمور والأعمال الأخرى التي ترتبط بالدعوة .
أما السيد الصدر رحمه الله فكان أبو عصام أوغيره يلتقون به بصفته صديقاً، ولم يكن في تنظيم الدعوة ، ولم أكن أعرف ذلك ، فقد كنت أجلس معه وأراجعه على أنه في قيادتها فلايقول لا ، حتى عرفت أنه ليس معهم ، فتفاجأت واستنكرت ، وأشكلت على أبي عصام وناقشته طويلاً !
وكان يطمئنني بقوله إنا لانترك السيد الصدر ولا يتركنا ، فنحن معه وهو معنا ! واستقصيت منه سبب خروجه . وليس هذا محل الكلام فيه .
وينبغي التنبيه الى أن جميع خطوط الدعوة كانت بيد أبي عصام رحمه الله منذ تأسيسها الى شهادته ، فكان هو الذي يعطي المسؤوليات ويشكل اللجان ، وينصب المسؤولين ، وكان يتشاور مع السبيتي والشيخ عارف ، بصفتهما عضوي قيادة ولم يكن معه أحد غيرهما .
----------------------- [ 255 ] -----------------------
ثم أبلغوني بأنهم قرروا ضمي اليهم ، فكنت أجلس معهم جلسات متباعدة ، أو ثنائية مع أحدهم ، ويبلغني رأي الآخرين .
وبعد شهادة أبي عصام رحمه الله صارت القيادة ثلاثة ، وانتقلت خطوط الدعوة التي كانت بيد أبي عصام الى الشيخ عارف رحمه الله .
أما السبيتي رحمه الله فلم يكن من مزاجه إدارة حلقات ، وكان يتابع أوضاع الدعوة ويكتب لها، فكانت خطوط التنظيم بيد اثنين الشيخ عارف وأنا ، حتى استشهد الشيخ عارف فتقاسمتُ خطوط التنظيم مع أبي حسن السبيتي رحمه الله .
وكتب الشيخ عارف رحمه الله من سجنه رسالة الى الدعاة ، يؤكد فيها عليَّ ، فوصلت الرسالة الى يد شخص لا أحب تسميته ليوصلها اليَّ ، فأخبرني بمضمونها وزعم أنها ضاعت بين أوراقه !
وأما اللجنة التي شكلناها مع الشيخ عارف رحمه الله والسبيتي رحمه الله ، وكان فيها السيد العسكري ، والشيخ شمس الدين ، والسيد فضل الله ، والسيد الحائري ، وغيرهم ، فكانت هيئة تجتمع سنوياً ، ولم يكن بيد أحد منها شئ من التنظيم ، ولها حديث آخر .
وينبغي أن أذكر هنا الأخ الدكتور جابر العطا حفظه الله ، فقد كان من قيادات الصف الأول من أوائل تأسيس الدعوة ، ويعتبر من قيادتها ، وكان يحضر أحياناً جلسات القيادة مع أبي عصام والسبيتي والشيخ عارف ، لكنه كان شديد التحفظ ، فابتعد عملياً عن القيادة والتنظيم ، فلم يستلم حلقة ولا كتب موضوعاً للنشرة ، وبقي على هذا الوضع الى اليوم .
----------------------- [ 256 ] -----------------------
وقد اتصل بي بعد سقوط صدام وقال: يا أبا ياسر ، أرى أن الدعاة اختلفوا الى فئات ، ولم يبق من القيادة إلا أنا وأنت ، فأرى أن تأتي الى العراق ونجمع الشمل ، فإنهم مهما كان اختلافهم يحترموننا ، ويسمعون منا .
فقلت له: شكراً أبا محمد ، لكن قناعتي تغيرت منذ مدة طويلة ، فأنا لا أرى أن ذمة المسلم تبرأ شرعاً ، إلا بالعمل مع المرجعية .
قال: هكذا خويا ؟ قلت: هكذا خويا . وودعته!
ويظهر أن سنه ووضعه الصحي شافاه الله ، لم يسمحا له بأن يقوم بدور فعال ، لكني أعتبره شاهداً على ما يعرفه ، مما كتبته عن الموضوع .
4- المرحلية خيالٌ آمنا به ثم تركناه !
معنى المرحلية في العمل الحركي: تقدير مراحل عمل الحركة حتى تصل الى الحكم ، ومعناه أن للحركة هدفاً أعلى هو الوصول الى الحكم ، فهي تُقدر مراحل عملها تبعاً لفكرها وهدفها ومجتمعها ، حتى تحقق هدفها .
فلو كانت الحركة محاولة انقلاب عسكري، لكانت مراحل عملها الإتصال بالضباط ، وبالدول الكبرى لتطمينها أو لأخذ مساعدتها ، والإتصال بالأشخاص الذين هم مفاتيح احتلال قصر الحاكم ومحطات الإعلام مثلاً . ثم تأتي مرحلة وضع الخطة وساعة الصفر للإنقلاب .
ولو كانت الحركة تريد الوصول الى الحكم عن طريق الإنتخابات ، لكانت مراحل عملها إقامة التحالفات اللازمة ، وتشكيل قائمة بزعامة شخصية كفوءة
----------------------- [ 257 ] -----------------------
محبوبة من الناس ، أو زعامة الحركة ، وإعلان برنامج عمل ثم النشاط لتعريف الناس بالمجموعة وبرنامجها ، ثم خوض الإنتخابات ومحاولة ربح أكثرية من النواب لتشكيل الحكومة ، والوصول الى السلطة .
لكن أبا عصام مؤسس الدعوة رحمه الله ابتكر طريقة جديدة للوصول الى الحكم ، ليست انقلاباً عسكرياً ، ولا خوض انتخابات ، وسماها المرحلة التغييرية والمرحلة الإنقلابية ، وأقنعنا بها جميعاً ! ومفادها: أنا يجب أن نربي جيلاً من المؤمنين بالإسلام ودعوته ، تربية جيدة ، بشكل سري ، فيكونون تنظيماً حديدياً تحت الأرض ، ونهتمُّ بنوعيتهم أولاً ثم بكميتهم ، حتى يكونوا أمة مصغرة من الأمة الإسلامية الكبيرة ، ويكونوا هم القادة .
حتى إذا جاء الوقت أعلنت الحركة نهاية المرحلة التغييرية ، وبداية المرحلة السياسية ، وخرجت أمة الدعاة من تحت الأرض الى العلن ، وتسلمت السلطة بأسهل طريق ، بانقلاب عسكري ، أو بانتخابات ، أو بأي طريقة تراها قيادة الحركة آنذاك !
والأمر العجيب أنا في تنظيم الدعوة قبلنا هذه المرحلية ، حتى أنك تجد في ثقافة الدعوة تبريرها والتنظير لها بما لا مزيد عليه !
وقد كنت أسال السيد الصدر رحمه الله وأبا عصام رحمه الله عن المدة التي يقدرانها لازمة لهذه المرحلة ، فيجيبان بعشرات السنين ، ومئاتها !
وأول من اكتشف خيالية هذا التصور هو السيد مهدي الحكيم رحمه الله .
ثم أقنع به السيد الصدر رحمه الله ، وقد أعلن السيد الصدر رحمه الله ذلك ، لكن بصيغة تفسير للمرحلة التغييرية .
قال السيد الحائري في مباحث الأصول:1/90 ، ناقلاً عن السيد الصدر رحمه الله :
----------------------- [ 258 ] -----------------------
«وخلاصة ما قاله بهذا الصدد هي: إننا حينما نعيش بلداً ديمقراطياً يؤمن باحترام الشعب وآرائه ، ولا تجابههم السلطة بالتقتيل والتشريد بلا أي حساب وكتاب ، يكون بالإمكان افتراض حزب ما يبدأ عمله بتكوين بنية ذاتية بشكل سري ، ثم يبدأ في مرحلة سياسية علنية ، ومحاولة كسب الأمة إلى جانبها ، وجرها إلى تبني تلك المواقف السياسية . ولكن الواقع في مثل العراق ليس هكذا ! ففي أي لحظة تحس السلطة الظالمة بوجود حزب إسلامي منظَّم يعمل وفق هذه المراحل لتحكيم الإسلام ، تقتل وتشرد وتسجن وتعذب العاملين ، وتخنق العمل في تلك البلاد قبل تمامية تعاطف الأمة معه وتحركها إلى جانبه ، فما لم يصادف هناك تحول آخر دولي في العالم يقلب الحسابات ، ليس بإمكان الحزب أن ينتقل من مرحلته الأولى إلى المرحلة الثانية. قال رحمه الله هذا الكلام بحدود سنة 1392، الهجرية ». انتهى.
أقول:
1- معنى كلامه رحمه الله أن تصورنا للمرحلية قد يصح في البلاد الغربية التي فيها ديمقراطية ، أما في العالم الثالث ، فإن طبيعة السلطة ستكشف التنظيم في أوائل مرحلته التغييرية وتخنقه ، فلايعيش حتى يصل الى المرحلة الثانية ! وإذا بطل تصورنا للمرحلة التغييرية بطلت بقية المراحل لأنها مبنية عليها .
2- وقد صدق كلامه رحمه الله ، فإن القوميين والبعثيين اتهموا جماعة العلماء من أول تأسيسها ، بأنها تعمل للوصول الى السلطة بانقلاب ، وأن وراءها تنظيماً يقوده السيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الصدر ، وأشاعوا ذلك ، وذهبوا الى السيد الحكيم رحمه الله وحذروه ، وحرضوه ضدهما .
----------------------- [ 259 ] -----------------------
3- ماذكره السيد الصدر رحمه الله واحد من مجموعة إشكالات على تصورنا للعمل الحركي ومراحله ، ومن أولها مشروعية أصل الحركة وقيادتها .
وقد أعطيت هذا الكتاب الى أحد الفضلاء من تلاميذ السيد رحمه الله ، فكتب لي بعد قراءة هذه الفقرة : « قد يكون سيدنا الأستاذ الشهيد رحمه الله قد حل إشكال المشروعية بإشرافه هو شخصياً على العمل ومواكبته له ».
4- ومنها: أن بناء أمة تحت الأرض خيالٌ أيضاً ، لأن حقيقة الإنسان وصفات شخصيته ، ومستوى إيمانه وسلوكه ، لاتعرف إلا فوق الأرض. فتخيُّلنا أن التنظيم السري يصلح محضناً لبناء الشخصيات ، كمن يتخيل أن بإمكانه تخريج سبَّاحين في حوض افتراضي لا ماء فيه ! أو تخريج مصلِّحي سيارات بخرائط قطع سيارة ، دون أن يمسوا بأيديهم سيارة !
ولذلك نرى التفاوت الكبير في شخصيات الناس وأحجامهم ، ومنهم الدعاة ، وهم تحت الأرض ، أو فوقها . وهم في الظلام ، أو تحت الشمس.
5- ومنها: أن سرية القيادة تخالف ما أجمع عليه فقهاء الإسلام ! وقد أفتوا بأنه لايجوز الإنتماء الى تنظيم قيادته سرية ، ويبدو أنه محل إجماع ، إذ كيف يجوز للمسلم أن يُسَلِّم رقبته وجهده الى مجهول لايعرفه ؟!
6- ومنها: أن سرية التنظيم والقيادة كما تشكل حالة حماية من السلطة ، ومن المجتمع الذي لايتقبلها ، فهي تشكل جواً ظلامياً يفتح الباب أمام أفراد التنظيم وغيرهم لأنواع الإدعاء والتبجح في أدوار الأشخاص ، والتسلق وادعاء المسؤوليات الكاذبة ، فيدعي أشخاص لاتقوى لهم ما شاؤوا ، لأن الذين يعرفون الواقع قلة يستطيع الكذابون ردهم !
----------------------- [ 260 ] -----------------------
ويكون مثل المدعين كالذي جاء الى المفسر الأموي مقاتل فقال له: « إن إنساناً يسألني عن لون كلب أصحاب الكهف؟ فلم أجد ما أقول له! فقال له مقاتل: ألا قلت هو أبقع! فلو قلت ذلك لم تجد أحداً يرد عليك قولك»!
(تاريخ بغداد:13/167، وتهذيب التهذيب:10/251 ).
النتيجة العملية للمرحلية الخيالية
كل ما تقدم من نقد نظرية المرحلية كان نظرياً ، وأما عملياً فإن نظرية المرحلية انهارت في التطبيق من أول سنة ، ثم انهارت على يد السيد مهدي الحكيم رحمه الله ، ثم انهارت على يد السيد الصدر، فقد دخل رحمه الله في المرحلة السياسية بعد انتصار الثورة الإيرانية ، وكان يقول: « أريد أن أجبر السلطة على قتلي ، عسى أن يحرك ذلك الجماهير للإطاحة بالنظام ، وإقامة حكم القرآن ». وتمكنت من ذهنه رحمه الله فكرة أنه إن سقط قتيلاً في الصحن العلوي في النجف فستتحرك الجماهيربقيادة «القيادة النائبة» التي عينها ، وأن إيران ستساعدها معنوياً ومادياً وتسقط الطاغية ، وتقيم حكم القرآن !
وقد كتب لي أحد الفضلاء من تلاميذ السيد رحمه الله ، بعد قراءة هذه الفقرة: «الظاهر أن القضية لم تكن هكذا ، بل كان من ضمن مشروع القيادة النائبة أن يطلب سيدنا الأستاذ الشهيد رحمه الله شخصياً من الإمام الخميني رحمه الله دعم القيادة النائبة بعد أن يوصي بهم ، وذلك حرصاً منه على اكتساب المشروع الشرعية الكاملة في ذهن الأمة ».
ومهما يكن، فلم يكتب الله تعالى شيئاً مما أردناه جميعاً ، وانهارت المرحلية وكل مشروع الحركة الإسلامية العالمية ، باحتلال أمريكا للعراق ، وبلغ الأمر بنا أن بعض المتصدين لقيادة حركة الدعوة الإسلامية العالمية ، ذهب الى أمريكا ،
----------------------- [ 261 ] -----------------------
وظل يحاول مدة في مكاتب خارجيتها ، لكي يعطى دوراً ما في الإدارة الأمريكية للعراق !
رحمك الله يا أبا عصام بعنفوانك اللافح من بادية النجف ، المحلق عن الضيم كعقاب زاغ من طلقة نار ، وبطموحك الحنبلي القوي لتغيير العالم ، وإقامة دولة الإسلام العالمية ، بدءاً من العراق وحتى آخر بلد مسلم..
ماذا ستقول لو رأيت أن دعوتك الإسلامية صارت: الدعوة العلمانية؟
وأن من سلم من سيف صدام من الأمة التي ربيتها تحت الأرض ، لم يوصلها الى الشراكة في الحكم إلا فتوى من مرجعية تقليدية ، بأنه يجوز لها المشاركة في حكم علماني تحت نفوذ أمريكي ، فدخلت من بابها ، وجَمَّدَت كل مشروعها وكل مراحلها وجميع تنظيراتها ، الى يوم يبعثون !
إن في هذه الأحداث لعبرةً للذين يريدون العمل لإقامة حكم الإسلام ، بأن عليهم أن يؤمِّنوا أولاً شرعية العمل والقيادة ، وأن تكون قيادتهم ظاهرة معروفة للناس ، وأن يكون تنظيمهم فوق الأرض ، وأن تكون مراحل عملهم واقعية مفصلة لمجتمعهم ، لاخيالية لمجتمع في السماء !
* *
5- الإتجاه الثالث: العمل لتسلم السلطة بانقلاب عسكري
ينبغي الإلفات هنا الى أن السيد مهدي الحكيم رحمه الله تطورت قناعاته السياسية بعد انتقاله الى بغداد ، فقد كان يشبه السيد الصدر رحمه الله في سرعة ذهنه ، وحيويته الفكرية ، وقابليته للتطور والتكيف ، وتقبله للفكرة الجديدة التي تنكشف له ، حتى لو كان يعتقد بخلافها .
----------------------- [ 262 ] -----------------------
وقد اطلع رحمه الله على المجتمع البغدادي بأطيافه ، وأقام علاقات مع شخصياته المختلفة العلمائية والثقافية والإقتصادية والسياسية ، الشيعية منها والسنية . وتوصل الى نتيجة أنه يجب الإستفادة من الطاقات المخلصة وهي كثيرة وموجودة في مختلف قطاعات المجتمع والبلاد ، بدل مقولة الدعوة التي هي مقولة أبي عصام: يجب أن نبني أمة داخل الأمة مهما طال الزمن، حتى إذا اكتمل بناؤنا تحت الأرض ، خرجنا الى الساحة السياسية .
كان السيد مهدي رحمه الله يختلف مع أبي عصام رحمه الله في هذا الموضوع ، وينتقد عدم اهتمام الدعوة بهذه الطاقات ويقول: أنتم لاتعرفون كم عندنا من الكنوز والشخصيات الوطنية المخلصة ! إنهم أخيار أبرار مخلصون ، فلماذا لاتستفيدون منهم في إقامة الحكم الإسلامي الذي تريدونه ، أو الحكم المدني المتكافئ الذي يحقق العدالة أولاً ، ثم تتبعه خطوات ، وصولاً الى الحكم الذي تريدونه ؟!
كان رأيه رحمه الله أنا يجب أن نضغط على السلطة بكل الوسائل حتى تُعلن الحكم المدني وتطبقه ، وتُؤَمِّن حرية التعبير والإنتخابات ، وتضمن تداول السلطة بشكل سلمي . فإن أبت السلطة ذلك ، فلا بد من انقلاب يزيحها لأنها تكون عقبة أمام مصلحة البلد بكل فئاته .
ولم يستطع السيد مهدي أن يقنع أبا عصام بفكرته ، فقد كان كالحنابلة متمسكاً بنظريته في المرحلة التغييرية ، وأنها بناء أمة مصغرة كاملة داخل الأمة ، وأنه لايجوز الإنتقال الى المرحلة السياسية ، إلا بعد استكمال مقومات هذه المرحلة ، ولو طال الزمان عشرات السنين ، ومئاتها !
----------------------- [ 263 ] -----------------------
أذكر أني سألت أستاذنا السيد الصدر رحمه الله في الكوفة سنة1967-1387عن هذه المرحلة التغييرية الطويلة التي تتبناها الدعوة وتؤكد عليها ، كم يقدر أنها تطول: فقال أقدر أنها تحتاج الى مئة سنة ، وقال مرة: ثلاث مئة سنة !
وهذا يكشف عن تفكيره بل تفكير أبي عصام بأن هذه المرحلة هي الأساس في العمل التغييري ، وأنها بناء أمة متكاملة من الدعاة تحت الأرض ، فإذا تم ذلك خرجوا الى السطح دفعة واحدة ، وأعلنوا عن وجودهم ، وتسلموا السلطة بكل يسر وسهولة !
ثم سمعت من السيد مهدي رحمه الله أن السيد الصدر رحمه الله اقتنع بفكرته عن الحكم المدني ، والإنقلاب إذا لزم الأمر ، وأنه حاول أن يقنع أبا عصام رحمه الله ويساعد السيد مهدي عليه لإقناعه ، فلم يقتنع !
وذات يوم سألني السيد مهدي رحمه الله : ما رأيك إذا قمنا بانقلاب ، وجئنا الى السلطة فهل تؤيدنا ؟
فأجبته بين المزح والجد: إذا استلمتم السلطة ، طلبت منكم أن تعطوني مالية لحوزة علمية أربي فيها ألفي طالب علم ، كل منهم نابغة !
قال: وماذا تصنع بهم ؟ قلت: أعمل بهم ضدكم لأسقط نظامكم !
لقد كنت يومها حنبلياً كأبي عصام رحمه الله ، أي متعصباً لما أعتقد به!
وقد اختلف السيد الصدر رحمه الله مع أبي عصام رحمه الله في أمور أخرى ، وقد تمسك بها أبو عصام شبيهاً بتعصب الحنابلة! ولكن ذلك لم يقلل من احترام السيد الصدر له . وكان موقفي من بعضها الى جانب السيد الصدر رحمه الله .
----------------------- [ 264 ] -----------------------
وما كتبه السيد الحائري عن السيد الصدر رحمه الله يؤكد تغير رأيه في المرحلية أو المرحلة الفكرية والتغييرية والإنقلابية ، التي تقول ببناء أمة تحت الأرض! وبرر ذلك بأن طبيعة نظام الحكم في العالم الثالث سيكشف هذا التنظيم ، ولا يسمح ببناء أمة تحت الأرض كما نتخيل !
ونقل عن السيد الصدر رحمه الله أنه كان يلطف رأيه ويجعله كتفسير للمرحلة التغييرية . ويظهر أن ذلك كان بعد استشهاد أبي عصام رحمه الله .
قال السيد الحائري في مباحث الأصول:1/90: « العمل المرحلي لحزب الدعوة الإسلامية الذي تبناه هو رضوان الله عليه لدى تأسيسه للحزب ، فالمعروف اليوم عن حزب الدعوة هو الإيمان بمراحل أربع للعمل:
1- مرحلة تكوين الحزب وبنائه ، والتغيير الفكري للأمّة .
2- مرحلة العمل السياسي التي يتم بضمنها جلب نظر الأمة إلى الأطروحة الإسلامية للحزب ومواقفه السياسية ، وتبنيها لتلك المواقف ، ودفاعها عنها .
3 - مرحلة استلام الحكم .4 - مرحلة رعاية مصالح الإسلام والأمّة الإسلامية بعد استلام الحكم . ولكن الذي نقله الأستاذ في تلك المجالس الأسبوعية لطلَّابه هي المراحل الثلاث الأولى كما هو مثبت في النشرات الأولية للحزب ، ولم يتعرض للمرحلة الرابعة... وخلاصة ما قاله بهذا الصدد هي: إننا حينما نعيش بلداً ديمقراطياً يؤمن باحترام الشعب وآرائه ولا تجابههم السلطة بالتقتيل والتشريد بلا أي حساب وكتاب ، يكون بالإمكان افتراض حزب ما يبدأ عمله بتكوين بنية ذاتية بشكل سري ، ثم يبدأ في مرحلة سياسية علنية ، ومحاولة كسب الأمة إلى جانبها ، وجرها إلى تبني تلك المواقف السياسية .
----------------------- [ 265 ] -----------------------
ولكن الواقع في مثل العراق ليس هكذا ! ففي أي لحظة تحس السلطة الظالمة بوجود حزب إسلامي منظَّم يعمل وفق هذه المراحل لتحكيم الإسلام ، تقتل وتشرد وتسجن وتعذب العاملين ، وتخنق العمل في تلك البلاد قبل تمامية تعاطف الأمة معه وتحركها إلى جانبه فما لم يصادف هناك تحول آخر دولي في العالم يقلب الحسابات ، ليس بإمكان الحزب أن ينتقل من مرحلته الأولى إلى المرحلة الثانية . قال رحمه الله هذا الكلام بحدود سنة 1392، الهجرية ». انتهى.
مهما يكن ، فقد أخذ السيد مهدي رحمه الله يعمل في بغداد بقناعته ، واستطاع أن يقنع السيد الصدر رحمه الله وطلب منه أن يتضامن معه فقبل.
لكنهما عجزا عن إقناع الشهيد أبي عصام ولو بمجرد التضامن معه فلم يقبل أبو عصام رحمه الله أن يدخل معه في أي عمل سياسي ، لأنه برأيه ينافي المرحلية ، والتي هي بناء القواعد تحت الأرض ، حسب تصورنا المثالي !
ويدل ما كتب السيد مهدي رحمه الله في مذكراته على أنه أقنع والده السيد المرجع قدس سره بهذا الإتجاه ولذلك تحمل ما ترتب عليه ولم يندم الى آخر حياته.
كان السيد مهدي رحمه الله يأمل في عهد عبد الرحمن عارف ، أن تنجح خطته وخطة أصدقائه من الشخصيات العراقية الشيعية والسنية ، بنقل العراق من الحكم العسكري الى الحكم المدني .
وقد تجاوب عبد الرحمن عارف مع هذا المطلب الشعبي وعين رئيس وزراء مدني ، هو عبد الرحمن البزاز ، فكان أول رئيس وزراء مدني في العراق الجمهوري العسكري .
----------------------- [ 266 ] -----------------------
لذا كثر الحديث في تلك الفترة عن الحكم المدني ، مقابل الحكم العسكري الذي تواصل بثقله على العراق من ثورة عبد الكريم قاسم .
لكن البعثيين سرعان ما جاؤوا بقطار أنكلو- أمريكي كما اعترف علي صالح السعدي ، وقاموا بانقلاب على عبد الرحمن عارف !
أصيب السيد مهدي ومجموعته بالإحباط ، وهم شخصيات سياسية وضباط مخلصون من الشيعة والسنة ، لأنهم يعرفون أن البعثيين دمويون ، ولا يمكن أن يسيروا بالبلد خطوة واحدة نحو الحكم المدني !
لذلك قرروا أنه يجب القيام بانقلاب قبل أن يُنشب البعثيون مخالبهم في الشعب العراقي ، وكان عملهم بقيادة اللواء الركن محمد رشيد الجنابي رحمه الله وهو شخصية مستقيمة مميزة ، يحظى بالقبول والمحبة عند كل من عرفه من الشيعة والسنة وغيرهم . وقد شارك في المحاولة ضباط من السنة ، وشارك فيه الزعيم الكردي إدريس البرزاني ، حيث اتفقوا معه على كل خطوطه .
وأحست مخابرات البعثيين بتحرك العميد الركن رشيد الجنابي رحمه الله فسجنوه ، وبقي في السجن ستة أشهر ، لكنهم لم يستطيعوا إثبات شئ عليه فأطلقوه . وبعد إطلاق سراحه واصل رحمه الله عمله حتى أكمل استعداده ، وعين ساعة الصفر . لكن وقع بعض السياسيين في الخطأ القاتل!
وكان هذا الخطأ أنهم قدروا أن إيران تمر في أزمة مع حكومة العراق ، بعد أن أعلنت من طرف واحد إلغاءها لاتفاقية شط العرب بين البلدين:
http://www.aljazeera.net/Portal/Templates/Postings
فقدروا أنهم إذا أخبروا الشاه بأنهم يعملون لانقلاب ، فسوف يفرح ويرحب ويساعدهم ! وبالفعل أخبروه بعملهم ، فرحب بذلك ووعدهم بالتأييد ،
----------------------- [ 267 ] -----------------------
وغشهم وكذب عليهم حتى أخذ منهم ساعة الصفر ، وكان يفصلهم عنها سبع عشرة ساعة ، ولم يكن السفير الإيراني يومها في بغداد ، فأمرت الخارجية الإيرانية السكرتير الأول في السفارة تنفيذاً لأمر الشاه ، بأن يتصل بالقصر الجمهوري ، ويطلب موعداً عاجلاً من أحمد حسن البكر لأمر مهم جداً ، فأعطوه موعداً وذهب وأخبرهم بما سموه «مؤامرة» واعتقلوا الضباط وأعدموهم ، رحمهم الله !
http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=38537
وفي يوم 20/1/1970، أعلن البعثيون اكتشاف ما أسموه مؤامرة لإسقاط النظام في العراق ! وفي اليوم الثاني تم تنفيذ أحكام الإعدام رمياً بالرصاص في ثمانية عشر ضابطاً ، مع مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة ، وهم:
1- العميد الركن محمد رشيد محسن الجنابي.
2- العقيد الركن المتقاعد صالح مهدي السامرائي.
3- الملازم الأول رافع درج الربيعي .
4- الملازم الثاني نشأت محمود عسكر .
5- نائب الضابط الحربي صفوك ريكان .
6- العقيد الركن فاضل مصطفى احمد .
7- العقيد المتقاعد جابر حسن حداد .
8- العقيد الركن المتقاعد سلمان داود عبدالسلام الدركزلي .
9- مقدم الشرطة المتقاعد عباس جواد السلامي .
10- رأس عرفاء سرية علي صالح خضر شرشاح .
11- الملازم الثاني عدنان حسين .
12- الدكتور نظام الدين عارف .
وفي اليوم التالي تم تنفيذ حكم الإعدام بالتالية أسماؤهم:
13- العقيد علاء الدين أمين الحشمة .
----------------------- [ 268 ] -----------------------
14- الرائد الركن المتقاعد ستار عبدالجبار العبودي .
15- النقيب ماجد طركي .
16- الملازم الأول أنور محمد حسين .
17- العريف طاهر حسن حسين .
18- حسن حسين الخفاف .
كما أعدموا آخرين معهم أو بعدهم أيضاً .
12http://www.alhakim.co.uk/alkizwini//sahibInAlseyassah.htm
38537http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar رحمه الله mlf=interpage رحمه الله sid=
* *
كانت هذه آخر محاولة جادة لإنقاذ العراق من السقوط في أتون البعثيين ، لكنها لم توفق ، وانفتحت على العراق جهنم صدام لأكثر من ثلاثين سنة !
وقد عرفتُ بالقضية بعد وقوعها ، وعملت لإنقاذ مجموعة من جماعة المرحوم حربي آل مزعل شيخ بني ركاب ، كانوا في إيران ليأخذوا دورة عسكرية قصيرة يحتاج اليها الإنقلاب، وخشى أن يسلمهم الشاه هدية الى أحمد حسن البكر! فساعدت على استخراجهم سالمين من إيران ! وكان الشيخ حربي رحمه الله أحد أركان هذه المحاولة ، ومعه ابناه إسماعيل وطالب .
وسألت السيد مهدي رحمه الله متعجباً: لماذا أخبرتم شاه إيران بالأمر ، ثم لماذا خانكم وأخبر عدوه أحمد حسن البكر ؟
قال: كانت خَطْأةً من فلان ، الذي تصور أن ذلك ضمانٌ للنجاح ، لعن الله الشاه ومن يثق به بعد اليوم ! لقد ثبت لي أن إيران لاتريد أن يقوم حكم شيعي في العراق ، ولا حكم يكون فيه سهم مهم للشيعة ، بل تريدنا أن «نأكل شماغات» باستمرار ، ثم يتحدث الشاه عن ظلامتنا بصفته حامي الشيعة في العالم ، والناطق بإسمهم ، والمدافع عنهم !
----------------------- [ 269 ] -----------------------
وعندما اضطر السيد مهدي رحمه الله الى الخروج من العراق ، تحبب اليه شاه إيران ودعاه الى طهران فذهب ، لكنه عاد بعد مدة قصيرة ، فسألته:لماذا لم تبق في إيران؟
قال: ماذا أصنع في إيران ، إلا أن أكون ديكوراً عند الشاه ، كلما جاءت مناسبة يجب أن أحضر عنده ، وإذا حاضت زوجته يجب أن أحضر عنده !
6- سفر المرجع الى بغداد وعنف السلطة معه !
كان واضحاً بعد إعدام العميد الجنابي رحمه الله أن البعثيين سيقومون بتوجيه ضربتهم الى المرجعية والشيعة ، فقد جاءتهم الفرصة التي كانوا يعدون لها من زمن ، لذلك اقترح السيد مهدي ، والسيد الصدر ، والسيد مرتضى العسكري ، وعدد من العلماء ، على المرجع السيد الحكيم رحمه الله أن يقوم بزيارة الى بغداد لتأتيه الوفود من داخلها ومن المحافظات ، ويمنع السلطة من الإقدام على ضربتها ، ويقدم اليها مطاليبه .
----------------------- [ 270 ] -----------------------
وقد عارض سفر السيد ، التقليديون من علماء النجف ، وعدد من مستشاري السيد رحمه الله ، وحذروا من وحشية البعثيين وبطشهم ، وأنهم قد ينتهكون حرمة المرجعية ، وفي ذلك ضرر كبير يصعب جبره !
فرد عليهم السيد الصدر رحمه الله بأن عدم سفر المرجع أشد خطورة مما يحذرون ، لأنه يعني وقوع الكارثة على المرجعية والشيعة !
وقرر المرجع رحمه الله السفر الى بغداد ، وسافر بدون مراسم كسفراته الماضية !
قال السيد مهدي الحكيم رحمه الله في مذكراته/85:
«مجئ السيد إلى بغداد: كان من أجل كسر طوق الخوف ، ولذلك فقد كان مجيئه من أجل القيام بتحرك حقيقي ، وقبل مجيئه ذهبنا إليه فقال لي: إجمع علماء بغداد وليكن اجتماعهم علناً ، والغرض من ذلك هو لكي يعرف الناس ، وبالفعل حصل الإجتماع وحضره نحو السبعين معمم ، وقد تم انتخاب عشرة من هؤلاء ليكونوا ممثلين لعلماء بغداد ، وكان منهم أنا ، والشيخ علي الصغير ، والسيد مرتضى العسكري ، والسيد محمد الخلاني ، والسيد هادي الحكيم ، والباقون نسيت أسماؤهم ، وذهبنا إلى الكوفة فزرنا السيد وفُتح الحديث وتحدث الموفدون وكنت أنا ساكتاً ، فسألني السيد: لماذا أنت ساكت؟ قلت: أنا أرى من الصعوبة بمكان أن أبدي رأياً يتعلق بك ، لأنك لا تمثل نفسك وإنما تمثل أمة ، وخطؤك ليس خطأ فرد ، وإن الله قد عودك على الجميل ، وأنت ولله الحمد تملك القدرة على التفكير بشكل جيد ، لذلك أرى أن تخلو بنفسك وتفكر والله سبحانه يلهمك الصواب ، وانظر ما هي المصلحة . عند ذلك قال إنه وافق على الذهاب إلى بغداد .
----------------------- [ 271 ] -----------------------
وقد تحدث معي السيد هادي حول ترتيب الموضوع ، وأتذكر أننا لم نخبر أحداً بذلك ، حيث قلت للسيد هادي: أخشى أن السيد يستثني ولايأتي فلننظر ونرى ، وبعد يوم اتصل بي أخي السيد كاظم رحمه الله وقال لي: إن السيد استثنى ، فقلنا: الحمدلله أننا لم نخبر الناس .
ولكن بعد يوم أو يومين ، اتصل السيد كاظم وقال: نحن وصلنا بغداد ! وكان وصول السيد إلى بغداد مفاجئاً بالنسبة لي ! وحين سألت السيد كاظم حول الموضوع قال: إستيقظ السيد صباحاً وقال لي: قل لسيد عباس السائق الخاص ، يملأ السيارة بنزين . ولما أراد الخروج قال: قل لعمك السيد سعيد يأتي على أثرنا أنا ذاهب ، ولم ينتظر .
ويضيف السيد كاظم: لا أدري لم هذا الإستعجال عند السيد ، وهذه الحالة ليست من عادات السيد ، حتى أنه كان يلح على السيد عباس ويقول له: سر بسرعة !
أحد السادة العلماء لما سمع أن السيد يريد القدوم إلى بغداد ، قال له: سيدنا أنا لا أرجح لأن هؤلاء أطفال ! فأجابه السيد: هم لايسكتون عني وعليه فأنا أفجر الموقف ، أفضل من أن أنتظرهم يفجرونه!
طلفاح يزور السيد: من جملة الأمور التي حدثت آنذاك هي زيارة خير الله طلفاح ، وكان وقتها متصرفاً للواء بغداد ، وجاء معه حامد العاني ، الذي كان وكيلاً لوزارة الداخلية ، جاءوا لزيارة السيد فتحدث معهم السيد رحمه الله حول جماعة من المعتقلين ، ومن جملتهم السيد كاظم شبر ، وقال لهم: على أي أساس تتهمون الناس بكل سهولة بالجاسوسية و.. الخ.
----------------------- [ 272 ] -----------------------
ثم إن هذا العمل غير جيد وهو تلويث لسمعتنا نحن العراقيين ، لأن العالم يرى أن شخصياتنا ومثقفينا وأساتذتنا وأطباءنا جواسيس، إذاً فكيف هو حال الإنسان العادي !
فلو قلتم إن هؤلاء لهم آراء مخالفة لنا ولسياستنا ، ولهم اتجاه خاص ، فهذا شئ معقول ، أما أن تقولوا إن هؤلاء جواسيس ، فهذا غير ممكن .
وكذلك تطرق السيد لموضوع السيد حسن الشيرازي وبشكل مسهب ، وذكر لهم بأنه من الفضلاء والعلماء . وعند ذلك علق خير الله طلفاح على موضوع السيد حسن قائلاً: إن المتهم ليس فقط سيد حسن ، والواقع أن هناك شخصين متهمين ! أحدهما اعتقل والآخر ترك لاعتبارات !
فلما خرجا ، قلت للسيد: إن الآخر الذي ترك لاعتبارات هو أنا !
هناك شئ يتعلق بسفر السيد: فقد زاره حمادي شهاب بمناسبة مولد النبي عليهما السلام ، حيث عطلت كل مظاهر الإحتفال بهذه المناسبة في الإذاعة والتلفزيون وفي كل مكان ، باستثناء مقال واحد كتب في الصحيفة ، بقلم ميشيل عفلق عن: ميلاد النبي العربي !
وقد تكلم السيد مع حمادي شهاب عن هذا الموضوع قائلاً: إن هذا غير ممكن ولايطاق مثل هذا الوضع ! ففي بلد إسلامي ، وفي مولد الرسول عليهما السلام ، تمر هذه المناسبة وليس هناك أي مظهر من مظاهر الإحتفال إلا ميشيل عفلق المسيحي ، يقيِّم رسول الله عليهما السلام ويتكلم عنه !
فبدأ حمادي شهاب حينئذ يتحدث عن البعثيين، ومما قاله لسماحته: إن هؤلاء مجرمون وكفرة ملحدون ، لا يؤمنون بالله ولا برسوله ، وهم مجموعة أطفال ،
----------------------- [ 273 ] -----------------------
ونحن الآن نعمل على إفساح المجال لهم ، لكي يجتمعوا ونتعرف عليهم ثم نجهز عليهم مرة واحدة ، ونقضي عليهم جميعاً .
الإتهام بعد سفر السيد الحكيم إلى بغداد وتطوير المواجهة: جاءني خبر من أحد أصدقائي في الكاظمية ، كان عنده صديق يعمل في الأمن العام ، فقال له: اليوم، وكان الثلاثاء ، الجماعة استطاعوا أن يأخذوا اعتراف من مدحت الحاج سري ، فإذا كان السيد مهدي يستطيع أن يُغَيِّب وجهه فليفعل ذلك ! كما أنني بلغني أن مدحت حاول الإنتحار مرتين بقطع وريده ، وأن هذا الإعتراف أخذ منه بعد أن هدد بالإعتداء على عرضه ، إذ جاؤا بزوجته أمامه وهددوه ، فقال لهم: نعم اعترف بما تريدون !
وهذا الكلام مثبت في كتابة كتبها بخط يده على نسخة من القرآن ، أرسلها إلى أهله ، وفيه بأن كل الذي قلته سواء فيما يتعلق بشخصي أو بالآخرين ، لا واقع له وإنما قلته نتيجة للتهديد بعرضي !
وعلى كل حال كنت قد حصلت على إجازة للسفر يوم2حزيران، وحادث الإتهام كان يوم7حزيران ، فالفاصلة 5 أيام ، ولذلك أشيع بين الناس بأن الحكومة هي التي سهلت عملية السفرة ، في حين أن الواقع ليس كذلك فسفري كان منفصلاً عن هذه القضية ، ولعلهم كانوا يتوقعون أنني سوف أسافر باعتبار وجود إجازة السفر ، وبعدها يعملون هذا العمل.
موفد البكر يزور السيد الحكيم: قبل حادث الإتهام بليلة جاء عبدالحسين ودَّاي إلى السيد ، وكنت أنا جالساً وكذلك العقيد سلمان وهو من جماعتنا، قال له:
----------------------- [ 274 ] -----------------------
سيدنا أحمد حسن يسلم عليك ويقول أنت عمي ، وأنا أتشرف بالتراب الذي يدوسه فلماذا يؤذينا ، ونحن نعطيه كل ما يريد !
ثم قال: إن هناك تحقيقاً وهو سليم ، وإن الجماعة مصرون أن ينتهي مهما تكن الظروف ، بحيث قالوا لأحمد حسن: إذا جاء إسمك في التحقيق فسوف نستجوبك كذلك . وهذا معناه: إحذر !
عند ذلك أهانه السيد رحمه الله وقال له: الآن بلغ كره الناس لكم إلى حد لو أنهم تمكنوا منكم لما قتلوكم بالرصاص ، لأنه يأسفون على خسارة الخمسين فلساً عن الطلقة الواحدة ، بل سيقطعونكم بأسنانهم !
وفي اليوم التالي للإتهام ، وللتاريخ أقول: أرسل أحد الأشخاص لا أذكر إسمه لأنه الآن في العراق ، خبراً للسيد بواسطة السيد مرتضى العسكري ، أنه يوجد عندي جماعة يتراوح عددهم بين15- 20، شخصاً بكامل أسلحتنا ورشاشاتنا، ونحن مستعدون لأن نأتي ونحارب معك إلى الموت ، ولكن السيد قال: ما الفائدة من خمسة عشر أو عشرين شخصاً ؟!
السيد الحكيم في لندن: عندما جاء السيد رحمه الله إلى لندن كنت أنا في الباكستان فجئت إلى لندن ، وفي إحدى الليالي أرقتُ فجئت إلى السيد في منتصف الليل وكان مستيقظاً ولم يكن عنده أحد فقلت له: أنت الآن رأيت ما جرى يعني نتائح تحركاتك ، فهل تشعر أنك أخطأت في تحركك هذا أم لا؟
فقال: أنا لازلت أعتقد أن عملي صحيح . قلت: لماذا ؟ قال: صحيح أنني لم أنتصر عليهم سياسياً ، بمعنى أنه لم أتسلم الحكم ، ولكني أعلم أن الشعب العراقي يحبني ، وهذه مظلومية شعر بها الشعب العراقي ، وسوف يبقى على
----------------------- [ 275 ] -----------------------
الأقل لمدة عشر سنوات ، دون أن ينسى موقف البعثيين مني! وعشر سنوات من الشعور بالمظلومية ، سوف يخلق حاجزاً بين الشعب وبين القبول بحزب البعث كفكرة . وقال: أنا لا أستطيع أن أعمر عشر سنوات ، فلا أقل أستطيع الوقوف عشر سنوات كحاجز ! ثم ضرب مثلاً بالإمام الحسين عليه السلام ». انتهى ما كتبه السيد مهدي رحمه الله .
أقول: الأحداث في هذه الموضوعات عديدة ، وفيها نقاط عديدة تحتاج الى بسط وتحليل ، لكن خلاصتها أن مرجعية السيد الحكيم رحمه الله تضامنت مع محاولة انقلاب لتغيير الحكم من عسكري الى مدني ، وتحملت نتائج فشل المحاولة بسبب خيانة شاه إيران ، وقد كانت النتائج عليها قاسية ، فقد أقدمت السلطة على اتهام ابن المرجع بأنه جاسوس ، وهاجمت مقر المرجع في بغداد وارتكبت إهانة تاريخية للمرجعية ، واضطر المرجع لأن يعود الى النجف ، ويعتكف بقية حياته احتجاجاً على هذا الظلم ، الى أن توفي سنة 1970 رحمه الله ، فخلا الجو للسلطة لتنفيذ خطتها في اضطهاد الشيعة حتى الإبادة !
فيجب أن نقف عند تلك المرحلة ونعتبرها نهاية تاريخية لنظرة الحكومة الى الحوزة والمرجعية بأنها إصلاحية ، وبداية تعاملها معها بحقد جديد ، حيث صارت تعتقد بأن المرجعية تنافسها وتعمل للوصول الى الحكم ، وأنها أسست حزباً سرياً لهذا الغرض ، وقامت بالفعل بمحاولة للوصول الى الحكم .
وقد كان آخر حديث للسيد الحكيم رحمه الله مع موفد البكر أشد تهديد من مرجع لحاكم في العراق على الإطلاق ، فزاد من حقده عليه !
----------------------- [ 276 ] -----------------------
7- السيد الصدر رحمه الله يسافر الى لبنان
وقعت الكارثة على المرجعية ، عندما اتهم البعثيون ابن السيد المرجع رحمه الله زوراً وبهتاناً ومن معه في حركة الإنقلاب بأنه جواسيس ، وهاجموا مقر المرجع رحمه الله بإهانة واضطروه للعودة الى النجف !
يومها قرر السيد المرجع رحمه الله أن يعلن اعتزاله محتجاً ، ولا يُعرِّض الناس لخطر الصدام مع السلطة .
وأنجى الله ولده السيد مهدي رحمه الله من قبضة البعثيين ، فعبر براً الى السعودية ، ثم الى الأردن حيث كان خاله سفير لبنان في عمان ، ثم الى الكويت ، ثم الى باكستان ، حتى استقر في دبي .
وكنتُ الوكيل العام للمرجع رحمه الله في الكويت ، فطلب مني بيت السيد أن أعمل إعلامياً لبيان مظلومية المرجعية والسيد مهدي ، فتشاورت مع السيد الصدر رحمه الله فشجعني على ذلك ، وسألته عن الخطر عليه هو فقال إنه سيتغيَّب الى لبنان .
وتشاروت مع أبي عصام رحمه الله فقال: إن موقف الدعوة السكوت التام تجاه الموضوع ، فناقشته في ذلك فقال: ذلك اليك ، أنت لك صفة معنا في قيادة الدعوة ، ولك صفة وكيل للسيد الحكيم ، ولا مانع عندنا أن تعمل بهذه الصفة في نصرة المرجعية والسيد مهدي !
قمت ببعض الأعمال الإعلامية في الكويت ، فشكى السفير العراقي الى حكومتها ، فجاءني تحذير من أحد المناصب العليا من العمل ضد الدولة العراقية ، فذهبت الى لبنان ، وجلسنا مع السيد الصدر رحمه الله وابن عمه السيد
----------------------- [ 277 ] -----------------------
موسى الصدر ، وكان مشغولاً بتأسيس المجلس الشيعي وافتتاحه ، ووعد بالتضامن معنا في النشاط الإعلامي .
كتبت مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله كتاب: محنة العراق اليوم ، وأعددنا بيانات وملصقات ، ونشرناها في ليلة واحدة في بيروت والجبل والجنوب ، فكانت حدثاً ألفتت الناس ، وكتبت عنه صحف اليوم التالي ، ونشرت مقالات عن ظلامة المرجعية الشيعية ، والتهمة الباطلة من الحكومة العراقية لابن المرجع وشخصيات شيعية بأنهم جواسيس !
استغرق هذا العمل شهراً كنت فيه في بيروت ، إلا أياماً للإصطياف مع أستاذنا السيد الصدر رحمه الله ، وكان يسكن في جباع ، فأخذناه الى قريتنا ياطر ، والى كيفون ، حيث كان يصطاف السيد موسى الصدر .
وفي تلك الأيام عرف بعض شباب الشيعة المتحمسين أن ابن أحمد حسن البكر يصطاف في لبنان ، فتصرفوا ولم يخبروني ، وضربوه في كازينو احتجاجاً على اعتداء أبيه على المرجع رحمه الله ، فخلصه الناس من أيديهم !
وعلى أثر هذه الحادثة أمرت الحكومة العراقية جميع العراقيين بمغادرة لبنان ، فاقترحت على السيد الصدر أن يبقى في لبنان ، ونؤسس له حوزة علمية أينما أراد ، في الجنوب أو بعلبك أو بيروت ، لكنه تشاور مع السيد موسى الصدر وعمل برأيه ، فقرر الرجوع الى النجف رحمه الله .
8- وجه الشبه بين البعثيين والشيوعيين !
من عاصر حكم البعثيين وشراستهم ودمويتهم ، يترحم على الشيوعيين وغوغاءهم وتصرفاتهم ! لأن الشيوعيين كانوا جمهوراً واسعاً فيه المثقف
----------------------- [ 278 ] -----------------------
والعادي وفيه الغوغاء الدموية المنفلتة ، لكن البعثيين كلهم غوغاء دموية منظمة ، يعملون بتخطيط وخباثة !
وقد كشفهم جمال عبد الناصر لأنه جربهم ، وكشف كذبهم وتحايلهم في قضية الوحدة ، ووصفهم بأوصاف رأينا انطباقها عليهم بالكامل .
وهو الذي جاء بهم الى الحكم فجعلهم شركاء في الإنقلاب على عبد الكريم قاسم . وكان السبب الوحيد لقبوله لهم أنه قتلة وأشرس من جماعته القوميين الخوافين!
فجاؤوا مع عبد السلام فكشفهم وطردهم ، ثم انقلبوا على أخيه عبد الرحمن . وجعلواشعارهم ودثارهم قتل من خالفهم أو من سكت ولم يرض بحكمهم .
وخططوا لإبادة الشيعة الذين هم أكثرية الشعب العراقي . وكان صدام أكثرهم دموية وسفكاً للدماء ، فكان يقول: يكفيني أن يبقى في العراق ثلاثة ملايين !
9 - محاربة الحكومات الظالمة للشعائر الحسينية !
من نعم الله تعالى على أهل العراق ولاؤهم لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام واحتفاؤهم بمراقدهم المباركة وزيارتها ، خاصة في المناسبات الدينية ، حيث يقصدون كربلاء بمئات الألوف لزيارة الإمام الحسين عليه السلام .
وتخاف الحكومات من هذا التجمع أن يتحول الى مظاهرة تطلق الهتافات ضدها ، لذلك دأبت على محاربة هذه المراسم ، والتضييق على الخطباء والشعراء والرواديد ، وكان الناس رغم ذلك يصرون على الذهاب الى الزيارة ، ويقيمون المواكب والمراسم ويشتبكون مع الشرطة ، فتلقي القبض على العديد منهم ، وتحكم عليهم بعقوبات مختلفة !
----------------------- [ 279 ] -----------------------
وقد ورثت الحكومات المعاصرة هذه السياسة من الحكومات الظالمة من زمن العباسيين ، فقد عملوا على منع زيارة الحسين عليه السلام وقاومهم الناس ، وقدموا في سبيل ذلك أنفسهم ، حتى ثبتوا هذه الزيارة الجماهيرية .
وقد زاد البعثيون على غيرهم فأفرطوا في استعمال العنف مع الناس لمنع المراسم الحسينية ، فكانوا ينشرون قواتهم في الطرقات نحو كربلاء لمطاردة الذين يأتون مشياً لزيارة الحسين عليه السلام والقبض عليهم ، أو إطلاق النار عليهم وقتلهم ، وتتبعوا خطباء المنبر الحسيني والشعراء والرواديد ، في أنحاء العراق وقتلوا منهم المئات ، مضافاً الى من قتلوهم من علماء الدين !
10- وفاة السيد الحكيم رحمه الله ومباحثات الدعوة والسيد الصدر رحمه الله
كان لوفاة المرجع السيد الحكيم رحمه الله تأثير حزين عميق في أنفس الشيعة ، فقد توفيَ في عزلته واحتجاجه على ظلم البعثيين ، فخرج الناس بمئات الآلاف ، باكين عليه هاتفين له ولابنه السيد مهدي .
وأقمنا له مجالس الفاتحة في الكويت ، وحضرها ولده السيد مهدي رحمه الله .
وجاء الخبر أن تشييع جنازة السيد الحكيم رحمه الله كان حاشداً في بغداد ، قدروه بنصف مليون ، وأن أحمد حسن البكر شارك فيه ، فهتفت الجماهير في وجهه: السيد مهدي مو جاسوس ، إسمع يالريس !
ورأى جماهير الناس يتجهون اليه ووصلوا الى حراسته ، فانسحب .
وجاء الخبر أن وفود الناس جاءت الى النجف وكانوا يهتفون: أيدنا سيد يوسف ، قلدنا سيد يوسف ! فكلمني بعض الناس أن نعلن تقليد السيد يوسف رحمه الله ، فأجبتهم إن التقليد في مذهبنا يجب أن يكون للأفقه الأعلم ، ومن
----------------------- [ 280 ] -----------------------
المعروف المشهور أن السيد الخوئي بعد السيد الحكيم هو الأفقه ، فسكت السيد مهدي رحمه الله ولم يعترض .
وفي اليوم الثالث أعلنتُ بحضوره أن الموازين الشرعية توجب تقليد الأعلم ، وأنه السيد الخوئي رحمه الله ، فقلد من يثق بكلامي السيد الخوئي رحمه الله .
أما السيد الصدر رحمه الله فكنت تكلمت معه حول التقليد بعد السيد الحكيم ، فقال: ليس من المصلحة طرح مرجعيتي مع وجود أستاذي السيد الخوئي.
لكن بعض من حوله كان رأيهم أنه إذا تبنت الدعوة مرجعية السيد الصدر فيجب إعلانها . وطرحوا ذلك في أوساط الدعوة ، حتى وصل الخبر الى أبي عصام رحمه الله فأبدى تحفظه .
ثم عقدت أربع جلسات بين السيد الصدر رحمه الله وأبي عصام رحمه الله لمناقشة الموضوع ، وكان أبو عصام هو كل الدعوة ، فكل خطوطها وأمورها بيده .
وعُقدت الجلسات في بيت السيد إسماعيل الصدر رحمه الله المجاور لمسجد الهاشمي في الكاظمية ، وحضر بعضها أبو حسن السبيتي ، وكان محورها موقف الدعوة من المرجعية ككل ، وموقفها من مرجعية السيد الصدر، وهل يصح أن تتبناها الدعوة ، أم لا ؟!
وانتهت الجلسات بعدم التوافق ، وكتب أبو عصام البيان التاريخي في موقف الدعوة من المرجعية ، وأعطاه الى معاونه فعممه على مسؤولي خطوط التنظيم ، ليدرِّسوه للدعاة كنشرة داخلية .
وجاء أبو عصام رحمه الله الى الكويت وأخبرني بخلاصة الجلسات ، وأعطاني البيان فقرأته وكان وقعه عليَّ ثقيلاً فناقشته بشدة، ثم ناقشته في اليوم التالي!
----------------------- [ 281 ] -----------------------
كان مضمون البيان أن المرجعية فيها جانبان: جانب المفتي ، وهذا أمر متروك للداعية أن يختار المفتي الذي يرجع اليه ، حسب موازينه .
وجانب قيادي ، والقيادة للدعوة لأنها المتصدية لها ، وهي تريد أن يتصدى الفقيه لقيادة الأمة ، وتدعو الفقهاء الى ذلك ، وموقفها من الفقيه والمرجع بقدر ما يتصدى لقيادة الأمة .
ومعنى ذلك إعلان الثنائية بين الدعوة والسيد الصدر رحمه الله ، وأنها لا تتبنى مرجعيته إلا بقدر ما تعتبر أنه تصدى لقيادة الأمة ، ويكون ذلك حسب فهمها للتصدي وتقييمها له .
ومعناه أن شرعية القيادة في الأمة إنما هي للتصدي وليست للفقاهة ، وأن هذا التصدي مفتوح لكل أحد من المسلمين ، فهو إجازة شرعية من الله تعالى بقيادة الأمة لكل فرد منها ! والآن هو أبو عصام ، وغداً أي شخص !
ناقشت أبا عصام رحمه الله في هذه الأمور وغيرها ، فقال في ختام نقاشنا: يعني أنك تُشكل علينا لماذا نترك السيد الصدر ، فاطمئن بأنا لانتركه ولا يتركنا! قلت له: أُشكل عليكم وعليه ، فالتنظيم ضرورة ، ووجود المجتهد المرجع فيه ضرورة ، ولا يصلح أحدهما بدون الآخر !
قال: نحن وإياه في نفس الخط ، وفتح يديه مشيراً الى الأمام والطريق.. ونحن لا نتركه ، لقد تركنا وما تركناه ، يشير الى انسحابه قديماً من الدعوة! ولا يمكننا الآن أن نتبنى مرجعيته ، فدعنا نرى كيف سيكون معنا !
قلت له: لم يترككم السيد الصدر ، فهذا أنا من أقرب الناس اليه ، بقيت سنين أعامله على أنه في قيادة الدعوة ، ولم يقل: لا !
----------------------- [ 282 ] -----------------------
وهذا السيد كاظم الشيرازي من أقرب طلبته اليه ، وقد أخبرني السيد الصدر أنه تعب معه سنوات حتى أقنعه قبل سنتين بلزوم التنظيم ، وسلمه لكم ، فصار مسؤوله الشيخ عارف ، وها هو يسمع كلام الشيخ عارف ويعتبره تكليفه الشرعي ، أكثر من كلام أستاذه السيد الصدر !
ولم يقنعني أبو عصام رحمه الله ولم أقنعه ، وعندما جاءني مودعاً سألني عن موقفي فقلت له: في سفرتك هذه جعلتني أعيش بقلب مشطور ، شطر مع المرجعية وشطر مع التنظيم ، فإن استطعت أن أجمع بينهما فهو المطلوب وإلا رجحت المرجعية وودعتكم ! وإذا أردتم أن أحضر معكم في القيادة بصفة صديق فعلت ، وابعثوا أحداً يستلم خطوط الدعاة الذين بيدي !
قال: يعني هذا موقفك النهائي؟قلت: نعم ، وأخبروني بإسم من تختارونه ليستلم مني خطوط العمل؟ فأخَّر أبو عصام رحمه الله سفره ليتصل ويتشاور وعاد اليَّ ليخبرني بأنهم اختاروا السيد عبد الأمير علي خان، فوافقت عليه .
وعاد أبو عصام الى العراق وأخذ يرتب سفر الشخص المتفق عليه ، فتأخر ذلك حتى سجن رحمه الله ، وتولى عمله الشيخ عارف ، والسبيتي..الخ.
11- الموازنة في العلاقة بين الدعوة والسيد الصدر رحمه الله
كنت أقدر أن القضية في النتيجة بين أبي عصام رحمه الله والسيد الصدر رحمه الله ، وأن أبا عصام يعتبر نفسه مؤسساً للدعوة ، وهو ثابت على أفكاره ، قوي الثقة بصحتها وهو أكبر سناً من السيد الصدر ، ويرى أنه أصح فكراً منه ، فلا أمل في أن يتنازل له إذا اختلفا في الرأي . وهو مصرٌّ على مقولاته التي أقنع بها الجميع ،
----------------------- [ 283 ] -----------------------
كمفهوم المرحلة التغييرية ، وبناء الأمة داخل الأمة ، ومفهوم أن القيادة في الأمة حق للمتصدي ، لأنها فعل قيادة ، وليست منصب قيادة للفقيه ولا للمرجع !
وكنت أقرب الى قناعات السيد الصدر رحمه الله وميوله ، خاصة في قيادة المرجعية ، وكان عليَّ أن أعمل للتوفيق بين هذين القطبين .
وعندما سجن أبو عصام ، كان رأي الشيخ عارف والسبيتي ، بأن الأمر سهل ، لأن هجمة البعثيين ستفرض علينا أن نكون وحدة لاتنفصم !
وسرعان ما جرت الأمور بمقادير الله تعالى ، بغير ما كنا نقدر أو نتصور فقتل أبو عصام رحمه الله ، ثم اعتقل الشيخ عارف وقتل رحمه الله ، ثم سلَّمَ الملك حسين أبا حسن الى صدام ، فقتله .
وانتصرت الثورة في إيران، فاندفع السيد الصدر رحمه الله في تأييدها ، فقتل.
ولم نكن نعلم أن كل مرحليتنا وتنظيراتنا كان بعضها خيالياً طوبائياً ، وبعضها واقعياً ، لكن الأحداث درفتها جميعاً .
لم نكن نعلم أنا على عتبة حرب يشنها البعثيون على إيران دامت ثمان سنوات ، واخترعوا منها المبرر تلو المبرر ، لإبادة الدعوة ، والحوزة والمرجعية ، والشيعة في العراق ، حتى قال صهر صدام وهو يضرب بمدفعية دباته الحرم الحسيني في كربلاء: لاشيعة بعد اليوم !
لقد قرع بقوله أسماعنا التي أصيبت بالصمم ، وقال لنا إن الواقع طائفي وليس إسلامياً ، وإن السياسة الفاعلة سياسة الإبادة الأموية ، لاخيالاتكم بإقامة دولة الخلافة ، وأمنياتكم بالوحدة مع جلادين طائفيين !
* *
----------------------- [ 284 ] -----------------------
حجج أصحاب الإتجاهات الثلاثة
لمحة عن أدلة الإتجاهات الثلاثة المتقدمة
لكل واحد من هذه الإتجاهات الثلاثة ، أدلته وحججه: الإصلاحي التقليدي . والثوري الحزبي ، أوبتسمية أبي عصام: الإنقلابي التغييري . واتجاه الإنقلاب العسكري . وفي كلٍّ من هذه الحجج والنقود مسائل وبحوث ، فقهية ، وتاريخية وسياسية كثيرة ، ونكتفي هنا بذكر لمحة عنها.
1- حجة أصحاب الإتجاه الإصلاحي التقليدي
يحتج أصحاب الإتجاه الإصلاحي التقليدي في الحوزة بأمور:
1- أحاديث الأئمة عليهم السلام المتواترة في تحريم الخروج على الحكام ، والسعي الى الحكم ، قبل ظهور الإمام المهدي#. وقد عقد لها الحر العاملي رحمه الله في وسائل الشيعة (11/35) أبواباً ، منها: باب حكم الخروج بالسيف قبل قيام القائم عليه السلام روى فيه سبعة عشر حديثاً ، وفيها المتفق على صحته . منها قول الإمام الصادق عليه السلام :« ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقاً ، إلا اصطلمته البلية ، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا ». وباب: «من يجوز له جمع العساكر والخروج بها إلى الجهاد » . وباب: « اشتراط وجوب الجهاد بأمر الإمام عليه السلام وإذنه ، وتحريم الجهاد مع غير الإمام العادل ». وروى فيها عدداً من الأحاديث .
2- إن خط الحوزة الذي سار عليه مراجع الطائفة وفقهاؤها ورواتها ، من عصرالأئمة عليهم السلام الى عصرنا هذا ، أنهم كانوا يتعايشون مع حكام عصورهم مهما كانوا ، وكانوا يقيمون مع الحاكم ووزرائه وموظفيه علاقات حسنة ، متجنبين
----------------------- [ 285 ] -----------------------
معاونتهم على الظلم ، ناصحين لهم عندما يأملون نفع النصح ويأمنون ضرره ، تطبيقاً لقوله تعالى: إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ .
وهذه السيرة دليل على أنه لايجب على المرجعية أن تعمل لتسلم الحكم ولا لإقامته. فلو كان واجباً لما تركه أولئك الأتقياء الأبرار عبر التاريخ !
3- المتفق عليه بين فقهاء المذهب أن منصب المرجع منصب خبير في الشريعة ، له حق الإفتاء والقضاء والأمور الحسبية . وقد حاول بعض الفقهاء أن يثبتوا أن المرجعية ليست منصباً خبروياً فقط ، بل منصب قيادي سياسي ، لكن الأدلة التي ذكروها لا تكفي لإثبات ذلك .
وقد بحث فقهاؤنا مسائل ولاية الفقيه في باب الإجتهاد والتقليد ، وفي أماكن أخرى من كتب الفقه الإستدلالي .
قال المرجع الميرزا النائيني رحمه الله : « لا إشكال في ثبوت منصب القضاء والإفتاء للفقيه في عصر الغيبة ، وهكذا ما يكون من توابع القضاء كأخذ المدعى به من المحكوم عليه ، وحبس الغريم المماطل ، والتصرف في بعض الأمور الحسبية ، كحفظ مال الغائب والصغير ونحو ذلك . وإنما الإشكال في ثبوت الولاية ».(تقريرات أبحاثه- شرح المكاسب للخوانساري:2/232).
وقال المرجع السيد الخوئي رحمه الله : «وقد ذكرنا في الكلام على ولاية الفقيه من كتاب المكاسب أن الأخبار المستدل بها على الولاية المطلقة قاصرة السند أو الدلالة وتفصيل ذلك موكول إلى محله. نعم يستفاد من الأخبار المعتبرة أن للفقيه ولاية في موردين وهما الفتوى والقضاء . وأما ولايته في سائر الموارد فلم يدلنا عليها رواية تامة الدلالة والسند».(الاجتهاد والتقليد للسيد الخوئي/419)
----------------------- [ 286 ] -----------------------
وفي صراط النجاة من فتاوى المرجعين السيد الخوئي والميرزا التبريزي:1/10: «سؤال1: هل هناك إجماع من علمائنا المراجع المتقدمين والمتأخرين على ولاية الفقيه؟وضحوا لنا ليتبين لنا من سماحتكم حقيقة المسألة عند علمائنا الأعلام الذين أفتوا بولاية الفقيه في عصر غيبة قائم آل محمد#.
الخوئي: أما الولاية على الأمور الحسبية كحفظ أموال الغائب واليتيم ، إذا لم يكن من يتصدى لحفظها كالولي أو نحوه ، فهي ثابتة للفقيه الجامع للشرائط ، وكذا الموقوفات التي ليس لها متولٍّ من قبل الواقف ، والمرافعات فإن فصل الخصومة فيها بيد الفقيه ، وأمثال ذلك ، وأما الزائد على ذلك فالمشهور بين الفقهاء عدم الثبوت ».
4- أن الله تعالى يستحيل أن يعطي الحكم على عباده لإنسان غير معصوم لأن منصب الحاكم يضغط على أعصاب الإنسان مهما كان فيفقده العدالة ، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام : «السكر أربع سكرات:سكر الشراب، وسكر المال، وسكر النوم، وسكر الملك»! (معاني الأخبار/365، والخصال/636). فالدولة التي يرأسها غير المعصوم عليه السلام لا تحقق هدف العدالة التي يريدها الله تعالى ، وبالتالي ستكون كغيرها من الدول الزمنية .
5- أن الأئمة عليهم السلام لم يعملوا لتسلم السلطة ، ولا أجازوا لأحد أن يعمل بإسمهم . وقد صرحوا عليهم السلام بأن منهجهم عدم العمل لتسلم السلطة ، مع أنه كان ميسوراً لهم ، بل قدمت اليهم الخلافة على طبق من ذهب فرفضوه! وتواترت أحاديثهم في أن دولتهم ستكون على يد المهدي الموعود عليه السلام فقط.
----------------------- [ 287 ] -----------------------
أما أمير المؤمنين عليه السلام فهو استثناء لأنه حكم بأمر النبي عليهما السلام ، والإمام الحسن عليه السلام كان حكمه لستة أشهر ، وهو امتدادٌ لحكم أبيه صلى الله عليه وآله .
وقد صح أن الإمام زين العابدين عليه السلام لم يُجز ثورة التوابين ولا المختار ، ولا قبل قيادة الدولة بعد انتصار المختار ، وكانت تشمل العراق وأكثر إيران ، وإن شكر المختار وكل من طلب بثأر أبيه صلى الله عليه وآله ، ودعا لهم .
كما رفض الإمام الصادق عليه السلام أن يتسلم الخلافة بعد انتصار ثورة أبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال ، وقد حبسوا العباسيين مدة في الكوفة ولم يبايعوهم ، وراسلوا الإمام الصادق عليه السلام وحاولوا إقناعه بالقبول ، فلم يقبل! وعلل رفضه بأن قادة الثورة ليسوا متدينين ولا مطيعين له ، ولأنه لايوجد (كوادر) مؤمنة كفوءة تطيعه وتدير الحكم معه ، ثم تديره من بعده!
قال الشهرستاني في الملل والنحل:1/154: «وكان أبو مسلم صاحب الدولة على مذهب الكيسانية في الأول ، واقتبس من دعاتهم العلوم التي اختصوا بها ، وأحس منهم أن هذه العلوم مستودعة فيهم ، فكان يطلب المستقر فيه، فبعث إلى الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنهما إني قد أظهرت الكلمة ودعوت الناس عن موالاة بني أمية الى موالاة أهل البيت ، فإن رغبت فيها فلا مزيد عليك، فكتب إليه الصادق رضي الله عنه: ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني ! فحاد أبو مسلم إلى أبي العباس عبدالله بن محمد السفاح وقلده أمر الخلافة ».
وفي الكافي:8/274: «عن الفضل بن سليمان الكاتب ، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فأتاه كتاب أبي مسلم فقال: ليس لكتابك جواب ، أخرج عنا! فجعلنا يُسَارُّ بعضنا بعضاً ، فقال: أي شئ تسارُّون؟ يا فضل إن الله عز ذكره لايعجل
----------------------- [ 288 ] -----------------------
لعجلة العباد ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله. ثم قال: إن فلان بن فلان ، حتى بلغ السابع من ولد فلان. قلت فما العلامة فيما بيننا وبينك جعلت فداك؟ قال: لاتبرح الأرض يا فضل حتى يخرج السفياني ، فإذا خرج السفياني فأجيبوا الينا يقولها ثلاثاً ، وهو من المحتوم ».
وقال المسعودي في مروج الذهب/890: « وأخفى أبو سَلَمة أمر أبي العباس ومن معه، ووكل بهم وكيلاً ، وكان قدوم أبي العباس الكوفة في صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، وفيها جرىَ البريد بالكتب لولد العباس ، وقد كان أبو سَلَمة لما قُتل إبراهيم الإمام خاف انتقاض الأمر وفساده عليه ، فبعث بمحمد بن عبد الرحمن بن أسلم وكان أسلم مولىً لرسول اللهّ عليهما السلام وكتب معه كتابين على نسخة واحدة إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وإلى أبي محمد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، يدعو كلَّ واحد منهما إلى الشخوص إليه ليصرف الدعوة إليه ، ويجتهد في بيعة أهل خراسان له ، وقال للرسول: العَجَلَ العَجَلَ فلا تكونَنَّ كوافد عاد (بعثوه فاختار لهم سحابة سوداء ، فكانت عليهم لا لهم) فقدم محمد بن عبد الرحمن المدينة على أبي عبد الله جعفربن محمد فلقيه ليلاً، فلما وصل إليه أعلمه أنه رسول أبي سَلَمة ودفع إليه كتابه فقال له أبو عبد الله:وما أنا وأبو سَلَمة وأبو سَلَمة شيعة لغيري! قال: إني رسول فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت . فدعا أبو عبد الله بسراج ثم أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتى احترق ، وقال للرسول: عرِّف صاحبك بما رأيت! ثم أنشأ يقول متمثلاً بقول الكميت بن زيد رحمه الله :
أيا مُوقِداً ناراً لغيرك ضوؤها ويا حاطباً في غير حبلك تحطب
----------------------- [ 289 ] -----------------------
فخرج الرسول من عنده ، وأتى عبد الله بن الحسن فدفع إليه الكتاب فقبله وقرأَه وابتهج به ، فلما كان من غد ذلك اليوم الذي وصل إليه فيه الكتاب ، ركب عبد الله حماراً حتى أتى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، فلما راه أبو عبد الله أكبر مجيئه ، وكان عبد الله أسَنِّ من أبي ـعبد الله فقال له: يا أبا محمد أمْرٌ ما أتى بك ! قال: نعم وهوأجَلُّ من أن يوصف ، فقال: وما هو يا أبا محمد. قال: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما أقبله وقد قدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان! فقال له أبو عبد الله: يا أبا محمد ومتى كان أهل خراسان شيعة لك؟! أأنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان وأنت أمرته بلبس السواد ؟وهؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وَجَّهت فيهم وهل تعرف منهم أحداً ؟!
فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام إلى أن قال: إنما يريد القوم ابني محمداً لأنه مهديُّ هذه الأُمة ، فقال أبو عبد الله جعفر: والله ما هو مهدي هذه الأُمة ولئن شهر سيفه ليقتلن ، فنازعه عبد اللهّ القول حتى قال له: والله ما يمنعك من ذلك إلا الحسد ! فقال أبو عبد الله عليه السلام : والله هذا نصح مني لك ، ولقد كتب اليَّ أبو سلمة بمثل ما كتب به اليك ، فلم يجد رسوله عندي ما وجد عندك ، ولقد أحرقْتُ كتابه من قبل أن أقرأه ، فانصرف عبد الله من عند جعفر مغضباً ». وينابيع المودة:3/161،والمناقب:3/356 ، وذكر فيه مجئ أبي مسلم الخراساني الى الإمام الصادق عليه السلام في المدينة.
وفي الكافي:2/242: «باب في قلة عدد المؤمنين..عن سدير الصيرفي قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت له: والله ما يسعك القعود ! فقال: ولمَ يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك ، والله لو كان لأمير المؤمنين عليه السلام ما لك من الشيعة والأنصار والموالي ، ما طمع فيه تيمٌ ولا عديٌّ !
----------------------- [ 290 ] -----------------------
فقال: يا سدير وكم عسى أن يكونوا؟ قلت: مائة ألف ، قال: مائة ألف؟! قلت: نعم، ومائتي ألف ! قال: مائتي ألف! قلت: نعم ونصف الدنيا !
قال فسكت عني ثم قال: يخف عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع؟ قلت: نعم ، فأمر بحمار وبغل أن يُسْرجا فبادرت فركبت الحمار فقال: يا سدير أترى أن تؤثرني بالحمار؟ قلت: البغل أزين وأنبل ! قال: الحمار أرفق بي ، فنزلت فركب الحمار وركبت البغل ، فمضينا فحانت الصلاة ، فقال: يا سدير إنزل بنا نصلي ، ثم قال: هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فيها ، فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء فقال: والله ياسدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود! ونزلنا وصلينا فلما فرغنا من الصلاة،عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر) !
ومعنى ذلك أن إقامة دولة العدل وتطبيق أحكام الإسلام ، تحتاج على الأقل الى بضعة عشر شخصية ، يكون الواحد منهم بكفاءة قادة ثورة العباسيين مثل بكير بن ماهان وأبي سلمة الخلال وأبي مسلم الخراساني ، وبفقه زرارة وأبي بصير ومحمد بن مسلم وتقواهم ، وبشجاعة قحطبة بن شبيب وزملائه ! وحيث لايوجد هؤلاء ، فستكون القيادة في واد ووزراؤها وعمالها في واد آخر! وإذا أراد القائد إصلاحهم قاوموه ، وإذا سَلِمَ من مؤامراتهم تصارعوا على النفوذ في حياته، وظهر ذلك عند وفاته ، وعاد الظلم والجور كما كان وأشد!
ولهذا ادَّخر الله تعالى للإمام المهدي عليه السلام أصحاباً خاصين ، يجمعهم له في ليلة واحدة ، من أقاصي الأرض وأدانيها ، فيقيم بهم دولة العدل الإلهي !
2- حجة أصحاب الإتجاه الثوري الإنقلابي
1- ويجيب أصحاب الإتجاه الثوري الإنقلابي: بأن الشيعة كانوا أقلية مستضعفة في الأرض ، يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم ، فلم يكن عندهم خيار إلا
----------------------- [ 291 ] -----------------------
التعايش مع الحكام ، ولم يكن لهم قدرة على الخروج وإقامة حكم إسلامي . فسيرة الفقهاء والمراجع على عدم الخروج والثورة سببها عدم القدرة ، وليس عدم جواز أو عدم وجوب إقامة الدولة .
قال السيد الخميني رحمه الله : «المستفاد من المقبولة كما ذكرناه ، هو أن الحكومة مطلقاً للفقيه ، وقد جعلهم الإمام عليه السلام حكاماً على الناس .
ولا يخفى أن جعل القاضي من شؤون الحاكم والسلطان في الإسلام ، فجعل الحكومة للفقهاء مستلزم لجواز نصب القضاة ، فالحكام على الناس شأنهم نصب الأمراء والقضاة وغيرهما مما تحتاج إليه الأمة.. فالقول بأن الأخبار في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية والقضاء بين الناس ساقط.. وتخصيصها بالقضاء لاوجه له ، بعد عموم اللفظ ومطابقة الإعتبار ، والإنصراف لو كان فهو بَدْوي ، ينشأ من توهم كون مورد المقبولة هو القضاء ». (كتاب الإجتهاد والتقليد/53).
وقال السيد الخامنئي في أجوبة الإستفتاءات:1/23: « س64: ما هو تكليفنا تجاه الأشخاص الذين لايرون ولاية الفقيه العادل إلا في الأمور الحسبية فقط ؟ علماً بأن بعض ممثليهم يشيعون ذلك أيضاً ؟
ج: ولاية الفقيه في قيادة المجتمع وإدارة المسائل الإجتماعية في كل عصر وزمان ، من أركان المذهب الحق الإثني عشري ، ولها جذور في أصل الإمامة . ومن أوصله الإستدلال إلى عدم القول بها فهو معذور، ولكن لا يجوز له بث التفرقة والخلاف». انتهى.
----------------------- [ 292 ] -----------------------
وينبغي التنبيه على أن الفقهاء القائلين بولاية الفقيه والنافين لها ، متفقون على أن من مهام المرجعية وواجباتها: التوعية الدينية ، وتبليغ الأحكام ، ونُصح الحاكم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد الدفاعي إذا تعرض بلد مسلم لخطر خارجي وأمكن مقاومة المحتل .
فالخلاف بين الإتجاهين: في العمل السياسي والثورة لإقامة حكم إسلامي، وفي تسلم المرجع للسلطة مباشرة ، أو بقائه موجهاً ناصحاً فقط .
ويتصور البعض أن هذين الإتجاهين الفقهيين يوجبان الصراع بين الشيعة لأن من يقول بولاية الفقيه يرى أن الفقيه المتصدي له ولاية على المسلمين ، ويجب على المراجع ومقلديهم طاعته ، ويجب دفع الخمس اليه دون غيره .
بل يضيفون إن ولايته متفرعة عن ولاية النبي عليهما السلام والأئمة عليهم السلام ، فهي مسألة عقائدية ، وليست فقهية محضة ، كما يرى أصحاب الإتجاه الثاني .
لكن الواقع هو التعايش الطبيعي بين أصحاب الإتجاهين ، فكل منهما يعذر الآخر في اجتهاده ، والولي الفقيه يطاع في البلد الذي يحكم فيه .
كما أن الفقيه ولي الأمر ، يتعامل مع المقلدين لغيره بسعة صدر ، فهم يرجعون الى مراجعهم في فتاواهم ، ويدفعون اليهم الحقوق الشرعية .
ونموذج ذلك العلاقة الطيبة بين المرجعين السيد السيستاني والسيد القائد الخامنئي التي انعكست بين مقلديهما ، مع أن السيد الخامنئي يقول بولاية الفقيه المطلقة ، والسيد السيستاني لايقول بذلك ، وقد أفتى بأن يحكم الشعب العراقي نفسه عن طريق الإنتخابات ، وأعطى الشرعية لمن ينتخبه الناس، ونصح طلبة العلم أن لايدخلوا في مؤسسات الحكم إلا للضرورة.
----------------------- [ 293 ] -----------------------
2- وأجاب أصحاب الإتجاه الثوري على الأحاديث التي تنهى عن الخروج قبل الظهور ، وتصف صاحب رايته بأنه طاغوت ، بأنها تقصد الرايات المعادية لأهل البيت عليهم السلام ، ولا تقصد الذين هم في خطهم عليهم السلام .
« فمراده بالراية هنا الراية الداعية إلى النفس في قبال الحق ، وبعبارة أخرى: الراية الواقعة في قبال القائم لا في طريقه ومسيره وعلى منهجه. ولذا عبر عنها بالطاغوت وعقبها بكونها معبودة من دون الله . ويؤيد ذلك قول أبي جعفر عليه السلام في حديث على ما في الروضة: وإنه ليس من أحد يدعو إلى أن يخرج الدجال إلا سيجد من يبايعه ، ومن رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت . فقيد الراية بالضلالة .
ولو قيل بأن الظاهر من الحديث تشخيص القيام الباطل بحسب الزمان لا بحسب الهدف ، وأن الملاك في بطلان القيام كونه بحسب الزمان قبل قيام القائم ، والعموم استغراقي ، فلا يجوز القيام مطلقاً بأي هدف وقع .
قلنا: أولاً: إنه من المحتمل أن تكون القضية خارجية ، ويكون المراد رفع رايات خاصة بصفات خاصة كانت مورداً للبحث ، إذ يبعد جداً صدور هذا الكلام عن الإمام عليه السلام ارتجالاً.
وثانياً: إن الصحيحة على هذا معارضة بصحيحة عيص وغيرها ، مما دل على تقديس قيام زيد وأمثاله مما كان للدعوة إلى الحق ، ومنها قيام الحسين بن علي شهيد فخ ، وقد قام في خلافة موسى الهادي ، ولم يعرف من أئمتنا عليهم السلام رواية تدل على قدحه ». (دراسات في ولاية الفقيه:1/237 ).
----------------------- [ 294 ] -----------------------
3- وأجابوا على دعوى أن الأئمة عليهم السلام لم يعملوا لتسلم الحكم ، بأنهم عليهم السلام عملوا لذلك ، ولكنهم لم يقبلوا أن يكون حكمهم شكلياً لايطبق أحكام الإسلام وعدالته، وأن سبب عدم تسلمهم للحكم عدم وجود الوزراء الأكفاء، فقد قال سدير الصيرفي للإمام الصادق عليه السلام : «والله ما يسعك القعود! فقال: ولم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك. والله لو كان لأمير المؤمنين عليه السلام مالك من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم ولا عدي! فقال: يا سدير وكم عسى أن تكونوا ؟ قلت: مئة ألف، قال: مئة ألف..فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء فقال: والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود!ونزلنا وصلينا فلما فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر.. وليس مراد الإمام مطلق من يسمى بالشيعة بل مراده الشيعة بمعناها الواقعي..وهم قليلون جداً »(دراسات في ولاية الفقيه:1/230).
4- وأجابوا على استحالة أن يسلم الله عباده بيد إنسان غير معصوم ، بأنا لانسلم ذلك ، ولانسلم بأن منصب الحكم يضغط على أعصاب كل الناس فيخرجهم عن العدالة ، فلذلك استثناءات كثيرة .
وأجابوا عن عدم إمكان تحقيق العدالة الكاملة من الدولة التي يقيمها الفقهاء ، بأن ذلك لا يسقط عنهم إقامة الدولة لتحقيق العدالة النسبية .
وأجابوا عن عدم عمل الأئمة عليه السلام للوصول الى الحكم ، وعدم قبولهم تسلمه عندما قدم اليهم ، بأن شروطه لم تكن متوفرة يومها .
----------------------- [ 295 ] -----------------------
وأوسع ما كتب تنظيراً لولاية الفقيه وإقامة الدولة بقيادته ، بحوث الشيخ المنتظري رحمه الله ، وقد ناقش روايات النهي عن القيام قبل ظهور الإمام#، وذكر عشرة أدلة على وجوب إقامة الدولة الإسلامية بقيادة الفقيه ، وفيها بحث ومناقشات ، لايتسع لها المجال .
3- حجة الحركيين على قيادة غير الفقيه
يقول أصحاب الإتجاه الحركي: إن العمل للإسلام لايحتاج الى دليل ، لأنه عمل لإعادة الأمة الى الحياة الإسلامية ، والدولة الإسلامية ، وهو واجب جميع المسلمين. ألم يقل الله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ، كما قال: وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ ؟! والخطاب لكل المسلمين والفريضة عليهم جميعاً ، فأي مسلم تقدم وتصدى لفريضة إقامة الدين ، كان له حق قيادة الأمة .
ويجيبهم الآخرون: هذا الكلام من قلة الفقه ، فإقامة الدين واجب على الجميع ، ولكن ليس واجباً مهملاً بدون آلية ! بل من المحال أن ينزل الله تعالى ديناً ثم يقول لأتباعه: كل من تصدى منكم فهو قائد شرعي ، وهو يمثلني! لأنه سيتصدى كثيرون ويتنافسون ، ويتقاتلون على السلطة !
فلا يقبل العقل أن ينزل الله ديناً من دستور وقوانين ، ثم يجعل تفسيره وتطبيقه مشاعاً لكل من تصدى لقيادة الناس به ؟! ولا يأذن لكل إنسان أن يدعو الى الإسلام ويقيم دولته بإمرته ! لأنه ستتعدد الحركات الإسلامية في العالم وفي البلد الواحد والحي الواحد ؟! فلا يعقل أن يأذن الله تعالى لهم كلهم ويعطيهم الشرعية ويدعوهم الى الصراع على الحكم ؟!
----------------------- [ 296 ] -----------------------
وقد رويتم أن هذا الحق محصور في أعلم الأمة وأفقهها ، وأن النبي عليهما السلام سمى الدعاة الجهلة ضالين متكلفين، فقال: «من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه ، فهو ضال متكلف »!
وفي الإحتجاج:2/118: «عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال: كنت عند أبي عبد الله بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة، فيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطا ، وحفص بن سالم ، وأناس من رؤسائهم وذلك أنه حين قتل الوليد ، واختلف أهل الشام بينهم فتكلموا فأكثروا وخطبوا فأطالوا. فقال لهم أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام : إنكم قد أكثرتم علي فأطلتم ، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم ، فليتكلم بحجتكم وليوجز .
فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فأبلغ وأطال فكان فيما قال: قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب الله بعضهم ببعض ، وتشتت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين وعقل ومروة ومعدن للخلافة وهو محمد بن عبد الله بن الحسن فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ، ثم نظهر أمرنا معه ، وندعو الناس إليه ، فمن بايعه كنا معه وكان منا ، ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغيه ونرده إلى الحق وأهله .
وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك ، فإنه لاغنى بنا عن مثلك ، لفضلك ولكثرة شيعتك . فلما فرغ ، قال أبو عبد الله عليه السلام : أكلكم على مثل ما قال عمرو؟ قالوا: نعم. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي عليهما السلام ثم قال: إنما نسخط إذا عصي الله ، فإذا أطيع الله رضينا ، أخبرني يا عمرو لو أن الأمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة ، فقيل لك: ولِّها من شئت، من كنت تولي؟ قال: كنت أجعلها
----------------------- [ 297 ] -----------------------
شورى بين المسلمين . قال: بين كلهم؟ قال: نعم . فقال: بين فقهائهم وخيارهم ؟ قال: نعم . قال: قريش وغيرهم؟ قال: العرب والعجم . قال: فأخبرني يا عمرو أتتولى أبا بكر وعمر أو تتبرأ منهما ؟ قال: أتولاهما . قال: يا عمرو إن كنت رجلاً تتبرأ منهما ، فإنه يجوز لك الخلاف عليهما ، وإن كنت تتولاهما فقد خالفتهما ، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحداً ، ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحداً ، ثم جعلها عمر شورى بين ستة ، فأخرج منها الأنصار غير أولئك الستة من قريش ، ثم أوصى الناس فيهم بشئ ما أراك ترضى أنت ولا أصحابك. قال:وما صنع؟ قال: أمر صهيباً أن يصلي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم إلا ابن عمر ويشاورونه ، وليس له من الأمر شئ ، وأوصى من كان بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيام ولم يفرغوا ويبايعوه أن يضرب أعناق الستة جميعاً ، وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الإثنين ! أفترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين ؟ قالوا: لا. قال: يا عمرو دع ذا ، أرأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إليه ، ثم اجتمعت لكم الأمة ولم يختلف عليكم منها رجلان ، فأفضيتم إلى المشركين الذين لم يسلموا ولم يؤدوا الجزية كان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيهم بسيرة رسول الله عليهما السلام في المشركين في الجزية ؟ قالوا: نعم . قال: فتصنعون ماذا ؟ قالوا: ندعوهم إلى الإسلام فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية . قال: فإن كانوا مجوساً ، وأهل كتاب ، وعبدة النيران والبهائم وليسوا بأهل كتاب؟ قالوا:سواء ؟ قال: فأخبرني عن القرآن أتقرأونه؟ قال:نعم. قال: إقرأ: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
----------------------- [ 298 ] -----------------------
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . (التوبة:29) . قال: فاستثنى الله عز وجل واشترط من الذين أوتوا الكتاب فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء. قال: نعم .قال عليه السلام : عمن أخذت هذا؟ قال: سمعت الناس يقولونه. قال: فدع ذا ، فإنهم إن أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة ؟ قال: أخرج الخمس وأقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليها . قال: تقسمه بين جميع من قاتل عليها ؟قال: نعم .قال: فقد خالفت رسول الله عليهما السلام في فعله وفي سيرته ، وبيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم ، فسلهم فإنهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أن رسول الله إنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ، وأن لا يهاجروا ، على أنه إن دهمه من عدوه دهم فيستفزهم فيقاتل بهم ، وليس لهم من الغنيمة نصيب ، وأنت تقول بين جميعهم، فقد خالفت رسول الله عليهما السلام في سيرته في المشركين.
دع ذا، ما تقول في الصدقة؟ قال: فقرأ عليه هذه الآية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . (التوبة:60). قال: نعم فكيف تقسم بينهم؟قال: أقسمها على ثمانية أجزاء فأعطي كل جزء من الثمانية جزء . فقال عليه السلام : إن كان صنف منهم عشرة آلاف ، وصنف رجلاً واحداً أو رجلين أو ثلاثة ، جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف . قال: نعم . قال: وما تصنع بين صدقات أهل الحضر وأهل البوادي ، فتجعلهم فيها سواء ؟ قال: نعم . قال: فخالفت رسول الله عليهما السلام في كل ما أتى به ، كان رسول الله يقسم صدقة البوادي في أهل البوادي ، وصدقة الحضر في أهل الحضر ، ولايقسم بينهم بالسوية ، إنما يقسمه قدر ما يحضره منهم ، وعلى قدر ما يحضره ، فإن كان في نفسك شئ مما
----------------------- [ 299 ] -----------------------
قلت لك فإن فقهاء أهل المدينة ، ومشيختهم كلهم لا يختلفون في أن رسول الله كذا كان يصنع !
ثم أقبل على عمرو وقال: إتق الله يا عمرو وأنتم أيها الرهط فاتقوا الله ، فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض ، وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله عليهما السلام أن رسول الله عليهما السلام قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه ، فهو ضال متكلف »!
أقول: أراد الإمام عليه السلام أن يوصل هؤلاء الثوريين الى شرط العلم في القيادة وأنهم فاقدون لهذا الشرط ، لأن علمهم ظنون واحتمالات ورجمٌ بالغيب ! فلا يوجد هذا الشرط إلا في أئمة أهل البيت عليهم السلام .
ولكنهم لم يكونوا جادين في طلبهم للعلم ، ولو وصلوا الى هذه النقطة ، لأقروا بأنهم حملة ظنون وأن العلم القطعي عند أهل البيت عليهم السلام ، ولعرفوا أنهم جاؤوا الى منبع العلم القطعي يطلبون منه أن يبايع أصحاب الظنون !
4- مقولة: لا تقليد في العقائد
من المقولات التي يرددها الذين يريدون للمسلم أن لايتقيد برأي مراجع الدين ، أنهم يقولون له:لايجوز التقليد في أصول الدين . وهي مقولة صحيحة في أصول العقائد وكلياتها التي يتوصل اليها العقل البشري بفطرته وبدهياته ، كالإعتقاد بأصل وجود الله تعالى ، والحياة الآخرة ، ونبوة نبينا عليهما السلام ، فعلى كل إنسان أن يصل اليها بنفسه ، وبعملياته العقلية .
أما تفاصيل هذه العقائد وحدودها وأحكامها ، كصفات الله تعالى وما يجوز عليه عز وجل وما لايجوز ، وحدود عصمة النبي عليهما السلام ، وحدود وجوب إطاعته ،
----------------------- [ 300 ] -----------------------
وتفاصيل الموت والبرزخ ، والبعث والحساب ، والجنة والنار ، والعديد من أصول الإمامة وتفاصيلها ، والكثير الكثير من الإجابات على تساؤلات الإنسان في الشريعة والعقيدة.. فهذه لاتعرف إلا بالتقليد والرجوع الى أهل الإختصاص ، وهم مراجع التقليد ، والعلماء المتخصصون الذين يرتضي المرجع أفكارهم .
والدليل على ذلك أن عموم أدلة وجوب الرجوع الى المرجع الخبير ، وقد نصَّ بعضها على العقائد ، وبعضها فيه عموم لها ، كإرجاع الأئمة الناس الى علماء ليأخذوا منهم (معالم دينهم) ومعالم الدين تشمل العقائد والأحكام .
ففي وسائل الشيعة: (27/146) بسند صحيح: «عن علي بن المسيب الهمداني قال: قلت للرضا عليه السلام : شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت ، فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا ابن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا . قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم ، فسألته عما احتجت إليه ».
وقد عقد في الوسائل:27/136، باباً بعنوان: وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة ، روى فيه 48 حديثاً .
ومعنى التقليد فيها ، مساعدة العقل على الوصول الى أصول العقائد ، والتقليد في تفاصيلها ، وأحكامها .
وينبغي الإلفات الى أن الذين ينفون التقليد في العقائد ، يدعون الى تعويم الإجتهاد في عقائد الإسلام ، وفتحه للعوام غير المتخصصين! بل يدعون المسلمين الى تقليدهم هم بدل الفقهاء والمتخصصين !
* *
----------------------- [ 301 ] -----------------------
الفصل الحادي عشر: من هم أوعى: الحركيون منا أم التقليديون ؟
1- أين كنا وأين صرنا ؟
كان مشروع الشهيد أبي عصام رحمه الله إقامة الدولة الإسلامية العالمية بدءً بالعراق. وعمدة المشروع المرحلة الفكرية التغييرية الإنقلابية ، بتعابيره ، التي يتوقف عليها كل المشروع ، لأنها بناء أمة واعية من الأمة ، تحت الأرض، ثم مفاجأة السلطة والمستعمر بظهورها الى العلن وأخذها الحكم! فلا يجوز الخروج من المرحلة الفكرية إلا بعد استكمال مقوماتها .
أما لو بُعث أبو عصام رحمه الله اليوم ، وبعد أكثر من نصف قرن ، ونظر الى وضع مشروعه ، لأخذه العجب ، وتساءل غاضباً ماذا جرى ؟!
يقول له الدعاة: جرت بعدك أحداث يا أبا عصام، فقد استشهد صاحبك الشيخ عارف ورفقاؤه رحمهم الله ، ثم انتصرت ثورة الإمام الخميني رحمه الله في إيران وأيدناها ، فضاعفت السلطة من اضطهادنا وسجننا وتقتيلنا .
ثم قام الطاغية صدام بقتل فقيهنا الشهيد الصدر رحمه الله ، وأشعل نار الحرب على إيران لمجرد أنها ثورة إسلامية ، فوقفنا الى جانب إيران ، واضطررنا أن نعلن انتهاء المرحلة الفكرية ، وندخل في المرحلة السياسية .
فيقول أبو عصام: وكيف جعلتم مناصرة إيران على صدام ، مبرراً للخروج من المرحلة الفكرية قبل استكمال مقوماتها ؟!
----------------------- [ 302 ] -----------------------
ثم يُخبرونه: لقد أوقف الطاغية الحرب لكن بعد أن دمَّر العراق وإيران !
ثم شن حرباً على الكويت واحتلها ، فاستنفرت أمريكا والدول الغربية وحاربوه وأرغموه على الخروج من الكويت والخضوع لشروطهم !
وقد حاول الشعب العراقي استغلال فرصة هزيمة صدام ، فكانت انتفاضة شعبية عارمة واسعة ، لكن أمريكا ودول الجوار خافوا من مجئ حكم شيعيٍّ موالٍ لإيران ، فساعدوا صداماً على شعبه ، فقمع انتفاضتنا بوحشية ، وزرع العراق بالمقابر الجماعية من خيرة أبناء شعبه !
ثم اعتقدت أمريكا أنه لايمكن التعايش مع صدام ، ويجب إسقاط نظامه بالقوة ، فأعلنت الحرب عليه وأسقطته ، واحتلت العراق من أقصاه الى أقصاه ، فكانت فرصة أخرى لنا .
وقد عملنا لاستثمار هذه الفرصة كغيرنا من القوى السياسية ، فالتقينا مع الأمريكان قبيل احتلالهم للعراق وبعده ، وسافر بعض قادتنا الى أمريكا يحاول أن يكون لنا دور في حكم العراق ، فكانت النتيجة أن الأمريكان أشركونا في مجلس الحكم ، ثم اشتركنا في البرلمان ، وفي الدولة .
وهكذا دخلنا في لعبة الديمقراطية بجواز أمريكي ، واعتمدنا في شرعية عملنا على فتوى المرجعية التقليدية ، فقد أفتت بشرعية الحكم المنتخب من الناس وجواز المشاركة فيه ، حتى لو كان في ظل احتلال أجنبي .
يقول أبو عصام: ماذا تقولون أيها الدعاة ، كأني أسمع مناماً أو خيالات !
----------------------- [ 303 ] -----------------------
فيجيبونه : سَمِّهَا ما شئت أيها القائد المؤسس ، فهذا ما حدث بعدك !
يقول أبو عصام: لم أعد أفهم كلامكم! فقد كان مشروعنا الدعوة الى دولة إسلامية عالمية ، تحكم بالإسلام على نمط الخلافة الإسلامية ، وتقاوم الإستعمار الغربي والحكومات التابعة لها في بلاد المسلمين .
وكنا نَسْخَرُ من الوصول الى الحكم بانقلاب عسكري ، بقطار أنكلو- أمريكي ، كما اعترف أمين سرحزب البعث على صالح السعدي .
ولم نقبل المشاركة في انقلاب تسكت عنه الدول الغربية لأنه يطمئنها ، كما كانت محاولة المرحوم محمد رشيد الجنابي ، والسيد مهدي الحكيم ، ومسعود البرزاني . وقد حاول يومها السيد محمد باقر الصدر أن يقنعني بالمشاركة فيه ، فلم أقبل بوجه من الوجوه !
واليوم تقولون إنكم تشاركون باسم الدعوة في نظام حكم غير إسلامي وبجواز أمريكي ، وبفتوى المرجعية ، ونحن نعتبر أن مشاركة الإسلاميين في أنظمة الحكم القائمة حتى في برلمانتها ، انحرافاً خطيراً !
إن عملكم هذا طيَّ للمراحل لكن الى الوراء ، ونحن لم نقبل بطيها الى الأمام ! يبدو لي أنكم مخطئون في العمق ، وأن المرجعية المحترمة مخطئة ؟!
دعوني، دعوني، حتى أعيد النظر في مشروعنا، بل في أسسه قبل تفاصيله، فكلامكم يدل على أن في مشروعنا خللاً ، وكأن وعينا كان لا وعياً ؟!
----------------------- [ 304 ] -----------------------
2- الصادق مع ربه لا مشكلة عنده
إذا اعتقدتَ أن هذا الطريق يؤدي الى رضا الله تعالى فسلكته سنين طويلة ثم اكتشفت خطأك . فهل تعترف بذلك وتصحح مسارك ، أم تصرُّ وتعاند لأنك ألِفْتَ الطريق وأهله ، وسرت فيه ودعوت اليه ؟!
أما المخلص فيقول: ولماذا أكابر؟ فأنا لا أريد الطريق لذاته ، بل لأنه طريق لعبادة ربي وكسب رضاه ، فإذا اكتشفت خطئي ، أو وجدت طريقاً أفضل منه ، عبدت الله عز وجل بسلوكه .
هذا نظرياً ، لكن الأمر صعبٌ عملياً ، فالذي تعوَّد على طريق أو نمط حياة ، أو اتِّباع مذهب يكره تغييره . والأمر في موضوعنا أصعب ، لأن الذي يسلك الطريق الحركي يكون صاغ كل فهمه للإسلام وفعالياته له ، على أساس تصوره الحركي للإسلام وليس التقليدي!
كنا نُقَسِّمُ الطلبة في الحوزة الى قسمين: واعين ، وغير واعين . ونقصد بالواعي من يؤمن بأن الإسلام دينٌ ودولة ، ويعمل لإقامة دولته .
ونقسمهم الى: عامل وجامد ، ونقصد بالجامد الذي لايعمل لتوعية الناس على الإسلام الحركي ، ولو كان يعمل لتوعيتهم على عقائد الإسلام وفقهه ، وثقافته ، وسلوكه .
وكنا نقول للطالب والشاب الذي ندعوه: ألا ترى فساد الواقع في هذا البلد وفي كل بلاد المسلمين؟ فيقول: بلى . فنقول له: ألا ترى ضروة العمل لتغيير هذا
----------------------- [ 305 ] -----------------------
الواقع؟ فيقول: بلى. فنقول: إذن إعمل معنا في تنظيمنا وحركتنا لندعو المسلمين الى الإسلام ، ونقيم دولته التي تنقذهم وتغير واقعهم .
كنا نتصور أن ذلك طريق رضا الله تعالى ومحراب عبادته ، فوهب المخلصون منا أنفسهم لهذا الطريق ، وعبدوا الله تعالى بأنواع الأنشطة التي يحتاج اليها عمل الدعوة. بل كان بعضهم يعتقد أن عمل الدعوة وما يتصل به ، أفضل عند الله من عامة المستحبات ، وأحياناً من بعض الواجبات .
وبعد سنين طويلة وجدنا أن أهدافنا وتصوراتنا بعيدة عن الواقع ، بل مفصومة عنه ، لأنها مفرطة في الأمل ، محلقة في عالم التمنيات والخيال . فكان أول ما يجب علينا أن نفحص فكرنا: هل كان وعياً أم خيالاً ؟
فبعد سنين طويلة ، عرفنا أن ما نقوله للطالب والشاب لكي نكسبه الى صفوفنا ، قولٌ خاطئ وخطير ، لأنه طيٌّ لمراحل فكرية وفقهية ، نظرية وعملية ، ولَفٌّ لأفكار عديدة بلفافة جميلة ، وهي غير مترتبة ولا جميلة !
فهذا القول أعلاه يعني أنك:
1. افترضتَ أن التدين بالإسلام ، يتوقف على العمل السياسي للوصول الى الحكم ، لتغيير أوضاع الأمة السيئة .
2. وافترضتَ ، أنه يجب على هذا الشخص أن يعمل لهذا الهدف ، حتى يكون متديناً ، أو كامل التدين .
----------------------- [ 306 ] -----------------------
3.وافترضتَ ، أن العمل الموصل لهذا الهدف ، يجب أن يكون بالإنتماء الى تنظيم ، حركة أوحزب .
4. وافترضتَ ، أن لك ولجماعتك في التنظيم حق القيادة والحكم ، وعليكم كسب الأنصار وبناء أمة واعية متغيرة من الأمة الأم ، ولكم حق الأمر والنهي داخل التنظيم ، ثم لكم حق الحكم والأمر والنهي في الأمة .
5. وافترضتَ ، أن هذا الحق حصري لك ولحزبك ، من دون المليار ونصف مسلم ، بمن فيهم من المراجع ، وألوف الساسة والقادة والنابغين ، لأن القيادة برأيك كما كان يقول الشهيد أبو عصام رحمه الله حقٌّ لمن يتقدم لها من الأمة ، ونحن تقدمنا ، والقيادة فعل قيادة ، وليست منصب قيادة .
6. وافترضتَ ، أنه لو وجدت حركات إسلامية مشابهة لحركتك ، فأنت صاحب الحق الإلهي بقيادة الأمة دونها، لأن حركتك هي الحركة الأفضل.
7. وعندما غيَّبت القيادة ولم تُعَرِّفْهَا لمن تدعوه الى حركتك ، فقد فرضت نفسك قائداً لهذا الشاب أوالطالب المسكين ، وجعلته يسلم لك دينه ورقبته ، لأنك همزة الوصل بينه وبين القيادة..المجهولة .
8. وعندما لم تتبنَّ حركتك نظام حكم محدد الهيكلية والآلية ، لا في تعيين المرجع إذا كنت ترى ولاية الفقيه ، ولا باعتماد انتخاب المسلمين ، ولا باعتماد الشورى في الأمة ، ولا في الحركة . تكون طلبت من هذا الشاب ، أن يتبنى نظام
----------------------- [ 307 ] -----------------------
الحكم الفردي المتمثل بقيادة الحركة ! فقائد الحركة أو مجلس قيادتها في الحقيقة هو: الأمير ، والحاكم ، والخليفة ، ورئيس الجمهورية ، فهو الحاكم الفرد الذي تعمل له الحركة..الى آخر النقاط والمسائل التي طويتها ضمن خطابك لطالب العلم ، أو للشاب المتحمس لدينه !
فمهلاً أيها المؤمن مهلاً ، فأولى لك أولى ، أن تفك اللفافة وتحلها حلاً ، وتبحث مسائلها مسألة مسألة ، لا مخلوطة ولا مغلوطة .
ألاتعرف أن في كل واحدة من هذه المسائل بحثاً أو بحوثاً ، بعضها عقدي وبعضها فقهي ، وبعضها سياسي ، وبعضها اجتماعي ، وبعضها ميسور لمن يملك قدراً من المعرفة ، وبعضها تخصصي ، لايتيسر إلا لمجتهد في بابه .
فكيف تريد من طالب علمٍ أو شابٍّ متدين ، أن يقلدك في جميع هذه المسائل ، ولا تفردها لها واحدة واحدة ، وترشده الى أن يقرأ فيها ويفكر ، أو يرجع فيها الى مرجعه ، أو الى أهل المعرفة والإختصاص الذين يثق بهم !
ولنأخذ المسألة الأولى منها مثلاً ، وهي علاقة التدين بالعمل السياسي للإسلام ، ونفتح فيها أبواب البحث فقط:
3- هل العمل السياسي من شروط التدين
التدين: هوالإلتزام بأحكام الدين عقيدة وعملاً . ومفردات الإلتزام وطريقته يعينها الدين نفسه وليس المسلم ، لأن التدين اتباعُ أحكام الله تعالى ، ولا مكان فيه لفذلكتنا وآرائنا . قال النبي عليهما السلام لعلي عليه السلام : « وتجاهد من أمتي كل من خالف
----------------------- [ 308 ] -----------------------
القرآن وسنتي ، ممن يعمل في الدين بالرأي ، ولا رأي في الدين، إنما هو أمرُ الرب ونهيه».(الإحتجاج:1/289 ، والوسائل:18/40).
فهل يريد الله تعالى مني لأكون متديناً أن أعمل لإقامة دولة الإسلام ؟
لقد أجمع فقهاء الشيعة والسنة على أن العمل لإقامة الدولة الإسلامية ليس شرطاً في التدين ، وإن جاز أو وجب عند بعض الفقهاء ، أحياناً .
لهذا يجب على من يدعو آخر للإنتماء الى تنظيمه الإسلامي، أن يقول له: نحن نعتقد بوجوب العمل لإقامة الدولة الإسلامية وندعوك للعمل معنا.
وقد يجيبه المدعو: لكني لا أعتقد بوجوب ذلك في عنقي ، حسب فتوى مرجع تقليدي ، فشكراً لكم .
وقد يسأل من دعاه: على ماذا اعتمدت أنت في اعتقادك بوجوب هذا العمل ، وهل أنت مجتهد أم مقلد ، أم اعتمدت على مسؤولك وقيادة تنظيمك ، وهل هو مجتهد أم مقلد ؟
وقد يجيبه الداعية بأن تنظيمنا يتبنى رأي فقيه يوجب ذلك . لكن ذلك حجة عليه وحده ، هذا إذا كان تقليده جامعاً للشروط .
وقد يجيبه بأني لاعلم لي بذلك وسوف أسأل وآتيك بالجواب !
وقد يحاول إجابته بالخطابيات الفارغة عن المحتوى فيقول له:وهل تشك في وجوب العمل للإسلام وإقامة دولته ، إن ذلك من البديهيات في الدين!
----------------------- [ 309 ] -----------------------
أو يحاول أن يجتهد ويستنبط له وحوب العمل السياسي لإقامة دولة من آيات يحفظها ، كقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..
وقوله تعالى: إنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
وقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ...
وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
وكلها آيات أعم من المطلوب ، والإستدلال بالأعم لا يصح ، ولذلك لم يستدل بها أحد من فقهاء الشيعة ولا السنة أبداً .
ثم ، إن تقليد الداعية أو اجتهاده لايحل مشكلة المدعو ، لأن المدعو يريد حكماً شرعياً بأن الله تعالى اشترط عليه لصحة تدينه أن يعمل لإقامة دولة إسلامية . وذلك لا يكون إلا من تقليده لمرجعه ، أو من اجتهاده .
ثم ، على أي دليل من الكتاب والسنة اعتمد فقيه الحركة في أن العمل لإقامة دولة من شروط التدين؟ فهل من آية واضحة أو حديث صحيح ؟
وقد يسأله المدعو: وعلى فرض وجود دليل فمن هو المخاطب بإقامة الدولة ، هل هم كل المسلمين أو فئة خاصة منهم ، طبقتموها عليكم ؟!
ثم يسأله: إن تنظيمك يقول إن له الحق الشرعي في أن يدعو الأمة لإقامة دولة بقيادته ، ومعناه أنه يزعم أن الله تعالى أنزل ديناً وعوَّمَ أمر القيادة فيه تعويماً
----------------------- [ 310 ] -----------------------
كاملاً ، فقال: كل من يعمل لإقامة دولة فعمله مشروع ، ولقائده حق شرعي أن يأمر وينهى من ينتظم معه . ثم إذا غلب واستلم الحكم فهو حاكم شرعي ، وله الحق أن يأمر وينهى المسلمين حسب رأيه ، وتجب طاعته . فإن غلبه غيره وأقام دولة إسلامية ، فهو حاكم شرعي ، له حق الأمر والنهي ، ويجب على المسلمين طاعته !
وعليه ، يجب أن تضيف الى قاعدة التعويم قانون الغلبة . وشرعية الغلبة تعني شرعية المسابقة والصراع على الحكم حتى بالقتال وسفك الدماء !
فهل نتعقل أن يكون الله عز وجل أعطى الشرعية للصراع على السلطة وقال: يا عبادي المؤمنين ، تصارعوا وتقاتلوا فيما بينكم ، فمن غلب فهو الحاكم الشرعي!
وهل هذا إلا منطق الجبابرة الماضين منهم والحاضرين ، المتكالبين على السلطة ، ولو بسفك الدماء واستباحة الأموال !
4- هل نسقط وجوب إقامة الدولة ؟
يسأل بعضهم: وهل معنى ذلك أننا نسقط عن المسلمين وجوب إقامة الدولة وتطبيق الشريعة ، ونقول للغربيين والحكام الذين على منهجهم: أحكمونا بقوانينكم ، بدل شريعة الله تعالى!
والجواب: أن الله تعالى إنما بعث رسوله عليهما السلام ليطاع :وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ، وإنما أنزل دينه ليقام: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..
----------------------- [ 311 ] -----------------------
والمشكلة ليست في أصل وجوب إقامة الدين ، بل في من يحق له ويستطيع أن يقيم دولة الإسلام ، ويأمر وينهى بإسمه ؟
فلو كان الأمر مفتوحاً ، وقيادة الأمة نهباً مشاعاً ، كما تتصور التنظيمات الإسلامية، وأن الله تعالى أعطى الشرعية لقانون الصراع على الحكم والغلبة ، لكانت النتيجة حكماً جبرياً باسم الدين ، كما كان في الماضي ! لذلك كان مذهبنا أن الحكم حق للمعصوم عليه السلام فقط ولمن نصبه في حضوره أو غيبته .
ونحن الآن في عصر الغيبة ، وقد أرجعنا الإمام عليه السلام الى الفقهاء ، فلبُّ القضية ما يفتي به الفقهاء ، وقليل منهم قال إن الإمام عليه السلام أرجعكم الينا لنقيم دولة إسلامية ، ويحكمها الفقيه الجامع للشروط ، فساعدونا .
وأكثرهم قال إنه أرجعكم الينا في القضاء والإفتاء والأمور الحسبية ، وأمرنا أن نتعايش مع الحكام ، ونعمل للإصلاح ما استطعنا ، حتى يظهر الإمام عليه السلام .
فالواجب على المسلم أن يبحث عن الفقيه الأعلم ، أي الأخبر بالإستنباط الفقهي، ويقلده ، أي يعمل بفتواه في وجوب العمل السياسي لإقامة الدولة ، وبفتواه في كيفية أداء هذا الواجب . ولا فرق في وجوب الإستناد الى فتوى مرجع في ذلك ، بين الفرد والجماعة ، والتنظيم وغيره .
5- الذاتية والموضوعية في التدين
تلاحظ أن تدين المتدينين بالإسلام من الشعوب المختلفة ، والفئات المختلفة ، ينطبع بطابع شخصية صاحبه . فتدين الهندي له طابعه ، وتدين الأفريقي له طابعه ، وكذا العربي والفارسي.. فتدينهم له مشتركاته ، ومميزاته .
----------------------- [ 312 ] -----------------------
على أن الفرق الأعمق تأثيراً في التدين هو فرق الشخصيات في صفاتها الذاتية والكسبية ، من المدنية والبداوة ، والشجاعة والجبن ، والرقة والقسوة، والتهذيب والوقاحة ، فهي صفات تطبع تدين صاحبها بطابعها!
وكل هذه الفروق بين الشخصيات المتدينة ، إنما هي في تطبيق الإسلام ، والأهم منها جميعاً تأثير الصفات الشخصية على فهم الشخص للإسلام !
ألا ترى أن أصحاب الطموح والشجاعة هم أقرب الناس الى العمل الإسلامي السياسي لإقامة دولة ، وهم طليعة هذه الحركات ومنظروها ؟
ويأتي هنا السؤال: هل تضر الذاتية في تدين الإنسان ؟
بمعنى أنه إذا كان في الإنسان صفة ما ، كالشجاعة والكرم ، وأثرت على فهمه للإسلام أو تطبيقه له ، فهل يؤاخذ يوم القيامة على خطئه ؟
مثلاً ، شخص طموح ، عرض عليه العمل للإسلام في تنظيم فقبل وانتظم ، وتعلم فهم الإسلام الحركي ، وعاش به واستشهد من أجله .
وشخص متحفظ يخاف ، عرض عليه العمل للإسلام في تنظيم ، فخاف من المجتمع والسلطة ، فلم يقبل . هل يكونان معذورين بسبب صفاتهما ؟
أو شخص رأى غريقاً فلم ينقذه لأنه يخاف ، مع أنه يعرف السباحة . بينما نزل شخص شجاع لينقذه فغرق لأنه لايعرف السباحة . فكيف يحاسبان؟
والجواب: أن الحساب يوم القيامة أدق وأعمق وأعدل مما نتصور ، ومن المؤكد أن كثيراً من الذاتية في تطبيق الإسلام وفهمه ، لا يؤاخذ صاحبه عليه ، لأنه
----------------------- [ 313 ] -----------------------
نتيجة طبيعية لصفاته التي لم يصنعها بيده . والله الحكيم العادل الذي أنزل الإسلام ، يعلم أن عباده أصحاب أفهام متعددة ، وأن صفاتهم الذاتية ستؤثر في التطبيق وفي فهم الدين .
وهذا البحث يتصل ببحث القطع في أصول الفقه ، ومدى حجيته على صاحبه. وببحث القصور والتقصير في الفقه، في المقدمات والنتائج .
6- من هم الأوعى: الحركيون أم التقليديون ؟
يهتم (الواعون) من طلبة الحوزة بالثقافة العامة ، فيقرؤون الكتب الفكرية العربية والمترجمة ، والمجلات الفكرية . ويهتمون بالسياسة بشكل عام ، فيستمعون الأخبار من وسائل الإعلام ، أو يقرؤون الجرائد .
بينما لايهتم عامة التقليديين بالثقافة العامة والسياسة إلا قليلاً ، ويركزون جهدهم على كتب الدراسة ، وعلى المصادر الإسلامية التقليدية .
لهذا كان الحركيون أكثر اطلاعاً في الثقافة العامة والسياسة ، والتقليديون أكثر اطلاعاً على علوم الحوزة ، وسيرة النبي عليهما السلام والأئمة عليهم السلام .
لكن المقايسة الأهم إنما هي في وعي الإسلام وأسلوب العمل له ، فهل الذي يسلك طريق العمل السياسي للإسلام هو الأكثر وعياً ، أم الذي يهتم بدراسته وبتعليم المسلمين أمور دينهم ، ولا يشارك في عمل سياسي إلا في حدود مطالبات المرجعية من السلطة بمطالب أو إصلاحات .
----------------------- [ 314 ] -----------------------
كنا ننتقد التقليديين من الطلبة وحتى المراجع ، فكان بعضنا يقول: إن السيد الخوئي قدس سره إذا جلس على المنبر في بحث علمي فهو أرسطو طاليس ، لكنه إذا نزل وجلس في المسجد ، وجرى معه حديث في أمر اجتماعي ، فهو لا يختلف عن حاج علي ومشتي قلي في السوق الكبير !
وكان بعضنا يصرح بأن الطلبة والمراجع ليس عندهم وعيٌ للإسلام والعصر، ويقصد به أنهم لايعرفون الإسلام ديناً ودولة ، ولايعملون لإقامة الدولة الإسلامية في بلدهم والعالم ، ويستدل على ذلك بنقص ثقافتهم العامة ، ونقص معرفتهم السياسية ببلدهم والعالم .
وكان بعضنا يفرط في ذم التقليديين فيصفهم بالجامدين ، والمتحجرين ، والمتخلفين الذين يعيشون في القرون الوسطى..الخ.
كما كان بعضهم يفرط في ذم الحركيين ، فيصفهم بأنهم سياسيون في ثياب إسلاميين ، وأفندية في ثياب طلبة ، وسنة في زي شيعة ، لأنهم يدعون الى إعادة الخلافة السنية ، ولاينبضون بنبض الشيعي الموالي..الخ.
وكانت تجري مناقشات بين الواعين والتقليديين ، وتنتهي غالباً بتمسك كل طرف بأفكاره ، وكان ذلك يعني انقسام الحوزة بعمق الى هذين القسمين ، رغم أنهم أبناء جامعة واحدة ، ويعيشون في محيط واحد .
----------------------- [ 315 ] -----------------------
وعمدة اتهام الواعين للتقليديين أنهم متخلفون لايعيشون عصرهم ، وأن ذلك يؤثر على فهمهم للإسلام ووجوب العمل لإقامة الدولة الإسلامية ، وأنهم لو كان عندهم ثقافة عصرية لاختلف فهمهم للإسلام وعملهم له.
وعمدة اتهام التقليديين للواعين أنهم لم يستوعبوا عقائد الإسلام وفقهه ، وسيرة النبي عليهما السلام والأئمة عليهم السلام ، وغلب عليهم الحماس والعاطفة لإقامة الدولة الإسلامية ، التي يتصورون أنها ممكنة التحقيق ، وأنها حلالة المشاكل ، وأنها جنة الله على الأرض !
وزاد بعض التقليديين اتهام الحركيين بأنهم لايملكون وعياً سياسياً ، بل لايخلون من غباء اجتماعي وسياسي ، يمنعهم من تقدير العواقب !
قال لي أحد مشاوري السيد الخوئي رحمه الله : لم يكن من سياسة مرجعية الشيعة مواجهة السلطة لتحل محلها وتتسلم السلطة بدلها ، وغاية ما كان عندها أن تقدم مطالب إصلاحية الى الحاكم . لكن أنظر الى هؤلاء الفتية الناشئين كيف أثاروا السلطة ففتحت نارها عليهم ، وعلى الشيعة .
وأخذ ينتقد محاولة الإنقلاب التي شارك فيها السيد مهدي الحكيم رحمه الله مع أنه يراها محاولة مخلصة لكنها برأيه السبب في فتح نار السلطة على المرجعية والشيعة . ويرى أن السيد محمد باقر الصدر رحمه الله ، أكمل بحزب الدعوة إعطاء المبرر للسلطة ، فشنت حملتها على كل ما هو شيعي في العراق .
----------------------- [ 316 ] -----------------------
وكان يصفهما بالسذاجة وعدم تقدير العواقب ، ويتعجب من تصور السيد الصدر رحمه الله أنه إذا استشهد فسوف تتحرك الجماهير في العراق ، وسوف يتدخل السيد الخميني رحمه الله بجنوده لنصرتهم . ويتعجب من أن السيد الصدر عندما سجنوه عيَّن قيادة للعراق بعده سماها (القيادة النائبة)!
وداعبني رحمه الله بقوله: أما السيد مهدي فأخواله عوامل ، وأما السيد محمد باقر فهو كاظمي!مشيراً وصف النجفيين للعامليين والكواظمة بالسذاجة.
وإذا أردنا أن نصدر حكماً عادلاً بين الطرفين ، أيهما أكثر وعياً ، فلا بد أن نتجنب التعميم في الحكم ، ونجزِّئ انتقادات كل طرف وتهمه الى مفردات محددة ونفحص كل واحدة منها. والنتيجة صحة عدد منها هنا وعدد هنا.
لكن ذلك لايكفي للحكم بأن الأوعى مطلقاً أحد الطرفين ، ففي كلٍّ منهما أصحاب أذهان متخلفة وأصحاب أذهان راقية ، وفي كل منهما أذكياء نوابغ وأغبياء جهلة .
وفي كليهما أشخاص بمستوى التفكير في قضايا المجتمع والدولة والعالم ، وآخرون أبناء قرية لايستطيع أحدهم أن يخرج عن نطاقها الى فكر المدينة ، فضلاً عن أن يرتقي الى أفق الفكر العالمي .
لكن يمكن القول إن الحركيين بشكل عام يتميزون بثقافتهم العامة ، ومعرفتهم بعصرهم وأساليب مخاطبته . ويتميز التقليديون بشكل عام بالدقة وعمق الوعي الفقهي ، والنظرة البعيدة في العواقب .
----------------------- [ 317 ] -----------------------
ختام وآمال..
آمل أن يتسع لي الوقت والعمر ، لأكتب مذكراتي عن بضع سنوات قضيتها في الكويت .. فأعالج فيها مشكلة الرفاهية وتأثيرها على شخصية الإنسان ومجتمعه وآخرته .
وآمل أن أكتب مذكرات بضع سنين عدت فيها الى لبنان لأؤسس للعمل الإسلامي ، وأربي كوادر كفوئين للعنل الإجتماعي والجهادي والسياسي .
وأهم الجميع مذكرات نحو ثلاثين سنة قضيتها في إيران ، منها سنة في طهران في العمل السياسي من أجل العراق ولبنان ، ثم بقية العمر في الحوزة العلمية بقم المشرفة ، في العمل العلمي والتبليغ ، ومواكبة حركة الثورة والدولة في إيران .
ولا ينقصني في ذلك الذاكرة فهي دقيقة والحمد لله ، ولا المادة فهي لو اختصرتها مجلدات .لكن المشكلة أن الناس يريدونك أن تكذب أو تسكت ، وقد يتحملون أن تتكلم بابن عم الكلام ، وتجرد كلامك من الأسماء ، كلاماً بلا ملح ، وبلا فائدة .
وقد كتبت كتاب تصحيح فكر الدعوة ، فرأيت أن الناس لايتحملون ، فأوصيت أن ينشر بعد موتي ، براءة لذمتي من العمل والتنظير لمشروع خطير يقوم على تقليد الفكر الإخواني الأموي، الذي اندفعنا له باسم الإسلام ، وعشقناه وتصوفنا له ، فإذا به عاطفة لا تقوم على مدرك عقلي ولا تأصيل شرعي ، فهو مصيبة من المصائب .
هل سيأتي يوم أستطيع أن أكتب تجربتي في الفكر والعمل والشخصيات ، بحرية شاهد العصر .. آمل ذلك : إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ .